أي : أن القرآن نزل من الله، تكلم الله به وأنزله، لم ينزل من غيره ولم يبدأ من غيره، ليس كما يقولون: إنه بدأ من جبريل، أو من اللوح، أو من الهواء، إنما بدايته من الله، وسمعه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحياً، والنبي عليه الصلاة والسلام بلغه للناس، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر لاستطاع أحد من الناس أن يأتي بسورة من مثله، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه من كلام الله عز وجل، قال تعالى : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]، وقال سبحانه وتعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات) [هود: 13] فعجزهم الله بذلك، مع أنهم عرب فصحاء، والقرآن بلغة العرب، وبالحروف التي يتكلمون بها، وهم يحرصون على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان باستطاعتهم أن يعارضوا هذا القرآن، لما ادخروا وسعاً في ذلك، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(47) وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً:
فالمؤمنون بالله ورسوله يصدقون بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله.
وأما قول الله عز وجل: (إنه لقول رسول كريم*ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين) [التكوير: 19،20] فالمراد بإسناده إلى جبريل هو من باب التبليغ؛ لأنه لا يمكن أن يكون القرآن من كلام الله ومن كلام جبريل، الكلام لا يكون إلا من واحد، فلا يمكن وصفه بأنه كلام أكثر من واحد، ونسبته إلى الله حقيقية، وأما نسبته لجبريل فمن باب التبليغ. وفي الآية الأخرى: (إنه لقول رسول كريم*وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) [الحاقة:40،41] يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم، فالإضافة إليه إضافة تبليغ. وقد أضافة سبحانه تارة إلى نفسه وتارة إلى جبريل وتارة إلى محمداً، والكلام الواحد لا يمكن أن يتكلم به أكثر من واحد. فتكون إضافة إلى الله إضافة ابتداء وهو كلامه وإضافته إلى جبريل ومحمد إضافة تبليغ.
(48) وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة:
ليس بالمجاز كما يقوله الجهمية والمعتزلة، هم يقولون: كلام الله، ولكن نسبته إلى الله مجاز؛ لأن الله خالقه، فإضافته إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه.
فنقول: كذبتم؛ لأن الإضافة إلى الله على نوعين: إضافة معانٍ، وإضافة أعيان:
النوع الأول: إضافة المعاني إلى الله مثل الكلام، فإضافة المعاني إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فالكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة إضافة صفة إلى موصوف؛ لأن هذه معانٍ لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف بها.
النوع الثاني: إضافة أعيان، مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله. هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفائدة الإضافة هنا التشريف والتكريم.
(49) ليس بمخلوق ككلام البرية:
أي كلام الله ليس بمخلوق. رداً على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله عندهم لا يتكلم، على منهجهم في نفي الصفات كلها، فراراً –بزعمهم- من التشبيه؛ لأنهم لم يفرقوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق ففروا من التشبيه الموهوم ووقعوا في التعطيل المذموم وهو شر منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ولو أنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، وعرفوا أن هناك فرقاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، لأصابوا عين الحق واستراحوا وأراحوا الناس، ولكنهم في ضلال.
(50) فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر:
فمن سمع كلام الله وزعم أنه كلام البشر فقد كفر؛ لأنه جحد كلام الله عز وجل، فإذا لم يكن لله كلام ينزله على عباده فبم تقوم الحجة عليهم؟ فقصدهم بقولهم هذا هدم الشرائع، فإذا كان ليس في الكون كلام لله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا القرآن، فمعنى ذلك أنه ما قامت على الناس الحجة من الله، وهذا من أعظم الكفر وأعظم الضلال.
(51) وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) [المدثر:26].
وقد ذم الله عز وجل من قال هذه المقالة، فجعل القرآن كلام البشر، كما قال الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو من أكابر كفار مكة ومن عظمائهم وكانوا يسمونه: زهرة مكة؛ لشرفه فيهم، فلما سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم أعجبه وعلم أنه ليس من كلام البشر، ومدح القرآن فقال: ليس بالشعر وليس بالسحر، أنا أعرف ضروب الشعر، وأعرف أنواع السحر، وأعرف الكهانة، وأعرف وأعرف…. فليس القرآن من هذه الأمور. فعند ذلك توجه إليه قومه الكفار بالتوبيخ والتعنيف؛ لأن معنى هذا أنه اعترف للرسول عليه الصلاة والسلام بالرسالة، فلما رأى ذلك انحرف –والعياذ بالله- بالكلام فقال: (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: 25] فأنزل الله عز وجل : (إنه فكر وقدر*فقتل كيف قدر*ثم قتل كيف قدر*ثم نظر*ثم عبس وبسر* ثم أدبر واستكبر*فقال إن هذا إلا سحر يؤثر*إن هذا إلا قول البشر) [المدثر:18،25] قال عز وجل: (سأصليه سقر) [المدثر:26]، وهي النار.(/13)
(52) فلما أوعد الله بسقر لمن قال : (إن هذا إلا قول البشر) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر:
فمن قال: إن القرآن ليس كلام الله وإنه كلام البشر، أو الملك، فهو مثل الوليد بن المغيرة، فما الفرق بين هذا وهذا إلا أنه ادعى الإسلام والوليد لم يدع الإسلام؟ فدعوى الإسلام لا تكفي، فإنه إن كفر بالقرآن لم ينفعه ادعاء الإسلام؛ لأن هذا ردة –والعياذ بالله- . فتبين بهذا أنه لابد من الاعتراف بأن القرآن كلام الله حقيقة.
(53) ولا يشبه قول البشر:
لو كان الكلام من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا لوم على الوليد ابن المغيرة إن قال إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتوعده الله بهذا الوعيد الشديد؟ فدل على أنه قال مقاله عظيمة وفظيعة –حيث نسب القرآن لغير الله، وكل من سار على هذا المذهب وهذا المنهج فإنه مثل الوليد بن المغيرة، يكون في النار خالداً فيها.
(54) ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر:
يعني: من شبه الله بمعنىً من معاني البشر فقد كفر لأنه تنقص الله عز وجل.
(55) فمن أبصر هذا اعتبر:
لأن هناك فرقاً واضحاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، وإن اشتركت في الاسم والمعنى، ولكن تختلف في الحقيقة وتختلف في الواقع والخارج، فلا تشابه بين كلام الله وكلام البشر، ولا تشابه بين سمع الله وسمع البشر، ولا تشابه بين بصر الله وبصر البشر، ولا علم الله وعلم البشر، ولا مشيئة وإرادة الله ومشيئة وإرادة البشر. ففرق بين صفات الله وصفات المخلوق، فمن لم يفرق بينهما صار كافراً.
(56) وعن مثل قول الكفار انزجر:
من تدبر الآيات القرآنية التي أنزلها الله في الوليد بن المغيرة، من تدبرها عرف بطلان أقوال هذه الفرق الضالة في كلام الله عز وجل.
(57) وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
وصفاته من الكلام وغيره ليست كصفات البشر للفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق.
(58) والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية:
الرؤية: أي : رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، فإن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، يرونه عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث الصحيحة المتواترة عنه عليه الصلاة والسلام( )، ولذلك قال المصنف: الرؤية حق، أي : ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة من السلف والخلف، ولم يخالف فيها إلا المبتدعة وأصحاب المذاهب المنحرفة.
فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: (وجوه يومئذٍ ناضرة*إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22،23]، وهي وجوه المؤمنين (ناضره) يعني من النضرة وهي: البهاء والحسن (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) [المطففين:24] وأما (ناظرة) فمعناها: المعاينة بالأبصار، تقول: نظرت إلى كذا، أي : أبصرته، فالنظر له استعمالات في كتاب الله عز وجل، إذا عُدّي بـ(إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت*وإلى السماء كيف رُفعت…) [الغاشية:17،18]، أي : ألم ينظروا بأبصارهم إلى هذه المخلوقات العجيبة الدالة على قدرة الله عز وجل. وفي هذه الآية : (إلى ربها ناظرة) [القيامة:22،23] معداة بـ(إلى).
وإذا عُدي النظر بنفسه وبدون واسطة فمعناه التوقف والانتظار: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد:13]، (انظرونا) أي : انتظرونا من أجل أن نستضيء بنوركم؛ لأن المنافقين ينطفئ نورهم والعياذ بالله، فيبقون في ظلمة، فيطلبون من المؤمنين أن ينتظروهم حتى يقتبسوا من نورهم. وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) [البقر:210] أي : ما ينتظرون إلا مجيء الرب يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده.
وإذا عُدي النظر بفي فمعناه التفكر والاعتبار، كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) [الأعراف:185]، أي : يتفكروا في مخلوقات الله العلوية والسفلية، ويستدلون بها على قدرة الله الخالق سبحانه وتعالى واستحقاقه للعبادة.
الحاصل: أن النظر هنا عُدي بـ(إلى) ومعناه: الرؤية والمعاينة.
وقال سبحانه وتعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [يونس:26] فسر النبي صلى الله عليه وسلم (الحسنى) بأنها الجنة، وفسر (الزيادة) بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، وهذا في صحيح مسلم( ).
وقال تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) [ق:35] المزيد: هو النظر إلى وجه الله الكريم.(/14)
وقال تعالى عن الكفار: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [المطففين:15] فإذا كان الكفار محجوبون عن الله، أي : لا يرونه؛ لأنهم كفروا به في الدنيا فهم حجوبون عن النظر إليه يوم القيامة، وهذا أعظم حرمان وأعظم عذاب، والعياذ بالله، فدلت الآية على أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله يوم القيامة، وأنهم يرونه بالنظر إليه في الآخرة؛ لأنهم آمنوا به في الدنيا ولم يروه، وإنما استدلوا عليه سبحانه بآياته ورسالاته، فالله أكرمهم بالنظر إليه يوم القيامة.
والنظر إلى وجه الله عز وجل أعظم نعيم في الجنة.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذه بعض أدلتهم من القرآن
وأما أدلتهم من السنة فكثيرة جداً بلغت حد التواتر، كما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، وساق الأحاديث الواردة في الرؤية وقد بلغت حد التواتر.
منها: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تُضامون في رؤيته –أو: لا تَضامُّون في رؤيته-"( ) . يعني : لا تزدحمون على رؤية الله عز وجل؛ لأن كل واحد يرى الرب وهو في مكانه من غير زحام كما أن الناس يرون الشمس والقمر من غير زحام؛ لأن العادة إذا كان الشيء في الأرض وخفي يزدحمون على رؤيته ولكن إذا كان الشيء مرتفعاً كالشمس والقمر فإنهم لا يزدحمون على رؤيته ، كلٌ يراه وهو في مكانه، إذا كان هذا في المخلوق الشمس والقمر، فكيف في الخالق سبحانه وتعالى؟
ولم ينكر الرؤية إلا أهل البدع كالجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية، يقولون: يلزم من إثبات الرؤية أن يكون الله في جهة، والله عندهم ليس في جهة، وهو عندهم لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمنه ولا يسرة، ليس في جهة، وهذا معناه أنه معدوم، تعالى الله عما يقولون ، فنفوا الرؤية من أجل هذا الرأي الباطل.
وأما الأشاعرة: لما لم يمكنهم إنكار الأدلة من الكتاب والسنة أثبوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب! ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة، ولذلك رد عليهم المعتزلة؛ لأن هذا من المستحيل. وأهل السنة يقولون: يُرى سبحانه وتعالى وهو في جهة العلو من فوقهم، فالجهة إن أريد بها الجهة المخلوقة فالله ليس في جهة؛ لأنه ليس بحال في خلقه سبحانه وتعالى.
وإن أريد بها العلو فوق المخلوقات فهذا ثابت لله عز وجل، فالله في العلو فوق السماوات، فالجهة لم يرد إثباتها أو نفيها في كتاب الله، ولكن يقال فيها على التفصيل السابق.
ومعنى: "بغير إحاطة ولا كيفية" أنهم لا يحيطون بالله عز وجل، ويرونه سبحانه بغير إحاطة، والله عظيم لا يمكن الإحاطة به، قال سبحانه: (ولا يحيطون به علماً) [طه:110]، وقال جل وعلا: (لا تدركه الأبصار) [الأنعام:103] يعني : لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: لا تراه الأبصار، إنما قال: (لا تدركه الأبصار) فالإدراك شيء والرؤية شيء آخر، فهي تراه سبحانه بدون إحاطة، وفي هذا رد على من استدل بهذه الآية على نفي الرؤية وقال: الرؤية لا تمكن ؛ لأن الله قال: (لا تدركه الأبصار) . فنقول لهم: أنتم لا تعرفون معنى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) .
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) ، معناها: لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه، ولم يقل سبحانه: لا تراه الأبصار.
واستدلوا أيضاً فقالوا: موسى عليه السلام قال : (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) [الأعراف:143] هذا دليل على نفي الرؤية.
نقول لهم: هذا في الدنيا، لأن موسى سأل ذلك في الدنيا، ولا أحد يرى الله في الدنيا لا الأنبياء ولا غيرهم، وأما في الآخرة فيرى المؤمنون ربهم، وحال الدنيا ليست كحال الآخرة، فالناس في الدنيا ضعاف في أجسامهم وفي مداركهم، لا تستطيع أن ترى الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله يعطيهم قوة يستطيعون بها أن يروا ربهم –جل وعلا- إكراماً لهم.
ولهذا لما سأل موسى ربه في هذه الآية: (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) [الأعراف:143] الجبل اندك وصار تراباً، والجبل أصم صلب، فكيف بالمخلوق المكون من لحم ودم وعظام؟ فهو لا يستطيع رؤية الله في الدنيا.
وسؤال موسى رؤية الله دليل على جواز الرؤية وإمكانها؛ لأن موسى لا يسأل ربه شيئاً لا يجوز، إنما سأله شيئاً يجوز، ولكن لا يكون هذا في الدنيا، فالله سبحانه قال: (لن تراني) ولم يقل: إني لا أرى.
فالله يُرى في الآخرة( )، وأولى الناس بهذه الرؤية الأنبياء.
وقوله: "ولا كيفية" أي : لا يقال: كيف يرون الله؟ لأن هذا كسائر صفات الله عز وجل لا نعرف كيفيتها، فنحن نؤمن به ونعرف معناها ونثبتها، ولكن الكيفية مجهولة ولا نعرفها، فالله أعلم بها سبحانه.
(59) كما نطق به كتاب ربنا: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة):(/15)
هذا صريح أنه نظر إلى الله بالأبصار حيث عُدّي بإلى، فمعناه الرؤية بالأبصار، قالت المعتزلة: (إلى ربها) (إلى) جمع بمعنى: نِعَم. أي إلى نِعَم ربها ناظرة. وهذا تخريف يضحك منه العقلاء، لأن الحرف لا يحول إلى جمع.
(60) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه:
أي تفسير (إلى ربها ناظرة) [القيامة: 23] أي : على ما أراده الله جل وعلا، وهو المعاينة بالأبصار، لا على ما أراده المبتدعة.
(61) وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال:
كل ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إثبات الرؤية فهو حق على حقيقته، مثل ما جاء في القرآن سواء، يجب الإيمان به؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله (وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:3،4]، ويسمى بالوحي الثاني، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة متواترة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، فيجب الإيمان بذلك من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.
(62) ومعناه على ما أراد:
أي ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المبتدعة والمحرفة.
(63) لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا:
كما يفعله الجهمية والمعتزلة ومن تتلمذ عليهم وأخذ برأيهم من التأويل الباطل.
بل الواجب علينا أن نتبع الكتاب والسنة، ولا نتدخل بعقولنا وأفكارنا ونحكمها على ما جاء في الكتاب والسنة، الواجب أن الكتاب والسنة يحكمان على العقول والأفكار( ).
(64) فإنه ما سَلِمَ في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
ومعنى (سلَّم) أي : قَبِلَ ما جاء عن الله ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وآمن به على ما جاء، من غير أن يتدخل بتحريفه وتأويله، هذا معنى التسليم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "آمنت بالله وبما جاء في كتاب الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي : لا على الهوى والتحريف وأقوال الناس( ).
من سَلَّم وانقاد وردّ ما اشتبه عليه، ولم يعرف معناه أول لم يعرف كيفيته، رده إلى عالمه، وهو الله، سبحانه وتعالى، فالذي يشكل عليه شيء يرجع إلى أهل العلم وفوق كل ذي علم عليم، فإن لم يكن عند العلماء علم بهذا فإنه يجب تفويضه إلى الله جل وعلا.
(65) ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه:
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل أصحابه عن بعض الأشياء التي لا يعرفونها قالوا: الله ورسوله أعلم. فلا يدخلون في المتاهات ويتخرصون.
فإن وجدت عالماً موثوقاً يبين لك فالحمد لله، وإلا فابق على تسليمك واعتقادك أنه حق وأن له معنى، ولكن لم يتبين لك.
(66) ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام:
لا يثبت الإسلام الصحيح إلا بالتسليم لله عز وجل، قال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء:65].
والاستسلام هو: الانقياد والطاعة لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(67) فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان:
من لم يؤمن بما حجب عنه علمه، مثل علم الكيفية، فالواجب علينا الإيمان بها وردها، أي : رد علمها إلى الله عز وجل (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً) [البقرة:26].
وقال عز وجل: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:7]، حجب الله علمه عن الخلق فلا تتعب نفسك، ثم قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا) [آل عمران:7]. يسلّمون ويستسلمون، ولا يمنعهم عدم معرفة معناه من الإيمان به والتسليم له. أو أن المعنى أنهم يردون المتشابه من كتاب الله إلى المحكم منه ليفسروه ويتضح معناه ويقولون: (كل من عند ربنا) .
(68) فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق التكذيب، والإقرار والإنكار:
من لم يُسلِّم لله ولا إلى الرسول، فإنه يحجب عن معرفة الله ومعرفة الحق، فيكون في متاهات وضلالات( ).(/16)
وهذه حال المنافقين الذين يتذبذبون، تارة مع المسلمين وتارة مع المنافقين، وتارة يصدقون وتارة يكذبون (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) [البقر:20]. أما أهل الإيمان فما عرفوا قالوا به، وما لم يعرفوا وكلوا علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكلفون أنفسهم شيئاً لا يعرفونه، أو يقولون على الله ما لا يعلمون –فالقول على الله بغير علم هو عديل الشرك، بل هو أعظم من الشرك، قال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33]. فجعل القول على الله بغير علم فوق الشرك بالله، مما يدل على خطورة القول على الله بغير علم.
(69) موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً:
هذه حالة أهل التردد والنفاق، دائماً شاكين ، دائماً مترددين ومتذبذبين؛ لأنه ما ثبتت قدم أحدهم في الإسلام ولم يسلم لله ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما ذكر الله عن المنافقين أنهم (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء:143].، (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون*الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) [البقرة:14،15].
(70) ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم:
دار السلام هي الجنة، فلا يصح الإيمان بالرؤية أي رؤية الله فيها لمن يتوهم ويتأول فيها وينفي حقيقتها، ولم يسلم لله ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتدخل فيها بفكره وفهمه.
(71) إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يُضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم :
كل هذا تأكيد لما سبق في أنه يجب التسليم لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الرؤية، لا نتدخل فيها كما تدخل أهل البدع، بل نثبتها كما جاءت ونؤمن بها، ونثبت أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة قبل دخول الجنة، وبعد دخولهم الجنة يرونه أيضاً، إكراماً لهم حيث آمنوا به في الدنيا ولم يروه.
(72) وعليه دين المسلمين:
وهذا الأمر عليه دين المسلمين، وهو الإيمان والتسليم لما جاء عن الله ورسوله، وعدم التدخل في ذلك بالأفهام والأوهام والتأويلات الباطلة، والتحريفات الضالة، هذا دين الإسلام، بخلاف غير المسلمين، فإنهم يتدخلون فيما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
(73) ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه:
لابد كما سبق من الوسط بين التعطيل وبين التشبيه، فلا يبالغ ويغلو في تنزيه الله حتى يعطل الله من صفاته كما فعل المعطلة، ولا يُثبت إثباتاً فيه غلو حتى يشبه الله بخلقه، بل يعتدل فيُثبت لله ما ثبته لنفسه له رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تكييف، هذا هو الصراط المستقيم المعتدل.
فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له، ولا مثيل ولا عديل له، سبحانه وتعالى.
(74) فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية:
صفات الوحدانية بأن الله واحد لا شريك له، لا في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، فهو واحد في كل هذه الحقائق.
(75) منعوت بنعوت الفردانية . ليس في معناه أحد من البرية:
منعوت، أي: موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، بل أسماؤه وصفاته خاصة به ولائقة به، وصفات المخلوقين وأسماء المخلوقين خاصة بهم ولائقة بهم، وبهذا يتضح لك الحق والصواب، وتبرأ من طريقة المعطلة ومن طريقة المشبهة.
(76) وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات:
هذا فيه إجمال: إن كان يريد الحدود المخلوقة فالله منزه عن الحدود والحلول في المخلوقات، وإن كان يريد بالحدود: الحدود غير المخلوقة، وهي جهة العلو، فهذا ثابت لله جل وعلا وتعالى، فالله لا ينزه عن العلو، لأنه حق، فليس هذا من باب الحدود ولا من باب الجهات المخلوقة.
والغايات فيها إجمال أيضاً، فهي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن كان المراد بالغاية: الحكمة من خلق المخلوقات، وأنه خلقها لحكمة، فهذا حق، ولكن يقال: حكمة، لا يقال: غاية، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56].
وإن أريد بالغاية: الحاجة إلى المخلوقات، فنعم، هذا نفي صحيح، فالله عز وجل لم يخلق الخلق لحاجته وفقره إليهم، فإنه غني عن العالمين.
(والأركان، والأعضاء، والأدوات) فيها إجمال أيضاً، إن أُريد بالأركان والأعضاء والأدوات: الصفات الذاتية مثل الوجه، واليدين، فهذا حق، ونفيه باطل. وإن أُريد نفي الأعضاء التي تشابه أعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين فالله سبحانه منزه عن ذلك، فالأبعاض والأعضاء فالحاصل أن هذا فيه تفصيل:
أولاً: إذا أُريد بذلك نفي الصفات الذاتية عن الله تعالى من الوجه واليدين، وما ثبت له سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية، فهذا باطل.(/17)
ثانياً: أما إن أُريد بذلك أن الله منزه عن مشابهة أبعاض المخلوقين وأعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين، فنعم، الله منزه عن ذلك؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته.
الحاصل: أن هذه الألفاظ التي ساقها المصنف فيها إجمال ولكن يحمل كلامه على الحق؛ لأنه –رحمه الله تعالى- من أهل السنة والجماعة، ولأنه من أئمة المحدثين، فلا يمكن أن يقصد المعاني السيئة، ولكنه يقصد المعاني الصحيحة،وليته فصّل ذلك وبيّنه ولم يجمل هذا الإجمال .
(77) لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
نقول: هذا فيه إجمال، إن أُريد الجهات المخلوقة، فالله منزّه عن ذلك، لا يحويه شيء من مخلوقاته، وإن أُريد جهة العلو وأنه فوق المخلوقات كلها، فهذا حق ونفيه باطل، ولعل قصد المؤلف بالجهات الست، أي: الجهات المخلوقة؛ لا جهة العلو لأنه مثبت للعلو –رحمه الله-، ومثبت للاستواء.
(78) والمعراج حق، وقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
معنى الإسراء هو السير ليلاً، فقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.
أسرى به جبريل بأمر من الله تعالى قال تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا) [الإسراء:1]..
وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المسافة كانت تقطع في شهر أو أكثر، وقطعها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.
وأما المعراج: فهو آله الصعود وعرج، يعني صعد (تعرج الملائكة والروح إليه) [المعارج:4]. يعني : تصعد، فالعروج معناه: الصعود، والمعراج آلة الصعود التي يصعد بها.
وكلاهما ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم ( ).
فالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما المعراج فمن الأرض إلى السماء، وكل هذا حصل في ليلة واحدة، أُسري به إلى بيت المقدس وصلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء وجاوز السبع الطباق، وأراه الله من آياته ما أراه من آياته الكبرى، ثم نزل إلى الأرض، ثم جاء به جبريل إلى المكان الذي أُسري به منه في ليلة واحدة.
فالإسراء مذكور في سورة الإسراء، والمعراج مذكور في سورة النجم (والنجم إذا هوى*ما ضل صاحبكم وما غوى*وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى) [النجم:1،5] يعني : جبريل (ذو مرة فاستوى*وهو بالأفق الأعلى) [النجم: 6،7] هذا العروج، (ثم دنا) من ربه سبحانه وتعالى أو أن جبريل دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم:8،10].
فالإسراء والمعراج حق، ومن أنكرهما واستبعدهما فهو كافر بالله عز وجل، ومن تأولهما فهو ضال، ولم ينكره إلا المشركون، فمن يقول: أُسري بروحه دون جسده، أو كان ذلك مناماً لا يقظة، فهذا ضلال؛ لأن الله قال: (أسرى بعبده) والعبد اسم للروح والبدن، لا يقال للروح إنها عبد، وكان الإسراء في حال اليقظة ولم يكن مناماً؛ لأن المنام ليس فيه عبرة، كل الناس يرون الرؤيا ويرون عجائب، وليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(79) وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء :
عرج بشخصه، رد على الذين يقولون: عرج بروحه، بل عرج بشخصه –والشخص اسم للروح والجسم، والله يقول: (أسرى بعبده) .
(80) ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء :
هذا المعراج إلى السماء
(81) وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) :
أوحى الله إليه بذلك المكان ما أوحى ، وكلمه الله سبحانه ولم ير الله؛ لأن الله لا يُرى في الدنيا .
هذا المعراج المذكور في سورة النجم .
(82) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى:
هذا من حقوقه عليه الصلاة والسلام: أن يصلى عليه ويسلم عند ذكره (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) [الأحزاب:56].
ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأخبر المشركين بهذه الحادثة اشتد كفرهم وتكذيبهم بهذه المناسبة؛ من أجل أن يشوهوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقولون: نحن نمشي إلى فلسطين مدة شهر فأكثر، وهو يقول: في ليلة واحدة ! فارتد بعض ضعاف الإيمان بسبب هذه الحادثة، وأما أهل الإيمان الصحيح فثبتوا وصدقوا، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه: أما ترى صاحبك كيف يقول؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة واحدة، قال: فإن كان قاله فهو كما قال. لأنه لا ينطق عن الهوى. وقال: أنا أصدقه بخبر السماء –أي الوحي- أفلا أصدقه في هذا!؟ هذا هو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع.
(83) والحوض الذي أكرمه الله تعالى به –غياثاً لأمته- حق:
من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة ما صح فيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يوم القيامة، وما يحدث في يوم القيامة من أمور، فمن ذلك :(/18)
الحوض: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن له حوضاً( ) في يوم القيامة في المحشر يرده أتباعه الذين آمنوا به واتبعوه، فيشربون منه، فإذا شربوا منه شربة واحدة لم يظمؤوا بعدها أبداً، وذلك لأن يوم القيامة يوم شديد وعصيب وفيه حر شديد.
فيحصل الظمأ الشديد، فجعل الله هذا الحوض غياثاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يغيثهم به، ومعلوم أن الغيث الذي ينزله الله من السماء تحيا به الأرض وتحيا به النفوس، فكذلك الحوض فإنه غياثٌ يغيث الله به العباد عند شدة حاجتهم إلى الماء .
والحوض هو مجمع الماء، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وأن من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل( ).
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يرده أقوامٌ ثم يذادون ويمنعون من الشرب منه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "يارب، أمتي، أمتي" فيقول الله عز وجل : "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فيقول عليه الصلاة والسلام: "سُحقاً وبُعداً لمن بدّل وغير" ( )، ويمنع من وروده أهل البدع المضلة المخالفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كفروا وارتدوا على أعقابهم، تاركين السنة، وذاهبين بأهوائهم وآرائهم المذاهب المنحرفة، هؤلاء يمنعون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدلوا وغيروا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرده إلا من كان متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، وبعض العلماء يرى أن الكوثر المذكور في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) [الكوثر:1] هو الحوض، وبعض العلماء يرى أن معنى الكوثر: الخير الكثير، ولا شك أن الحوض يدخل في هذا الخير الكثير؛ لأنه خير لهذه الأمة( )، فهذا هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان به واعتقاده، وأن يتمسك الإنسان بالسنة، حتى يرد هذا الحوض، ولا يُردّ عنه يوم القيامة.
(84) والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما رُوي في الأخبار:
الشفاعة أيضاً من مسائل العقيدة المهمة( )؛ لأنه قد ضل في إثباتها أناس، وغلا في إثباتها أناس، وتوسط فيها أناس.
فالشفاعة يوم القيامة الناس فيها على ثلاثة أقسام:
قوم غلوا في إثباتها حتى طلبوها من الأموات ومن القبور ومن الأصنام والأشجار والأحجار (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس:18]، (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر:3].
وطائفة غلت في نفي الشفاعة كالمعتزلة والخوارج، فإنهم نفوا الشفاعة في أهل الكبائر، وخالفوا ما تواترت به الأدلة من الكتاب والسنة في إثبات الشفاعة.
وأهل السنة والجماعة توسطوا فأثبتوا الشفاعة على الوجه الذي ذكره الله ورسوله، وآمنوا بها من غير إفراط ولا تفريط.
والشفاعة في اللغة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، فالوتر هو الفرد الواحد. والشفع هو أكثر من واحد، اثنين أو أربعة أو ستة، وهو ما يسمى بالعدد الزوجي.
وشرعاً: الوساطة في قضاء الحاجات، وساطة بين من عنده الحاجة وصاحب الحاجة، وهي على قسمين: شفاعة عند الله، وشفاعة عند الخلق.
فالشفاعة عند الخلق على قسمين:
شفاعة حسنة، وهي الأمور الحسنة النافعة المباحة، تتوسط عند من عنده حاجات الناس من أجل أن يقضيها لهم، قال سبحانه: (من يشفع شفاعةً حسنة يكن له نصيب منها) [النساء:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"( ). هذه شفاعة حسنة وفيها أجر؛ لأن فيها نفعاً للمسلمين في قضاء حاجاتهم وحصولهم على مطلوبهم الذي فيه نفع لهم، وليس فيها تعدّ على أحد أو ظلمٌ لأحد .
والقسم الثاني: شفاعة سيئة، وهي التوسط في أمور محرمة، كالشفاعة في إسقاط الحدود إذا وجبت، وهذا يدخل فيمن لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لعن الله من آوى محدثاً"( ). والشفاعة أيضاً في أخذ حقوق الآخرين وإعطائها لغير مستحقها، قال تعالى: (ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفلٌ منها) [النساء:85].
أما الشفاعة عند الله فليست كالشفاعة عند المخلوق، فالشفاعة عند الخالق: أن يكرم الله جل وعلا بعض عباده في أن يدعو لأحد المسلمين المستحقين للعذاب بسبب كبيرة ارتكبها، فيشفع عنده الشافع في أن يعفو عنه ولا يعذبه؛ لأنه مؤمن موحد، فيشفع الشافع عند الله جل وعلا بأن يعفو عنه، أو فيمن دخل النار في معصية فيشفع الشافع عند الله في أن يخرج ويرفع عنه العذاب، وهي ما تسمى بالشفاعة في أهل الكبائر.
لكن الشفاعة عند الله يشترط لها شرطان:
الشرط الأول: أن تكون بإذن الله، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذن، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، أما من قبل أن يأذن فلا أحد يتقدم إلى الله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255]، وليس كالمخلوق الذي يتقدم الناس للشفاعة عنده وإن لم يأذن، فالله جل وعلا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.(/19)
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد وأهل الإيمان، ممن يرضى الله عنهم قولهم وعملهم، (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء:28]، أي: رضي الله قوله وعمله، وجاء الشرطان في قوله تعالى: (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم:26]. أن يأذن الله هذا الشرط الأول، ويرضى هذا الشرط الثاني.
أما الكافر فإنه لا تنفعه الشفاعة (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر:48]، (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر:18] فالشفاعة في القرآن شفاعتان؛ شفاعة منفية وهي التي انتفت شروطها، وشفاعة مثبتة وهي التي تحققت شروطها.
فالكافر لا تنفعه الشفاعة؛ لو شفع فيه أهل السماوات وأهل الأرض ما قبل الله فيه شفاعتهم؛ لأنه مشرك كافر بالله عز وجل، لا يرضى الله قوله ولا عمله، إلا ما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فهي شفاعة خاصة، وأيضاً ليست شفاعة من أجل خروجه من النار، إنما هي شفاعة من أجل تخفيف العذاب عن هذا الرجل؛ لما حصل منه من مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له –عليه الصلاة والسلام- والمدافعة عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في تخفيف العذاب عنه فقط.
هذه هي الشفاعة الثابتة بشروطها ، وهي أنواع:
منها أنواع خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنواع مشتركة بينه وبين غيره من الأنبياء، والملائكة والصالحين والأفراط الذين ماتوا قبل البلوغ، كل هؤلاء يشفعون عند الله سبحانه وتعالى.
وأما الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي أنواع:
أولها: شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف إذا طال الموقف يوم القيامة، واشتد الكرب، واشتد الزحام، ودنت الشمس من الرؤوس، وحصل الكرب العظيم، أهل المحشر يريدون من يشفع لهم لفصل القضاء بينهم وصرفهم من هذا الموقف: إما إلى جنة وإما إلى نار؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيعتذر لهيبة المقام وجلالته، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام أول الرسل فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر أيضاً، ثم يذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثم يأتي فيخر ساجداً بين يدي الله عز وجل، ويحمده ويثني عليه ويدعوه حتى يقال له: "ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع"( ) بعد الدعاء والاستئذان، لا يشفع مباشرة، بل يسجد ويدعو ويثني على الله ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته، ثم يؤذن له بالشفاعة، ثم يشفع للفصل بين الخلائق فيقبل الله شفاعته، ويأتي سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، قال سبحانه : (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً* وجاء ربك والملك صفاً صفاً) [الفجر:21،22] وقال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر) [البقرة:210].
هذه شفاعته عليه الصلاة والسلام في الفصل بين الخلائق، وهي مقام عظيم شرّف الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي قال الله سبحانه فيه: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)[الإسراء:79]؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، ويظهر فضله عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم.
الشفاعة الثانية: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة( )، فأول من يستفتح باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخلها( ) ، وأول من يدخلها من الأمم أمته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الثالثة: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم : شفاعته لأهل الجنة بأن يرفع الله منازلهم ودرجاتهم، فيشفع في أناس في أن يرفع الله درجاتهم في الجنة، فيرفعهم الله بشفاعته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الرابعة: -وهي مشتركة- الشفاعة في أهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، وفي من دخلها أن يخرج منها، وهذه هي محط الخلاف بين الفرق؛ فالجهمية والخوارج وأضرابهم أنكروها وقالوا: من دخل النار لا يخرج منها، وأهل السنة والجماعة أثبتوها كما جاءت واعتقدوها، ويجب على المسلم أن يعتقدها ويؤمن بها، وأن يسأل الله أن يُشفع فيه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بحاجة إليها.
الشفاعة الخامسة: وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في عمه أبي طالب، أبو طالب مات على الشرك وعلى دين عبد المطلب المشرك، قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، فصار من أهل النار الخالدين فيها. ولكن الله عز وجل يشفع رسوله عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه، فيكون في ضحضاح من نار، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، مع أنه أهون أهل النار عذاباً( ).
والشفاعة في أهل الكبائر مشتركة، فالملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والأولياء والصالحون يشفعون( )، والأفراط يشفعون لآبائهم.
(85) والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق :(/20)
الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً حق، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بالوحدانية، وأخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً( )، فنحن نؤمن بذلك، وهذا العهد والميثاق لا يكفي، بل لابد معه من إرسال الرسل، ولذلك أرسل الله الرسل، ولو كان هذا يكفي وحده لما أرسل الله الرسل، ولكن أرسل الرسل من أجل أن تذكر به وتدعو الناس إلى ما تضمنه.
وأما قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) [الأعراف:172] فذهب بعض المفسرين إلى أن هذا هو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والميثاق، وليس كذلك، بل هذا شيء آخر، والله يقول: (من ظهورهم) ولم يقل: من ظهر آدم، وتكملة الآية: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) ، وقال بعض العلماء: معنى ذلك: الفطرة التي فطرهم الله عليها، والآيات الكونية التي نصبها الله لهم؛ ليعرفوا منها ربهم.
فالله سبحانه فطرهم على التوحيد وعلى الإسلام( ) (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها) [الروم: 30] وهي دين الإسلام ودين التوحيد، فالإسلام معناه التوحيد الذي جاءت به الرسل، ومعناه: عبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو الدين القيم.
ومع هذا نصب الأدلة على ربوبيته فيما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم العجيب، وما فيهم من الآيات العجيبة التي تدل على الخالق سبحانه وتعالى، وكذلك ما نصبه أمامهم من السماوات والأرض والمخلوقات التي تدل على الخالق، إن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، لم توجد صدفة أو توجد بدون خالق (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون) [الطور:35،36].
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
كل ما أمامك يدل على وحدانية الله، ويشهد لله بالانفراد في خلق هذه المخلوقات (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) [الحج:73] فالخالق الله سبحانه، ولا أحد يخلق معه، فكيف يُعبد غيره ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! فمعنى الآية (وإذ أخذ ربك…) [الأعراف: 172] شهادة الفطرة وشهادة الكائنات على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يعتذر يوم القيامة ويقول : (إنا كنا عن هذا غافلين) [الأعراف:172]. فالاحتجاج بالتقليد لا يصلح أمام البراهين القاطعة والأدلة الساطعة .
(86) وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد ، ولا ينقص منه:
هذا الكلام وما بعده من كلام الشيخ –رحمه الله- كله في موضوع القضاء والقدر.
والإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"( )، وفي القرآن قوله جل وعلا: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49] وقوله : (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2].
فليس هناك شيء بدون تقدير، أو أن هناك أشياء تقع صدفة، أو أن الأمر أُنف؛ إن كل شيء يحدث فإنه مقدر ومكتوب.
والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع درجات، نلخصها فيما يلي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء، وأن الله علم الأشياء أزلاً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، لا يخفى على علمه شيء سبحانه وتعالى.
وهي الكتابة العامة الشاملة لكل شيء، وفي الحديث: "إن أول ما خلق الله القلم، قال: أكتب، قال : ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"( ) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
المرتبة الثانية: أن الله جلا وعلا كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، بعد أن علمها سبحانه .
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، لا يكون في هذا الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته مما هو في اللوح المحفوظ، وفي علمه سبحانه وتعالى، لا يحدث شيء بدون إرادته، ولا يكون في ملكه ما لا يريد سبحانه، (إن الله يفعل ما يريد) [الحج:14]، (كذلك الله يفعل ما يشاء) [آل عمران:40]، فما يحدث في هذا الكون من حياة وموت، وغنىً وفقر، وإيمان وكفر، كل ذلك شاءه الله وأراده، شاء الخير وشاء الشر، وشاء الإيمان وشاء الكفر، فدخل في مشيئته كل شيء، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، فما شاءه وأراده فإنه يوجده ويخلقه (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر:62] (ألا له الخلق والأمر) [الأعراف:54]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد: 22].
وأدلة العلم أدلة كثيرة جداً.
ومن جملة الذي وصف الله به نفسه، العلم، فإنه سبحانه وتعالى يعلم عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وذلك في علمه الأزلي.(/21)
وأن ما قدره الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص، ومن ذلك: أنه يعلم أهل الجنة وأهل النار، ويعلم ما هم عاملون، نؤمن بذلك ونتجه إلى العمل، ولا نتناقش في القضاء والقدر: كيف؟ ولماذا؟ وكيف يُحاسبُ على شيء قد قدره؟ إلى آخر الهذيانات وإضاعة الأوقات، والاعتراض على الله عز وجل.
الواجب عليك فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فليس شأن العبد التفتيش في سر الله عز وجل ومخاصمة الرب جل وعلا، إنما شأنه العمل، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ما منهم من أحد إلا مكتوب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، قالوا : يا رسول الله، ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"( ) ، قال تعالى: (إن سعيكم لشتى *فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) [الليل:4،7] السبب من العبد نفسه، إما أن يسعد وإما أن يشقى (وأما من بخل واستغنى*وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل:8،10] فالمطلوب منا العمل الصالح وترك العمل السيئ
أما الاحتجاج بالقضاء والقدر فليس بعذر، فإن الله عز وجل قد بين لنا الخير والشر فليس هناك عذر، فالناس يقعون في مشاكل بسبب دخولهم في أشياء ليست من اختصاصهم، فيقول: إن كان الله قد كتب لي أن أدخل الجنة دخلتها، وإن كان قد كتب لي أن أدخل النار دخلتها، ولا يعمل شيئاً.
فيقال له: أنت لا تقول بهذا في نفسك، هل تقعد في البيت وتترك طلب الرزق وتقول: إن كان الله قد كتب لي رزقاً فسييسره لي؟ أو تخرج وتسعى وتطلب الرزق؟ البهائم والطيور لا تقعد في أوكارها، بل تخرج وتطلب الرزق، وجاء في الحديث : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً "( ) فالله فطرها على طلب الرزق، وعلى فعل الأسباب، وهي بهائم ، وأنت رجل عاقل! .
وأيضاً : لو أن أحداً سرق منك شيئاً، هل تقول: هذا قضاء وقدر، أم تشتكيه؟ بل تشتكيه وتطلب وتخاصم، ولا تحتج بالقضاء والقدر!
(87) وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه:
أي : علم أفعالهم في الأزل
(88) وكلٌ ميسرٌ لما خُلق له:
قال تعالى: (فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل :5،10].
(89) والأعمال بالخواتيم:
(والأعمال بالخواتيم) : الإنسان لا يغتر بعمله وإن كان أصلح الصالحين، بل يخاف من سوء العاقبة، ولا يحكم على أحد بأنه من أهل النار بموجب أفعاله؛ لأنه لا يدري بماذا يختم له، ويوضح ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"( ).
فالإنسان يخاف من سوء الخاتمة، ولا يحكم على أحد بسوء الخاتمة؛ لأنه لا يدري بما يختم له. فالتوبة تجبُّ ما قبلها: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف …) [الأنفال: 38].
فالأعمال بالخواتيم، ولكن من لطف الله عز وجل بعباده أن من عاش على الخير فإنه يختم له بالخير، ومن عاش على الشر فإنه يختم له بالشر، فالإنسان يعمل الأسباب ويحسن الظن بالله عز وجل.
وبعض الناس يقول: أتوب قبل الموت، فنقول له: وهل تدري متى تموت؟ يمكن أن تموت في لحظة لا يمكن معها التوبة، ولا تدري هل التوبة مقبولة أم لا؛ لأن التوبة لها شروط.
(90) والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله:
لا يشقى بقضاء الله عز وجل، إنما يشقى بعمله الذي قدره الله له. من قدر الله أنه يشقى أو يسعد فسييسره له.
(91) وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه:
أي : لن تصل إلى سره، مهما حاولت التفتيش في القضاء والقدر. فلا تكلف نفسك، ولكن آمن بالقضاء والقدر، واعمل الأعمال الصالحة واجتنب الأعمال السيئة، وأما أن تبحث عن أسرار القدر فهذا ليس من اختصاصك، ولا هو من شأنك، وما كلفت به.
(92) لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل:
هذا من شأن الله عز وجل، ومن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه غيره، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، وأفضل الرسل يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188].
(93) والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة الطغيان:
هذا كلام عظيم، أي التعمق في القضاء والقدر ومسائله، وإشغال الوقت والنفس والقلب، مما يورث الشكوك ويخذل عن العمل، فهذا من اللعب والخذلان.
إذا خذل الله العبد شغله في هذه الأمور، وإذا أكرم الله العبد شغله في طاعته، واغتنام وقته.(/22)
فنحن لنا حدود لا نتعداها، فالله ما كلفنا بالبحث في القضاء والقدر، ولكن كلفنا باعتقاد ذلك بالعمل الصالح وترك العمل السيئ .
(94) فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة:
أي احذر من هذه الأمور، والنظر في هذه الأمور، والتفكير فيها، والوسوسة وهي: التردد والشك، اترك هذه الأمور، وسد هذا الباب أصلاً.
(95) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه:
هذا تأكيد لما سبق "القدر سر الله تعالى" ومعنى طوى: أخفى، فطوى الله هذه المعلومات عن خلقه؛ لأنه ليس لهم فيها مصلحة.
(96) ونهاهم عن مرامه:
عن مرام القدر أن يبحثوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى الصحابة يتساءلون في هذا فقال: "أبهذا أُمرتم؟ أم لهذا خُلقتم؟"( ) .
(97) كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) :
أنت لا تسأل الله ولا تناقشه عن أفعاله وعن قضائه وقدره، تأدب مع الله؛ لأنك عبد، فلا تتدخل في شؤونه جل وعلا، فالله لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، والحكمة قد تظهر وقد تخفى علينا، فنؤمن بأن الله لا يفعل شيئاً عبثاً؛ إنما يفعله لحكمة، سواءً ظهرت لنا أو لم تظهر.
فالإنسان مسؤول عن عمله، ليس مسؤولاً عن أعمال الله عز وجل، فاعتن بما أنت مسؤول عنه يوم القيامة، وهو عملك، فعلى العبد التسليم لله.
(98) فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب:
أي قال: لم فعل الله كذا؟ لم قدّر الله كذا وكذا؟ فمن قال هذا، فقد رد حكم الكتاب؛ لأن الله يقول: (لا يسأل عما يفعل) [الأنبياء:23].
(99) ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين:
فمن رد حكم الكتاب والسنة، واعترض على ذلك، وذهب إلى العقل والتفكير صار من الكافرين( ) ؛ لأن الإيمان بالكتاب والسنة هما ركنان من أركان الإيمان.
(100) فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منّور قلبه من أولياء الله تعالى:
أي يحتاجه في أمور القضاء والقدر، فأنت تؤمن بالقدر ومراتبه الأربع؛ تؤمن بتفاصيلها التي جاءت في الكتاب والسنة، ولا تدخل في المناقشات والاعتراضات، بل تعمل العمل الصالح والأسباب المناسبة.
(101) وهي درجة الراسخين في العلم:
الراسخون، يعني : الثابتين في العلم، الذين عندهم علم راسخ، وليس عندهم شكوك ولا جهل، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويعملون الأعمال الصالحة، ويتركون الأعمال السيئة، ولا يتدخلون مع الله في سر من أسراره، ولا يناقشونه ويعترضون عليه، هذا شأن الراسخين في العلم، وأما الجهّال فيدخلون في ضلالات وأمور ابتدعوها.
(102) لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود:
العلم علمان: علم استأثر به الله، فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وهو علم الغيب.
وعلم في الخلق موجود، علّمهم الله إياه، وهو ما لهم فيه مصلحة وذلك بما أنزل الله من الكتاب، وما أرسل به الرسول (ويعلمهم الكتاب والحكمة) [البقر:129] الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، وقيل: الفقه في دين الله فالله علمنا والرسول علمنا (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [البقر:151].
(103) فإنكار العلم الموجود كفرٌ، وادعاء العلم المفقود كفرٌ:
إنكار العلم الشرعي وما فيه من الأمر والنهي والإخبار عن الماضي والمستقبل، إنكاره كفر.
وادعاء علم الغيب كفر (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) [النمل:65]، وأكمل الخلق عليه الصلاة والسلام يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله (ولا يحيطون بشيء من عمله إلا بما شاء) [البقرة:255].
(104) ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود:
لا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وهو علم الكتاب والسنة، وترك علم الغيب لله (فقل إنما الغيب لله) .
(105) ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم:
هذا تابع لما سبق من الكلام عن القضاء والقدر، وقد سبق أن من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بما كتب في اللوح المحفوظ، وأن الله لما علم كل شيء كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وذلك أن الله خلق الخلق، وأول ما خلق القلم، فقال له: "اكتب"، قال: ما أكتب؟ قال: "أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث ( ).
ولا يعلم كيفية اللوح والقلم إلا الله، وهما مخلوقان من مخلوقات الله عز وجل، نؤمن بذلك، ولذلك قال المؤلف: (نؤمن باللوح والقلم وبما فيه قد رقم)؛ يعني اللوح المحفوظ، والكتابة فيه.
وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي: الإيمان بالكتابة في اللوح المحفوظ.
(106) فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن- لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً-لم يقدروا عليه:(/23)
الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ لا يقدر أحد على تغييرها، فلو اجتمع الخلق على أن يغيروا شيئاً كتبه الله لما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يوجدوا شيئاً لم يكتبه الله في اللوح المحفوظ لم يوجدوه، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"( ).
فلا تغيير ولا تبديل لما كتبه الله جلا وعلا في اللوح المحفوظ.
(107) جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه:
هذا معنى الإيمان بالقضاء والقدر، أن تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
فإذا أصابتك مصيبة مما تكره، فإنك تعلم أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، ولابد أن يقع، فتتسلى بذلك عن الجزع والسخط، وتؤمن بالله عز وجل.
وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لو حرصت على طلب شيء وبذلت كل وسعك وجهدك فلن تحصل عليه، فإذا فعلت السبب وبذلت كل شيء ولم تحصل عليه، فإنك تسلم وتؤمن بالقضاء والقدر، ولا تنزعج ويكون عندك هواجس وهموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"( )، إذا علمت هذا هان عليك الأمر، ولا يحصل منك جزع، ولا تحسر، الأمور بيده سبحانه، نعم أنت تفعل الأسباب وتحرص على ما ينفعك، ولكن النتائج من لدن الله عز وجل، وما تدري ما الخيرة؟ فلا يعطيك الله عز وجل ذلك الشيء؛ لأنك لو حصلت عليه يكون عليك منه ضرر، فالله يعلم، وأنت لا تعلم، عليك أن ترضى بقضاء الله وقدره.
وفي القرآن الكريم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة:51].
ويقول رداً على الكفار لما قالوا في شأن الذين قتلوا في يوم أحد: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) [آل عمران:156]، قال عز وجل: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) [آل عمران:154].
فما كُتب على الإنسان لابد من نفاذه فيه، ولو تحرز وتحصن وعمل من الاحتياطات ما عمل، لم يمنعه ذلك من قضاء الله وقدره، قال تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) [النساء:78].
(108) وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه:
هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: على العبد أن يؤمن ويعتقد أن الله علم ما كان وما لم يكن بعلمه الأزلي، الذي هو موصوف به أبداً وأزلاً، علم الأشياء كلها بعلمه المحيط قبل وقوعها، فلابد من اعتقاد ذلك.
(109) فقدّر ذلك تقديراً محكماً مبرماً:
عَلِمَهُ سبحانه وتعالى وقدّره (وخلق كل شيء فقدّره تقديراً) [الفرقان:2].
فالأمور ليست فوضى أو ليست لها ضوابط، كلها مرتبة ومنضبطة بقضاء الله وقدره وكتابته، والله منزه عن الفوضى والعبث.
(110) ليس فيه ناقض، ولا معقّب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه:
لا أحد يتصرف، فيغير ما قضاه الله وقدّره، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه (والله يحكم لا معقب لحكمه) [الرعد:41]. فلا أحد ينقص شيئاً من قضاء الله، ولا يزيد شيئاً أبداً، هذا شيء قضي منه وانتهى منه.
إذا اعتقد المسلم ذلك أراحه من كثير من الشكوك والأوهام، ولكن ليس معنى ذلك أنه يتكل على القضاء والقدر والكتاب، ويترك العمل( )، هو مأمور بالعمل وطلب الرزق وفعل الأسباب، هذا من ناحية العمل، وأما من ناحية النتائج فهي بيد الله عز وجل.
(111) وذلك من عُقد الإيمان، وأصول المعرفة:
هذه العقيدة، عقيدة القضاء والقدر، من عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالذي لا يكون مؤمناً بالقضاء والقدر لا يكون مؤمناً بالله جل وعلا، بل كان متنقصاً لله عز وجل، فالإيمان به من العقيدة وليس من الأشياء الثانوية أو الفرعية، فالإيمان بالقضاء والقدر من صميم العقيدة، وهو ركن من أركان الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" ( ).
(112) والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) وقال تعالى : (وكان أمر الله قدراً مقدوراً):
الإيمان بالقضاء والقدر يدخل في توحيد الربوبية؛ لأنه من أفعال الله جل وعلا، فمن جحد القضاء والقدر لم يكن مؤمناً بتوحيد الربوبية.(/24)
(وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2] (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) [الأحزاب: 38]، (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49]، هذه الآيات الثلاث مع غيرها من الآيات تدل على الإيمان بالقضاء والقدر (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) [التغابن:11]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) [الحديد:22]. يعني اللوح المحفوظ.
(113) فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً:
الذي يدخل في أمور القضاء ويشكك فيه خصيم الله، ولا يصح الإيمان إلا بالإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع، حسب ما جاء في الكتاب والسنة، ولا تتدخل في السؤالات والإشكالات والشكوك والأوهام، فإن هذا معناه مخاصمة الله عز وجل، فالذين تدخلوا في القضاء والقدر لم يتوصلوا إلى شيء، بل وقعوا في حيرة واضطراب وإفساد للعقيدة.
(114) وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً:
فأمور القضاء والقدر وشؤون الله عز وجل لا يدركها النظر والتفكير والعقل، فلا تكلف عقلك شيئاً لا يستطيعه، فالعقل محدود، لا يمكنه أن يدرك كل شيء، فلا تدخله في متاهات وأمور لا يطيقها.
(115) لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً:
لأن القضاء والقدر سر الله جل وعلا في خلقه، فلا تبحث عنه، ولا تُكلف بذلك، إنما كُلفت بالعمل والطاعة والامتثال.
(116) وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً:
أي يكون كل كلامه وكل بحثه إفكاً، يعني : كذباً وإثماً –والعياذ بالله- لأنه فعل ما لم يؤمر به، وتدخل فيما ليس من شأنه.
(117) والعرش والكرسي حق :
الله سبحانه وتعالى خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الكرسي، وخلق العرش، كلها مخلوقات لله عز وجل، السماوات فوق الأرض، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، فهو أعلى المخلوقات، وذلك كما جاء في الحديث: "إن السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبع دراهم ألقيت في ترس"، يعني : السماوات السبع وعظمها وما فيها –مقارنة بالكرسي- كسبعة دراهم ألقيت في مثل الصحن الذي يتترس به المقاتل، فما نسبة سبعة دراهم في ترس مستدير؟ نسبتها قليلة، وفي ذلك قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255]، والعرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، كما جاء في الحديث، فلو ألقيت حلقة في أرض واسعة فما نسبتها إلى هذه الفلاة؟ لا شيء .
هذه مخلوقات عظيمة وواسعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
فالعرش أعلى المخلوقات، والله سبحانه عالٍ فوق عرشه فوق مخلوقاته.
والكرسي تحت العرش، وجاء في الأثر أنه موضع القدمين، فالكرسي مخلوق، وليس المقصود به العلم، كما نسب ذلك لابن عباس رضي الله عنه، أنه قال في قوله: (وسع كرسيه) أي : علمه، أي: وسع علمه السماوات والأرض. المعنى صحيح، ولكن ليس هذا المقصود من الآية، فالكرسي مخلوق، والعلم صفة من صفات الله عز وجل ليست من مخلوقاته، فيجب الإيمان بالعرش وبالكرسي، هذا حق على حقيقته، وليس العرش كما يقوله الأشاعرة –ومن نحا نحوهم- إن العرش هو الملك، فيقولون في قوله تعالى : (استوى على العرش) [الأعراف:54]، أي : استولى على الملك، وهذا ضلال، فالعرش مخلوق: (وكان عرشه على الماء) [هود:7]، فالعرش تحته الكرسي، والكرسي تحته السماوات، والأرض تحت السموات . في الحديث: "فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن"( ) فالفردوس هو أعلى الجنان وفوقه عرش الرحمن.
فعرشه مخلوق وله حملة، وهم طائفة من الملائكة: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [الحاقة:17] قبل يوم القيامة يحمله أربعة، فإذا جاء يوم القيامة تضاعفوا وصاروا ثمانية، فكل واحد من الملائكة لا يُتصور خلقه وعظمته وقوته.
وهل يقال: إذا قيل إن العرش هو الملك. إن المُلك تحمله الملائكة؟
(118) وهو مستغن عن العرش وما دونه:
لا تتصور أن معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) [الأعراف:54] أنه محتاج إلى العرش كاستواء المخلوق على المخلوق، بل الله عز وجل مستوٍ على العرش، وهو غني عن العرش وما دون العرش.
جميع المخلوقات محتاجة إلى الله (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر:41] فهو الذي يمسك العرش، ويمسك السماوات، ويمسك الأرض والمخلوقات، بقدرته وعزته، فهي المحتاجة إليه، وهو غني عنها سبحانه وتعالى .
ولا يلزم من كون الشيء فوق الشيء أن يكون الأعلى محتاجاً إلى ما تحته، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض.
(119) محيط بكل شيء وفوقه:
محيط بكل شيء (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) [آل عمران:5] وإحاطته بالأشياء: علمه بها، وإلا فالله عز وجل في جهة العلو.
(120) وقد أعجز عن الإحاطة خلقه:(/25)
فالله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، قال الله عز وجل: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255] فالله محيط بكل شيء علماً (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) [الطلاق:12].
(121) ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً:
من عقيدة المسلمين أن الرسل أفضل الخلق وأن الرسل يتفاضلون فهم يعتقدون أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، كما قال الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النساء:125] والخلة هي أعلى درجات المحبة، فالله جل وعلا يحب عباده المؤمنين والمتقين والمحسنين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولكن الخلة لم يحصل عليها إلا اثنان من العالم: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً" ( ).
(وكلم الله موسى تكليماً) [النساء:164] ففضل بعض النبيين على بعض، وإن كانوا كلهم بالمرتبة العليا، لكن الله جل وعلا فضل بعضهم على بعض (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) [البقرة:253] فكل نبي يعطيه الله عز وجل تفضيلاً خاصاً به، فضل إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام بالخلة، وفضل موسى بأنه كلمه تكليماً بدون واسطة الملك، وسمع موسى كلامه، ناداه سبحانه وناجاه؛ والمناداة: الصوت المرتفع، والمناجاة: الصوت الخفي، كل هذا حصل لموسى عليه الصلاة والسلام، وهذه فضيلة لم يحصل عليها غيره، وقال: (تكليماً) للتأكيد، حتى لا يقول أحد: إن هذا مجاز، فلما أكده بالمصدر، دل على أنه تكليم حقيقي من الله عز وجل، وهذا فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات الفضيلة لموسى عليه الصلاة والسلام على غيره من النبيين في هذه الخصلة، ولا يلزم إذا كان عند نبي من الأنبياء ميزة خاصة أن يكون أفضل من غيره على الإطلاق، بل هو أفضل من غيره من الأنبياء في هذه الخصلة.
(122) ونؤمن بالملائكة والنبيين:
هذا من أركان الإيمان، التي أولها: الإيمان بالله، وثانياً: الإيمان بالملائكة، وهم عالم من عالم الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، خلقهم الله تعالى من النور؛ لعبادته وتنفيذ أوامره في مخلوقاته، أوكل إليهم أعمالاً يقومون بها وينفذونها في مخلوقاته، منهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، ومنهم الموكل بقبض الأرواح، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم الموكل بحفظ أعمال بني آدم، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأجنّة في بطون الحوامل، كما في حديث ابن مسعود (ثم يرسل إليه الملك فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) ( ) .
فهم موكلون بأعمال يقومون بها كما أمر الله تعالى بها: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبياء:27]، (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [الأنبياء:20].
فهم يعبدون الله عبادة متواصلة ومع ذلك يقومون بما أوكل إليهم من تنفيذ الأوامر في المخلوقات ولهم مهام عظيمة، وخلقتهم لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى( )، تختلف عن خلقة بني آدم (جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر:1] ولبعضهم أكثر من ذلك (يزيد في الخلق ما يشاء) [فاطر:1] فجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، كل جناح منها سد الأفق، فلا يعلم خلقتها ولا كيفيتها إلا الله. أما البشر فلا يستطيعون رؤية الملك على صورته، وإنما يأتي الملك في صورة إنسان كما كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان، ويجلس إليه ويكلمه، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الملكية إلا مرتين، مرة وهو في بطحاء مكة رآه في الأفق، ومرة عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج، وما عدا هاتين المرتين فإن جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان، وكثيراً ما يأتي في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه.
وقوله: (والنبيين) النبيين جمع نبي وهو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ويجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين ومن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع (لا نفرق بين أحد من رسله)
(123) والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين:
من أصول الإيمان وأركانه: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على الرسل لهداية الخلق؛ فالله تعالى أنزل الكتب على الرسل من كلامه ووحيه وتشريعه، أنزلها على الرسل ليبلغوها إلى أممهم، فيها الأوامر وفيها النواهي، وفيها شرع الله جل وعلا.(/26)
منها ما سماه الله في القرآن ومنها ما لم يسمه، ونحن نؤمن بجميع الكتب، ما سماه لنا وما لم يسمه، كالتوراة التي أنزلها على موسى، والإنجيل الذي أنزله على عيسى، والقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، والزبور الذي أنزله على داود (وآتينا داود زبورا) [النساء:163] وصحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بها كلها وأنها في مصلحة الخلق وهداية الخلق وإقامة الحجة، فمن آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها فهو كافر بالجميع؛ لأنها كلها من كلام الله فلا يجوز الإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر، قال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) [البقرة:85].
وكذلك الكتاب الواحد يجب الإيمان به كله والعمل به كله، فلا نأخذ ما يوافق شهواتنا وندع ما يخالفها .
فمن جحد كتاباً من كتب الله، أو بعضاً من الكتاب، أو كلمة من الكتاب، أو حرفاً من الكتاب، فهو كافر بالله عز وجل.
(124) ونسمّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين:
هذا من العقيدة، أنه من نطق بالشهادتين واستقام عليهما فإنه مسلم، ولو صدر منه بعض المعاصي، ولو كانت من الكبائر، وما دامت المعاصي دون الشرك، ولكن يكون مسلماً ناقص الإسلام وناقص الإيمان وفاسقاً، ولكنه لا يُحكم بكفره إن كانت معاصيه دون الشرك، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، لا يُكفِّرون بالمعاصي التي هي دون الشرك، ولكن ينقص بها الإيمان، وصاحبها يفسق بها الفسق الأصغر الذي لا يخرج من الملة. خلافاً للخوارج الذين يُكفّرون بالكبائر ويخرجون بها من الملة، ويخلدون صاحبها في النار. وخلافاً للمعتزلة الذين يُخرِجون صاحب الكبيرة من الإسلام، ولكن لا يدخلونه في الكفر، ويقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، ولكن لو ماتوا على الكبيرة فالمعتزلة مثل الخوارج في الحكم عليهم، وخلاف عقيدة المرجئة الذين يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، من صدق بالله عز وجل فإنه يكون مؤمناً، وإن فعل ما فعل، ولو ترك جميع أركان الإسلام عندهم لا يكون كافراً، المهم التصديق والاعتقاد، أما الأعمال فلا تزيد في الإيمان ولا تنقصه وليست منه، فهو مؤمن تام الإيمان ما دام مصدقاً.
هذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال.
فهم مع الخوارج على طرفي نقيض؛ قوم تشددوا، وهم الخوارج، وقوم ذابوا وماعوا وقالوا: إن هذه المعاصي لا تضر، وهم المرجئة، وأما أهل السنة والجماعة فتوسطوا، ومذهبهم مأخوذ من الكتاب والسنة، وهو العدل، وفيه الجمع بين الأدلة. أما الخوارج والمعتزلة فأخذوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، وأما المرجئة فأخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، لكن أهل السنة والجماعة أخذوا بنصوص الوعد وبنصوص الوعيد، وجمعوا بينها، وهذا الحق (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) [آل عمران:7] فيردون هذا إلى هذا، ولا يأخذون بطرف ويتركون الطرف الآخر كما هو مذهب أهل الزيغ (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) [آل عمران:7] يأخذون بالمتشابه ويتركون المحكم الذي يفسر المتشابه.
وقول المصنف: (مسلمين مؤمنين) ليس على إطلاقه؛ لأنهم قد يكونون ناقصين في الإسلام والإيمان، ومتوعدين من الله عز وجل.
(125) ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدّقين:
أما لو جحدوا شيئاً مما جاء به النبي صلى لله عليه وسلم ولم يعترفوا، صاروا كفاراً، ولو آمنوا ببعض ما جاء به، فإن جحدوا بعضه فهم كافرون بجميع ما جاء به، فالواجب الإيمان به كله، سواء وافق أهواءنا أو خالفها؛ لأنه حق.
أما من كذب ببعض الأحاديث الصحيحة فهو كافر، فلو رد حديثاً في البخاري، والحديث صحيح، وقال: أنا لا أومن بهذا الحديث ولا أصدقه؛ لأنه يخالف العلم الحديث، فسبحان الله! كلام النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم، وكلام البشر لا يتهم؟ أيضاً العلم الحديث قد لا يخالف الأحاديث الصحيحة، والحمد لله، فمثلاً ورد في حديث الذباب الذي ينكره هؤلاء أن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، والطب يقر بهذا أن السم يعالج بضده، وبما يناقضه، والذباب فيه النقيضان، فإنه إذا وقع في الماء فإنه يرفع الجناح الذي فيه الدواء، ويغمس الجناح الذي فيه السم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه بجناحه الذي فيه الدواء( )، فيغالب السم، فهذا يقره الطب ولا يرده، ولكنه لما خالف أذواق هؤلاء الجهال صاروا يتكلمون بهذا الكلام، وهذا كفر والعياذ بالله، ولهم مقالات شنيعة نحو السنة، يردونها ويشككون فيها، ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ( )، يقولون هذا وهم يدعون أنهم دعاة للإسلام، وهذا موقفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الجهال يقولون: هذه من أمور الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فمعناه: أنهم يُجهِّلون النبي صلى الله عليه وسلم.(/27)
وقوله: (معترفين) (مصدقين) لا يكفي الاعتراف والتصديق إلا على مذهب المرجئة، بل لابد مع ذلك من العمل بما جاء به، ولابد من الإخلاص في ذلك.
(126) ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله:
لا نخوض في الله، بل نؤمن به وبصفاته وأسمائه، ولا نؤولها ونصرفها عن ظاهرها، ونأتي بمعانٍ ما أرادها الله ولا أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، اتباعاً لأهوائنا وعقولنا القاصرة، وهذا كفر بالله عز وجل.
وكذلك في دين الله لا نماري –أي نجادل- ونقول: هذا نؤمن به وهذا نتوقف في الإيمان به، فما دام ثبت في الكتاب والسنة فليس فيه مجال للخوض، بل نؤمن به ونُسَلّم، وإن كان في عقولنا ما لا يدرك هذا الشيء، فعقولنا قاصرة، ولو كانت كاملة لما احتاجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما احتاجت البشرية إلى الرسل، فدل على أن العقول قاصرة، وأنه لابد من إرسال الرسل؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
(127) ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين:
قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل عدم القول بأنه ليس من عند الله، كما يقوله الكفار، ويقولون: هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم .
وكذلك الجدال في تفسير معاني القرآن، فلا نفسر القرآن من عند أنفسنا، فالقرآن لا يفسر إلا بما جاء في كتاب الله أو ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما قاله الصحابة أو ما قاله التابعون، أو ما اقتضته اللغة العربية التي نزل بها.
فلا نقول فيه بعقولنا القاصرة، إنما يفسره الله سبحانه الذي نزله، أو النبي عليه الصلاة والسلام الذي وُكل إليه بيانه، أو الصحابة الذين تتلمذوا على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أو التابعون الذين رووا عن تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، أو اللغة التي نزل بها؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين. أما تفسيره بما يقوله الطبيب الفلاني أو المفكر الفلاني أو الفلكي الفلاني، فالنظريات تختلف، فاليوم نظرية وغداً نظرية تبطلها؛ لأنها من عمل البشر، فلا يُفسَّر كلام الله بهذه الأشياء التي تتبدل وتتغير كما يفعله الجهال اليوم ويقولون: هذا من الإعجاز العلمي.
قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) نشهد أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة، وسمعه جبريل من الله، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد عليه الصلاة والسلام إلى أمته، وبلغته أمته كل جيل إلى الجيل الذي بعده، نحن نكتبه ونقرؤه ونحفظه، وهو بذلك كلام الله ما هو بكلامنا، ولا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام جبريل عليه السلام.
(128) نزل به الروح الأمين، فعلّمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
الروح الأمين هو جبريل، وسمي بهذا لأنه مؤتمن لا يغير ولا يبدل؛ مؤتمن على ما حمله الله، لا يتهم بالخيانة كما تقوله اليهود يقولون: جبريل عدونا. أو كما يقوله غلاة الشيعة: إن الرسالة لعلي ولكن جبريل خان وبلغها إلى محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تكذيب لله؛ لأن الله سماه أميناً.
فأنزل الله في اليهود: (من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه) [البقرة:97]، ثم قال: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) [البقرة: 98].
من عادى جبريل، أو ملكاً من الملائكة، فإن الله عدوه وكذا من عادى رسولاً من الرسل، فهو كافر، ومن عادى ولياً من أولياء الله فإنه مبارز الله بالمحاربة، كما صح في الحديث( )، فجبريل علّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (علمه شديد القوى) [النجم:5] وضمير المفعول في (علمه) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشديد القوى: جبريل عليه الصلاة والسلام، فعلّم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله.
(129) وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين:
هو كلام الله، تكلم به سبحانه حقيقة، وسمعه جبريل من الله حقيقة، وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت:42]، (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً*ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً*إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [الإسراء:73،75] فالرسول يبلغ القرآن، لا ينقص ولا يزيد ولا يبدل (ولو تقول علينا بعض الأقاويل*لأخذنا منه باليمين*ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة:44،46].
وهو كلام الله، سبحانه وتعالى كما نزل، فالله حفظه من الزيادة والنقص: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9]
(130) ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين:
لا نقول: القرآن مخلوق، كما تقول الجهمية، فهذا كفر وجحود لكلام الله، ووصف لله بالنقص وأنه لا يتكلم، والذي لا يتكلم يكون ناقصاً ولا يكون إلهاً.(/28)
ولهذا لما قال قوم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، يعنون العجل أو التمثال، قال الله جل وعلا: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) [طه:89] فقال: (ألا يرجع إليهم قولاً) أي : لا يتكلم، فدل على بطلان عبادتهم له.
وفي الآية الأخرى: (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً) [الأعراف:148] والكلام صفة كمال، وعدم الكلام صفة نقص، فالله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص، ومتصف بصفات الكمال.
(ولا نخالف جماعة المسلمين) فجماعة المسلمين يؤمنون بأنه منزل حقيقة غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذه عقيدة المسلمين في القرآن.
وكذلك لا نخالف جماعة المسلمين في كل ما اجتمعوا عليه من أمور الدين. قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
(من الله بدأ) وليس كما يقول بعض الضلال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، بل سمعه من الله مباشرة، (وإليه يعود) أي: في آخر الزمان، يرفع القرآن إلى الله عز وجل، وهذا من علامات الساعة، فيُنزع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، فلا يبقى في الأرض.
(131) ولا نكفَّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله:
(ولا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) هذا كما سبق أن الذنب إذا لم يكن كفراً أو شركاً مخرجاً من الملة، فإننا لا نُكَفّر به المسلم، بل نعتقد أنه مؤمن ناقص الإيمان، معرض للوعيد وتحت المشيئة. هذه عقيدة المسلم، ما لم يستحله، فإذا استحل ما حرم الله فإنه يكفر، كما لو استحل الربا أو الخمر أو الميتة أولحم الخنزير أو الزنا، إذا استحل ما حرم الله كفر بالله، وكذلك العكس: لو حرم ما أحل الله كفر: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) [التوبة:31] وجاء تفسير الآية بأنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم( ).
أما لو فعل الذنب وهو لم يستحله بل يعترف أنه حرام فهذا لا يكفر ولو كان الذنب كبيرة دون الشرك والكفر لكنه يكون مؤمناً ناقص الإيمان أو فاسقاً بكبيرته مؤمن بإيمانه.
وقوله: (لا نكفر بذنب) ليس على إطلاقه، فتارك الصلاة متعمداً يكفر( )، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
(132) ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله:
كما تقوله المرجئة، يقولون: ما دام مصدقاً بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، أما الأعمال فأمرها هيّن، فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يعمل شيئاً من أعمال الطاعة، يقولون: هو مؤمن بمجرد ما في قلبه! وهذا من أعظم الضلال.
فالرد عليهم أن الذنوب تضر على كل حال، منها ما يزيل الإيمان بالكلية، ومنها ما لا يزيله بالكلية بل ينقصه وصاحبها معرض للوعيد المرتب عليها.
(133) ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة:
هذا بحث للشهادة لمعين أنه من أهل الجنة، أو أنه من أهل النار، نحن لا نشهد لأحد بجنة أو نار إلا بدليل، إلا من شهد له المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة، شهدنا له بذلك، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار شهدنا له بذلك، هذا بالنسبة إلى المعينين، أما بالنسبة إلى العموم فنعتقد أن الكافرين في النار، وأن المؤمنين في الجنة.
أما على وجه الخصوص فلا نحكم لأحد إلا بالدليل، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. هذه عقيدة المسلمين.
(134) ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نُقَنِّطُهُم:
نستغفر للمسيء؛ لأنه أخونا، وندعو له بالتوبة والتوفيق؛ وإن كان مذنباً، وهذا حق الإيمان علينا (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19].
ولا نُقنّطُ المذنب من رحمة الله كما تقوله الخوارج والمعتزلة، لا نقنطه من رحمة الله، بل هو معرض للوعيد وتحت المشيئة، وإن تاب تاب الله عليه عز وجل: (إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87] (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56] (ياعبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) [الزمر: 53].
والوعيدية الذين هم الخوارج ومن سار في ركابهم، هم الذين يُقنّطون الناس من رحمة الله، ويخرجونهم من الملة بذنوبهم، وإن كانت دون الشرك.
(135) والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام:
من أصول العقيدة الإسلامية: الخوف والرجاء، وهما من أعظم أصول العقيدة، والخوف والرجاء لابد من الجمع بينهما، لا يكفي الاقتصار على واحد منهما فقط، كما قال تعالى في وصف أنبيائه: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً) [الأنبياء:90].
رغباً: هذا هو الرجاء، ورهباً: هذا هو الخوف، وقال سبحانه وتعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) [الإسراء:57] فهم يجمعون بين الخوف والرجاء.(/29)
وقال جل وعلا: (أمن هو قانت ءانآء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه) [الزمر:9]. ولابد معهما من المحبة لله، فلابد من هذه الأمور الثلاثة: المحبة لله، والخوف منه سبحانه وتعالى، والرجاء لفضله.
فمن اقتصر على المحبة فقط فهو صوفي، فالصوفية يعبدون الله عز وجل بالمحبة، ولا يخافون ولا يرجون، يقول قائلهم؛ أنا لا أعبده طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده للمحبة فقط، وهذا ضلال والعياذ بالله.
ومن عبد الله بالخوف فقط فهو من الخوارج؛ لأن الخوارج أخذوا جانب الخوف والوعيد فقط، فكفروا بالمعاصي.
ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو من المرجئة، الذين أخذوا جانب الرجاء فقط، وتركوا جانب الخوف.
أما أهل التوحيد فيعبدون الله بجميع الثلاث: بالحب والخوف والرجاء، ثم إن الخوف لا يكون معه قنوط، فإن كان معه قنوط من رحمة الله صار كفراً (إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87] قال الخليل عليه الصلاة والسلام: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56].
وكذلك الرجاء لا يكون رجاء مع الأمن من مكر الله وعدم الخوف، وهذا مذهب المرجئة، وهو مذهب ضال (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف:99] فالرجاء فقط كفر، والخوف دون الرجاء كفر، ولذلك قال المصنف: ينقلان عن ملة الإسلام.
لذا يقول بعض السلف: يجب على العبد أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يعني: يسوي بينهما، كجناحي الطائر، وجناحا الطائر معتدلان، لو اختل واحد منهما سقط، فكذلك العبد بين الخوف والرجاء كجناحي الطائر.
(136) وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة:
(الحق بينهما) أي: الخوف والرجاء (لأهل القبلة) أي : المسلمين، سُمُّوا أهل القبلة؛ لأنهم يصلون إلى الكعبة، أما من لا يصلي إلى الكعبة فليس من المسلمين لأن الله أمر بالتوجه إلى الكعبة، فالواجب اتباع أمره سبحانه حينما نسخ الاستقبال لبيت المقدس، فالمؤمن يدور مع الأوامر؛ لأنه عبد لله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) [البقرة:143].
(137) ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه :
هذا الكلام فيه مؤاخذة؛ لأن قصر الكفر على الجحود مذهب المرجئة، ونواقض الإسلام كثيرة منها: الجحود، ومنها: الشرك بالله عز وجل، ومنها: الاستهزاء بالدين أو بشيء منه ولو لم يجحد، وهي نواقض كثيرة ذكرها العلماء والفقهاء في أبواب الردة، ومنها: تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب منها عشرة، وهي أهمها، وإلا فالنواقض كثيرة. فقصرُ نواقض الإسلام على الجحود فقط غلط. وبعض الكتّاب المتعالمين اليوم يحاولون إظهار هذا المذهب من أجل أن يصير الناس في سعة من الدين، ما دام أنه لم يجحد فهو عندهم مسلم، إذا سجد للصنم وقال: أنا ما جحدت، وأنا معترف بالتوحيد، إنما هو ذنب من الذنوب. أو ذبح لغير الله أو سب الله أو سب الرسول أو سب الدين، يقولون: هذا مسلم لأنه؛ لم يجحد، وهذا غلط كبير، وهذا يضيع الدين تماماً، فلا يبقى دين فالواجب الحذر من هذا الخطر العظيم.
(138) والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان:
هذا تعريف المرجئة، قصروا الإيمان على الإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
فالقول الحق: أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، فالأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وليست بشيء زائد عن الإيمان، فمن اقتصر على القول باللسان والتصديق بالقلب دون العمل، فليس من أهل الإيمان الصحيح.
فالإيمان –كما قال العلماء- : قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
قال تعالى : (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) [الأنفال:2] وقال: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً) [التوبة:124] وقال: (ويزداد الذين آمنوا إيماناً) [المدثر: 31] هذه الآيات تدل على زيادة الإيمان والنقص، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"( ) فدل على أن الإيمان ينقص. وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"( ) دل على أن الإيمان ينقص، حتى يكون على وزن حبة خردل.
وكما في الحديث الصحيح: "أخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان"( ).
فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا تعريفه الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة.
فليس كما تقوله الحنفية: قول باللسان واعتقاد بالجنان فقط.
وليس كما تقوله الكرامية: قول باللسان فقط.
وليس كما تقوله الأشاعرة: اعتقاد القلب فقط.
وليس كما تقوله الجهمية: هو المعرفة بالقلب فقط.
فالمرجئة أربع طوائف، أبعدها الجهمية، وعلى قولهم يكون فرعون مؤمناً؛ لأنه عارف، وإبليس يكون مؤمناً؛ لأنه عارف بقلبه.(/30)
وعلى قول الأشاعرة: إنه التصديق بالقلب، يكون أبو لهب وأبو طالب وأبو جهل وسائر المشركين يكونون مؤمنين؛ لأنهم موقنون بقلوبهم ومصدقون، يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن منعهم الكبر والحسد من اتباعه صلى الله عليه وسلم .
واليهود يعترفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، ولكن الحسد والكبر: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) [البقرة:146]، وقال في المشركين: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام:33]، فمعنى (لا يكذبونك) أي أنهم يصدقونك.
وأبو طالب يقول:
ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبةٍ لرأيتني سمحاً بذاك مبينا
(139) وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق:
هذا كلام طيب، كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق، بخلاف من يقولون: إن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى متواتر وآحاد، فلا يأخذون إلا بالمتواتر، ويقولون: أحاديث الآحاد تفيد العلم، ولا تفيد اليقين، ولا يستدل بها في العقيدة، وهذا باطل، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم –متواتراً أو آحاداً، فإنه يفيد العلم، وتبنى عليه العقيدة؛ لأنه صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه…) [الحشر:7].
فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عمل به في كل شيء، بشرط أن يكون قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك طوائف الآن يشككون في السنة؛ منهم من يقول: لا يجوز العمل بالسنة مطلقاً، ويكفي العمل بالقرآن فقط( )، وهناك من يقول: يؤخذ من السنة المتواتر فقط، وكلا الطائفتين ضال.
فالواجب على المسلم أن يعتقد أن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، والرسول صلى الله عليه وسلم عمل بخبر الواحد في وقائع كثيرة؛ رؤية الهلال؛ جاءه ابن عمر وأخبره بأنه رأى الهلال فأمر الناس بالصيام، وجاءه أعرابي وأخبره أنه رأى الهلال فقال له: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟" قال: نعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصيام( )، وهو خبر واحد.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، وما كان يرسل جماعات، والمرسل إليهم يعملون بما بلغهم المندوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
(140) والإيمان واحد. وأهله فيه سواء :
هذا غلط؛ لأن الإيمان ليس واحداً، وليس أهله سواء، بل الإيمان يتفاضل، ويزيد وينقص، إلا عند المرجئة.
والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواءً، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين؛ لأن الفاسق من المسلمين إيمانه ضعيف جداً، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان الأمة كلها( )، فليس الناس في أصله سواءً. هذا من ناحية أصله.
كذلك من ناحية العمل، الناس يتفاضلون في العمل، منهم كما قال الله عز وجل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه) [فاطر:32] هذا العاصي الذي معصيته دون الشرك، فإنه ظالم لنفسه؛ لأنه معرض نفس للخطر (ومنهم مقتصد) وهو الذي يعمل الواجبات ويتجنب المحرمات.
(ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) [فاطر:32] وهذا هو الذي يعمل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات من باب الاحتياط. فالأمة ليست سواء، فصارت ثلاث طوائف، فمنها الظالم لنفسه، ومنها المقتصد، ومنها السابق بالخيرات، فدل على أن الإيمان متفاضل.
(141) والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى:
هذا لا يكفي لأن معناه إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، وأنه إذا صدق بقلبه ونطق بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، والناس لا يتفاضلون في ذلك. وهذا خطأ كبير؛ لأن التفاضل يحصل بما ذكره وبالأعمال الصالحة.
(142) والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن:
هذا حق، فالمؤمنون كلهم أولياء الله، يعني: أحبابه، فالله يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب المحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين، كما أنه يبغض الكافرين ويبغض الفاسقين، فالله يحب ويبغض على الأعمال.
فكل مؤمن يكون ولياً لله، وتتفاضل الولاية، بعضهم أفضل من بعض، قال جل وعلا: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس:62،63] فمن الناس من ولايته مع الله تامة، ومنهم من ولايته مع الله ناقصة، ومنهم من هو عدو لله بعيد عن الله سبحانه وتعالى.
فكل من فيه إيمان وتقوى فهو ولي الله، ولكن الولاية تتفاضل بحسب الأعمال، فمنهم من ولايته كاملة، ومنهم من هو ولي من وجه، وهو المؤمن الفاسق، ولي لله بطاعته، عدو لله بمعصيته ومخالفته.
ومنهم من هو عدو خالص كالكافر والمشرك.
هذا هو الحق، أما من يرى أنه ليس لله ولي إلا من بُنيَ على قبره مشهد أو ضريح، والذي ليس عليه ضريح هذا فليس بولي؟ كما عند القبوريين! فهذا باطل.(/31)
(143) والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، من الله تعالى:
تعريف الإيمان هو كما سبق: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان( )، وأما ما ذكره المصنف هنا فهي أركانه كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل "قال: أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"( ) .
وله خصال كثيرة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون شعبة –أو بضع وستون شعبة- أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"( ) لكن هذه الستة هي الأركان والدعائم التي يقوم عليها.
وتقدم الكلام عن الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، تقدم كل هذا، ولكنه متفرق في أول هذه العقيدة.
(144) ونحن مؤمنون بذلك كله:
يجب الإيمان بهذا كله، فإن جحد شيئاً من هذه الأركان فإنه ليس بمؤمن؛ لأنه نقص ركناً من أركان الإيمان.
(145)لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به:
هذا سبق، أنه يجب الإيمان بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم في القرآن ولم يسمَّ؛ فنؤمن بجميع الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فهو كافر بالجميع؛ لو جحد نبياً واحداً فإنه يكون كافراً بجميع الأنبياء (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً* أولئك هم الكافرون حقاً) [النساء:150،151].
فاليهود كفار؛ لأنهم كفروا بنبيين كريمين، كفروا بعيسى عليه الصلاة والسلام، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى كفار؛ لأنهم جحدوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين يقولون اليوم: اليهود والنصارى مسلمون ومؤمنون، وأنهم أهل أديان، ويجب التقارب بين الأديان والحوار بين الأديان، هذا خلط وضلال والعياذ بالله، خلط بين الحق والباطل، والإيمان والكفر لأنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ليس هناك دين صحيح إلا الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85].
فالإسلام نسخ كل ما قبله، وأمر الإنس والجن واليهود والنصارى والأميين وجميع العرب والعجم، أمروا باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان إلا باتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
(146) وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون:
الكبائر هي الذنوب التي دون الشرك وفوق الصغائر، وضابط الكبيرة هو: كل ذنب رُتب عليه حد، أو ختم بغضب أو لعنة أو نار، أو تبرى الرسول صلى الله عليه وسلم من فاعله، فإن هذا كبيرة، كقوله: "من غشنا فليس منا" ( )، "من حمل علينا السلاح فليس منا"( ).
كل هذه الاعتبارات تدل على أن الذنب كبيرة، ولكنها دون الشرك، فصاحبها لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمناً ناقص الإيمان، أو يسمى فاسقاً، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، لا يكفرون بالكبائر التي دون الشرك، ولكن لا يمنحون صاحبها اسم الإيمان المطلق، ولكن يمنحونه إيماناً مقيداً؛ فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
فلا يقال: هو مؤمن كامل الإيمان، كما تقوله المرجئة، ولا يقال: هو خارج من الإسلام، كما تقوله الخوارج والمعتزلة.
إذاً: فالناس في صاحب الكبيرة التي هي دون الشرك ثلاث طوائف :
الخوارج والمعتزلة: أخرجوه من الإسلام، لكن الخوارج أدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، ولكنهم أخرجوه من الإسلام.
المرجئة قالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، طالما أنه يعتقد في قلبه الإيمان عند جمهورهم وينطق بلسانه عند بعضهم، فإنه مؤمن كامل الإيمان، ولا تنقص هذه المعاصي من إيمانه، وإن كانت كبائر، وهذا ضلال أيضاً.
أما القول الحق فهو مذهب أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة دون الشرك مؤمن، وليس بكافر، لكنه ناقص الإيمان. فهذا يجب معرفته، ويجب أن ترسخه في عقلك، فأهل الشر زاد شرهم في هذا الوقت، وصاروا يظهرون مذهب الإرجاء ليروجوه على الناس، وليستروا على أنفسهم ما هم فيه من الضلال.
فهذا معرفته من أوجب الواجبات على طالب العلم اليوم.
(147) وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين "مؤمنين" وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء عذبهم في النار بعدله:(/32)
نعم، هذا هو المذهب الحق: أن أصحاب الكبائر التي دون الشرك ليسوا كفاراً، وأنهم إذا لقوا الله ولم يتوبوا من هذه الكبائر فإنهم تحت المشيئة، إن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بتوحيدهم وإيمانهم، لا يخلدون في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء:48]، لكن قوله: (عارفين مؤمنين) فيه إجمال، فلو قال: (موحدين) كما قال أولاً لكان أحسن.
وإن شاء الله أمضى فيهم الوعيد، ولكنهم لا يخلدون في النار، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو المذهب الحق، بخلاف الخوارج الذين يقولون: إنهم في النار على أي حال، وإنهم خالدون فيها، فمن دخل النار عندهم لا يخرج منها. وخلاف المرجئة القائلين: إنهم لا يمرون على النار أبداً، فهذا غلط، بل لا نضمن لهم النجاة، فهم تحت المشيئة.
إن شاء عفا عنهم بفضله، وإن شاء عذبهم بعدله، وما ظلمهم الله سبحانه وتعالى، بل عذبهم بأعمالهم التي أوجبت لهم ذلك، فالله لا يعذب من لم يعصه، ولا يساوي بين العاصي وبين المؤمن المستقيم، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين*ما لكم كيف تحكمون) [القلم: 35،36] (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28].
هذا استنكار من الله عز وجل، (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية: 21].
(148) ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته:
كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عصاة الموحدين يخرجون من النار( )، إما بفضل الله تعالى، وإما بشفاعة الشافعين بإذن الله تعالى، والشفاعة حق، ولكن لا تكون إلا بإذن الله، وأن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد، لا من الكافرين ولا من المشركين ولا من المنافقين.
(149) ثم يبعثهم إلى جنته:
بعد إخراجهم من النار، ورد أنهم يخرجون من النار كالفحم محترقين، ثم يلقون في نهر يسمى: نهر الحياة، فتنبت أجسامهم ولحومهم، ثم بعد ذلك إذا هُذبوا ونُقوا أُذن لهم في دخول الجنة، فيدخلون في الجنة( ).
(150) وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته :
قال تعالى : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) [الجاثية:21]، وقوله تعالى: (أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله لا يسوي بين أهل طاعته وأهل معصيته، ولا بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بل يجازي كلاً بعمله. (ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته) بل ميز بينهم سبحانه في الدنيا وفي الآخرة، ميز بين أهل الطاعة والمعصية، وبين أهل الكفر والإيمان، في الدنيا وفي الآخرة، ميز بينهم في الدنيا في صفاتهم وعلاماتهم وأفعالهم، فليست أفعال أولياء الله وأهل الطاعة مثل أفعال أعدائه ولا أقوالهم ولا تصرفاتهم، انظر إلى الناس الآن، وانظر إلى تصرفاتهم، انظر إلى تصرفات المتقين والمؤمنين، وانظر إلى تصرفات الفسقة والعاصين، وانظر إلى تصرفات الكفار والملحدين، هذا في الدنيا.
وفي الآخرة كذلك يميز الله بينهم، فهؤلاء يكرمهم بجنته، وهؤلاء يعذبهم بناره وعقوبته؛ لأنه سبحانه حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يضع الرحمة إلا فيمن يستحقها، ولا يضع سبحانه وتعالى العذاب إلا فيمن يستحقه. لكن قوله: (أهل معرفته) فيه قصور وإيهام أن الإيمان هو مجرد المعرفة كما يقوله غلاة المرجئة فلو قال: (أهل طاعته) لكان أحسن وأوضح.
(151) اللهم يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به:
هذا من أجمل كلام المصنف يرحمه الله!
إنه لما ذكر هذه المسائل العظيمة الخطيرة سأل الله التثبيت، ألا يضله الله مع أصحاب هذه الضلالات وأصحاب هذه المقالات الضالة، فهذا من الفقه والحكمة؛ أن الإنسان لا يغتر بعلمه، ويقول: أنا أعرف التوحيد وأعرف العقيدة، وليس عليّ خطر، هذا غرور بل عليه أن يخاف من سوء الخاتمة والضلال، يخاف أن ينخدع بأهل الضلال، كم من معتدل انحرف، خصوصاً إذا اشتدت الفتن، يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويبيع دينه بعرض من الدنيا، كما صح الحديث بذلك( ).(/33)
الفتن إذا جاءت يسأل الإنسان الله الثبات( )، ولا يقول: أنا لست على خطر، أنا عارف وأنا أصلي، نعم، أنت عارف وتصلي والحمد لله، لكن عليك خطر وعليك أن تخاف، أنت أفضل أم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ قال: (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) [إبراهيم:35] إبراهيم خاف على نفسه من عبادة الأصنام، مع أنه هو الذي كسّرها وحطّمها بيده، ولقي في ذلك العذاب والإهانة في سبيل الله عز وجل، ومع هذا يقول: (وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)[إبرهيم:35] ولم يقل: أنا الآن نجوت، بل طلب من الله أن يجنبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، فالإنسان يخاف دائماً من ربه عز وجل، وكم من مهتد ضل، وكم من مستقيم انحرف، وكم من مؤمن كفر وارتد، وكم من ضال هداه الله، وكم من كافر أسلم، فالأمر بيد الله سبحانه وتعالى.
(152) ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم:
هذا فيه مسألتان:
الأولى: أن الصلاة عمل وإحسان، فإذا فعلها الناس خصوصاً ولاة الأمور، فإنهم عملوا معروفاً وإحساناً، وفي ترك الصلاة خلفهم فيه محظور عظيم، من شق العصا، وتفريق الكلمة، وسفك الدماء وهذا خطر عظيم، فيجب أن يُتلافى، قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وعلى من قال: لا إله إلا الله"( )، هذا من حيث العموم، فكيف بولاة الأمور الذين في منابذتهم ومخالفتهم شق لعصا الطاعة، وتفريق الكلمة، وآثار سيئة على المسلمين؟
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، يصلون الجمع والجماعات، ويجاهدون في سبيل الله مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، ما لم يخرج عن الإسلام.
هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، من عهد الصحابة إلى عهد الأئمة، وهو الذي عليه إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
المسألة الثانية: الصلاة على جنازة المسلم وإن كان فاسقاً، ما لم يخرج من الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، أما إذا خرج عن الإسلام فلا يصلى عليه؛ لأنه ليس بمسلم، وليس كل إنسان يَحكُمُ على الناس بالردة، إنما يحكم بذلك أهل العلم والبصيرة بالرجوع إلى قواعد أهل السنة والجماعة، أما كل أحد فلا يحكم بذلك، وإن كانت نيته طيبة ومقصده حسناً، إنما الحكم لأهل البصيرة والراسخين في العلم.
(153) ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً:
نحن لا نشهد لأحد، مهما بلغ من الصلاح والتقى، لا نشهد له بالجنة؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نحكم لأحد من المسلمين بالنار مهما عمل من المعاصي، لا نحكم عليه بالنار؛ لأننا لا ندري بما ختم له وما مات عليه( )، وهذا في المعيّن.
فنحن ما لنا إلا الظاهر فقط، وكذلك لا يحكم لأحد بالنار، إلا من شهد له بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء بجنة أو نار، مثل العشرة المبشرين بالجنة، وهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهم( ). وكذلك شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، شهد له بالجنة، وكذلك رجل من الأنصار قال: "يدخل عليكم رجل من أهل الجنة" فدخل رجل تنطف لحيته من وضوئه، وبيده اليسرى نعلاه، ثم جلس في الحلقة، وفي اليوم الثاني والثالث قال عليه الصلاة والسلام نفس المقالة، ودخل نفس الرجل، وهذا من باب التأكيد، وإلا فشهادة واحدة تكفي، وقد تابعه عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- حتى يعلم عمله الذي بسببه بشر بالجنة، فلم يجد عنده كثير عبادة، وجده محافظاً على الفرائض، ويقوم من الليل، وكان إذا استيقظ من الليل ذكر الله وسبح وهلل، فلما أراد عبد الله أن يغادر قال للرجل: إني سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول كذا وكذا، فأردت أن أسبر عملك، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت. فلما ولىّ دعاه وقال: إلا أنني لا أجد في قلبي غلاً على مسلم، قال: هذا، الذي لا نطيقه( ).
الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد لأحد بالجنة، فإننا نشهد له بالجنة، ونقطع له بالجنة، وأما غيره فلا نقطع له، ولكن نرجو له الخير. وكذلك الكافر المعين لا نحكم عليه بالنار؛ لأنه قد يتوب ويموت على التوبة، يختم له بخير، لكننا نخاف عليه، هذا من حيث التعيين.
أما من حيث العموم: فنقطع أن المسلمين في الجنة، ونقطع أن الكفار من أهل النار.
(154) ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك:
الأصل في المسلم: العدالة، وهذه قاعدة عظيمة فلا نسيء الظن فيه ولا نتجسس عليه، ولا نتتبعه، لكن إن ظهر لنا شيء حكمنا به عليه، وإن لم يظهر شيء فلا نسيء الظن بالمسلمين، فنعامله بما يظهر منه، ونحن لسنا مكلفين بالبحث عن الناس والتحري عنهم والحكم عليهم، لم يكلفنا الله بذلك( ).
(155) ونذر سرائرهم إلى الله تعالى:(/34)
نحسن الظن بهم، وسرائرهم إلى الله تعالى، ولم نكلف أن نبحث عن الناس وعن أحوالهم، والواجب ستر المسلم وإحسان الظن به، والتآخي بين المسلمين( ) (إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات:10].
(156) ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف :
لا يجوز قتل المسلم، واستباحة دمه؛ لأن الله عصمه بالإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"( ) فمن أظهر الإسلام ونطق بالشهادتين، ولم يظهر منه ناقض من نواقض الإسلام، فإن دمه حرام، فلا يجوز الاعتداء عليه وسفك دمه، قال عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"( ) قال هذا في خطبته بمنى يوم النحر.
هل هناك أشد من هذا؟ فحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى الكعبة قال: "ما أشد حرمتك! وحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتك" أو كما قال عليه الصلاة والسلام( ).
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"( ).
الأول: الثيب الزاني، هو المحصن الذي سبق أن وطأ زوجته في نكاح صحيح وهما عاقلان بالغان حران، فإذا زنى رُجم حتى الموت.
الثاني: المسلم إذا تعدّى على المسلم فقتله ظلماً وعدواناً، وطالب أولياء المقتول بالقصاص فيُقتل (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) [البقرة:178] أي : فرض عليكم، وقال تعالى : (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة:45].
والثالث : هو المرتد، فيقتل حد الردة، وما عدا الثلاثة فدم المسلم محرَّم حرمةً عظيمة.
كذلك البغي، إن بغى على المسلمين ولو كان مسلماً فالبغاة يقاتلون؛ لأنهم يريدون أن يفرقوا كلمة المسلمين، ويخرجوا على إمامهم، فيجب قتالهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفي إلى أمر الله) [الحجرات:9] وتُستحل دماؤهم من أجل كفهم عن البغي، ولصيانة جماعة المسلمين وكلمتهم وحفظ الأمن.
وكذلك تستباح دماء قطاع الطريق (إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) [المائدة:33] فجزاؤهم على حسب جرائمهم .
فهؤلاء أحل الله قتلهم؛ لدفع شرهم وعدوانهم .
(157) ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا:
هذه مسألة عظيمة، فمن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون الخروج على ولاة أمر المسلمين (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] وقال عليه الصلاة والسلام: "من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني"( ) فلا يجوز الخروج عليهم؛ ولو كانوا فساقاً لأنهم انعقدت بيعتهم، وثبتت ولايتهم، وفي الخروج عليهم ولو كانوا فساقاً مفاسد عظيمة، من شق العصا، واختلاف الكلمة، واختلال الأمن، وتسلط الكفار على المسلمين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ما خرج قوم على إمامهم إلا كانت حالتهم بعد الخروج أسوأ من حالتهم قبل الخروج) أو كما ذكر.
وهذا حتى عند الكفار، إذا قاموا على ولي أمرهم وخرجوا عليه، فإنه يختل أمنهم ويصبحون في قتل وقتيل، ولا يقر لهم قرار، كما هو مشاهد في الثورات التي حدثت في التاريخ، فكيف بالخروج على إمام المسلمين؟ فلا يجوز الخروج على الأئمة وإن كانوا فساقاً، ما لم يخرجوا عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: "اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"( ) فالفسق والمعاصي لا توجب الخروج عليهم، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج عليهم إن كان عندهم معاصٍ وحصل منهم فسق، فيقولون: هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون به الخروج على ولاة أمور المسلمين.
فأصول المعتزلة خمسة:
الأول: التوحيد، ومعناه: نفي الصفات، ويرون من يثبت الصفات فهو مشرك.
الثاني: العدل، ومعناه: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على أئمة المسلمين إن كان عندهم معاصٍ دون الكفر. وهذا هو المنكر بنفسه، وليس من المعروف في شيء.
الرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهو الحكم على أصحاب الكبائر بالخروج من الإسلام، وعدم الدخول في الكفر، وأما الخوارج فيحكمون عليه بالكفر.
الخامس : إنفاذ الوعيد، ومعناه، أن من مات على معصية وهي كبيرة من الكبائر دون الشرك، فهو خالد مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في مصيره في الآخرة، ويخالفون الخوارج في أنه في منزلة بين المنزلتين، وألّف فيها القاضي عبد الجبار –من أئمتهم- كتاباً سماه: شرح الأصول الخمسة.(/35)
(158) وإن جاروا:
الجور معناه: الظلم، وإن تعدوا وظلموا الناس بأخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، أو يقتلون المسلم، فلا يرون الخروج عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "اسمع وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك"( ) فالصبر عليهم أولى من الخروج؛ لما في الخروج من المفاسد العظيمة، فهذا من باب ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وهي قاعدة عند أهل السنة والجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على جور الولاة وإن ظلموا وجاروا وإن فسقوا.
(159) ولا ندعو عليهم:
لا يجوز الدعاء عليهم: لأن هذا خروج معنوي، مثل الخروج عليهم بالسلاح، وكونه دعا عليهم؛ لأنه لا يرى ولايتهم، فالواجب الدعاء لهم بالهدى والصلاح، لا الدعاء عليهم، فهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإذا رأيت أحداُ يدعو على ولاة الأمور، فاعلم أنه ضال في عقيدته، وليس على منهج السلف، وبعض الناس قد يتخذ هذا من باب الغيرة والغضب لله عز وجل، لكنها غيرة وغضب في غير محلهما؛ لأنهم إذا زالوا حصلت المفاسد.
قال الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله- ويروي ذلك عن الإمام أحمد يقول: (لو أني أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان).
والإمام أحمد صبر في المحنة، ولم يثبت عنه أنه دعا عليهم أو تكلم فيهم، بل صبر وكانت العاقبة له، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
فالذين يدعون على ولاة أمور المسلمين ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك الذين لا يدعون لهم، وهذا علامة أن عندهم انحرافاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
وبعضهم ينكر على الذين يدعون في خطبة الجمعة لولاة الأمور، ويقولون: هذه مداهنة، هذا نفاق، هذا تزلف. سبحان الله ! هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بل من السنة الدعاء لولاة الأمور؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، فأنت تدعو لهم بالصلاح والهداية والخير، وإن كان عندهم شر، فهم ما داموا على الإسلام فعندهم خير، فما داموا يُحَكِّمون الشرع، ويقيمون الحدود، ويصونون الأمن، ويمنعون العدوان عن المسلمين، ويكفون الكفار عنهم، فهذا خير عظيم، فيدعى لهم من أجل ذلك. وما عندهم من المعاصي والفسق، فهذا إثمه عليهم، ولكن عندهم خير أعظم، ويُدعى لهم بالاستقامة والصلاح فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل الضلال وأهل الجهل، فيرون هذا من المداهنة والتزلف، ولا يدعون لهم، بل يدعون عليهم.
والغيرة ليست في الدعاء عليهم، فإن كنت تريد الخير؛ فادعُ لهم بالصلاح والخير، فالله قادر على هدايتهم وردهم إلى الحق، فأنت هل يئست من هدايتهم؟ هذا قنوط من رحمة الله، وأيضاً الدعاء لهم من النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الذين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"( ) . فهذا أصل عظيم يجب التنبه له، وبخاصة في هذه الأزمنة.
(160) ولا ننزع يداً من طاعتهم :
(ولا ننزع يداً من طاعتهم) هذا تأكيد لما سبق، حتى ولو حصل منهم ظلم وجور ومعاصٍ وكبائر دون الشرك، فإننا لا ننزع يداً من طاعتهم، ولا نخرج عليهم ولا نعصيهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] بل نجاهد معهم، ونشهد الجمع والجماعات والأعياد معهم؛ من أجل اجتماع كلمة المسلمين.
(161) ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية:
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] فالله أمر بطاعة ولاة الأمر من المسلمين، أما الكافر فلا طاعة له على المسلمين (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) [النساء:141] لأنه قال: (وأولي الأمر منكم) يعني المسلمين. فتجب طاعتهم إلا إذا أمروا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، فلا تطعه في تلك المعصية، لكن ليس المعنى أن تخرج عليه وتنزع الطاعة مطلقاً، بل لا تطعه في تلك المعصية، وأطعه فيما عداها، مما ليس بمعصية وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما الطاعة في المعروف"( ).
(162) وندعو لهم بالصلاح والمعافاة:
ندعو الله أن يرجعهم إلى الحق، ويصحح ما عندهم من الخطأ، ندعو لهم بالصلاح؛ لأن صلاحهم صلاح للمسلمين، وهدايتهم هداية للمسلمين، ونفعهم يتعدّى لغيرهم، فأنت إن دعوت لهم دعوت للمسلمين.
(163) ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة:
هذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، وهو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"( ) فلما أمر بالسنة، نهى عن البدعة.(/36)
والبدعة: ما أُحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"( )، وكل عبادة وكل عمل يتقرب به العبد لله، وليس عليه دليل من الكتاب ولا السنة، فهو بدعة، وإن كان قصد فاعله التقرب إلى الله فهو إنما يبعده عن الله، ولا يثاب عليه؛ بل يعاقب، فالسنة ما كان عليه دليل من الكتاب أو السنة.
والبدع كثيرة جداً، فالناس يُحدثُون بدعاً كثيرة، فالبدع لا تُقرّ ولا يُعمل بها مهما كانت وممن صدرت، ومن البدع ما يعمل من الاحتفالات بالمولد النبوي، فهو بدعة، ليس عليه دليل من الكتاب ولا السنة ولا هدي الخلفاء الراشدين، ولا من هدي القرون المفضلة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، إنما أُحدث بعد هذه القرون لما فشا الجهل، وأول من أحدث المولد: الشيعة الفاطميون، ثم أخذه الأغرار المنتسبون لأهل السنة عن حسن نية وقصد، ويزعمون أنه من محبة الرسول، وليس ذلك من محبته، إنما المحبة بالاتباع لا الابتداع:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فعلامة المحبة الصادقة: الاتباع، أما الابتداع فهي علامة على الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من البدعة، وأنت تحييها وتحدثها، فمعنى ذلك أنك تكره السنة، وإذا كنت تكره السنة فأنت تكره الرسول فإن كنت تريد الخير فتب إلى الله وارجع، أما العناد والمكابرة فهذا اختيار سيئ لنفسك.
وكذلك نلزم الجماعة ونترك الشذوذ؛ فلا نأتي بعمل ولا بقول شاذ ليس عليه عمل المسلمين وقولهم؛ لأن هذا يُفرّق الكلمة ويحدث العداوة، فما دام المسلمون يمشون على منهج الكتاب والسنة، فلا نترك ما هم عليه لقول شاذ، فالشذوذ والمخالفات لا تجوز، والحمد لله، المسلمون يبحثون عن الحق، وإجماعهم "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة"( )، حتى الحديث إن ورد عن طريق وسند صحيح، لكن فيه مخالفة لما هو أصح منه؛ فيسمى حديثاً شاذاً عند المحدثين.
فيجب التثبت في هذه الأمور، ولا ننبش في أقوال وأفعال مهجورة ونؤلف فيها ونشوش على الناس أمور دينهم، والشذوذ: مخالفة ما عليه جماعة المسلمين، والخلاف ضد الاتفاق، والفرقة ضد الاجتماع، والشذوذ ضد الائتلاف، أما أن نبحث عن الشاذ، فهذا تضليل للأئمة وتجهيل لهم، وهل أنت أوتيت علماً أكثر من علمهم، وخصصت بعلم لم يصلوا إليه؟ وما آل إليه بعض الناس من هذه الأمور في العصور المتأخرة التي يفشو فيها الجهل، وأغلب ما يصدر ذلك عن واحد متعالم وليس بعالم، ولم يدرس العقيدة الصحيحة والفقه، إنما تفقه على نفسه وصار يضيف إلى دين الله ما ليس منه، وهذه مصيبة، فالعلم ليس بفوضى، إنه يحتاج إلى ضوابط وفقه ودراية.
(164) ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة:
المحبة عمل قلبي ، والمحبة على قسمين:
أولاً: محبة طبيعية، كمحبة الإنسان لأهله وزوجته وأولاده، ومحبته لأصدقائه، ومحبته للأكل والشرب، فهذه المحبة لا تدخل في أمر العبادة.
ثانياً: محبة دينية، وهذه على نوعين:
النوع الأول: محبة الله سبحانه وتعالى، وهي أعظم أنواع العبادة، يقول ابن القيم:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
عبادة الرحمن غاية حبه، أي: منتهى حبه، وتدور عليها أمور العبادات كلها، فهي نوع عظيم من أنواع العبادة، لا يجوز أن يُحب أحد مع الله (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) [البقرة:165] هذا شرك في المحبة، التي هي أعظم أنواع العبادة، ولذلك قال: (والذين آمنوا أشد حباً لله) [البقرة:165] فالمؤمنون لا يحبون إلا الله، ومحبتهم أشد من محبة أهل الأصنام لأصنامهم؛ لأن محبة الله لا تنقطع في الدنيا ولا في الآخرة، أما محبة غيره من المعبودين فتنقطع في الآخرة، وتحصل العداوة بين من عبد من دون الله ومن عبده (وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين) [الأحقاف:6]، (إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة والدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار) [العنكبوت:25].
النوع الثاني: المحبة في الله ولأجل الله، وذلك بأن تحب ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، وتحب أهل الإيمان والتقوى، (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222]، (إن الله يحب المحسنين) [البقر:195]، فأنت تحبهم؛ لأن الله يحبهم، وفي مقدمة هؤلاء: الملائكة، والأنبياء والرسل، والأولياء والصالحون، وجميع المؤمنين.
وهذه تسمى المحبة في الله، وهي أوثق عرى الإيمان، كما جاء في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"( )، وقال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ذكر منها: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله"( ).(/37)
فتحب أولياء الله لأن الله يحبهم، وتبغض أعداء الله لأن الله يبغضهم، فيكون الحب والبغض من أجل الله، وليس طمعاً في الدنيا، فلا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي ويعادي الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".
وهذه المحبة تبقى في الدنيا والآخرة، وأما محبة الدنيا فتنقطع، وتكون عداوة في الآخرة (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) [الزخرف:67].
وتبغض الشخص من أجل الله، وليس من أجل أنه أساء إليك؛ بل تبغضه؛ لأنه عدو لله، وهذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: الحب والبغض في الله، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة:4].
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه"( ) فالحب في الله والبغض في الله أمره عظيم؛ لأنه فرقان بين الحق والباطل (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) [الأنفال:29]، فالمؤمن يكون عنده فرقان، يفرق بين هذا وهذا.
وقد ذكر العلماء أن الناس في المحبة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: منهم من يحب محبة خالصة ليس معها بغضاء، وهم الملائكة والرسل عليه الصلاة والسلام، وخُلّص المؤمنين كالصحابة (ربنا اغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) [الحشر:10] وكذلك السلف الصالح وأهل السنة والجماعة؛ لصفاء ما هم عليه من العقيدة وما هم عليه من الحق؛ لطاعتهم لله ورسوله.
القسم الثاني: من يبغض بغضاً خالصاً ليس معه محبة، وهم الكفار، أعداء الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) [الممتحنة:1] أي : أحباء تحبونهم وتوالونهم وتناصرونهم، وتدافعون عنهم، بل الواجب التبرؤ منهم؛ لأنهم أعداء الله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) [المجادلة: 22] والمقصود بالروح هنا: قوة الإيمان .
القسم الثالث: من يجتمع فيه محبة وبغض، وهو المؤمن العاصي، يحب من وجه، ويبغض من وجه، تحبه لما فيه من الخير والطاعة، وتبغضه لما فيه من المعاصي والمخالفة، هكذا ينبغي على المسلم أن يميز.
والمحبة بابها باب عظيم ينبغي التنبه له ومعرفته؛ لأن عليه مداراً عظيماً في العقيدة وأمور الدين، فالإنسان لا يمشي إمعة، لا يدري من يحب ومن يبغض، بل يجعل المحبة والبغضاء ميزاناً يفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، ولا يجعله ميزاناً دنيوياً وهوى، فمن وافقه على دنياه وهواه وأعطاه شيئاً من الدنيا أحبه، ولو كان من أكفر الناس وأفسقهم، وإن لم يعطه شيئاً أبغضه، ولو كان من أصلح الصالحين، فهذا لا يجوز.
(165) ونقول: الله أعلم، فيما اشتبه علينا علمه:
هذه مسألة عظيمة، وهي مسألة العلم فالإنسان لا يقول ما لا يعلم، إن علم شيئاً قال به، وإن جهل شيئاً فلا يقول به، ولا يقول في أمور الدين والعبادات ولا يدخل فيها بغير علم، بل يتوقف، ويقول: الله أعلم.
والإمام مالك إمام دار الهجرة، جاءه رجل فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري، فقال الرجل: أنا جئتك من كذا وكذا على راحلتي وتقول: لا أدري؟ قال له الإمام: اركب راحلتك، وارجع إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً فقال: لا أدري!!
والنبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء لم ينزل عليه فيه وحي فإنه ينتظر حتى ينزل عليه وحي، كذلك الصحابة إذا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: "الله ورسوله أعلم"، لا يتخرصون. فهذا الباب عظيم وخطير، والله عز وجل جعل القول عليه بغير علم مرتبة فوق الشرك به سبحانه وتعالى : (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33]، وقال سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) [الإسراء:36].
يا أخي، يسعك أن تقول: لا أدري، ومن قال: لا أدري، فقد أجاب، ولا تتخرص وتخوض في أحكام الشرع بغير بصيرة، وقول: لا أدري، فيما لا تعلم، ليس نقصاً فيك، بل العكس، هو كمال؛ لأنه ورع وتقوى، والناس يحمدونك على هذا،(/38)
كثير من المنتسبين إلى العلم –وبخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة التي قل فيها الفقهاء وكثر القراء- يفتون ويحكمون ويتخبطون في الأحكام الشرعية في وسائل الإعلام وغيرها بغير بصيرة، ومن فضل الله أنهم انكشفوا أمام الناس بجهلهم، وفضحهم الله عز وجل، ولو أنهم ستروا أنفسهم وتوقفوا عما ليس لهم به علم وتورّعوا؛ لكان ذلك أكمل وأجل لهم عند الله وعند الناس، فلنعتبر بهذا.
(166) ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر:
لماذا جاء بهذه المسألة –وهي مسألة فقهية- في العقيدة؟
لأن هذه المسألة أنكرها المبتدعة، وأثبتها أهل السنة، والمسح على الخفين تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن اشتهر عنهم إنكار المسح على الخفين: الرافضة، ويخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك، ويخالفون الأحاديث الثابتة، فالمسح ثابت، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وهذه رخصة وتسهيل من الله على عباده.
فالرافضة ينكرون المسح على الخفين، ويقولون بالمسح على الرجلين، وهذا من أكبر المغالطة، فلا أحد يقول بالمسح على الرجلين، وهكذا من ترك الحق ابتلاه الله بالباطل.
استدل الرافضة على المسح على الرجلين: بقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) [المائدة:6] بقراءة الجر، حيث عطف الأرجل على الرؤوس في هذه القراءة، والرؤوس ممسوحة، وعندهم الكعبان معقد الشراك، مجمع القدم مع العقب ويسمى عرش الرِّجْل.
وعند أهل السنة والجماعة أن المراد بالكعبين: العظمان الناتئان في أسفل الساق، مجمع الساق مع الرجل، فالمسح للرجلين باطل؛ لأن المشهور من قراءة الآية: الفتح، عطف على المغسولات، على (وجوهكم وأيديكم) [المائدة:6] وأدخل الممسوح بين المغسولات من أجل الترتيب، ولو أخر لفهم أن مسح الرأس يكون بعد غسل الرجلين.
أما قراءة (وأرجلكم) بالجر فهي صحيحة، ولكن عنها أربعة أجوبة الجواب الأول أن وجه الجر هنا على المجاورة، وهذه لغة عند العرب، مثل أن تقول: هذا جحر ضب خربٍ، خربٍ ليست صفة لضب، إنما هي صفة لجحر، وجحر مرفوع.
ولكن من أجل المجاورة، ومن أجل سهولة النطق جُرّت للمجاورة.
والثاني: أن المراد بالمسح: الغسل، فالغسل يسمى مسحاً، تقول: تمسحت بالماء، يعني اغتسلت به، فالمراد بمسح الرجلين غسلهما، بدليل قراءة النصب.
الجواب الثالث: أن المشهور من القراءتين: قراءة النصب وهنا لا إشكال.
الجواب الرابع: أن غسل الرجلين هو صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه، لم يرد في حديث واحد –ولو ضعيف- أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مسح رجليه، وكذلك ما ثبت ذلك عن أصحابه، بل لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً في رجله لمعة لم يصبها الماء، أمره بإعادة الوضوء، وقال عليه الصلاة والسلام: "ويل للأعقاب من النار"( )؛ لأن صاحبها يغفل عنها، وقد لا يصيبها الماء وذلك بسبب التساهل والغفلة، والأمر في هذا واضح.
(186) والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين: برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما:
تقدمت مسألة الصلاة خلف الأئمة، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فنصلي خلفهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمرنا بطاعتهم، ونهانا عن مخالفتهم، والصحابة –رضوان الله عليهم- امتثلوا أمره، فكانوا يصلون خلف الأمراء، وإن كانوا يفعلون بعض الكبائر، مثل الحجاج وغيره.
وهذا الفعل من أجل جمع الكلمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلاف الخوارج والمعتزلة.
وقوله: (نرى الحج والجهاد): يجب على المسلمين كل سنة أن يقيموا الحج، أما الأفراد: فإذا حج أحدهم مرة واحدة فإنه تكفيه، ومن زاد فتطوع.
والذي يقيم الحج؟ هو إمام المسلمين هو الذي يقود الحجيج، ويعلن يوم عرفة، ويقف بهم بعرفة، ويفيض إلى مزدلفة، وهكذا يتبعونه في المشاعر، وسواء الإمام أو من ينوب عنه، ولا يكون الأمر فوضى.
وأهل السنة والجماعة يحجون مع إمامهم، قال عليه الصلاة والسلام: "الصوم يوم يصوم الناس، والأضحى يوم يضحي الناس"( ).
هذه أمة الإسلام، يصومون جمعياً إذا اتفقت المطالع، ويحجون جميعاً، ويصلون العيد جميعاً، فالجماعة من سمة أهل السنة، والافتراق من سمة أهل البدع والضلال. والجهاد: المراد به: قتال الكفار والبغاة من المسلمين وقتال الخوارج، نقاتل مع إمام المسلمين؛ فنقاتل البغاة لبغيهم وليس لكفرهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) [الحجرات:9].
وقتال الكفار من أجل نشر التوحيد، وقمع الشرك.
وقتال الكفار على نوعين:
النوع الأول: قتال دفاع، وهذه الحالة تكون في حالة ضعف المسلمين، فإنه إذا داهم العدو بلادهم وجب عليهم قتالهم، فيجب على جميع من يحمل السلاح قتالهم؛ من أجل دفع العدو عن أرضهم.(/39)
النوع الثاني: قتال طلب، وذلك إن كان المسلمون أقوياء، فإنهم يغزون العدو في بلادهم، ويدعونهم إلى الله، فإن أجابوا وإلا قاتلوهم من أجل إعلاء كلمة الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال:39].
ذكر ابن القيم رحمه الله أن الجهاد مر بمراحل:
المرحلة الأولى: كان منهياً عنه فيها، وهذا يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بمكة، فكانوا مأمورين بكف الأيدي وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [النساء:77]، فالمنع لأن المسلمين لا يستطيعون وليس لهم دولة ولا قوة، وكان الله يأمر نبيه بالصبر والصفح والانتظار، إلى أن يأتي الفرج، ومن قاتل في هذه المرحلة فإنه يكون قد عصى الله ورسوله؛ لأنه يترتب على القتال في هذه المرحلة الإضرار بالمسلمين وبالدعوة، وتسلط الكفار على المسلمين.
المرحلة الثانية: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقامت دولة الإسلام، أُذن له بالقتال ولم يؤمر (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير*الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) [الحج:39،40] فأذن لهم بدون أمر، فكانت هذه تهيئة لهم، فالأمور الشاقة يشرعها الله شيئاً فشيئاً؛ من أجل التسهيل على النفوس.
المرحلة الثالثة: أُمر بقتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة:190] وهذا يسمى قتال الدفع.
المرحلة الرابعة: لما قوي المسلمون، وكانت لهم شوكة، وللإسلام دولة، أُمروا بالقتال مطلقاً (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) [التوبة:5]، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال:39].
فأمر الله بالقتال مطلقاً، فلما صاروا متهيئين ولهم قوة وعندهم استعداد، فشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، غزوة بدر وأحد والخندق وهكذا، حتى جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصلت الردة فقاتلهم أبو بكر، فلما فرغ منهم شرع في الجهاد للكفار، فجيّش الجيوش لقتال فارس والروم، وتوفي، ثم جاء عمر رضي الله عنه فواصل الفتوح حتى أسقط دولة كسرى وقيصر، ونشر الدين وصارت سيطرتهم على جميع الأرض مشارقها ومغاربها، هذا هو القتال في الإسلام.
ومن ينظم القتال ويقوده؟ هو الإمام، فنحن نتبع الإمام، فإن أُمرنا بالغزو نغزو، ولا نغزو بغير إذن الإمام؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه من صلاحيات الإمام (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) [التوبة:38].
فالقتال من صلاحيات الإمام، فإذا استنفر الإمام الناس للقتال وجب على كل من أطاق حمل السلاح، ولا يشترط في الإمام الذي يقيم الحج والجهاد أن يكون غير عاصٍ، فقد يكون عنده بعض المعاصي والمخالفات، لكن ما دام أنه لم يخرج من الإسلام فيجب الجهاد والحج معه، وصلاحه وقوته للمسلمين وفساده على نفسه، أما الجهاد والحج ففي صالح المسلمين، كذلك الصلاة، فإن أصاب كنا معه، وإن أخطأ فنتجنب إساءته، لكن لا نخرج ونشق عصا الطاعة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه تقوم مصالح المسلمين.
أما أهل البدع والضلال فيرون الخروج على ولاة الأمور، وهذا مذهب الخوارج، ونحن نبرأ إلى الله من هذا المذهب .
(168) ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين:
الإيمان بالملائكة عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان.
وهذه الأصول موجودة في القرآن (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين…) [البقرة:177]، (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) [البقرة:285] فنؤمن بالملائكة وأنهم خلق من خلق الله، وأنهم من عالم الغيب، لا نراهم، خلقهم الله من نور( )، ووكل إليهم أموراً، يقومون بتنفيذها والقيام بها، كل له عمل موكل به، ومع ذلك فهم يعبدون الله عز وجل لا يفترون (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [الأنبياء:20]، (عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبياء:26،27] وهم أقسام، ومن أقسامهم:(/40)
الحفظة: وهم الذين وكل الله إليهم حفظ بني آدم، وحفظ أعمالهم، فكل عبد من بني آدم معه أربعة يحفظونه بالليل والنهار، اثنان حفظة، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار، الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن اليسار يكتب السيئات (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18]، وملكان آخران؛ واحد أمامه وواحد خلفه، يحفظونه من الاعتداء عليه، ما دام الله قد كتب له البقاء (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) [الرعد:11] فالملائكة يدفعون عنه الأخطار، فإذا تم الأجل تخلوا عنه، فأصابه ما كتب الله له، فنحن نؤمن بهذا، وإذا آمنا بذلك فإننا نستحيي من الملائكة الكرام، فلا نعمل أعمالاً سيئة، ولا نتكلم بألفاظ باطلة؛ لأنها تسجل علينا.
(169) ونؤمن بملك الموت، الموكل بقبض أرواح العالمين:
قال سبحانه : (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) [الأنعام:61] يعني من الملائكة، فالرسل قد يكونون من الملائكة، وقد يكونون من البشر (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) [الحج:75]، (توفته رسلنا وهم لا يفرطون) [الأنعام:61]، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) [الأنفال:50]، وقال في آية أخرى: (يتوفاكم ملك الموت) [السجدة:11].
ففي بعض الآيات أسند الموت إلى الملائكة، وفي بعض الآيات أسند إلى ملك واحد، فدل هذا على أن الملائكة لهم رئيس هو ملك الموت.
ومسألة الموت لا أحد ينازع فيها، أما ملك الموت وأعوانه فينكرهم بعض بني آدم، ولكن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الإسلام والإيمان الثابتة بالكتاب والسنة، فمن أنكر وجود الملائكة عموماً أو ملكاً من الملائكة فهو كافر؛ لأنه جحد ركناً من أركان الإيمان.
(170) وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم:
ذكر شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية أن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه ومن البعث ومن العرض والحساب والميزان وتطاير الصحف والجنة والنار، ومن أنكر شيئاً منها فإنه لا يكون مؤمناً باليوم الآخر.
واليوم الآخر وما فيه من أمور الغيب التي لا ندخل فيها بعقولنا وأفكارنا، إنما نعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة، ولا نتدخل في هذه الأمور، ولا نقول فيها إلا بالدليل .
والقبر برزخ بين الدنيا والآخرة والبرزخ معناه الفاصل بين شيئين (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) [المؤمنون:100].
القبر محطة انتظار، وينتقل الناس بعده إلى البعث والحساب، وذكر ابن القيم رحمه الله أن الدور ثلاث:
الأولى: دار الدنيا: وهي محل العمل والكسب من خير أو شرف.
الثانية: دار البرزخ، وهي دار مؤقتة، ولهذا يخطئ من يقول مثواه الأخير.
الثالثة: دار القرار، وهي الجنة أو النار: (وإن الآخرة هي دار القرار) [غافر:39].
فإذا وضع الميت في قبره ودفن وانصرف الناس عنه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، كما في الحديث، فإنه تُعاد روحه في جسده، وهذه حياة برزخية لا يعلمها إلا الله، والله على كل شيء قدير، وبعد أن تُعاد روحه في جسده ويُحيى حياة أخرى فيأتيه ملكان فيسألانه ثلاثة أسئلة:
من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟( )
فإن أجاب بجواب صحيح فاز وربح، وصارت حفرته روضة من رياض الجنة، ثم يوم القيامة يصير من أهل الجنة. وإن أخفق في الجواب، ولم يجب، فإن قبره يصير حفرة من حفر النار، ويُضيّقُ عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، والأول يوسع له في قبره مد بصره، ويفتح له باب من الجنة يأتيه من روحها وريحانها، وهذا يضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ثم يفتح له باب من النار فيأتيه من حرها وسمومها، والعياذ بالله.
فالإجابة الصحيحة والتي يُثبت الله قائلها: أن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّ محمد صلى الله عليه وسلم (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) [إبراهيم:27].
وهذا بسبب الإيمان بالله ورسوله، وليس بسبب التعلم أو الثقافة، فمن ليس عنده إيمان فإنه يتلكأ في الإجابة، وهو المنافق الذي يُظهر الإيمان في الدنيا ويُبطن الكفر، فإنه لا يستطيع الإجابة ويقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق (ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) [إبراهيم:27].
(171) والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران:
قد يقول قائل: الميت يصير تراباً، فكيف يعذب وهو تراب؟ نقول: الله قادر على أن يعذبه وهو تراب، وقادر على أن يحمي عليه التراب.(/41)
وقد يقول قائل : ما كل الناس يدفنون، بعضهم يُلقى في البحر، وبعضهم تأكله السباع، فكيف يأتيه العذاب؟ نقول: نعم يأتيه العذاب، في أي مكان كان، وكذلك يأتيه الملكان، والإيمان بهذا هو من الإيمان بالغيب، ومن الإيمان بخبر الله ورسوله، أما الذي لا يؤمن بذلك ويعتمد على عقله وفكره، فهذا هو الضلال المبين.
وعذاب القبر ونعيمه دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة، بل قال العلماء: إن الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب بالأمر المتواتر يكون كافراً.
فالمعتزلة لا يؤمنون بما يحدث في القبر؛ لأنهم عقلانيون، وهم الذين يبنون الأمور على عقولهم، ويسمون أدلة الشرع ظنية، فأما أدلة العقل عندهم فهي يقينية، فهكذا يقولون، وهؤلاء هم العقلانيون، وهم المعتزلة ومن سار على نهجهم من العقلانيين في هذه العصور.
ومن أدلة عذاب القبر: قول الله عز وجل في قوم فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر:46] فقوله: النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، هذا في القبر.
(وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون) [الطور:47] فقوله: (عذاباً دون ذلك) قالوا: إنه عذاب القبر.
وقيل هو : العذاب في الدنيا: ما يصيبهم من القتل والسبي وضرب الجزية وغير ذلك، والآية تشمل المعنيين، وقوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) [السجدة:21] العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والأكبر هو عذاب يوم القيامة.
أما السنة فتواترت الأحاديث بإثبات عذاب القبر، منها: في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام مر على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان، ولا يعذبان في كبير، أما أنه كبير -أو : بلى إنه لكبير- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فإنه لا يستبرئ من بوله" ( ).
وكذلك الحديث الصحيح الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من أربع "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"( ).
وغير ذلك من الأدلة، وقد يشاهد بعض الناس ما يحصل من عذاب القبر من أجل العظة والعبرة.
ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه " أهوال القبور وأحوالها أهلها إلى يوم النشور" ذكر عجائب، وذكر ابن القيم في كتابه "الروح" عجائب.
وقوله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن ما في القبر من النعيم والعذاب من أمور الغيب، فلا نثبت إلا ما جاء به الدليل، ولا ننكر ما جاء به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
(172) ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان:
بعد البرزخ يبعث الناس من قبورهم، فهذه القبور تضم الأجساد وتحفظها، فإذا جاء البعث فإن الله ينشئ هذه الأجسام كما خلقها أول مرة، لا ينقص منها شيء (كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين) [الأنبياء:104].
فتعاد كما كانت، بحيث لو مر شخص على رجل يعرفه لقال: هذا فلان، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الثانية، فتطير الأرواح إلى أجسادها.
والمحشر: مجمع الأمم، يجمع الله الأولين والآخرين بعد البعث، فالله على كل شيء قدير، والإيمان بالعبث أحد أركان الإيمان الستة، كما في الحديث.
وأنكر البعث المشركون والملاحدة بناء على عقولهم، فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون*أو آباؤنا الأولون) [الواقعة:47،48] وذكر الله إنكارهم هذا في عدة مواضع، مثل: (قال من يحي العظام وهي رميم) [يس:78].
والله عز وجل ذكر أدلة عقلية على البعث (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) [الروم:27]. وهذا من باب ضرب المثل، فالذي خلقهم من ماء مهين، ألا يقدر أن يخلقهم من تراب ويعيدهم كما كانوا؟ (أيحسب الإنسان أن يترك سدى*ألم يك نطفة من مني يمنى*ثم كان علقة فخلق فسوى* فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى*أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) [القيامة:36:40].
ومن الأدلة: إحياء أرض يابسة قاحلة بيضاء ما فيها شيء، ثم ينزل الله عليها المطر، ففي أيام قليلة تهتز بالنبات.
أليس الذي يحيي الأرض بعد موتها بقادر على أن يعيد خلق الإنسان؟ فهذا شيء معقول وشيء محسوس (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [يس:33] بعد أن كانت ميتة فأحياها بالنبات (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) [الحج:56].
ومن الأدلة على البعث أيضاً: أن الله عز وجل لو لم يبعث الناس ويجازيهم لكان خلقه عبثاً، والله سبحانه وتعالى منزه عن العبث (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق) [المؤمنون:115،116].(/42)
فالإنسان الذي يفني نفسه بالعبادة والطاعة في الدنيا فيموت ولا يبعث!؟ كذلك الكافر يعيث في الأرض فساداً ويفعل الفواحش ويموت ولا يبعث!؟ هذا لا يكون من حكمة الله (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية:21]، وقال سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) [القلم:35،36]، (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار* أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:27،28].
فالمؤمن قد لا ينعم في الدنيا، ويكون في ضيق وشدة، فلا ينال جزاء عمله!؟ والكافر ينعم ويبطش ويفسد في الأرض ولا ينال جزاءه!؟ هذا لا يليق بحكمة الله عز وجل.
والبعث معناه القيام من القبور (يوم يقوم الناس لرب العالمين) [المطففين:6] (وجزاء الأعمال) كما سبق: أن المحسنين والمسيئين لا ينالون جزاءهم في الدنيا، إنما ذلك في دار الآخرة.
(والعرض) يعني: على الله (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) [الحاقة:18]، (وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) [الكهف:48] يعرضون على الله عز وجل حفاة عراة، غرلاً، أي : غير مختونين.
(والحساب) على الأعمال: تقرير الحسنات وتقرير السيئات، هذا بالنسبة للمؤمنين، أما الكافر فإنه لا يحاسب حساب موازنة بين حسناته وسيئاته، وإنما يقرر بذنوبه وكفره؛ لأنه ليس له حسنات.
والمؤمنون منهم من يدخل الجنة بغير حساب، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهل مسروراً، وهو العرض، ومنهم من يُناقش الحساب، وفي الحديث : "من نوقش الحساب عُذِّب"( ). وهذه درجات المؤمنين .
(والكتب) : صحائف الأعمال التي عملوها في الدنيا، كل يعطى يوم القيامة كتابه وصحيفة أعماله التي عملها في الدنيا، مكتوب فيها كل شيء (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) [الكهف:49]، وقال سبحانه: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً* اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) [الإسراء:13،14]، وقال سبحانه: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه* فهو في عيشة راضية* في جنةٍ عالية) [الحاقة: 19،22] فهذا الصنف من الناس يفرح ويسره أن يطلع الناس على كتابه.
(وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه* ياليتها كانت القاضية) [الحاقة:25،27] يعني : يا ليتني لم أبعث، وكان الموت هو القاضي عليّ ولم أبعث (ما أغنى عني ماليه* هلك عني سلطانيه) [الحاقة: 28،29].
وهذا تطاير الصحف، إما باليمين أو بالشمال.
(والثواب والعقاب) الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات.
(والصراط) وهو: الجسر المنصوب على متن جهنم، أحدُّ من السيف، وأدَقُّ من الشعر، وأحرُّ من الجمر، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يمر عدواً ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من تلقطه كلاليب على حافتي الجسر وتقذفه في النار، وهذه أمور غيب، فلا يُدخلُ الإنسان عقله فيها، وكل الناس يمرون على الصراط (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً* ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً) [مريم:71،72].
وتوزن الحسنات، فإن رجحت حسناته فاز، وإن رجحت سيئاته على حسناته خاب وخسر (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) [الأعراف :8،9].
وتكرر ذكر الوزن والميزان في آيات كثيرة، وهذا من عدل الله عز وجل، وأنه لا يظلم أحداً. والميزان حقيقي، له كفتان: توضع الحسنات في كفّه، وتوضع السيئات في كفة، فأيهم رجحت حسناته فاز، وأيهم رجحت سيئاته فخسر (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [الأنبياء:47].
(173) والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان:(/43)
ومما يكون في يوم القيامة: الجنة دار المتقين، والنار دار المجرمين، قال الله تعالى في الجنة: (أعدت للمتقين) [آل عمران:133]، وقال في النار: (أُعدت للكافرين) [البقرة:24] فهما داران باقيتان، وهما المستقر والنهاية. (وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلاً) . والجنة والنار مخلوقتان الآن، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، قال تعالى: (أُعدت للمتقين)، وقال: (أُعدت للكافرين) وأعدت: فعل ماضٍ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أصحابه، فسمعوا وجبة، يعني: شيء سقط، فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر رمي به في جنهم منذ سبعين خريفاً، والآن وصل إلى قعرها"( ) فدل على أن النار قد خلقت. وقال عليه الصلاة والسلام في الحر والبرد: "إنهما نفسان لجنهم: نفس في الشتاء وهو أشد ما تجدون من البرد، ونفس في الصيف وهو أشد ما تجدون من شدة الحر"( ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جنهم" ( )، وكذلك الميت في قبره يفتح له باب إلى الجنة، والكافر باب إلى النار، فهذا يدل على وجود الجنة والنار، وأنكر هذا أهل الضلال، ويقولون: تخلقان يوم القيامة.
(174) وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً:
الله قدر للجنة أهلاً، وكذلك للنار أهلاً، فعلى حسب عملهم يجازون.
(175) فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه. ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه:
الجنة لا تُنال بالعمل، إنما هو سبب، وإنما الجنة تنال بفضل الله، فمهما عمل ابن آدم من الأعمال الصالحة وإن كثرت فإنها لا تقابل الجنة، إنما تنال بفضل الله عز وجل، والعمل الصالح سبب (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) [النحل:32] أي: بسبب ما كنتم تعملون.
ودخول النار بسبب الكفر، عدلاً من الله، أدخله النار، لا بظلم، إنما أدخله بسبب عمله.
(176) وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خُلق له:
إن كان من أهل السعادة فإنه يعمل بعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيعمل بعمل أهل الشقاوة، قال عليه الصلاة والسلام: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"( ).
وقال تعالى : (إن سعيكم لشتى* فأما من أعطى وأتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى) [الليل:4،10]. فالأعمال هي التي تحكمك، إن كانت صالحة فأنت ميسر لليسرى، وإن كانت سيئة فأنت ميسر للعسرى.
(177) والخير والشر مقدران على العباد:
سبق بحث هذا في القدر، والإيمان بالقدر –كما سبق- هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"( ) .
والمؤلف أخذ هذا المعنى من نص الحديث.
فالخير والشر بتقدير الله عز وجل؛ لأنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بقضاء الله وقدره، لابد من الإيمان بذلك.
فالله عز وجل خلق الخير والشر لحكمة (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) [الأنبياء:35] يتميز بذلك أهل الإيمان والتوحيد ولانقياد لله، وأهل الكفر والشرك والإلحاد، ولو لم يكن هناك خير لما حصل التمييز.
فالخير يحبه الله ويخلقه ويقدره، والشر يبغضه الله ويسخطه، ولكن يخلقه ويقدره لحكمة، للابتلاء والامتحان، لو لم يوجد الشر ما ظهر الكفر وعداوة الأنبياء والرسل، ولو لم يوجد الخير لما ظهر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة والمعاداة، ولا تميز الناس.
قد يعترض معترض ويقول: الله يبغض الشرك والكفر، فكيف يقدر ذلك؟ ونقول: قدر ذلك لحكمة؛ ليتميز الناس (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) [آل عمران:179] فنحن لا نعلم المطيع من العاصي إلا بالأعمال، فهي تميز الشقي من السعيد.
فالأمور لا تصلح إلا إذا وجدت المتضادات.
(178) والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به –فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات –فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) :
الاستطاعة هي القدرة من الإنسان، وهي على قسمين:
الأول: استطاعة يتعلق بها التكليف والأمر والنهي.
الثاني: استطاعة يستطيع بها الإنسان الفعل والتنفيذ.
القسم الأول: الاستطاعة التي يتعلق بها التكليف، معناها: الوسع، أن يكون عند الإنسان وسع، أن يفعل أو لا يفعل، عنده إمكانية وتمكن، فالتكليف يتعلق بهذه الاستطاعة، فالإنسان الذي ليس عنده تمكن واستطاعة لا يكلف، كالمجنون والصغير، فلا يكلف فلا يُؤمر ولا يُنهى، ولكن الصغير إن بلغ سبع سنوات فإن عنده استطاعة فيُؤمر بالصلاة من باب الاستحباب والتربية، والتدريب على فعل العبادة، فلا تجب عليه إلا إذا بلغ فيكلف، وهذا النوع يكون قبل الفعل.(/44)
القسم الثاني: الاستطاعة التي يكون فيها التنفيذ، وإيجاد الشيء، فهذه تكون مع الفعل فالحج مثلاً فيه الاستطاعتان، قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع….) [آل عمران:97] فهذه استطاعة تمكن، فيجب الحج على من يستطيع، والسبيل هو الزاد والراحلة، فيجب عليه الحج إذا وجدهما؛ لأن عنده تمكناً، هذه استطاعة قبل الفعل، أما الاستطاعة مع الفعل –وهو مباشرة الحج- فقد لا يكون عنده قدرة مثل المريض المزمن أو الكبير الهرم، فهذا لا يستطيع استطاعة تنفيذ وفعل، ويستطيع استطاعة تكليف، فهذا يجب عليه الحج في ذمته.
ومثل دخول وقت الصلاة يوجب الصلاة على المكلف، ويكون التنفيذ بحسب استطاعته، فالمريض يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فالصلاة تجب عليه على كل حال؛ لأنه في استطاعته ذلك، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، أما التي مع الفعل قد تكون معدومة نهائياً، وقد تكون موجودة، ولكن ليست تامة، فيجب عليه على قدر استطاعته.
(فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن:16]، (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286].
وفيه فرق بين الاستطاعتين:
فالأولى يتعلق الخطاب بها، كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286]، والثانية يتعلق بها التنفيذ.
(179) وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد:
هذه المسألة حصل فيها نزاع ومزلة أقدام ومضلة أفهام، هل الأفعال مخلوقة لله أو هي من خلق العباد؟
القول الأول: قول الجبرية والجهمية: إن العبد مجبور، ليس له دخل في الأفعال، فهي محض خلق الله عز وجل، فصلاته التي يؤديها ليس باختياره، إنما هو مجبور وهؤلاء غلوا في إثبات قدرة الله.
وقولهم هذا ضلال مبين، ومعناه أن الله يظلمهم ويعذبهم على شيء ليس لهم فيه اختيار، وليس لهم فيه استطاعة، وإنما الله يعذب العبد على فعل غيره، ويثيبه على شيء لم يفعله، وهذا المذهب أخبث المذاهب.
القول الثاني: وهو مضاد للقول الأول تماماً، وهو قول المعتزلة، يقولون: الأفعال من إنتاج العبد وإرادته المطلقة ومشيئته، وليس لله تدخل فيها، وإنما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فهؤلاء غالوا في إثبات قدرة العبد.
ويلزم من قولهم أن الله عاجز، وأن الله يشاركه غيره في الخلق والإيجاد، وهذا قول المجوس، ولذلك المعتزلة سُمُّوا: مجوس هذه الأمة( )، فالمجوس يقولون: إن للكون خالقين، خالق للخير وخالق للشر، والمعتزلة زادوا عليهم وقالوا: كل يخلق فعل نفسه، فأثبتوا خالقين.
والمذهب التوسط مذهب أهل السنة والجماعة، على ضوء الكتاب والسنة، قالوا: أفعال العباد هي فعلهم بإرادتهم ومشيئتهم، وهي خلق الله عز وجل (والله خلقكم وما تعملون) [الصافات:96] (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر:62] (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) [فاطر:3] فالله منفرد بالخلق والتقدير، والعبد له مشيئته وإرادته، وله فعل، فهو باختياره يذهب إلى المسجد، وباختياره يذهب إلى المسارح؛ لأن عنده قدرة، والإنسان الذي لم يعطه الله قدرة ولا استطاعة فهذا قد عذره الله، مثل المجنون والمكره، فليس عنده إرادة، وليس عنده قصد، أما من عنده إرادة وقصد، فهذا الذي يختار الفعل لنفسه، والعقاب والثواب يقع على فعله، وليس على فعل الله عز وجل.
قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا) [البقرة:62] [النساء:59]، (إن الذين كفروا) [آل عمران:116] أسند الإيمان إليهم، وكذلك أسند الكفر (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [النساء:59] (ومن يطع الله ورسوله) [النور:52] أسند الأفعال إلى العباد.
والدليل على أن العبد له إرادة وقصد: قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) [الإنسان:30]، فأثبت الله سبحانه له مشيئة وللعبد مشيئة، وجعل مشيئة العبد تحت مشيئته سبحانه (لمن شاء منكم أن يستقيم) [التكوير: 28] شاء، أي: باختياره، وفي هذا رد على الجبرية. (إلا أن يشاء الله) [الإنسان:30] في هذا رد على القدرية.
(180) ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون:
قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286]، (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) [البقرة:286]، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة:185]، فالله لا يكلف العباد ما لا يطيقون، إلا من باب العقوبة، كما حمّل بني إسرائيل بسبب تعنتهم (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً* وأخذهم الربا) [النساء:160،161]، فالله عاقبهم فكلفهم بما لا يطيقون، ولذلك جاء في الدعاء (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) [البقرة:286] فالله –فضلاً منه وإحساناً- لا يكلف العباد إلا ما يطيقون، رحمة منه، فهو رحيم (إن الله بالناس لرءوف رحيم) [البقرة:143].
(181) ولا يطيقون إلا ما كلفهم:(/45)
هذا فيه نظر؛ بل يطيقون أكثر مما كلفهم، ولكن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فالله وضع عنهم المشقة، وشرع لهم الدين اليسر، ونهاهم عن الزيادة على الاعتدال، فلا يجوز للإنسان أن يصلي كل الليل، وكذلك لا يجوز له ترك الزواج، قال عليه الصلاة والسلام: "أما أنا فأصلي وأنام وأتزوج النساء وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني"( )، فالله لا يكلف ما يشق عليهم، والله لو كلفهم لأطاقوا، ولكن لا يرضى لهم المشقة والعسر.
(182) وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله" . نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحوّل لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله:
(لا حول) أي: لا تحول من حال إلى حال (إلا بالله) عز وجل وإعانته. وكذلك: ليس لك قوة إلا من قوة الله عز وجل، ففي هذا تسليم وبراءة من الحول والقوة، فالإنسان لا يُعجب بحوله ولا بقوته، وإنما يرجع إلى الله عز وجل، فتستعين بالله، فيعينك على الطاعة، ومن التحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإسلام، فكل شيء بحول الله وقوته، ولو وكلك إلى حولك لم تستطع، وكذلك الكد والكسب لطلب المال، هذا الكد والتعب منك، ولكن التوفيق ووضع البركة من الله عز وجل.
(183) وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره:
لا يقع في ملكه شيء إلا بعلمه وتقديره (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير:29].
فهو ما قضاه وقدره، وكتبه في اللوح المحفوظ، فكل ما يجري في الكون فهو بقضاء الله وقدره.
(184) غلبت مشيئته المشيئات كلها:
قال تعالى : (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) [التكوير:29] اثبت للعبد مشيئته، ولكنها داخلة تحت مشيئة الله، وأن العبد لا يستطيع المشيئة إلا بمشيئة الله.
(185) وغلب وقضاؤه الحيل كلها:
مهما عملت من الأسباب ومن الأمور، إذا لم يقدر الله المسبب فلا تنفعك الأسباب، وجميع الأعمال لا تنفع إذا لم يُقدِّر الله عز وجل لك النفع بها، فأنت عليك فعل السبب، والتوفيق على الله، فأنت مأمور بفعل الأسباب.
(186) يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً، تقدّس عن كل سوءٍ وحين، وتنزه عن كل عيب وشين.
فالله يفعل ما يشاء من الخير والشر، والنعمة والنقمة، وهو غير ظالم لعباده؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، فيضع النعمة والتوفيق لمن يتأهل لذلك، ويحرم من التوفيق ومن الطاعة من لا يستحق ذلك، وهو غير ظالم، فلا يعذب المطيع الصالح، ولا يثيب العاصي على معصيته.
فالله سبحانه الكامل في ذاته، والكامل في أسمائه وصفاته، والكامل في أفعاله وخلقه سبحانه وتعالى.
(187) (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) :
وكذلك لا يُسأل سبحانه عما يفعل؛ لأن كل شيء يفعله لحكمة، وواقع موقعه، فأما العباد فيسألون؛ لأنهم يخطئون، ويضعون الأمور في غير مواضعها، ففيه فرق بين الخالق والمخلوق، فالله لا يقع في أفعاله خلل، أما العبد فعنده ظلم وحسد وكبر، وعنده أمور تقتضي أنه يخطئ في أموره وتصرفاته.
(188) وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:
هذه مسألة فقهية، ولها تعلق بالعقيدة:
قال عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"( ).
فالعبد ينقطع عمله بموته، إلا ما تسبب في بقائه بعد موته، مثل الصدقة الجارية، كوقف مسجد أو مدرسة يدرس فيها، فما دام نفعها فأجرها يجري ما دام هذا الوقف ينتفع به.
(أو علم) بأن يكون قد درّس الفقه أو العقيدة، وصار له تلاميذ، فيجري عليه أجر تعليمه، أو ألّف كتباً تنفع الناس، فيجري أجره، وهذا من العلم الذي علَّمه.
(أو ولد صالح يدعو له) فهو تزوج من أجل إعفاف نفسه، وطلباً للذرية الصالحة، فجاءه ولد صالح، وهذا مما تسبب فيه، قال عليه الصلاة والسلام: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"( ) .
فإن كان صالحاً يدعو له بعد موته، فإن دعاءه يصل إليه، وهذا من عمله الذي تسبب فيه فينفعه عمل غيره.
وغير هذه المسألة محل الخلاف، قال سبحانه: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم:39] منطوق الآية: أن عمل الإنسان لا ينفع غيره، إلا ما تسبب فيه، فأخذ طائفة من العلماء بهذه الآية، وقال: لا ينفعه إلا عمله مطلقاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء تنفع الميت من عمل غيره، مثل الدعاء والاستغفار (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر:10] (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19]، هذا يشمل الأموات أيضاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يقفوا على قبره، وأن يستغفروا له ويسألوا له التثبيت( )، كذلك الصدقة تنفع الميت، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن أمة ماتت، ولو تكلمت لتصدقت، أفأتصدّق عنها؟ قال: "نعم"( ).(/46)
كذلك الحج ينفع غيره، كما جاءت به الأدلة، كما في حديث شبرمة، قال عليه الصلاة والسلام: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"( ) فهذا عمل للغير ينفع الميت، كذلك لما جاءت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أمها: أنها أدركتها فريضة الحج ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عن أمك" ( ). فتكون هذه الأشياء: الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والعمرة، تكون نافعة للميت من عمل غيره، فتكون مخصصة للآية (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم:39].
وغلت طائفة في هذا وقالت: ينفع الميت كل شيء من عمل غيره، فيستأجرون المقرئين يقرءون للميت، فمثل هذا العمل لا ينفع الميت ولا الحي؛ لأن القارئ أخذ على قراءته أجرة، فليس له ثواب، ومن ناحية ثانية: أن هذا الأمر مبتدع، ليس عليه دليل، وسبحان الله! لو جعل الأجرة التي يعطيها المقرئ صدقة عن الميت صار تابعاً للسنة وينفع الميت، أما على وجه البدعة فلا ينفع الميت ولا الحي، وهذا نتيجة ترك السنة.
(189) والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات:
هذه من صفات الله عز وجل أنه يجيب من دعاه، قال سبحانه (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) [البقرة:186] .
وأمر الله عز وجل بدعائه فقال: (ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر:60]، وقال سبحانه: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) [النمل:62] إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء وإجابة الدعاء، وهذا من كرمه وجوده وإحسانه، يأمر عباده بدعائه ليستجيب لهم، مع أنه غني عنهم، ولكن لعلمه سبحانه وتعالى بحاجتهم أمرهم بدعائه، وفي الحديث: "من لا يسأل الله يغضب عليه"( ).
والدعاء أعظم أنواع العبادة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة"( ).
وكما أنه أمر بدعائه، نهى عن دعاء غيره والإشراك به في الدعاء، فقال: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [الجن:18]، (قل إنما ادعوا ربي ولا أشرك به أحداً) [الجن:20]، (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) [المؤمنون:117].
فلا يجوز دعاء غير الله، ومن دعا غير الله فهو مشرك، سواء كان المدعو ملكاً أو نبياً أو ولياً، فقد أشرك الشرك الأكبر (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) [الأحقاف:5]، (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) [فاطر:14] فسماه شركاً، وقال سبحانه (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ:22،23].
فالدعاء لا يكون إلا لله، فلا يدعى أحد من دونه من الأحياء أو الأموات، أيّاً كان هذا المدعو.
والدعاء على قسمين:
الأول: دعاء عبادة، وهو الثناء على الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فالذي يسبحه ويكبره ويحمده ويثني عليه قد دعاه دعاء عبادة.
الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب الحوائج من الله عز وجل، وكلاهما تضمنته سورة الفاتحة، فأولها إلى نصفها دعاء عبادة، إلى قوله (إياك نعبد) وآخر السورة مسألة.
والعلماء يقولون: دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة.
والله عز وجل وعد من دعاه أن يستجيب له، وقد يقول قائل: أنا دعوت ولم يستجب لي.
والجواب أن يُقال: المانع من عندك أنت، الدعاء سبب من الأسباب، والنتيجة لا تحصل إلا إذا انتفت الموانع، فقد يكون مانع من الموانع منع استجابة دعوتك، إما أن تكون دعوت بقلب غافل لاهٍ فأنى يُستجاب لقلب غافل لاهٍ؟ كما في الحديث، أو أنك تأكل الحرام وتشرب الحرام وتلبس الحرام، قال عليه الصلاة والسلام في الذي: "يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يارب، يارب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب له"( )؟
أو يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فلا يُستجاب له، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: أن الله عز وجل أعلم بمصالحك، قد يعجل لك الإجابة وقد يؤخرها، وقد يصرف عنك من السوء مثلها، وأنت لا تدري، كما في الحديث: "ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يؤخرها له، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"( ).
أهل الضلال يقولون: لا حاجة للدعاء؛ لأن الأمر إذا كان قدر فلا يحتاج إلى دعاء؛ لأنه إذا كان الأمر قدر لك فإنه سيأتيك، ولو لم تدع، وإن كان لم يقض لك ويقدر فإنك لو دعوت لم يحصل لك ولا يقدر، وهذا ضلال، والعياذ بالله، ومخالف لكلام الله عز وجل.(/47)
والجواب: أنه لا تعارض بين الدعاء والقضاء والقدر، الذي قضى وقدر هو الذي أمر بالدعاء، والدعاء سبب من الأسباب، والمسبب هو الله عز وجل، وهناك بعض الأشياء قدرت على أسباب، إذا وجدت أسبابها وجدت مسبباتها، والدعاء سبب.
(190) ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء:
من صفات الله عز وجل: أنه يملك كل شيء، فكل ما في الكون فهو ملك له (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) [الملك:1]، وقال تعالى: (له ملك السموات والأرض) [الحديد:2].
فلا يخرج شيء عن ملكه، والناس وما يملكون فهم ملكه سبحانه وتعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) [آل عمران:26].
فلا أحد يفرض ويلزم ويملي على الله شيئاً؛ لأن الناس عباد لله فقراء إليه، كما قال سبحانه: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [القصص:68]، وقال سبحانه: (إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18].
وإنما هو سبحانه يدبر الأمر بمفرده، ويجريه على حكمته سبحانه وتعالى.
(191) ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين:
الله جل وعلا هو الغني الحميد، والخلق كلهم فقراء إلى الله، وما أحد منهم يمكن أن يستغني عن الله.
قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر:15]. فلا أحد يمكن أن يستغني عن الله، ولو كان عنده ملك الدنيا، فالملوك فقراء إلى الله، وكذلك الأغنياء، فلا أحد يستغني عن الله، لا الملائكة المقربون ولا من دونهم من الخلق.
(192) ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين:
من زعم أنه في غنىً عن الله، وأنه مستغن عن الله، فقد كفر وخرج من الملة، فالواجب على العبد أن يظهر لله ضعفه، ولا يعجبه ما هو فيه من القوة والصحة والغنى؛ لأن الأمور بيد الله عز وجل، فلا يمكن الاستغناء عن الله عز وجل.
(193) والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى:
من صفات الله عز وجل الفعلية: أنه يغضب ويرضى، قال سبحانه: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) [التوبة:100] فالله يرضى عن عباده، قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر) [التوبة:72]، وقال تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [الفتح:18]، وهو كذلك يغضب سبحانه وتعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) [المائدة:60] فالله يغضب على من عصاه ويمقته، والمقت هو أشد البغض، قال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) [النساء:93].
والمخلوق يغضب ويرضى، ولا مشابهة بين غضب ورضا المخلوق وغضب ورضا الخالق، رضا الله وغضبه يليقان به سبحانه، ورضا وغضب المخلوق يليقان به كسائر الصفات (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى:11]، ليس له مثل في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته، وإن كانت له أسماء وصفات، وللمخلوق أسماء وصفات، فلا تشابه.
وهذا مذهب أهل السنة ولجماعة، يثبتون الرضا والغضب لله عز وجل وغير ذلك من الصفات، وإن كان جنس هذه الصفات موجوداً في المخلوقين، لكن مع الفارق (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى:11] كذلك المخلوق سميع بصير، وقال الله عن نفسه: (وهو السميع البصير) وقال في أول الآية: (ليس كمثله شيء) فدل على أن هناك فرقاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق وهذا شيء معلوم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاد أهل السنة والجماعة، أما أهل التأويل والضلال فينفون الأسماء والصفات عن الله؛ لأن جنسها موجود في المخلوقين، ولو أثبتها اقتضى هذا المشابهة –بزعمه- وفي الحقيقة هذا لا يقتضي المشابهة.
ولكن هذا الفهم عقيم، ويأولون الغضب بالانتقام، والرضا بالإنعام، فالواجب التسليم لله ولرسوله وما ثبت عنهما، وأن يترك هذه الترهات والتأويلات.
ولذلك لما سئل مالك عن كيفية استواء الله على عرشه؟ أطرق مالك رأسه خوفاً وحياء من الله، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
(194) ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
أصحاب: جمع صاحب، والصحابي هو: الذي لقي الرسول وهو مؤمن به ومات على ذلك، فإن آمن به ولم يلقه فليس بصحابي، ولو كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي، وكذلك يشترط الإيمان به والموت على ذلك، فبمجرد الردة والموت عليها تبطل الصحبة وسائر الأعمال، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل القرون والأمم بعد الأنبياء والرسل، وذلك لأنهم أدركوا المصطفى عليه الصلاة والسلام وآمنوا به وجاهدوا معه وتلقوا عنه العلم، وأحبهم النبي صلى الله عليه وسلم واختارهم الله لنبيه أصحاباً.(/48)
والله يقول: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18]، وقال سبحانه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغظ بهم الكفار وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) [الفتح:29]، والصحابة أفضل القرون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فهم خير القرون بفضل صحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فحبهم إيمان وبغضهم نفاق، قال تعالى : (ليغيظ بهم الكفار) [الفتح:29].
فالواجب على المسلمين عموماً حب الصحابة جميعاً، بنص الآية؛ لمحبة الله عز وجل لهم، ولمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم جاهدوا في سبيل الله، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وآزروا الرسول وآمنوا به واتبعوا النور الذي أُنزل معه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
فالله لما ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر، قال سبحانه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون* والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) [الحشر:8-10] فهذا موقف المسلمين من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يستغفرون لهم، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم بغضاً للصحابة، وكذلك آل بيت الرسول فلهم حق القرابة وحق الإيمان، ومذهب أهل السنة والجماعة: موالاة أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما النواصب: فيوالون الصحابة، ويبغضون بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك سموا بالنواصب؛ لنصبهم العداوة لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
والروافض: على العكس، والوا أهل البيت بزعمهم، وأبغضوا الصحابة، ويلعنونهم ويكفرونهم ويذمونهم.
والصحابة يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عن الجميع، الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ"( ) ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان، قال تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18].
ثم الذين آمنوا وجاهدوا قبل الفتح، فهم أفضل من الصحابة الذين آمنوا وجاهدوا بعد الفتح، قال تعالى: (لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) [الحديد:10] والمراد بالفتح: صلح الحديبية .
ثم المهاجرون عموماً، ثم الأنصار؛ لأن الله قدّم المهاجرين على الأنصار في القرآن، قال سبحانه: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) [التوبة:100]، وقال سبحانه : (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون.
ثم قال سبحانه في الأنصار: (والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة زن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر:9].
فقدّم المهاجرين وأعمالهم على الأنصار وأعمالهم، مما دل على أن المهاجرين أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله، فدل على صدق إيمانهم، فجميع الصحابة يجب حبهم وموالاتهم، ولا نتدخل فيما حصل بينهم من حروب، فما حصل بينهم من الحروب فبتأويل منهم، فهم مجتهدون، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وكذلك عندهم من الحسنات والفضائل العظيمة التي تُكفِّر ما يقع من الخطأ من بعضهم.(/49)
فالواجب على المسلمين الترضّي عنهم، وطلب العذر لهم، والدفاع عنهم، فمذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يتدخلون فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لما لهم من الفضل والسابقة؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"( ) لفضلهم، فمن تدخل فيما حصل بين الصحابة وصار في قلبه شيء، فهذا زنديق، فأما من قال: نتدخل فيما حصل بين الصحابة من باب البحث، فهذا خطر عظيم ولا يجوز، ولذلك لما سُئل عمر بن عبد العزيز عما حصل بين الصحابة قال: "أولئك قوم طهّر الله أيدينا من دمائهم، فيجب أن نطهر ألسنتنا من أعراضهم".
وقال عليه الصلاة والسلام: "هل أنتم تاركو لي أصحابي؟"( ) فلا نتدخل فيما حصل بين الصحابة؛ لأنه من مقتضى الإيمان ومن مقتضى النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم.
(195) ولا نفرط في حب أحد منهم:
الإفراط: الغلو، أي: لا نغلوا في حب أحد منهم، كما غلت الرافضة في حب علي رضي الله عنه على زعمهم، وإلا الظاهر أنهم لا يحبونه ولا يحبون المسلمين عموماً، فغلوا فيه حتى قال بعضهم: إن علياً هو الله، وذلك في زمن علي رضي الله عنه، فخدَّ لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار غيرةً لله عز وجل. فالغلو ممنوع سواء في الصحابة أو غيرهم، قال سبحانه : (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) [المائدة:77]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"( ) فنحن نحب أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن لا نغلو فيهم حتى نجعلهم شركاء لله وندعوهم من دون الله، كما تفعل الرافضة والقبوريون، فليس هذا حباً للصحابة، فحبهم باتباعهم والاقتداء بهم والترضي عليهم.
(196) ولا نتبرأ من أحد منهم:
في هذا إشارة إلى الرافضة الذين يتبرؤون من الصحابة، وخاصة أبا بكر، وعمر، وعثمان، بل يكفرون كثيراً من الصحابة، هذا من التفريط، فلا نُفرّط في حبهم؛ لأن التفريط هو ترك محبتهم .
(197) ونبغض من يبغضهم:
من يبغض الصحابة فإنه يبغض الدين؛ لأنهم هم حملة الإسلام وأتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن أبغضهم فقد أبغض الإسلام؛ فهذا دليل على أنه ليس في قلوب هؤلاء إيمان، وفيه دليل على أنهم لا يحبون الإسلام.
(198) وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير:
على ما سبق فلا يجوز الخوض فيما حصل بينهم؛ بل يجب الإمساك عن ذلك وأن لا يُذكروا إلا بخير .
(199) وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان:
هذا أصل عظيم يجب على المسلمين معرفته، وهو محبة الصحابة وتقديرهم؛ لأن ذلك من الإيمان، بغضهم أو بغض أحد منهم من الكفر والنفاق، ولأن حبهم من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وبغضهم من بغض النبي صلى الله عليه وسلم.
(200) ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون:
لما فرغ مما يجب للصحابة من المحبة والولاء، وترك بغضهم وبغض من يبغضهم، وعدم التدخل فيما جرى بينهم، شرع في ذكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على النحو الذي ذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة في آخر حياته، وفي هذا إشارة إلى خلافته، ولذلك قال الصحابة لما بايعوه: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، ألا نرضاك لدنيانا؟) فبايعوه، ولما لأبي بكر من السوابق العظيمة قبل الهجرة وبعدها، وهو أولى الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده عمر بن الخطاب بعهد من أبي بكر، ثم عثمان بإجماع الصحابة باختيار من أصحاب الشورى الذين عينهم عمر قبل وفاته من العشرة المبشرين بالجنة، وهم خيار الصحابة. وبعد مقتل عثمان وليها علي رضي الله عنه، هذا هو ترتيب الخلافة، فمن زعم أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، فهو ضال ومخالف للنبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين.
فالشيعة: يزعمون أنها لعلي، ويسمونه الوصي على الأمة، وإنما قصدهم التهويش وإشعال الفتن بين الناس، فهم ليسوا بأحسن نظراً من الصحابة رضي الله عنهم. فالشيعة يقولون: الصحابة ظلمة، وكل وصف ذميم في القرآن المعني به الصحابة عندهم فيصفونهم بأنهم ظالمون وكافرون وضالون، وهذا مما جعل العلماء ينصون على ذكر الخلافة في كتب العقائد؛ لئلا يتأثر أحد بهؤلاء الأرجاس. فترتيب الخلفاء الأربعة على هذا الترتيب هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الصحابة رتبوا هذا الترتيب وأجمعوا عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من خالف في أمر الخلافة فهو أضل من حمار أهله) .(/50)
(201) وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقوله الحق، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين:
فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وأبو عبيدة رضي الله عنه وصف بأنه أمين هذه الأمة؛ لأنه لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم العهد مع أهل نجران، وفرض عليهم الجزية، طلبوا منه أن يبعث إليهم أميناً، فاختار أبا عبيدة وقال صلى الله عليه وسلم: "لأبعثن عليكم أميناً، حق أمين" فاستشرف الصحابة لذلك فبعث أبا عبيدة( ).
(202) ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرّيّاته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق.
بعد أن ذكر ما يجب للصحابة انتقل إلى ذكر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول أهل البيت هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [الأحزاب:33]، هذا خطاب لهن.
فأول من يدخل في أهل البيت: زوجاته، ثم قرابته عليه الصلاة والسلام، وهم آل العباس وآل أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب.
فالرافضة: يقدحون في عائشة ويصفونها بما برأها الله منه، وهذا تكذيب لله عز وجل ووصف لله بأنه اختار لرسوله امرأة لا تصلح له، وهذا كفر بالله، قال تعالى : (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) [النور:26] فالنبي صلى الله عليه وسلم طيب فلا يختار الله له إلا الطيبة.
وذرياته المقصود بهم أولاده عليه الصلاة والسلام، وأولاد ابنته فاطمة، وهم الحسن والحسين وأولادهما، هؤلاء ذريته صلى الله عليه وسلم .
(203) وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين –أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر –لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل:
لما فرع –رحمه الله- من حقوق الصحابة وأهل البيت، وما يجب لهم من المحبة والموالاة، وعدم التنقُّص لأحد منهم انتقل إلى الذين يلونهم في الفضيلة وهم العلماء، فعلماء هذه الأمة لهم منزلة وفضل بعد الصحابة؛ لأنهم ورثة الأنبياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء"( ) والمراد بهم : علماء أهل السنة والجماعة، أهل العلم والنظر والفقه، وأهل الأثر، وهم أهل الحديث.
فالعلماء على قسمين:
القسم الأول: علماء الأثر، وهم المحدثون الذين اعتنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوها وذبُّوا عنها، وقدموها للأمة صافية نقية، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدوا عنها كل دخيل وكل كذب، فنحوا الأحاديث الموضوعة وبينوها وحاصروها، فهؤلاء يسمون: علماء الرواية.
القسم الثاني : وهم الفقهاء، وهم الذين استنبطوا الأحكام، من هذه الأدلة، وبينوا فقهها، وشرحوها وبينوها للناس، فهؤلاء يسمون: علماء الدراية.
ومنهم من جمع بين العلمين، ويسمون: فقهاء المحدثين، كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، والبخاري.
وكل هؤلاء العلماء لهم فضل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها"( ) فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم ومدحهم.
فالعلماء قاموا بما أوجب الله عليهم من حماية الدين والعقيدة، فبينوا الأحكام، والمواريث، والحلال والحرام، وبينوا أيضاً فقه الكتاب والسنة، فجعلوا للأمة ثروة عظيمة يستفاد منها ويقاس عليها ما يجد من مشاكل.
والفقه على قسمين:
القسم الأول: الفقه الأكبر، وهو فقه العقيدة.
القسم الثاني: وهو فقه عملي، لا يقل عن الفقه الأكبر من حيث الأهمية، وهو فقه الأحكام العملية.
وفي فضل العلماء جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب"( ) وذلك لأن نفعهم يتعدّى، وفي رواية: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"( ) فالعلماء لهم احترام ومنزلة.
فلا يجوز الطعن فيهم وتنقصهم حتى لو حصل من بعضهم خطأ في الاجتهاد، فهذا لا يقتضي تنقصهم؛ لأنهم قد يخطئون، ومع ذلك هم طالبون للحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"( ) وهذا في حق العلماء وليس المتعالمين؛ لأنه لا يحق لهم أن يدخلوا فيما لا يحسنون .
(204) ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء:
انتقل المصنف –رحمه الله- من العلماء إلى الأولياء.
والأولياء: جمع ولي، والولاية هي القرب والمحبة، فهم أهل القرب والمحبة من الله عز وجل، وسُمُّوا بالأولياء لقربهم من الله، ولأن الله يحبهم، قال تعالى : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222] وقال تعالى: (إن الله يحب المحسنين) [البقرة:195].(/51)
وقد بينهم الله في قوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس:62،63]، فالولي لابد أن يجتمع فيه صفتان:
الأولى: الإيمان.
والثانية: التقوى.
والناس في الولاية والبغض على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أولياء الله الخُلَّص من الملائكة والنبيين والصدّيقين والشهداء وصالح المؤمنين.
القسم الثاني: أعداء لله عداوة خالصة، كالمشرك والكافر والمنافق النفاق الأكبر، فهؤلاء أعداء الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [الممتحنة:1]، وقال تعالى : (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [المجادلة:22]، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [المائدة:51].
القسم الثالث: من فيهم ولاية من وجه، وعداوة من وجه، وهو المسلم العاصي، ففيه ولاية بقدر ما معه من طاعة، وفيه عداوة بقدر ما معه من معصية، فكل مسلم ولي لله ولكن على حسب ما معه من إيمان.
فمن ادّعى الولاية أو ادعيت له الولاية وليس معه إيمان، وليس فيه تقوى، فإنما هو دجال وكذاب.
وقد يدعون الولاية وهم سحرة وكهنة ومشعوذون وعرافون، وقد كتب شيخ الإسلام كتاباً سمّاه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وبيّن فيه من يدّعي الولاية، ويُروج على الناس أشياءً يظن أنها كرامات، وهي خوارق شيطانية، وسيأتي بيانه.
فتجب محبة أولياء الله، والاقتداء بهم، وولايتهم، والقرب منهم.
وقوله : (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام):
رد على الصوفية، فعندهم غلو في الأولياء. وأنهم عندهم أفضل من الأنبياء وأهل السنة والجماعة لا يغلون في الأولياء وينزلونهم منازلهم، أما الصوفية الضلال فيفضلونهم على الأنبياء، يقول قائلهم:
مقام النبوة في منزل فويق الرسول ودون الولي
وهذا كفر؛ لأن الأفضل الرسل ثم الأنبياء ثم الأولياء، وسبب تقديم الولي على النبي عند الصوفية –على زعمهم- أن الولي يأخذ عن الله مباشرة، والنبي يأخذ بواسطة.
وقوله: (ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) :
وهذا لا شك فيه، فجميع الأولياء من أول الخلق إلى آخرهم لا يعادلون نبياً واحداً، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
(205) ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم :
هذا بحث عظيم، وهو بحث الكرامات، فالكرامة هي الخارق للعادة، فإن كانت على يد نبي فهي معجزة، مثل معجزة القرآن، فالإنس والجن عجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهي أعظم المعجزات، ومثل معجزة عصا موسى، والتسع الآيات، ومثل إحياء الموتى لعيسى ابن مريم؛ وإن جرت الخارقة على يد رجل صالح فهو كرامة من الله أجراها على يده، وليس من عنده، مثل ما حصل لأصحاب الكهف وما حصل لمريم (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً) [آل عمران:37] فكان يأتيها رزقها وهي تتعبّد الله ولم تخرج من المحراب، وكذلك ما حصل من كرامات لهذه الأمة، وقد ذكر شيخ الإسلام طرفاً منها في كتابه: الفرقان.
أما إذا جرى الخارق على يد كاهن أو ساحر فهذا خارق شيطاني، يجري على يده من أجل الابتلاء والامتحان، فقد يطير في الهواء ويمشي على الماء ويعمل أعمالاً خارقة للعادة وهي من أعمال الشياطين.
والضابط: أننا ننظر إلى عمله، فإن كان موافقاً للإسلام، فما يجري على يده كرامة، وإلا فهو من خدمة الشياطين له.
قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض) [الأنعام:128]، فالجني استمتع بالإنسي بالخضوع له وطاعته، والإنسي استمتع بالجني لأنه يخدمه ويحضر له ما يريد، قال تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم* وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) [الأنعام:128،129]، فهذه خوارق شيطانية، فالفارق بينها وبين الكرامة: الإيمان والعمل الصالح؛ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أما من عاداهم فقد حصل عنده بسبب فهم الخوارق خلط كثير، فالمعتزلة ومن نحا نحوهم من العقلانيين إلى يومنا هذا ينكرون الكرامات، حتى إن غلاتهم ينكرون بعض المعجزات، ويقولون: هذه لا يثبتها العقل؛ لأنهم يقدمون عقولهم.
الصنف الثاني: وهم القبوريون والصوفيون، غلوا في إثبات الكرامات حتى أثبتوها لأولياء الشيطان، فيثبتونها لمن لا يصلي ولا يصوم إذا جرى على يده خارق للعادة، وهي خوارق شيطانية، ومنهم من يغلو في الولي الصالح ويتخذه إلهاً مع الله كما حدث للقبوريين، فلو قرأت كتاب الشعراني المسمى "طبقات الأولياء" لرأيت العجب العجاب والحكايات الباطلة، فالولي عندهم خرج عن التكاليف ولا يحتاج إلى العبادة.(/52)
فالإنسان مهما بلغ من الصلاح والعبادة فإنه لا يخرج عن العبودية، لا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الأنبياء، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأتقاكم" ، وهو سيد البشر وخير من مشى على الأرض، ويقول الله له: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر:99] فما أحد بلغ ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم وما خرج عن عبادة الله، حتى المسيح صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل فيه: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً) [النساء:172،173] فهذا بحث عظيم يجب معرفته، وبخاصة في أوقات الجهل والخرافة.
(206) ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال:
الأشراط: جمع شرط، وهو العلامة، ومنه سمي الشرطي: شرطياً؛ لوجود العلامة عليه.
وأشراط الساعة: علاماتها الدالة على قرب وقوعها، قال سبحانة: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) [محمد:18] فقوله: (فهل ينظرون) أي: ينتظرون، وقوله: (بغتة) أي: لا يعلم وقتها إلا الله، قال سبحانه: (ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) [الأعراف:187]، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "أخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟ قال: أخبرني عن أماراتها، قال: "إن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"( ) .
وقد ذكر العلماء أن أشراط الساعة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العلامات الصغرى، وهذه حصلت وانقضت.
القسم الثاني: العلامات الوسطى، هذه ما تزال تحدث مثل ما حدث في زماننا من تقدم الصناعات والاتصالات، واستخراج الكنوز من الأرض، وتقارب البلدان، حتى كأن العالم قرية واحدة، واجتماع اليهود في فلسطين انتظاراً للدجال، وتوطئة للملاحم التي ستقوم هناك.
القسم الثالث: العلامات الكبرى، من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فهذه إذا حصل أحدها تتابعت البقية.
وقوله: (من خروج الدجال) :
هو أول العلامات الكبرى، وهو من اليهود، ويدّعي الربوبية، ومعه خوارق شيطانية، تفتن الناس، يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتخرج ما فيها من الكنوز والنبات.
والدجّال هو أشد الفتن؛ لأن الذين يفتنون به كثير؛ لشدة ما معه من الفتن، ومعه جنة ونار، ويأتي على جميع الأرض إلا مكة والمدينة، وهذه الفتنة تميز المؤمن من الكافر، وسُمّي دجالاً من الدجل، وهو الكذب؛ لكثرة كذبه، وسمي المسيح؛ لأنه يسير في الأرض ويمسحها بسرعة؛ لما هيأ الله له من وسائل المواصلات السريعة، التي هي أسرع من الريح، وقيل: سمي بذلك لأن عينه ممسوحة، فهو أعور، ويسمى: مسيح الضلالة. فيخرج الدجال فيتبعه اليهود، فيقودهم، ويحصل بسببه على المسلمين فتنة عظيمة، وما من نبي إلا حذر أمته منه، وأشدهم تحذيراً منه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر الأنبياء، وأمته آخر الأمم، وأقربها للدجال، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير من الصلاة: "أن نتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"( ) فهو فتنة عظيمة وشر كبير، فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء فيقتله بباب "لد" فيريح الله منه المسلمين، ثم يحكم عيسى بحكم الإسلام، فهو تابع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس بعد نبينا نبي، وليس بعد شريعة الإسلام شريعة.
ثم يخرج في وقته يأجوج ومأجوج، وهم أيضاً فتنة عظيمة، قال تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) [الأنبياء:96]، وهم أمة من الأمم من بني آدم، كانوا في زمان الإسكندر ذي القرنين، وبنى دونهم السد، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) [الكهف:97] فلا يستطيعون الصعود فوق الحائط، ولا يستطيعون نقبة؛ لقوته؛ لأنه من الحديد والبأس الشديد، ولكن إذا جاء وعد الله جعله دكاً، فيخرجون ويفتكون بالعالم، وليس لأحد طاقة في قتالهم، ثم يهلكهم الله في ساعة واحدة.
(207) ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء:(/53)
ويسمى بالمسيح؛ لأنه كان يمسح على ذي العاهة فيشفيه الله، ويسمى: مسيح الهداية، ونزوله من السماء إلى الأرض في آخر الزمان متواتر، ومن أنكر ذلك فهو كافر، قال تعالى : (وإنه لعلم للساعة) [الزخرف:61] وفي قراءة: (وإنه لعلم للساعة) –بفتح العين واللام- أي: علامة على قرب الساعة، قال الله سبحانه: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) [النساء:159] وهذا في آخر الزمان؛ لأنه حي في السماء ولا يموت إلا بعد إنهاء المهمة الموكلة إليه، فيموت فيدفن في الأرض بعد أن يقتل الدجال والخنزير ويضع الجزية ويحكم بالإسلام.
(208) ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها:
الشمس مسخرة تجري بأمر الله، فتخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، ثم إذا كان آخر الزمان وحان قيام الساعة أمرها الله سبحانه بالطلوع من المغرب، فتكون علامة للقيامة، وإذا طلعت من مغربها فلا يقبل الله توبة التائب، قال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا منتظرون) [الأنعام:158] فالكافر يسلم، ولكن لا يقبل الله إسلامه، والعاصي يتوب، ولكن لا تقبل توبته.
(209) وخروج دابة الأرض من موضعها:
قال سبحانه: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) [النمل:82] تخرج هذه الدابة فتسم المؤمن والكافر، أي: تضع عليه علامة يتعارف الناس بها، فيتخاطبون، وهذا يقول: يا مسلم، وهذا يقول: يا كافر، ومعنى قول الله : (تكلمهم) بكلام خارق للعادة. وليس عندنا خبر ثابت عن موضع خروجها، لكن نؤمن بخروجها من موضعها الذي يعلمه عالم الغيب والشهادة، قال سبحانه: (أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) [النمل:82].
(210) ولا نصدق كاهناً ولا عرّافاً:
سبق أن ذكر المؤلف الكرامات وضابطها، وأن الكرامات حق ثابت، ولا يجوز الاعتماد عليها، ولا يظن بأن للأولياء مرتبة يُدعون فيها مع الله عز وجل، كما يقوله القبوريون والخرافيون، فيتعلقون بالأولياء والصالحين من أهل هذه الخوارق.
أما قوله رحمه الله: (لا نصدق كاهناً ولا عرافاً) ففيه بيان الفرق بين الكرامة والكهانة والعرافة والسحر والشعوذة والتنجيم، فهذه –أي التي مع الكهان والعرافين- خوارق شيطانية وأعمال حذقوها وتعلموها بسبب تقربهم من الشياطين فيظن الناس والجهال أن هذه كرامات وأنها بسبب ولا يتهم لله، وهذا غلط، إنما هي من فعل الشياطين؛ لخضوعهم لهم وموافقتهم على الشرك، فالسحرة ما توصلوا إلى السحر إلا لخضوعهم للشياطين، فالسحر من عمل الشيطان وهو كفر بالله، فلا يغتر بهم، فهم يقولون: هذه كرامة أو أعمال رياضية أو أعمال بهلوانية، ويحضرون في المحافل والنوادي، ويتركون يعملون السحر أمام الناس، ويقولون: هذه أمور رياضية، ليضلوا الناس وليأكلوا بسحرهم الأموال، فيجب التنبيه على هؤلاء وبغضهم وعداوتهم؛ لأنهم أعداء الله ولرسوله.
والسحر على قسمين :
القسم الأول: سحر حقيقي : وهو ما يؤثر في بدن المسحور فيمرضه أو يؤثر على عقله أو يقتله، فهذا عمل شيطاني.
القسم الثاني: سحر تخييلي، قال الله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) [طه:66] وهو ما يسمى: القمرة، فيعملون شيئاً على أعين الناس، وهو ليس له حقيقة، فيظهر منه أن يضرب نفسه بالسيف، وأنه يأكل المسامير أو النار أو الزجاج، أو يدخل في النار، أو أن السيارة تمشي عليه، أو ينام على مسامير، أو يجر السيارة بشعره، أو يأتي بأوراق عادية، ويروج على الناس أنها نقود، وإذا ذهب سرحه عادت الأوراق إلى أصلها، كما يحصل من النشالين. ومن أعمال السحرة أيضاً: أن يأتي أحدهم بجعلٍ، وهي الحشرة المعروفة، ويُظهر بسحره أمام الناس أنها خروف، وكذلك فهم يروجون على الناس أنهم يمشون على خيط دقيق، وهو ما يسمى السرك، أو ما يسمى بالبهلوان.
فهذا كله كذب وتدجيل على الناس، وسحر لأعين الناس، وهو سحر تخييلي، إذا ذهب هذا السحر عادت الأمور كما هي، فيجب علينا أن لا نغتر بهم ولا نصدقهم ولا نمكنهم من أولادنا ولا بلادنا من أجل ترويج سحرهم.
وأما الكاهن: فهو الذي يدعي علم الغيب وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين يسترقون السمع فيسرقون الكلمة، فيخبرون بها الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدقه الناس في كل ما قال بسبب تلك الكلمة، قال سبحانه: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم* يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) [الشعراء:221،223] وكانت الكهانة في الجاهلية كثيرة، فكان في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الأمور الغائبة، ولما جاء الإسلام أبطل الكهانة ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى الكهان، قال عليه الصلاة والسلام: "من أتى كاهناً لم يقبل منه صلاة أربعين يوماً"( ) وهذا الحديث في صحيح مسلم.(/54)
وجاء في السنن "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"( ) ، ولما سُئل عن الكهان قال: "ليسوا بشيء"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تأتوهم"
فالكاهن: هو الذي يدّعي علم الغيب، بسبب تعامله مع الشيطان.
وأما العراف : فهو الذي يدّعي علم الغيب، لكن ليس بواسطة الشياطين، وإنما بالحدس والتخمين، فيقول: يمكن أن يقع كذا وكذا، بناء على تنبؤات كاذبة.
وقال بعض أهل العلم: إن العراف هو الكاهن، كل منهما يخبر عن الأمور الغائبة لكن باختلاف الوسيلة، فيجب على المسلم أن يكفر بالكهانة والعرافة، ولا يصدق أهلها، فهم ليسوا من أولياء الله، إنما هم من أولياء الشيطان، ومن أراد التوسع في هذا فليراجع كتاب "الفرقان" لشيخ الإسلام.
وأما التنجيم فالمنجم: هو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة بواسطة النظر في النجوم، إذا طلع النجم الفلاني يحصل كذا، وإذا غرب النجم الفلاني يحصل كذا، والبرج الفلاني فيه نحس أو فيه سعادة، وهكذا يستندون إلى هذه الأعمال الكاذبة.
فالتنجيم: (هو نسبة الحوادث الأرضية إلى الأحوال الفلكية) كما عرفه شيخ الإسلام. والتنجيم من أمور الجاهلية، قال عليه الصلاة والسلام: "أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم"( )، أي: طلب السقاية من النجوم، قال سبحانه وتعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم* إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون* تنزيل من رب العالمين* أفبهذا الحديث أنتم مدهنون* وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة:75،82]، أي : تنسبون ما يحصل لكم من الرزق للنجوم والحوادث الفلكية، فهذا من اعتقاد الجاهلية، فالنجوم إنما هي خلق من خلق الله مسخرة، وخلقها الله لثلاث حكم:
الأولى: أنها زينة للسماء الدنيا.
الثانية: أنها رجوم للشياطين.
الثالثة: أنها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فمن اعتقد أنها لغير ذلك فهو قد أضاع نصيبه.
وإذا تدبرت القرآن وجدت أن الله ذكر للنجوم ثلاث فوائد، أما ما يحدث في الأرض من حوادث فليس للنجوم فيها تأثير، وإنما المنجمون يُدَلسون ويكذبون على الناس، ويقولون: إن هذه الحوادث بسبب النجوم، قال سبحانه: (والنجوم مسخرات بأمره) [النحل:12]، فهذه الأمور تخل بالعقيدة، ويبطل إيمانه إذا صدق أن النجوم هي التي فعلت هذا الشيء بالكون.
(211) ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أي: لا نصدق أحداً يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأنها الأدلة التي يعتمد عليها، فما خالفها فهو باطل، سواء من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات.
(212) ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً:
نرى –معشر أهل السنة والجماعة- أن الاجتماع حق والفرقة عذاب، فالاجتماع للأمة على الحق رحمة، والفرقة بينهما عذاب، وهذا من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة، فيجب الاجتماع ونبذ الفرقة، قال سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران:103]، فحبل الله القرآن والإسلام، وقوله: (جميعاً) أي: اجتمعوا على القرآن والسنة، وقوله: (ولا تفرقوا) لما أمر الله بالاجتماع نهى عن الفرقة، وأخبر أن الاجتماع يكون على حبل الله، وهو القرآن، ولا يجوز الاجتماع على غيره من المذاهب والحزبيات، فهذا يُسبب الفرقة.
فالاجتماع لا يحصل إلا على كتاب الله، قال سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران:103].
فأمر الله سبحانه بالاجتماع ونبذ الفرقة في الآراء وفي القلوب، فالمسلمون مهما تفرقوا وبعدت أقطارهم فإنّهم مجتمعون على الحق، وقلوبهم مجتمعة، ويحب بعضهم بعضاً، أما أهل الباطل وإن كانوا في مكان واحد، أحدهم إلى جنب الآخر، فهم مجتمعة أبدانهم متفرقة قلوبهم، قال سبحانه: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران:105]، وقال سبحانه: (ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) [الروم:31،32]، وقال سبحانه: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى:13].
فالواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة في عقيدتها وفي عبادتها وفي جماعتها وطاعتها لولي أمرها، فتكون يداً واحدة، وجسماً واحداً، وبنياناً واحداً، كما شبهها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا رحمة للمسلمين، تُحقن دماؤهم، وتتآلف قلوبهم، ويأمن مجتمعهم، فإذا حصل هذا درت عليهم الأرزاق. أما إذا تناحروا وتقاطعوا وتباغضوا تسلط عليهم الأعداء، وسفك بعضهم دماء بعض.
والاختلاف على قسمين:(/55)
القسم الأول: اختلاف في العقيدة، وهذا لا يجوز أبداً؛ لأنه يوجب التناحر والعداوة والبغضاء ويفرق الكلمة، فيجب أن يكون المسلمون على عقيدة واحدة، وهي عقيدة لا إله إلا الله، واعتقاد ذلك قولاً وعملاً واعتقاداً، والعقيدة توقيفية ليست محلاً للاجتهاد، فإذا كانت كذلك فليس فيها مجال للتفرق، فالعقيدة مأخوذة من الكتاب والسنة، لا من الآراء والاجتهادات، فالفرقة في العقيدة تؤدّي إلى التناحر والتباغض والتقاطع، كما حصل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والفرق الضالة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"( ) فما يجمع الناس إلا ما كان مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
القسم الثاني: اختلاف في الاجتهاد الفقهي، وهذا لا يوجب عداوة؛ لأن سببه هو النظر في الأدلة حسب مدارك الناس، والناس يختلفون في ذلك، وليسوا على حد سواء، فهم يختلفون في قوة الاستنباط وفي كثرة العلم وقلته.
فهذا الخلاف إذا لم يصحبه تعصب للرأي فإنه لا يفضي إلى العداوة، وكان الصحابة يختلفون في المسائل الفقهية، ولا يحدث بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك السلف الصالح والأئمة الأربعة يختلفون، ولم يحصل بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك أتباعهم، فإذا تعصب أحدهم للرأي فإن ذلك يوجب العداوة، ويجب على المسلم أن يأخذ الأقوال التي توافق الدليل من الكتاب أو السنة، قال سبحانه: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء:59]، وقال سبحانه: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى:10] فيرجع في الخلاف إلى الكتاب والسنة ويؤخذ ما ترجح بالدليل .
(213) ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام:
والإسلام عبادة الله وحده لا شريك له، فهذا تدين به الملائكة في السماء والإنس والجن في الأرض، وهو دين الإسلام، ومعناه بمفهومه العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، كما عرفه شيخ الإسلام ونقله عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول، فالإسلام دين جميع الأنبياء وأتباعهم، فكل نبي دعا قومه إلى ذلك، وكل من اتبعه على ذلك فيعتبر مسلماً، سواء من أول الخلق أو آخرهم، فهو مستسلم لله بالتوحيد ومنقاد إلى الله بالطاعة، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم شتى ومختلفة بسبب حاجة البشر في كل زمان ومكان، ففي الحديث: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد"( ) وقال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة:48]، فالله يشرع لكل نبي ما يناسب قومه ويناسب مصالحهم، ثم ينسخ الله لأمة أخرى بحسب مصالحها، فمن كان على دين نبي قبل أن ينسخ فهو مسلم، فعبادة الله بما شرعه لذلك النبي، ولكن بعد البعثة المحمدية صار الدين واحداً ونسخ الله ما قبله، وصار الدين المعتبر دينه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحد أن يبقى على دين من الأديان السابقة؛ لأن رسالته ودينه عليه الصلاة والسلام عام لكل الخلق، وشامل لكل زمان ولكل جيل.
(214) قال الله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام) . وقال تعالى : (ورضيت لكم الإسلام ديناً):
فهو الدين الذي رضيه لعباده من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة.
(215) وهو بين الغلو والتقصير:
فالإسلام وسط بين الغلو، وهو: الزيادة والتشديد، وبين التقصير، وهو: الجفاء، فدين الإسلام وسط لا تشديد فيه ولا تحلل منه، فكلا الطرفين مذموم، والوسط خير، ولهذا قال سبحانه: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) [المائدة:77] وقال عليه الصلاة والسلام: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً( )، والمتنطعون هم المتشددون في أمور الدين، ولما قال نفر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.. قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الرابع: أما أنا فاعتزل النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إني أتقاكم لله وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"( )؛ لأن هذا تشديد ما أمر الله به، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة:87] يعني : من باب التدين، وقال سبحانه : (ولا تعتدوا) [المائدة:87] فالآية شملت الطرفين، فالدين وسط.
(216) وبين التشبيه والتعطيل:(/56)
أي : في العقيدة، بين التعطيل والتشبيه، بين تعطيل أسماء الله وصفاته، وبين تشبيه المخلوق بالخالق، والعقيدة وسط، فالمعطلة غلوا في التنزيه، فنفوا الأسماء والصفات، والمشبهة غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، والعقيدة، وسط، قال سبحانه: (ليس كمثله شيء) [الشورى:11] هذا رد على المشبهة، (وهو السميع البصير) [الشورى:11] هذا فيه رد على المعطلة، -ونحن معشر أهل السنة والجماعة- نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله، من الأسماء والصفات، ولا نعطلها ولا ننفيها، ولا نشبه الله بأحد من خلقه، بل: نقول أسماء الله وصفاته تليق به سبحانه وإن كانت هذه الأسماء والصفات موجودة في البشر، لكن الكيفية مختلفة، والصفة تابعة للموصوف.
(217) وبين الجبر والقدر:
مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية والقدرية، فالجبرية يغلون في إثبات القدر حتى يسلبوا العبد عن الاختيار، فيقولون: العبد ليس له اختيار، أفعاله كلها مجبور عليها، فهو آلة يحركه القدر، فصلاته وصيامه وأعماله ليس له فيها اختيار، فهو يحرك كما تحرك الآلة، وهذا مذهب باطل. والقدرية غلوا في إثبات اختيار العبد فنفوا القدر، حتى جعلوا العبد يستقل بأفعاله ويخرجونها من إرادة الله ومشيئته، وأن العبد له إرادة مستقلة، فقالوا: هو الذي يخلق فعل نفسه، وليس لله فيها تصرف، وهذا مذهب المعتزلة.
أما أهل السنة والجماعة فتوسطوا في هذه المسألة، وقالوا: إن العبد له اختيار ومشيئة، يفعل باختياره، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فأفعاله خلق الله، وهي فعله وكسبه، فهو الذي يفعل المعاصي ويفعل الطاعات، ولكن الله هو المقدر، فلذلك يعاقب على جرائمه، ويثاب على طاعته، ولو كان يفعل هذا بغير اختياره ما حصل على الثواب ولا العقاب، فالمجنون والصغير لا يؤاخذان، وكذلك المكره الذي ليس له اختيار لا يؤاخذ .
(218) وبين الأمن والإياس :
كذلك، هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو الوسط بين الأمن من مكر الله والإياس من رحمته، فهم يرجون رحمة الله، ولا يأمنون من مكر الله، ولا من العذاب والفتنة، لكن لا يقنطون من رحمة الله، فيجمعون بين الخوف والرجاء، وهو ما كان عليه الأنبياء، قال سبحانه: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) [الأنبياء:90]، فهؤلاء هم الأنبياء، فخوفهم من الله لم يحملهم على القنوط من رحمة الله، قال سبحانه: (إنه لا يأيئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87]، وقال سبحانه: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56]، وأيضاً: رجاؤهم من الله لم يحملهم على الأمن من مكر الله، قال سبحانه: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف:99].
فإبراهيم أبو الأنبياء يقول: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) [إبراهيم:35] فإبراهيم ما أمن على نفسه، ولكنه خاف الفتنة؛ لأنه بشر.
فلا يأمن الإنسان على نفسه ويقول: أنا رجل صالح، بل يخاف على نفسه، مع عدم القنوط من رحمة الله، قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) [الزمر:53،54].
فالواجب على الإنسان: أن يفعل أسباب الرحمة، وهي التوبة وإسلام الوجه لله سبحانه، عند ذلك يحصل على رحمة الله، فرحمة الله قريب من المحسنين، والإحسان سبب الرحمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو بين مذهب المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فإذا كان الإنسان مؤمناً بقلبه فلا تضره المعصية، فهؤلاء أمنوا مكر الله، ويقولون: الأعمال لا تدخل في حقيقة الإيمان، فيدخل الجنة وإن لم يعمل شيئاً عندهم، وهذا مذهب أفسد الدنيا، تحلل الناس من الدين بسببه، وقالوا: ما دام أننا ندخل الجنة، فلا حاجة إلى الأعمال، فيفعلون ما يشاءون.
وبين الوعيدية الخوارج الذين يُكفِّرون بالكبائر التي دون الشرك، ويرون إنفاذ الوعيد الذي ذكره الله على من عصاه، فإن الله توعد العصاة، لكن قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء:48]. فهم تحت المشيئة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الوسط.
والقول الحق مع أهل السنة والجماعة الذين توسطوا بين الأمن والرجاء، والخوف والقنوط، ولهذا يقولون: الخوف والرجاء بالنسبة للإنسان كجناحي الطائرة، ولابد من سلامة الجناحين، فكذلك الخوف والرجاء لو اختل أحدهما سقط، فلابد من التعادل كما يتعادل جناحا الطائر.
(219) فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً. ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه:
أي: ما ذكرناه في هذه العقيدة من أولها إلى آخرها، فهو ديننا معشر المسلمين، ونحن براء من كل من خالفه؛ لأنها عقيدة حق، وما خالفها فهو باطل.
(220) ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به:(/57)
هذا تأدب مع الله، لما بين عقيدة أهل السنة والجماعة، سأل الله أن يثبته عليها، فلا يكفي أن الإنسان يعرف العقيدة، فالعالم يَزَلُّ ويخطئ، فلا يغتر الإنسان بعلمه، ولا يأمن الفتن، فهل علمه يعادل علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ وقد دعاء الله فقال: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام* رب أنهن أضللن كثيراً من الناس) [النساء:35،36].
فالإنسان يسأل الله السلامة والعافية، فكم من عالم زل وانحرف عن الدين، وكم وكم.. فالأعمال بالخواتيم.
(221) ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة:
ما أضل الناس إلا الأهواء، قال تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [القصص:50]، وقال سبحانه: (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) [الجاثية:23] فالإنسان يسأل الله السلامة من الهوى، وأن يهديه الحق، وإن خالف هواه، وقال الله عز وجل في اليهود: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) [البقرة:87]، فالهوى خطير جداً.
(222) والمذاهب الردية:
وهي الفرق التي أخبر عنها عليه الصلاة والسلام بقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار…."( ) الحديث؛ لأنها خارجه عن الحق، إلا من سار على مثل ما سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فإنهم ناجون من النار، ولذلك سموا بالفرقة الناجية.
والمذاهب بمعنى الآراء.
(223) مثل المشبهة:
هم الذين شبهوا صفات الله بصفات المخلوقين.
(224) والمعتزلة:
هم الذين عطلوا صفات الله ونفوها، بحجة أنهم ينزهون الله، فغلوا في التنزيه، وهم أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وكانا من تلاميذ الحسن البصري، وكانوا يحضرون في حلقته، فسئل الحسن البصري عن صاحب الكبيرة، فأجاب بما يوافق الكتاب والسنة، وقال: هو تحت المشيئة، ولا يكفر بالكبيرة، وهو ناقص الإيمان، فعند ذلك أنكر عليه واصل وقال له: هو في منزلة بين المنزلتين، ليس بكافر ولا مسلم. فاخترع هذا المذهب الباطل، واعتزل مجلس الحسن، واجتمع حوله الناس الذين هم من جنسه، فكونوا جماعة سُمُّو بالمعتزلة.
(225) والجهمية والجبرية:
وهم أتباع الجهم بن صفوان( ) الترمذي، تبنّى مذهب شيخه الجعد بن درهم( )، وهذا أخذه عن طالوت اليهودي، الذي أخذه عن لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المذهب هو القول بخلق القرآن، ومن أقوالهم: الجبر؛ أن الإنسان مجبور على أعماله وغيرها، ولذلك نُسبوا إلى الجهم، وسموا بالجهمية، فالجهم أخذه من الجعد الذي كان في أواخر دولة بني أمية، وقتله خالد بن عبد الله القسري، كان خالد يخطب في عيد الأضحى، فقال: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنّه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. فنزل من على المنبر فذبحه؛ لأنه زنديق، فقتله واجب، وشكر ذلك أهل السنة والجماعة، ولذلك قال ابن القيم في النونية:
ولأجل ذا ضحى بجعدٍ خالدُ الـ قسري يوم ذبائح القربان
لقد شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فخلفه الجهم، فنُسب المذهب إليه؛ لأنه هو الذي أظهره، فجمع بين الجبر والتجهم.
ولهذا يقول الشاعر:
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
(226) والقدرية:
مثل نفاه القدر، وهم المعتزلة، يقولون: أفعالُ العباد خلقهم، وليست داخلةً في خلق الله ولا إرادته، ولذلك سُمُّوا بمجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا خالقين: خالق للخير، وخالق للشر، أما القدرية فأثبتوا خالقين متعددين مع الله.
(227) وغيرهم، من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة:
من الذين خالفوا الكتاب والسنة من سائر الفرق الضالة.
(228) ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأرديا. وبالله العصمة والتوفيق:
فنحن نبرأ منهم، ونعاديهم في الله، ونبغضهم؛ لأنهم أهل ضلال وباطل، فالواجب هجرهم وبغضهم، والرد عليهم وعلى باطلهم.
فنحن نتبرأ ممن يقول: إن كل الفرق تحت اسم الإسلام، ويجب أن نتغاضى عن هذه الأمور، أخذاً بحرية الكلمة وحرية الرأي، فالفرق كلها تدخل تحت الإسلام. وهذا مذهب باطل وخطير على الأمة، وحرية الكلمة والرأي مقيدة بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة. والفرق المخالفة كلها في النار إلا الفرقة التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والإنسان عُرضة للخطأ، العصمة والتوفيق والحول والقوة بيد الله، فالإنسان لا يضمن لنفسه النجاة، إنما يرجو الله ويخافه.
وبهذا انتهت هذه النبذة المباركة، المشتملة على جُمَل عظيمة من اعتقاد أهل السنة والجماعة، فنسأل الله أن ينفعنا بها، وأن يجزل لمؤلفها جزيل الثواب على ما بيّن، وعلى ما وضح وعلى ما كتب، وعلى ما نصح للأمة، فجزاه الله خيراً وسائر أئمة المسلمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/58)
التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك محاولة خطيرة تستهدف دائماً معارضة القول بأن هناك: ظاهرة تغريب، وغزو ثقافي، أو محاولة احتواء للفكر الإسلامي، أو سيطرة فكر وافد.
وتحاول هذه المحاولة أن تعتمد على أمرين:
الأمر الأول هو القول: "أين هذه المؤسسة التي تسمى التغريب" ذلك لأن هذه المؤسسة ليست بناءاً مجسماً له دار ولافتة مكتوب عليها مدرسة التغريب أو مؤسسته وذلك هو تساؤل السذج الأغرار قصيري النظر البسطاء الذين يعدهم التغريب أحسن أدواته وأكثرها نفعاً لأنهم يقومون بخدمته دون أجر، وعلى حساب النوايا الطيبة.
والأمر الثاني: هو مداواة التابعين العملاء الذين هم كالحية الرقطاء يخادعون الناس ويخفون حقيقة ولاءهم.
ومع الأسف أن الذين يشككون في التغريب هم من النوع الأول: أولئك الحمقى الذين طبع الله على قلوبهم، وأعمى أبصارهم.
ذلك أن التغريب لم يعد بعد هذا الوقت الطويل موضع تساؤل أو تشكيك. وربما كان كذلك في الثلاثينيات حيث كان يغطي العالم الإسلامي والأمة العربية ظلام كثيف وكانت هناك حقائق كثيرة ما تزال محجوبة، ولعل أهمها: بروتوكولات صهيون التي ظهرت في العالم كله عام 1902 م حتى عام 1952 م تقريباً وإلى ما بعد أن قامت إسرائيل في قلب الأمة العربية.
ولقد كشف هذه الحقيقة دعاة التغريب أنفسهم، ولعل أول وثيقة في هذا المجال هي كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه هاملتون جب مع جماعة من المستشرقين وأعلن فيه صراحة أن هدف البحث هو معرفة:
"إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب". وذلك للقضاؤ عليها.
ويمكن لقارئ الكتاب أن يستكشف مناهج التغريب واضحة، كالسهام تندفع في أعماق العيون الضالة والمضللة لتسقط عنها غشاوات الغباء والجهل. وجاء بعد ذلك كثيرون فأشاروا إلى ذلك وأوردوا المصادر والوثائق:
من العرب الدكتوران عمر فروخ والخالدي في كتابهم "التبشير والاستعمار" ومن الغرب: المؤرخ العالمي توينبي في كتابه (العالم والغرب).
وهناك عشرات الأدلة والوثائق التي تضع الحقيقة ناصعة أمام من يريدها لوجه الحق. ولا يمالئ فيها خاصة لأقطاب التغريب ودعاة الجنس وعمالقة الغزو الثقافي.
ومن يتابع كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" وهو سابق سبقاً بعيداً لكتاب هاملتون جب وقد ترجمه العلامة محب الدين الخطيب في جريدة المؤيد قبل أن يبدأ هذا القرن بسنوات وكان اسمه الحقيقي واضح الدلالة على الهدف هو: فتح العالم الإسلامي يجد أن القضية أكيدة واضحة وأن مخططاتها منسقة وموزعة على المؤسسات: مؤسسة المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات ومؤسسة الصحافة والثقافة عن طريق الصحيفة والمجلة والكتاب، ثم هناك مؤسسة أخرى أشد خطراً ظهرت من بعد هي مؤسسة القصة والمسرحية والشاشة والإذاعة المسمومة والمرئية.
وليس بعد ذلك دليل على وجود هذه الحقيقة: حقيقة التغريب ولها دعاتها وكتابها المنبثون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولعل من يطالع بعض الاجتماعات التي عقدت في إحدى دور الصحف الكبرى يجد أن الأمر واضح وجلي وليس في حاجة إلى دليل جديد أمام الإغرار الحمقى، الذين أعماهم حرصهم على أن يكونوا أتباعاً أذلة للأسماء اللاحقة من كتاب الجنس والقصة. وأن يكونوا ثماراً فجة في هذه الشجرة الملعونة التي شاخت وتحطمت.
ولاريب أن من يرى مؤسسات التبشير والاستشراق وما يصدر من شبهات وتحديات يحكم بما لايدع مجالاً للشك بوجود هذه الظاهرة وحركتها الدائبة.
إن مفهوم مصطلح التغريب في عشرات من تعاريفه إنما يعني: خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه لتحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الإسلامية.
ولقد ذكر المبشرون والمستشرقون أن هدفهم هو خلق أجيال تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية وأبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه. ولقد عملت حركة التغريب في موالاة عجيبة ودأب بالغ على تدمير الشخصيات العربية الإسلامية الباهرة وفي مقدمتها الرسول الكريم وصحابته وأبطال الإسلام، ومفكريه كما ركزت على إحياء النماذج الشاذة والإذاعة بها أمثال الحلاج والسهروردي وبشار وابن الراوندي.
ولقد جرت هذه المحاولات من منطلق براق هو الصحف الضخمة والمطبوعات الأنيقة، مع هالة الأسماء وبريق الألقاب وضجيج الشهرة.
واستخدمت أسلوب الأحكام المسبقة، وخلق الافتراضات ثم بناء نظريات على أساسها.
ولقد كان دعاة التغريب هم أكثر الناس إفساداً للمنهج العلمي الذي يدعو إلى التحذير من الحماسة والتقريرية والعاطفة والتعميم فسقطوا في هذه الأخطار وقارفوا هذه المحاذير، وإن واحداً منهم لم يستطع أن يصدع بكلمة الحق والإنصاف، وكانت كتاباتهم جميعاً مشوبة بذلك الاستعلاء والعدوان وعبارة الحقد وأسلوب التعصب.(/1)
ولعل من أخطر محاولات التغريب هي محاولة وضع البديل في مواجهة الإصيل، والعمل على تقديم بدائل سريعة ذات مظهر لامع، وتحوطها هالة من الضجيج لكل فكرة أصيلة في محاولة لتحويل الرأي عنها في ظل طوابع من الإغراء والتزييف. وتحت اسم البحث العلمي والعبارات البراقة الخداعة.
وليست هذه الطريقة جديدة على الفكر الإسلامي، ولكنها سنة لكل العصور، ولعل أبرز ملامح تاريخ الفكر الإسلامي هو ذلك الكفاح الدائب دون هيمنة الفكر الوافد أو العقلية الخارجية التي سلطها عليهم اليونان والهنود والمجوس واليهود، ولقد بدت هذه المقاومة في صورة ملحمة رائعة كان أعلام المسلمين ومفكريهم ونوابغهم جيلاً بعد جيل يقاومون دون السماح لشخصية الإسلام الحضارية والفكرية ذات الطابع المتميز تحت اسم التوحيد أن تذوب أو تتلاشى في شخصية حضارية أخرى.
ولقد ظل المسلمون قادرون على ذلك في مجال الفكر في العصر الحديث بل لعلهم أقدر عليه في مجال الحرب والسلاح، وأن هذا الرفض ليتجلى في أروع صورة في صمود الجزائريين ومقاومتهم فناء شخصيتهم العربية الإسلامية.
ولقد ظل أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث يوالون الدق على الطبول في مواجهة أخطر المحاولات الدائبة المستمرة لتحريف الفكر الإسلامي (أصوله وتعالميه وأحكامه) تارة بالنقص منها وأخرى بالزيادة فيها وثالثة بتأويلها على غير وجهها.
ولقد كان من أكبر الأخطار التي واجهتنا دون إرادة حرة، هي محاولتنا فهم كثير من الأمور من خلال مناهج الغرب ومقاييسه، هذه المناهج والمقاييس التي كونها الغرب من خلال ظروفه الاجتماعية وتحدياته التاريخية وتركيبه النفسي والاجتماعي.
إن هناك حقيقة لا سبيل تجاوزها أو إنكارها هو أن في العالمن ثقافتين: إسلامية وغير إسلامية ولا يمكن أن يلتقيا في إطار واحد، يخطئ البعض حين يظن أن "التغريب" هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب، وإنما الحقيقة أن التغريب هو محاولة خلق (دائرة فكر) تهدم إرادة المسلمين والعرب وتنتقص فكرهم وتشيع فيه الشبهات والمثالب، ثم لا تدفعهم إلى أي جانب من جوانب البناء أو النهضة مستمدة من أي فكر آخر.
ومن شأن دائرة هذا الفكر اللقيط، أن تحول بين المسلمين وبين أي حركة أو نهضة، وإنما تمسكهم ليدوروا في هذه الدائرة المغلقة، حتى ينتهوا، وتجعلهم يفكرون من داخل دائرة مادية خالصة، معزولة تماماً عن العقيدة الإيجابية المتكاملة التي علمهم إياها الإسلام وهداهم إليها منهاجاً للحياة قادراً على التقدم من ناحية وعلى مقاومة الغزو من ناحية أخرى.
وهم منذ ركنوا إلى هذه الدائرة الصماء فقدوا كل قدرة على الحركة الأصيلة، ذلك أن تركيب الفكر التغريبي الوافد، إنما استخدم أعظم ما استخدم تضارب المذاهب الغريبة وصراعها وأحيا في نفس الوقت كل ما أنشأته الشعوبية والزندقة والباطنية في الفكر العربي الإسلامي من مفاهيم وشخصيات، لتقيم من هذا كله تلك الدائرة التي تقتل النفس العربية قتلاً وتحول بينها وبين الحياة والحركة والبنالء والتقدم جميعاً في الذل والظلام والدوار حول وهم معلق وشبح كاذب.
ونحن نعرف أن شخصيتنا تستمد قوتها من قيمنا، فإذا انحرفنا عن هذه القيم فقدنا الطريق، وتهنا في البيداء وذلك هو ما قصد إليه التغريب واستطاع أن يحققه إلى حد كبير، ولعل أبرز محاولات التغريب هي الحيلولة دون قيام خط التقاء بينل العناصر والشعوب التي يجمعها فكر واحد في الأصل مصدره القرآن واللغة العربية ومنهج محمد بن عبد الله، وذلك عن طريق استهلاكها في الإقليميات والأمميات والمفاهيم التي تفصل القيم وتمزق العناصر التي وحدها الإسلام في كل متكامل جامع.
فإذا أضفنا إلى هذا محاولة هدم المجتمع وتقويضه بنشر الإباحية عن طريق القصة، وفلسفات الوجودية والهيبية وغيرها عرفنا إلى أي مدى تجرى المحاولة الخطيرة.
بل إن ما ألقي إلى العرب والمسلمين من مفاهيم الحرية والتقدم والديمقراطية والعدل الاجتماعي وغيره، إنما كان في الأصل هو "عطاء" الإسلام للبشرية كلها وللحضارة أساساً، قد أعيد إليها وقد شابه اضطراب كبير وإن غلف بأغلفة براقة لامعة.
ولعل أخطر محاولات التغريب إنما ركزت على تفريغ العقل والقلب العربي الإسلامي من القيم الأساسية المستمدة من التوحيد والأخلاق والإيمان بالله، ودفع هذه القلوب والعقول عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم والجراثيم عن طريق التعليم والصحافة والكتاب والمسرحية والفيلم والأزياء والملابس.
ومن ثم خرجت هذه المؤسسات جميعاً ذلك الجيل الذي حمل دعوة لالهدم وسار بها تحت اسم التقدم والحضارة وعمد إلى متابعة المستشرقين والمبشرين في تحريف التاريخ الإسلامي وتشويه مبادئ الإسلام وثقافته وانتقاص الدور الذي لعبه في تاريخ العالم، مع خلق شعور بالنقص في نفوس المسلمين.(/2)
وفي عشرات المجالات والقضايا عمل "التغريب": في مجالات التفرقة بين الإسلام والعروبة، وفي النظرة الجزئية، والفصل بين الدين والمجتمع، واللغة والتاريخ، وعن طريق إحياء الروابط القديمة التي أبادها الإسلام وقضى عليها نهائياً.
ثم عمد إلى خلق شبح كريه أسماه القديم والماضي والتاريخ مع أمة واحدة من أمم الشرق والغرب لا تستطيع أن تدعي أنها انفصلت في أي نهضة عن ماضيها وتاريخها.
وأكبر الدعاوي الباطلة التي يثيرها التغريب هي عالمية الثقافة، والحضارة البشرية، ووحدة الفكر البشري وكلها دعوات لها دواخلها وغاياتها المريبة، التي تتمثل في مفهوم واضح هو "تذويب" الفكر العربي الإسلامي و "احتوائه" وصهره في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي السياسي المسيطر.
ونحن نعلم أن لكل أمة ثقافتها وقيمها وذاتيتها وفاهيمها وتراثها ومزاجها النفسي الذي شكلته القرون المتطاولة والعقائد والقيم وأنه لا سبيل أن تنصهر إلا الأمم الصعيفة الذليلة، أما الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي فإنه من المستحيل أن ينصهر أو يذوب في أي معدة مهما كانت، ذلك لأنه أعمق جذوراً وأقوى قوة من كل قوى الأرض.
يمكن أن توصف حركة الغزو الثقافي الحديثة التي بدأت تعمل في العالم الإسلامي منذ سيطرة الاستعمار الغربي، أنها امتداد متطور لهذه الحركة التي يحمل لواءها خصوم الإسلام وأعداؤه في كل عصر لإخراجه من قيمه ولإتاحة الفرص للغزو الأجنبي في السيطرة والاستعمار.
وقد ارتبطت حركة الغزو الفكري "التغريب" بالاستعمار ارتباطاً عضوياً وليس ذلك شكلياً إن حركة "تغريب الشرق" هي دعوة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها ولها قادتها الذين يقومون بالإشراف عليها. وهي حلقة من مخطط واسع في تأكيد الاستعمار ودعمه قوامها عمل استعماري فكري بعيد المدى قصد به القضائ على معالم شخصية هذه الأمة وتحويلها إلى صورة غربية الملامح لتخليصها من القيم والمثل والتراث الذي يتصل بها والذي كان عاملاً على تكوينها خلال الأجيال الطويلة فقد كان الاستعمار يفهم أنه بعد أن سيطر على العالم الإسلامي بجيوشه وقواه العسكرية ونفوذه السياسي لابد يوماً أن ينسحب فكان لابد من وضع مخطط دقيق لإبقاء نفوذه في المناطق التي احتلها وكان لابد له أن يبقى حتى تتكون له طلائع تخلفه من أهل الأقطار نفسها، يؤمنون بفكره، ويسيرون في اتجاهه، ويخدمون مصالحه يكونهم عن طريق التعليم في مدارسه، ووفق أهدافه، وتكون أمانتهم له أكثر من أمانتهم لأوطانهم.
وليس كل من تثقف بالغرب، أو اتصل بالمستشرقين ودوائر الفكر الغربي كذلك. وليس كل من اتصل بالغرب وآمن به استمر على إيمانه، فإن الحقائق لا تلبث أن تنكشف عن زيف الاستعمار ومغالطته، فلا يلبث الأمر أن يظهر أن هناك خداعاً قوامه كلمات براقة، وشعارات تقول بتنوير الشعوب وتمدينها وتدعو إلى الحرية أو الإخاء أو المساواة أو ما شابه ذلك، ثم لا تلبث الأحداث أو تثبت تعصب الغرب وتناقضه، وائتماره بهذه الأمة وفرض سلطانه بالحديد والنار، هناك تتحول الأفكار عنه ويكفر به من كان قد خدع يوماً.
ولسنا في هذا الرأي نذهب إلى الغض من شأن الفكر الغربي أو نصرف وجوهنا عنه بل على العكس من ذلك، نحن لا نراه فكراً غريباً وإنما نراه فكراً إنسانياً في الأساس وأن انحرف في بعض مفاهيمه ونحن لا نقفل أبوابنا أمام الثقافات العالمية شرقية وغربية فقد شاركنا فيها، وكان لنا دورنا الكبير في بناء هذه الحضارة، دورنا غير المنكور عند المنصفين من كتاب الغرب ومفكريه.
ولكننا قبل أن نفتح الأبواب لكل الثقافات لابد أن نكون من متانة الاستعداد النفسي والذهني والروحي بحيث لا تبتلعنا ثقافات الأمم ولا تحولنا وجهة غير طريقنا، ولا تفسد معالم شخصيتنا الأساسية الواضحة.
فلقد نقلت أوربا ثقافتنا الإسلامية وأقامت عليها أسس حاضرتها ومع ذلك لم يتحجول وجهها عربياً أو إسلامياً أو شرقياً.
كذلك نحن، أمة مقوماتها وكيانها ووجهها ذو الملامح الواضحة، فلابد أن يبقى هذا "الأساس" ثم لنأخذ ما نشاء من حضارات الأمم وثقافاتها، وما يزيد شخصيتنا قوة وحياة ويدفعنا إلى الأمما في ركب الحضارة.
ولعل "حركة التغريب" لم تكن قاسية إلا بالنسبة لهذا الأمر فقد كانت صيحتها على لسان دعاتها وأتباعهم من كتابنا، إن الحضارة الغربية كل لا يتجزأ وأنه لابد من أخذها جميعها أو تركها جميعاً وهذا رأي مدخول فيه من الخطأ والاستهانة بالفكر نفسه ما فيه. فما من أمة تستطيع أن تأخذ كل ما عند الأمة الأخرى، ولقد عاشت الأمم تتقارض الحضارات وتقتبس الثقافات دون أن تتحول عن طوابعها الأساسية.(/3)
ولقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي يعرفان أن السيطرة الكاملة على هذه الأمة أمر مستحيل فإن لها من مقومات شخصيتها القويةل الصامدة العنيدة، ومن أسس فكرها العربي الإسلامي القرآني ما يحول دونها ودون الاستسلام أو الركوع أو الخضوع لأي قوة خارجية أجنبية، فكان لابد من الحملة على هذه المقومات للقضاء عليها وتحويل وجه الأمة إلى قيم أخرى تدمر كيانها وتفرض عليها التسليم للقوى الخارجية في أن تسود وتمتد وتتوسع، وبذلك يبقى الاستعمار حياً في صورة أخرى من صور النفوذ الفكري.
إذن فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها، والعمل على تحطيم هذه القيم بالتشكيك فيها وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعاً.
ولقد صور لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهلوندى في العالم الإسلامي حين قال: "إن ىالشبان الذين يتلقون علومهم في إنجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين".
وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدارس وجامعات وفي البعثات الموجهة إلى أوربا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات.
وفي هذا، قال جبران إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيراً لفرنسا والشاب الذي لبس قميصاً من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق، بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي لفتح أبوابها لثقافة بلادها. وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة.
وهكذا كان "التغريب" عملاً خطيراً دقيقاً قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد أخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع. وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسومة، وفي الأدب بث فكر جديد قوامه القصص وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا وتصم تاريخنا بالضعف وماضينا بالذلة وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود.
ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذه الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية.
كان هدف التغريب واضحاً هو محاولة قتل شخصيتنا، ومحو مقوماتها وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها.
وفي هذا المجال برزت الدعوة إلى التحرر من طابع العروبة وطابع الدين وجرت الشعارات الجديدة في الارتباط بحضارات البحر الأبيض وبأن مصر جزء من أوربا، وبرزت دعوات الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والأشورية في العراق، وبرزت النعرات القديمة باسم مسيحي ومسلم، وعربي وبربري، وعربي وكردي، وكان الاستعمار هو الذي يحمل لواء هذه الدعوات ويثيرها ويقلب جمرها، ويخرجها من كهوف الماضي ليمنحها الحياة ويجمع حولها بعض أعوانه عن طريق الفكر والكتابة بغية تقسيم الأمة.
ولم يمض وقت طويل حتى اعترف كتاب الغرب بحركة التغريب وجاءوا يبحثون مدى ما وصلت إليه وما حققته من هدف. وقال جب في كتاب "وجهة الإسلام" إن حركة التغريب كانت بعيدة المدى بإنزال الإسلام عن عرشه في الحياة الاجتماعية.(/4)
وقد عملت "حركة التغريب" في جملة ميادية، بدأ العمل فيها غربيون نزلوا إلى المعركة قمة، ثم أسلموا مقاليد الأمور من بعد إلى كتاب من العرب والمسلمين، حتى يبعثوا الثقة في نفوس المواطنين إلى الصوت الأليف الذي يجد الصدى، وفي كل ميدان من ميادين العمل كان النفوذ الأجنبي يجد من يعاونه من أبناء الأوطان، وإذا كان هجومه على الدين قاسياً، فإن من المؤسف أن نجد كثيراً ممن حمل لواء هذا الهجوم من الذين ثقفوا أول الأمر ثقافة إسلامية وكانت اللغة والدين في الأغلب هما الميدانان الكبيران للعمل البعيد المدى، وإن كان التغريب لم يترك ميداناً دون أن يوغل فيه ويسممه ويبعث فيه الشك.
وكانت كلمة "حرية الفكر" والتقدمية، ومقاومة الرجعية، والتطور من الكلمات البراقة التي لعبت دوراً كبيراً في خداع الجماهير.
واستطاع التغريب أن يجد المنافذ المرنة الماكرة إلى ما يريد دون أن يصطدم بالعقائد أو يواجه المواقف الحرجة.
وإن كان المبشرون قد هاجموا المقومات صراحة، وقاموا بعملهم في عنف أول الأمر، فإنهم لم يلبثوا أن تحولوا عن هذه الخطة، واختفوا من المسرح، واستبطنوا أهدافهم، وحولوها إلى صورة أخرى أكثر دقة ومكراً. فبرزت أحاديث صورية فيها تمجيد للدين وللغة ولمقومات الأمة فإذا تخدرت أفكار القراء، ووثقوا بالكاتب وكتاباته، بدأت عملية التشكيك الخفي، المدخول الدقيق، بل إن بعض الكتاب الذين عملوا مع التغريب وهاجموا المقومات الأساسية في أول الأمر ولم يلبثوا بعد قليل أن تحولوا مظهرياً، وخاضوا الحديث في أقدس مقدسات الأمة، عاملين على كسب الثقة الشعبية العامة في هذا المجال، حتى يتأتى لهم من بعد أن يحققوا في الخفاء ما يهدف إليه دعاة التغريب، لقد اختفت المعركة من على المسرح ودخلت إلى الكواليس، وأصبح مجال العمل، هو مناهج التعليم نفسها، أو مقالات الصحف أو فرض المذاهب الفكرية الغربية، وتأكيدها والاختفاء وراءها. وخاصة ما يتصل منها بمقاومة القيم العربية الإسلامية، كالمذاهب المادية والنظريات الفلسفية والنفسية التي تدمر قيم الإنسان وتعريه وتكشفه على نحو يقلل من كرامته، وفي هذا المجال ظهرت عشرات من النظريات والمذاهب والفلسفات المضطربة الذاهبة إلى كل مجال، وكان من شأن إذاعة هذه المذاهب والنظريات إحداث بلبلة فكرية من شأنها أن تقضي على الإيمان بالقمومات الأصلية. وتدفع الفكر العربي الإسلامي في متاهات وتخبطات.
بل إن الخطط التي قدرها الغربيون إزاء موقف المسيحية والكنيسة حين حاولت أن تقف أمام النهضة والحضارة، فقد حاولوا نقلها إلينا مع الفارق البعيد بين موقف الإسلام من الحضارات والنهضات وموقف المسيحية، فلقد كان الإسلام قادراً دائماً على مواجهة كل تطور، وفيه من السماحة والتفتح والاستجابة ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، فكان هذا الاتجاه في نقل موقف الغرب من جمود الكنيسة ليس إلا لوناً من هذه البلبلة الفكرية التي هي قوام دعوة التغريب.
ولم تكن حملات التغريب على القيم والمقومات والتاريخ واللغة والدين في الشرق قائمة على أساس علمي على نحو ما يذهب إليه أسلوب البحث العلمي، وإنما كانت حملات يغلب عليها الهوى والتعصب وتسيطر عليها ريح الحقد والاستعلاء وخلق الفوارق البعيدة بين الجنس الأبيض وغيره من الأجناس مع سيطرة فكرة التفرقة بين أصحاب الحضارة وبين الشعوب التي كان لها دور من قبل في رحمل الحضارة، حين كانت أوربا تعيش في الوحل والظلام، فإذا أضيف إلى هذا ذلك الإصرار العجيب على إنكار فضل العرب والمسلمين على الحضارة على نحو فيه مغالطة وإنكار لوقائع التاريخ نفسه تبين إلى أي مدى يذهب دعاة التغريب، فآسيا هي المتبربرة، وأوربا هي المتحضرة وليس أكذب ولا أبعد عن الحقيقة ما يحاول الغربيون أن يقولوه في هذا المجال من أن التاريخ والحضارة قد بدأت من أثينا ومرت على روما.. ثم اختفت ألف سنة لتظهر من جديد في حركة النهضة، أما ما قبل النهضة فلا شيء، وفي هذا الرأي ما فيه من الخطأ ومجافاة الحقيقة والواقع.
فإن قبل أثينا كانت حضارات النيل والفرات، وقبل النهضة كان المسلمون والعرب في دورهم الضخم البعيد المدى حين حملوا لواء الحضارة والفكر، وترجموا آثار اليونان وزادوا فيها وأضافوا إليها وحققوا الأسس الكبرى التي قامت عليها الحضارة فيما بعد.
والحق أن حركة تغريب الشرق قامت على المغالطة والتضليل، ومحاولة مسخ القيم والقوميات العربية والإسلامية وإدخال قيم ومقومات جديدة تهدم شخصيتنا وتصيرنا مسخاً لا هو من الشرق ولا هو من الغرب ثم هي بعد ذلك تنكر دورنا وتحاول أن تغض من شأن لغتنا وتاريخنا وتراثنا على نحو لا يصمد أمام البحث العلمي الصحيح، وهو ما تكشف بتوسع في مختلف مجالاته وجوانبه.(/5)
استهدف التغريب والغزو الثقافي للإسلام والعالم الإسلامي والأمة العربية هدفاً واضحاً مقصوداً لذاته هو الاستسلام للسيطرة الاستعمارية عن طريق تحلل القيم وتحرريف المفاهيم وإفساد الجذور والأسس التي تقوم عليها الذاتية العربية الإسلامية. وبذلك ينصهر المسلمون والعرب في الغرب وحضارته وثقافته انصهار الذليل التابع، الذي يعجب بها ويوليها وتابعها ويتطلع إلى مصادقتها والتبعية لها تبعية كاملة.
ولاشك أن تحقيق هذا الهدف هو أمر بعيد المنال، بالنسبة لأصالة الإسلام وفكره ومقوماته وجذوره العميقة الضاربة في التربة العربية الإسلامية خلال خمسة عشر قرناً كاملة ومع ذلك فقد عمد الاستعمار إلى تنفيذ مخطط ضخم في سبيل التغريب والغزو الثقافي، قام أساساً على موسيات ضخمة تحمل لواء العمل في مجال التبشير والتعليم والصحافة والاستشراق وكلها تناسق بين خططها وأهدافها لتحقيق غاية واحدة، هذه الغاية هي السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي التي عجزت عنها الحروب الصليبية والحيلولة بين الإسلام وأهله وبين القوة والسيطرة والقدرة على الحياة والحركة تخوفاً من خطر مفزع متوهم يتمثل في انقضاض الإسلام على الحضارة الغربية وإسقاطها.
وقد سار الغزو الثقافي متقدماً حملة الغزو العسكري والسياسي ومرافقاً لحملات الغزو التجاري والاقتصادي، عامداً إلى مهاجمة الإسلام واللغة العربية والقرآن والرسول والتاريخ الإسلامي والقيم الأساسية في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية.
كما حرص الاتعمار من ناحية أخرى أن ينقل إلى العالم الإسلامي والأمة العربية الجوانب المضطربة من حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات مكن حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات من التحديات من خلال الفلسفات المتضاربة الإلحادية والإباحية وإذاعتها.
واتصل ذلك بالنظريات ذات المظهر العلمي البراق التي أوجدها الاستعمار ليحاول إقناع الشعوب الملونة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وإن الرجل الأبيض هو الإنسان الذي خصته العناية الإلهية بتحضير الشعوب المتخلفة، وهي نظريات تبين من بعد أنها قد سقطت في بلادها، ولم تجد من يقبلها أو يعتنقها ولكنها نقلت إلى بلادنا لإثارة البلبة والاضطراب ضمن مخطط التغريب المتعدد الأضلاع.
والواقع أن هذه الفلسفات والمذاهب الغربية التي قذف بها الفكر الإسلامي لم تكن قائمة في الغرب على هذا النحو من التعدد في وقت واحد، وإنما جرت خلال فترة طويلة تمتد إلى أكثر من أربعمائة عام منذ عصر النهضة إلى اليوم ولكن التغريب أراد أن يدفع بها مرة واحدة إلى الشرق رغبة في إثارة الاضطرابات والشكوك وزلزلة العقائد ومع ذلك فقد استطاع الفكر الإسلامي وهو في مطالع اليقظة أن يواجه هذا الإعصار في قوة وأن يدحضه ويرده وكاد أن يقضي عليه لولا بقاء النفوذ الأجنبي المؤيد لحركة التغريب المسيطر عن طريق أعوانه وقد تمثلت هذه الحملات في تيارات متعددة أهمها:
إشاعة قضية الأجناس السامية والآرية التي تستهدف الانتقاص من شأن العرب.
مهاجمة لالدين بعامة والإسلام بخاصة واتهامه بأنه سبب التخلف.
انتقاد العرب والمصريين واتهامهم بأنهم ظلوا مستبعدين لليونان والرومان.
إنكار فضل العرب على الحضارة الحديثة.
الحملة على العقائد والقيم.
الدعوة إلى التجزئة والإقليمية وإحياء الدعوات القديمة الفينيقية الفرعونية.
الدعوة إلى ما يسمى ثقافة البحر الأبيض.
إذاعة الفرقة والخصومة بين الأديان والأجناس: البربر والعرب، الدروز والموارنة، المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعية.
وقد اصطنع التغريب في سبيل تحقيق أهدافه مؤسسات عدة أهمها "التبشير" وهي مؤسسة ضخمة عمل بها عدد كبير من المسلمين في بلاد الشرق، بإنشاء المدارس والمستشفيات والمعاهد التي اجتذبت أبناء البلاد وفق منهج مرسوم لإخراجهم من الإسلام، وكانت مؤسسة الاستشراق هي المصنع الذي يمد حركة التبشير بالمادة الخام التي تذيعها عن طريق الكتب والصحافة ومعاهد التعليم.
وقد عمد التبشير إلى استغلال الطلاب والمرضى، وتحويل عقائدهم والتأثير في مفاهيمهم وتحطيم معنوياتهم وتنشئة أجيال ممسوخة مبلبلة العقائد، مضطربة الثقافة، منكرة لقيمها وتراثها ولغتها وتاريخها ويمكن القول بأن المستشرقين هم طلائع المبشرين فقد غلب على معظمهم الهوى والتعصب، فلم يطبقوا المذهب العلمي الذي نادوا به في أبحاثهم، وكان جلة المستشرقين على اتصال دائم بوزارات المستعمرات.(/6)
وقد استهدف الاستشراق خدمة الاستعمار عن طريق العلم، وأسس جميع النظريات الاستعمارية التي قامت على التهوين من شأن الشرق والعرب والإسلام، وكلها نظريات انخدع بها باحثون أو خدعونا بها ورددوها في مؤلفاتهم، ولعل أهم ما ركز عليه الاستشراق والتبشير هو "الإسلام والنبي محمد"، فلقد أضافوا إلى مفاهيم الإسلام وتاريخ الرسول كثيراً من الافتراءات والإدعاءات الباطلة، وكان مرجليوث، وفنسنك، ولويس شيخو، وهنري لامانس من أشد المستشرقين تعصباً ضد الإسلام ورسوله.
وقد كشف الباحثون المنصفون أخطاء المستشرقين وسوء نواياهم، من أمثال: حسين الهراوي، وعمر فروخ، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، ورشيد رضا، وقد استهدف مخطط التبشير أهدافاً أساسية واضحة.
أولاً: تشويه الثقافة الإسلامية والتراث العربي والإسلامي.
ثانياً: إفساد الخصائص المعنوية في البلاد العربية والإسلامية.
ثالثاً: خلق تخاذل روحي وشعوري بالنقص.
رابعاً: توسيع شقة الخلاف بين الطوائف والمذاهب وإثارة النزاع بين الأديان.
خامساً: إخضاع العالم الإسلامي والأمة العربية للاستعمار الغربي.
سادساً: إعداد شخصيات عربية تستسلم ولا تقاوم النفوذ الأجنبي.
وقد استطاع التبشير عن طريق التعليم تزييف التاريخ الوطني الإسلامي والعربي والطعن على العرب والإسلام.
ودفع المبشرون أعوانهم وتلاميذهم الذين خرجتهم معاهد الإرساليات إلى الصدارة في مجال الكتابة والصحافة وإثارة الشكوك والاتهامات وإذاعة الإلحاد والإباحة، ورمى اللغة العربية والإسلام بكل نقيصة.
وكان أبرز ما ركز عليه التبشير هو محاولة إخضاع الإسلام لمذاهب الفكر الغربي، وذلك بانتقاص حقيقة الإسلام التي تقوم على أنه عقيدة ونظام اجتماعي في آن واحد.(/7)
التغريب في ديار الإسلام
محمد حسن يوسف
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1]
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة ... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم – لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم .[2]
مظاهر التبعية
إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:
إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ – مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " Royal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " – ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!
ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.
وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير " ... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.
وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.
وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.
وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.
كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.
خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام(/1)
إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.
فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.
إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.
وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].
يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].
إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث ( والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة ) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) ... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].
سبل العلاج
? إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس " ... الخ.(/2)
? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.
? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.
? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.
? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]
? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.
? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.
21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004 ).
-------------------
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.
[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.
[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 – 56.
[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 – 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.
[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.(/3)
التغيير الاجتماعي والفكر الإسلامي المعاصر
عبد الله بن ناصر الصبيح 8/12/1426
08/01/2006
لعل من العجب أن تنزل آيات كثيرات تتحدث عن التغيير، وتُروى أحاديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن التغيير ثم نجد غفلة كثيرين عن تناول هذا الموضوع. وقد سرني تناول الشيخ سلمان حفظه الله لهذا الموضوع.
الله سبحانه وتعالى تحدّث عن التغيير الاجتماعي في عدد من الآيات منها قوله :( ...إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...). [الرعد: من الآية11].
وقال:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...).[غافر: من الآية51].
وقال:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). [غافر:82]. وقال:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً). [الإسراء:16]. وقال:( لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ...)[سبأ: من الآية15]... إلى قوله:(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ...).[سبأ: من الآية19].
ومن الأحاديث:
حديث المجدد:"إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها".
وأحاديث أخرى بعضها ترتب عقوبات محددة على بعض الأعمال كعقوبة منع الزكاة وعقوبة شيوع الفاحشة.
وبعض من تناول هذه النصوص تناولها من غير أن يستحضر التفاعل الاجتماعي؛ فقصر تناوله عن كثير من العوامل المرتبطة بالظاهرة أو حال التغيير التي تناولها النص، ولهذا كانت تلك الشروح غالباً منفصلة عن الواقع الاجتماعي. ولعل أفضل من تناول التغيير من علمائنا ودرسه دراسة واسعة العلامة ابن خلدون -رحمه الله- في مقدمته، واستطاع بدراساته تلك أن يؤسس لعلم جديد هو علم العمران الذي عُرف فيما بعد بعلم الاجتماع.
والعلم بالتغيير ضروري للفقيه من أجل إنزال الحكم على الواقعة، ودارسو الفقه الأكثر فقهاً بالتغيير هم الأقوى ملكة فقهية والأقدر على الاجتهاد للنوازل. ولعل القارئ يلحظ أن الفقه تحوّل عند البعض إلى نصوص جامدة وقوالب ثابتة من غير اعتبار للمكان والزمان، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن دراسة أحوال المجتمع وما يمر به من تحوّلات، وهذه الدراسة هي ما نعنيه بدراسة التغيير الاجتماعي. وابن القيم -رحمه الله- كان واعياً بذلك فنصّ في كتابه "إعلام الموقعين" على تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
والعلم بالتغيير ضروري للداعية والمصلح من أجل بناء المجتمع، فلا يصطدم مع الناس في دعوته، ولا يستبطئ الإصلاح واستقامة الناس على الحق.
دارسو التغيير الاجتماعي يفرقون بين أمرين: التغير الاجتماعي، والتغيير الاجتماعي. والتغير يتصف بالتلقائية، وهو سنة ثابتة في المجتمع، فما من مجتمع إلا و هو يتغير. مثلاً الأفراد يمرون بمراحل من أعمارهم فهم ينتقلون من ضعف إلى قوة، ثم إلى ضعف وشيبة كما أخبر الله سبحانه، وكذلك الدول تنتقل من حال ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف فتشيخ وتهرم. والأعمال الإدارية تنتقل من البساطة إلى البيروقراطية؛ إذ تكثر الضوابط والاحترازات، وتتعدد طبقات الهرم الإداري. أما التغيير فهو تغير اجتماعي مخطط له، أي أنه يتجاوز التلقائية في الحركة والعمل إلى القصد في التغيير وفقاً لخطة محددة.
ودراسات التغيير الاجتماعي مهما تنوّعت فهي تتناول قضية جوهرية، وهي التفاعل بين الطاقات البشرية، والإمكانات المادية، ومقدار المنجزات الناتجة عن هذا التفاعل. والحديث عن الطاقات البشرية هو حديث عن كيان معقد يمتزج فيه الجانب النفسي المتمثل في الإرادة والقيادة والفكر، والجانب الاجتماعي المتمثل في التنظيم وشبكة العلاقات الاجتماعية، والجانب الإداري ومعه التشريعات المنظمة للسلوك والحركة الاجتماعية. والجانب المادي هو كيان أيضاً يمتزج فيه ما هو متاح من المادة مع ما هو ممكن، وهذا يتفاعل بدوره مع مستوى التقنية.
وعلماء التغيير متفقون الآن على أن الأدوات ليست محايدة بل تحمل معها مضامين ثقافية وقيماً تساهم في التغيير الاجتماعي، والأدوات كما هو معلوم صورة من صور المادة التي تتفاعل معها في إحداث الفعل الاجتماعي.(/1)
إن أكبر خطأ يرتكبه المفكر حينما يفكر بعيداً عن مفاهيم التغيير الاجتماعي، في هذه الحالة يصبح فكره حاداً ومصطدماً مع الطبيعة التلقائية للمجتمع. المجتمع من طبيعته أنه يتحرك .. ينمو .. يضعف ..يقوى .. يتطور.. إنه كيان حيّ متحرك. . وهذا النوع من المفكرين يفترض أن المجتمع كائن جامد غير قابل للحركة، ويفترض أن مقولاته الجاهزة، وما يحمله من أنماط معينة من السلوك هي التي ينبغي للمجتمع أن يأخذ بها. لا! ليس الأمر كذلك، إن هناك تفاعلاً بين المجتمع والفكر. وقد أدرك علماؤنا السابقون ذلك فقالوا: "المشقة تجلب التيسير" في لفتة منهم إلى بعض أحوال التغير الاجتماعي. والسلوك الاجتماعي من عادته أنه يتراوح بين الضبط والارتخاء، أو إن شئت فقل: إنه في حالة صراع بين الضبط السلوكي وبين التحلل من القيود. والمفترض أن يكون الفكر ومنه فتوى الفقيه ضابطاً للسلوك الاجتماعي في انحداره، فلا يدعه يتفلت من ضوابطه. والتيسير ليس هو التيسير الآني فقط فهذا أحد معانيه، وأهم منه ما يؤول إليه الفعل في المجتمع، ومن الأفكار والفتاوى ما يظنها أصحابها تيسيراً على الناس، ولكنهم بعد فترة يكتشفون مقدار الحرج الذي لحق بالناس بسببها. مثلاً البعض حينما يفتي لفرد من الأقلية المسلمة فتصبح فتوى للأقلية بكاملها بينما هي في الأصل خاصة، وربما جاءت الفتوى مراعية الوضع الآني الذي يعيشه فرد ما فكانت معززة الوضع الخاطئ الذي يعيشه الفرد ورافعة لحرج عنه في أمر هو في أصله مخالفة شرعية، كتلك الفتوى التي أفتت لهم بجواز بيع الخمر على غير المسلمين، وأنا هنا لن أناقش الفتوى من ناحية فقهية، ولكن أتحدث عنها من ناحية أثرها الاجتماعي وعلاقتها بالتغيير. هذه الفتوى تدفع السلوك الاجتماعي إلى التحلل من القيود، ولو تراكمت مجموعة فتاوى من هذا النوع لكان نتيجتها نزع الهوية الإسلامية عن أصحابها، وتذويب الفوارق بين الأقلية المسلمة والأكثرية غير المسلمة. إن الفتوى التي تحرم على المسلم بيع الخمر مثلاً تحافظ على قدر من سمات الهوية، وتدفع المسلم إلى التخلص من الإثم بتصحيح سلوكه وإنشاء مؤسسات مجتمعية متفقة مع الهوية الإسلامية سواء كانت المؤسسات تجارية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تعليمية. وفي هذا محافظة على هوية الأقلية المسلمة وترسيخ لوجودها، وتأكيد لاستمرارها في مجتمع الأكثرية.
لعل من مواطن الخلل في الفكر الإسلامي الحديث تقصيره في الدراسات الاجتماعية، ومنها موضوع التغيير الاجتماعي الذي تناوله مشكوراً الشيخ سلمان. وإني لأعجب أن من يتناول موضوع التغيير الاجتماعي إنما يتناول الجانب السلبي منه فقط، ولا يرى في التغيير إلا أنه اتجاه نحو فساد المجتمع، وتجده يحصي الجوانب السلبية ومظاهر الانحراف، ويغفل عن الجوانب الإيجابية، كما يغفل عن إرادة الناس في اختيار اتجاهات التغيير. وينتهي هذا المتحدث إلى رفض التغير، ورفضه غير ممكن، والمطالبة بوقف حركة المجتمع، وهذا مخالف لسنة الله في المجتمعات.
وقيمة ما قدّمه الشيخ سلمان في برنامجه أنه أراد أن يعلمنا أن التغير الاجتماعي موضوع يمكن التحكم فيه وتوجيهه، ولهذا تحدث عن التغيير وليس عن التغير، وحدد لنا ما يدفع نحو التغيير وما يوقفه، وبين لنا أن التغير أمر حتمي، وهو إيجابي لمن أحسن التعامل معه وسلبي لمن أعرض عن الاستفادة منه أو صادمه. شكراً للشيخ سلمان وحفظه الله ووفقه(/2)
التفاؤل الإيجابي
أ.د. ناصر العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن التفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفزه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب.
والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبع كل عسر. وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، تقول أمنا عائشة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"(1).
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يبشر أصحابه بالظهور على الكافرين في جزيرة العرب وما جاورها في أوقات كان الواحد منهم لا يأمن على حياته وهو في بيته، فكانت النتيجة تسابقهم لرفع راية الإسلام في كل البقاع، بنفوس منشرحة قوية واثقة في نصر الله.
إن سم التشاؤم الذي يحاول المنافقون دسه للمنتمين لهذا الدين له ترياق جدير بأن يذهبه ألا وهو بث اليقين بمعية الله تعالى وتوفيقه للمتوكلين الصادقين في صفوف المسلمين، وتعميق الإحساس بقدرة الله تعالى وعظمته في نفوسهم، وتبشيرهم ببوادر النصر التي تلوح في الأفق. ويكون ذلك بذكر حقائق الواقع الماثل، ففي فلسطين مثلاً، رغم تنكيل الصهاينة الغاصبين بالمجاهدين، ورغم تخاذل المسلمين عن نصرتهم، رغم ذلك ينطق تسلسل الأحداث بأن الغلبة لدين الله، وأن النصر لجند الله. فقبل عشرين سنة فقط لم تكن في ساحة المقاومة راية تعرف سوى رايات الشيوعيين والعلمانيين ودعاة القومية العربية، وأشباههم مع بعض عملاء الصهيونية، أما اليوم فيشد أبناء فلسطين على أيدي المجاهدين ويقدمونهم لقيادة البلاد، ورعاية مصالح العباد.
قبل أقل من عشرين سنة كانت الراية المرفوعة هي الأرض مقابل السلام، وكان القادة يتسابقون للقاء الصهاينة ومحاورتهم بل على الأصح تنفيذ شروطهم وإملاءاتهم، واليوم يلتف أبناء فلسطين حول المجاهدين الذين أعلنوا أن الجهاد ماض حتى تطهر أرض الإسراء كلها من كل الصهاينة المعتدين.
قبل عشرين سنة فقط كان المظهر العام في فلسطين مثله مثل كثير من الدول العربية التي ابتليت بالتغريب والانحلال، واليوم يتجه الناس نحو الإسلام، بل صارت سجون الصهاينة كتاتيب ومعاهد يحفظ فيه الأسرى كتاب ربهم.
إذاً فالواقع يصدق الشرع ويقول: إن الدين منصور، ألا بعداً لليأس والتشاؤم، فلنأخذ بأسباب النصر، ولنثق بأن الذي يخرج اللبن من بين الفرث والدم قادر على إخراج النصر من رحم البأساء والضراء.
أما الذي يدعي أنه متفائل ويقعد عن العمل فعاجز لا متفائل، وقد روي في الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله) (2)، وما حمد التفاؤل إلاّ لأنه يدفع الإنسان إلى المضي، ويطرد عن النفس اليأس لينبعث صاحبها ويعمل في جد واجتهاد، فإذا بطل هذا فلا تفاؤل على الحقيقة.
رزقني الله وإياكم تفاؤلاً إيجابياً يثمر عملاً، ويرفع خور النفوس وعجزها، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________________
(1) البخاري،3/1180 (3059) وغيره.
(2) سنن الترمذي4/638 (2459)، ورواه غيره وهو حديث ضعيف تنظر الضعيفة للألباني 5/1/499-500 (5319).(/1)
التفاؤل الإيجابي
أ.د. ناصر العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن التفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفزه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب.
والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبع كل عسر. وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، تقول أمنا عائشة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت..
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"(1).
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يبشر أصحابه بالظهور على الكافرين في جزيرة العرب وما جاورها في أوقات كان الواحد منهم لا يأمن على حياته وهو في بيته، فكانت النتيجة تسابقهم لرفع راية الإسلام في كل البقاع، بنفوس منشرحة قوية واثقة في نصر الله.
إن سم التشاؤم الذي يحاول المنافقون دسه للمنتمين لهذا الدين له ترياق جدير بأن يذهبه ألا وهو بث اليقين بمعية الله تعالى وتوفيقه للمتوكلين الصادقين في صفوف المسلمين، وتعميق الإحساس بقدرة الله تعالى وعظمته في نفوسهم، وتبشيرهم ببوادر النصر التي تلوح في الأفق. ويكون ذلك بذكر حقائق الواقع الماثل، ففي فلسطين مثلاً، رغم تنكيل الصهاينة الغاصبين بالمجاهدين، ورغم تخاذل المسلمين عن نصرتهم، رغم ذلك ينطق تسلسل الأحداث بأن الغلبة لدين الله، وأن النصر لجند الله. فقبل عشرين سنة فقط لم تكن في ساحة المقاومة راية تعرف سوى رايات الشيوعيين والعلمانيين ودعاة القومية العربية، وأشباههم مع بعض عملاء الصهيونية، أما اليوم فيشد أبناء فلسطين على أيدي المجاهدين ويقدمونهم لقيادة البلاد، ورعاية مصالح العباد.
قبل أقل من عشرين سنة كانت الراية المرفوعة هي الأرض مقابل السلام، وكان القادة يتسابقون للقاء الصهاينة ومحاورتهم بل على الأصح تنفيذ شروطهم وإملاءاتهم، واليوم يلتف أبناء فلسطين حول المجاهدين الذين أعلنوا أن الجهاد ماض حتى تطهر أرض الإسراء كلها من كل الصهاينة المعتدين.
قبل عشرين سنة فقط كان المظهر العام في فلسطين مثله مثل كثير من الدول العربية التي ابتليت بالتغريب والانحلال، واليوم يتجه الناس نحو الإسلام، بل صارت سجون الصهاينة كتاتيب ومعاهد يحفظ فيه الأسرى كتاب ربهم.
إذاً فالواقع يصدق الشرع ويقول: إن الدين منصور، ألا بعداً لليأس والتشاؤم، فلنأخذ بأسباب النصر، ولنثق بأن الذي يخرج اللبن من بين الفرث والدم قادر على إخراج النصر من رحم البأساء والضراء.
أما الذي يدعي أنه متفائل ويقعد عن العمل فعاجز لا متفائل، وقد روي في الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله) (2)، وما حمد التفاؤل إلاّ لأنه يدفع الإنسان إلى المضي، ويطرد عن النفس اليأس لينبعث صاحبها ويعمل في جد واجتهاد، فإذا بطل هذا فلا تفاؤل على الحقيقة.
رزقني الله وإياكم تفاؤلاً إيجابياً يثمر عملاً، ويرفع خور النفوس وعجزها، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________
(1) البخاري،3/1180 (3059) وغيره.
(2) سنن الترمذي4/638 (2459)، ورواه غيره وهو حديث ضعيف تنظر الضعيفة للألباني 5/1/499-500 (5319).(/1)
التفريط في عمل اليوم والليلة
يتناول الدرس التفريط في الواجبات التي ينبغي للمرء أن يحافظ عليها، وأسباب التفريط في ذلك، وما هي عواقب وآثار ذلك على المرء وعلى العمل الإسلامي، ثم كيفية التغلب على هذا التفريط وعلاجه .
مفهوم التفريط في عمل اليوم والليلة:
التفريط لغة: هو التقصير في الأمر، وتضييعه حتى يفوت، وفرّط في الشيء، وفرّطه: ضيّعه وقدّم العجز فيه، وفي التنزيل: } أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهَ[56]{ “سورة الزمر “ أي: أنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له مخافة أن تصيروا إلى حال الندامة للتفريط في أمر الله.
عمل اليوم والليلة في اللغة: هو الوظائف، أو الواجبات التي ينبغي للمرء الحفاظ عليها، أعم من أن تكون دنيوية أو أخروية، وعليه فإن:
التفريط في عمل اليوم والليلة لغة هو: التقصير، أو التضييع للوظائف، أو الواجبات التي ينبغي للمرء الحفاظ عليها، أو المواظبة عليها، دنيوية كانت أو أخروية، أو هما معًا حتى تفوت.
التفريط في عمل اليوم والليلة اصطلاحًا: هو التقصير، أو التضييع للوظائف العبادية، التي ينبغي للمسلم الحفاظ والمواظبة عليها في اليوم والليلة حتى يخرج وقتها وتفوت، مثل النوم عن الصلاة المكتوبة، ومثل إهمال النوافل الراتبة، أو ترك قيام الليل، أو صلاة الوتر، أو صلاة الضحى، أو تضييع الورد القرآني، أو الأذكار، أو الدعاء، أو المحاسبة للنفس والتوبة والاستغفار، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد، وعدم حضور الجماعة بغير عذر ولا مبرر، أو عدم فعل الخيرات الأخرى، أو إهمال الآداب الاجتماعية: من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، والسؤال عما في الناس، ومشاركتهم أحوالهم في السرّاء والضرّاء .. إلى غير ذلك من الطاعات أو العبادات.
أسباب التفريط في عمل اليوم والليلة:
1- التلطخ أو التدنس بالمعصية: بأن يكون المسلم غير متحرّز من المعصية، لاسيما الصغائر، تلك التي يستهين بها كثير من الناس، ولا يولونها رعاية أو أهمية، وحينئذ فلابد من العقاب، ويكون العقاب بأمور كثيرة، من بينها التفريط في عمل اليوم والليلة، وصدق الله العظيم:}وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير [30]{ “سورة الشورى”. يقول الضحاك:'ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك:}وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير [30]{ “سورة الشورى”.ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن'. وسأل رجل الحسن: يا أبا سعيد؛ إني أبيت معافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال:' ذنوبك قيدتك'.
وقال الثوري: ' حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته. قيل: وما ذاك الذنب؟ قال: رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراءٍ'. وقال أبو سليمان الدَّاراني:' لا تفوت أحدًا صلاة الجماعة إلا بذنب'.
2- التوسع في المباحات: ذلك أن هذا التوسع يورث الركون والنوم، والراحة؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مثل هذا التفريط، يقول الغزالي:' كان بعض الشيوخ يقف على المائدة كل ليلة ويقول: لا تأكلوا كثيرًا؛ فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا، فتتحسروا عند الموت كثيرًا' .
3-عدم إدراك قيمة النعم وسبيل الدوام: ذلك أن من لم يدرك أن نعم الله على العباد، الظاهرة منها والباطنة، والمعلوم منها وغير المعلوم، شيء لا يعد ولا يحصى: }وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا[24]{ “سورة إبراهيم” }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[20]{ “سورة لقمان” ومن غفل عن أن دوام هذه النعم إنما يكون بالشكر: }لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[7] {“سورة إبراهيم” وأن من الشكر المواظبة على عمل اليوم والليلة من العبادات والطاعات؛ فإنه يقع منه لا محالة التفريط في عمل اليوم والليلة، وصدق الله : }فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[152]{ “سورة البقرة” قال الحسن البصري، وأبو العالية، والسّدي، والربيع بن أنس:'إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره' وقال سعيد بن جبير:'اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي' .(/1)
4- الغفلة عن الحاجة إلى عمل اليوم والليلة: فإن من غفل عن أنه بحوله وقوته ضعيف، وأنه بحول الله وقوته قوي، وأنه لابد له - كي ينجح في أداء دوره، والقيام بواجبه في هذه الأرض- لابد له من عون الله وتأييده ونصره، وأن المواظبة على عمل اليوم والليلة هي التي تستجلب هذا العون، وذلك التأييد والنصر:}وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]{ “سورة العنكبوت”. }وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[197]{ “سورة البقرة”. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ ... وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...] رواه البخاري. ويحصل بعد العمل السكينة للنفس والطمأنينة للقلب:}لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18]{ “سورة الفتح”. }الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]{ “سورة الرعد”. }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[2]{ “سورة الأنفال”.
5- ضعف أو تلاشي التصور الصحيح لحقيقة أجر المواظبة على عمل اليوم والليلة: فإن الاستمساك بالشيء، والعض عليه بالنواجذ مرتبط بالتصور الصحيح له، وللمنافع أو الفوائد المرتبطة به،وعليه: فمن لم يكتمل عنده التصور الصحيح لحقيقة الأجر المرتبط بعمل اليوم والليلة
من أنه نجاة من أهوال وشدائد يوم القيامة: }وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقُوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[61]{ “سورة الزمر” }وَإِن مِّنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [71] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[72]{ “سورة مريم”.
وأنه - أي الأجر -جنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: } فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[17] {“سورة السجدة”. وفوق هذا وذاك رؤية الله، والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم:} وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[72] {“سورة التوبة” } لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[26] {“سورة يونس” } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ[22]إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[23] { “سورة القيامة” ومن لم يكتمل عنده التصور لحقيقة هذا الأجر، فإنه يستلذ النوم والراحة، ويضنّ بالتعب والمجاهدة في سبيل الله، وبالتالي يُفرّط في عمل اليوم والليلة، قال ابن الجوزي:'من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف'.
6- نسيان الموت وما بعده من أهوال وشدائد: ذلك أن من نسي أنه ميت لا محالة، وإن طال الأجل: }كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[185]{ “سورة آل عمران”. وأن هذا الموت أقرب إليه من شراك نعله:} مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ[49]فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ[50]{ “سورة يس”. وأنه سيكون بعد هذا الموت شدائد وأهوال يشيب منها الولدان، وتنخلع لها القلوب، ولا نجاه منها إلا بالمواظبة على عمل اليوم والليلة:}فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَّجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [17] السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً[18]{ “سورة المزمل”.(/2)
}وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ[18]{ “سورة غافر” } يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ[1]يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[2] {“سورة الحج” من نسي ذلك كله، كان منه هذا التفريط ولا شك.
7- ظن بلوغ الكمال: ذلك أن الإنسان قد ينسى نفسه، وينسى أنه مهما عمل، وأطاع بالليل والنهار، فلن يستطيع شكر أدنى نعمة من نعم الله عليه، ويحمله هذا النسيان- مع عوامل أخرى- على ظن بلوغ الكمال، وحينئذ يقع منه التفريط في عمل اليوم والليلة، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ] رواه الترمذي وابن ماجه .وقال ميمون بن مهران:'لا يكون العبد تقيًّا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه عند أي مطعمة وملبسة' .
8- كثرة الأعباء والواجبات: ذلك أن الإنسان في زحمة العمل، وفي إلحاح الأعباء والواجبات، قد يهمل في عمل اليوم والليلة بحجة ضيق الوقت، وضرورة الفراغ من هذه الأعباء وتلك الواجبات، ناسيًا أو متناسيًا أن زاده على الطريق إنّما يكمن في المواظبة على عمل اليوم والليلة، إذ الوقت، والطاقات، والإمكانات كلها ملك لله، وبيده سبحانه، وحين يرى من العبد إقبالاً عليه، وتلذذًا بطاعته وذكره يمنن ويتفضل عليه بالبركة في الوقت، والقوة في الإرادة، والمضاء في العزيمة، والسداد في الرأي:} وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[17] { “سورة محمد” } ...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[2]وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[3] {“سورة الطلاق”.
9- التسويف: ذلك أن من تعوّد التسويف أو التأجيل؛ تتراكم عليه الواجبات والأعباء، وحين يريد الخلاص أو الخروج منها، تصبح ثقيلة أو شاقة عليه، وحينئذ لا يكون منه إلا التفريط أو التضييع، ولعل هذا هو المفهوم من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ الدُّخَانَ أَوْ الدَّجَّالَ أَوْ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ] رواه مسلم وأحمد. وقد وعى ذلك سلف الأمة رضوان الله عليهم فحرصوا على اقتناص الفرص، واغتنام العمر قبل أن يضيع، وحسبنا هنا مقالة عمر رضي الله عنه:'القوة في ألا تؤخر عمل اليوم للغد' .
ومن وعظه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل قولهاغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك] رواه الحاكم والبيهقي في الشعب.
10- مشاهدة بعض ذوي الأسوة على حال من التفريط.: ذلك أن المسلم أحيانًا ينظر إلى ذوي الأسوة والقدوة، على أنهم نمط فريد من الناس، لا يمكن أن يقع منهم تفريط أو تقصير، وحين يطلع من بعضهم على شيء من التفريط، فإن هذه النظرة قد تحمله على محاكاتهم، ناسيًا أنه لا طاعة ولا محاكاة في المعصية، وإنما في المعروف فقط. وهذا هو السبب في تشديد الإسلام على عدم المجاهرة بالإثم؛ حيث يَقُولُ الرَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ] رواه البخاري ومسلم .
آثار التفريط في عمل اليوم والليلة:
على العاملين:
1- الاضطراب والقلق النفسي: فإن من فرّط في عمل اليوم والليلة، قد قطع عن القلب غذاءه ودواءه، ومصدر سعادته وطمأنينته، وتكون النتيجة: القلق والاضطراب النفسي، وصدق الله العظيم إذ يقول: }وَمَن يُّعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا[17]{ “سورة الجن”. }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا[124]{ “سورة طه”.(/3)
2- القعود عن أداء الواجب أو على الأقل الفتور: وذلك أن زاد المسلم على الطريق إنما هو في المواظبة على عمل اليوم والليلة، فمن فرّط فيه؛ فقد بقي بغير زاد، ومثل هذا تنتهي به الحال إلى القعود عن أداء الواجب، أو على الأقل الفتور، وذلك فيه من الخطورة والضرر ما فيه، وصدق الرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قَالَ: [ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد.
3- الجرأة على المعصية: }وَأَقِمٍ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ[45]{ “العنكبوت”. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ قَالَ: [ إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا يَقُولُ] رواه أحمد.
4- الضعف أو الانهيار البدني: وذلك أن المواظبة على عمل اليوم والليلة، تكسب الجسم مناعة، وقدرة على التحمل، كما قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: }وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ[52]{ “سورة هود”.
وكما أوصى به النبي عليه السلام عليًا وفاطمة رضي الله عنهما إذ قال عَلِيٌّ: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَام أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: [ عَلَى مَكَانِكُمَا] فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ:” أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ ] رواه البخاري ومسلم. فمن فرط في عمل اليوم والليلة فسيعتاد الاسترخاء والنوم، وذلك لا يعود على الجسد إلا بما فيه ضعفه وانهياره.
5- الحرمان من العون والتوفيق الإلهي: وذلك أن عون الله وتوفيقه، لايظفر بهما العبد إلا إذا كان على صلة طيبة بربّه، تتجلى في المواظبة على عمل اليوم والليلة:}وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]{ “سورة العنكبوت”. فإذا فرّط المسلم في هذا العمل، فقد قطع نفسه عن ربّه، وحينئذ يحرم العون والتوفيق، ولعل ذلك هو ما نفهمه من قوله سبحانه: }وَمَن يَّعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [36] وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ[37]{ “سورة الزخرف”.
6- فقد الهيبة أو التأثير في الناس:وذلك أن من فرط في عمل اليوم والليلة، فقد ضيّع أعظم سلاح يؤثر به في الناس؛ لأنه بهذا التفريط ضيّع منزلته عند ربّه، ومن ضاعت منزلته عند ربّه، فقد ضاعت منزلته عند الناس، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا] فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: [ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ] فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ: [ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ] رواه أبو داود وأحمد.
آثاره على العمل الإسلامي:
1- طول الطريق مع كثرة التكاليف:ذلك أن عملاً يضيّع المنتسبون إليه حق الله عليهم؛ ستطول به الطريق، وتتضاعف عليه التكاليف، وتحيط به المحن والشدائد من كل ناحية، وصدق الحق سبحانه حين قال على لسان نبي الله صالح عليه السلام:}فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ[63]{“سورة هود”.(/4)
2- عدم الثبات في ساعات المحن والشدائد: وذلك أن المحن بطبيعتها قاسية وشديدة، لايطيقها البشر بحوله وقوته، وإنما لابد له من العون والتأييد الإلهي، وأنى لمن فرّطوا في جنب الله أن يرزقهم الله تحمّلاً أو ثباتًا؟ ولعل هذا هو المفهوم من قوله تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[13]{ “سورة الأحقاف”. }يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]{ “سورة محمد”. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: [ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد.
علاج التفريط في عمل اليوم والليلة:
1- معايشة الكتاب والسنة: ففيهما صورة صادقة لثواب الطائعين، وعقاب العاصين، وتحريض على ملازمة الطاعة، وترك المعصية، من خلال التذكير باطلاع الله سبحانه، وإحاطة علمه بكل شيء، والرجوع إليه، والمساءلة بين يديه، والجزاء، وحسب المسلم أن يقرأ هذه الآيات: }وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[54]وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[55]أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ[56]أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[57]أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[58]{ “سورة الزمر”.
2- التحرر من المعاصي والسيئات؛ لاسيما الصغائر فإنها السم القاتل:عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ] وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: [كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا] رواه أحمد.
3- التوسط في تعاطي المباحات لا سيما المطاعم والمشارب: عَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
4- إدراك دور المواظبة على عمل اليوم والليلة في نجاح القيام بالواجبات: فإن ذلك يحرر النفس من التفريط، ويحملها على المواظبة .
5- تقدير النعمة وأنها لا تدوم إلا بالطاعات: فإن ذلك يحرك النفوس المستقيمة للمواظبة على عمل اليوم والليلة، وفاء بحق الله، وطمعًا في الاستمرار والزيادة.
6- محاولة التوفيق بين المواظبة على عمل اليوم والليلة والقيام بالواجبات الأخرى : قَالَ سَلْمَانُ لأبي الدَّرْدَاءِ: [ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ صَدَقَ سَلْمَانُ] رواه البخاري والترمذي .
7- مجاهدة النفس بأخذها بالشدة: وترك التسويف، مع تمنيتها بأنها إن تعبت اليوم، ستتمتع غدًا بالنعيم المقيم، وتتلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم.
8- تقدير العواقب المترتبة على التفريط في عمل اليوم والليلة: فلعل ذلك يحرّك القلوب، وتنعكس هذه الحركة على الجوارح، فتكون المواظبة على عمل اليوم والليلة.(/5)
9- ملازمة الجماعة والعيش في وسط صالح مستقيم: فإن ذلك يذكر بالله، ويشحذ الهمم والعزائم، وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ] قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى] ثُمَّ قَالَ: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ] رواه أحمد واللفظ له، وابن ماجه مختصرا .
10- الاستعانة التامة بالله عز وجل: فإنه سبحانه يعين من استعان به، ولجأ إلى حماه، ولاذ بجنابه، لاسيما في ساعات الاضطرار والشدة: } وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[60]{ “سورة غافر”.
11- إدراك أن الدنيا دار عمل وغرس: والآخرة دار حصاد وجزاء، ولئن ضاعت الدنيا بغير طاعة، كانت الخسارة التي لا خسارة بعدها: }إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[15]{ “سورة الزمر”. }وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا آنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ[45]{ “سورة الشورى”.
12- مواظبة ذوي الأسوة والقدوة على عمل اليوم والليلة: حتى لايكونوا سببًا في فتنة وضياع غيرهم من الناس، فيحتملون إثم أنفسهم، وإثم اقتداء غيرهم بهم:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [...مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا] رواه مسلم وأبوداود والترمذي والدارمي وأحمد .
13- معايشة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سيرته: وكيف كان يصوم النهار، حتى يقال: أنه لا يفطر، ويقوم الليل حتى يقال: أنه لا ينام، ومثل ذلك كان يصنع في باقي الطاعات، مع أن الله قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، إذ هذه المعايشة تحمل كل مفرّط في عمل اليوم والليلة على المواظبة؛ من منطلق أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصنع ذلك، وقد وعده الله المقام المحمود، فكيف بمن لايعرف عاقبته، وهل سيكون في الجنة أو مع أهل النار؟!
14- دوام النظر في سيرة و أخبار السلف: فإنها مليئة بصور حية مشرقة في المواظبة على عمل اليوم والليلة، تحمل كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، على الاقتداء والتاسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه.
15- تذكر الذنوب والآثام الماضية: فإن ذلك يحمل على المواظبة في عمل اليوم والليلة تداركًا لما فات، وطمعًا في تكفير هذه الذنوب، وتلك الآثام، وخير ما يصدّق ذلك موقف السحرة من تهديد فرعون حين خالطت حلاوة الإيمان بشاشة قلوبهم وردّهم عليه: } قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[73] { “سورة طه”.
16- تذكر أن الموت يأتي بغتة: وإذا لم يأت بغتة، فسيسبقه المرض، ثم يكون الموت، ويكون الندم، ولكنه بعد فوات الأوان، وضياع الفرصة.
من كتاب: آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح .(/6)
التفسير العبيط عند أتباع الغلام السليط
(قراءة نقدية حول حقيقة المسيح الدجال عند الجماعة الأحمدية)
محمود القاعود
Moudk2005@yahoo.com
الجماعة الأحمدية المشهورة ب ( القاديانية ) حيرت الكثير من الناس ، فهم يدعون أنهم مسلمون مثل باقى المسلمين ، إلا أنهم يؤمنون بأن (الميرزا غلام أحمد القاديانى) هو رسول من عند الله !!!
وهذا الميرزا الذى يؤمنون به الأحمديون اشتهر بسلاطة اللسان وبذاءة القول انظروا إليه وهو يهجو أحد مخالفيه :
((ومن اللئام أرى رجيلاً فاسقاً غولاً لعيناً نطفة السفهاء
شكس خبيث مفسد و مزور نحس يسمى السعد في الجهلا
آذيتني خبثاً فلستُ بصادق إن لم تمت بالخزي يا ابن بغاء))
روحاني خزائن ج22 ص734
وانظروا إليه وهو يرد على من انتقد إحدى قصائده :
((((ثم بعد ذلك نكتب جواب ما أشعت ، و ظلمت نفسك و الوقت أضعت، أما ما أنكرت في كتابك بلاغة قصيدتي، و ما أكلت عصيدتي، فلا أعلم سببه إلا جهلك و غباوتك و تعصبك و دنأتك، أيها الجهول قم و تصفح دواوين الشعراء ليظهر لك منهاج الأدب و الأدباء، أتغلط صحيحاً و تظن الحسن قبيحاً، و تأكل النجاسة، و تعاف النفاسة، ليس في جعبتك منزع، فظهر لك في التزري مطمع، و كذلك جرت عادة السفهاء، أنهم يخفون جهلهم بالإزدراء. و يلك ما نظرت إلى غزارة المعاني العالية، و استقريت القذر كالأذبّة. ما فكرت في حسن الكلام، و لا في المنطق و نظامه التام. أيها الغبي علمت من هذا أنك ما ذقت شيئاً من اللسان، و لا تعلم ما حسن البيان، و نزوت كالسرحان قبل الفهم و العرفان. أبهذا تبارينا في الميدان، و تبارزنا كالفتيان. أتتكيء على الأصغر الذي كتب معه الجعفر إليك و كنت قد فررت من هذه القرية مع لعن نزل عليك. فاعلم أنهم يكذبون و ليسوا رجال المصارعة و لا قبل لأحد في هذه المناضلة. دع تصلفك فإنك لست من الرجال، و لو كنت شيئاً لما فررت من الإحتيال. ثم اعلم أني ما رضت صعاب الأدب بالمشقة و التعب، بل هذه موهبة من ربي )))) ( مواهب الرحمن - ص 131 ) !!!!!
فهل هذا إنسان محترم ؟؟؟ الإجابة أنه إنسان سليط ، لذا فإنه استحق أن نطلق عليه (( الغلام السليط )) .
والمعلوم للجميع أنه لا نبى أو رسول بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن يقول بذلك يكون قد خرج عن النص وابتدع فى الأصل .
يدعى الأحمديون بأن هناك آيات قرآنية تؤيد ادعاء (( الغلام )) منها :
((وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... )) الصف 7
والواقع أن الإنسان يكاد يُجن من استشهاد الأحمدية بهذه الآية الكريمة والتى تدل على تخبطهم الشديد ، فالآية واضحة وتقول على لسان عيسى عليه السلام ، أنه يبشر برسول يأتى من (( بعده )) وليس من (( بعد بعدى ))
والسؤال هنا : من الذى أتى بعد عيسى بن مريم عليه السلام ؟! أهو المصطفى صلى الله عليه وسلم أم المتنبئ الكذاب ميرزا غلام ؟؟؟؟
1. وآية أخرى يستشهد بها أتباع الغلام : ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )) ( فصلت :30 )
هذه الآية فى نظرهم دليل على نزول الوحى على الغلام !!!!، ولو أنهم تعقلوا لكان خيراً لهم ؛ فالآية تتحدث عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وأن الملائكة تتنزل عليهم لتبشرهم بالجنة التى (( كانوا يوعدون بها )) وقوله تعالى (( كنتم توعدون )) دليل قاطع على أن نزول الملائكة لا علاقة له بالدنيا من قريب أو بعيد ، وإنما هو نزول فى الآخرة لطمأنة هؤلاء الذين استقاموا ، وإذا افترضنا معهم أنهم ينزلون بوحى فأين هذا فى الآية الكريمة ؟؟!! إن الملائكة يقولون : (( ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون )) ولم يرد أنهم يقولون ابشر يا ميرزا هذا وحى من السماء !!!!!
ويستشهدون أيضاً بالآية الكريمة )) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )) ( الشورى 51 )
ويقولون لماذا لم يقل الله (( وما كان لنبى أن يكلمه الله )) ؟؟!!! أما قوله بشر فهذا دليل على نزول الوحى على أى إنسان والميرزا نفسه !!!!!!
وتناسى هؤلاء الأحمديون المضلون أن بشراً لا تعنى أنها (( وكالة بدون بواب )) بحيث إن أى إنسان يدعى أنه يوحى إليه ، ولكنه سبحانه أتى بالصفة التى تجمع هؤلاء الأنبياء والرسل وهى البشرية وقال أنه لا يكلم أحداً منهم إلا وحياً أو .... إلخ الآية الكريمة .
وقد قال الحق سبحانه : ((و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم )) فلماذا لم يقل جل شأنه وما أرسلنا من قبلك إلا أنبياء ؟؟؟؟!!!!!
هل كل الرجال الذين وجدوا قبل المصطفى كانوا يوحى إليهم ؟؟!!!! أم أن الحق يقصد أنبياءه ورسله ؟؟؟(/1)
ما هذا العبث يا أتباع الغلام ؟؟؟؟
معظم الأحمديون يقولون أنهم لا يعتبرون الميرزا نبى ، لكنه نبى تابع وليس مشرع !!!! فما معنى تابع ؟؟؟ وإذا لم يكن نبياً فلماذا يطلقون عليه هذه الصفة الخطيرة وهى النبوة ؟؟؟
ولنتأمل قول كبار الأحمدية عن الميرزا غلام .
يقول (( هانى طاهر )) : (( ولا ريب لدينا أنه قد حاز – يقصد الغلام – مرتبة النبوة التابعة التى لا تشريع فيها )) !!!
والأحمدية تكفر جميع الفرق الإسلامية بما فيها السنة !!! ولنتأمل قول أحدهم ، يقول (( تميم أبو دقة )) :
(( نعم نحن الفرقة الناجية الوحيدة وباقى الجماعات الإسلامية على ضلال )) !!!
ويقول أيضاً : (( يكفى التذكر أننا الفرقة الوحيدة التى نشأت بدعوى وحى وبعثة إلهية منصوص عليها وينتظرها المسلمون ، بينما غيرنا من الفرق تشكلت على اساس الاجتهادات أو بسبب ظروف تاريخية مختلفة )) !!!!
ويقول أيضاً عن الغلام : (( إن تكذيبه هو تكذيب لنبى مبعوث مرسل من عند الله وهو من نواقص الإيمان حتماً )) !!!!
وبعد هذا الكلام الذى جاء بأقلام أتباع الأحمدية ، لا عذر لأى أحمدى فى التنكر أو التلبيس على عامة المسلمين ممن لم يعرفوا حقيقة الأحمدية وادعائها أن ميرزا نبى مرسل من عند الله وأن الكافر بهذا الغلام مصيره جهنم .
وللأحمدية تفسيرات عجيبة وغريبة ومضحكة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ومن هذه التفسيرات تفسيرهم لحقيقة ( المسيح الدجال ) .
وقد اعتمد أتباع الأحمدية على الفكاهة فى تفسير بعض الأحاديث المروية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بخصوص المسيح الدجال ، كما أنهم قاموا بتفسير آيات القرآن الكريم تفسيراً لا يتمشى مع العق أو المنطق .
يقولون : (( ومن علاماتها – يقصدون الساعة – إنشاء حدائق للحيوانات فى بلاد شتى من أنحاء العالم مصداقا لقوله تعالى فى سورة التكوير : ( وإذا الوحوش حشرت ) أى جمعت فى حدائق خاصة بها !!!!!وقوله تعالى أيضاً : ( وإذا الصحف نشرت ) إشارة إلى انتشار الصحف والمجلات بكثرة فى أنحاء العالم كما نشاهده اليوم !!!وقوله تعالى أيضا: ( وإذا المؤودة سئلت بأى ذنب قتلت ) وهنا إشارة إلى الصيحات والنداءات التى سوف يُطلقها أصحاب الفكر وأصحاب الأقلام من أجل تحرير المرأة المكبلة والمقيدة بقيود الماضى الملئ بالجهل والتخلف لذلك قال الله تعالى : ( وإذا المؤودة سُئلت ) لأن قتلها معنوى وليس حقيقياً ولو كان قتلها حقيقياً لكان الله سأل قاتلها لماذا قتلها ، لأن الأصل فى سؤال القاتل وليس سؤال المقتول إذ ا كان القتل حقيقياً مادياً )) !!!!!!!
أرايتم تفسيرات أتباع الغلام السليط ؟؟؟ أليست مضحكة ومبكية فى آن ؟؟؟
مضحكة بسبب تهافتها وسخفها ، ومبكية بسبب حال هؤلاء المخدوعين بالكذاب مدعى النبوة الغلام الهالك .
سورة التكوير تتحدث عن يوم القيامة ، وما يصاحب هذا اليوم من انقلاب كونى هائل ، لا علاقة له بحدائق الحيوان أو الصحف والمجلات أو تحرير المرأة !!!
والأحمدية يريدون بتفسيرهم هذا القول بأن علامات الساعة تحققت لذا فإن الميرزا غلام هو (( المسيح الموعود والمهدى المنتظر )) !!!!
لكن حقائق القرآن الكريم تصفعهم لتفضحهم وتفضح زيف قولهم وإفك فكرهم وضلال عقولهم .
فكل ما تحدثت عنه سورة التكوير بخصوص يوم القيامة لم يحدث شئ منه حتى الآن ، وهذا كفيل بإبطال زعم الميرزا الضال أنه رسول من عند الله رب العالمين .
يقول رب العزة : (( إذا الشمس كورت )) فهل حقاً كورت الشمس يا أتباع الغلام البائد ؟؟؟
ويقول أيضا جل شأنه : (( وإذا النجوم انكدرت )) أى تساقطت ، فهل حقاً تساقطت النجوم ؟؟؟
ويقول سبحانه : (( وإذا الجبال سيرت )) فهل تحركت الجبال من أماكنها ؟؟؟
ويقول عز وجل : (( وإذا العشار عطلت )) فهل ترك أحداً من الناس رعاية الجمال وقام بإهمالها ؟؟؟
ويقول الحق : (( وإذا الوحوش حشرت )) أى إذا جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلة من شدة الفزع ، فهل حدث هذا فى حدائق الحيوان ؟؟!!!
ويقول سبحانه : (( وإذا البحار سُجرت )) أى إذا تأججت ناراً حارقة ، فهل حدث هذا ؟؟؟
ويقول أيضاً رب العزة : (( وإذا النفوس زوجت )) أى إذا النفوس قرنت بأشباهها يقول الطبرى : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح فى الجنة ، وبين الرجل السوء مع الرجل السوء فى النار . فهل حدث هذا ؟؟؟
يقول الحق سبحانه وتعالى : (( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ )) والسؤال لأتباع الغلام هل قام رب العزة بسؤال المؤودة ؟؟؟ ومتى تم هذا الحدث ؟؟ ما هو الدليل إن كنتم من الصادقين ؟؟؟
فحديثكم عن الصيحات من أجل تحرير المرأة يستلزم سؤال هذه المرأة – على حد زعمكم - ، فمن الذى سألها ؟؟؟ ورب العزة لا يسأل المقتول دون إدراك والعياذ بالله ، وإنما توبيخاً لقاتلها ، وإشعاراً له بمدى الجرم الذى ارتكبه .(/2)
يقول الحق : (( وإذا الصحف نُشرت )) أى وإذا صحف الأعمال نشرت . أعمال الخير والشر التى اقترفها الإنسان فى الدنيا ، ولا علاقة بهذه الصحف التى تحدث عنها ربنا بالصحف والمجلات والتهريج الذى يتحدث عنه أتباع الغلام .
ويقول جل شأنه : (( وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ )) أى إذا السماء أُزيلت ونزعت من مكانها كما يُنزع الجلد عن الشاه ، فهل كُشطت السماء ؟؟؟ ... إلخ الآيات التى تتحدث عن علامات يوم القيامة .
من خلال ما سبق يتبين لنا أن التفسير العبيط لأتباع الغلام السليط تفسير مجافى للحقائق الظاهرة والبراهين الساطعة .
ولنتأمل معاً تفسيرهم لأحد الأحاديث النبوية الخاصة بالدجال :
(( عن حذيفة بن أسيد الغفارى رضى الله عنه قال : اطلّع النبى صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : فذكر الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم . )) ( رواه مسلم وأبوداود والترمذى وابن ماجة ) .
ونحن نؤمن أنه لم يحدث أى شئ من هذه العلامات على الإطلاق ، ولكن أتباع الغلام يعتقدون بحدوث بعض هذه الآيات ، فيقولون :
(( الحقيقة أن هذه الآيات العشر علامات على قرب موعد الساعة ، واقتراب وقوعها منها ما ظهر وشاهدناه عياناً كالدخان ، والدجال والدابة ، ويأجوج ومأجوج ومنها ما يزال فى عالم الغيب لا يعلم وقت ظهوره سوى الله جل شأنه .
فالدخان إشارة إلى ظهور صناعات جديدة ومعامل كبيرة ينطلق من أبراجها الدخان بكثرة ، وكذلك ظهور اختراعات حديثة تعتمد أساساً فى تشغيلها على مواد قابلة للاشتعال كالبترول والفحم الحجرى . ينتج عن احتراقها الدخان أيضا ويشير إلى تطوير القديمة واختراع أسلحة جديدة ينتج الدخان عن استعمالها ، وآخر هذه الأسلحة الفتاكة القنابل الذرية فالدخان هو ميزة هذا العصر ، فلذلك يمكن تسمية عصرنا هذا بعصر الدخان )) !!!!!!!!!
والسؤال لأصحاب العقول من الأحمدية من قال لكم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قصد هذا التفسير المخجل ؟؟؟؟؟
لقد اتفقت أغلبية اقوال العلماء على أن الدخان هو دخان كثيف يأخذ بأنفاس الكفار ويُصاب المؤمن منه ما يُشبه الزكام ، ويمكث فى الأرض أربعين يوماً ، ولا علاقة له بالقنابل الذرية أو الفحم أو البترول ، فمن أين للأحمدية بهذه التفسيرات الخرافية ؟؟؟
وعن الدخان يقول رب العزة : ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ )) ( الدخان : 10 )
فما هو رأى أتباع الغلام فى هذه الاية الكريمة ؟؟ أهو دخان القنابل الذرية أيضاً ؟؟ !!!
ويُتابع أتباع الغلام تفسيراتهم المضحكة :
(( الدجال هو ما يُسمى بالاستعمار أو الرجل الأبيض )) !!!!
ونقول للأحمدية قولا مختصراً لأنهم عادوا وزادوا حول صفات الدجال وحاولوا قدر جهدهم إثبات أن أوصاف الدجال تنطبق على الشعوب الأوروبية وأنهم يستخرجون البترول من الدول التى يستعمرونها كما يقول الرسول ( يمر بالخربة فيقول لها : أخرجى كنوزك ) !!!!
نقول : هل وصف المصطفى صلى الله عليه وسلم أقواماً ودولاً أم وصف شخص مفرد يُدعى الجال ؟؟؟؟
ثم إن تفسير الأحمدية المضحك يجعلنا نقلب حقيقة الأشياء مهما كانت ، وكثير من صفات الدجال لا تنطبق على الاستعمار ، فما معنى أن يكون الاستعمار (( أعور )) ؟؟؟!!! ما معنى أن يكون الاستعمار شعره (( مجعد )) ؟؟؟؟!!! ... إلخ الصفات التى لا تنطبق على شعوب أو دول وإنما على شخص .
يقولون عن الدابة : (( هى وسائل النقل الحديثة كالطائرات والقطارات والسيارات والبواخر والتى حلت بدلا عن وسائل النقل القديمة القديمة مصداقا لقوله تعالى فى سورة التكوير : (( وإذا العشار عطلت )) أى استغناء الناس عن الاعتماد على الجمال وغيرها من الحيوانات فى ركوبهم وسفرهم وتنقلاتهم واستبدالها بمخترعات حديثة أقوى وأسرع ، كما يقول تعالى : " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " )) !!!!!!!
إن أتباع الغلام يُشبهون إلى حد كبير أتباع (( رشاد خليفة ))، فأتباع رشاد خليفة الصليبى الهالك يدعون أن الدابة هى (( الكمبيوتر )) ، وأتباع الغلام السليط يدعون بأن الدابة هى الطائرات !!!!!
يقول رب العزة : ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ )) ( النمل : 82 )
فهل الطائرات تتكلم مع الناس يا أتباع الغلام ؟؟!!!
ثم إن الآية القرآنية التى استشهدوا بها : (( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون )) لا تعنى الطائرات والسيارات ، ذلك أن ما قبلها يُبطل تفسير أتباع الغلام :(/3)
((وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) ( يس : 41-42 )
والمقصود أن الله خلق لهم من مثل الفلك ما يركبون وهو الأنعام على أرجح الأقوال ، والدليل هو قول الحق سبحانه : ((و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون» (الزخرف: 12 ).
فما رأى أتباع الغلام ؟؟؟
يقولون عن الدجال : (( بشكل عام هو شعوب أوروبا الغربية وبشكل خاص سكان الجزر البريطانية الذين خرجوا من بلادهم بعد عصر الاكتشافات الجغرافية الذى بدأه الأمير هنرى ابن ملك البرتغال وساحوا فى الأرض ليكتشفوها ويبحثون عن خيراتها وليستعمرونها )) !!!!!!
ويستشهدون بآية تُدينهم من حيث لا يتوقعون : (( يومئذ يُنفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا )) ( طه : 102 ) ويقولون كلمة زرقا تُشير إلى أنهم اصحاب العيون الزرق وهم أهل أوربا وأمريكا )) !!!
والسؤال لأتباع الغلام السليط : هل نُفخ فى الصور أم لا ؟؟؟؟؟
وإذا كان قد نُفخ فى الصور فمتى حدث هذا ؟؟؟؟ أم أن الهالك الكذاب الميرزا هو الذى قام بالنفخ فى الصور ونحن لا ندرى ؟؟؟؟!!!!
ثم إن زرقا صفة لأصحاب الوجوه الزرقاء بسبب شدة السواد الذى أصابها من غضب الله وسخطه على أصحابها ولا علاقة لها بالعيون الزرقاء .
والآيات الواردة بعد هذه الآية الكريمة تنفى نفياً قاطعاً التفسير العبيط لأتباع الغلام السليط .
إذ يقول رب العزة : (( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا )) ( طه : 103- 104 )
والسؤال لأتباع الغلام : هل شعوب أوروبا وأميركا يتخافتون فيما بينهم الآن ويقولون : (( إن لبثتم إلا عشرا )) ؟؟؟!!! شئ من العقل يا أتباع الغلام السليط .
ثم إن القول بظهور الدجال يجعل من جميع الناس الذين آمنوا بالإسلام بعد ظهوره إيماناً غير مجدى على الإطلاق مصداقاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم :
(( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً . طلوع الشمس من مغربها . الدجال . دابة الأرض ) ( رواه الترمذى )
ويُتابع أتباع الغلام تفسيراتهم المضحكة لحديث يقول فيه المصطفى : (( إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويكثر الجهل ويفشو الزنا ويُشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) ( رواه البخارى )
فيقولون : (( وعبارة أن يقل العلم : يُقصد به العلم الدينى الحقيقى وعبارة : يقل الرجال ، ويكثر النساء : من جراء الحروب العالمية التى حدثت بين أقوام يأجوج ومأجوج فى أوربا وآسيا منذ خمسين عاماً ، حيث قضت على الملايين من الرجال )) !!!!!!
اللهم ثبت عقولنا فى رؤوسنا ، ألا يشعر أتباع الغلام بالخزى جراء هذه التفسيرات التعسفية المضحكة ؟؟؟ إننا نطالب أتباع الغلام باحصائية تُثبت أن كل رجل يُقابله خمسون إمرأة ، وإلا فليلتزموا الصمت ولا يتحدثون فيما لا يعلمون ، ونحن لا نشكك فى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونؤمن بأن ما قاله سيتحقق بإذن رب العالمين لكنه لم يحدث بعد أن أصبح الرجل يُقابله خمسون إمرأة .
ويأجوج ومأجوج لا علاقة لهم بأوربا وآسيا ، لأن ظهورهم يكون قُبيل يوم القيامة ، إذ يقول تعالى : ((وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا )) ( الكهف : 99 )
أى أن ظهورهم مقترن بالنفخ فى الصور ، وقيام الساعة ؛ فهل تم ما تحدث عنه رب العزة يا أتباع الغلام ؟؟؟ أم أنه ما زال فى علمه جل شأنه ؟؟
إن تفسيرات اتباع الغلام السليط لا تخدم سوى فئة منحرفة تُؤيد العبث بعقول الناس ، والارتزاق من وراء تفسيرات كاذبة .
إن أتباع الغلام يستقتلون فى إظهار علامات الساعة من أجل إثبات أن الغلام هو المهدى المنتظر والمسيح الموعود !!!!!
والحق أن هذه أول مرة فى التاريخ نسمع عن مهدى منتظر بذئ الأقوال والأفعال ، يوالى الإنجليز ويُعطل فريضة الجهاد ، ويدعى بأن هناك وحياً يأتيه من السماء .
أولى بأتباع الأحمدية ( القاديانية ) أن يعودوا إلى الحق ، فيوم القيامة لن ينفعهم الميرزا النصاب ، لأنه سيقودهم إلى جهنم وبئس المصير ، بما فعله فى دنياه وإدعائه الباطل النبوة والوحى ، وإدخال المعتقدات الباطلة على دين المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والذى قال ربنا تبارك وتعالى عنه أنه كامل وليس بحاجة إلى إضافات مثل الميرزا أو غيره يقول الحق سبحانه :
((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا )) ( المائدة : 3 )
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على أشرف خلق الله أجمعين سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى أصحابه الأطهار وآله وسلم تسليماً كثيراً(/4)
التفسير العلمي للقرآن الكريم
حقيقته - تاريخه- الفئات التي حملت لواءه - أخطاره ومحاسنه
د. محمد بن إبراهيم أبا الخيل أستاذ مساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية/جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 11/5/1423
21/07/2002
الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم لقائه ، وبعد
شاع في السنوات الأخيرة ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن الكريم ، وانتشر الكلام عنه ، حتى إلفنا سماعه ، واعتدنا رؤية كتابات تمسه من قريب أو بعيد في مختلف الصحف والمجلات .
والخوض في مثل هذا التفسير ـ فيما يبدو ـ على جانب من الخطورة التي ينبغي الحذر منها ، والتوقي من الوقوع فى أسرها ، فلا يجب التسليم بكل ما يكتب أو يقال في هذا الميدان إلا بعد التثبت والتوثق ؛ لأن هذا يتعلق بأصدق الكتب وأحكمها(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )(1).
إن القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الكبرى ، وهى معجزة باقية أبد الدهر ، فلقد جعل الله نبينا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين ، قال تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين … ) (2) ، وجعل كتابه آخر الكتب وأوثقها ، تكفل سبحانه بحفظه ، فلم تسر إليه يد التحريف كما حصل للكتب السابقة ، قال تعالى ( أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون ) (3) كما أنه سبحانه جعل هذا الكتاب معجزة ملموسة تصدق رسولنا على مر الأيام والشهور،وكر السنين والعصور. فلو سألت بعض الذين يدعون أتباع أحد الرسل- عليهم السلام- عن معجزة رسوله التي أيد بها في زمانه لنبأك بخبرها ، ولا يملك غير ذلك،ونحن المسلمين نؤمن بهؤلاء الرسل السابقين ، وبالمعجزات التي حدثت على أيديهم ، لأن القرآن الكريم أخبرنا بها ، قال تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله 000 ) (4) .
ولقد اختلف في مسألة الإعجاز في القرآن الكريم ، فمنهم من رأى أن القرآن معجز بالصرفة ، أي أن العرب كان بإمكانهم الإتيان بمثل القرآن ولكن الله سبحانه قد صرفهم عن ذلك (5)، وهذا ما يراه بعض المعتزلة . ومنهم من قال إن جوانب الإعجاز في القرآن يمكن حصرها في إخباره بالمغيبات ، وحديثه عن الأمم الغابرة ، وإعجازه البلاغي والعلمي والعددي والنفسي …الخ . وهناك رأي ثالث يقول إن الإعجاز في القرآن الكريم سلسلة لانهاية لها ، فلا يمكن عدها ،ولا يتأتى لأحد حصرها . وهذا الرأي الأخير ـ فيما يظهرـ هو الرأي الأصوب (6) .لقد أنزل الله سبحانه كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) (7)، وتحدى العرب الذين كان عليه الصلاة والسلام منهم ، ويعيش بين ظهرانيهم – أن يأتوا بمثل هذا القرآن ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )(8)، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله(9)، أو حتى بسورة من مثله (10)، بيد أنهم وقفوا منبهرين مشدوهين من سحر القرآن وبيانه على الرغم من تلك الفصاحة التي فيها نبغوا ، وكانوا بها يعتزون .
على أن معجزة القرآن ليست للعرب وحدهم بل للبشر جميعاً مذ بعث النبي صلى الله حتى تقوم الساعة ، قال تعالى ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (11) ولذا فلا بد للقرآن أن يحمل معجزة للعالم في كل زمان ومكان ، فكانت معجزاته في وقت النزول ، وخلال مدة النزول ، وبعد زمن النزول ، وهي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (12).
إن القرآن خرق حجب الغيب ، وخرق حواجز الزمان والمكان ، فأخبرنا عما حدث للأمم السابقة ، وأعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يجرى حوله في زمنه ، فأخبره الله في القرآن بما يدبره المنافقون والكفار (13) ، بل بما كان يجول في خواطر بعض المسلمين (14) كما أخبر سبحانه في كتابه العزيز بأمور مستقبلية حدثت بعد أيام أو شهور أو سنوات ، مثل هزيمة الفرس على أيدي الروم(15) ، وفتح مكة(16)ونحو ذلك ، بل إن الله قد حدد مصير إبي لهب في القرآن ، وأن مآله إلى النار(17)
، ولم يستطع أبو لهب أن ينبس بكلمة ولو نفاقاً ليرد على ذلك(18) .
إن الله قد ادخر في القرآن من المعجزات العامة المستقبلية ما يجعل الأجيال تصدق به ، وتؤمن بقائله سبحانه ، ولو أن هذه المعجزات جاءت تفصيلية في الزمن الذي نزل فيه لوجدت حيرة لدى المؤمنين ، وربما ارتد بعضهم عن الإسلام(19)، لأنها ستكون فوق طاقة عقولهم في ذلك الوقت(20) .(/1)
ويبدو أن الظواهر العلمية التي مسها القرآن الكريم هي من هذا القبيل ، إذ جاء بنهايات الحقائق والسنن الربانية ، وأتى بقمم النواميس المبثوثة بهذا الكون ، بحيث أنها إذا تليت على المؤمنين في ذلك الوقت مرت عليهم دون إدراك لمدلولها الذي سينكشف لمن بعدهم ، أما إذا تليت على الأجيال اللاحقة التي فتح الله عليها بصيصاً من أسرار هذا الكون عرفوا ما فيها من إعجاز ، وسلموا بأن هذا القول لا يمكن أن يتفوه به شخص عاش في عصر كانت العلوم التجريبية في أطوارها الأولى ـ أعني العصر الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ ، فلابد أن يكون حق ، وأن قائله هو الله عز وجل(21) ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد ) (22) .
ولكن هل هناك تعارض بين القرآن الكريم والعلم ؟ إن العلم المقصود هنا هو ما توصل إليه البشر من فَهْمٍ لبعض قوانين وسنن هذه الحياة بإلهام من الله تعالى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )(23) .
ومما لا مشاحة فيه أنه لا تصادم بين حقائق الكون والقرآن الكريم ، فالله هو الخالق لهذا الكون وهو في الوقت ذاته قائل هذا القرآن الحكيم ، وقد يكون تصادم حينما ندعي حقيقة علمية ـ وهي ليست حقيقة علمية ـ ونربطها بالقرآن ، أو نزعم حقيقة قرآنية ـ بسوء فهمنا للمقصود من آية أو آيات من القرآن ـ فنربطها ببعض الحقائق العلمية الثابتة(24) .
وكتاب الله كتاب عقيدة وهداية وأحكام ، وليس كتاب تاريخ أوفلك أوجغرافيا ، كما أنه لم يأتِ ليعلمنا الطب أو الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء ، ولكن هذا لا ينفي أن يشير إلى حقائق ثابتة تدخل ضمن نطاق العلوم السابقة وغيرها بقي الإنسان مئات السنين لا يعرف كنهها ، بل لم يستطع حتى الآن الوصول إلى بعضها ؛ فالقرآن ـ مثلاً ـ ليس كتاب طب بالمفهوم المتعارف عليه للطب إلا أن ذلك لا يمنع أن يمس قضية طبية ، ويخبر بدقائقها ، فلا يصل إليها علم الطب إلا بعد قرون . وقُل ذلك عن جميع العلوم الحديثة . فالقرآن ـ إذن ـ قد يمس حقائق الكون الأساسية التي خلق الله الوجود على أساسها فيعرضها كحقائق علمية سواء توصلنا إلى إدراكها أم لم نصل(25).
تاريخ التفسير العلمي للقرآن الكريم
وقد يتساءل البعض عن التفسير العلمي للقرآن ، وهل كان ظهوره بدعاً في العصر الحديث ؟
في الحقيقة إن للتفسير العلمي جذوراً في تاريخنا الحضاري الإسلامي المجيد ، فليس هذا التفسير ببدع في العصر الحديث ، ونكاد نجزم أن هؤلاء المفسرين المحدثين وكذلك الذين أُولعوا بهذا الجانب من التفسير يتكئون على أصول سابقة . ذاك أنه عندما ازدهرت الحضارة الإسلامية في العصر العباسي ، وبرزت العديد من العلوم التجريبية ، وحاول بعض العلماء أن يوائم بينها وبين ما جاء في القرآن الكريم ، أو قُل أن يُوجد على الأقل بينهما بعض العلاقة .
كان أبو حامد الغزالى (ت 505هـ) ممن سلك هذا المسلك ، وحاول أن يروجه بين الأوساط العلمية(26)، فيرى أن القرآن يحوي على العديد من العلوم(27) . كما أنه تحدث عن الكيفية التي انشعبت بها سائر العلوم من القرآن ، فيذكر أن الطب والنجوم والفلك والتشريح …الخ ، ثم يؤكد على أن العلوم التي عددها أو لم يعددها ليست أوائلها خارجة من القرآن ، ولكنها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى الذي لا ساحل له ، ثم أعطى بعض الأمثلة لما يقول ، منها قول الله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (وإذا مرضت فهو يَشْفين ) (28)عقب على ذلك بأن هذا الفعل الواحد لا تحصل معرفته إلا لمن عرف الطب بكامله . وسار على هذا المنوال في بيان الطريقة التي يمكن بها معرفة ما جاء في القرآن الكريم عن الشمس والقمر ، وتركيب السماوات والأرض ، ومعرفة الإنسان وخلقه(29)…الخ .
وممن سلك هذا الدرب من المفسرين الأقدمين ، ولمح إلى مثل هذه الأمور أبو بكر بن العربي ( ت 543 هـ ) في كتابه (( قانون التأويل )) ، والفخر الرازي ( ت606 هـ ) في (( مفاتيح الغيب )) ، وأبو الفضل المرسي ( ت 655 هـ ) في تفسيره(30) .
على أن السيوطي ( ت 911هـ ) انطلاقاً من قوله تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (31)
وقوله ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (32)(/2)
ـ تحمس لهذا النوع من التفسير في كتابيه(33)(( الإتقان في علوم القرآن )) (34)و (( الإكليل في استنباط التنزيل )) (35) .ولقد كان أبو إسحاق الشاطبي ( ت 790 هـ ) من أبرز الذين وقفوا في وجه هذا التيار في كتابه (( الموافقات )) ، ويحتج في ذلك بأنه لم يرد عن السلف الصالح من التابعين ومن يليهم مَن تكلم في هذا اللون من التفسير ، وهم من أعرف الناس بالقرآن وعلومه ، ومع أنه في الوقت عينه لا ينكر أن في القرآن آيات تشير إلى ما كان العرب يعرفونه من علوم زمن نزوله ، لكنه أنحى باللائمة على أولئك الذين أضافوا إلى القرآن كل علوم الأولين والآخرين . كما فند ما احتج به أصحاب هذا النوع من التفسير من أدلة لتأييد دعواهم(36).
التفسير العلمي للقرآن في العصر الحديث
بعد أن تم للعثمانيين السيطرة على العالم العربي منذ أوائل القرن العاشر الهجري ( السادس عشر الميلادي ) ران على أقاليم البلاد العربية نوع من الجمود العلمي(37) ، وإن كان هذا امتداداً لعصر الانحطاط الذي كان عليه المسلمون قبل العثمانيين . كما أن هذا الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي لم يكن مقصوداً من الدولة العثمانية ، وإنما هو نتيجة لما كانت تعانيه الدولة العثمانية نفسها ، وأسطع دليل على ذلك أن الإنكشارية ( الجيش الرسمي للدولة ) كان يحارب كل تجديد من قبل السلاطين العثمانيين(38).
ولقد كانت الحملة الفرنسية على مصر ( 1213هـ/1798م ـ 1216هـ/ 1801م ) من العوامل المهمة التي هزت العالم العربي والإسلامي ، وإن كان قد سبقتها بعض حركات اليقظة الإسلامية مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي ظهرت قبل مجيء هذه الحملة بنصف قرن تقريباً . بيد أن أثر هذه الحملة وخصوصاً في دخول العلوم الحديثة إلى العالم العربي(39) كان واضحاً لا يمكن تجاهله(40).
وبعد أن ارتقى محمد علي عرش مصر سنة 1220هـ /1805م قام بإرسال بعثات علمية إلى أوربا ، وبذات إلى فرنسا ، وكان من رواد تلك البعثات رفاعة الطهطاوي(41) ( ت 1290هـ/ 1873م ) الذي كان له ولغيره من المبتعثين دور في نقل بعض العلوم الحديثة إلى العالم الإسلامي(42) .
ولما وجد بعض العلماء المسلمين الذين لهم اهتمام في تفسير القرآن الكريم تلك العلوم الحديثة أمامهم ، وإيماناً منهم بصدق ما جاء في القرآن ، وبأثر مما كان يعاني منه المسلمون من ضغوط نفسية وإعراض عن الدين الإسلامي في تلك الأيام ـ اجتهد هؤلاء في ربط القرآن بهذه العلوم الحديثة .
وممن كتب في هذا المجال الطبيب محمد بن أحمد الإسكندراني ( ت 1306هـ / 1889 م ) في مؤلفه الموسوم بـ (( كشف الأسرار النورانية القرآن فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية ))(43) .
ولا تخلو كتابات جمال الدين الأفغاني ( ت 1315هـ / 1897م ) من الحث على التوفيق بين القرآن والعلم ، حيث يقرر أنه لا خلاف بين الحقائق العلمية والآيات القرآنية(44) . ويتجلى الانحياز التام لمثل هذا النوع من التفسير عند عبدالرحمن الكواكبي ( ت 1320هـ/1902م ) في كتابه (( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد )) الذي يصف فيه القرآن بأنه (( شمس العلوم وكنز الحكم )) ، ويعلل إحجام العلماء عن بيان ما يتضمنه القرآن من العلوم المختلفة ـ بالخوف من مخالفة رأي بعض السلف غير المتظلعين بالعلم ، فينتج عن ذلك تكفيرهم ومن ثم قتلهم(45)ثم راح يربط باندفاع بين الآيات القرآنية وبين ما ظهر في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من علوم ونظريات علمية(46)،والملاحظ أنه وقع في شطحات بينة في محاولاته التوفيقية هذه بين القرآن والعلم .
كما جنح الشيخ محمد عبده ( ت 1323هـ /1905م ) إلى التفسير العلمي مستضيئاً بمنهج أستاذه جمال الدين الأفغاني ، إلا أنه دعا إلى التأدب مع كتاب الله ، وعدم زج آياته الكريمة في نظريات لم تتحقق بعد . (47)فالقرآن (( أرفع من يعارض العلم ))(48)كما يقول ، لكنه مع ذلك وقع في بعض ما حذر منه ، وسوف نتطرق إلى بعضها فيما بعد .(/3)
ويميل مصطفى صادق الرافعي ( ت 1356 هـ/ 1937م ) إلى هذا اللون من التفسير في كتابه (( إعجاز القرآن والبلاغة النبوية )) ، وقد قال في معرض كلامه عن القرآن والعلم (( وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع ، وما يحقق غوامض العلوم الطبيعية )) (49)على أن أشد المتحمسين للتفسير العلمي للقرآن في العصر الحديث هو طنطاوي جوهري ( ت 1359هـ/ 1940 م ) في كتابه الموسوم بـ (( الجواهر في تفسير القرآن الكريم )) الذي نوه فيه بجدوى هذا التفسير ، وتعجب من إعراض العلماء المسلمين عن تلك الآيات التي ترشد إلى علوم الكون على الرغم من كثرتها . ولم يسلم صغار الفقهاء ـ كما سماهم ـ من لومه وتهجمه ، لأنهم انصرفوا ـ كما يرى ـ باشتغالهم في الآيات الخاصة بالفقه عن آيات العلوم الكثيرة الواردة في القرآن ، ويقدم طنطاوي جوهري في تفسيره هذا أبحاثاً علمية مستفيضة بعد تفسير لفظي مقتضب . ولا تعدو هذه الأبحاث عن كونها حشد من الأفكار التي توصل إليها العلماء في مجال العلوم الحديثة حتى عصره(50) . ولعل هذا ما جعله يُغرق في الخيال ، ويحلق بفكره في آفاق السماوات والأرض ، ويعتسف الآيات القرآنية لتتوافق مع ما يريد إثباته (51).
ولقد زهد بعض من لهم اهتمام بالدراسات القرآنية بهذا التفسير العلمي للقرآن ، ورأوا أن من الأسلم عدم الغوص في مثل هذا الجانب من التفسير ، وإن كانوا لا يرون حرجاً في الاستشهاد بالحقائق العلمية الثابتة التي لا شبهة فيها ، ولكنهم مع ذلك لا يحبذون الركون إلى مثل هذه الوسيلة ، والانشغال بها عن مهمة التفسير الحقيقية . ومن هؤلاء الشيخ محمد شلتوت ، وأمين الخولى(52). وقد تابع هؤلاء في منحاهم هذا الشيخ محمد رشيد رضا(53)، ومحمد حسين الذهبي(54).
وهناك علماء آخرون تأثروا طريقة الشيخ محمد عبده في موقفه من هذا التفسير(55).، ولكنهم كانوا أشد منه حذراً ، وأكثر تحفظاً ، وأوسع تثبتاً ، من هؤلاء الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي نعى على المفسرين السابقين حشوهم لقضايا علمية في تفاسيرهم أثبت العلم في هذا العصر عدم التعويل عليها ، ثم أكد أن تفسيره الذي وضعه سيضم آراء الباحثين في مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن(56).، فلا غضاضة عنده من استطلاع آراء العارفين بمثل هذه الفنون ، لأن المفسر ـ في نظره ـ عليه دائماً أن يسأل العلم (( ليستبصر بما ثبت لديه ، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلاً ))(57) . على أنه يرفض جر الآية إلى العلوم لتفسيرها أو العكس ، ولكن لا بأس في تفسيرها إذا اتفقت في ظاهرها مع حقيقة علمية ثابتة(58).
وكان محمد أحمد الغمراوي من المؤيدين لوجهة النظر هذه ، ويُعد من أكثر الباحثين اعتدالاً وروية في هذا المضمار ، ووضح ذلك جلياً في كتابيه (( في سنن الله الكونية )) و (( الإسلام وعصر العلم ))(59).
* * *
ولقد احترز كثيراً سيد قطب في مؤلفه البديع (( في ظلال القرآن )) من ربط الكشوفات العلمية بالقرآن الكريم ، ولم يُخفِ عجبه وامتعاضه من أولئك الذين يحاولون حمل القرآن على ما لم يقصده ، ويستخرجون منه (( جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها )) (60)، وهو يرى أنه يحق لنا الانتفاع بالكشوف العلمية في هذا المجال ، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الانتفاع عن (( توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها ، دون تعليقها بنظرية خاصة أو (بحقيقة) علمية خاصة ، تعليق تطابق وتصديق … )) (61)
، وعلى حسب هذا المنهج ساق في تضاعيف كتابه ـ الآنف الذكر ـ بعض نتائج الدراسات العلمية الحديثة ، وحاول أن يوسع مدلول الآيات القرآنية ، ويشرحها بإسلوبه الأخاذ (62).وهناك عدد من العلماء الذين يعيشون بيننا في الوقت الحاضر قد اهتموا بالتفسير العلمي للقرآن الكريم ، ولهم أحاديث مفيدة ، وكتابات قيّمة حول الموضوع .
وخلاصة القول إن التفسير العلمي لكتاب الله من الأمور التي لا يمكن إغفالها في هذا العصر إلا أنه ينبغي علينا الحذر التام في تعاملنا مع هذا النوع من التفسير ، فلا نستشهد بالكشوفات العلمية الحديثة إلا في الحالات التي نستيقن أنها حقائق لا يعتورها الشك ، ثم مع ذلك يجب أن لا نشتط في الاستشهاد ، لأن ما وصل إليه الإنسان وما قد يصل إليه مقيد بالعلم البشري المحدود .
الفئات التي تحمل لواء هذا التفسير :
و يمكن أن نقسم الفئات التي عُرفت بحملها لواء التفسير العلمي للقرآن في وقتنا الحاضر إلى ثلاث فئات :
1-فئة كانت دراستها ، وجل اهتمامها علوم الشريعة واللغة العربية ، ثم مالت إلى النظر في العلوم التطبيقية الحديثة ، وأخذت منها بطرف يسير ، فلم تتعمق بها تعمقاً يؤهلها إلى معرفة مناحي ما تريد أن تربطه بالقرآن الكريم ، فهذا القسم لا يُحسن أن نتورك عليه في مثل هذه المسائل .(/4)
2-و فئة درست بتعمق العلوم التطبيقية ، لكنها كانت قليلة الاتصال بالقرآن الكريم ، أو قُل منقطعة تماماً عن الدين الإسلامي. وأقصد أولئك الذين كانوا مسلمين بالاسم ثم رجعوا إلى الدين ، فبدأت اهتماماتهم بتفسير القرآن . ويدخل ضمن هذه الفئة أولئك الذين اعتنقوا الإسلام ، فلم يكن لديهم قبل ذلك علم بالدين الإسلامي ألبته ، فمثل هؤلاء لا يُوثق كثيراً بما يثبتونه في كتبهم . أو ما يقولونه في أحاديثهم حول التفسير العلمي للقرآن .
3-و فئة ثالثة منذ أن فتحت عينيها على هذه الدنيا و هي تعيش في ظل الإسلام الحق ، فتشربت تعاليمه من الصغر ، وكانت لها اهتماماتها بعلوم الشريعة والعربية من ناحية ، وبالعلوم التطبيقية الحديثة من ناحية أخرى . ونحسب أن هؤلاء أوفق من يستطيع الربط بين الآيات القرآنية ـ التي فيها إشارات علمية ـ وبين ما أُكتشف من حقائق علمية. و لعل فرص الالتباس والخطأ لدى هذه الفئة ستكون قليلة .
اتجاهات التفسير العلمي للقرآن :
إذا أمعنا النظر بما يطرح في الساحة في مجال التفسير العلمي من كتابات وأقوال نستطيع رصد اتجاهين اثنين :
الأول :اتجاه غير مأمون ، محفوف بالمخاطر ، كثير المزالق ، قد يقول فيه المفسر على الله بغير علم، أو يشتط به خياله إلى حدود بعيدة عن العقل . ويتمثل هذا الاتجاه بربط الآيات القرآنية الصريحة بالنظريات العلمية من جانب ، أو ربط الآيات القرآنية المختلف في تفسيرها بالنظريات العلمية أو حتى ما يُعد حقائق علمية من جانب آخر .
إن النظريات العلمية ـ كما هو معروف ـ قابلة للأخذ والرد ، والمناقشة و المداولة ، و ما يثبته العلماء اليوم على سبيل التغليب قد يقلبونه غداً رأساً على عقب . كما أنه من الملاحظ أبداً أن مجال الصدق في النظريات(63). يقرره العلماء بنسب معينة ، وقد يحدث لهذه النظرية أو تلك بعض التعديل . ومن الخير أن لا نسارع بتفسير نص قرآني بمجرد ظهور نظرية تتفق مع ظاهر هذا النص ، لأن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة.وقد انحرف بعضهم في هذا الاتجاه التفسيري ومن الأمثلة على ذلك ما يلي :
1-انزلق بعض العلماء والمجتهدين عندما ظهرت النظرية التي تقول إن مجموعتنا الشمسية تتكون من سبع كواكب . ففسروا بها السبع السموات التي أخبرنا الله بها في القرآن ، ولكن ما لبث علماء الفلك أن اكتشفوا عدداً من الكواكب ، فاصبح عددها عشراً (64)
، وقد يُكتشف فيما بعد أكثر من ذلك .
2-و افترض بعض علماء الطبيعة ـ والفلك خاصة ـ أن الشمس و الكواكب السيارة نشأت كلها من السديم الملتهب ، حيث كانت على هيئة سحابة تدور ببطء ، ثم أخذت تبرد و تنكمش على نفسها ، فتدور بسرعة متزايدة . ومع تقادم الزمن انفصلت حلقات من هذه المادة عن طرف السحابة ،فتكونت منها الكواكب السيارة .أما القسم المركزي فقد تقلص و تكونت منه الشمس(65) .فلما طرقت هذه النظرية مسامع بعض المجتهدين من المفسرين الذين انبروا يفسرون بها قول الله سبحانه : )أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ... الآية )(66).
بل إن بعضهم (67) أكد أنها تفيد معنى قوله تعالى : (ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين )(68)
ومن المعروف أن الأمر في هذه النظرية لم يحسم بعد،بل إن هناك اعتراضات عليها من قبل علماء الفلك أنفسهم (69).
3 – و قد فسر بعضهم قوله الله تعالى : )و السماء بنيناها بأيد و إنا لموسعون )(70). بنظرية تقول إن الفضاء وما به من مجوعات شمسية في اتساع مستمر (71).
4- وقد رجح الشيخ محمد عبده ومعاصره عبدالرحمن الكواكبي أن الطير الأبابيل التي ورد ذكرها في سورة الفيل ما هي إلا ذبابة أو بعوضة تحمل ميكروبات ، وما الحجارة ـ التي ذكرت في الآيات ـ إلا الطين المسموم اليابس التي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات(72).
تأمل هذه الأمثلة . وكيف أن هؤلاء المجتهدين قد فسروا الآيات القرآنية بنظريات لم تصل إلى درجة من الصحة والعلم اليقيني وإنما هي في طور الحدس والفرض التخميني ، ولنعلم أنه ليس من الحق أن نطلب من القرآن الكريم متابعة فروض العلماء على مدى الأزمنة والعصور .(/5)
على أن بعضاً من الدخلاء على التفسير من يلوي عنق الآيات ، ويعتسفها اعتسافاً لكي تتوافق مع ما يريد أن يثبته ، فقد قرأت في بعض الصحف أن أحدهم قال : إن القرآن قد تنبأ بشق قناة السويس (73)، وذلك في قوله تعالى في سورة الرحمن : )مرج البحرين يلتقيان ،بينهما برزخ لا يبغيان ( ثم حمل قوله : )يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان( على أن المرجان موجود في البحر الأحمر ، واللؤلؤ موجود في البحر المتوسط ، بل آل به الأمر إلى القول بأنه إذا كان نيوتن جاء بقاعدة التثاقل ، وأرشميدس بقاعدة الطفو ، فإن القرآن جاء بقاعدة التعادل في آية : ) ألا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) (74)ولا شك أن التسرع بتفسير آيات القرآن بمثل هذه الأظانين و الفرضيات تحيمل لها غير ما تحتمل ، وتجاوز مرفوض في حق كلام الله العليم الخبير .
أما فيما يتعلق بالآيات القرآنية المختلف في تفسيرها سواء بين المتقدمين أو المتأخرين فالأولى بل الواجب عدم ربطها بالنظريات العلمية التي لم يُقطع فيها بعد ، أو بما اتفق على أنه حقائق علمية لا تقبل الشك ، ومن الأمثلة على ذلك أن بعضهم قد أتى بقول الله سبحانه :) و ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ... الآية )(75) أتى بها ليثبت دوران الأرض (76) و نحن هنا لا نناقش مسألة دوران الأرض ولكن سياق الآيات ـ كما في التفاسير المعتمدة ـ يدل على أن ذلك في الآخرة .
ومن هذا القبيل تفسير بعض الكتاب قول الله تعالى : ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فأنفذوا ،لا تنفذون إلا بسلطان )(77)قالوا أن هذا برهان على إمكانية غزو الفضاء والصعود إلى القمر والكواكب(78) ونحن ـ كما قلنا في المثال السابق لا نتعرض لهذه القضية من حيث إمكانية تحققها أم لا، بالقدر الذي نريده من وجوب عدم إقحام الآيات القرآنية في مثل هذه المسائل ، فضلاً عن أن السياق في الآيات يدل على أن ذلك في يوم القيامة ، كما في معظم كتب التفسير . بل إن بعضهم قال إن الإنسان يستطيع غزو الفضاء بسلطان العلم بحكم تفسيره لقوله تعالى: )إلا بسلطان ( أي بسلطان العلم .
ويمكن أن ندخل في هذا النطاق ما أُوْلع به بعض من لهم اهتمامات في الدراسات القرآنية من الخوض في مسألة الأعداد في القرآن الكريم ، وتحميلهم الآيات فوق ما تتحمل في سبيل إثبات ما يريدون إثباته (79) والواقع أن الإعجاز العددي ـ كما يطلق عليه في هذا العصر ـ قد نشأ من قديم مع علم التفسير في العصور الإسلامية السابقة (80)، ولا اعتراض على مثل هذا النوع من التفسير في الحدود المعقولة التي لا تمس حرمة كتاب الله العزيز.
و نستطيع أن نلحق الحوادث التاريخية(81) في هذا الاتجاه ، فقد جزم بعض المفسرين في تفسير الآيات ذات النسق التاريخي إما بتعيين أسماء بعض من أشار إليهم القرآن ، أو بتحديد المناطق التي قد تكون الأحداث التاريخية ـ والتي أشار إليها القرآن ـ جرت عليها . و لكن علينا في هذه الحالة أن ننظر إلى المسألة من عدة زوايا الأولى : أن معظم القضايا التاريخية غالباً تخضع ـ كما هو معروف ـ للترجيح لا الجزم ، و التغليب لا القطع . والثانية : ماهية المصادر التي استقى منها المفسر معلوماته عن هذه الشخصية أو هذا الحدث . فلا ريب أننا إذا لم نجد ذلك معيناً في القرآن أو الأحاديث النبوية الثابتة فإننا لا نعول عليه كثيراً ، وسوف لا تتعدى المصادر حينئذ عن كتب العهد الكتب القديم والجديد ( التوراة والإنجيل ) أو كتب اليونان و الرومان ، أو المصادر العربية ، بالإضافة إلى المكتشفات الحديثة في مجال الآثار ، فهل يا تُرى نستطيع الجزم بما تقول هذه المصادر ؟ والثالثة : ينبغي أن نتبين الحكمة من إيراد الله تعالى للحوادث التاريخية في القرآن الكريم . فهل الهدف من ذلك تحديد أسماء المناطق أو الأشخاص الذين لهم ذكر في القصص القرآنية أم أن هناك أهدافاً أخرى . لا شك أنه ليس المقصود ذكر أشخاص أو مناطق بعينها بقدر ماهي رموز لأوضاع و حالات سادت في تلك العصور عالجها القرآن في كثير من آياته لتحقيق أغراض شرعية (82).ولعل من الأمثلة في هذا الباب تعيين شخصية ذي القرنين بالاسكندر المقدوني في بعض التفاسير .ومن الثابت تاريخياً أن هذا الرجل المعين كان رجلاً وثنياً (83) . وتكفي هذه الصفة للرد على هذا الرأي . وقد تنبه ابن كثير في كتابه " البداية والنهاية " إلى هذا ، ورجح أن يكون ذو القرنين هو أول القياصرة ، وكان يدعى أيضاً الاسكندر ، إلا أنه كان مؤمنا(84).(/6)
ومن الأمثلة على ذلك ـ أيضاً ـ تعيين بعض العلماء اسم الفرعون الذي غرق في زمن موسى (85).وكذلك تحديد مكان أهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن(86) ونحو ذلك . ولا يفهم من هذا الكلام أن ندعو إلى عدم الاستعانة بالقرآن الكريم لشرح القضايا التاريخية القديمة بل يجب الاستعانة به في هذا المجال لأنه أصدق الكتب و أوثقها . ولا حرج علينا من : إيراد أسماء أو مناطق ذكرتها المصادر بشرط التثبت منها إلى أقصى درجة من ناحية ، والابتعاد عن الجزم القاطع من ناحية أخرى .
***
والاتجاه الثاني لتفسير القرآن تفسيراً علمياً ـ اتجاه طيب خير ، فالخوض فيه مأمون إلى حد معين . فلا بأس أن نركن إليه ، ونستشهد بما وصل إليه أصحابه لتوضيح الآيات القرآنية ، وتعميق معناها في نفوسنا . وبالإمكان أن نحصر ذلك فيما يلي :
الأول : ما يقوم به بعض المشتغلين بالدراسات القرآنية من شرح للآيات وربطها بحقائق علمية ثابتة ، لا يشوبها الظن ، ولا يتسرب إليها الشك . ولكن علينا ـ مع هذا ـ أن لا نعلق النص القرآني أو نقصره على هذه الحقائق العلمية التي تظهر لنا ، لأن الحقائق القرآنية ـ كما قلنا سابقاً ـ حقائق نهائية قاطعة مطلقة . أما ما يصل إليه البحث الإنساني بطريق التجارب القاطعة في نظره ـ فهي مقيدة بحدود هذه التجارب وظروفها وأدواتها . (87) وعلينا أيضاً أن نؤمن بأن القرآن الكريم معجز سواء طابقت الكشوف العلمية نصوصه أم لم تطابق(88). والأمثلة على ذلك كثيرة نجتزي منها الآتي :
1-لقد أثبت العلم الحديث بما لا يدع مجالاً للشك أن الزوجية موجودة في الإنسان والحيوان و النبات والذرة وسائر الكائنات (89).يقول سيد قطب " ومن يدرى فربما كانت هذه قاعدة الكون كله " (90) وعليه فلا مانع من ربط هذه الحقيقة العلمية بالآيات القرآنية التي تحكى عن تلك الزوجية(91) .
2-ولقد تُيقن في هذا العصر أن الإنسان يشعر بضيق في التنفس كلما ارتفع في الجو (92) ، وهذه الظاهرة قد أشار إليها القرآن في قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ( (آل عمران : 125)
3- و بالنظر إلى وصف الطب الحديث لمراحل تطور الجنين في الرحم نجد أنها تتوافق مع ما جاء في القرآن ، فالقرآن جمعها بإيجاز بليغ ، ووصف بديع ،قال تعالى )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ،ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ،ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنسأناه خلقاً ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين)(93)حتى أن العلم استعمل ألفاظه في هذه المسألة (94) يقول د. محمد على البار عن تعبير القرآن عن بعض مراحل تطور الجنين " إنه لا يطابق فقط الوصف العلمي في علم الأجنة .. بل وإنه يتفوق عليه " (95)
وهناك العديد من القضايا العلمية الثابتة التي أشار إليها القرآن الكريم مثل مسألة الحروق وحس الألم بالجلد ، والنوم ، وتعاقب الليل والنهار ، وأسرار الشيخوخة وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكرها .
الثاني : ليس ثمة حرج من محاولة معرفة الحكمة من وراء نواهي الله تعالى ، والتي دعانا في القرآن إلى اجتنابها ، وعدم السقوط في حمأتها ، و ينسحب هذا على محاولة معرفة بعض الأسرار التي تكمن في فعل أوامره سبحانه واجتناب نواهيه على أن المؤمن لا يرتبط إيمانه بتبين الحكمة أو السر من وراء هذه النواهي والأوامر . فالإيمان يقتضي الخضوع التام، والخنوع الكامل ،والتسليم المطلق لله عز وجل . لكن لا خوف على المؤمن من النظر في الحكمة التي قد تظهر له إن كان قصده الاستئناس والاطمئنان إزاء ما جاء من عنده تعالى ومن هذا المبدأ يمكنا أن نلجأ إلى العلوم الحديثة ، ونتعرف من خلالها على الحكم من بعض الأمور التي أتي بها القرآن الكريم . نذكر منها في حقل النواهي : دعوة الله إلى اجتناب الخمر ،و تحريمه أكل لحم الخنزير ، وتحريمه الزنا واللواط وما إلى ذلك . ومن المعروف أن العلم الحديث جاء ليعدد المضار والأمراض التي تنشأ من اقتراف هذه الأعمال المقيتة (96) .ومن الأمثلة في هذا الجانب أن الله يقول )ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (97) ، فلقد ثبت أن المهبل في الحالات العادية يفرز إفرازاً حمضياً خاصاً من أجل تليينه و تطهيره من الجراثيم ، فإذا ما وجد الدم في المهبل من جراء الحيض كانت الفرصة مواتية لتغير هذا الوسط من حمضي إلى قلوي أو متعادل ، وهذا من أهم أسباب إلتهاب المهبل ،علاوة على ما يسببه الجماع في ذات الوقت من زيادة التلوث الجرثومي ،ومن مضاعفات في المهبل والرحم وقد لا ينجو الرجل من الإصابة في جهازه التناسلي (98) .(/7)
أما في مجال الأوامر ، فإن الله عز وجل أمر في القرآن الكريم بغض البصر في قوله تعالى :( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. الآية ) (99) ، ولا يخفى أن لغض البصر فوائد جمة، تُجنب المسلم الكثير من الأمراض النفسية والعضوية ، تطرق ابن قيم الجوزية لبعض منها في كتابه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان "(100).ولقد ثبت بالتجربة والدراسة العلمية الحديثة " أن تكرار النظر بشرهٍ إلى الجنس الآخر تصل بالشخص إلى مشاكل عديدة بجهازه التناسلي مثل احتقان غدة البروستاتا .." ثم إنه بالتحليل النفسي لهذا الإنسان الذي يُديم النظر وجد أنه يتعرض لأزمات نفسية واكتئاب ، وتغير في سلوكه و شخصيته ،وما ذاك إلا لأن حاسة النظرـ كما ثبت ـ أقوى الحواس من ناحية الإثارة الجنسية (101) .
ولا ننسى أن للصلاة والصيام و الحج وغيرها من الفروض التي فرضها الله علينا آثاراً بائنة على المسلم لا يمكن الإغضاء عنها ، سواء أكانت آثاراً بدنية أو نفسية أو اجتماعية ، والذي يهمنا هنا أنه لا مانع بين الاستشهاد بما أثبتته الدراسات الحديثة (102) حول هذا الموضوع .
ونحب أن نوضح أن مثل هذه الاستشهادات أو الأدلة التي سقناها لتعليل ما نذهب إليه لا تعدو أن تكون اجتهادات واختيارات الهدف من إيرادها بالدرجة الأولى لم يكن إلا لتوضيح الفكرة التي نتحدث عنها .
من محاسن التفسير العلمي للقرآن :
و للتفسير العلمي محامد كثيرة لعل من أوضحها اعتناق بعض شخصيات عالمية بارزة للإسلام عن قناعة بأن الدين الإسلامي هو الدين الحق نذكر من هؤلاء على سبيل المثال : موريس بوكاى، وارثون إليسون وهو طبيب بريطاني أسلم وتلقب بـ عبدالله إليسون ،وكات ستيفنز الذي سمى نفسه يوسف إسلام . وغيرهم كثير .
وكثيراً ما نسمع أو نقرأ لقاءات مع بعض الأوروبيين وغيرهم ممن اعتنقوا الإسلام ، فنجد أن من أهم اقتناعهم بهذا الدين انبهارهم بما تحدث عنه القرآن الكريم الذي نزل منذ ما يربو عن خمسة عشر قرناً من الزمان ، لأنه طابق ما جاءت به المكتشفات الحديثة . ألا ترى أن هذا ـ وإن اختلف من بعض الوجوه ـ يماثل بعض مواقف من اسلموا أبان عصر النبوة عند سماعهم القرآن ؟ قال تعالى: ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ... )
ولقد أوضح أحد أعضاء مركز الدعوة في استراليا لمجلة " الإرشاد " اليمنية في حوار معه قبل سنين أن كبريات الصحف الاسترالية أشادت بالشيخ عبدالمجيد الزنداني ـ المعروف بتبريزه في مجال التفسير العلمي ـ حينما زار استراليا ، وألقى هناك عدداً من المحاضرات ،وكتبت " المحمديون يقفون على جبال العلم " وأضاف هذا العضو أن عدداً من الأساتذة حضروا تلك المحاضرات، وعلق أحدهم " حضرت لأناقش العلم الذي عندي ، ولكني استفدت علماً آخر !!"(103)
وقبل أن نقفل الموضوع لا بد من الإلماع إلى الشروط الواجب توفرها بمن يريد أن يتصدى للتفسير العلمي للقرآن ، وكنا قد أشرنا إلى بعضها إجمالاً بين ثنايا الصفحات السابقة .
فلا بد لمفسر هذا النوع أن يلم بالعلوم التي اشترطها العلماء لمن يريد أن يلج ساحة التفسير ،منها حفظه للقرآن الكريم ،ومعرفته لعلم القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وأسباب النزول ، ثم درايته بعلم الحديث ،وأصول الدين ، وأصول الفقه . وكذلك معرفته بعلوم اللغة العربية من نحو وصرف و بلاغة.وأن يكون على قدر من العلم بالتاريخ والجغرافيا(104)
، والعلوم التي تدرس حياة الإنسان الاجتماعية والنفسية ثم نصل إلى دراية هذا المفسر العلمي للقرآن الكريم ـ إن صح لنا هذا التعبير ـ بالعلوم التجريبية الحديثة دراية لا بأس فيها . بحيث يتمكن بها من تطبيق ما وصل إليه العلم على ما جاء في القرآن الكريم دون حيف أو مغالاة ، مراعياً الأمور التي حذر علماء التفسير منها ، ومطبقاً القواعد التي قننوها ، وملتزماً بالأطر التي حددوها ، وهي مبسوطة في أكثر كتب علم التفسير المتخصصة .
والحمد لله أولاً و آخراً ..
(1) هود ، آية : 1 .
(2) الأحزاب ، آية : 40 .
(3) الحجر: 9 .
(4) البقرة : 285 .
(5) فتحي عبد القادر فريد : الإعجاز والقراء ات ، ص 10، ط. دار العلوم ، 1402هـ /1982م
(6) المرجع السابق ، ص 10، 11 .
(7)الشعراء : 193-195 .
(8) الإسراء : 88 .
(9) هود: 13 .
(10) البقرة : 23.
(11) سبأ : 28.
(12) الشعراوي : معجزة القرآن ، ص 12-13، ط. الأولى ، المختار الإسلامي ، 1398/1978 .
(13) مثل قوله تعالى] ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب …الآية [ الحشر :11 .
(14) مثل قوله ] إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما…الآية [ آل عمران : 122.
(15) الروم : 1- 6 .
(16) الفتح : 27 .
(17) سورة المسد .
(18) نبيه عبد ربه : المرجع السابق ، ص 35-38 ؛ الشعراوي : المرجع السابق ، ص 13- 23 .(/8)
(19) ليس خبر الإسراء عنا ببعيد ، إذ أن بعض المسلمين الذين لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم ارتدوا عن الإسلام في بعض الروايات ، ويقول بعض المفسرين أن الله أشار إلى المعراج في سورة النجم ، ولم يأت به صريحاً كما في خبر الإسراء رأفة منه سبحانه بالمؤمنين .
(20) الشعراوي : المرجع السابق ، ص 39 .
(21) المرجع السابق ، الصفحة نفسها ؛ نبيه عبدربه : المرجع السابق ، ص 39 .
(22) فصلت : 53 .
(23) الروم : 7.
(24) الشعراوي : المرجع السابق ، ص 44.
(25) المرجع السابق ، ص 47-48؛ عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز : مع الطب في القرآن ، ص 11، ط. الثانية ، مؤسسة علوم القرآن ، 1402/1982 .
(26) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون ، جـ 2 ، ص 474 ، ط. دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
(27) الغزالي : إحياء علوم الدين ، جـ 1، ص 289، ط. دار المعرفة ، بيروت 1403/1983.
(28) الشعراء : 80 .
(29) الغزالي : جواهر القرآن ودرره ، ص25ـ 28، ط. الخامسة ، دار الآفاق الجديدة ، 1983.
(30) الذهبي : المرجع السابق ، ص487 ومابعدها .
(31) الأنعام : 38 .
(32) النحل : 89 .
(33) الذهبي : المرجع السابق ، ص477 .
(34) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ، جـ 2 ، ص190 وما بعدها ، ط. دار المعرفة ، بيروت .
(35) السيوطي : الإكليل في استنباط التنزيل ، ص 5 -11 ، ط. دار الكتب العلمية ، بيروت .
(36) الذهبي : المرجع السابق ، ص 485،486 وكتابه الآخر : علم التفسير ، ص74 ، 75 ط. دار المعارف .
(37) على أنه ظهر بعض العلماء الذين بزوا العلماء الأوربيين قبل استيلاء العثمانيين على العالم العربي مثل الشيخ آق شمس الدين ( ت 1459م ) الذي كان مؤدباً للسلطان محمد الفاتح ( ت 886هـ/1481م ) ، فقد اكتشف هذا العالم الميكروب قبل الكيميائي الفرنسي لويس باستير ( ت 1895م ) بأربعمئة عام ( انظر مقال بهذا الشأن للدكتور محمد حرب في مجلة الهلال المصرية ، ص164-150، يونيه ، 1986م )
(38) وقد حاول السلطان العثماني سليم الثالث أن يجدد في الدولة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ، ولكن كان مآله العزل . بيد أن السلطان محمود الثاني استطاع القضاء على الإنكشارية في سنة 1826م . لمعرفة التفاصيل انظر ( محمد فريد بك المحامي : الدولة العلية العثمانية ؛ عبد العزيز الشناوي : الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها ؛ محمد أنيس : الدولة العثمانية والشرق العربي ؛ محمد عبد المنعم الراقد : الغزو العثماني لمصر ونتائجه على الوطن العربي ) .
(39) على المحافظة : الإتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة ، ص23 ، ط. الثالثة ، الأهلية للنشر ، بيروت ، 1980م ؛ عباس محمود العقاد : الإمام محمد عبده ، ص9-10 ، دار نهضة مصر .
(40) انظر عبد الرحمن الجبرتي ـ وكان معاصراً ـ في كتابه (( تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار )) حيث وصف بعض تجارب العلماء الفرنسيين الذين جلبهم نابليون معه .
(41) كان محمد على قد بعثه مع المبتعثين ليكون إمام صلاة لهم .
(42) انظر جمال الدين الشيال : رفاعة رافع الطهطاوي ، ص25 وما بعدها ، ط. الثالثة ، دار المعارف .
(43) الذهبي : المرجع السابق ، ص 497 ، 498 ؛ الزركلي : الأعلام ، جـ 6 ، ص 21 ، ط. الخامسة ، دار العلم للملايين ، 1980م .
(44) أحمد أمين : زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ص 114 ، ط. دار الكتاب اللبنابي ، 1979م ؛ علي المحافظة : المرجع السابق ، ص 74 ، 75 . وقد ترجم لجمال الدين الأفغاني تلميذه محمد عبده في كتاب اسمه " الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني " كما ألحقت دار الهلال حين نشرت هذا الكتاب (أكتوبر 1973م) رسالة " الرد على الدهريين " لجمال الدين نفسه ، ترجمها محمد عبده عن الفارسية ، وفيها رد على داروين ومذهبه في النشوء والإرتقاء ، و على أمثاله ممن ذهبوا مذهبه .
(45) الذهبي : المرجع السابق ، ص 498.
(46) المرجع نفسه ، ص 498-501 ؛ العقاد : عبدالرحمن الكواكبي ، ص 329 ،330 ، م 17 ( ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد ) ط. الأولى ، 1980م ، دار الكتاب اللبناني ؛ أحمد أمين : المرجع السابق ، ص 249 وما بعدها ( في كتاب العقاد نقول كثيرة من كتابي الكواكبي طبائع الاستبداد وأم القرى ،أما أحمد أمين فقد عرض هذين الكتابين في ترجمتة للكواكبي) .
(47) عبد القادر عبد الرحيم : الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير ، ص 284-285 ، ط. دار الأنصار ، القاهرة .
(48) المحافظة : المرجع السابق ، ص 84 ( للاطلاع على جوانب شخصية الشيخ محمد عبده انظر أحمد أمين: المرجع السابق ؛ والعقاد : الإمام محمد عبده )
(49) الرافعي : إعجاز القرآن ، ص 127 ، ط. دار الكتاب العربي ، بيروت .
(50) الذهبي : المرجع السابق ، ص 506-609 ( وقد ملأ طنطاوي جوهري كتابه بصور النباتات والحيوانات والتجارب ليوضح ما يذهب إليه )
(51) المرجع نفسه ، ص 510-517 .(/9)
(52) المرجع نفسه ، ص 518 ؛ عبد الغفار عبدالرحيم : المرجع السابق ، ص 292 .
(53) انظر مقدمة تفسيره المعروف بـ " تفسير المنار " .
(54) في كتابه : التفسير والمفسرون ، جـ2 ، ص 491-494.
(55) المرجع نفسه ، ص 590 ؛ عبد الغفار عبد الرحيم : المرجع السابق ، ص 292 .
(56) المراغي : تفسير المراغي ، جـ 1 ، ص 3 ، 4 ، ط. الثانية ، دار إحياء التراث العربي ، 1985 م ( وهذا التفسير من التفاسير التي ابتعد بها مؤلفوها عن التعقيد ، فهو قد يروي ظمأ غير المتخصص ، وقد طبع في عشرة مجلدات )
(57) المرجع السابق ، ص 18 .
(58) الذهبي : المرجع السابق ، ص 516 ، 603 ؛ عبد الغفار عبد الرحيم : المرجع السابق ، ص 293 .
(59) المرجع نفسه ، الصفحة نفسها ؛ محمد عبده يماني : الأطباق الطائرة ( حقيقة أم خيال ) ، ص 62 ، ط. الأولى ، المطابع الأهلية ، 1400 هـ/ 1980م .
(60) سيد قطب : في ظلال القرآن ، جـ1 ، ص181 ، ط. التاسعة ، دار الشروق ، 1400هـ/1980م .
(61) سيد قطب : المرجع السابق ، ص184 .
(62) المرجع نفسه ، انظر : جـ1 ، ص 183، 152-153 ، 300 ، 580-581 ، 610 ، جـ2 ، ص 633-637 ، 663 ، 1116-1121 ، 1154-1161 ، 1164-1166 ، جـ3 ، ص 1270-1272 ، 1406 ، 1782 ، 1791-1793 ، جـ4 ، ص 1857-1858 ، 1972 ، 2163 ، 2180-2181 ، 2306 ، 2409-2411 ، 2461 ، 2511 ، جـ5 ، ص 2548-2550 ، 2569 ، 2572-2574 ، 2576 ، 2634 ، 2765 ، 2892 ، 2934 ، 2969 ، 3010 - 3011 ، 3110-3114 ، جـ6 ، ص 3262 ، 3387 ، 3436 - 3440 ، 3447 - 3454 ، 3639 ، 3645 ، 3774 ، 3806 ، 3832 ، 3838 ، 3848 - 3850 ، 3878 ، 3884 - 3888 . وقد اعتمد في أكثر الأحايين على كتاب أ. كريسبي موريسون : (( الإنسان لايقوم وحده )) الذي ترجمه محمد صالح الفلكي باسم (( العلم يدعو الى الإيمان )) . كما نقل كثيراً من كتاب (( الله والعلم الحديث )) لعبدالرزاق نوفل .
(63) ـ مثل سيد قطب للنظريات : كل النظريات الفلكية ، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وتطوره ، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه ، و كل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها : في ظلال القرآن ،ج1 ص182.
(64) ـ العقاد : الفلسفة القرآنية ، ص:18، ط المكتبة العصرية ، بيروت ، 1981.
(65) ـ لين نيكلسون : استكشاف الكواكب ، ترجمة نقولا شاهين ، ص 14 ط معهد الانماء العربي ( وهذه النظرية افترضها العالم الفرنسي لابلاس عام 1796 م : المرجع السابق : نفس الصفحة ) .
(66) ـ سورة الأنبياء : آية 30
(67) ـ مثل عبدالرحمن الكواكبي : انظر الذهبي : المرجع السابق ، ص:499، العقاد : عبدالرحمن الكواكبي : ص 329
(68)ـ فصلت : آية 11 [ و قد مال د. محمد عبده يماني إلى عدم حشر الآيات القرآنية في مثل هذه النظريات ] نظرات علمية حول غزو الفضاء ، ص: 59، ط الثانية ، دار الشروق ، 1400
(69) ـ نيكلسون : المرجع السابق : ص 14 ، 15 ، والعقاد : الإسلام دعوة عالمية ، ص : 205- 206 ط المكتبة العصرية 1981
(70) ـ سورة الذاريات : آية 47
(71)ـ محمد عبده : يماني : نظرات حول غزو الفضاء ، ص :23 ، وموريس بوكاي : التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ، ترجمة نخبة من الدعاة ، ص : 151 ـ ط الأول ، دار الكندي ، بيروت .
(72) ـ العقاد : عبد الرحمن الكواكبي : ص : 330، وكتابه : الإسلام دعوة عالمية ، ص: 206 – 209 ( وفيه رد على هذا الرأي . وانظر رد الشيخ الشعراوي على ذلك في تفسير لسورة الفيل في كتابه : المنتخب من تفسير القرآن . حـ1 ، ص: 82- 84 ، ط دار العودة ، بيروت .
(73)ـ فكرة حفر قناة السويس فكرة قديمة ، فهناك محاولات في هذا الصدد من قبل الفراعنة ثم الفرس الذين استولوا على مصر قبل الميلاد ثم الرومان ثم في العصر الإسلامي ، ولكن لم تحفر على الصفة الحالية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي .
(74) ـ قرأت ذلك في صحيفة " المسلمون" ، ولكني لا أذكر العدد ( ومن هذه النزهات قول بعضهم أن القرآن الكريم فيه إثبات لأصل البترول . فالبترول ـ كما هو معروف ـ نشأ ـ كما تقول النظرية ـ من حيوانات ونباتات قديمة متحجرة منذ آلاف السنين ، وبفعل الضغط والحرارة تكون هذا البترول . فحمل بعضهم آية ( قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم ... الآية ) وبعض الآيات الأخرى على أن القرآن فيه إثبات لأصل البترول .
(75)ـ سورة النمل : آية : 88
(76) ـ الشعراوي : معجزة القرآن ،ص : 50-53 ( وله تأويل في صرف هذه الآية على أنها في الدنيا لا في الآخرة ) و مصطفى محمود : القرآن ( محاولة لفهم عصري ) ص : 56-57 ، ط الثالثة ، دار المعارف .
(77) ـ سورة الرحمن : آية : 33
(78)ـ موريس بوكاى : المرجع السابق ، ص : 152 ، ومحمد عبده يماني : نظرات علمية ، ص :59(/10)
(79) ـ عبد الرزاق نوفل : معجزة الأرقام و الترقيم في القرآن الكريم ، ص : 50-54 ، ص : 70 و ما بعدها ، ط دار الكتاب العربي بيروت 1403 / 1983 ، مصطفى محمود : المرجع السابق ، ص:71 - 72
(80) ـ الذهبي : المرجع السابق ، ص:489 - 509
(81) ـ هناك اكتشافات جديدة في مجال علم الآثار عن التاريخ القديم وغيره ، تظهر بين آونة وأخرى ، فيحاول البعض ربطها بالقرآن الكريم و كأنها القول الفصل .
(82) ـ للتعرف على بعض أغراض القصص في القرآن الكريم : انظر سيد قطب ، التصوير الفني في القرآن ، ص: 120و ما بعدها ط. التاسعة ، دار المعارف.
(83) لمعرفة أخبار الاسكندر المقدوني : انظر : العقيد محمد أسد الله صفا : الاسكندر المكدوني الكبير ، ط. دار النفائس ، ومن المعلوم أن معلم الاسكندر كان الفيلسوف المعروف "أرسطو"
(84) ـ ابن كثير : البداية والنهاية ج 2 ، ص:105-106 ، ط مكتبة دار المعارف ( وقد قال أن الاسكندر المؤمن هذا كان معلمه الخضر ) وقد رجح أبو الكلام أزاد في كتابه " ويسألونك عن ذي القرنين " أن يكون المقصود هو "قورش " مؤسس الامبراطورية الأخيمينية المتوفى سنة 529 ق.م
(85)ـ موريس بوكاى : المرجع السابق ، ص : 201 و ما بعدها ، و عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ، ص:202 – 203 ط دار إحياء التراث العربي .
(86) ـ عبد الرزاق نوفل : معجزة الأرقام ..، ص:37
(87) ـ سيد قطب : في ظلال القرآن ، جـ1 ، ص: 182 ، 184 ، جـ 4 ، ص:2376 ، جـ6 ص:3451
(88) ـ المرجع السابق : ج4،ص :2376 ،ج6 ،ص:3451( وأرجع سيد قطب الركض وراء النظريات العلمية أو تعليق الحقائق العلمية بالقرآن ـ أرجعه إلى خطأ منهجي أساسي ، وإلى ثلاث معانٍ كلها لا يليق بجلال القرآن : 1- الهزيمة الداخلية التي أطبقت على البعض بأن العلم هو المهيمن والقرآن تابع . 2- إن فيها سوء فهم لطبيعة القرآن ووظيفته . 3- التأويل المتكلف لنصوص القرآن، . انظر ج 1 ص: 182 ، ج 4 ، ص: 1858 من الظلال )
(89) ـ مصطفى محمود : المرجع السابق ، ص:73 ، موريس بوكاى: المرجع السابق ، ص: 167
(90) ـ سيد قطب : المرجع السابق ، ج 5 ، ص: 2967 -2968
(91) ـ انظر على سبيل المثال : سورة يس آية :36 ، والذاريات آية :49
(92) ـ انظر تحليل ذلك في كتاب : عبدالمجيد دياب .. مع الطب في القرآن الكريم ، ص: 21 –22 ، وموريس بوكاى : المرجع السابق ص:162 وعلق هذا الأخير أن هذه الظاهرة قد تكون معروفة لدى العرب آنذاك . كما استبعد الرأي الذي يقول أن هذه الآية تدل على التنبؤ بغزو الفضاء .
(93) ـ انظر سورة المؤمنون : 12 -15
(94) ـ الشعراوي : المرجع السابق : ص :33 ،34 ، بوكاى : المرجع السابق : ص: 177 – 178 وعبد الحميد دياب : المرجع السابق : ص: 80 وما بعدها ، مصطفى محمود المرجع السابق : ص:73 ، عبدالرزاق نوفل : معجزة الأرقام: ص:40 -41
(95)ـ تقرير حول المؤتمر الإسلامي الطبي الدولي الأول في مجلة منار الإسلام : ص: 50 العدد الثالث ، السنة 11 ربيع الأول 1406هـ
(96) ـ للاطلاع على ذلك : أنظر : المرجع السابق : ص:61 ، وعبد الحميد دياب : المرجع السابق ص: 133 و ما بعدها ، د. محمد محمد هاشم : الأدوية في القرآن ، ص:62 – 65 ط الدار السعودية ، 1403/1983 ، مصطفى محمود : المرجع السابق ص: 109 ، وللدكتور محمد علي البار كتاب " عن الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها".
(97) ـ سورة البقرة ، آية 222
(98) ـ د.عبد الحميد دياب : المرجع السابق : ص: 47، 48 ، وقد أشار موريس بوكاى إلى ذلك : المرجع السابق ص: 180
(99) ـ سورة النور :الآية :30
(100) ـ ابن قيم : إغاثة اللهفان من مصائب الشيطان ، ج1 ، ص: 44 –46 ط الأولى دار التراث العربي
(101) ـ أشار إلى ذلك د. صادق محمد صادق في المؤتمر الطبي الأولى: مجلة المنار الاسلام : المرجع السابق : ص: 57 - 58
(102)ـ عبدالرزاق نوفل دراسة عن آثار الصيام على الإنسان في كتابة " علم وبيان .." ص: 26 - 40
(103) ـ مجلة الإرشاد : ص:34 ، العدد الخامس ، السنة التاسعة ، جمادى الأولى 1407هـ
(104) ـ الذهبي : المرجع السابق : ج 1، ص: 265، 268وكتابه الآخر : علم التفسير ، ص: 53 -55(/11)
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه (1/2)
مساعد الطيار
مفهوم الرأي:
الرأي: مصدر رأى رأياً. مهموز، ويُجمع على آراء وأرءاءٍ.
والرأي: التفكّرُ في مبادئ الأمور،ونظر عواقبها،وعلم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب(1).
والتفسير بالرأي: أن يُعْمِلَ المفسر عقله في فَهْمِ القرآن، والاستنباط منه، مستخدماً آلات الاجتهاد. ويَرِدُ للرأي مصطلحاتٌ مرادفةٌ في التفسير، وهي: التفسير العقلي، والتفسير الاجتهادي. ومصدر الرأيِ: العقلُ، ولذا جُعِلَ التفسيرُ العقليُ مرادفاً للتفسير بالرأي.
والقول بالرأي: اجتهادٌ من القائل به، ولذا جُعِلَ التفسيرُ بالاجتهادِ مرادفاً للتفسير بالرأي.
ونتيجة الرأي: استنباط حكم أو فائدةٍ، ولذا فإن استنباطات المفسرين من قَبِيلِ القول بالرأي.
أَنْوَاعُ الرّأي، وموقف السلف منها: يحمل مصطلح (الرأي) حساسية خاصة، تجعل بعضهم يقف منه موقف المتردِّد؛ ذلك أنه ورد عن السلف، آثارٌ في ذمِّه.
بَيْدَ أنّ المستقرئ ما ورد عنهم في هذا الباب (أي: الرأي) يجد إعمالاً منهم للرأي، فما موقف السلف في ذلك؟
لنعرض بعض أقوالهم في ذلك، ثمّ نتبيّن موقفهم منه.
أقوالٌ في ذمِّ الرأي:
1- ورد عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: (اتقوا الرأي في دينكم)(2).
وقال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا برأيهم، فضلّوا وأضلوا)(3).
2- وورد عن الحسن البصري (ت: 110) قوله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم)(4).
أقوالٌ في إعمالِ الرأي:
ورد عن عمر بن الخطاب والحسن البصري - اللذين نقلت قولاً لهما بذمِّ الرأي ما يدلّ على إجازتهما إعمال الرأي، وهذه الأقوال:
1- أما ما ورد عن عمر فقوله لشريح - لما بعثه على قضاء الكوفة: (انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله، فاتبع فيه سنة رسول الله لله، وما لم يتبيّن لك فيه سنة، فاجتهد رأيك)(5).
2- أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟
فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولكنّ رَاًيَنا لهم خيرٌ من رأيهم لأنفسهم)(6).
هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:
* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.
* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.
وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت: 463هـ) - لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة: الحسن وابن سيرين، وقد جاء - عنهما وعن الشعبي - ذمّ القياس، ومعناه عندنا قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم)(7). والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.
العلوم التي يدخلها الرأي:
يدخل الرأي في كثير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.
أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة). ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع)، وهم الذين قالوا برأيهم في ذات الله - سبحانه.
وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه: (قياساً)، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.
وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً)، ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي).
وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو مذموماً.
حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:
سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً - وإن كان يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام - وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم، ورأي محمود.
أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:
ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله - تعالى - وسنة نبيِّه لله، كما ورد نهي السلف عنه.
وحَدّ الرأي المذموم: أن يكون قولاً بغير علمٍ وهو نوعان: علم فاسد ينشأ عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهل، ويكون منشؤه الجهل أو الهوى.
وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.
أمّا من كتاب الله فما يلي:
1- قوله - تعالى: ((قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33].(/1)
2- وقوله - تعالى: ((وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 168، 169].
3- وقوله - تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)) [الإسراء: 36].
في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله بغير علم.
وأما في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم :
فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف القياس)(8).
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
1- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.
2- عن مسروق (ت: 63هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله يضلّ)(9).
3- وقال الزهري (ت: 124هـ): (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها)(10).
وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: 33هـ) من الصحابة، وابن سيرين (ت: 110هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: 104هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم(11).
صور الرأي المذموم:
ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛ لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:
1- القياس على غير أصل(12).
2- قياس الفروع على الفروع(13).
3- الاشتغال بالمعضلات(14).
4- الحكم على ما لم يقع من النّوازل(15).
5- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه(16).
6- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل(17).
7- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن(18).
هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور أخرى تخصّ التفسير.
ثانياً: الرأي المحمود:
هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ(19)، وما كان كذلك فإنه خارج عن معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.
ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:
1- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم يجوز.
2- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:
أ - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك، فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله - ولم يَقُلْهُ نبيّه - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به الصالحون - وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه - فليجتهد رأيه، ولا يقول: أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم)(20).
قال ابن عبد البر (ت: 463هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره)(21).
ب - وعن الشعبي (ت: 104هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك)(22).
ج - وعن مسروق (ت: 63هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال: أكان هذا؟
قلت: لا.
قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك رأينا)(23).
الرّأيُ فِي التّفْسِير:
اعلم أن ما سبق كان مقدمة للدخول في الموضوع الأساس، وهو التفسير بالرأي، وكان لا بدّ لهذا البحث من هذا المدخل، وإن كان الموضوع متشابكاً يصعب تفكيك بعضه عن بعض، ولذا سأحرص على عدم تكرار ما سبق، وسأكتفي بالإحالة عليه، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وسأطرح في هذا ثلاثة موضوعات:
الأول: موقف السلف من القول في التفسير.
الثاني: أنواع الرأي في التفسير.
الثالث: التفسير بين المأثور والرأي.(/2)
وسيتخلّل هذه الموضوعات مسائل عِدّة؛ كشروط القول بالرأي، وأدلة جواز الرأي في التفسير، وصور الرأي المذموم.... إلخ، وإليك الآن تفصيل هذه الموضوعات:
أولاً: موقف السلف من القول في التفسير:
التفسير: بيان لمراد الله - سبحانه - بكلامه، ولما كان كذلك، فإن المتصدي للتفسير عرضة لأن يقول: معنى قول الله كذا.
ثم قد يكون الأمر بخلاف ما قال. ولذا قال مسروق بن الأجدع (ت: 63هـ): (اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله - عز وجل).
وقد اتخذ هذا العلم طابعاً خاصاً من حيث توقِّي بعض السلف وتحرجهم من القول في التفسير، حتى كان بعضهم إذا سئل عن الحلال والحرام أفتى، فإذا سئل عن آية من كتاب الله سكت كأن لم يسمع.
ومن هنا يمكن القول: إن السلف - من حيث التصدي للتفسير - فريقان: فريق تكلّم في التفسير واجتهد فيه رأيه، وفريق تورّع فقلّ أو نَدُرَ عنه القول في التفسير.
وممن تكلم في التفسير ونُقِلَ رأيه فيه عمر بن الخطاب (ت: 23هـ) وعلي بن أبي طالب (ت:40هـ) وابن مسعود (ت: 33هـ) وابن عباس (ت: 67هـ) وغيرهم من الصحابة.
ومن التابعين وأتباعهم: مجاهد بن جبر (ت: 103هـ) وسعيد بن جبير (ت: 95هـ) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 107هـ) والحسن البصري (ت: 110هـ) وقتادة (ت: 117هـ) وأبو العالية (ت: 93هـ) وزيد بن أسلم (ت: 136هـ) وإبراهيم النخعي (ت: 96هـ) ومحمد ابن كعب القرظي (ت: 117هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) وعبد الملك بن جريج (ت: 150هـ) ومقاتل بن سليمان (ت: 150هـ) ومقاتل بن حيان (ت: 150هـ) وإسماعيل السدي (ت: 127هـ) والضحاك بن مزاحم (ت: 105هـ) ويحيى بن سلام (ت: 200هـ)، وغيرهم.
وأما من تورّع في التفسير فجمعٌ من التابعين (24) من أهل المدينة والكوفة.
أما أهل المدينة، فقال عنهم عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع(25).
وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام - وكان أعلم الناس - فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع)(26).
وقال هشام بن عروة بن الزبير: (ما سمعت أبي يتأوّل آية من كتاب الله قطّ)(27).
وأمّا أهل الكوفة فقد أسند إبراهيم النخعي إليهم قَولَه: (كان أصحابنا - يعني: علماء الكوفة - يتّقون التفسير ويهابونه)(28).
هذا.. ولقد سلك مسلك الحذر وبالغ فيه إمام اللغة الأصمعي (ت: 215هـ)، حيث نقل عنه أنه كان يتوقّى تبيين معنى لفظة وردت في القرآن(29).
فما ورد عن هؤلاء الكرام من التوقي في التفسير إنما كان تورّعاً منهم، وخشية ألاّ يصيبوا في القول.
ثانياً: أنواع الرأي في التفسير:
الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم.
النوع الأول: الرأي المحمود.
إنما يحمد الرأي إذا كان مستنداً إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ. ويمكن استنباط أدلةٍ تدلّ على جواز القول بالرأي المحمود.
ومن هذه الأدلّة ما يلي:
1- الآيات الآمرة بالتدبّر:
وردت عدّة آيات تحثّ على التدبّر؛ كقوله - تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد: 24]، وقوله: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص: 29]. وغيرها من الآيات.
وفي حثِّ الله على التدبر ما يدلّ على أن علينا معرفة تأويل ما لم يُحجب عنا تأويله؛ لأنه محالٌ أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له: اعتبر بما لا فهم لك به(30).
والتدبّر: التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبِّر تدبّراً انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر(31).
والتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبر من أجل فهم معاني الخطاب القرآني ومراداته، ولا شك أن ما يظهر له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيه الذي وصل إليه.
2- إقرارُ الرسول - اجتهادَ الصحابة في التفسير: لا يبعد أن يقال: إن تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك وقائع يمكن استنباط هذه المسألة منها، ومن هذه الوقائع ما يلي:
أ - قال عمرو بن العاص: - بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام ذات السّلاسِلِ، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثمّ صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟
قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أَهْلَكَ، وذكرتُ قول الله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] فتيمّمْتُ، ثم صليت، فضحك - ولم يقل شيئاً)(32).(/3)
في هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاجتهاد والرأي.
ب - وفي حديث ابن مسعود، لما نزلت آية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] قلنا يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13])(33)، ترى أن الصحابة فهموا الآية على العموم، وما كان ذلك إلا رأياً واجتهاداً منهم في الفهم، فلما استشكلوا ذلك سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم إلى المعنى المراد، ولم ينههم عن تفهّم القرآن والقول فيه بما فهموه. كما يدل على أنهم إذا لم يستشكلوا شيئاً لم يحتاجوا إلى سؤال الرسول. والله أعلم.
3- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل) وفي إحدى روايات البخاري: (اللهم علمه الكتاب)(34).
والتأويل: التفسير، ولو كان المراد المسموع من التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيره(35)، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن(36)، وهذا الفهم إنما هو رأيٌ لصاحبه.
4- عمل الصحابة: مما يدل على أن الصحابة قالوا بالرأي وعملوا به ما ورد عنهم من اختلافٍ في تفسير القرآن؛ إذ لو كان التفسير مسموعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقع بينهم هذا الاختلاف.
ومما ورد عنهم نصاً في ذلك قولُ صدِّيق الأمة أبي بكر - رضي الله عنه - لما سئل عن الكلالة، قال: (أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان)(37).
وكذا ما ورد عن علي - رضي الله عنه - لما سئل: هل عندكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا، والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إلا أن يُعطِي الله عبداً فهماً في كتابه)(38).
والفهم إما هو رأي يتولّد للمرء عند تفهّم القرآن؛ ولذا يختلف في معنى الآية فهم فلان عن غيره.
________________________________________
الهوامش :
(1) الغيث المسجم في شرح لامية العجم للصفدي، 1/63.
(2) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، 190، وانظر، ص 192، الأثر رقم 217.
(3) المدخل إلى السنن الكبرى، 191، وانظر قولاً لمسروق في جامع بيان العلم، 2/168، وقولاً للزهري، 2/169.
(4) المدخل إلى السنن الكبرى، 196.
(5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/71، وانظر، ص 74.
(6) جامع بيان العلم، 2/75.
(7) جامع بيان العلم، 2/77، وانظر كلام ابن بطال في هذا الموضوع في فتح الباري، 13/301.
(8) انظر الحديث في فتح الباري، (13/295).
(9) جامع بيان العلم، 2/168.
(10) جامع بيان العلم 2/169.
(11) انظر: جامع بيان العلم، 2/77، وفتح الباري، 13/310.
(12) جامع بيان العلم، 2/70، 71، 77.
(13، 14، 15) جامع بيان العلم، 2/170.
(16) الاعتصام للشاطبي، 1/104.
(17) فتح الباري، 13/303.
(18) جامع بيان العلم، 2/169.
(19) العلم يقابل الجهل المذكور في حدِّ الرأي المذموم، أما الهوى، فيقابله الورع؛ لأنّ الوَرَعَ يقي صاحبه من مخالفة الحقِّ.
(20) جامع بيان العلم، 2/70 ـ 71.
(21، 22) جامع بيان العلم، 2/71.
(23) جامع بيان العلم، 2/72، وانظر غيرها من الآثار، ص 69 ـ 79.
(24) لم أجد نقلاً عن أحد من الصحابة يدل على أن مذهبه كهذا المذهب الذي برز عند التابعين.
(25) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/85.
(26) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/86.
(27، 28) فضائل القرآن لأبي عبيد، 229.
(29) انظر في ذلك: الكامل للمبرد (تحقيق: الدالي) 2/928، 4135، تهذيب اللغة 1/14، إعجاز القرآن للخطابي (تحقيق: عبد الله الصديق) 42.
(30) انظر: تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/82 ـ 83.
(31) التحرير والتنوير، 23/252.
(32) مسند الإمام أحمد، 4/203، 204، وأبو داود برقم 335، وانظر تفسير ابن كثير، 2/480، والدر المنثور، 2/497.
(33) أخرجه البخاري في أكثر من موضع، كتاب الإيمان ح/32، أحاديث الأنبياء/3360، 3428.
(34) انظر: فتح الباري، 1/204، وانظر شرح ابن حجر، 1/204 ـ 205.
(35) انظر: تفسير القرطبي، 1/33، وجامع الأصول، 2/4.
(36) انظر: فتح الباري، 1/205.
(37) انظر قوله في تفسير الطبري، (ط شاكر)، 8/53، 54.
(38) رواه البخاري، (فتح الباري، 1/246) وغيرها من المواضع التي ذكرها لهذا الحديث.(/4)
التفسير بالمأثور
نقد للمصطلح وتأصيل
مساعد سليمان الطيّار
إن المصطلحات العلمية يلزم أن تكون دقيقة في ذاتها ونتائجها، وإلا وقع فيها وفي نتائجها الخلل والقصور، ومن هذه المصطلحات التي حدث فيها الخلل مصطلح (التفسير بالمأثور)، وفي هذا المصطلح أمران: أنواعه ، وحكمه.
أما أنواعه، فقد حدّها من ذكر هذا المصطلح من المعاصرين بأربعة، هي: (تفسير القرآن بالقرآن ، وبالسنة ، وبأقوال الصحابة ، وبأقوال التابعين).(1)
وغالباً ما يحكي هؤلاء الخلاف في جعل تفسير التابعي من قبيل المأثور.(2)
وأما حكمه ، فبعض من درج على هذا المصطلح ينتهي إلى وجوب الأخذ به.(3)
وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد بن عبدالعظيم الزرقاني ، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يلي: (هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبايناً لمراد الله من كتابه) ثم قال: (وأما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور لأنهم تلقوه من الصحابة غالباً ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي).(4)
ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1977 م) فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور) ، وقد علل لدخول تفسير التابعي في المأثور بقوله: (وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما روي عن التابعين وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي؟ لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور كتفسير ابن جرير وغيره لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما روي عن الصحابة ، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)(5).
منشأ الخطأ في هذا المصطلح:
إنه فيما يظهر قد وقع نقل بالمعنى عمن سبق أن كتب في هذا الموضوع وبدلاً من أن يؤخذ عنه مصطلحه استبدل به هذا المصطلح الذي لم يتواءم مع هذه الأنواع ، ولا مع حكمها كما سيأتي.
والمصدر الذي يظهر أن هذه الأنواع نُقلت منه هو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية المسماة (مقدمة في أصول التفسير).
وقد وردت هذه الأنواع الأربعة تحت موضوع (أحسن طرق التفسير)(6) فهي عند شيخ الإسلام (طرق) وليست (مأثوراً).
ولو تأملت النقلين السابقين ، فإنك ستجد أنهما يحكيان الخلاف في كون تفسير التابعي مأثوراً أم لا.
وستجد هذا موجوداً في رسالة شيخ الإسلام ، ولكن البحث فيه ليس عن كونه مأثوراً أم لا ، بل عن كونه حجة أم لا؟
وبين الأمرين فرق واضحٌ ، إذ لم يرد عن العلماء هل هو مأثور أم لا؟ لأن هذا المصطلح نشأ متأخراً ، بل الوارد هل هو حجة أم لا؟
وإن كان هذا التأصيل صحيحاً ، فإن اصطلاح شيخ الإسلام أدق من اصطلاح المعاصرين ، وأصح حكماً.
فهذه التقسيمات الأربعة لا إشكال في كونها طرقاً، كما لا إشكال في أنها أحسن طرق التفسير ، فمن أراد أن يفسر فعليه الرجوع إلى هذه الطرق.
نقد مصطلح (التفسير المأثور):
مصطلح المعاصرين عليه نقد حيث يتوجه النقد إلى أمرين وإليك بيانه:
1- ما يتعلق بصحة دخول هذه الأنواع في مسمى (المأثور).
2- ما يتعلق بالنتيجة المترتبة عليه ، وهي (الحكم).
أما الأول: فإنه يظهر أن هذا المصطلح غير دقيق في إدخال هذه الأنواع الأربعة فيه ، فهو لا ينطبق عليها جميعاً، بل ويخرج ما هو منها، فهذا المصطلح غير جامع ولا مانع لسببين:
أ- أن المأثور هو ما أثر عمن سلف ، ويطلق في الاصطلاح على ما أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم.
فهل ينطبق هذا على تفسير القرآن بالقرآن؟
إن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه حتى يكون طريقه الأثر ، بل هو داخل ضمن تفسير من فسر به.
* فإن كان المفسر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو من التفسير النبوي.
* وإن كان المفسر به الصحابي ، فله حكم تفسير الصحابي.
* وإن كان المفسر به التابعي ، فله حكم تفسير التابعي.
وهكذا كل من فسر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه.
ب- أن المأثور في التفسير يشمل ما أُثر عن تابعي التابعين كذلك ومن دوّن التفسير المأثور فإنه ينقل أقوالهم ، كالطبري (310) وابن أبي حاتم (ت: 327) ، وغيرهما.
بل قد ينقلون أقوال من دونهم في الطبقة، كمالك بن أنس ، وغيره. ولو اطلعت على أوسع كتاب جمع التفسير المأثور، وهو (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) لرأيت من ذلك شيئاً كثيراً.
ولو قُبلت العلة التي ذكرها الشيخ محمد حسين الذهبي في إدخاله تفسير التابعين في المأثور ، لصح تنزيلها على المأثور عن تابعي التابعين ومن دونهم.
وقد نشأ الخطأ في تصور ونقل الخلاف في تفسير التابعي ، وهل يندرج تحت التفسير بالمأثور ، أم لا يصح أن يوصف بأنه تفسير مأثور؟ ونزّل كلام العلماء خطأ في حكم تفسير التابعي على قضية كونه تفسيراً مأثوراً أم غير مأثور ، ولم يكن حديث العلماء على كونه مأثوراً أم غير مأثور ، إذ لم يكن ذلك المصطلح معروفاً ولا شائعاً في وقتهم.(/1)
وأما الثاني وهو ما يتعلق بالحكم فإن بعض من درج على هذا المصطلح نصّ على وجوب اتباعه والأخذ به(7) ، وهو مستوحى من كلام آخرين(8).
ومما يلحظ على هذا الحكم أنهم يحكون الخلاف في تفسير التابعي من حيث الاحتجاج ، بل قد حكى بعضهم الخلاف في تفسير الصحابي(9).
ثم يحكمون في نهاية الأمر بوجوب اتباعه والأخذ به،فكيف يتفق هذا مع حكاية الخلاف الوارد عن الأئمة دون استناد يرجح وجوب الأخذ بق ول التابعي ، فهم يمرون على هذا الخلاف مروراً عاماً بلا تحقيق.
ثم إن كان ما ورد عن الصحابة والتابعين مأثوراً يجب الأخذ به على اصطلاحهم فما العمل فيما ورد عنهم من خلاف محقق في التفسير؟ وكيف يقال: يجب الأخذ به؟
ومن نتائج عدم دقة هذا المصطلح نشأ خطأ آخر ، وهو جعل التفسير بالرأي مقابلاً للتفسير بالمأثور وهو الأنواع الأربعة السابقة حتى صار في هذه المسألة خلط وتخبط،وبنيت على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة ، ومنها:
1- أن بعضهم يقررون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه برأيهم ، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ناسين ما مرروه من قول بأنهم قالوا بالرأي ، فيجعل قولهم مأثوراً وقول من بعدهم رأياً ، فكيف هذا؟ وإذا كان الصحابة قالوا في التفسير برأيهم فلا معنى لتفضيلهم على غيرهم ممن بعدهم في هذه المسألة ، وهذا لا يعني مساواة من بعدهم بهم.
2- كما تجد أن كتب التفسير تُقسّم إلى كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير بالرأي، وعلى سبيال المثال يجعلون تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور ، ولو أردت تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور ، فإنك ستجد اختيارات ابن جرير وترجماته ، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف يحكم عليه بأنه مأثور؟! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن جرير ، وفرق بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور ، أو نقول هو تفسير بالمأثور.
3- وقد فهم بعض العلماء أن من فسر بالأثر فإنه لا اجتهاد ولا رأي له بل هو مجرد ناقل، لا عمل له غير النقل ، ويظهر أن هذا مبني على ما سبق من أن التفسير بالمأثور الذي يشمل الأربعة السابقة يقابله التفسير بالرأي.
ومن ذلك ما قاله الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: (أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور ، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر...). ثم قال: (وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها،وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب ، وحسبه بذلك تجاوزاً لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور ، وذلك طريق ليس بنهج ، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور،مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين ، والزجاج والرماني ممن بعدهم ، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية).(10)
وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:
الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين »جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور« وفي ظني أن هذا لم يُقَل به ولكنه تأوّلٌ لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.
الثانية: لم يورد الشيخ دليلاً من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روي عن الصحابة والتابعين فقط ، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم ولا يتعدى ذلك إلى الترجيح.
الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمد على روايات السلف ومنهج هؤلاء الذين اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق ، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم ؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات ، بل كانوا يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف ، وهم بهذا لا يُعدون مفسرين ، بل هم ناقلو تفسير.
ومن هنا ترى أن الشيخ بن عاشور يرى أن من التزم بالمأثور فإنه لا يكون له رأي كالطبري. وأنّ من لم يلتزم بالمأثور فلله دره! كما قال.
وقد سبق أن ذكرت لك أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اعتمدوا التفسير بالرأي وقالوا به ، وإن من الأخطاء التي وقعت مقابلة أقوالهم التي هي من قبيل الرأي بأقوال أبي عبيدة والفراء وغيرهم ، بل الأعجب من ذلك أن تفاسيرهم اللغوية تجعل من المأثور وتُقابل بتفاسير أبي عبيدة والفراء والزجاج اللغوية ، وتجعل هذه لغوية.
كل هذه النتائج حصلت لعدم دقة مصطلح التفسير بالمأثور.
ما هو التفسير بالمأثور:
بعد هذا العرض ، وتجلية مصطلح التفسير بالمأثور المعتمد في كتب بعض المعاصرين يتجه سؤال ، وهو: هل يوجد تفسير يسمى مأثوراً؟
والجواب عن هذا (نعم) ، ولكن لا يرتبط بحكم من حيث وجوب الاتباع وعدمه ، بل له حكم غير هذا.(/2)
فالمأثور هو ما أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته وعن التابعين وعن تابعيهم ممن عُرفوا بالتفسير ، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية على اجتهادهم.
وعلى هذا درج من ألف في التفسير المأثور؛ كبقي بن مخلد ، وابن أبي حاتم والحاكم ، وغيرهم.
وقد حاول السيوطي جمع المأثور في كتابه (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وذكر الروايات الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم وتابعي تابعيهم ومن بعدهم.
وهذا لا يبنى عليه حكم من حيث القبول والرد ، ولكن يقال: إن هذه الطرق هي أحسن طرق التفسير ، وإن من شروط المفسر معرفة هذه الطرق.
أما ما يجب اتباعه والأخذ به في التفسير فيمكن تقسيمه إلى أربعة أنواع:
الأول: ما صح من تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الثاني: ما صح مما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع كأسباب النزول والغيبيات.
الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون ؛ لأن إجماعهم حجة يجب الأخذ به.
الرابع: ما ورد عن الصحابة خصوصاً أو عن التابعين ممن هم في عصر الاحتجاج اللغوي من تفسير لغوي ، فإن كان مجمعاً عليه فلا إشكال في قبوله ، وحجيته ، وإن ورد عن واحد منهم ولم يعرف له مخالف فهو مقبول كما قال الزركشي: (ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان ، فلا شك في اعتمادهم).(11).
وإن اختلفوا في معنى لفظة لاحتمالها أكثر من معنى ، فهذا يعمد فيه إلى المرجحات.
أما ما رووه عن التابعي فهو أقل في الرتبة مما رووه عن الصحابي ، ومع ذلك فإنه يعتمد ويقدم على غيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
________________________________________
هوامش:
(1)انظر على سبيل المثال: مناهل العرفان للزرقاني 2/1213 ، التفسير والمفسرون للذهبي 1/154 مباحث في علوم القرآن لمناع القطان.
(2)انظر مثلاً: مناهل العرفان 2/13 ، التفسير والمفسرون 1/154 لمناع القطان 347.
(3)انظر مثلاً: مباحث في علوم القرآن ، 350 ، وهذا ما يتوحى من عبارة الزرقاني.
(4)مناهل العرفان 2/1213.
(5)التفسير والمفسرون 1/15.
(6)مقدمة في أصول التفسير ، تحقيق: عدنان زرزور ، ص 93.
(7)انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان ، 350.
(8)كالزرقاني ، والذهبي ، والصباغ (لمحات في علوم القرآن ، 177 وما بعدها).
(9)لمحات في علوم القرآن ، 180.
(10)التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ، 1/32 ، 33.
(11)البرهان في علوم القرآن ، 2/172.
تفسير الطاهر بن عاشور المعروف (بالتحرير والتنوير) بالرغم من شموله واستقصائه لما يفسره من آيات، إلا أن منهجه العقدي أشعري يؤول آيات الصفات. وللمزيد انظر الكتاب القيم (المفسرون والتأويل) للشيخ محمد المغراوي المغربي، من مطبوعات دار طيبة بالرياض.(/3)
التفكك الأسري وتأثيره على الأبناء والمجتمع( تحقيق)
لقمان عطا المنان*
تتجلى مسؤولية الآباء والأمهات تجاه أبنائهم من خلال تربيتهم على العلم والإيمان والتقى، وأطرهم على صراط الله المستقيم، وأن يسلكوا بهم في فجاج الخير لينهلوا من منابع النور والمعرفة؛ فيشبوا أقوياء العقيدة، أمناء على مصالح الأمة.. هنا فقط تقر بهم أعين والديهم؛ فمن ذا يفرط في جميل العاقبة حين يرى أولاده أتقياء لله، بررة به، يحملون عنه صعاب الحياة وكدرها، ويحيطونه بسياج الرعاية والرحمة.. وتلكم هي ثمرة حسن التربية المنبثقة من هدي الكتاب والسنة..
هذا هو الأنموذج الأمثل لآباء المسؤولية، آباء الصدق والأمانة؛ فحازوا السبق في ذلك.. وكم يسر المسلم حين يرى هذه النماذج الخيرة في مجتمعنا ولله الحمد والمنة.. ولكن على النقيض من ذلك الآباء المتخلون؛ رفعوا أيديهم، وسلموا العنان لمضلات الأهواء والفتن؛ لتقود أبناءهم إلى الرزايا والآثام والتي لها آثارها على المجتمع (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)!!..
ولا ريب أن المحصلة بائسة المصير؛ سفلى العاقبة؛ حيث يغادر البر والوصل، ويحل العقوق والقطيعة؛ فحين يضعف داعي الإيمان يتأصل الجفاء، ويتعاظم العصيان؛ فيذوق الآباء نقيض رغبتهم بما جنت أيديهم!!..
كيف تتأسس الحياة الزوجية؟
الأسرة لن تكون درعًا إلا إذا تأسست على ميثاق بين الزوجين كما أوصى الشرع، ولن يكون ذلك إلا إذا كان بنية التأبيد، ونشدان الإحصان والعفاف، وحفظ النوع المتميز بالرسالية، وحفظ الأمانة، والخضوع لمقتضيات العقد، وما يتطلبه من ضوابط تنظيمية كالقوامة، ومعنوية كالود والاحترام.. وهذه الصفات، والمقومات، والأركان إن هي إلا تجسيد اختزالي لروح التوجيه الشرعي، المستفيض، الذي يحرص على توفير كل العوامل والشروط التي تؤمن المقاصد المتوخاة من إقامة مؤسسة الأسرة..
* محمد الزين علي - مهندس:
تكوين الأسرة ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض؛ فالأسرة لا بد أن يكون راعيها - رب الأسرة - ذا خلق، ودين، وتقوى، ويخاف الله؛ لأنه إذا توفرت عنده هذه الشروط فإنه بالتأكيد سوف يتزوج إمرأة تحمل نفس صفاته، وسيحرص على ألا يبتعد عن ذلك؛ وبذلك يكون نتاج الأسرة ثمارًا ياينعة من أبناء صالحين؛ يسيرون في درب آبائهم؛ ينفعونهم، ويكونون صالحين لمجتمعهم..
* نجاة كمبال عبد الرحمن - خريجة علم نفس:
دائما الأسرة التي تحمل شهادة سوية تساهم في دعائم بناء المجتمع، وتكون أُنموذجا يحتذى به، لا سيما إذا كانت تريد من تمسكها ابتغاء الله وحده..
* علي كورينا – موظف:
الأسرة التي تلتزم بالضوابط والآداب والقيم هي الأسرة المطمئنة، التي تعيش حياة كريمة ومتماسكة وسعيدة، وهي لا تعطي للتفكك سبيلا إليها..
* جبارة علي وديدي - رب أسرة:
التفكك الأسري شيء مؤسف، وله أسباب كثيرة دون أن يتعظ الناس من الأسر الأخرى التي أصابها التفكك.. انظر لهؤلاء الشماسة والمشردين الذين يجوبون الشوارع والطرق! من أين أتوا؟!.. إن أكثرهم وصل لهذا الحال بسبب التفكك الأسري، ومشاكل آبائهم!!..
أهمية الاختيار
إنّ أكثر ما يقع فيه كثير من الآباء وأولياء الأمور أنهم يزوجون بناتهم بأشخاص غير أكفاء لهن في الدين؛ فيورثوهن معيشة ضنكًا، وجحيمًا لا يطاق.. ونفس الحكم ينسحب على رجال حجبت عنهم المظاهر الشكلية - من جمال، وغنى، وحسب - عند اختيار شريك الحياة خطورة الإقدام على الزواج بمن لسن بذوات كفاءة لهم في الدين بفهم تعاليمه، وتكاليفه فهمًا سليمًا!!..
* الوليد أحمد علي – موظف:
أكثر ما يجلب المشاكل للأسرة هو عدم اختيار الرجل المرأة الطيبة، أوعدم اخيار المرأة للرجل الطيب!!.. وهنا تقع المشاكل، وتتفاقم؛ لا سيما عقب الزواج، أو بعد أن يرزقهم الله تعالى بالأولاد.. ومثل هذه الصور مكررة اليوم كثيرا في المجتمع!!..
* صلاح عوض الله - طالب بجامعة الخرطوم:
توازن الأسرة هو استقامة الرجل والمرأة، وإذا اختلَّت إحدى هاتين الكفتين ضاعت الأسرة؛ وهذه أول شرارة؛ فأحدهما مهما كان يخون الآخر فإن الآخر لا بد أن يقع ويمارس ذات الفعل؛ وكما تدين تدان!!.. لذا لا بد من التفاهم، والصراحة، والشفافية، وقبل ذلك الاختيار الحسن للآخر؛ حتى تعيش الأسرة حياة سعيدة؛ بعيدا عن كل ما يعكر حياة الأسرة!!..
* العبيد إبراهيم كمال الدين – مهندس:
دائما التفكك الأسري يبدأ من الآباء؛ عندما يتصارعون، ويتناكفون بعضهم البعض في أشياء لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لا سيما أمام الأولاد؛ فحينئذ تنتقل جرثومة العدوى للأبناء؛ ويفقد البيت هيبته؛ فالولد لا يطيع أباه أو أمه، والأم لا تسمع ولا تطيع زوجها، وهكذا؛ تعيش الأسرة على جمر من نار؛ وتصير جحيما لا يطاق أبدا!!..
مفهوم القوامة(/1)
مفهوم القوامة الذي يشكل الموقف السلبي منه لكلا الزوجين أو أحدهما أثرًا ساحقًا وخطيرًا على تماسك الأسرة؛ فقد يقع مفهوم القوامة ضحية تعسف في الفهم والاستعمال من طرف الرجل؛ فيحوله إلى أداة للقمع والطغيان.. وقد يقع المفهوم ضحية استهتار به من قبل المرأة (الزوجة) نبعًا من فهم سقيم للحرية بفعل تأثير التيارات الليبرالية المنفلتة من أي ميزان؛ مما يتحول معه بيت الزوجية إلى بؤرة للمشاكسة والنشوز والعناد!!.. وليست الطاعة أبدًا في ظل المنظومة التربوية الإسلامية مرادفًا للخنوع الذي يجرد شخصية الإنسان من خصائصها المميزة، وقدرتها على الإبداع؛ بل إنها ذلك السلوك النبيل؛ النابع من شعور مرهف بجملة من المعاني السامية التي لا يعقلها إلا العالمون!!..
* عبد الحميد حسن عمر - مواطن:
المشاكل عديدة لكن أبرزها - حسب اعتقادي - أن القوامة عندما تكون في يد المرأة فإن الطامّة سرعان ما ستقع؛ ويكثر الهرج والمرج، ويخرج من بين دوامة هذا الضجيج الأبناء إلى عالم الضياع؛ دون أن يشعر الآباء بما أحدثوه من تدمير لأبنائهم سواء كانوا صغارا أوكبارا!!..
* مها عبد الدافع - معلمة أساس:
أعتقد أن بعض الرجال الذيين منحهم الإسلام القوامة يظنون ويسؤون عندما يظنون أنّ هذه القوامة هي أداة للقمع والطغيان؛ ومن هنا تنبعث المشاكل تباعا دون توقف أو تعقل!!..
* محمد أحمد عبد الجبار - رب أسرة:
شوف يا ابني! أكثر المشاكل اليوم ناتجة عن سيطرة المرأة على الرجل الذي هو السبب الريئسي في ذلك لضعف شخصيته، وعدم سيطرته على زمام دفة الأمور بالبيت، وطالما كانت سيطرة المرأة موجودة فإن باب الحرية المطلقة قد انفتح على مصراعيه للأولاد!!..
* البلولة الرشيد - من مواطني بورتسودان:
المشاكل شيء طبيعي داخل الأسرة الواحدة؛ ولا يخلو بيت من مشكلة.. أقول: الاحترام المتبادل بين الزوجين هو الأهم، وإذا فقد هذا الاحترام فشيمة أهل البيت الطرب والرقص!!..
عدم العدل بين الأبناء، وغياب الآباء
إذا كان غياب الأم بسبب العمل خارج البيت يتسبب في حرمان الأطفال من حقهم من العطف والحنان فإن غياب الأب يترتب عنه - علاوة على الحرمان من المدد العاطفي - افتقاد الأسرة للمحور الجامع، والراعي الأمين؛ الذي يمثل السلطة المادية والمعنوية التي تعمل على حفظ التوازن بين الرغبات؛ درءًا لحالة الفوضى والاضطراب.. هذا في الحالة التي يكون فيها الأبوان في مستوى إدراك عظيم المسؤولية تجاه الأبناء، أما في الحالة المعاكسة فإن الأبوين حتى مع وجودهما قد يكونان وبالا على تماسك الأسرة واستقرارها؛ بسبب ما يحتدم بينهما من نزاعات تلقي بظلالها القاتمة على الأولاد؛ فيتراوح تأثير ذلك بين توريث هؤلاء الأولاد نزعة سوداوية تجاه الحياة؛ قد تشكل خميرة لاستنساخ تجارب مريرة مماثلة أو أشد حدة، وبين أن يسقطوا صرعى لمظاهر من الانحراف السلوكي تزيد كيان الأسرة تفتيتًا وتفككًا..
وقد تكون هناك معاملة غير عادلة من الآباء للأبناء؛ مما ينتج عنه هزات عنيفة لكيان الأسرة؛ بسبب ما يخلفه ذلك من ضغائن، وأحقاد!!..
* إبراهيم عامر – سائق:
دائما عدم العدل من الآباء، والتفريق بين أبنائهم هو السبب الذي يفرق ويشتت هذه الأسرة بعد أن تولدت العداوة والبغضاء بين الأبناء بعضهم بالبعض.. وهذا أمر خطير يجب أن ينتبه له البعض.. شخصيا أنا كنت أحد ضحايا هذا التفريق بعد أن صبرت كثيرا، ولكن الحمد لله استفدت من هذه التجربة عندما تزوجت ورزقني الله تعالى أبناءًا؛ ولم أقع في الذي وقع فيه آباؤنا من عدم العدل بين الأبناء.. والله الموفق.
* هاشم عبد العزيز - رب أسرة:
الحياة الزوجية شراكة، وقبل ذلك تفاهم متبادل، ولكن كثيرا ما تكون هذه المشاكل - التي لها آثارها الجانبية على الأبناء، والمجتمع - بسبب غياب الآباء أنفسِهم عن البيت بسبب عملهما في مكان ما، فيعودون آخر اليوم في ظل غياب الحنان نحو أبنائهم، والجلوس معهم و...!!.
* جمعة موسى أحمد - رب أسرة:
في اعتقادي أن مشاكل الآباء أمام الأبناء، وعدم احترامهما لبعضهما البعض هو أهم الأسباب؛ في ظل التعاند، والبغضاء، والجفوة؛ بعيدا عن الاحتكام إلى صوت العقل.. وإنا لله، وإنا إليه راجعون!!..
التربية الخاطئة
لا بد أن يضع المربي نصب عينيه الأجور العظيمة التي سيكتبها الله له عندما يقوم بالمسؤولية، وينصح، ويرشد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقدم التوجيه لكل فرد من أفراد أسرته.. مع العلم بأنه إذا صلح الأبناء فإنه ما من عمل صالح يعمله إلا وللمربي مثل أجره.. لكن أحيانا تجد أنّ بعضهم قد جلب لهم في البيت ما يهدم ما قد بناه خلال أعوام؛ فيهدمه في أيام!! أو قد يكون قد اتخذ أساليب خاطئة في التربية والتوجيه!!..
* الأمين عبد الحليم محمد - رب أسرة:
كثير من الآباء لا يعرف دوره؛ ويظن أنّ دوره فرضه لآرائه، مع الغلظة والشدة نحو أبنائه؛ وهذه مصيبة ابتلى بها الكثير من الآباء!!..(/2)
* الصادق ابن عوف كرار - رب أسرة:
يا ابني! هنا شيء مهم يجب أن يعلمه الناس؛ وهو أن هناك في العديد من الأسر قد تجد الأبناء يلتزمون جانب طريق الدين، والتمسك بتقوى الله تعالى، بينما تجد العكس أن الأب قد لا يؤدي الصلاة!!.. وللأسف الشديد تجده يبذل مجهودا كبيرا في المشاكل مع أبنائه الذين هم أفضل منه، والابن تجده يبذل مجهودا في الإصلاح، ولكنه يصبر جراء ما يفعله أبوه الذي ربما أيضا قد يكون يسير في طريق الخمر والهوى، وقد يتأثر بقية أبنائه الباقين به!!..
* محمد الأمين الحسن – موظف:
التربية الخاطئة من الأب نحو أبنائه لها مردودها السيئ في الأسرة.. فقد تجد الأب يعظ، ويرشد، ولكنه فجاة قد يهدم ما بناه في لحظة بسبب فعل أو كلام ما أو ... وهذه معضلة!!..
الآباء بين حضور الأبوة، وغياب المسؤولية
نحن في عصر أحوج ما يكون فيه الأب قريبا من ابنه، والابن قريبا من أبيه؛ يستنير بتوجيهاته، ويستفيد من تربيته، ويستعين به بعد الله في حل مشكلاته!!..
* أحمد نميري حمزة – مواطن:
غياب رب الأسرة هو أكثر الأسباب اليوم التي تطيح بالأسرة، وذهاب ما تبقى منها؛ فالأب المغترب أعواما خارج البلاد أولاده في أَمَسِّ الحاجة إليه، وإلى مسهماته معهم أكثر من مساهمته بأمواله..
وهنا أذكر أن أحد أولاد الجيران في المستوى الرابع بكلية الطب قد تركه والده وعمره أحد عشر عاما، وعندما اتصل به والده ليحدثه قال له الولد: (أنت أبي نعم، ولكن ماذا تعرف عني وقد تركتني صغيرا.. فنحن نريدك أن تحضر؛ ولا نريد منك أي مال؛ فقط احضر؛ حتى نشعر بأن لنا أبًا).. لكن وللأسف ما يزال الأب غائبا!!..
* عبد الله آدم - رب أسرة:
أخطر ما يفتك بالأسرة اليوم هو غياب الأب لسنين عددا؛ بسبب اغترابه خارج البلاد بعد أن ترك أبناءه صغارا دون أن يعرف كيفية نشأتهم التي ربما تكون تنشئة منحرفة، بل وتصيرالأسرة مفككة الأوصال.. وهذا في اعتقادي هو السبب الريئسي؛ لأنه فقدان للعلاقة بين الابناء والآباء الذين ربما يكتفون فقط بالاتصال التلفوني!!..
* عبد المجيد عاصم الأمين – عامل:
أهم ما في الأسرة هو الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة.. وهذا هو الذي يؤدي لتماسك الأسرة، ولكن أن يكون دور الأب وهَمُّه هو توفير المستلزمات المنزلية فقط من مأكل ومشرب؛ دون أن تكون هناك علاقة بينه وبين أبنائه؛ فهذه مشكلة قد يدفع ثمنها الأب كثيرا عنما تنهار الأسرة على رأسه!!..
* عصام الطيب - طبيب:
في هذا الزمن صار كل هم الآباء هو جمع المال لأبنائهم في ظل هذه الحياة وتقلباتها؛ مما أنساهم دورهم تجاه أسرتهم وأبنائهم!!..
المناهج الملغومة
على الصعيد التعليمي التربوي تظل المناهج الدراسية - الملغومة بأفكار، وتصورات، وقيمٍ تعمل على استنساخ الأُنموذج الغربي للعلاقة بين الرجل والمرأة بعامة، ولمفهوم الأسرة بخاصة، وكذلك للعلاقة بين الآباء والأبناء - تظل تلك المناهج تمثل معول هدم يفتك بعقول الناشئة؛ الذين يراد منهم أن يشكلوا عوامل شرخ داخل حمى أسرهم؛ بما يحملونه من أفكار تدعو للصراع بدل الوئام، وللفردية بدل الجماعية، وللإباحية بدل الالتزام بمكارم الأخلاق!!..
* سامر عبد اللطيف عيسى - خريج علم اجتماع:
ما تزال المناهج التعليمية المسمومة - التي تدرس للطلاب والتلاميذ - تهدم وتدمر الأسر؛ عبر تصوراتها وأفكارها المبرمجة للعلاقات الزوجية، والعلاقة بين الأبناء معهم، وخاصة الأسرة حيث تمثل هذه المناهج خطرا يفتك بالأسرة؛ منذ أن يدخل الطفل المدرسة؛ حيث يرضع بهذا المنهج، ويحمل كل الأفكار التي تنادي بالإباحية، وعدم التمسك بالسلوك القويم، والأخلاق الفاضلة!!..
* ميسرة عبد الماجد - معلم:
المناهج التعليمية تشكل خطورة بالغة على الأبناء؛ حيث يوجد بها ما هو ملوث، مستورد، له أهدافه التدميرية؛ والتي قد تتماشى وتسير مع حياة التلاميذ؛ ومن هنا تأتي وسائل الهدم؛ بعد أن حلت مكان البناء!!..
خطر الاختلاط
هناك أمر مهم يتعلق بجانب من الجوانب التنظيمية المرتبطة بالأسرة؛ وذلك في علاقته بأحد الضوابط الكفيلة بالمحافظة على حرمة بيت الزوجية والتي تسد مداخل الشيطان التي تهب منها ريح السموم التي من شأنها أن تطيح بكيان الأسرة ولو بعد حين.. ألا وهو الاختلاط بين الرجال والنساء الأجانب، الذي حرّمه الإسلام، وحذر من مغبة سهامه القاتلة!!.. إن التساهل في أمر الاختلاط يشكل خرقًا خطيرًا؛ تتسرب منه المياه إلى سفينة الأسرة؛ بسبب ما يؤدي إليه من تلوث لمناخ العلاقات بين الأسر، وما ينجم عنه من تفلتات، وفي أحسن الأحوال شكوك تلغم العلاقات الزوجية، وتحولها إلى بؤرة من العذاب.. هذا فضلا عن مثل السوء الذي يؤثر سلبًا في التشكيل الوجداني، والنفسي للأطفال؛ الذين يكتنفهم محيط الأسرة، ويتلقفون كل ما يجري فيه؛ من سلوكات شريرة!!..
* حسن الله جابو - رب أسرة:(/3)
الأسرة أكثر ما يجعل التفكك يدب فيها هو الحرية، وكل واحد يعمل ما يراه مناسبا مثل أن يختلط الحابل بالنابل، وهو اختلاط الأبناء بالبنات؛ سواءًا كان داخل الأسرة أو خارجها، مع ارتداء اللبس الضيق، والتبرج، والسفور!!..
* عبد القادر الريح – معلم:
إذا دخل الاختلاط البيوت، وصار أمر التساهل فيه من قبل الوالدين فإن الأسرة في طريقها إلى الزوال، وكم من أسرة قد جرفها تيار الاختلاط وصار أمرا متساهلا فيه من قبل الوالدين؛ فإن الأسرة إذا في طريقها إلى الزوال، وكم من أسرة قد جرفها تيار الاختلاط قد وجدت حتفها في مستنقع الرزيلة الآسن، وتشرد أبناؤها!!..
التأثر بالثقافة الغربية
لقد تحولت الكثير من الأسر إلى أشكال، وألبسة، وعلاقات متوارثة؛ ولم تعد تختلف عن غيرها في كثير من الأحيان إلا بالعناوين، بينما تلتصق بها، وتتحد معها في المضامين..
إن غذاء الأسرة الثقافي، والأدبي أصبح من الإعلام وما أورثه من التقليد في اللباس، والأزياء، ومجاراة الموضة الغربية كل هذا بات يشكل ثقافة الأسرة شيئًا فشيئًا!!.. ومن المؤسف أن الكثير من الرجال والنساء، وبسبب من جهلهم لا يخرجون في معاملتهم مع أبنائهم، وبناتهم، وزوجاتهم، وأزواجهم عن ثقافة المجتمع الغربي؛ فهم يمارسون أعمالا وتقاليد قد لا تمت للإسلام والقيم التي يحملونها بصلة؛ فهم إذا دخلوا البيوت دخلوا على أسرهم بشخصيات أخرى تمامًا؛ وهنا الكارثة التي تدمر الأولاد والنساء، وتشككهم بصدق القيم التي يدعون إليها؛ مما يؤدي إلى انحلال عرى الأسرة دفعة واحدة!!
* لؤي الضو - عامل:
الجري واللهث خلف الألبسة والموضة الغربية يسهمان مساهمة كبيرة في عملية تفكك الأسرة؛ حيث تجد كل شخص له حريته الكاملة في أن يفعل ما يشاء، ويخرج متى ما يشاء؛ في غياب تام من الآباء الذين ديدنهم كذلك!!..
* مزمل صلاح الدين - فني كهربائي:
نحن كمسلمين لنا قيمنا وأعرافنا التي رسمها لنا الدين؛ والتي إن بعدنا عنها تهنا، وسرنا في طرق متعرجة؛ مثل التأثر بكل ما هو غربي مستورد لا يمت للإسلام بصلة، أو التأثر بالمجتمع الذي هو الآخر يحمل هذه الثقافة المستوردة حتى صارت ذات صلة وثيقة به!!..
* بدر الدين تاج السر أبو يزيد - معلم:
من المؤسف أن الكثير من الناس له وجهان؛ وجه خارج المنزل، والآخر داخل المنزل.. وهذا مؤشر خطير؛ يؤدي لتفكيك أوصال الأسرة وزعزعة كيانها؛ إذ لا يعقل أن يكون رب الأسرة غير مستقيم؛ لأن الله لا محاله سيفضحه مهما بلغ منه من فعل شنيع، أو أي صفة أخرى عكس التي يحملها أمام أبنائه!!..
* أبوبكر الزين - طبيب:
التأثر بالغرب في شوؤنهم هو في الغالب من أسباب هذه المشاكل؛ فحقيقة حياتنا اليوم أشبه بالحياة الغربية؛ ومثال لذلك نتأثر غاية التأثير عندما نشاهد الأفلام الغربية التي تمثل واقعهم، أومسلسلاتهم التي شغلونا واشتغلنا بها!!..
* ابتسام عوض محجوب - ربة منزل:
غياب الإسلام عن واقع المسلمين اليوم هو الذي سبب كل هذه الفوضى التي تجتاح بعض الأسر وأبنائها الذين سيرثونها عندما يتزوجون؛ وهكذا تتداول هذه المشاكل الموروثة من جيل لآخر إن لم يتداركها الآباء.. وكان الله في عون الجميع!!..
* صابر عبد المطلب وداعة - طالب – كمبيوترمان:
الموجة الغربية العاتية التي تجتاح بلاد المسلمين أجمع هي السبب الريئسي في جر البلاء لنا داخل أسرنا التي تتأثر بها.. من كل ما يضغط على كل ما هو صفة إسلامية!!..
فلا بد من التمسك بديننا الذى يحمل لنا الدواء لكل ما نعانيه في شؤون حياتنا!!..
وسائل الإعلام، ودورها السلبي
لعل من أكبر الأسباب انتشارًا هذا الزخم الإعلامي الهائل (سلاح ذو حدين) الذي يسير بالناس صغارا كانوا أو كبارا إلى أمور أقل ما يقال عنها: إنها ضرر خطير على المستويين الديني والدنيوي!!..
وقد تنوع الإعلام بين مرئي ومسموع، وكلها تقصف العقول قصفا، وتخاطب غرائز الشباب خطابا مشبوبا؛ أجَّجت معه العواطف، وأثارت به مكنونات النفوس، وعرضت نماذج للقدوات غير صالحة؛ مما أثر في شخصية الشباب؛ حتى أخذ كثير من الشباب يشكل ثقافته، وشخصيته بالطريقة التي يحبها ويهواها..
هذا ما هو إلا طريق للانحراف الفكري، والسلوكي لدى شبابنا.. وقد يساهم الأب كثيرا في هدم الأسرة رويدا رويدا.. ومن المؤسف قد يشجع بعض الآباء أبناءهم على ذلك عندما يشاهدون معهم هذه الانحرافات!!..
* خليل المنتصر بالله – صيدلاني:
وسائل الإعلام تشكل ركيزة مهمة في عملية بناء الأمة بأسرها - ناهيك عن بناء الأسرة الواحدة - حيث تمثل التوعية للناس، والتحذير من مغبة الوقوع في كل ما يؤدي إلى المهالك، ولكن من المحزن والمؤسف أن الإعلام اليوم صار لا هم له إلا المساهمة في الهدم والدمار، ويتفنن في عرضه للإباحيات الماجنة، وإثارة الشهوات، ويعرض كل ما يدعو للرزيلة والخنا؛ وبالتالي تنهار الأسر التي تتأثر بالفضايئات، ومشاهدة المسلسلات والأفلام و... !!..
* عبد الغني جعفر - رب أسرة:(/4)
الإعلام سلاح ذو حدين، ولكن المطلوب البعد عن كل ما ينخر في هدم بناء الأسرة؛ وذلك بتوفير البديل عن هذه الوسائل القذرة؛ لأن البديل النافع هو الخلاص من هذا كله!!..
* إبتسام الجاك عبد الخالق – معلمة:
من المؤسف أن الكثير من الآباء يساهم في تفتت الأسرة؛ وذلك عندما يجلس مع بناته وأولاده وزوجته يشاهد معهم الفلم أو المسلسل الذي لا يخلو من خدش للحياء؛ مما يطمئنوا بأن هذا الأمر إذا كان عيبا لما جلس الوالد معهم؛ حتى صار أمرا معتادا عندهم.. وهنا تكمن المصيبة!!..
* رقية محمد عبد الرحمن - ربة منزل:
أولاد الزمن دا صعبين جدا، وإذا لم تجيد التعامل معهم فإنك لن تستطيع أن تفعل معهم شيئا، ويمكن في حالة العسر معهم أن يلجأوا لقاعدة (الممنوع مرغوب) خاصة في مشاهدتهم هذه الأفلام أو المسلسلات، لا سيما الأولاد الذين دخلوا سن المراهقة؛ إذاً الحكمة مطلوبة من الآباء!!..
كيفية التعامل مع البيئة
لا بد أن الإنسان - بما يملكه من سر الإرادة والقدرة على التحدي والمغالبة - قادر على تجاوز سلطان البيئة وجواذبها المعقدة؛ شريطة أن يكون ذلك الإنسان من الطراز الرفيع؛ الذي خضع لبرمجة عقلية صارمة تؤهله لفهم ما حوله، وللتفاعل معه بالشكل الإيجابي، وإعادة هيكلة الإنسان من خلال تنميته وبرمجته بإحكام وفق منهج تربوي شامل ومتوازن؛ يستهدف كل مكونات شخصيته من أجل استعادة فاعليته لتمارس نشاطها وإبداعها؛ من أجل إعادة بناء نسيج الحياة الاجتماعية على أساس ما توخاه الإسلام من أهداف وغايات، وما سطره لإنجازها من وسائل وآليات.. والحق أن هذا الهدف ممكن التحقق إلى حد بعيد ما لم يصطدم بإرادات معاكسة؛ تسعى إلى إدامة هذا الوضع المأزوم والذي تراه خادمًا لأغراضها الرخيصة، وأحلامها الطائشة!!..
* الصادق الأعيسر محمد - معلم:
البيئة المحيطة بالأسرة تلعب دورًا بارزًا في أن تتفكفك وتذهب للزوال، ولكن هذا لا يعني الاستسلام المطلق لهذه البيئة؛ فهذا هو حال هذه البسيطة؛ ومستحيل ألاَّ تجد بيئة نقية؛ فالمطلوب تأدية الأدوار التربوية السليمة مع التحذير بما هو موجود في البيئة من غبش، وسواد فاحم!!..
* زينب فريد عبد المهيمن - معلمة:
البيئة تلعب دورا كبيرا في دمار الأسر وتفتيتها، ولكن هذه البيئة لا بد من مواجهتها بالبرامج المحكمة من قبل رب الأسرة؛ حتى لا تضيع الأسرة وتتفلت من يديه؛ فهو لا بد أن يكون حاذقا؛ يعرف كيف يتعامل مع هذه البيئة؛ ويزيل ما لحق من غبارها؛ بأشياء بديلة؛ يجيد صناعتها؛ ذات صبغة دينية..
الحكم الشرعي
عن ظاهرة التفكك الأسري، وتأثيره على الأبناء والمجتمع يقول الشيخ حسين عشيش: قبل أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع لا بد من التذكير بالأهمية الكبرى للأسرة في الإسلام فهي كيان خالٍ من المنغصات قائم على التعاون بالبر والتقوى، وإقامة حدود الله؛ ولذلك فإن الإسلام سبيل ترسيخ وتثبيت هذا الكيان قد أمر الزوجين بحسن الاختيار، وأمر الزوجة أن تختار ذا الدين الذي إذا أحبها أكرمها، وإذا أبغضها لم يهنها، وأمر الزوج باختيار ذات الدين أيضا قال صلى الله عليه وسلم (اظفر بذات الدين تربت يداك)، ويفهم من هذا أن العمود الفقري الذي تنشأ عليه الأسر هو الدين كتابا وسنة، وسيرا على منهاج سلف الأمة، وبعد هذا أَبْدَأُ بما أريد قوله، والخوض فيه؛ فأقول: أولا: إن المقصود بالأسرة طرفاها المباشران الزوجة والزوج.. ثانياً: لا بد من معرفة المنغصات والأكدار؛ حتى يمكن اجتنابها، والتخلص منها؛ وهي:
(أ) الزواج السريع. (ب) الزواج القبلي أو العنصري أو المصلحي. (ج) الزواج القائم على الاختلاف في العقلية بين الزوجين. (د) تدخل الأطراف الخارجية الأخرى من ذوي الزوجين؛ فيكون هذا مسهما في إفساد الحياة..
وينبه الشيخ عشيش إلى أنه إذا عرفت هذه الأسباب أمكن اجتنابها، ويقول: على أننا لم نذكر في هذه العجالة كل الأسباب والمنغصات؛ وإنما أشرنا إلى ما ذكرناه آنفا اختصارا وتنبيها على غيره، وقد يكون شرا منه.. وعلى كل حال فإن في سلامة الأسرة قائمة على التفاهم والمطاوعة المشتركة بين الزوجين إسعادا للأبناء؛ ولهذا فإنّ صلاح الأسرة هو صلاح المجتمع.. مشيرا إلى أنه مما قد يكون ذا صلة على صعيد ما ذكرناه أنّ بعض الأزواج يُظهرون خلافاتهم أمام أبنائهم؛ فيغرسون فيهم روح الكراهية، ويساهمون في في تعقيد أرواحهم وتلويثهما بلوثة الشقاق والخلاف.. وممّا ذكر أيضا أنّ بعض الأزواج لا يكتمون سرّ بيوتهم؛ فينشرون غسيلهم على كل الحبال؛ فيشمت الشامتون، ويفرح الحاسدون، ويتجرع الأبناء والبنات غصص الفشل، ومرارة الخيبة لآبائهم وأمهاتهم..
ويلاحظ القارئ أننا لم نشر بإصبع الاتهام إلى الرجل أو المرأة؛ لأنّ كليهما على حد سواء؛ شريك في الهدم والبناء..(/5)
ولننظر إلى الواقع في تجارة المخدرات، أو لعب القمار، أو غير ذلك من الأمراض الأخرى، بل حتى إذا نظرنا لتجارة البغاء وتحسسنا بعقولنا أسبابها فإننا سنجد أنّ فشل الزوجين في توظيف بيتهما من لوثة الخلاف والشقاق هو السبب!!..
ويختتم الشيخ عشيش حديثه بقوله: لا أجد في ما أختم به إلا أنّ أهيبَ بالأرواح ذكورا وإناثا أن يعرفوا مسؤولياتهم، وأن يتقوا الله فيما ائتُمنوا عليه، وأن يعلموا أنهم محاسبون من الله على تفكك الأسر، وفساد الأبناء، ويؤديان إلى تدمير المجتمع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ... إلى أن قال كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته).(/6)
التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية
لمقررات الفقه وأصوله [1/3]
د. فريدة زوزو(1) 10/11/1425
22/12/2004
مقدمة:
إن واقع المسلمين اليوم تواجهه تحديات كبيرة ومعضلات متعددة، والنوازل الحادثة في المجتمع أكثر من أن تحصى بحيث تحتاج إلى نظر مجتهد حاذق، واجتهاد فقيه متبصر بالواقع المعاش، وهذا لا يتأتى بالبحث في المدونات الفقهية القديمة فقط، من دون استعمال النظر الاجتهادي المتبصر في أحوال وظروف الواقع المعاصر، بل يتطلب الأمر من الفقيه أن يكون عالما بأدوات الاجتهاد، متعمقا في دراسة الظواهر والمستجدات التي تطرأ في مجتمعه، فيكون قادرا على النظر فيها بما يتوافق وقواعد الشريعة الإسلامية.
ولأن الظواهر معقدة، والنوازل عديدة ومتشابكة، فإنه يجدر بنا التعمق في النظر واستثارة تفكيرنا لإيجاد حلول لهذه المعضلات، فإن الأمر يتطلب تدريبا ومدارسة تبدأ من مدارسنا وتنتهي في واقعنا، فالطالب المسلم يجب أن يتدرب على ملكة التفكير المتأمل والناقد، ومن ثمة التفكير الإبداعي لإيجاد حلول لمشكلات مجتمعه وفق مقتضي الشرع.
وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية عموما، ومناهج الدراسات الإسلامية خصوصا، بغرض ربطها بالغاية التي وجدت لأجلها أمة الإسلام في أن تكون شاهدة على الأمم والناس أجمعين؛ فإن هذه المناهج أصبحت مفرغة من أهدافها وغاياتها العليا المتمثلة في الاستجابة لحاجة الأمة، وعلاج مشكلاتها، وتطبيق مبادئها، وهنا وجب الحديث عن أهداف تدريس العلوم الإسلامية، هل هي بغرض معرفة شروط المفسر والمجتهد، أم بغرض معرفة آليات الاجتهاد والقياس، أم بغرض معرفة شروط الوضوء وصفة بطاقة الائتمان الجائزة...إلخ؟
وهنا لا يمكننا إلقاء اللوم على السابقين من فقهائنا –عليهم رحمة الله- الذين عاشوا زمانهم، واجتهدوا في إيجاد حلول وابتكار طرق إيقاع احكام الشرع في واقع الناس وفق زمانهم ومتغيرات عصرهم، فلا نحاكمهم في زماننا؛ فالخلل لا يكمن في المدونات الفقهية التي واكبت عصورها، وإنما الخلل واقع فينا بمحاكاتنا لطريقة تأليفهم ومعالجتهم لمسائل زمانهم، كما هو شأننا اليوم عند محاكاتنا للمناهج الدراسية الغربية.
وإن المتأمل في واقع الدراسات الإسلامية ومناهجها الدراسية اليوم، ووسائلها التعليمية، ومساقاتها، وموادها المفصلة، يلحظ النزعة التقليدية في انتقاء المواضيع، والطرح والإلقاء والتدريس والتلقي، فينتج عن ذلك اتجاه الطلاب إلى تلقي الدرس بطريقة مملة لا توحي في نفس الطالب إلا بالحفظ في الصدور ثم الحفظ في السطور عند التقويم والامتحان، وبذلك تغيب النزعة الإبداعية والتفكير الناقد الذي يعين على الاستنباط والتحليل والنظر في مستجدات الأمور ونوازلها، ويغيب عن ذهن الطالب المسلم مبادئ الدرس المرتبطة بالغاية الوجودية للإنسان، في تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى.
ولذا فإن هذه الورقة البحثية تحاول النظر في المناهج الدراسية الحالية للدراسات الإسلامية، والبحث عن مواقع القصور فيها؛ لأجل إيجاد بديل يتجه إلى التأسيس للتفكير الإبداعي لدى مدرّسي وطلاب الدراسات الإسلامية، تفعيلا لأدائهم في الدرس، وبغرض مواكبتهم التطورات السريعة الواقعة في مجتمعهم، فلا يعيشون بين المدونات القديمة، بينما يتجه المجتمع بمشكلاته ومستجداته اتجاها بعيدا عن الحكم الشرعي والنظر الفقهي.
ويتخذ البحث أصول الفقه وبعض المقررات الفقهية، مثل مادة الفقه عموما، وفقه المعاملات، والفقه المعاصر، والفقه المقارن، ومادة القواعد الفقهية، حالة لدراسة هذه المسألة؛ لاعتبارين؛ أولاهما أنه مجال تخصصي، وأما الاعتبار الثاني فلأنها المقررات التي تعبّر عن المنهج العلمي لعملية تفاعل العقل مع نصوص الوحي في استخراج الأحكام الشرعية، كما سيظهر خلال البحث.
وقبل البدأ في مناقشة محور الموضوع، ارتأيت التطرق لأهداف الدراسات الإسلامية خصوصا، والهدف الأساس من التعليم عموما.
أهداف الدراسات والعلوم الإسلامية:
- إيجاد وإعداد الفرد المسلم الرسالي.
- تفجير الطاقات الإبداعية في نفس الطالب المسلم.
- تطعيم التحفيز العلمي بالمبادئ العقائدية.
- ربط الدراسات الإسلامية بحاجات الأمة الإسلامية.
- توجيه حياة المسلمين دنياً وديناً بالعلوم الإسلامية .
- توظيف الدراسات الإسلامية في الحياة العملية للمجتمع.
يضاف إلى هذه الأهداف الهدف العام من التعليم عموما وهو:
"تخريج متعلمين مستقلين فعالين... وأفرادا منتجين في المجتمع... يتعمتعون بقدرة على الابتكار والإبداع والتفكير في بدائل متعددة"(3).
طرق التدريس التقليدية والتفكير الإبداعي:(/1)
إن المطلع على المناهج الدراسية للعلوم الإسلامية خصوصا، والتعليم عموما، يجد أن الأسلوب الغالب في التدريس هو الأسلوب نفسه، يتكرر لعقود من الزمن، ويتكرر في كل جامعة وكل معهد للدراسات الإسلامية، وفي معظم البلاد الإسلامية، وغيرها من بلاد العالم التي تحتوي على هذا النوع من الدراسات. فإن" التعليم عندنا يتمحور حول التلقين والحفظ وشحذ الذاكرة بعيدا عن التفكر والمقارنة والتمييز وتنمية الفكر"(4)، ومن خلال تجربتي في التدريس في بلدي الجزائر، وبلدي الثاني ماليزيا، لطلبة متعددي الجنسيات، من المسلمين؛ عربا وعجما، نلحظ أن الأسلوب الغالب في تلقي الطلبة للمعلومات هو أسلوب التلقين والتحفيظ؛ باستعمال نسبي لتخطيط الشجرة عند الشرح، وهذا العيب الأول في طرق التدريس القديمة؛ إذ أن أسلوب تكديس المعلومات في ذهن الطالب هو الغالب والمتفشي بين صفوف المدرسين بما فيهم أساتذة الجامعات، فلا يستعمل الطالب إلا عملية التخزين والتكديس المعلوماتي، ولا يجد وقتا لتشغيل ذهنه حول استيعاب المادة بطريقة منطقية رياضية، وفي النهاية وبعد انتهاء الفصل الدراسي ينسى الطالب تماما ما تلقنه؛ "ذلك أنه من المؤلم والمحزن حقا أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تخرج حفظة وحملة فقه في الأعم الغالب، ولا تخرج فقهاء ... تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير"(5).
إن هذه النتيجة التي وصلنا إليها من أن هذه الطريقة تعد عيبا، ذلك أن طلبة القرن الواحد والعشرين لم يعد يهمهم الدرس بقدر ما يهمهم ما وراء أسوار المدرسة أو الجامعة، فإن العيب ليس في الطريقة ذاتها وإنما العيب في كيفية استعمالها، وتوقيتها، ومن الملقن والمخاطب، فإن كانت طريقة التلقين والتحفيظ سابقاً هي الطريقة المثلى لاستيعاب الطلاب ومرتادي المساجد للعلم الشرعي، حيث لم تكن الكتب والدفاتر متوفرة إلا بصورة قليلة، فإنها في العصر الحديث وفي ظل توفر الكتاب الدراسي المقرر ووسائل التدريس المعاصرة، فإن الاعتماد عليها بصورة كلية يعد هدرا للوقت.
والذي نأمله الآن أن تتغير منهجية التدريس في مدارس القرن الواحد والعشرين من نمط يقوم على الحفظ والاستظهار إلى نمط مغاير يتأسس على الفهم والتفسير والمقارنة والنقد؛ بغرض تحقيق أهداف الدراسة المذكورة آنفا، من خلال " تشجيع الطلبة على المشاركة في أهداف الدرس والنشاط وبعبارة تشجيعهم على تبني أهداف الدرس والأنشطة العلمية"(6).
ويستتبع هذه الطريقة أن المدرسين يسردون المادة العلمية بطريقة جافة غير حيوية، مفرغة من مقاصدها، التي تعتمد على الأساس الإيماني الذي يشحذ الهمة، ويقوي عزيمة الطالب للبحث وتلقي العلم؛ " لافتقارنا إلى الحافز العلمي في حقيقة أن ما يدرس في معاهدنا هو نوع من المعرفة غير المتسقة مع إيماننا، وحضارتنا، وأسلوب حياتنا"(7)، فالبعد الإيماني لكل درس على حدة، له دلالته القوية على ارتباطه بحاجات الأمة الإسلامية، ناهيك عن تحبيب العلم في نفوس الطلاب، لأجل أن يتكونوا عقليا وعمليا، فيستطيعون الخروج إلى معترك الحياة أفرادا فعالين منتجين.
إن التعليم في البلاد الإسلامية ليس مجرد مناهج دراسية فصلية أو سنوية، يدخل فيها الطالب الامتحان لأجل اجتياز الامتحان، بل لها علاقة وثيقة بنهضة الأمة الإسلامية، من حيث أنها تنظر في احتياجات المسلم ليتفوق حضاريا بدينه وعلمه.
فنحن لا ندرس الفقه المعاصر مثلا؛ لأجل البحث عن حلول لتحديات ومشاكل دخلت إلى عقر دارنا، بل ندرسه لأجل أن يعرف الطالب الطرق الصحيحة لاستنباط الأحكام الشرعية من مظانها ومداركها للوقائع والنوازل، فأكثر المستجدات ليس فيها نص صريح في الدلالة على حكمها، بل يحتاج في ذلك إلى اتباع طرق مميزة ومنسقة لإدراك الحكم الشرعي، حتى وإن لم يكن فيها نص واضح أو محكم.
فبعد أن يلحظ الطالب أن مدرّسه توصل إلى إيجاد الحكم الشرعي للنازلة، بطرق سهلة وسلسة، باستخدامه مثلاً قواعد الشريعة العامة المتمثلة في المقاصد الشرعية، فهذا يعد بدوره تدريبا للطالب على استخدام مقاصد الشريعة في استخراج أحكام لوقائع لا نص فيها، وهنا سيجد الطالب أنه في قرارة نفسه يزداد يقينا بأن شريعة الله هي الشريعة الخالدة، وأنها جاءت ميسرة غير معسرة، وأن الأمة الإسلامية تستطيع بحق أن تكون الأمة المستخلفة في الأرض، والشاهدة على الأمم.(/2)
ولكن إذا كان المدرس مجرد ملّقن، لا يستعمل التحليل المنطقي العقلي في درسه، وهنا يكمن العيب الثاني؛ فإن الطالب لن يتفاعل مع المادة التي يتلقاها إلا تثاؤبا أو نقرا ورسما على أوراق بيضاء!! أو بالنظر في ساعته يرجو منها أن تسارع خطاها لتنتهي الحصة! لأنه لا يجد المؤثر والمحفز على التقاط المعلومة بطريق منطقي ومؤثر، يستفزه على الانتباه لمدرِّسه، فلو استعملنا معه أسلوب الإفهام والإقناع بدل التلقي لوجد محفزات التعلم تقوده نحو الإبداع بمبادرته للسؤال والمناقشة.
وعند الامتحان وتقويم الطالب تسترد بضاعة الأستاذ، فيسترجع الطالب كل ما تلقاه بالحرف، بغير زيادة أو نقص. فلا يحلل ولا يناقش، وسبب ذلك أن سؤال الامتحان نفسه يستدعي جوابا محفوظا! وهذا ثالث العيوب وأهمها. لماذا؟
لأن المقصود من التقويم" أن يهدف إلى معرفة مدى بلوغ الطلاب للأهداف المرغوبة ...
ومعرفة المدى الذي استطاع الطلاب به بلوغ أهداف التدريس"(8).
إذ المفروض أن الطالب يوم الامتحان يبرز قدراته الإبداعية في استيعاب المادة والتفاعل معها تطبيقا وتحليلا ثم تقويما، لو كان سؤال الأستاذ قد استنفره للإبداع، وحفّز عقله وقدراته الاستيعابية نحو النقد البناء شرحا وتحليلا، حتى يأتي الطالب وقد استوعب أهداف تعلمه، في أننا نريد منه أن يتفاعل مع درسه بالقدر الذي فهم منه حاجتنا إليه كأمة مسلمة تعمل لأجل نهضتها.
وهنا يتوجب الحديث عن المنهج الجديد الذي يزيل آفات العيوب الثلاثة السابقة الذكر.
نحو منهج جديد للتدريس الفعّال:
بعد استعراضنا بشكل مختصر للمنهج القديم السائد في كثير أو أغلب الجامعات والكليات الإسلامية، نحاول الكشف – في الفقرات التالية - عن المنهج الجديد الذي نزيل به عيوب الطريقة القديمة، بغرض الوصول إلى تنمية المواهب الإبداعية في طلبة الدراسات الشرعية وكذلك مدرسّيها المُطالبين أمام مجتمعهم بمواجهة تحديات عصر العولمة، بتطويرهم المناهج الدراسية بما يتوافق ونهضة الأمة الإسلامية؛ "والظاهر أن دراسة العلوم الإسلامية في مدارسنا والطريقة التي تدرس بها غير مناسبة تماماً لهذا الغرض، ومن واجبنا إذن أن نمعن النظر في هذه المسألة بعمق"(9)؛ فنهضة الأمة الإسلامية هي الغاية القصوى من وراء عملية المطالبة بتغير المناهج لا لأجل الإصلاح السياسي أو إملاءً ممن لا ترضيهم معايشة الطالب لواقعه وهو في الدرس!
فليس ذاك المقصود، ولكن لأن "المتغيرات الدولية التي تمر بها المجتمعات البشرية منذ العقد الأخير من القرن العشرين، والتي تجلت في أوضح صورها مع بداية القرن الواحد والعشرين، تفرض علينا تغيير الكثير من الاتجاهات التربوية والممارسات التعليمية التي لا تتلاءم مع متطلبات العصر الحديث ومتغيراته، حيث ظل التعليم في بلادنا ردحاً طويلاً من الزمن يعاني من الانفصال، بدرجة أو بأخرى، عن احتياجات المجتمع ومتطلباته"(10).
فالمقصود إذن أن ننمي من خلال المناهج الدراسية التفكير الإبداعي لدى الطلاب، بغرض تحقيق نهضة الأمة الإسلامية، والنظر في احتياجاتها، ثم تحقيق أهداف عملية التدريس والتربية في إيجاد الطالب المسلم ذي الطاقات الإبداعية، القادر على العمل المستمر والمثابرة الدائمة.
ولأجل تحقيق هذه الأهداف والغايات النبيلة، يجدر بنا في البداية معرفة ماهية التفكير الإبداعي وأساليبه، ثم تطبيقها على العملية التربوية في مناهج العلوم الإسلامية.
ماهية التفكير الإبداعي:
يُعرِّف المتخصصون الإبداع بأنه:" المبادرة التي يبذلها المرء بقدراته على الخروج والانشقاق من التسلسل العادي في التفكير بتفكير مخالف كليةً"(11).
أو هو "ثمرة تفكير ونظر للمألوف بطريقة أو زاوية غير مألوفة" (12).
وفي السياق نفسه نجد مصطلح التفكير الابتكاري وهو القدرة على ابتكار وإنتاج أكبر عدد من الأفكار التي لها قيمة بحيث تؤثر تأثيراً إيجابياً في حياة الإنسان العملية والفكرية.
والابتكار إنتاج جديد هادف وموجه نحو هدف معين، وهو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة تحدث تغييراً في الواقع لدى التلميذ، حيث تجاوز الحفظ والاستظهار إلى التفكير والبحث والتحليل والاستنتاج، ومن ثمَّ الابتكار(13).
وتكمن أهمية التفكير الإبداعي في:
- بناء العقلية المتعلمة الناضجة القادرة على التحليل والمناقشة والتقويم لكل الأفكار التي تمر بالمتعلم.
- المرونة في التفكير، واستيعاب متغيرات العصر.
- والعمل على ربط التعليم بخطط التنمية في المجتمع.
- ويتيح بناء الطالب المتعلم والفرد الواعي بمتطلبات مجتمعه وأمته.
وأما التفكير الإبداعي في العلوم الشرعية فهو: قدرة طالب العلم على النظر في الأدلة، وتعرف أصول الاستنباط ووسائل الاجتهاد من خلال معرفة أسس الاجتهاد والإحاطة التامة بمقاصد الشريعة.(/3)
وبعبارة أخرى فإن التفكير الإبداعي الذي نأمله في أساتذتنا ابتداءً وطلبتنا تبعا هو: القدرة على النظر في الأدلة الشرعية، واستيعاب أساسيات الشريعة استيعابا يتيح استحضارها واستخدامها بطريقة منهجية عند الحاجة إليها، ومنها التعامل مع المستجدات والقضايا العصرية.
مستويات التفكير الإبداعي في العملية التعليمية:
1- التفكير الإبداعي على مستوى المدرس:
قبل الحديث عن الإبداع في المناهج التعليمية والدراسية، لابد من الحديث عن ممارس الإبداع، وهو المدرّس، المخطط للمنهج الدراسي وواضعه، فالمنهج الإبداعي لا يتأتى من منهج مفرغ، بل من المنهج المعّد بطرق إبداعية نقدية ابتكارية، التي تعتمد على الوسائل التعليمية مثل العلم والمعرفة، والفهم والتلقين، والشرح، ثم التحليل والنقد، وأخيرا عملية تقويم الاستيعاب.
وهذا العمل يقوم به المدرس المستوعب لأهداف العملية التربوية، والمؤهل بالفاعلية والمستوعب لمادة درسه استيعابا جامعا شاملا، في القدرة على المدارسة من المصادر الأصلية وفهمها، وأخيرا المعرفة بآليات الاجتهاد وأدواته ليستعملها مع النوازل والمستجدات الطارئة على المجتمع.
فالتدريس الفعّال المؤَسس على الإبداع هو الذي يعتمد على شخصية المدرس المتميزة الفعالة، والمعّد إعدادا يتماشى مع تحديات الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية، هذه الفاعلية التي تبرز في أولا: الإيمان بأهمية العمل من أجل تحقيق أهداف التدريس، وثانيا: بأهمية التدريس كأساس للإبداع والعمل الحثيث نحو نهضة الأمة.
والعمل لأجل تحقيق هذه الأهداف يظهر في طريقين أساسيين هما:
1. اكتساب المدرس لمهارات التفكير الإبداعي في نفسه.
2. ترغيب التفكير الإبداعي في نفوس الطلاب
فأما اكتساب المدرس لمهارات التفكير الإبداعي في نفسه ابتداء، فإنه يتأتى من خلال:
أولاً: المطالعة الدائمة والمتابعة لجديد دور النشر:
تنمو الأفكار وتنضج بفعل تلاقحها مع بعضها البعض من خلال النقاش بين أصحاب الرأي الواحد، أو بين أصحاب الآراء المتباينة، فإن النقاش من شأنه إثارة أسئلة وعلامات استفهام يحتاج الباحث للنظر فيها أن يقرأ ومعلومات جديدة، أو معلومات قد خفيت عليه، وليس كل الباحثين سواء في أبحاثهم وكتبهم.
فالمطالعة المستمرة وبصفة دورية تنشأ لدى المدرس آفاقا جديدة، تعينه على تيسير طريقة الدرس اليومي، فبدل أن يكرر المعلومات نفسها بالطريقة نفسها، يصبح بإمكانه تكرارها، ولكن بصيغ وتعابير جديدة غير مملة.
ثانياً: إعداد البحوث الأكاديمية والمقالات:
سواء أكانت بحوثا فردية أو جماعية، يشترك فيها أكثر من أستاذ، في مؤسسة تعليمية واحدة أو مؤسسات متغايرة، أو كانت بحوثا أكاديمية بحتة، أو مقالات تنشر في الجرائد والمجلات العامة.
فإن الهدف من هذه البحوث، ليس مجرد الترقية في سلم العمل التربوي، بل إنها تهيء الأرضية الأساس للتعامل والتفاعل مع القضايا المعاشة، فيتبين أن المعلم ليس مجرد ملقن لدرسه في قاعة الدرس فقط، بل إنه ينظراحتياجات أمته ومجتمعه، ويحدد التحديات التي تواجهها أمته، ففي هذه البحوث تطرح الأسئلة وتثار المشكلات بغرض بحثها، وتبادل الآراء والأفكار حولها، للخروج بنظرة عملية تستنهض الأمة.
ثالثاً: التقويم المستمر:
بحيث يعد المدرس خطة عمل فصلية، ثم سنوية يبرمج فيها أهم الأعمال التي سيعدها خلال المدة المقررة، والتي تتناول جانب التدريس والإشراف، وإعداد البحوث الفردية أو الجماعية، ناهيك عن حضور المؤتمرات والندواتن وأخيرا بعض البرامج التي تُعد للمجتمع، في المساجد أو التعليم خارج المدرسة؛ من أجل معرفة مدى فاعلية المدرس في مجتمعه،كما هو معمول بها في الجامعة التي أُدرس بها وهذا البرنامج يسمى " الخدمة الاجتماعية" ومنه يُقوّم المدرس أيضا بالإضافة إلى ما سبق من برامج وأعمال بحثية وتعليمية.
ومن خلال جدول العمل الفصلي والسنوي يستطيع المدرس متابعة خطة السير، ومعرفة نفتط الضعف والقوة، وأسباب ذلك لتعديلها، وحتى يسير عمله بصورة منظمة غير مذبذة تخضع للظروف والطوارئ والفرص السانحة.
فالعمل الإبداعي هو الذي يسير وفق جدول عمل مخطط له، سواء أكان التخطيط على المدى القريب أو البعيد، فمن شأن التخطيط الذي يسير بجدول العمل نحو التطبيق وتحقيق الأهداف، أنه يؤدي إلى الثقة بالنفس، والتي بدورها تزيد من فاعلية العمل ومنه إلى العمل الإبداعي.
رابعاً: مواكبة التحديات والنوازل:
وحتى لا يبقى المدرس يعيش بين أسطر الكتب القديمة التي كُتبت وفقا لمتطلبات ونوازل عصرها، وظروف أفرادها، فإن المطلوب من مدرس العلوم الشرعية أن يواكب متغيرات وتحديات عصره الذي يعيشه، فإن التحديات تختلف من عصر لآخر، والمتغيرات الطارئة تتمايز وتتباين.
وأما منهج التعامل مع هذه التحديات يكون أكثر شيئ باستعمال آلية الاجتهاد، وعلم أصول الفقه فهو المنهح الأساس في التعامل مع نصوص الوحي استخراجا للأحكام الشرعية .(/4)
وخلاصة لما تقدم قد يلحظ القارئ أنني ركزت على وسائل تنمية الإبداع لما يخص المعلم، بما يمكن أن ينبع من ذاته هو نفسه، ومن دون الحاجة إلى تدريب عملي يحضره المدرس لأنه مجبر على حضوره؛ وإلا فإن الحديث عن أساليب تنمية الإبداع حديث طويل ومتشعب، ويختص به أهل واختصاصيي التربية بحديثهم عن "منظومة برامج تدريب المعلم في إطار الإبداع"(14)، وهو مجال يتقنه أهله، وتراني لم أشر إليه من بعيد أو قريب، لأني ركزت الحديث عن إبداع المدرس نفسه بنفسه، وهو أمر لا يتقنه إلا المدرس المبدع.
وإذا ما تم إعداد المدرس إعدادا متميزا للوقوف في وجه التحديات التي يواجهها الإسلام والمسلمون، فإن إعداد الطلبة يكون سهلا!
|1|2|
(1) أصل هذا البحث ورقة بحثية ألقيت في المؤتمر الدولي: (الإسلام والمسلمون في القرن الواحد والعشرين: الصورة والواقع)، كوالالمبور، مركز بوترا للتجارة العالمية، 4-6/8/2004م.
(2) كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
(3) إبراهيم أحمد مسلم، الجديد في أساليب التعليم (حل المشكلات، تنمية الإبداع، وتسريع التفكير العلمي)، ط1، عمان: دار البشير، 1414هـ/1994م، ص135.
(4) عمر عبيد حسنة، من مقدمة كتاب: التعليم وإشكالية التنمية للدكتور حسن الهنداوي، ط1/2004م، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص 23.
(5) عمر عبيد حسنة، من مقدمة كتاب: تكوين الملكة الفقهية للدكتور محمد عثمان شبير، ط1/1999م، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص 39.
(6) مسلم، الجديد في أساليب التعليم، ص 142.
(7) محمد معين صديقي، الأسس الإسلامية للعلم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1409هـ/1989م، ص 58.
(8) يعقوب حسين نشوان، اتجاهات معاصرة في مناهج وطرق تدريس العلوم، ط2، عمان: دار الفرقان، 1994م، ص141.
(9) صديقي، الأسس الإسلامية للعلم، ص57.
(10) محمد إسماعيل محمد اللباني، التفكير الناقد ودوره في التعلم الفعال، ص3.
(11) عبد الرحمن صالح المشيقح، الطريق إلى الإبداع، ص22، نقلا عن صالح بن درويش حسن معمار، نحو تطوير العمل الإبداعي، مجلة جامعة أم القرى، ص163.
(12) نفس المرجع، ص163.
(13) د/ محمد حمد عقيل الطيطي، مهارات التفكير الإيجابي في المدرسة الأساسية، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 – 21 تموز 2003م، 19 – 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّان، ص17.
(14) تراجع هنا كتب: التربية عموما، واتجاهات التعليم، وفلسفة التربية خصوصا.
التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية
لمقررات الفقه وأصوله[2/3] (1)
د/ فريدة زوزو (2) 24/11/1425
05/01/2005
وأما ترغيب التفكير الإبداعي في نفوس الطلاب فيتأتى من خلال:
علاقة المدرس والطالب:
لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن المدرس في الجامعة هو آخر مدرس يتعلم على يديه الطالب، وهو يفترق عن المعلم في المدرسة الابتدائية، هذا لأنه أول معلم، وبالتالي فإن أهداف المدرسة تختلف عن أهداف الجامعة باعتبارها المدرسة الأخيرة، ولأنه " ينظر إلى مؤسسات التعليم الجامعي باعتبارها المراكز الأساسية للبحث العلمي؛ فالمدرسون في هذه المؤسسات يتحملون أمانة العلم تبليغا وتعليما ونشرا، لكن عليهم أن يتحملوا هذه الأمانة إبداعا وإنتاجا" (3).
ومن هنا كان على الأستاذ في الجامعة أن يتبع جملة من الأمور حتى ينتج طالبا حافظا مستوعبا، يملك أدوات الإبداع لا الحفظ فقط، ويحول الطالب السلبي إلى طالب إيجابي فعال من خلال السؤال أو النقاش، وإشراكه في محور الدرس استثارة له نحو التساؤل المجدي.
ونأخذ هنا مثالا، عند تدريسنا لمادة الفقه المقارن والتي لا يحبها أكثر الطلبة، لماذا؟ لأنها تعتمد أكثر شيئ على حفظ الأدلة الكثيرة والمختلفة بين المذاهب الفقهية، فهذا المذهب يستند على دليل من الحديث النبوي، والمذهب الآخر يفنده بحديث نبوي آخر، ليجد الطالب نفسه في معركة سيوفها هي نصوص الوحي نفسها. وكان الأولى بالمدرس أن يستعمل هذه المادة في بيان أهمية التفكير النقدي، عند النظر في دليل الخصم، بأن ينتقد بدليل أقوى حجة، استعراضا للأدلة القوية، ودحضا للأدلة الواهية؛ حتى يمكن الاستفادة حقا من كتب ومفردات الفقه المقارن، ومنه بيان سمو الشريعة الإسلامية وغناها بالآراء الفقهية في المسألة الواحدة، مما يُرفع به الحرج عند تعذر العمل بالحكم الشرعي الأصلي.(/5)
ولا يمكن هنا التغافل عن الجانب التربوي لهذه المادة مثلا؛ إذ يتعلم الطالب من هذه المادة كذلك نبذ التعصب المذهبي والتقليد، وهو خلق عالٍ، فلا يزود المدرس الطالب بالعلم والمعرفة فقط، بل يزوده كذلك بالأخلاق والخلال الحميدة، والسلوك القويم، فالطالب الجامعي قد وصل في الجامعة لآخر مرحلة من مراحل التربية والتنشئة التي ابتدأت في البيت منذ أن كان رضيعا، فعلى المدرس أن يدرك هذه المسألة ويضعها في الحسبان، من أجل أن يساهم في إعداد الفرد الصالح الفعال أولا، وتكوين الفقيه المجتهد ثانيا، فمن الأمور الواجب اتباعها:
أ- طريقة التدريس في كسب انتباه الطالب:
جرت العادة أن يجلس الأستاذ ثابتا على كرسيه متحدثا وشارحا للدرس من أوراق موزعة بين يديه، أو من خلال النظر والتقليب لصفحات كتاب مفتوح أمامه؛ في الوقت الذي يكون فيه الطالب إما يتثاءب أو يتململ على كرسيه أو يرسم على أوراقه...الخ.
تعد هذه الطريقةُ الطريقةَ التقليديةَ في تدريس العلوم الشرعية وتسمى (طريقة التلقين)، وتعتمد على التلقين والتكرار، وهي وسيلة مهمة وفعالة في الحفظ في السطور والصدور، بحيث يستوعب الطالب الدرس في ذهنه، ولكن إذا طُلب منه إعادة شيئ أو استفسره المدرس عن مسألة، فإنه لا يعرف الإجابة ؛ فهي طريقة تشوبها بعض السلبيات مثل: عدم مراعاة الفروق الفردية بين الطلبة؛ حيث أن أعدادهم كبيرة جدا مما يعسر معه العناية بأفراد الطلبة فردا فردا، كما أنها تخلو من تجاوب الطلبة معها، حيث أنهم يتلقوا فقط، ولم يستثاروا أبدا لسؤال أو حل إشكال.
إضافة إلى ذلك، فإنها طريقة لا تجذب انتباه الطالب في هذا العصر، وهو الذي أصبح فكره مشغولا بأمور خارجة عن الدرس، فليس الدرس هو غايته وهدفه. فلقد أصبح الطلاب يأتون للدرس جبرا، ولأن التعليم إجباري على كل الأفراد، وبالتالي يأتي الطالب وذهنه معلق بمشتهيات وملذات غير الدرس الممل، وهنا وجب الحديث عن أسباب تدني الدافعية للتعلم والدراسة لدى طلابنا، وهو موضوع شائك يحتاج إلى بحث تربوي مستقل.
ومن الضروري هنا أن تتنوع طرق التدريس بعد أن عرفنا أن طريقة التلقين ليست الطريقة المجدية في هذا العصر بالذات، عصر المعلوماتية، وعصر التكنولوجيا، وعصر السرعة في كل شيء، وكان لابد من الاستعانة بطرق أخرى أكثر فاعلية، وأيسر تعاملا مع الطلاب، وهنا أخص بالذكر بعضا من هذه الطرق مثل:
استعمال تقنية المعلومات والتي من شأنها أن تضفي على الدرس حيوية واهتماما متزايدا من قبل الطلاب، كما أنها تيسر على المدرس تجميع المعلومات الكثيرة في مساحات قليلة بطريقة مبسطة جذابة، تجلب انتباه الطالب كل حين. وتكمن أهمية هذه الوسائل كما يقول د/ أحمد محمد زكي (المتخصص في مجال التقنية):" في استثارة اهتمام التلميذ وإشباع حاجته للتعلم، وتشرك هذه الوسائل جميع حواس المتعلم، مما يؤدي إلى ترسيخ المعلومة وحسن ترتيب واستمرار أفكار التلميذ، وكذلك تنمي قدرة المتعلم على التأمل ودقة الملاحظة واتباع التفكير العلمي..." (4).
ناهيك على تسهيلها استيعاب الدرس الذي يتيسر فيه الشرح بطريق الصور مثل مناسك الحج، ودروس فقه السيرة، ومناطق الغزوات، التي تسهل دراستها على خرائط معدّة لهذا الغرض، فالطالب في هذا المساق مثلا وهو ينظر في الخريطة إلى طول المسافة بين مكة والمدينة المنورة، طريق هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم يسهل عليه تصور الدرس وفهمه واستيعابه.
كما يمكن أن تساهم تقنية المعلومات في حساب مقادير الزكوات خاصة الحديثة منها مثل أنصبة الأسهم والسندات وعروض التجارة عموما بطريقة حسابية ميسرة، ومثلها أنصبة الورثة في علم المواريث وغيرها.
طريقة المناقشة: وتحبذ هذه الطريقة أن تمارس مع مجموعات وفرق صغيرة من الطلبة عددهم بين (10-15) فيكون محور الدرس موضوعا للنقاش الدائر بين المدرس والطلبة، وفيها يمكن الاستعانة ببعض الكتب الجانبية المساعدة على استثارة التفكير والسؤال عند الطالب، وهي طريقة تعين كذلك على فهم الموضوع من طرق متعددة وبالتالي تنمية قدرة الطالب على استيعاب الدرس من أحد الطرق الميسرة عنده. وهي طريقة تستعمل في حصص المناقشة.
تنويع الأنشطة داخل الفصل: أي أن المدرس يحاول تغيير جو التدريس إلى طرح سؤال، أو دعوة طالب لمناقشة مسألة، أوالكتابة على السبورة، أو استعمال تخطيط الشجرة. كما يجدر أن يتحلى المدرس بروح الدعابة والمرح أحيانا بإلقاء مزحة يستثير بها صمت وهدوء الطلبة، كما ينبغي كل حين التنبيه على أهم محاور الدرس، والخيط الجامع للدرس حتى لا يضيع الطلاب بين تفريعات الدرس ناسين جوهره.(/6)
طريقة الوحدات: والغاية من هذه الطريقة الربط بين معلومات المنهج في المادة الواحدة، أو في مواد مختلفة متعددة، حول هدف نظري واحد؛ فالزكاة مثلا- إذا درست على منهج المواد المنفصلة- تدرس دراسة جافة ضحلة، تتناول أوقات وجوبها، ومقاديرها، ومصارفها، إلى غير ذلك، ولكنها كوحدة يمكن أن تدرس من اتجاهات أقوى حيوية وأعظم تأثيرا، مثل: الزكاة ومشكلة الفقر، الزكاة والتنظيم الاقتصادي، الزكاة والتعاون، المضاعفات السيئة لمنع الزكاة...الخ (5).
ب- التمثيل بحيثيات ومستجدات الواقع المعيش:
حركة المجتمع والواقع الاجتماعي واقع متحرك غير ثابت، فهو أحيانا يحتكم إلى الشريعة الإسلامية ، وفي أحيان أخرى يبتعد عنها، لينجرف مع التيارات المستحدثة.
والأستاذ في درسه يدرس المنهج المقرر، واضعا خلفه واقعه الذي يعيش فيه؛ وهنا تكمن إشكالية التمايز عند الطالب، بين ما يتلقاه في الدرس وبين واقعه، فهما يسيران في اتجاهين متعاكسين، وهنا وجب على المدرس أن يربط مادة درسه بالواقع المعيش، بـ:
* إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام.
* ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.
* معالجة المسائل والتحديات المعاصرة بالنظر الفقهي الشرعي (مجالات الطب والسياسة والمعاملات الاقتصادية، وغيرها).
* الانطلاق من الواقع بتحدياته، ومعالجتها معالجة شرعية؛ فهذا المنهج سيساعد الطالب والأستاذ نفسه على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته.
* ويوضح الأستاذ أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحث الطالب على أن يكون عضوا فاعلا.
فلا يمكن عزل الطالب عن واقعه الذي يعيشه، وخاصة أن مقررات الدراسات الشرعية الحالية تعتمد على أمرين اثنين:
- أولهما التأصيل النظري للأحكام الشرعية المستوحى من القرآن والسنة، من دون ربطها بما يسود المجتمع من مخالفات لهذه الأحكام، أو محاولة إدراج صورها الحديثة لتأصيلها شرعيا .
- وثانيهما التمثيل بالأمثلة والفروع الفقهية القديمة، التي يصعب على الطالب فهمها ناهيك عن فهم الدرس والقاعدة المعتمدة، وما يأتي المثال في الأصل إلا لأجل أن ييسر فهم الدرس!.
مكامن تجديد الأمثلة بما يناسب العصر:
إضافة لما سبق التطرق إليه لبعض الأمثلة في الفقه المعاصر ومادة الفقه المقارن، فهذه أمثلة أخرى من:
- مادة فقه المعاملات : وخذ لذلك مثالا، فعند شرحي لدرس البيوع المنهي عنها للغرر الواقع فيها نمثّل بـ: "لا يجوز بيع البعير الشارد والعبد الآبق، والسمك في النهر والطير في السماء، واللبن في الضرع"، وغيرها كثير كثير من الأمثلة التي لم تتغير منذ قرون طويلة، وقس على ذلك الأمثلة في الدرس الأصولي فهي هي، كما دَرستها أنا في الجامعة وكما أُدرسها الآن للطلبة، وكما سيُدرسها طلبتي في المستقبل لطلبتهم... وهكذا.
وقد يصعب على الأستاذ استحضار أمثلة وتطبيقات جديدة من الواقع لأن الأستاذ نفسه عاجز عن استيعاب ومحاولة مزج التنظير مع التطبيق.
- ومن أمثلة التجديد في الدرس الأصولي:
لابد من ربط الدرس الأصولي بالواقع المعيش، في إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام. ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.
إذ سيساعد هذا المنهج على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته، فلا ينغلق الأصوليون على أنفسهم في مباحث تجريدية نظرية هي لعلم الكلام والفلسفة أقرب.
ولا يمكن عزل المنهج الأصولي عن واقعنا الذي نعيشه، فالمباحث الحالية، وهي في ذاتها قديمة، وتعتمد على الأمثلة القديمة التي لم ولا تتغير في أي كتاب أصولي قديم أو حديث، وخذ لذلك أمثلة في درس " السبب": القتل العمد سبب لوجوب القصاص، وفي درس "الإجماع"، من الإجماعات إعطاء الجدة السدس، وفي درس " الرخصة والعزيمة": من أمثلة إباحة ترك الواجب: الفطر في رمضان للمسافر، وغيرها.
ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية لعلم أصول الفقه ومفرداتها، بما جدّ في الواقع من مسائل، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة، ولو أمكن " تحديث الأمثلة في كل الموضوعات مع ربطها بالتطبيق القضائي المعاصر" (6).
- ومن أمثلة مادة " القواعد الفقهية":(/7)
مادة القواعد الفقهية والتي تعتبر من أجل العلوم التي أبدع فيها علماؤنا لأهميتها،كما قال الإمام القرافي" قواعد كلية فقهية كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه...وهي قواعد عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه وشرفه.." (7)، فأساسها مبني على عمل الفقهاء على جمع الفروع الفقهية المتناثرة تحت محدد وضابط جامع لها، بغرض إيجاد رابط لفروع كثيرة متشابهة موصولة مع بعض، فقد قال الإمام السيوطي بعد الثناء على الفقهاء:" ولقد نوعوا هذا الفقه فنونا وأنواعا، وتطاولوا في استنباطه يدا وباعا. وكان من أجل أنواعه: معرفة نظائر الفروع وأشباهها، وضم المفردات إلى أخواتها وأشكالها، ولعمري إن هذا الفن لا يدرك بالتمني، ولا ينال بسوف ولعل ولو أني.." (8).
إلا أنه يستشكل على المدرس في هذا العصر البحث عن أمثلة جديدة، فتجده عاجزا عن الإتيان بذلك، لأنه وللأسف غير مطلع على مستجدات العصر التي كثيرا ما تكون مخزنة في الأبحاث الأكاديمية، والمقالات العلمية في المجلات، وعلى شبكة الأنترنيت، والتي تستدعي استقراءً لها كما استقرأ علماؤنا الأجلاء في القديم نوازلهم.
وهنا يجد الأستاذ نفسه بدل أن يشرح القاعدة الفقهية الأم، يشرح الأمثلة المستعصية على أذهان الطلبة، لأنها أمثلة من زمان غير زمانهم، وهنا علامة استفهام كبيرة ؟!
فكيف بمادة قُصد من وضع مساقها ومفرداتها وتدريسها للطلبة أن تساعدهم في اكتساب الملكة الفقهية، وهي المقصد الأساسي من وضع هذا العلم، تعمل بعكس هدفها في عدم استيعاب الطالب لأمثلتها ناهيك عن القاعدة الأصل؟
فالمدرسون لا يبذلون الجهد الكافي في البحث والاستقصاء عن تطبيقات عملية لموادهم لأنهم هم أنفسهم حرموا من معرفتها سواء في مرحلة تعليمهم المدرسي أو الجامعي.
لذا فإن مجهوداً إضافياً يعد أمراً ضرورياً ومطلوب من قبل المعلمين لكسر الجمود الموجود في الكتب المدرسية، وليخرجوا التعليم من?الحفظ والاستذكار ?إلى?الإقناع? والتطبيق (9).?
ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية ومفرداتها بما جدّ في الواقع من مسائل فقهية أو حديثية أو تفسيرية وغيرها، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة. وهو أمر ليس بالعسير إذا ما تكاتفت جهود الباحثين من كل تخصص في الدراسات الشرعية بغرض استقراء المستجدات وأدلتها، والتي كثيرا ما تعتمد على مقاصد الشريعة وقواعد الفقه والتفسير المقاصدي للآيات والأحاديث الشريفة، وهو مما سيساعد على تنمية البحث العلمي وتطوير مناهج تدريس الدراسات الشرعية في جوانب متعددة تعدد الاستقراء المبحوث عنه.
ج- تحفيز الطالب على التفكير والبحث العلمي:
بعد أن يتلقى الطالب الدرس ويحفظه استيعابا وفهما، نخطو نحو تدريبه على ملكة السؤال والاستفسار، ليتعمق الفهم بالنقاش وضرب الأمثلة. فلو بقيت المعلومات دون تحليلها أو استنطاقها لتحولت إلى جثة هامدة لا تغني من يحملها في شيء سوى إرهاقه بحملها واسترجاعها، أما التفكير الناقد فإنه يحول هذه المعلومات إلى طاقة خلاقة تسهم في تكوين العقلية العلمية المستنيرة التي يستطيع صاحبها أن يتعامل مع مفردات الواقع ومتطلبات الحياة بمرونة واضحة وبقدرة على التحليل و الاستنتاج و الفهم والاستيعات تساعده على الحياة الراقية و السلوك المتطور (10).
وهو الأمر المرجو والمقصود من التعليم والتربية عموما، "ولا شك أن الهدف المتوخى من العملية التدريسية؛ لا يتمثل في حشو أذهان الطلبة بالمعلومات، وإن كانت مفيدة، فليس المتوخى أن يتخرج طلاب الفقه أوعية للمعلومات... غير أن الهدف الأهم الذي يجب أن تتجه إليه العملية التدريسية في الفقه، إنما هو بناء الشخصية الفقهية للطالب، وتنمية ملكات الاستنباط والبحث الفقهي عنده، واكسابه القدرة على التفكير العلمي السليم، المبني على منهجية فقهية واضحة، قادرة على المحاورة والمناظرة" (11).
ولأن التحديات والمتغيرات كثيرة ومعقدة فإن الاحتجاج العقلي من شأنه أن يزيل الغبش عن ذهن الطالب، والمعروف في عرف الدراسات الشرعية أنها دوما تتجه إلى التأصيل النصي من القرآن والسنة فقط، ويأخذ الاحتجاج العقلي مساحة ضيقة، لا يفهمها الطالب بسهولة. فالاستدلال بالحجة العقلية أمر في غاية الأهمية بعد الاستدلال بالنص وتعليم الطلاب ذلك مهم جدا، لأنه "وفي ظل ازدياد الشبهات العقلية أصبح ضروريا العناية بالحجة العقلية في عرض مقرر العلوم الشرعية بشكل أكثر فعالية" (12).
ومن أهم الوسائل المساعدة على إدراك الطلاب فن الإبداع إكثار المدرس من السؤال، بحيث تكون الأسئلة الكثيرة المتتابعة المتتالية مدخلا للدرس، وليس بالضرورة أن تتم الإجابة عن كل الأسئلة آنيا وفي أثناء إلقاء الدرس، وهنا وجب تطويرما أسماه د/ جمال بادي " أسلوب ضرب الأمثلة" (13).(/8)
فالمهم أننا عَلَّمنا الطلبة طريقة السؤال وطريقة الوصول للمعلومة المطلوبة عن طريق سؤال مباشر أو غير مباشر. ويمكن هنا الاستعانة بما يسميه التربويون "الابتكار بالاستثارة"، بحيث تكون مهمة المدرس استثارة الطلاب عن طريق طرح بعض التعليقات القصيرة المثيرة، وذلك من أجل استدعاء الآراء والأفكار الجديدة (14).
وهنا سيكون دور المدرس كالمدرب والمراقب والمستشار أحيانا أخرى؛ أي أن دوره لا يكمن في صب المعلومات صبا، وإنما يوجه الطلاب نحو المعلومات، ويشرف على توجيههم الوجهة الصحيحة، وتدريبهم على روح التساؤل، وتشجيعهم على ذلك.
أي يتم عرض المحتوى على أساس:
* عرض الموضوع على هيئة مشكلة أو تساؤل يثير اهتمام التلاميذ وتفكيرهم لتحقيق أهداف تدريس العلوم .
* إتاحة الفرصة لهم مع المعلم لوضع الفروض المناسبة لحل المشكلة (15).
د- تأهيل الطالب عمليا:
يأخذ المدرس في عين الاعتبار أن طالب الدراسات الشرعية مثله مثل طالب في التخصص التقني الذي يدخل المختبرات يوميا، فطالب الدراسات الشرعية وإن كان لا يدخل إلى هذه المختبرات في أيام دراسته فإنه لا محالة داخلها في واقع حياته، على اعتبار أنه سيكون قاضيا شرعيا أو مدرسا أو إماما خطيبا، أو فقيها مجتهدا، أو فردا عاديا في مجتمعه، ولكنه غير عادي بالنظر إلى تخصصه الذي يتطلب منه إلماما بعلوم الشريعة وتفريعاتها، فهو سيُستفسر كل حين عن مسألة فقهية أو فتوى أو معنى حديث، أو معنى آية، وهو هنا في مركز المفتي والمجتهد بين أهله وجيرانه وأفراد بلدته الصغيرة، "ومن مظاهر القصور والخلل والتقصير الواضح البيّن أن يواجه طالب الشريعة الذي يرى نفسه مختصا في الحديث أو العقيدة أو التفسير بمسائل من الحياة تتصل بالحلال والحرام عمليا، ثم يعتذر عن عدم قدرته على التعامل معها لأنه مختص بالعقيدة مثلا وليس بالفقه" (16).
وهنا يحضرني مثال مهم وهو أن إحدى زميلاتي وهي خريجة معهد الدعوة والإعلام والتي لم تدرس من مواد الفقه إلا القليل القليل، حدث أن تزوجت إماما وهو الأمر الذي استدعى أن كثيرا من نساء المدينة يزرنها بغرض الاستفتاء والسؤال، فتجد نفسها حائرة لا تعرف ماذا تقول، والسبب أنها خريجة كلية الدعوة والإعلام، ولم تدرس من الفقه وعلومه إلا النزر القليل!
وهنا تظهر الحاجة إلى دراسة فن الترجيح والمناظرات والجدل العلمي، التي حفل بها تاريخنا الإسلامي، فندرب الطلبة على فن المناظرات والاستدلال المقابل للاستدلال المضاد، فإن هذا الفن معناه وجوب استحضار الحكم ودليله بصورة آنية، وذلك يتطلب حفظها وفهمها واستيعاب أهميتها ومكانتها وموضعها بين المسائل المعروضة حتى يتأتى استحضارها وهذا أحد فنون التفكير الإبداعي الذي يتدرب الطلاب عليه في الدرس النظري ثم التطبيقي.
فهذه العلوم تعد أعمالا تحتاج إلى فنون تطبيقية مثل فن الخطابة المتماشي مع الأحداث اليومية، وعلم القضاء الذي يحتاج إلى تطبيق وتمثيل للمحاكم ومجالس القضاء التي تحتاج معرفة فن الترافع ومحاججة الخصم بالحجة والبيان ...الخ.
|1|2|
(1) أصل هذا البحث ورقة بحثية ألقيت في المؤتمر الدولي: (الإسلام والمسلمون في القرن الواحد والعشرين: الصورة والواقع)، كوالالمبور، مركز بوترا للتجارة العالمية، 4-6/8/2004م.
(2) كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
(3) فتحي حسن ملكاوي، البحث التربوي وتطبيقاته في الدراسات الإسلامية في الجامعات، إسلامية المعرفة، السنة8، العدد 30، خريف 1423هـ/2002م، ص 85.
(4) توظيف تقنية المعلومات في تدريس العلوم الشرعية، ندوة" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية"، جامعة ملايا، 7-8/2/2004، ص3.
(5) فتحي حمودة بيومي، التربية والطرق الخاصة بتدريس العلوم الإسلامية، ص 54، نقلا عن د/مروان قدومي، طرق تدريس الفقه الإسلامي، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، تحرير: د/ هايل عبد الحفيظ داود، ط1/ 2000م، الزرقا: جامعة الزرقا الأهلية، ص 197.
(6) ص 10.
(7) القرافي، الفروق، دار المعرفة، ج1/ ص3.
(8) السيوطي، الأشباه والنظائر، دار الفكر، ص2.
(9) أيمن أبو عذية، فليعلموا لماذا يتعلمون :تطبيقات العلوم في الحياة - مادة للطلبة الموهوبين، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين، ص 1.
(10) محمد إسماعيل محمد اللباني، التفكير الناقد ودوره في التعلم الفعال، ص22.
(11) ماجد الجلاد، المفاهيم الإسلامية وأساليب تدريسها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص 424.
(12) جمال بادي، تطوير أساليب تدريس العلوم الشرعية، ندوة" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية"، جامعة ملايا، 7-8/2/ ، ص2.
(13) جمال بادي، مرجع سابق،2004، ص5.(/9)
(14) محمود محمد علي ، تنمية مهارات التفكير، ط1/ 2002م، جدة: دار المجتمع للنشر والتوزيع، ص104.
(15) عادل أبو العز أحمد سلامة، عن تصور مستقبلي لمناهج العلوم في مرحلة التعليم الأساسي في ضوء متطلبات العصر، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 – 21 تموز 2003م، 19 – 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّان ص17.
(16) محمد سعيد حوى، ما الذي نريده من طالب الشريعة فقها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص114.
التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية
لمقررات الفقه وأصوله [3/3] (1)
د/ فريدة زوزو(2) 22/12/1425
02/02/2005
التفكير الإبداعي على مستوى المادة العلمية (الكتاب):
الكتب? ?المدرسية? ??هي التي ?يعمل? ?واضعوها? ?على? ?التركيز? ?فيها ?على? ?المعلومات? ?العلمية? ?البحتة? بعيداً? ?عن? ?التطبيقات? ?العملية ? - ?إلا نادراً?-?
لذا لابد من اختيار المادة المناسبة لمستوى الطلبة، فهما واستيعابا، بحيث يُختار الكتاب الجامع لشرح المفردات والمصطلحات الأساسية، والمعتمد على المصادر والمراجع القيّمة، والممثل بأمثلة واقعية يفهمها طالب العلم، ناهيك عن اختيار الكتاب ذي الأسلوب الميسر لا هو بالأسلوب الركيك الضعيف ولا هو بالصعب.
ومميزات المادة أن تكون منقحة متنوعة بين الجديد والقديم، ليدرك الطالب كيف تسير عملية الاجتهاد والإبداع في إنزال النصوص الشرعية منازلها في كل عصر وكل زمان.
ومن هنا أرى أنه لا يُستحسن الاختيار الأحادي للكتاب؛ إما كتاب قديم، وهو الذي كُتب لعصره في أمثلته وشروحه وتفصيلاته، ناهيك أنه مدون للباحثين والعلماء لا المتعلمين والطلاب، أو كتاب جديد، وهو الذي يفتقر إلى النصوص الفقهية القديمة التي يجب على الطلاب ممارسة قراءتها وتدريبهم على ذلك حتى يستوعبوها، كما أن الكتاب الحديث عادة ما يستند إلى مذهب واحد إما الشافعي أو الحنفي أو غيرها.
وفي هذا الصدد يقول د/وهبة الزحيلي –ذي الباع الطويل في التدريس- "وينبغي لدارسي العلوم الشرعية المتخصصة الجمع في التأليف بين الطريقة الحديثة في التأليف، باتباع المنهج العلمي في كل موضوع فقهي، ومراعاة الأسلوب السهل غير المعقد...كما ينبغي ربط الطالب الشرعي بالمصادر القديمة للتعرف على أساليبها وطرقها في معالجة الموضوع..." (3).
ولذا أرى أنه لابد من محاولة الجمع بين مادتي الكتابين، بحيث تُضبط المواضيع الفقهية التي عرفت قديما بالفروع الفقهية الحديثة ويضاف إلى القديم الجديدُ من الصور والمستجدات، إذن لابد من صياغة جديدة حديثة للمادة الفقهية، وهو ما يستدعي تجهيزا من المدرس وتحضيرا للمادة العلمية المطلوبة بحسب الفصل الدراسي وعدد ساعاته.
ويُراعى كذلك هنا الطلبة الموجه إليهم الدرس (درس للعرب فقط، للمالويين فقط، لمتعددي الجنسيات)، وهذا فن لا يتقنه إلا مدرس حاذق ماهر.
والذي أميل إليه أن يُحضِّرَ المدرس مذكرة يومية لدرسه انتقاءً من كتب متعددة، قديمة وحديثة، تتوافق مع مستوى الطلاب، ومع طريقة المدرس نفسه في الدرس، وإلا من أين يتأتى الإبداع إذا اعتمد كل مدرس على كتاب واحد مقرر لفصول دراسية كثيرة ولسنوات طويلة ؟
فعلى حسب مستوى طلاب كل فصل دراسي يتحدد محتوى ومستوى الدرس نفسه.
قد يبدو هذا الأمر صعبا ومتعبا ويحتاج إلى وقت، ولكنه في حقيقته ممتع جدا، إذ سيحس المدرس نفسه أنه يمارس الإبداع واقعا، وإذا ما أحس بذلك فإنه من السهل حث الطلاب على عملية التفكير والإبداع المطلوبين من كليهما.
أمثلة تطبيقية :
- ففي فقه العبادات: وجب الأخذ بعين اعتبار توقيت الصلوات والصيام للذين يقطنون القطب المتجمد الشمالي، وهل تجب الزكاة في الزروع والخضروات، ناهيك عن الأسهم والسندات، وآلات المصانع ومداخيل الشركات..الخ.
- وفي فقه المعاملات : عند الحديث عن أنواع الشركات لم تعد ثلاثة أو أربعة فقط كما في القديم والتي تمثلت في: (مضاربة، عنان، وجوه، أبدان) بل دخلت أشكال جديدة مثل شركات المساهمة المحدودة وغير المحدودة وغيرها، كما تغيرت في العصر الحديث صور القبض، ولم يعد متمثلا في القبض باليد فقط بل تعداه إلى صور جديدة ، وأصبحت المحاماة أهم صور درس "الوكالة"، وإذا ما أردنا شرح درس البيوع المحرمة فإن المثال القديم هو بيع الملاقيح والمضامين، أما الآن فهو بيع الدم والأعضاء الآدمية، وبدل الحديث عن الحوالة والمقاصة في صورها القديمة، دخلت مفاهيم جدية مثل بطاقات الائتمان، وخطابات الضمان، وبدلا عن الاستدخال وهو الصورة البدائية في إنجاب الأولاد أصبح الحديث عن التلقيح الاصطناعي بأنواعه المتمثلة في (التلقيح المجهري، وأطفال الأنابيب، والرحم المستأجر) والاستنساخ...الخ.
- ويبدو الأمر أكثر وضوحا في مادة " أصول الفقه"، التي كثيرا ما نسمع عن دعاوى تجديد وتطوير "علم أصول الفقه.(/10)
فمنهج أصول الفقه كان يتعامل مع قضايا زمانه والعصر الذي وجد فيه، وكما قال د/ حسن الترابي عن المنهج التقليدي:" لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي" (4). وعلى هذا فإن محاولة تطوير منهج الاستنباط ومنه تطوير المنهج الأصولي هو القضية الأساس للتعامل مع المستجدات والنوازل، إضافة إلى ارتباطه الوثيق مع فكرة تقنين الشريعة الإسلامية؛ "التي تفرض منهجا أصوليا محكما في التعامل مع الأدلة" (5)، الأمر الذي دعا أحد الباحثين إلى القيام بتقنين أصول الفقه (6).
وهنا يمكننا أخذ علم ومادة "أصول الفقه" كنموذج بارز لبيان أهمية التحلي بالنظرة النقدية الإبداعية، بغرض أن يكون الدرس الأصولي بداية مستوفيا لقواعد استنباط الأحكام الشرعية عموما من نصوص الوحي، ومنه إيجاد أحكام شرعية للمستجدات والنوازل، ونهاية أن يكون في مستوى الطلبة بإعانتهم على اكتساب ملكة الاستنباط من الأدلة.
لمحات إبداعية في دعاوى تجديد منهج أصول الفقه:
كثر الحديث عن تجديد أصول الفقه وعن المواقع التي يجب أن يشملها هذا التجديد أو التطوير أو التنقيح أو الإلغاء، فلم يعد أصول الفقه هو" مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل" (7). أو هو " العلم بالقواعد والأدلة الإجمالية التي يتوصل بها إلى استنباط الفقه" (8).
فهذا التعريف ينحو نحو المنهج الأول لاستنباط الأحكام التشريعية من أدلتها التفصيلية، ومعنى هذا أنه غير شامل للمنهج الثاني في طرائق الوصول لحكم النوازل والوقائع الجديدة. وهذا أحد أوجه التطوير.
فإن كان المنهج الأصولي مرتبطا بحركة الواقع فإنه تطوره آكد وقوي، ومنهج الاستنباط القديم والذي ظهر مع الإمام الشافعي كان يتجه نحو النصوص لاستنباط الأحكام الشرعية، غير أن المنهج المتبع الآن هو الاتجاه نحو الوقائع والنوازل والنظر في النصوص للبحث عن أحكام.
إلغاء ما ليس من علم الأصول:
من المعروف أن مصادر هذا العلم القواعد الكلامية وقواعد اللغة العربية، التي أخذت حيّزا كبيرا ومساحة واسعة في النقاش؛ " فالمعتزلة والأشاعرة عمدوا جميعا إلى القواعد الأصولية المبتكرة بغية الاستعانة بها في تحقيق الانتصار الفكري والعقلي على الأغيار" (9). ونلاحظ أن المنهج الثاني هو الذي دعا الأصوليين القدامى لاستحداث طرق جديدة للاستنباط غير طرق ومباحث علم الكلام، والمباحث اللغوية؛ مثل مباحث الاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، وغيرها مما يجب ملاحظته.
تطوير وضبط مفاهيم بعض الأدلة:
ومن أمثلة ذلك مبحث الإجماع الذي تبدأ إشكاليته من التعريف ذاته. ومبحث الاجتهاد وشروطه التعجيزية التي تكون بحق سبب دعوى غلق باب الاجتهاد.
والدعوة إلى اعتماد الاجتهاد الجماعي، وغيرها من المسائل التي تحتاج إلى تفصيل كثير لا يسعه هذا المقام، وهو مما يحتاج إلى دراسات معمقة.
تدريس المقاصد الشرعية بصورة وافية:
لأن الطرق القديمة لم تعد تؤدي بالغرض في استنباط الأحكام، واستنفذ القياس كل طاقاته، الأمر الذي دعا بعض الأصوليين إلى استحداث مبحث مقاصد الشريعة للنظر في نصوص الشريعة وفق إطار عام ضابط للنظر الاجتهادي هو إطار مقاصد الشارع الحكيم وتجاوز المنحى التجزيئي إلى النظر في القضايا العامة والفردية بمنظار كلي.
فهذا الجويني من خلال النظر في نظرية الضرورة عند الفقهاء والتي تقوم على آحاد الأفراد استكشف ضرورة الجماعات في تخمينه الواقع على (خلو الزمان من الفقهاء)، والتي تمثلت في الضروريات الخمس.
فقد ابتكر الإمام الجويني رحمه الله التقسيم الثلاثي لمقاصد الشريعة باعتبار آثارها في قيام المجتمع إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، مسترشدا في ذلك بمبحث الضرورة عند الفقهاء، والتي خص مبحثه في الأفراد (أكل الميتة، شرب الخمر عند الغصة، …) مستلهما ذلك من احتمال خلو الزمان من الفقهاء، فكيف يعرف العامي الحلال من الحرام.
- أما الإمام الغزالي رحمه الله فقد طوّر ما وصل إليه شيخه الجويني، ولم يحصره في فرض احتمال خلو الزمان من مجتهدين، بل أدخله في مفهوم المصلحة المرسلة، وجعله قوامها وأساسها الذي تقوم عليه، فكل أمر لم يأت التشريع باعتباره أو إلغائه صراحة فإن ردّه إلى حفظ مقصود الشرع المتمثل في حفظ الضرورات الخمس ومكملاتها وهو (الضابط).
- ثم يأتي الإمامان الرازي والآمدي عليهما رحمة الله، وبعد استيعابهما لفكرة المقاصد ذهبا إلى إدخال التقسيمات الثلاث بمكملاتها في باب الترجيحات؛ فأما الإمام الرازي فقد دعا إلى ذلك ولم يرجح بين الأقسام، أما الإمام الآمدي فإنه قام بالترجيح والموازنة في تقديم كلية الدين على النفس، والنفس على المال، …الخ.(/11)
- في حين أن العز بن عبد السلام رحمه الله رأى أن الأوامر والنواهي جميعها إما مقاصد أو وسائل إلى تلك المقاصد، مما أثرى المساهمة في الترجيح والموازنة بين المصالح المتعارضة، ومعرفة رتب المصالح والمفاسد.
- ثم يأتي الإمام الشاطبي، فلم يترك فكرة المقاصد كما هي عند سابقيه، جزءًا صغيراً في مبحث العلة في باب القياس، بل أفردها بالدراسة والبحث وجعلها إطارا منهجيا ضابطاً لكثير من المباحث الأصولية. ولتأكيد ذلك فصّل في المقاصد، مفصلاً ومفرعاً، مدققاً ومحللاً، فنظم مباحث عديدة لموضوع المقاصد، مطوراً لفكرة الوسائل وعملية الحفظ.
وفي محاولة درء التعارض بين آحاد النصوص استكشف الشاطبي كليات النصوص، والانتقال من النظر الجزئي إلى الكلي وهو الذي أبدع في المسالك التي أعدّها للكشف عن المقاصد، والتي تنطلق من النظر في آحاد النصوص لتصل إلى الكليات والعمومات التي تحويها وتتضمنها نصوص الوحي (10).
وفي العصر الحديث نجد ابن عاشور يحمل ذلك الميراث المقاصدي، ويسير على خطى الشاطبي في إفراد المقاصد بالبحث والتفريع والتحليل الواسع، مطوراً فكرة الإمام الجويني ومن بعده الغزالي في الاستفادة من التقسيم الثلاثي في المقاصد (وعدّها في باب المصالح والقياس الكلي) (11)، ثم الاهتمام بحفظ هذه الكليات في العموم لا في الأفراد فقط.
ويأتي الآن دور الباحثين في تطوير مقاصد الشريعة وجعلها الإطار العام للدراسات الأصولية؛ " فإن المنهج الأصولي لا تتوافر فيه كل الخصائص العلمية للاستنباط الفقهي إلا إذا أخذت دراسة المقاصد حظها فيه، ومن ثم فالدراسة الشاملة للمقاصد من ألزم الضرورات لتجديد علم الأصول وتطويره ليصبح أكثر وفاء بمقتضيات الاجتهاد في العصر الحديث" (12)؛ لأن أكثر الظواهر الحديثة، والمستجدات النازلة على المجتمعات المسلمة لا تجد لها في نصوص القرآن والسنة النبوية أحكاما تفصيلية إلا ما تضمنته من مقاصد عامة وقواعد كلية.
وخلاصة لما تقدم:
عموما يراعى عند اختيار المادة العلمية في المحتوى أن تكون المادة العلمية :
- ترجمة صادقة للمقرر الدراسي بأهدافه وموضوعاته ومقرراته.
- متلائمة مع الخطة الدراسية المقررة .
- مناسبة لمستوى نضج الطلاب من ناحية الاهتمام والميول.
- مناسبة ومرتبطة بالبيئة التي يعيش فيها الطلاب.
- وظيفية بمعنى أن تكون مرتبطة بحياة الطلاب وحاجاتهم ومشكلاتهم مما تثير اهتماماتهم.
- معروضة داخل كل وحدة بحيث تكون متلائمة مع كل من طبيعة المادة وتسلسلها العلمي على أساس:-
- الخصائص النفسية للطلاب وحاجاتهم وميولهم واهتماماتهم.
- طبيعة العلم كمادة وطريقة للتفكير والبحث (13).
التفكير الإبداعي على مستوى الطالب:
عادة ما يحس طالب الدراسات الشرعية بالخجل من تخصصه بين أقرانه من ذوي التخصصات التقنية، وهذا الإحساس من شأنه أن يقتل روح الإبداع والاجتهاد. إذ نادرا ما نرى طالب الدراسات الإسلامية يهز رأسه وبكل فخر ويقول أنا طالب في الدراسات الإسلامية، بل يقولها على استحياء رغم أن هذا التخصص وهذا العلم من أشرف العلوم وأقصرها طريقا للوصول لمرضاة الله تبارك وتعالى، كما أنها العلوم التي تبيّن طريق الله وشريعته وأحكامه الواجب تطبيقها وتنزيلها واقعا.
إذ أن الطالب يتصور أنه بدراسته العلوم الإسلامية وهي التي تستند أصالة للقرآن والسنة إذا أخطأ فإنه يثير حوله مشاكل عديدة؛ لأنه أخطأ فهم النصوص الشرعية وآراء الفقهاء، والحق أنه لا يجب الخجل من الخطأ، فكل إنسان خطاء.
لذا يُحبذ تدريب الطالب على كتابة التقارير بشكل أسبوعي، حتى يصبح تعامله مع المفردات والمصطلحات الشرعية تعاملا سهلا، فإنه يحدث وفي مرات كثيرة أن الطالب يسمع ويتعامل مع المصطلح الشرعي مرة واحدة ثم ينساه، فكتابة التقارير الأسبوعية ومناقشتها جماعيا في حصص المناقشة تستثير في الطالب روح التفكير الإبداعي فيما يكتبه ويلقيه على زملائه.
ناهيك عن حضور الندوات والمحاضرات العامة والمؤتمرات التي تعين الطالب على مسايرة جديد الأبحاث، وجديد المعلومات، ومعرفة المستجدات والنوازل، ويكتسب منها طرق البحث والإلقاء، فيتعلم منها الشجاعة وطرق المناقشة والسؤال والتعقيب والاستدراك وغيرها من طرق وأساليب الحوار والنقاش المجدي.
طرق لتفعيل أداء الإبداع والنقد عند الطلاب:
يمكن للمدرسين أن يعززوا التفكير الناقد والإبداعي في المدارس والجامعات من خلال طرق أخرى هي :
(1) إعداد مواد منهجية لإثراء الكتب المدرسية العادية .
(2) إجراء مناقشات وحوارات حول قضايا خلافية .
(3) حث الطلبة على القيام بلعب الأدوار حول أحداث تاريخية حيث تتبنى الأطراف وجهات نظر متناقضة.
(4) حث الطلبة على حضور اجتماعات في المجتمع المحلي ، أو مشاهدة البرامج التلفازية التي يتم التعبير فيها عن وجهات نظر مختلفة .
(5) حث الطلبة على كتابة رسائل للصحافة للتعبير عن آرائهم حول قضية محلية معاصرة.(/12)
(6) تشجيع الطلبة الكبار على أن يُحلّلوا مقالات صحفية ومواد أخرى لإيجاد أمثلة على التحيّز الواضح.
(7) ترك المجال للطلبة للتصدي للأسئلة عن طريق الإجابات المتعددة .
(8) حث الطلبة على قراءة ومناقشة الأدب الذي يعكس قيماً وتقاليد مختلفة عن تلك التي يتبنونها.
(9) دعوة أشخاصِِ لهم وجهات نظر خلافية ليتحدّثوا مع الطلبة (14).
وأؤكد هنا أن:
الطالب المبدع لا يوجد من فراغ بل من مدرس مبدع فعال ومادة تعليمية إبداعية ووسائل تدريسية ناقدة وبناءة وفعالة.
وهذه هي القاعدة العامة في التفكير الإبداعي عنوان هذا البحث.
المدرس المبدع المادة البناءة الطالب المجدّ
آفاق الدراسة:
في ختام هذه الورقة البحثية أود أن أبيّن آفاق هذه الدراسة وهي كما يلي:
- يُراعى عند تدريس العلوم الإسلامية أنها الموجّه لحياة المسلمين دنياً وديناً.
- وهذا لا يتأتى إلا من خلال تدريب الطلبة على سلوك الأساليب الإبداعية في التعامل مع المادة العلمية المدروسة والواقع المعاش.
- وهذا لا يتأتى إلا من خلال إعداد برامج دراسية تتوافق واحتياجات الأمة الإسلامية في هذا العصر.
- وأخيرا تفعيل العلوم الشرعية في واقع المسلمين باعتبارها الموجه ابتداءً، وآلية التطور والنهضة بالمجتمع تبعا.
وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
(1) أصل هذا البحث ورقة بحثية ألقيت في المؤتمر الدولي: (الإسلام والمسلمون في القرن الواحد والعشرين: الصورة والواقع)، كوالالمبور، مركز بوترا للتجارة العالمية، 4-6/8/2004م.
(2) كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
(3) وهبة الزحيلي، الكتاب الفقهي الجامعي- الواقع والطموح- ، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م ص242.
(4) حسن الترابي.قضايا التجديد: نحو منهج أصولي. ط1/ 1990م. الخرطوم: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية. ص 195.
(5) محمد كمال الدين إمام، نحو تطوير تدريس علمي أصول الفقه والفقه، مجلة" المسلم المعاصر"، العدد112، السنة28، أبريل/ يونيه 2004م، ص7.
(6) أنظر: محمد زكي عبد البر، تقنين أصول الله، ط1/ 1989م، القاهرة: دار التراث.
(7) فخر الدين الرازي، المحصول. ط3/ 1998م . بيروت: مؤسسة الرسالة. 1/80.
(8)عبد الكريم زيدان. الوجيز في أصول الفقه. 1998م، بيروت: مؤسسة الرسالة. ص11.
(9) قطب سانو، "المتكلمون وأصول الفقه". مجلة " إسلامية المعرفة". السنة 3. العدد9. 1997م . ص 44.
(10) فريدة زوزو. النسل: دراسة مقاصدية في وسائل حفظه في ضوء تحديات الواقع المعاصر. ط1/2004م. الرياض: دار الرشد، ص 29 وما بعدها.
(11) محمد الطاهربن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. تحقيق: د/ محمد الطاهر الميساوي. ط/ 1999م1.عمان: دار النفائس/ كوالا لمبور: دار الفجر. ص83.
(12) محمد الدسوقي. "نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه". مجلة " إسلامية المعرفة". السنة1. العدد 3. 1996م. ص136.
(13) ا.د.عادل أبو العز أحمد سلامة، عن تصور مستقبلي لمناهج العلوم، ص16.
(14) د. محمد صالح خطاب. رعاية تعليم التفكير في المدارس، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 – 21 تموز 2003م، 19 – 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّان. ص18 .(/13)
التفكير السليم
يعتبر الإدراك الواعي لمصادر الخطأ في التفكير هو المصدر الرئيس الذي نستطيع أن نعتمد عليه لتحسين تفكيرنا. وكلما ازداد تفكيرنا وضوحًا, كلما أصبحنا أفضل في اتخاذ القرارات, وحل المشاكل, وأيضًا في وضع الأمور في منظورها السليم.
وإذا حافظت على التفكير السليم فسوف تصبح أكثر قدرة على وضع الأمور في منظورها الحقيقي, والتفكير السليم ليس دائمًا سهلاً إذ أنه من الصعب أن تفكر بطريقة منطقية ـ أي ترتيب النتائج على المقدمات ـ.
والتفكير السليم ووضع الأمور في نصابها من الرزق الوفير الذي يسوقه الله إلى العبد, وهو الحكمة التي تجعل الإنسان يضع الأمور في نصابها الحقيقي, وقد امتن الله على أصحاب العقول وأولي الألباب, ووصف أصحاب الفهم السليم بأنهم أصحاب العقول والنهى.
ولكي نفكر بصورة سليمة علينا أولاً أن نتجنب الأخطاء التي تضللنا في تفكيرها.
احذر من:
1ـ النظريات والافتراضات
من الممكن أن تنزلق إلى الأحكام المسبقة, فالأحكام المسبقة مثل المعتقدات بشأن الخصائص العرقية أو الاختلافات بين الأجناس, تعتبر أمثلة جيدة للنظرات التي قد تسبب انحيازًا في أحكامنا, وتجعل من الصعب تغييرها.
وعن طريق النظر إليها بمزيد من التفصيل يمكننا أن نكشف بعض الأساليب التي تظل بواسطتها المعتقدات باقية في مواجهة الأدلة التي لا تؤكدها.
لنتصور مثلاً ذلك الاعتقاد بأن الأطفال الذين يستغرقون وقتًا طويلاً لكي يتعلموا القراءة هم أقل ذكاءً من الآخرين.
ولتوضيح ذلك بمثال: هناك صديق لك بارع جدًا ولكنه كان بطيئًا في تعلم القراءة فكيف ستتعامل مع ذلك الاعتقاد؟
أ ـ المعلومة التي لا تتلاءم يتم إسقاطها من الاعتبار, وتقرر أن صديقك البارع ولكنه البطيء في القراءة هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
ب ـ المعلومة التي لا تتلاءم يتم تحويرها, حيث إن فصله كان مليئًا بأطفال مميزين ولذلك كان بطيئًا بالنسبة لهم
جـ ـ إزاحة المعلومة غير المتلائمة؛ لأن العقل ليس لديه القدرة للتعامل مع المعلومة المتناقضة.
إن ما نراه ونلاحظه ونهتم به ونتذكره إنما يتقرر من عدة نواحي بواسطة معتقداتنا وإطاراتنا, ونظرياتنا الموجودة لدينا من قبل, أكثر من أن يكون العكس صحيحًا.
ولكي نتجنب هذا النوع من الأخطاء الشائعة علينا بالآتي:
أـ ابحث عن الدليل الذي لا يؤكد اعتقادك أكثر من الدليل الذي يؤكده.
فإذا كنت تعتقد أن جميع البجع لونه أبيض فإن اعتقادك يمكن فقط أن يتغير, ويتلاءم مع الحقيقة إذا بحثت عن البجع غير الأبيض.
ب ـ عندما تصادفك أمثلة لا تتلاءم مع مفاهيمك المسبقة, اعمل على التأكد من التفكير فيها وتذكرها.
جـ ـ اجعل ما تفضله وهواك بعيدًا, وذلك يعني أمرين:
ـ أن تعرف ما هي؟
ـ وأن تصبح مدركًا كيف يمكنها أن تنسب في انحياز قدراتك عن التفكير العقلاني.
د ـ لا تقلق بشأن تعديل أفكارك أثناء تقدمك, ومن الممكن أن تتحول المعتقدات والنظريات والافتراضات تدريجيًا بمرور الوقت, أو تتغير فجأة.
2ـ ما يطرأ على الذهن
ونحن نميل جميعًا إلى إعطاء قيمة مُبالغ فيها للأشياء التي تطرأ على الذهن. والمشكلة أن الذي يطرأ على الذهن في وقت معين تقرره غالبًا عوامل هامشية, مثل الترتيب الذي تتم به الأشياء أثناء العمل, أو إذا كنت تشعر بالقلق أو تشعر بالإحباط نحوها.
وكذلك فإن للأحداث الحيوية, أو البارزة عاطفيًا تأثيرًا هائلاً على طريقة تفكيرنا. إن شعورك بالرضا عن أمر فعلته سوف يجعلك تظن أنه يستحق أن تفعله ثانية, وشعورك بعدم الرضا عنه سوف ينفرك منه.
وللتغلب على هذه المشكلة يجب مراعاة الآتي:
أ ـ خذ وقتًا كافيًا عند التفكير في أمر ما. حيث إن الأحكام الخاطفة أكثر عرضة للتأثر المبالغ فيه بالأمور التي لا علاقة لها بالموضوع من الأحكام المدروسة.
ب ـ حاول أن تبتعد عن المشاعر الساخنة إذا كانت مشاعرك ذات صلة قوية, بأنه من الممكن أن يتغير تفكيرك عندما تتغير مشاعرك.
جـ ـ اختبر أفكارك مع الآخرين, وذلك لأن استخدام عقلين بدلاً من عقل واحد يعتبر وسيلة جيدة للتقليل من التحيز.
3ـ آراء الآخرين
على الرغم من أن الاستفادة من آراء الآخرين لها دور مهم في استقامة الفكر, ولذلك شُرع سؤال العلماء, وكذلك مدح الشورى في القرآن والسنة, ولكن على الرغم من ذلك يمكن أن يكون في بعض الأحيان هناك تأثير سلبي على آرائنا بسبب الآخرين ومن هذه الحالات:
أننا نميل إلى تصديق الناس الذين نعجب بهم, حتى عندما تكون آرائهم ربما ليست مبنية على معلومات صحيحة بوجه خاص.
وكذلك فإن أسلوب العرض البارع قد يكون له تأثير على تفكيرك بغض النظر عن المحتوى الذي يحتويه هذا المعروض, فإذا تعلمت مثلاً أن تعبر عن نفسك في ثقة وقوة فسوف يصبح من الأرجح أن يستمع الناس إليك.(/1)
وكذلك يمكن خداعنا كثيرًا بما يسمى الحقائق العلمية, أو الدراسات المتأنية أو الأبحاث المتخصصة, وقد لا تكون كذلك, فيجب علينا أن نُبقي عقلنا متيقظًا ونتعلم المزيد عن كيفية تقييم المعلومة التي تُقدم إلينا, ونحذر من التضليل والخداع.
وفي الحقيقة كذلك يختلف الناس اختلافًا هائلاً في المواقف المختلفة وهم يتأقلمون وفقًا للطلبات المطروحة, ويختلفون عندما تتغير الظروف والأوقات, ولذلك فإن علينا أن نحذر من تصنيف الآخرين, أو أنفسنا, وكأن ردود أفعالنا وتصرفاتنا ثابتة.
4ـ الارتباط العقلي بين الأفكار
قد ترى أحد السياسيين في لقاء مصور, وقد فوجئ باللقاء وهو غير مستعد, ويرتدي قميصًا متجعدًا, وشعره غير ممشط, ويبدو مظهره مثل البروفيسور التائه الذهن أكثر من السياسي الشهير, وينبع حكمك عليه من ملبسه.
ويقول الشاعر:
وترى المرء الصغير فتزدريه ويحمل في جنبيه أسدً هصورًا
ولتجنب ذلك:
ـ عندما نلاحظ أن شيئين يتشابهان اسأل نفسك كيف يختلفان؟
ـ افحص توقعاتك واسأل نفسك على أي الأسس ترتكز.(/2)
التفكير الشبابي
د. عبد الكريم بكار 18/8/1426
22/09/2005
يتضح لنا يوماً بعد يوم أن معظم المشكلات التي يعاني منها الناس، لا يعود إلى ما هو موجود في الواقع، ولا إلى ضعف الإمكانات والمعطيات المادية، وإنما يعود إلى قصور في الذهنية، وإلى خلل في رؤية الأشياء، وإلى خلل في آلية التفكير وعتاد العقل. ولو أننا تأملنا في طريقة تفكير الشباب لوجدنا أن لها طابعاً خاصاً يميزها عن طريقة تفكير الشيوخ. وبما أن التعميم في كل شيء يشكل خطأ في الحكم، فإنه يمكن القول: إن هناك من الكهول والشيوخ من يفكر بنفس طريقة الشباب؛ لأنه يملك روح الشباب وحيويته وتوقّد ذهنيّته. وهناك أيضاً من الشباب من لا يفكر كما يفكر الشاب الذكيّ، وذلك ليس لأنه يفكر بلون آخر من منهجية التفكير، وإنما لأنه لا يفكر أبداً! فما معالم تفكير الشباب؟ وما وجه المفارقة بينه وبين تفكير الشيوخ؟
1- تتعاظم الخبرة لدى الكبار في السن، وتنضج التجربة والرؤى، وتكتمل القناعات. ولهذا -ولا شك- ميزته الكبرى، بل هو إحدى الثمار اليانعة للمعاناة الطويلة والأخطاء المتكررة، لكن لهذا أيضاً مشكلاته وعقابيله العديدة، والتي منها كثرة الحديث عن الماضي، والإغراق في تحليله وبيان أزماته وممانعاته. بمعنى آخر يجد الكبير في السن نفسه وكأنه صار مكبلاً مرتبكاً بأثقال التجربة الكبيرة التي خاضها.
إن الخيال ينقل الوعي من بؤرة الخبرة ويجعله على حوافها؛ ليكون متصلاً بالمظنون والمجهول والمتوهم والمحتمل. وحين تكون الخبرة عريضة وعميقة، فإن مغادرة الخيال لحدودها تصبح أمراً شاقاً. وهذا يجعل المرء يبدو وكأنه يدور حول نفسه.
أما الشباب، فإن لديهم القليل والقليل جداً مما يمكن أن يتحدثوا عنه، ولهذا ميزاته وسلبياته. حين يفكر المرء من غير خبرة يتكئ عليها فإنه يكون مهدداً بالتهور وبالبعد عن الحدود التي يرسمها الواقع، وخطورة مثل هذا التفكير تتمثل في اتخاذ قرارات غير عملية، والتطلع إلى الحصول على أشياء لا يمكن الحصول عليها، مما يجعل الشاب يتعرض في النهاية إلى موجات من اليأس والإحباط، لكن التفكير الإبداعي يتطلب من المرء أن يكون مستعداً لرؤية الأشياء خارج الأنماط المألوفة، وبعيداً عن الارتباطات السببية المعهودة والمعمول بها، ومن هنا فإن معظم المبدعين هم من الشباب، ومن يكبرهم قليلاً.
إن السذاجة كثيراً ما تكون عبارة عن محرّض لبذل أعظم الجهود وتحمّل أكبر المشاق، وهذا ما نجده لدى الشباب ونجده أيضاً لدى الكتاب، إننا -معشر الكتاب- نتمتع بسذاجة كسذاجة الأطفال؛ إذ نعتقد أن ما نكتبه يؤثر تأثيراً بالغاً في حركة المجتمع، ومع أن هذا قد لا يكون صحيحاً في كثير من الأحيان، وهو مبالغ فيه في معظم الأوقات إلا أنه يشكل الوقود الحيوي للاستمرار في الكتابة بوصفها عملاً عظيم التكاليف وقليل الجدوى.
2- يحلم الشباب بالأحلام العريضة الطويلة، ويمدون أبصارهم نحو الآفاق البعيدة؛ لأن اعتقادهم بطول المدة المتاحة لهم في هذه الحياة، يحملهم على التفكير والاستثمار في قضايا ومشروعات بعيدة الأمد وذات بعد إستراتيجي، وهذه ميزة كبرى على صعيد تطوير الأمم والشعوب؛ وعلى صعيد تأمين مساقات للعمل والعطاء على صعيد الأفراد، أما الشيوخ فإن إحساسهم بدنو الأجل ونفاد الطاقة يجعلهم يفكرون فيما يمكن أن يحدث على المدى القصير، كما يدفعهم في اتجاه التقليل من الحديث عن التغيير والتطوير، مع أن الله تعالى قد ينسأ في الأجل، ويمدّ في الطاقة، مما يمكّن المرء من القيام بالكثير من الأشياء العظيمة. وإنه لدرس بليغ ذلك الذي نستخلصه من قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها". إن علينا أن نفكر في المستقبل البعيد، وأن نؤسس الأعمال الجيدة والمطلوبة بقطع النظر عما إذا كنا نحن سنقطف ثمارها، أو كان من يفعل ذلك من الأبناء والأحفاد.
3- يتسم تفكير كثير من كبار السن بالتشاؤم، ويتّشح بالسواد، ولا ندري تماماً لماذا يكون ذلك؟ هل هو بسبب تراجع القوى والشعور بالضعف والشعور بالخوف من الموت وما بعده؟ أو أن ذلك يكون بسبب التربية والبيئة اليائسة والمحبطة حيث بلغ التشبع بمعطياتها أقصى مداه؟
أما الشباب فله شأن مختلف حيث الآمال الغضة والنفوس المتطلعة إلى الأفق البعيد، وحيث الترقب للأشياء السارة والمدهشة، تفكير الشباب تفكير يتسم بسمتين مهمين هما التفاؤل والمرح.
ضعف الخبرة بظروف الحياة وقيودها يساعد الشباب على التفاؤل ويدفعهم دفعاً في انتظار مباهج الحياة ومسراتها. والمرح شيء طبيعي في النفس البشرية حين تسلم من الشعور بوطأة التكاليف وثقل الأعباء، وهذا موجود لدى الشباب؛ إذ تكون مسؤولية إعالتهم على أهلهم، وأعتقد أن في إمكان الشيوخ أن يستفيدوا من الشباب، ويتعلموا منهم هذه الميزة، وذلك بشيء من إدارة الإدراك ومحاولة رؤية الأشياء بطريقة جديدة.(/1)
4-الشباب أكثر مواكبة للجديد وأقدر على التلاؤم معه، وهذا يجعلهم يعتقدون أن هناك معطيات جديدة في كل مجال من المجالات، ووجودها طبيعي ومألوف، والاستجابة لها لا تحتاج إلى تفريغ الذهن من معطيات قديمة ومتقادمة؛ إذ لا قديم يذكر لدى الشباب ولهذا فإن الشباب يعملون وفق قاعدة (الجديد صحيح حتى يثبت خطؤه) أما الشيوخ فيعملون وفق مقولة (الجديد يُعامل بتريّث وحذر إلى أن يثبت صوابه). ومع أن أياً من الموقفين لا يكون مناسباً في بعض القضايا إلا أن الانفتاح على الجديد يظل أقرب إلى الصواب في معظم الأحيان.
5- شبابنا يرون اليوم بأم أعينهم الطفرات المتتابعة في مجال التقنية والاتصال والكماليات والمرهفات، وهذا يدعوهم إلى التفكير وفق المقولة (كم ترك السابق للاحق)، أما كبار السن فإن امتلاءهم من القديم وعدم تفتّحهم على الجديد.. يجعلهم يفكرون وفق المقولة الذائعة (ليس في الإمكان أبدع مما كان) ووفق مقولة (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وهذا يعبر عن التوجّس من الجديد، كما يعبر عن التعلّق بالقديم.
نحن في حاجة إلى العمل وفق معادلة صعبة، تقوم على أفضل ما لدى الشيوخ من الأناة والخبرة وعمق التجربة، كما تقوم على أفضل ما لدى الشباب من توثّب ذهنيّ وتفتح عقليّ وانطلاق روحيّ، ومن يستطيع الجمع بين هاتين الفضيلتين فإنه يستحق بجدارة لقب (شيخ الشباب).(/2)
التقارب الديني خطره مراحله آثاره
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
تقديم:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, الحمد لله الذي أنزل الكتاب المحكم المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد, ذلك الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، لا تنفد معجزاته الخبرية, قال عز من قائل: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [سورة البقرة:120]. وقال: (لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى[1]ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) [سورة المائدة :82-83].
وصلى الله وسلم وبارك على محمد النبي الأمي، الذي حذَّرنا من اتخاذ الرؤوس الجُهّال, فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً, فسُئِلوا, فأفتوْا بغير علم فَضَلُّوا وأضلُّوا)[2].
ولقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذهابَ العلم وفشوَّ الجهل من علامات قرب الساعة, فقال فيما صحَّ عنه: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويكثر الجهل... الحديث)، والعلم هو السنة، والجهل هو البدعة.
أما بعد...
فإن الأمور التي عمَّت بها البلوى في هذا العصر أكثر من أن تحصى، وأوضح من أن ينبَّه عليها, ولكن من أخطر تلك الأمور تلك الدعوة التي رفعها بعض المنهزمين بإيعاز من المستشرقين في أواخر القرن الميلادي الماضي, وقد جاراهم فيها بعض الصلحاء المستغفلين من الدعاة, ألا وهي (دعوى التقارب الديني)، أو (وحدة الأديان)، أو الدعوة إلى (الحزب الإبراهيمي)، أو جمع أهل الأديان السماوية على (الملة الإبراهيمية)، ونحو ذلك من هذا الهُراء.
لقد لاقت هذه الدعوة في الآونة الأخيرة - بعد أن كسدت سوقها فترةً - رواجاً خاصاً في السودان, حيث عقدت عدة مؤتمرات وندوات لمناقشة كيفية التوصل إلى دين عالمي جديد، يجعل الناس - كل الناس - يعيشون في وئام وسلام، خاصةً في البلد الواحد, دون أدنى اعتبارٍ لدينهم وتراثهم وثقافتهم, فـ"الدين لله, والوطن للجميع، وما لله لله وما لقيصر لقيصر"!!
هذا الدين العالمي الجديد يوالي فيه المسلم أخاه النصراني واليهودي والمجوسي والوثني!!! إذ جميعهم من آدم وحواء عليهما السلام!!
وهذا بحث بعنوان: (التقارب الديني: خطره, أسبابه, دعاته)، يتكلَّم عن تاريخ هذه الدعوة, عن بَطَلَتها, وعن الأٍسباب الحقيقة للقيام بها, عن مخالفتها الصريحة البينة الواضحة لما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلىكلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [سورة آل عمران:64].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني).
كتبته نصيحة لله ولرسوله، ولدينه، ولدعاة هذه الدعوة، ولعامة المسلمين, ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حيّ عن بينة.
واللهَ أسألُ أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يُريَنا وجميعَ إخواننا المسلمين الحق حقاً, ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, , والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل, وصلى الله وسلم على رسوله القائل : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وحدة الأديان أو التقارب الديني
الغرض الأساسي والهدف الأول من هذه الدعوة هو: إبعاد الإسلام، وإقصاؤه عن الحياة, وإذابة معتقداته؛ ليعيش أصحاب الملل المختلفة في البلد الواحد في محبة ووئام وسلام, وتزول عنهم الخلافات الدينية، ويختفي منهم الولاء الديني، ليصبح الولاء للوطن الذي هو للجميع, فالدين لله والوطن والجميع!!!
متى ظهرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي؟ ومن هم بطلتها؟
بدأت هذه الدعوة - أول ما بدأت - في الربع الأخير من القرن الماضي, بإيعاز من بعض القُسُس، فهي ثمرة من ثمار الغزو الفكري والاستعمار الأوربي الذي جثم على صدر الأمة الإسلامية في ذلك الحين, ثم توالت الصيحات فيما بعد.(/1)
يقول الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله : "أما التوفيق بين الأديان -بين المسيحية والإسلام على وجه الخصوص - فقد بدأ في العصر الحديث باتفاق قسيس إنجليزي اسمه (إسحاق تيلور) مع الشيخ محمد عبده وبعض صحبه في أثناء نفيه بدمشق 1883م على التوحيد بين الدِّينيْن. ثم ظهرت الدعوة من جديد في السنوات الأخيرة حين قام جماعة من المعروفين بميولهم الصهيونية بعقد مؤتمر للتأليف بين الإسلام والنصرانية في بيروت 1953م، ثم في الإسكندرية 1954م، وقد كثرت الأقاويل في أهداف هذه الجماعة, وفي مصادر تمويلها, وأصدر الحاج أمين الحسيني بياناً أثبت فيه صلة القائمين على هذه الدعوة بالصهيونية العالمية"[3].
أبرز بطلة[4] هذه الدعوة:
[1] الشيخ محمد عبده (1849-1905)م:
هو أول من سُخِّر للدعوة لتلك الفكرة، كما وضح لنا من قبل، يقول فضيلة الدكتور سفر الحوالي: "وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي: إضعاف مفهوم (الولاء والبراء)، و(دار الحرب ودار الإسلام)؛ إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء, لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب, ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم - بحجة الأول التعاون مع الكافر ليس محرماً من كل وجه- وبدعوته إلى التقريب بين الأديان.
حقيقة إن الرأي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوي الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات"[5].
[2] الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م):
دعا للعلمانية ونَبْذِ الدين صراحةً, كما دعا للتعايش السلمي مع اليهود والنصارى، وترك الدين جانباً، قال: "يا قوم - وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين - أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد, وما جناه الآباء والأجداد, فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين, وأُجِلُّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون، فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط، دعونا نجتمع على كلمات سواء, ألا وهي: فلتحيا الأمة, فليحيا الوطن فنحيا طلقاء أعزاء"[6]، وهذا هو نفس ما يدعو إليه دعاة وحدة الأديان الحاضرين.
[3] الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، (ت1873م):
هو من الذين دعوا إلى ذلك بكتاباتهم وفكرهم، بعد أن فعلت فيه الثقافة الغربية الفرنسية فعلها. يقول الشيخ محمد محمد حسين: "تكلم الطهطاوي في مقدمة كتابه (مناهج الألباب) وبيّن أن الوطن جامعة تجمع ساكنيه على اختلاف الأديان، حين قال: فجميع ما يجب على المسلم للمسلم، يجب على أعضاء الوطن, من حقوق بعضهم على بعض, لما بينهم من الأخوة الوطنية فضلاً عن الأخوة الدينية، فيجب أدباً لمن يجمعهم وطن واحد, التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه، فيما يخص شرف الوطن وغناه وثروته، لأن الغنى إنما يُتحصل من انتظام المعاملات, وتحصيل المنافع العمومية. وهي تكون بين أهل الوطن على السوية لانتفاعهم جميعاً بمزية النخوة الوطنية", ثم أيد رأيه بكلام للإمام ابن حجر في أن ظلم الذمي حرام, وعقب عليه بقوله:(وهذا يؤيد ما قلناه من أن أخوة الوطن لها حقوق, لا سيما وإنها يمكن أن تؤخذ من حقوق الجار, خصوصاً من يقول: بأن أهل الحلة كلهم جيران".
يقول الشيخ محمد محمد حسين معلقاً على كلام الطهطاوي السابق: "هو أثر من آثار الحضارة الغربية وتصورها للوطن الجامع لمصالح ساكنيه على اختلاف أديانهم وأجناسهم واقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة الذي قضى على الرابطة الدينية وأقام في مكانها رابطة المصلحة الوطنية أو ما أسماه الطهطاوي "المنافع العمومية" التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. ولذلك فالطهطاوي يعقد في كتابه فصلاً "في أن معظم وسائل تقدم الوطن في المنافع العمومية رُخْصَةُ المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية" يثني فيه على الملك رمسيس فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها الذي اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان, لأنه أول مصري قربهم إلى بلاده, واستمال قلوبهم بتوظيفهم برياسة أجناده، وخالف عوائد أسلافه" [7].
قلت: لله در ابن خلدون حين قال: "والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وبخلقه وسائر أحواله وعوائده".
سبحان الله, فإن السنوات الخمس التي قضاها هذا الشيخ الأزهري (1826-1831هـ) في باريس فعلت فيه الأفاعيل وجعلته مسخاً مشوهاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهذه حال جُل المبعوثين ألاّ من رحم ربك, وإن تعجب فاعجب من ذلك المبعوث الذي عاد من أمريكا لتوّه فإنه يسير دائماً على طريق الخواجات بين جدة والطائف!!(/2)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنبؤه: (لتتبعنّ سَنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!!
[4] الشيخ أحمد لطفي السيد وطه حسين:
إنهما من تلاميذ محمد عبده الأوفياء. أكملا الشوط الذي كان قد بدأه في عملية التغريب والعلمنة وإزالة الحاجز بين المسلمين والكفار, يقول الشيخ سفر الحوالي: "وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد 1906م من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية لمناهضة الأزهر والذي قالوا أنه يهدد كنيسة المسيح بالخطر وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين تقريباً أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية, وكان النص الأول من شروط إنشائها هو ألا تختص بجنس ولا دين, بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم حتى تكون واسطة للألفة بينهم" [8].
[5] الشيخ علي عبد الرازق:
وهو من الشخصيات الخطرة التي مهدت لقيام هذه الدعوة , إنه شيخ مفتون, ألف كتاباً أسماه "الإسلام وأصول الحكم".
يقول عنه الشيخ سفر حفظه الله: "جمع عبد الرازق في كتابه بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة واقتطاع النصوص وتلفيق الواهيات وبين طريقة الباطنية في التأويل البعيد, وسرد نبذاً من سير الطواغيت, ونتفاً من أقوال متملقيهم وعمد إلى مغالطات عجيبة كل ذلك ليدلل على أن الإسلام كالمسيحية المحرفة علاقة روحية بين العبد والرب لا صلة لها بواقع الحياة.
ولم يَفُتِ الشيخ أن يدلنا على أحد مراجعة الرئيسية لنستكمل ما قد يكون فضيلته عجز عن بيانه , فهو يقول في الكتاب نفسه: " واذا أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة للعّلامة(!!) السير تومس آرنلد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع".
[6] الدكتور محمد عمارة:
هو كذلك من دعاة تجميع الخلق تحت دين جديد واحد، يقول عنه الأستاذ جمال سلطان: "في نظره أن اليهود والنصارى اليوم مؤمنون مسلمون موحدون ولا يضرهم في شيء من إيمانهم تكذيبهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، فإذا ما وقف أهل الكتاب من أتباع شرائع الرسل الذي سبقوا محمد صلى الله عليه وسلم عند التصديق برسالة رسلهم [9], وأبوا التصديق برسالة محمد ونبوته مع توحيدهم [10] وعملهم الطاعات!! فإن هذا التوقف لا يخرجهم عن إطار الدين الواحد, ولا حظيرة التدين بالإسلام. فموقفهم هذا هو انحراف! والفرق بين من يؤمن بمحمد وبكل الرسل وبين الذي يجحدون بنبوة محمد ورسالته مع توحيدهم وعملهم الطاعات كمثل الفرق بين إيمان المؤمن الخلي من البدع وبين إيمان من تشوب البدع إيمانه" [11].
[7] الدكتور حسن حنفي:
يذهب الدكتور حنفي إلى أنه ليس هنالك دين في ذاته بل هناك تراث يمكن تطويره وتطويعه حسب الظروف والملابسات: "الأول التراث القديم لا قيمة له في ذاته كغاية أو وسيلة, ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، وأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره, وأن الارتباط به نوع من التغريب ونقص في الشجاعة وتخل عن الموقف الجذري ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه, وفي حين أن الجديد علمي وعالمي يمكن زرعه في كل بيئة" [12].
[8] الدكتور حسن الترابي:
من أبرز بطلة هذه الدعوة الدكتور حسن عبد الله الترابي.
وواضح جداً أن المتولين لكبر هذه الدعوة هم على شاكلة واحدة ومن نوع خاص, إنهم العصرانيون المتغربون المبهورون بالحضارة الغربية المادية بعد أن أُشربوها على أمزجة فرنسية إنجليزية فالطيور على أشكالها تقع, و(الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
فالقاسم المشترك بين محمد عبده, ورفاعة الطهطاوي, ومحمد عمارة، وحسن حنفي، وحسن الترابي ومن شاكلهم من العصرانيون هو الانهزام النفسي والإفراط في حب الغرب وموالاته, ويعتبر د. الترابي أخطر هؤلاء جميعا لأسباب منها:
[1] أن أولئك السابقين له لم تتعد مجهوداتهم الجانب النظري بينما نجد أن د. الترابي خطا خطوات عملية في هذا المجال, لأنه أتيحت له إمكانات دولة لم تُتح لسابقيه فقد استطاع الترابي أن يُسخر السلطة في السودان لخدمة هذا لغرض وقد أعان على ذلك أمران:
الضغوط السياسية والاختناقات الاقتصادية المضروبة على الحكومة السودانية الحالية من الدول الغربية ومن والاها.
استمرار الحرب التنصيرية في جنوب السودان، والتي كبدت الحكومة الكثير من المال والرجال.
هذان الأمران جعلا كثيراً من المسئولين وغيرهم لا يفطنون لخطورة هذه الدعوة لظنهم أنها تخفف عنهم الضغط وترفع عنهم هذه الكوابيس!!.
[2] مقدرة د. الترابي الفائقة على المراوغة فمرة:
يظهر الأول هذه الدعوة مجرد مناورة سياسية لصرف أنظار النصارى, وكف أذاهم وليست دعوة دينية.
وأخرى يظهر أنه يريد مجرد دعوتهم للإسلام ومحاورتهم وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم.
ومرّة يثير بعض الشبه التي تخفي على كثير من الناس.(/3)
وهكذا عدم الوضوح والمراوغة يكمنان وراء دعوة الترابي العريضة لقيام جبهة المؤمنين أو الحزب الإبراهيمي!!
[3] وجود أقلية ضئيلة من النصارى في السودان, وجدت ظروفاً مساعدة (حرب الخليج, النظام العالمي الجديد, موقف طلاب السلطة المعارضين للنظام في السودان) تجعل كذلك كثيراً من الأخيار ينخدعون برفع هذا الشعار.
وتتمثل مجهودات الترابي في هذا المجال في: عقد المؤتمرات، التنظير لهذه الدعوة (الحركة الإسلامية والحوار)، إثارة الشبه، إجراء المقابلات في وسائل الأعلام المختلفة لخدمة هذه القضية، الدعوة لقيام الحزب الإبراهيمي، تكوين جمعية تعرف بالجمعية السودانية لحوار الأديان، مشاركتهم النصارى في أعيادهم والطواف على كنائسهم، بناء الكنائس وتجديد وترميم القديم منها، فتح المجال أمام النصارى في الأعلام, خاصة يوم الأحد في الفترة الصباحية في التلفاز إذ أن لهم حوالي أربع ساعات، إدخال مادة مقارنة الأديان في المعاهد العليا.
قول د. الترابي داعياً إلى وحدة الأديان [13]:" إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا, وأننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية, التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ الديني المشترك(!!) وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق إننا لا نريد الدين عصبية عداء ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد" [14].
"وبناء على هذه الجبهة الدينية [15] مطلب ديني يرتكز على مبدأ وحدة الأديان السماوية (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة البقرة: 38]" [16].
وقال: "إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية، فنحن نعلم أن الكثير من الحروب التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء؛ لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها - رسالة الفضيلة والسلام - بحد السيف [17]، أو بالقنابل والمدافع ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت على الشرق فنراها حملات استعمارية [18] استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الصليب واسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيه جماهيرهم المؤمنة ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يحلمون بها" [19].
قلت: العجب كل العجب من جرأة الترابي وتهاونه بوصف اليهود والنصارى الحاليين بأنهم مؤمنين, تبريراً لدعواه التجمعية هذه, التي تريد أن تجمع بين الأضداد, ولو وصفهم بأنهم مسلمون لكان ذلك أقل خطراً عليه, أما أن يصفهم بأنهم مؤمنون فهذا أمر في غاية النكارة والغرابة، فإذا كان اليهود والنصارى مؤمنين فمن الكافر إذاً ؟! ولماذا قال الله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) [البينة: 6].
دعنا نستمع إلى كلام أهل العلم الأثبات, ودعك من هذه الترهات, لنعلم هل هي حقيقة أن اليهود والنصارى الحاليين مؤمنون كما زعم الطهطاوي ومحمد عمارة والترابي؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أن الذي يدين به المسلمون من أن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين: الإنس والجن, أهل الكتاب وغيرهم, وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد, وهو مما أجمع عليه أهل الإيمان بالله ورسوله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ولم يبتدع المسلمون شيئاً من ذلك من تلقاء أنفسهم كما ابتدعت النصارى كثيراً من دينهم, بل أكثر دينهم, وبدلوا دين المسيح وغيّروه, ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام" [20]، "وإذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود، والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى: (وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [سورة آل عمران: 199]" [21].(/4)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في وصف أهل الكتابيين اليهود والنصارى: "وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون. فأما الأمة الغضيبة: فهم اليهود أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل, قتلة الأنبياء, وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية وأرداهم، سجية وأبعدهم عن الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء ودينهم العداوة والشحناء, بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة, ولا يرقبون في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمة, ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفعة, ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة, ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة, ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة, بل أخبثهم أعقلهم, وأحذقهم أغشهم, وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم - ليس بيهودي على الحقيقة, أضيق الخلق صدوراً, وأظلمهم بيوتاً, وأنتنهم أفنية وأوحشهم سجية, تحيتهم لعنة, ولقاؤهم طيرة, شعارهم الغضب, ودثارهم المقت.
والصنف الثاني: المثلثة أمة الضلال وعباد الأصنام، الذين سبوا الله الخالق سبّاً ما سبّه إياه أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء, بل قالوا فيه ما (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشّق الأرض وتخر الجبال هدّاً). فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة, وأن مريم صاحبته, وأن المسيح ابنه, وأنه نزل عن كرسي عظمته, والتحم ببطن الصحابة وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن, فدينها عبادة الصلبان ودعاء الصورة المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان, يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا, واغفري لنا وارحمينا! فدينهم شرب الخمور, وأكل الخنزير, وترك الختان, والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة. والحلال ما حلّله القس, والحرام ما حرمه, والدين ما شرعه, وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير" [22].
ويقول الترابي كذلك: "نعلم أن إشاعة السلام بين الأديان ليس أمراً قصيّ المنال, لكن التحدي الذي نواجهه هو أن نتجاوز التعصب الديني [23] الذي لا يرى الآخر إلاّ عدواً متربصاً [24] أو خطراً محدقاً, ولكي نفعل ذلك فلا بدّ من تكثيف الحوار وتأسيس المنابر المشتركة [25], لا لمناقشة القضايا اللاهوتية، ولكن لمناقشة ما يمكن أن نفعله سوياً لإشاعة المثل والقيم الدينية في عالم ينزلق يوماً بعد الآخر في مستنقع الجاهلية الآسن، ونحن في هذا المقام نزجي الشكر لكل الجهات التي ظلت تنادي الحوار بين الأديان, كما نشكر لبعض الكنائس المسيحية الأخرى مبادرتها وسعيها لإقامة الحوار الديني, فلا بديل للحوار سوى التدابر والصراع, وقلّما أفلحت دعوة دينية في إبلاغ خطابها الذي هو خطاب السلام والعدل في أجواء الكراهية والحرب" [26].
يتضح من كلام د. الترابي السابق أن الهدف من الحوار ليس مناقشة القضايا اللاهوتية ودعوة القوم للدخول في الإسلام وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم! وذلك لأن القوم مؤمنون!! محبون للخير والمثل والقيم الدينية!! ولكن الغرض الحقيقي من هذه الدعوة هو مناقشة كيفية تعايش اليهود والنصارى والمسلمين في وفاق ووئام ومحبة وسلام، ليكونوا إخوة متحابين يوالي بعضهم بعضاً خاصة في الوطن الواحد.
لقد ختم د. الترابي كلمته بقوله: "ختاماً نتمنى لهذا المحفل الديني الجليل أن يدفع جهود التفاهم بين الأديان خطوة واسعة نحو الأمام" [27].
وقد لفتت كلمة محفل واستعمالها بدلاً من كلمة مؤتمر أو اجتماع أو نحو ذلك انتباهي لأن كلمة محفل أصبح لها ظلال معينة وهي مرتبطة بالماسونية فلا يقال محفل إلاّ ويتبع بالماسوني! فهل يا ترى جاءت عفواً أم أن وحدة الهدف الجامعة لجميع الدعوات العالمية والإنسانية كالدعوة إلى وحدة الأديان والماسونية هي الدافع إلى استعمال هذه الكلمة تيمناً بالمحافل الماسونية؟!!
الأسباب للقيام بمثل هذه الدعوة:
أهم الأسباب التي أدت إلى قيام هذه الدعوات هي:
[1] الجهل بالدين, وهذا هو السبب الرئيس والأول لأن من له أدنى معرفة بالدين وأصوله ونواقصه لا يمكن أن يتصدى لمثل هذه الدعوة.
[2] الانهزام النفسي، فالمغلوب والمهزوم أن لم يحفظه العلم ويتولاه الله لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل.
[3] الخوف من الكفار ومن سطوتهم.
[4] المنافع والمصالح الزائلة. يروى أنه كان في بلاد الشام إمام يقول في الخطبة الثانية من يوم الجمعة: "اللهم صلِّ على محمد وعيسى وأخيهما موسى"! فقال له رجل من الحاضرين: "وذي الكفل, أم ليست له سفارة عندها مصاري؟!".
التشابه بين دعوة التوحيد للأديان وبين الحركات العالمية المنحرفة:(/5)
الحركات العالمية والإنسانية التي تدعي أنها تريد أن تجمع البشر على أساس الجنس والوطن أو الإنسانية دون اعتبار للدين كثيرة جداً منها على سبيل المثال: الماسونية، العالمية أو الإنسانية، الصهيونية، الروحيون، الشيوعيون، الروتاري، الأسود (الليونز)، التسلح الخلفي، شهود يهوه، التنصير، التغريب، العلمانية، النظام العالمي الجديد، والدعوات القومية والوطنية عموماً.
"والدعوات المبنية على هذا التصور كلها دعوات هدّامة؛ لأنها تهز بعنف عوامل التجمع والتآلف التي تقوم عليها المجتمعات البشرية, ثم تعجز أن تقيم بدلاً منها عوامل أخرى للتجمع وأساليب أخرى للتعاون والتآلف ينتظم بها العمران, فهي تشكك الناس في ولائهم الديني والوطني, وتفقدهم ثقتهم في كل قوانينهم ومؤسساتهم, ثم تتركهم في الفوضى والقلقلة, وسط أنقاض ما هدمت من عقائد وما قطعت من وشائج" [28].
مخالفات الدعوة إلى توحيد الأديان أو التقريب بينها للإسلام:
الدعوة إلى توحيد الأديان أو الترتيب بينها أو محاورة أصحابها للعيش معهم في أمن وسلام وطمأنينة واحترام تصطدم مع الإسلام وتتعارض معه تعارضاً بيناً واضحاً.
ومن أبرز مخالفاتها للإسلام وأشدها خطراً على المنادين بها والداعين إليها, وعلى من وافقهم في ذلك, إنها تقوم على ناقضين من نواقض الإسلام [29] ومبطلاته, هذا بجانب مخالفات أخرى شديد خطرها على عقيدة المسلم.
والناقضان هما:
أن من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
أن من تولى الكفار وتعاون معهم وظاهرهم على المسلمين كفر.
وسنتحدث بشيء من التفصيل عن هذين الناقضين, ونبين الصلة الوثيقة بين الدعوة إلى توحيد الأديان وجمعها في دين واحد وبينها, ثم نردف ذلك إن شاء الله بالمخالفات الأخرى.
المخالفة الأولى: من لم يكفّر المشركين أوشك في كفرهم أو صحّح مذهبهم فقد كفر:
الإسلام هو الحق المحض فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) [سورة يونس: 32]. جاء في تفسيرها: "ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال لأن أولها (فذلكم الله ربكم الحق)، وآخرها (فماذا بعد الحق إلاّ الضلال) فهذا في الإيمان والكفر" [31].
وقال القرطبي: "وقال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى".
وقال تعالى:(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) [سورة الإسراء: 81]. جاء في تفسيرها: الإسلام، وقيل القرآن، قاله مجاهد بن جبر، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة فيكون التفسير: جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه (وزهق الباطل) بطل الباطل" [32].
وقال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) [سورة الحج: 26].
وقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بأنه هو حق وصدق فالإسلام هو الحق والله هو الحق وما سواه باطل يجب الكفر به وإنكاره.
والذي لا يكفّر اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان والملاحدة وغيرهم أو يشك في كفرهم أو يصحح مذاهبهم أو مذاهب بعضهم فقد شك في القرآن وشك في صدق الله ورسوله, وذلك أن لله تعالى حكم وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ما سوى الإسلام باطل محض.
فكفر اليهود والنصارى والمشركين عامة شهد به القرآن، ونطقت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، مع كل ذلك نجد بعض الناس في هذا العصر الذي كثُرت فيه الرزايا, وعظُمت فيه البلايا, وعمّ فيه الجهل, وتفشت فيه البدعة يزعم أن اليهود والنصارى مؤمنون, ويدعو إلى قيام جبهة عريضة وحزب واسع يضم أتباع كل الأديان على أساس الملة الإبراهيمية يسمى الحزب الإبراهيمي!!
جاء في تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) [سورة آل عمران: 83]. "أن كعب بن الأشرف وأصحابه [33] اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين برئ من دينه، فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزلت (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض) يعنى يطلبون" [34].
قال الإمام ابن حزم رحمه الله وهو يتكلم عن النصارى وقد جمع بينهم وبين المجوس لتعدد الآلهة عند جميعهم بل المجوس لهم إلهان أحدهما يخلق الخير والثاني يخلق الشر أما النصارى فلهم ثلاثة "النصارى وإن كانوا أهل كتاب, ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم السلام فإن جماهيرهم وفرقهم لا يُقِرون بالتوحيد مجرداً, بل يقولون بالتثليث، والمجوس أيضاً وإن كانوا أهل كتاب [35] لا يقرون ببعض الأنبياء عليهم السلام ولكنّا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا فالنصارى أحق منهم بالإدخال [36] هاهنا لأنهم يقولون بثلاثة [37] لم يزالوا" [38].(/6)
وقال ابن القيم وهو يتكلم عن المتناقضات في الإنجيل: "وأما الإنجيل فهي أربعة أناجيل أُخذت عن أربعة نفر اثنان منهم لم يريا المسيح أصلاً , واثنان رأياه واجتمعا به وهما متى ويوحنا, وكل منهم يزيد وينقص ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء, وفيها ذكر القول ونقيضه" [39].
شبه دعاة توحيد الأديان في هذا العصر!! :
وسنعرض في هذه الصفحات لأهم الشبه التي ذكروها أو تلك التي يمكن أن تعِنّ لهم فنقول وبالله التوفيق:
قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) [سورة الكافرون: 6]:
ربما يفهم البعض من هذه الآية إقرار أهل الأديان المخالفة للإسلام على دينهم فهل هذا حقاً هو المراد من الآية؟ أم أن الآية نسخت بالآيات التي أمرت بقتال الكفار؟ أم إنها محكمة باقية الحكم لا نسخ فيها ولا تخصيص لأهل الكتاب؟
دعونا نستمع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله يبّين لنا المراد من ذلك, قال رحمه الله في تفسير سورة الكافرون: "قوله (لكم دينكم) مطابق لهذا المعنى: أي لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه بل هو دين تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبداً فطابق آخر السورة أولها فتأمله.
ثم قال: وأما المسألة الحادية عشرة وهي أن هذه الأخبار بأن لهم دينهم وله دينه, هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نص، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه وهذه السورة أخلصت التوحيد, ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم، ومنشأ الغلط ظنّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف, فقالوا: منسوخ وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار، وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص, ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم تعييب دينهم وتقبيحه والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركوه وشأنه, فأبى إلاّ مضياً على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟ أترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لكم دينكم ولي دين؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده, وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذه براءة منهم وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان" [40].
نريد أن نوحدهم على أصول الملة الإبراهيمية (!!):
هذا هو ما قاله د. الترابي إنه يريد أن يوحد جميع الأديان التي هي على أصول الملة الإبراهيمية.
وقبل الخوض في هذه المسالة لابدّ من التأكيد على أن إبراهيم علية السلام لم يكن يهودياً ولا نصرانياً كما أخبرنا الله عز وجل (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) [سورة آل عمران: 67].
ومن ثم فانّ اليهود والنصارى الحاليين ليسوا على ملّة إبراهيم بل هم ممن سفه نفسه لأنهم رغبوا عن ملّة إبراهيم (ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه) [سورة البقرة: 130].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملّة إبراهيم, وإذا لم يكونوا على ملّة إبراهيم فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملّته قال تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) [سورة البقرة:136/137]. فقوله: (قل بل ملّة إبراهيم) يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملّة إبراهيم.(/7)
قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين, وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين) [سورة آل عمران: 113]:
من الآيات التي يستدلون بها على جواز التقارب مع اليهود والنصارى هذه الآية, حيث ينزلونها على أهل الكتاب الحاليين. والآية ليس لها علاقة بأهل الكتاب الحاليين, وإنما هي خاصة بأولئك الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, كعبد الله بن سلام وغيره من الصحابة الذين كانوا يهوداً فأسلموا وحسن إسلامهم, و(ليسوا سواء) معناها ليس أهل الكتاب وأمه محمد صلى الله عليه وسلم سواء, ثمّ تمّ الكلام واستُؤنف بعد ذلك من أهل الكتاب وهم الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وصدقوه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "(ليسوا سواء) وتمّ الكلام والمعنى ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء.
وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء, ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم)،قال: وأنزلت هذه الآية(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) إلى قوله: (والله عليم بالمتقين)، وروى ابن وهب مثله.
وقال ابن عباس: قول الله عز وجل: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن إسحاق: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن عبيد, ومن أسلم من يهود, فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلاّ شرارنا, فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) إلى قوله: (وأولئك من الصالحين) [41].
قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) [سورة البقرة: 256]:
يقول د. الترابي في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر التقارب الديني السابق: "ولقد جاءت الرسالة المحمدية بالمبادئ الخالدة ألاّ إكراه في الدين لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". والعصرانيون يستدلون بهذه الآية لإبطال أمرين هامين هما:
[1] جهاد الطلب: وهو أن يجاهد المسلمون الكفار طالبين منهم الدخول في الإسلام.
[2] إقامة حدّ الردة: فهم لا يرون إقامته إلاّ إذا كان المرتد محارباً شاكاً للسلاح, أما الردة الفكرية البحتة, كما يقول الترابي, فلا حدّ فيها.
يقول راشد الغنوشي في حوار له مع مجلة الشراع اللبنانية في رده على سؤال: ماذا بالنسبة للردة؟ "إن الردة لا تقام عليها الحدود, والحساب عليها يكون في الآخرة... وأبو بكر الصديق رضي الله عنه حين حارب المرتدين فعل ذلك لانقلابهم السياسي على الإمام وليس لموقفهم العقائدي" [42].
قلت: هذا من المغالطات المردودة فأبو بكر هو القائل: "والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"... "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه".
فلنرجع إلى المراد من قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فقد وردت فيها أقوال ستة:
[1] إنها منسوخة بآية القتال.
[2] ليست منسوخة وإنما هي خاصة بأهل الكتاب إذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون, أما أهل الأوثان فيكرهون على الدخول في الإسلام.
[3] إنها نزلت في الأنصار أي لا علاقة لها بأهل الكتاب.
[4] إنها نزلت في رجل من الأنصار بعينه.
[5] إنها نزلت في النهي عن أن تقول لمن أسلم تحت السيف مكرهاً.
[6] إنها نزلت في السبي من أهل الكتاب إذا كانوا كباراً.
وأقرب هذه الأقوال للصواب الثلاثة الأول وقد قال به ابن مسعود وكثير من المفسرين.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:
الأول: قيل إنها منسوخة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام قاله سليمان بن موسى قال نسختها: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
الثاني: ليست منسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلاّ الإسلام فهم الذين نزل فيهم: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك, والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي أن الله بعث محمداً بالحق قالت: أنا عجوز كبيرة والموت أقرب إليّ ! فقال عمر: اللهم أشهد وتلا: ( لا إكراه في الدين).(/8)
الثالث: ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الأنصار كانت تكون المرأة مقلاةً فتجعل على نفسها أن عاش لها ولد أن تهوّده, فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) قال أبو داود: المقلاة التي لا يعش لها ولد, وفي رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى دينهم أفضل مما نحن عليه أما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه؛ فنزلت: (لا إكراه في الدين) من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد، إلا أنه قال: كان سبب وجودهم في بني النضير الاسترضاع قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآيات أولى الأقوال لصحة السند وأن مثله لا يؤخذ بالرأي" [43].
وقال ابن عطية رحمه الله في تفسير هذه الآية: "الدين في هذه الآية المعتقد والملّة بقرينة قوله: (قد تبين الرشد من الغي) والإكراه الذي في الأحكام من الأيمان والبيع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجئ في تفسير قوله تعالى: (إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هذا هو تفسير المعتقد من الملل والنحل, فاختلف الناس في معنى الآية, فقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين فأبى المشركون إلاّ أن يقاتلوهم فاستأذن الله في قتالهم فأذن له قال الطبري: والآية منسوخة في هذا القول.
قال: ويلزم على هذا أن الآية مكية وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف.
وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صاغرة قالا: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاّ لا اله إلا الله أو السيف, ثم أُمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ونزلت فيهم (لا إكراه في الدين)" [44].
قلت: غاية ما تفيده الآية أن أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية عن يد وصغار تركوا على دينهم هذا إن لم يكونوا محاربين للإسلام والمسلمين أما إن كانوا محاربين للإسلام معاندين لأهله فلا يقبل منهم إلاّ القتال.
قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون, وإذا سمعوا ما أنزل إلي الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) [سورة المائدة: 82-85]:
يستدل د. الترابي وغيره من المنادين بوحدة الأديان وبقيام الحزب الإبراهيمي الذي يؤلف بين اليهود والنصارى والمسلمين بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) ولا يصلون بينها وبين الآيات التي تليها زعماً منهم أن هذا الوصف ينطبق على نصارى اليوم بينما نجد أن هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم حينما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه وآووا أصحابه وحافظوا عليهم عندما هاجروا إليهم.
قال الأمام القرطبي رحمه الله: "وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم المسلمون عليهم في الهجرة الأولى حسب ما هو مشهور في سيرة ابن إسحاق وغيره خوفاً من المشركين وفتنتهم وكانوا ذوي عدد ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي المدينة بعد ذلك. فلم يقدروا على الوصول إليه, حالت بينهم وبين رسول صلى الله عليه وسلم الحرب فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار, قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة, فأهدوا إلي النجاشي وابعثوا إليه برجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر, فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلي النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين وأرسل إلي الرهبان والقسيسين فجمعهم ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن, فقرأ سورة مريم, فقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله فيهم (ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى... )وقرأ إلي (الشاهدين) [رواه أبو داود]".
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [سورة البقرة: 62]:(/9)
هذه الآية الكريمة هي كذلك من الآيات التي يستدل بها دعاة وحدة الأديان والمنادون بقيام حلف مع الكفار اليهود والنصارى الحاليين, متوهمين أن الجميع سواء مؤمنون بالله واليوم الأخر ويعملون الصالحات.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "(إن الذين آمنوا) صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال سفيان: المراد المنافقون كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين [45] ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من الجميع.
فإن قال قائل: لم جمع الضمير في قوله: (لهم أجرهم) وآمن لفظ مفرد ليس بجمع وإنما كان يستقيم لو قال له أجره؟
فالجواب أن"مَن" يقع على الواحد والتثنية والجمع فجائز أن يرجع الضمير مفرداً ومثنى ومجموعاً قال الله تعالى: (ومنهم من يستمعون إليك) على المعنى ومنهم من يستمع إليك على اللفظ.
روى عن ابن عباس أن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية.., منسوخ بقوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وقال غيره: ليست بمنسوخة وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم" [46].
قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [سورة الممتحنة: 8].
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي يستدل دعاة وحدة الأديان بها وهي بريئة من دعوتهم تلك. إذ غاية ما تأمر به الآية الإحسان إلي الضعفة والنساء الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ذات السيادة والقوة.
والمسلم مأمور بالعدل مع المسلمين وغير المسلمين, ومأمور كذلك بالإحسان والرفق بالجميع كل ذلك شريطة سلامة الداخل أي عدم الميل بالقلب إليهم.
وقد وردت أقوال في المراد بهذه الآية هي [47]: إنها منسوخة بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، أو إنها كانت في أهل الصلح ولما فتحت مكة انتهى العمل بها، أو إنها خاصة بأصحاب العهود حتى ينتهي عهدهم، أو إنها خاصة بالعجزة والضعفة من النساء والصبيان، أو إنها خاصة بضعفة المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهجرة من مكة، أو إنها محكمة, وهي خاصة بالضعفة والعجزة إلي يوم القيامة, وهذا هو الأقرب.
قال الإمام القرطبي: "هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم"، ثم قال: "وقال أكثر أهل التأويل هي محكمة واحتجوا بأن أسماء بنت أبى بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تَصِل أمها حيت قدمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) [أخرجه البخاري ومسلم], وقيل إن الآية فيها نزلت, روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا ?(/10)
________________________________________
التقارب الديني خطره, أسبابه, دعاته
رئيسي :فكر :الأربعاء 3 صفر 1425هـ - 24 مارس 2004م
الحمد لله القائل:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة]. وصلى الله وسلم على محمد، الذي حذَّرنا من اتخاذ الرؤوس الجُهّال, فقال: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا]رواه البخاري ومسلم . أما بعد،،،
فإن من الأمور التي عمَّت بها البلوى في هذا العصر وأخطرها تلك الدعوة التي رفعها بعض المنهزمين بإيعاز من المستشرقين في أواخر القرن الميلادي الماضي, وقد جاراهم فيها بعض الصلحاء المستغفلين من الدعاة, ألا وهي [دعوى التقارب الديني]، أو [وحدة الأديان]، أو الدعوة إلى [الحزب الإبراهيمي]، أو جمع أهل الأديان السماوية على [الملة الإبراهيمية]، ونحو ذلك من هذا الهُراء.
لقد لاقت هذه الدعوة في الآونة الأخيرة رواجاً, حيث عقدت مؤتمرات وندوات لمناقشة كيفية التوصل إلى دين عالمي جديد، يجعل الناس - كل الناس - يعيشون في وئام وسلام، خاصةً في البلد الواحد, دون أدنى اعتبارٍ لدينهم وتراثهم وثقافتهم, فـ'الدين لله, والوطن للجميع، وما لله لله وما لقيصر لقيصر'!!
هذا الدين العالمي الجديد يوالي فيه المسلم أخاه النصراني واليهودي والمجوسي والوثني!!! إذ جميعهم من آدم وحواء عليهما السلام!!
وهذا بحث تكلَّم عن تاريخ هذه الدعوة: عن بَطَلَتها, وعن الأٍسباب الحقيقة للقيام بها, وعن مخالفتها الصريحة البينة الواضحة لما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ[64]}[سورة آل عمران]. كتبته نصيحة لله ولرسوله، ولدينه، ولدعاة هذه الدعوة، ولعامة المسلمين, ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حيّ عن بينة.
1- الغرض الأساسي من الدعوة وحدة الأديان أو التقارب الديني هو:
إبعاد الإسلام، وإقصاؤه عن الحياة, وإذابة معتقداته؛ ليعيش أصحاب الملل المختلفة في البلد الواحد في محبة, وتزول عنهم الخلافات الدينية، ويختفي منهم الولاء الديني، ليصبح الولاء للوطن الذي هو للجميع, فالدين لله والوطن والجميع!!!
2- متى ظهرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي؟ ومن هم بطلتها؟
أول ما بدأت هذه الدعوة في الربع الأخير من القرن الماضي, بإيعاز من بعض القُسُس، فهي ثمرة من ثمار الغزو الفكري، والاستعمار الأوربي الذي جثم على صدر الأمة الإسلامية في ذلك الحين, ثم توالت الصيحات فيما بعد، يقول الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله : 'أما التوفيق بين الأديان -بين المسيحية والإسلام على وجه الخصوص - فقد بدأ في العصر الحديث باتفاق قسيس إنجليزي اسمه [إسحاق تيلور] مع الشيخ محمد عبده وبعض صحبه في أثناء نفيه بدمشق 1883م على التوحيد بين الدِّينيْن. ثم ظهرت الدعوة من جديد في السنوات الأخيرة حين قام جماعة من المعروفين بميولهم الصهيونية بعقد مؤتمر للتأليف بين الإسلام والنصرانية في بيروت 1953م، ثم في الإسكندرية 1954م، وقد كثرت الأقاويل في أهداف هذه الجماعة, وفي مصادر تمويلها, وأصدر الحاج أمين الحسيني بياناً أثبت فيه صلة القائمين على هذه الدعوة بالصهيونية العالمية'[الاتجاهات الوطنية: 2/319-320].
3- أبرز بَطَلَة- قال صلى الله عليه وسلم في مدح سورة البقرة: [ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ]رواه مسلم، أي: السحرة الباطلين - هذه الدعوة:
[1] الشيخ محمد عبده [1849-1905]م: هو أول من سُخِّر للدعوة لتلك الفكرة، كما وضح لنا من قبل : 'وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي: إضعاف مفهوم [الولاء والبراء]، و[دار الحرب ودار الإسلام]؛ إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء, لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب, ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم - بحجة الأول التعاون مع الكافر ليس محرماً من كل وجه- وبدعوته إلى التقريب بين الأديان..حقيقة إن الرأي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوي الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات'[ العلمانية لسفر الحوالي، ص578-579].(/1)
[2] الشيخ عبد الرحمن الكواكبي [ت 1902م]: دعا للعلمانية ونَبْذِ الدين صراحةً, كما دعا للتعايش السلمي مع اليهود والنصارى، وترك الدين جانباً، وهو نفس ما يدعو إليه دعاة وحدة الأديان الحاضرين.
[3] الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، [ت1873م]: هو من الذين دعوا إلى ذلك بكتاباتهم وفكرهم، بعد أن فعلت فيه الثقافة الغربية الفرنسية فعلها.. ولله در ابن خلدون حين قال: 'والمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه، وبخلقه، وسائر أحواله وعوائده'. والسنوات الخمس التي قضاها هذا الشيخ الأزهري [1826-1831هـ] في باريس فعلت فيه الأفاعيل، وجعلته مسخاً مشوهاً لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. وهذه حال جُل المبعوثين ألاّ من رحم ربك .
[4] الشيخ أحمد لطفي السيد وطه حسين: وهما من تلاميذ محمد عبده الأوفياء، أكملا الشوط الذي كان قد بدأه في عملية التغريب والعلمنة، وإزالة الحاجز بين المسلمين والكفار.
[5] الشيخ علي عبد الرازق:وهو من الشخصيات الخطرة التي مهدت لقيام هذه الدعوة , إنه شيخ مفتون, ألف كتاباً أسماه 'الإسلام وأصول الحكم'. 'جمع بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة، واقتطاع النصوص، وتلفيق الواهيات، وبين طريقة الباطنية في التأويل البعيد, وسرد نبذاً من سير الطواغيت, ونتفاً من أقوال متملقيهم وعمد إلى مغالطات عجيبة كل ذلك ليدلل على أن الإسلام كالمسيحية المحرفة علاقة روحية بين العبد والرب لا صلة لها بواقع الحياة. ولم يَفُتِ الشيخ أن يدلنا على أحد مراجعة الرئيسية لنستكمل ما قد يكون فضيلته عجز عن بيانه , فهو يقول في الكتاب نفسه: ' واذا أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة للعّلامة[!!] السير تومس آرنلد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع'.
[6] الدكتور محمد عمارة:هو كذلك من دعاة تجميع الخلق تحت دين جديد واحد، يقول عنه جمال سلطان: 'في نظره أن اليهود والنصارى اليوم مؤمنون مسلمون موحدون ولا يضرهم في شيء من إيمانهم تكذيبهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته، فإذا ما وقف أهل الكتاب من أتباع شرائع الرسل الذي سبقوا محمد صلى الله عليه وسلم عند التصديق برسالة رسلهم- وهل هم مصدقون برسالة رسلهم؟ لو صدقوا بها لآمنوا ولكنهم كافرون بالجميع -, وأبوا التصديق برسالة محمد ونبوته مع توحيدهم - أي توحيد هذا الذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة؟ و أي طاعات يأتي بها اليهود والنصارى. سبحانك هذا إفك عظيم -وعملهم الطاعات!! فإن هذا التوقف لا يخرجهم عن إطار الدين الواحد, ولا حظيرة التدين بالإسلام. فموقفهم هذا هو انحراف! والفرق بين من يؤمن بمحمد وبكل الرسل وبين الذي يجحدون بنبوة محمد ورسالته مع توحيدهم وعملهم الطاعات كمثل الفرق بين إيمان المؤمن الخلي من البدع، وبين إيمان من تشوب البدع إيمانه'[ انظر:محمد عمارة – الإسلام والوحدة الوطنية ص50-ص82].
[7] الدكتور حسن حنفي: يذهب الدكتور حنفي إلى أنه ليس هنالك دين في ذاته بل هناك تراث يمكن تطويره وتطويعه حسب الظروف والملابسات: 'الأول التراث القديم لا قيمة له في ذاته كغاية أو وسيلة, ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، وأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره, وأن الارتباط به نوع من التغريب ونقص في الشجاعة وتخل عن الموقف الجذري ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه, وفي حين أن الجديد علمي وعالمي يمكن زرعه في كل بيئة'[ د. حسن حنفي –التراث والتجديد ص22 وانظر: غزو من الداخل ص66- جمال سلطان].
[8] الدكتور حسن الترابي:من أبرز بَطَلَة هذه الدعوة الدكتور حسن عبد الله الترابي. وواضح جداً أن المتولين لكبر هذه الدعوة هم على شاكلة واحدة ومن نوع خاص, إنهم العصرانيون، المتغربون، المبهورون بالحضارة الغربية المادية بعد أن أُشربوها على أمزجة فرنسية إنجليزية فالطيور على أشكالها تقع.
فالقاسم المشترك بين محمد عبده, ورفاعة الطهطاوي, ومحمد عمارة، وحسن حنفي، وحسن الترابي ومن شاكلهم من العصرانيون هو الانهزام النفسي والإفراط في حب الغرب وموالاته, ويعتبر د. الترابي أخطر هؤلاء جميعا لأسباب منها:
[1] أن أولئك السابقين له لم تتعد مجهوداتهم الجانب النظري بينما نجد أن د. الترابي خطا خطوات عملية في هذا المجال, لأنه أتيحت له إمكانات دولة لم تُتح لسابقيه، فقد استطاع الترابي أن يُسخر السلطة في السودان لخدمة هذا لغرض وقد أعان على ذلك أمران:
أحدهما:الضغوط السياسية والاختناقات الاقتصادية المضروبة على الحكومة السودانية الحالية من الدول الغربية ومن والاها.
والثاني:استمرار الحرب التنصيرية في جنوب السودان، والتي كبدت الحكومة الكثير من المال والرجال.
هذان الأمران جعلا كثيراً من المسئولين وغيرهم لا يفطنون لخطورة هذه الدعوة لظنهم أنها تخفف عنهم الضغط وترفع عنهم هذه الكوابيس!!.(/2)
[2] مقدرة د. الترابي الفائقة على المراوغة فمرة:يظهر الأول هذه الدعوة مجرد مناورة سياسية لصرف أنظار النصارى, وكف أذاهم وليست دعوة دينية.. وأخرى: يظهر أنه يريد مجرد دعوتهم للإسلام ومحاورتهم، وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم. ومرّة: يثير بعض الشبه التي تخفي على كثير من الناس.. وهكذا عدم الوضوح والمراوغة يكمنان وراء دعوة الترابي العريضة لقيام جبهة المؤمنين، أو الحزب الإبراهيمي!!
[3] وجود أقلية ضئيلة من النصارى في السودان, وجدت ظروفاً مساعدة [حرب الخليج, النظام العالمي الجديد, موقف طلاب السلطة المعارضين للنظام في السودان] تجعل كذلك كثيراً من الأخيار ينخدعون برفع هذا الشعار.
وتتمثل مجهودات الترابي في هذا المجال في: عقد المؤتمرات، التنظير لهذه الدعوة [الحركة الإسلامية والحوار]، إثارة الشبه، إجراء المقابلات في وسائل الأعلام المختلفة لخدمة هذه القضية، الدعوة لقيام الحزب الإبراهيمي، تكوين جمعية تعرف بالجمعية السودانية لحوار الأديان، مشاركتهم النصارى في أعيادهم والطواف على كنائسهم، بناء الكنائس وتجديد وترميم القديم منها، فتح المجال أمام النصارى في الإعلام, خاصة يوم الأحد في الفترة الصباحية في التلفاز إذ أن لهم حوالي أربع ساعات، إدخال مادة مقارنة الأديان في المعاهد العليا.
يقول د. الترابي داعياً إلى وحدة الأديان:' إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا, وأننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية, التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ الديني المشترك[!!] وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق إننا لا نريد الدين عصبية عداء ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد'[ مجلة المجتمع – العدد [736] بتاريخ 8/10/1985م].
'وبناء على هذه الجبهة الدينية-يعني: بين اليهودية والنصرانية والإسلام - مطلب ديني يرتكز على مبدأ وحدة الأديان السماوية [كلمة الترابي في مؤتمر الإديان الذي عقد بالخرطوم بتاريخ 8/10/1994م بعنوان الحوار بين الإديان: التحديات والافاق د. حسن الترابي]'.
وقال: 'إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية...'[المصدر السابق].
و العجب كل العجب من جرأة الترابي وتهاونه بوصف اليهود والنصارى الحاليين بأنهم مؤمنين, تبريراً لدعواه التجمعية هذه, التي تريد أن تجمع بين الأضداد, فيصفهم بأنهم مؤمنون فهذا أمر في غاية النكارة والغرابة، فإذا كان اليهود والنصارى مؤمنين فمن الكافر إذاً ؟! ولماذا قال الله تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[6]}[سورة البينة].
دعنا ننظر إلى كلام أهل العلم الأثبات, ودعك من هذه الترهات, لنعلم هل هي حقيقة أن اليهود والنصارى الحاليين مؤمنون كما زعم الطهطاوي، ومحمد عمارة، والترابي؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 'أن الذي يدين به المسلمون من أن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الثقلين: الإنس والجن, أهل الكتاب وغيرهم, وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد, وهو مما أجمع عليه أهل الإيمان بالله ورسوله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ولم يبتدع المسلمون شيئاً من ذلك من تلقاء أنفسهم كما ابتدعت النصارى كثيراً من دينهم, بل أكثر دينهم, وبدلوا دين المسيح وغيّروه, ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام'[ الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية-مطابع المجد التجارية-ص/126].
'وإذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود، والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى:{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[199]}[سورة آل عمران]'[ المصدر السابق ص/264-365].
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في وصف أهل الكتابيين اليهود والنصارى: 'وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون.(/3)
فأما الأمة الغضبية: فهم اليهود أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل, قتلة الأنبياء, وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية وأرداهم، سجية وأبعدهم عن الرحمة وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء ودينهم العداوة والشحناء, بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة, ولا يرقبون في مؤمنٍ إلاّ ولا ذمة, ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفعة, ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة, ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة, ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة, بل أخبثهم أعقلهم, وأحذفهم أغشهم, وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم - ليس بيهودي على الحقيقة, أضيق الخلق صدوراً, وأظلمهم بيوتاً, وأنتنهم أفنية وأوحشهم سجية, تحيتهم لعنة, ولقاؤهم طيرة, شعارهم الغضب, ودثارهم المقت.
والصنف الثاني: المثلثة أمة الضلال وعباد الأصنام، الذين سبوا الله الخالق سبّاً ما سبّه إياه أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء, بل قالوا فيه ما{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا[90]أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا[91]}[سورة مريم]. فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة, وأن مريم صاحبته, وأن المسيح ابنه, وأنه نزل عن كرسي عظمته, والتحم ببطن الصاحبة وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن, فدينها عبادة الصلبان ودعاء الصورة المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان, يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا, واغفري لنا وارحمينا! فدينهم شرب الخمور, وأكل الخنزير, وترك الختان, والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة. والحلال ما حلّله القس, والحرام ما حرمه, والدين ما شرعه, وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير'[هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى ص8].
ويقول الترابي كذلك: 'نعلم أن إشاعة السلام بين الأديان ليس أمراً قصيّ المنال, لكن التحدي الذي نواجهه هو أن نتجاوز التعصب الديني- ونرجو أن يوضح لنا د. الترابي ما هو الفرق بين التعصب الديني والالتزام بالدين؟ هل هناك فرق أم هما سواء؟ - الذي لا يرى الآخر إلاّ عدواً متربصاً- ونحن نقول:إذا رأي المسلم في اليهودي والنصراني خلاف ذلك فهو مغفل ساذج جاهل - أو خطراً محدقاً, ولكي نفعل ذلك فلا بدّ من تكثيف الحوار وتأسيس المنابر المشتركة, لا لمناقشة القضايا اللاهوتية، ولكن لمناقشة ما يمكن أن نفعله سوياً لإشاعة المثل والقيم الدينية في عالم ينزلق يوماً بعد الآخر في مستنقع الجاهلية الآسن، ونحن في هذا المقام نزجي الشكر لكل الجهات التي ظلت تنادي الحوار بين الأديان, كما نشكر لبعض الكنائس المسيحية الأخرى مبادرتها وسعيها لإقامة الحوار الديني, فلا بديل للحوار سوى التدابر والصراع, وقلّما أفلحت دعوة دينية في إبلاغ خطابها الذي هو خطاب السلام والعدل في أجواء الكراهية والحرب'.
يتضح من كلام د. الترابي السابق أن الهدف من الحوار ليس مناقشة القضايا اللاهوتية ودعوة القوم للدخول في الإسلام، وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم! وذلك لأن القوم مؤمنون!! محبون للخير والمثل والقيم الدينية!! ولكن الغرض الحقيقي من هذه الدعوة هو مناقشة كيفية تعايش اليهود والنصارى والمسلمين في وفاق ووئام ومحبة وسلام، ليكونوا إخوة متحابين يوالي بعضهم بعضاً خاصة في الوطن الواحد.
4- الأسباب للقيام بمثل هذه الدعوة:أهم الأسباب التي أدت إلى قيام هذه الدعوات هي:
[1] الجهل بالدين: وهذا هو السبب الرئيس والأول لأن من له أدنى معرفة بالدين وأصوله ونواقصه لا يمكن أن يتصدى لمثل هذه الدعوة.
[2] الانهزام النفسي: فالمغلوب والمهزوم إن لم يتولاه الله لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل.
[3] الخوف من الكفار ومن سطوتهم.
[4] المنافع والمصالح الزائلة: يروى أنه كان في بلاد الشام إمام يقول في الخطبة الثانية من يوم الجمعة: 'اللهم صلِّ على محمد وعيسى وأخيهما موسى'! فقال له رجل من الحاضرين: 'وذي الكفل, أم ليست له سفارة عندها مصاري؟!'.
5- التشابه بين دعوة التوحيد للأديان، وبين الحركات العالمية المنحرفة:
الحركات العالمية والإنسانية التي تدعي أنها تريد أن تجمع البشر على أساس الجنس والوطن، أو الإنسانية دون اعتبار للدين كثيرة جداً منها على سبيل المثال: الماسونية، العالمية أو الإنسانية، الصهيونية، الروحيون، الشيوعيون، الروتاري، الأسود [الليونز]، شهود يهوه، التنصير، التغريب، العلمانية، النظام العالمي الجديد، والدعوات القومية والوطنية عموماً.(/4)
6- مخالفات الدعوة إلى توحيد الأديان، أو التقريب بينها للإسلام: الدعوة إلى توحيد الأديان أو الترتيب بينها، أو محاورة أصحابها للعيش معهم في أمن وسلام وطمأنينة واحترام تصطدم مع الإسلام وتتعارض معه تعارضاً بيناً واضحاً. ومن أبرز مخالفاتها للإسلام وأشدها خطراً على المنادين بها والداعين إليها, وعلى من وافقهم في ذلك, إنها تقوم على نقضين من نواقض الإسلام ومبطلاته, هذا بجانب مخالفات أخرى شديد خطرها على عقيدة المسلم.
والناقضان هما:
1- أن من لم يكفّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر.
2- أن من تولى الكفار، وتعاون معهم، وظاهرهم على المسلمين؛ كفر.
أما المخالفة الأولى: أن من لم يكفّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر:
فالإسلام هو الحق المحض فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال تعالى:{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ[32]}[سورة يونس]. قال القرطبي: 'وقال علماؤنا: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى'[ الجامع لاحكام القرآن ج8/336]. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بأنه حق وصدق، فالإسلام هو الحق والله هو الحق، وما سواه باطل يجب الكفر به وإنكاره.
والذي لا يكفّر اليهود والنصارى، والمجوس، وعباد الأوثان والملاحدة وغيرهم، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذاهبهم، أو مذاهب بعضهم؛ فقد شك في القرآن، وشك في صدق الله ورسوله, وذلك أن لله تعالى حكم، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ما سوى الإسلام باطل محض.
فكفر اليهود والنصارى والمشركين عامة شهد به القرآن، ونطقت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، ومع كل ذلك نجد بعض الناس في هذا العصر يزعم أن اليهود والنصارى مؤمنون, ويدعو إلى قيام جبهة عريضة وحزب واسع يضم أتباع كل الأديان على أساس الملة الإبراهيمية يسمى الحزب الإبراهيمي!!
ومن شبهات دعاة توحيد الأديان في هذا العصر!! :
1- قوله تعالى:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]}[سورة الكافرون] ربما يفهم البعض من هذه الآية إقرار أهل الأديان المخالفة للإسلام على دينهم فهل هذا هو المراد من الآية؟
العلامة ابن القيم رحمه الله يبّين لنا المراد من ذلك, فيقول في تفسير سورة الكافرون: 'قوله [لكم دينكم] مطابق لهذا المعنى: أي لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه بل هو دين تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبداً فطابق آخر السورة أولها فتأمله.-إلى أن قال-: والآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقهم عليه أبداً؛ فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار...؟ أترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} بل هذه آية قائمة محكمة، ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يُطهِر الله منهم عباده وبلاده, وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضى إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذه براءة منهم، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم، ولجهادهم بحسب الإمكان'[ بدائع الفوائد لابن القيمج1/140-141].
2- نريد أن نوحدهم على أصول الملة الإبراهيمية!!: هذا هو ما قاله د. الترابي إنه يريد أن يوحد جميع الأديان التي هي على أصول الملة الإبراهيمية.
مع أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهودياً ولا نصرانياً كما أخبرنا الله:{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[67]}[سورة آل عمران]. ومن ثم فانّ اليهود والنصارى الحاليين ليسوا على ملّة إبراهيم، بل هم ممن سفه نفسه؛ لأنهم رغبوا عن ملّة إبراهيم:{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ...[130]}[سورة البقرة]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 'وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملّة إبراهيم, وإذا لم يكونوا على ملّة إبراهيم فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملّته قال تعالى:{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[135]}[سورة البقرة]. فقوله:{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملّة إبراهيم'.(/5)
3- قوله تعالى:{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[113]يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ[114]وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ[115]}[سورة آل عمران]:
من الآيات التي يستدلون بها على جواز التقارب مع اليهود والنصارى هذه الآية, حيث ينزلونها على أهل الكتاب الحاليين. والآية ليس لها علاقة بأهل الكتاب الحاليين, وإنما هي خاصة بأولئك الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, كعبد الله بن سلام وغيره من الصحابة الذين كانوا يهوداً فأسلموا وحسن إسلامهم.
و{ لَيْسُوا سَوَاءً } معناها ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء, ثمّ تمّ الكلام واستُؤنف بعد ذلك:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وصدقوه. [انظر:الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4/175].
4- قوله تعالى:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...[256]}[سورة البقرة]: يقول د. الترابي في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر التقارب الديني: 'ولقد جاءت الرسالة المحمدية بالمبادئ الخالدة ألاّ إكراه في الدين:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...[256]}[سورة البقرة]'. والعصرانيون يستدلون بهذه الآية لإبطال أمرين هامين هما:
[1] جهاد الطلب: وهو أن يجاهد المسلمون الكفار طالبين منهم الدخول في الإسلام.
[2] إقامة حدّ الردة: فهم لا يرون إقامته إلاّ إذا كان المرتد محارباً شاكاً للسلاح, أما الردة الفكرية البحتة- كما يقول الترابي- فلا حدّ فيها.
وغاية ما تفيده الآية أن أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية عن يد وصغار تركوا على دينهم هذا إن لم يكونوا محاربين للإسلام والمسلمين، أما إن كانوا محاربين للإسلام، معاندين لأهله؛ فلا يقبل منهم إلاّ القتال.
5- قوله تعالى:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ[82] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[83] وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ[84]فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[85]}[سورة المائدة]:
يستدل د. الترابي وغيره من المنادين بوحدة الأديان، وبقيام الحزب الإبراهيمي الذي يؤلف بين اليهود والنصارى والمسلمين بهذه الآية:{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ[82]}[سورة المائدة] ، ولا يصلون بينها وبين الآيات التي تليها زعماً منهم أن هذا الوصف ينطبق على نصارى اليوم بينما نجد أن هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم حينما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وصدقوه، وآووا أصحابه، وحافظوا عليهم عندما هاجروا إليهم.
6- قوله تعالى:{ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[8]}[سورة الممتحنة]:
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي يستدل دعاة وحدة الأديان بها وهي بريئة من دعوتهم تلك. إذ غاية ما تأمر به الآية الإحسان إلي الضعفة والنساء الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ذات السيادة والقوة. والمسلم مأمور بالعدل مع المسلمين وغير المسلمين.
واليهود والنصارى اليوم- خاصة الحكومات والمؤسسات والمنظمات- كلهم محارب للإسلام، يتربصون به وبأهله الدوائر، ويكيدون لهم المصائب. أما الأفراد الضعفاء والمساكين، فيجوز برّهم والإحسان إليهم, وهذا من أقوى الأسباب لتقريبهم إلى الإسلام .
ونكتفي بهذا القدر فالشبه عند مرضى القلوب لا حدّ لها.(/6)
المخالفة الثانية:ترك البراءة من الكفار وموالاتهم: من مخالفات الدعوة إلى تقارب الأديان البيّنة الواضحة للإسلام مناقضتها ومعارضتها لعقيدة الولاء والبراء لدى المسلم، وقد قال تعالى:{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...[28]}[سورة آل عمران] . وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[ سورة آل عمران].
بعض صور الموالاة المنهي عنها: الموالاة صورها متعددة- خاصة في هذا العصر- ولكن سنقصر حديثنا على بعض الصور التي لها علاقة مباشرة بدعوة التقارب الديني, فنقول:
[1] الرضى بكفر الكافرين، أو عدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذاهبهم:
فهذه الدعوة ما قامت إلاّ باعتبار أن الإسلام، والمسيحية واليهودية التي يدين بها اليهود والنصارى اليوم أديان سماوية، ومذاهب يجوز للمرء أن يعتنق أيّاً منها!
[2] اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء:فالدعوة إلى التقارب مع اليهود والنصارى، والتعايش معهم في حبٍّ وسلامٍ، وإنشاء حلف يجمع بين المسلم والكافر من أقوى أسباب التولي.. 'وسذاجة أي سذاجة وغفلة أيّة غفلة أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار الملحدين!! فهم مع الكفار الملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين، فَلْندع من يغفل عن هذا ولنكن واعين للتوجيه القرآني { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ...[51]}[سورة المائدة] '[ في ظلال القرآن ج2/909-910]. نعم إنها والله السذاجة والغفلة ليس إلاّ هي التي تزين لدعاة توحيد الأديان دعوتهم هذه.
[3] مودتهم ومحبتهم: قال تعالى:{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[22]}[سورة المجادلة]، والعمل على إيجاد صيغة للتعايش والتسالم مع الكفار يولدان والمحبة والألفة.
[4] مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين:أما عن المداهنة والمداراة والمجاملة على حساب الدين فحدِّثْ ولا حرج! فدعاة وحدة الأديان قد وصلوا فيها إلى الغاية القصوى. فقد وصف د. الترابي اليهود والنصارى الحاليين بأنهم مؤمنون!! ووصف التبشير بأنه عمل إنساني!! ودعا إلى المحافظة على جميع الديانات!! ووصف جماهير اليهود والنصارى إبّان الحروب الصليبية بأنها مؤمنة!! [انظر:الحوار بين الأديان: التحديات والآفاق د. حسن عبد الله الترابي].
وهذه المداهنة والمداراة سببها الأول الانهزام النفسي وسببها الثاني الهروب من تهمة: متشدّد أو متعصب أو أصولي!!
[5] توليتهم أمراً من أمور المسلمين: فالولاية إعزاز, والحق أن يعامل النصارى، وغيرهم في ظل الدولة الإسلامية معاملة أهل الذمة، وحقوق وواجبات هذه المعاملة معروفة ومعلومة.
[6] الرضا بأعمالهم والتشبه بهم.
[7] البشاشة لهم، وطلاقة الوجه، وانشراح الصدر، وإكرامهم، وتقريبهم:لقد حدث من ذلك لأئمة الكفر ما لم يحدث مثله حتى في بلادهم, فقد اسْتُقبِل البابا في السودان أثناء زيارته المشهورة استقبالا حاشداً ونُصب له صليبٌ ضخمٌ رفع بالآلة الرافعة وهُشّ وبُشّ في وجهه، وقد رأيت صورة للدكتور الترابي أثناء استقباله البابا وهو هاشٌ باشٌ وهو كثيراً ما يعبس في وجوه مسلمين صالحين فقط من أجل سمتهم.
[8] الثناء عليهم: لقد وصف دعاة وحدة الأديان التنصير بأنه عمل إنساني, ودعوا إلى المحافظة على جميع الأديان, فقد جاء في ميثاق الحوار الديني في السودان, البند[7]: 'وأن يحترم كل منا عقائد الآخرين'، كيف يحق للمسلم أن يحترم من يبدأ كلامه بـ: 'بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد؟!
[9] تعظيمهم إطلاق الألقاب عليهم: ورحم الله الخليفة العباسي هارون الرشيد عندما كتب إلى ملك الروم كتاباً بدأه بـ [من أمير المؤمنين إلى كلب الروم].
المخالفة الثالثة: التشبه بالكفار وكسر الحاجز النفسي بيننا وبينهم:(/7)
من مخالفات دعوة التقارب الديني للإسلام - بجانب اصطدامها بالناقضين السابقين للإسلام - أنها تكسر الحاجز النفسي بين المسلم والكفار، فالتعايش مع الكفار ومسالمتهم وموادعتهم ومداهنتهم من أقوى أسباب التشبه بهم والاقتباس منهم, خاصة والمسلمون في هذا العصر عندهم قابلية وولع بتقليد الكافر, وذلك لتفوق الكافر عسكرياً واقتصادياً وتقنياً وإعلامياً، ومعلوم أن قابلية المغلوب للتلقي والتشبه لا تدانيها قابلية.
لقد نهى الله ورسوله والسلف الصالح عن التشبه بالكفار بل إن مجرد مخالفة الكفار دين وقربى يتقرّب بها العبد إلى ربه والآيات والأحاديث الآمرة بمخالفة أهل الكتاب كثيرة .
المخالفة الرابعة: تعطيل الجهاد وإبطاله: والمراد بالجهاد هنا جهاد الطلب الذي هو أساس الجهاد، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[9]}[سورة التحريم].
وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها عدا أحد والأحزاب, وكذلك جيوش الفتح التي قادها المسلمون كلها من هذا النوع؛ إذ الهدف منها دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام عن طواعية بعد أن تزال العقبات التي تقف في طريق ذلك من الحكّام الطغاة، ومن شابههم.
ودعوة التقارب الديني غرضها الأساسي هو إيجاد صيغةٍ للتعايش السلمي بين أهل الأديان المختلفة، حيث لا مجال بعد ذلك للجهاد, بعد الاعتراف بأديانهم واحترامها، وعمل مواثيق معهم على ضوء ذلك.
وقولهم:'أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف' فهو كما يقال: كلمة حق أريد بها باطل، فالهدف من هذه المقولة إبطال الجهاد، وليس الدفاع عن الإسلام؛ لأنه معلوم أن الإسلام يأمر أولاً بعرض الدين على الناس، فمن آمن به فبها ونعمت، ومن رفضه ورضي بدفع الجزية قبلت منه الجزية إن كان من أهل الكتابين، أما إن رفض الإسلام والجزية، أو منع الآخرين من الدخول في الإسلام فما يصنع معه؟ ولماذا خرجت الجيوش الإسلامية, ولأيّ شيء وقعت المعارك الكبرى؟ أليس من أجل ذلك؟
فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر، ولا دعوة إلى توحيد الأديان.
المخالفة الخامسة: مخالفتها فطرة الإنسان وسنة من السنن الكونية: الدعوة إلى تجميع كل الخلق تحت دين واحد أو جماعة واحدة دعوة مخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، يقول الأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله - وهو يعدد آثار التغريب على العالم الإسلامي-: 'والدعوة باطلة من أساسها؛ لأنها تخالف سنةً من سنن الله في الأرض, وهي دفع الناس بعضهم ببعض, وضرب الحق والباطل, والهدم والبناء لهذه السنة لا يفتئان يعملان دون انقطاع, وكل ميسرٌ لما خلق له, هذه السنة قائمة بأمر الله تعالى، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.'[ الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين: 185-187] .
ما الغرض الأساسي لدعاة تقارب الأديان وتحاورها؟
الغرض من هذه الدعوة هو إيجاد صيغة للتعايش السلمي بين أصحاب الديانات والملل المختلفة في البلد الواحد, وليس غرضها حوار الكفار، ودعوتهم إلى الإسلام، وإزالة الشبه العالقة بأذهانهم عنه, على الرغم من رفعهم لشعار حوار الأديان.
خاتمة: بعض الأخوة الكرام يستعظمون النقد والمناصحة لبعض العاملين في مجال الدعوة الإسلامية، وغيرهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، سواء كان هذا النقد للأفكار والآراء، مهما كانت درجة شذوذها ومخالفتها، أو كان في الأصول، أو في الفروع؛ لظنهم أن ذلك سيؤدّي إلى فتنةٍ، وإلى تفرق الجهود، وإحداث حزازات وإحن في النفوس.
وهذا لعَمْرُ الله من الأخطاء الفاحشة الفادحة، ومن باب الحرص الذي لا مبرِّر له ولا داعي له، وما عَلِم هؤلاء أن الفتنة أعظمَ الفتنة وأشدَّها في ترك المناصحة في أمور الدين، ومجاملة الأشخاص ومداراتهم حيث لا تجوز المجاملة والمداراة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدِّينُ النَّصِيحَةُ] قُلْنَا لِمَنْ قَالَ: [لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ]رواه مسلم . ، فقد أوجب الله النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين من علماء وحكام وعامتهم على قدر الطاقة, ورحم الله عمر رضي الله عنه حين دعا لمن نصحه، واعتبرَ من باب الإهداء الذي يُشكَر عليه, فقال:' رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي'.
إن من أوجب حقوق الله على عباده - بعد توحيده وعدم الإشراك به - ردَّ الطاعنين على الإسلام، ومقارعتهم بالحجة والبيان.
قال العلامة ابن القيم:'ومن بعض حقوق الله على عبده ردُّ الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان'[هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص10]. ، وهذا هو المراد بالنصيحة لله وكتابه ورسوله.(/8)
وهناك أمور لا يجوز السكوت عنها, بل يجب الردُّ عليها في الحال على من كان أهلاً لذلك, وهناك مسائل يجوز أن يُغضَّ الطرْف عنها, وهناك أشياء يحرم التحدث عنها علناً.
فالمسائل التي يجب الردُّ عليها على الكفاية: الطعن في أصول الدين, والتشكيك في الثوابت, والإتيان بالأقوال الشاذة التي تخرق الإجماع القولي والعملي. ومثال ذلك: مسألة بحثنا هذا وما شاكلها, خصوصاً لو صدرت ممن له أتْباعٌ وشيع يقلِّدونه فيما يقول, فالسكوت مع هذه الحال جريمة لا تغتفر، والخطيئة التي يجب أن يُشْهَر، ويعلن إنكارها مهما كانت الظروف والملابسات.
أما المسائل التي يمكن أن يغض الطرف عنها: فهي الخلافات الفقهية، والأمور الاجتهادية التي تتسع لذلك.
أما المسائل التي يحرم التحدث عنها علناً: فهي المسائل الشخصية والسلوكية.
فلا بد من التفريق والتمييز بين هذا وذاك، فإن لكلِّ مقامٍ مقالاً، فالأقوال الشاذة والبدع المنكرة، والطعن في أصول الدين، والتلاعب بما أجمع عليه المسلمون؛ أمور يتعين على بعض طلاب العلم الرد عليها في الحال, لكي لا ينخدع بها الجهال, ثم يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
وهذا ليس من باب الغيبة, ولا من باب الطعن والتشكيك في الدعاة, ولا هو سبب للتفريق والتشتيت الذي نهانا عنه الشرع, بل هو نصحية يجب إسداؤها, وإذا سكتُّ عنها، وسكت أنت، وسكت هذا، ولم يتكلم ذاك فمن لها؟
رحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل فقد قال - رادّاً على من تحرَّج من عملية الجرح وقال: إنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا -: 'إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟'[ الجامع لآداب الراوي والسامع ج2: 260، ومجموع الفتاوي ج28: 231].
فالنصحية دين وحق يجب أن يؤدى مهما كان الشخص قريباً أم بعيداً عنك، عالماً كان أم غير عالم، صالحاً كان أم طالحاً، فالولاء أولاً وأخيراً لله وحده لا لولدٍ ولا لوالد, ولا لإمام مذهب, ولا لقائد جماعة, ولا لشيخ طريقة .. هذا بالنسبة لمن يطعن في الدين، أو يشكك في أصوله, أو يخشى من الانخداع به.
وأما بالنسبة لما يصدر عنه بعض العلماء الأثبات من هفوات وسقطات في مسائل الفروع، وفي الأمور الاجتهادية [وثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه وندر جارحوه] فلا يلتفت إلى جرحه؛ لأن المناقص خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.
أما إذا كان الماء قليلاً جداً لا يسدُّ الرمق، ولا يزيل الغصة، وحلت به النجاسة؛ فإنه ينجس، وهكذا هؤلاء المشككون هم الذين ينبغي أن يجرحوا، ويكشفوا؛ ليعرفوا على حقيقتهم, والاشتغال بالردِّ على هذا الصنف عبادة وقربى إلى الله. ورحم الله أحمد الإمام قيل له: الرجل ليصوم ويصلي ويعتكف أحبُّ إليك, أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: 'إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه, وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين, وهذا أفضل'. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
من بحث:'التقارب الديني خطره, أسبابه, دعاته' للشيخ/ الأمين الحاج محمد أحمد(/9)
التقارب بين السنة والشيعة
الكاتب: الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
يكثر الحديث في المنتديات والمؤتمرات ومجامع المفكرين والمثقفين عن مسألة التقريب بين السنة والشيعة ، وينقسم الناس بين مؤيد ومعارض ، ومستند المعارضين أن الشيعة لهم عقائد مخالفة في قضية الصحابة رضي الله عنهم وعدالتهم جميعاً ، وقضية عصمة الأئمة ، وعدد من القضايا الأخرى ، ومستند المؤيدين غالباً عاطفي يتلخص في وجوب واجتماع كلمة الأمة الإسلامية خاصة في هذه الأيام ، وأننا إخوة يجمعنا الإسلام إلى آخر ما هو معروف معلوم من تلك القائمة.
والحق أن القضية بالغة في الأهمية مبلغاً لا ينبغي معه أن تعالج معالجة أولية سطحية ، إنما ينبغي أن ينظر فيها نظراً موضوعياً من عدة جوانب ، منها :
أولاً : قضية التقارب السياسي :
لا ينبغي التردد في الاستفادة من إمكانات الشيعة – خاصة أن لهم دولة قوية اليوم نسيباً – في مواجهة مخططات أعداء الإسلام الظاهرين كاليهود والصليبيين ، والتنسيق معهم لمواجهة الهجمة على ديار الإسلام أمر لا بأس به ، ولا ينبغي أن يتردد فيه.
أقول هذا وأنا على قناعة تامة بأن الشيعة لم يقدموا – لسبب أو لآخر – شيئاً يذكر لقضايا الأمة الأساسية مثل فلسطين والعراق وكشمير والشيشان وأفغانستان والفلبين ، بل كل تلك الأماكن جهادها جهاد سني صرف ، حتى الأماكن التي يكثر فيها وجود الشيعة مثل العراق لا نرى فيها لهم جهاداً يذكر، وهذا غريب ، ويذكرني بقول مساعد مفتي البوسنة عندما سألته عن موقف إيران من قضيتكم فقال : موقفهم إعلامياً رائع لكن لم يصلنا منهم شيء !!
فالشيعة صوتهم الإعلامي ضخم لكن الواقع غير ذلك والعطاء يكاد يكون معدوماً :
أسمع جعجعة ولا أرى طحناً.
ولعل قائلاً أن يقول : وما تقول في حزب الله ؟ فأقول : إن عملهم موسميّ ، وتمر عليهم السنوات الطويلة ولا نكاد نسمع عنهم شيئاً ، بل جاءت الأخبار من لبنان لتقول إنهم يؤسسون لأنفسهم ويعملون لتمكين وضعهم ، والله أعلم بنياتهم وأحوالهم ، ثم هل يستقيم أن يكون جهاد الشيعة في العالم الإسلامي ودفاعهم عن الإسلام والمسلمين محصوراً في جنوب لبنان ، والشيعة يمثلون قرابة 10% من المسلمين في العالم ؟! وأين التضحيات والفكر الثوري من قضايا المسلمين الكثيرة ؟!
الأمر الثاني : قضية التقارب المنهجي والفكري :
وهذا أمر مهم ، والسؤال فيه : هل الشيعة مقتربون من أهل السنة في طرائق تفكيرهم ، ومنهجهم الثقافي والفكري ؟!
إن الناظر لتراث الشيعة المعاصر لا يرى فيه شيئاً يُذكر من التقعيد الثقافي والفكري، إنما جل كتبهم تلوك أموراً قديمة ، وتدور حول قضايا عقدية محضة ، وإلا فأين مبرزوهم في الفكر والثقافة ؟ وأين أمثال الأستاذ سيد قطب وأخيه ، والأستاذ أبي الأعلى المودودي ، والأستاذ أبي الحسين الندوي ، والشهيد حسن البنا ، والأستاذ القرضاوي ، والأستاذ يكن وأمثال هؤلاء الذين هم حجر الزاوية في الكتابات ، وباستثناء الأستاذ محمد باقر الصدر وإنتاجه القليل لم نر لأحد منهم تميزاً ملحوظاً وعطاء واسعاً ، لذلك لا يمكن على التحقيق معرفة طرائق تفكيرهم الثقافي ومناهجهم الفكرية ، حتى نعرف موقفنا منها ، ومدى اقترابهم منا ، لكني سمعت أن ثورييهم ومنظميهم يعتمدون على بعض كتب المثقفين السنة كالأستاذ سيد وغيره ، والله أعلم.
ثالثاً : قضايا التقارب العقدي :
وهذه أخطر وأهم قضية على الإطلاق ، ويكثر الحديث حولها ، وللأسف فإن مثقفينا ومفكرينا من أهل السنة يكتفون بالقول عند مناقشة هذه القضية : إن هذه أمور قديمة ، وأنتم تثيرون المكنون ، وتنبشون الماضي ، هذا قولهم ، وهذا التسطيح لا يخدم القضية أبداً . كيف وأهل السنة يشاهدون بأم أعينهم القنوات العراقية الشيعية - التي هي بتمويل إيراني بلا شك – يشاهدونها وهي تصب جامّ غضبها على السنة ، وتلمز وتغمز في عقيدتهم ، وتوري حيناً وتصرح أخرى.
كيف وأهل السنة يشاهدون عمليات التهجير الجماعي بسبب العقيدة من مناطق الجنوب في العراق ، ويشاهدون كيف يعذب السنة في مخافر وزارة داخلية الشيعة في العراق.
كيف وأهل السنة يشاهدون عمليات توزيع الكتب والنشرات الشيعية في أمريكا وأوربا وأفريقيا مجاناً وكلها مليئة بالتشكيك في السنة وعقيدتهم.
الحاصل أن قضية التقارب العقدي حتى نكون إخوة حقاً لا بد أن نرتكز على أصول ثابتة لا مجال للتنازل عنها أبداً ، ولا بد للشيعة أن يعلنوها بكل وضوح :
1- عدالة الصحابة جميعاً ، وطي صفحة الفتن التي حدثت بينهم رضي الله عنهم ؛لأن هؤلاء نقلوا لنا الإسلام ، فإن كان هؤلاء مطعوناً فيهم فالإسلام كله صار عرضة للتشكيك والاتهام عقيدة وأحكاماً.
2- امتناع القول بعصمة الأئمة ورفعهم إلى مقام الأنبياء والرسل ، فهذا أمر يناقض الشرع والعقل السليم ، ولا عصمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباقي البشر عرضة للخطأ .(/1)
3- الكف عن نبش الماضي وإثارة الأحقاد والأحزان باسم الحسين رضي الله عنه ، وجعل ذلك فاصلاً في العلاقة بين السنة و الشيعة ، فالحسين منا أهل السنة والجماعة ، وكفى تشويهاً وإثارة فتن وقلاقل بسبب هذه القضية ، وليكن شعارنا جميعاً : وعند الله تجتمع الخصوم ، و( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ).
بهذا وأمثاله يصح لنا الحديث عن التقارب الكامل مع الشيعة ، ويصح أن نقول : إننا إخوان فعلاً ، أما بدون إصلاح النوايا ، وبدون تعديل المنهج من قبل الشيعة نُطالب نحن أهل السنة بالتقارب ونسيان الماضي فهذا غير مقبول ولا معقول ، ومثله كمثل من يطلب من المضروب أن يتسامح مع الضارب ولم يطلب ذلك الضارب نفسه.
هذه كانت نقاطاً أولية لفتح باب النقاش لحديث أعمق وأطول ويلامس نقاط الخلاف لمساً منهجياً مرتباً.
أسأل الله تعالى أن يشرح صدور المسلمين للتآخي الحقيقي ، وأن يبصرهم بواقعهم وما هم عليه ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.(/2)
التقاعد والفوائد الربوية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الهبة والعطية
التاريخ ... 13/09/1425هـ
السؤال
الحكومة في بلدي تحسم من موظفيها مبلغًا شهريًّا لحساب صندوق التقاعد. بعد ذلك تضيف الحكومة فائدة على المبالغ المتجمعة وتدفع للموظف عائدًا صحيًّا عند التقاعد. ويتم استقطاع المبلغ الشهري من الراتب إجباريًّا.
أنا أرغب في جعل المبلغ المستحق لي في صندوق التقاعد خاليًا من الربا. ويمكن عمل ذلك ببساطة عن طريق تقديم طلب بذلك فيصبح المبلغ المستحق لي خاليًا من الربا منذ بداية التعامل. زوجتي تؤيد بقوة مثل هذا الرأي. لكن آخرين لا يؤيدونه. البعض يقول إن الحكومة تضاعف أموال التقاعد هذه عند التقاعد كرمز تقدير لزميل قديم يترك المهنة ولا يمكنه العمل أكثر مما عمل. وهذا واجب على الحكومة أن تعتني بكبار السن. والبعض يقول إن مبلغ 1500 روبية مثلا الآن لن يكون له نفس القوة الشرائية بعد 30 سنة. فتكون هذه الفائدة لازمة لحفظ القوة الشرائية للمال.
الآن عندي فكرة أن أترك حسابي لدى الحكومة كما هو مع الفائدة. وفي كل شهر رمضان أحسب قيمة الذهب الذي يمكن شراؤه بمالي المتجمع على مدار السنة. ثم في كل سنة أستمر في إضافة قيمة الذهب حتى وقت التقاعد. وعند التقاعد آخذ المبلغ الإجمالي من صندوق التقاعد ثم آخذ منه لنفسي المبلغ الذي يمكنه شراء قيمة الذهب المتجمعة كما حسبتها، وأنفق ما تبقى على الفقراء على أنها ليست من حقي. ثم أدفع الزكاة على المبلغ الذي أخذته لنفسي عن جميع السنوات المتجمعة. وبهذا يكون المبلغ المتجمع لي خاليًا من الربا وله نفس القوة الشرائية. فالإسلام يعتمد على القيم الثابتة من الذهب والفضة وليس على الدرهم والدينار كما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أرجو التوجيه والنصيحة منكم.
الجواب
ما تفعله الحكومة الباكستانية مع موظفيها– كما في سؤالك– وهو النظام التقاعدي في عموم الدول الإسلامية مع موظفيها ليس عقدًا ربويًّا بل عقد من عقود التبرعات؛ لأن الدولة ممثلة في ولي الأمر معنية برعاية الموظف وبمن يعول بعد نهاية خدمته وكبر سنه فما تقتطعه من مرتبه شهريًّا تضيف عليه ن
سبة تماثل لما اقتطعته منه أو نحوها وتقوم بتشغيلها وتنميتها ثم يصرف له كامل النسبتين بعد تقاعده، وإنما أتت شبهة الربا عند بعض الناس من حيث إن الموظف يدفع مالاً على أقساط قليلة فيأخذ أكثر منها عند تقاعده من الوظيفة، وليس كذلك، إذ حقيقة الأمر أن ما دفعته الدولة من نسبة هو تبرع وليس لقاء عمل، إذ مقابل العمل هو الراتب الشهري الذي يستلمه الموظف آخر الشهر، فهذا من الدولة شبيه بالمكافأة، وأيضًا مما يؤكد أن المعاش التقاعدي عقد تبرع لا معاوضة: أن توزيع هذا المعاش بعد وفاة صاحبه لا يوزع حسب المواريث الشرعية بل على نمط خاص مما يدل على أن الدولة لا ترى ما تعطيه للموظف أو ورثته حقًّا ثابتًا له وإنما هو تبرع له ومكافأة، وهذا زائد عن عقد المعاوضة معها الراتب الشهري الصافي بعد الخصم، وإن كان من شبهة في معاشات التقاعد فهو أن أكثر الدول تشغل نسبة ما تقتطعه من راتب الموظف في أعمال ربوية، وهذا حرام على الدولة ولا دخل للموظف فيه، حيث لم يعلم أو يؤخذ رأيه في تشغيل ما يخصه، فهي المرابية وهي الظالمة، والموظف لم يرض بذلك بل هو مجبر عليه– دخلت مع الدولة على هذا الأساس، وللدولة زيادة الراتب أو نقصانه دون أخذ موافقة الموظف. ولو كان عقدًا كسائر العقود لما جاز لها ذلك.
أما إخراج الزكاة عن ما يقتطع منك لقرض التقاعد فلا زكاة فيه لأنك لا تملكه، وإنما تملك راتبك بعد أن تخصم منه هذه النسبة، فإذا كان راتب وظيفتك مثلاً (3000) روبية في الشهر، وبعد الخصم ستستلم (2500) روبية، فإن راتبك الفعلي هو هذا لا غير، وتزكي النقود إذا بلغت النصاب، والنصاب هو ربع العشر ( ½ 2 %) وحال عليها الحول مهما بلغت قوتها الشرائية ارتفاعًا أو انخفاضًا، وتعتبر الزكاة وسائر الحقوق المالية بالدراهم والدنانير، والعملات الورقية القائمة اليوم كالريال والروبية والدولار تقوم مقامها، وكل عملة ورقية قائمة بنفسها في البيع والشراء وليست قائمة مقام الذهب والفضة، وإنما قوتها وضعفها بقوة اقتصاد الدولة وضعفه، وإذا كانت الدولة لا تصرف لموظفيها ذهبًا ولا فضة فالاعتبار للعملة الورقية وليس للذهب ولا للفضة، وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لما أردت فعله من احتسابك قيمة الذهب الذي اشتريته أو تريد شراءه ثم عند دفع الزكاة.
وخلاصة القول: أن ما يصرف لك من معاش تقاعدي كله حق لك في الشرع فلك أن تتبرع به كله أو ببعضه إذا شئت. وفقنا الله وإياك إلى كل خير.. آمين(/1)
التقدم العلمي للمسلمين في حروبهم ضد الصليبيين
المرجع : الكامل للشيباني
الكامل ج: 10 ص: 191
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة
ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج
قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه فلما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج
فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد ورأى العسكر الذي في اليزك عندهم قليلا وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك فاغتنموا ذلك وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر فقاتلهم المسلمون وحموا أنفسهم بالنشاب وأحجم الفرنج عنهم حتى فني نشابهم فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد فاشتد القتال وعظم الأمر وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال فقاتلوا قتال مستقل إلى أن جاء الليل وقتل من الفريقين جماعة كثيرة وعاد الفرنج إلى خندقهم
ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة فندب الناس إلى نصر أخوانهم فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم فأقام ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماه وغيرها فتقدم من الخروبة نحو عكا فنزل بتل كيسان وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين فكانوا يقاتلون الطائفتين ولا يسأمون ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول
كان الفرنج في مدة مقامهم على عكا قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدا طول كل برج منها خمس طبقات كل طبقة مملوءة من المقاتلة وقد جمع أخشابها من الجزائر فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب الا القليل النادر وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها وأصلحوا الطرق - الكامل ج: 10 ص: 192- لها وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات وزحفوا بها من العشرين من ربيع الأول فأشرفت على السور وقاتل من بها من عليه فانكشفوا وشرعوا في طم خندقها فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرا
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنسانا سبح في البحر فأعلمه ما هم فيه من الضيق وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلهم من جميع جهاتهم قتالا عظيما دائما يشغلهم عن مكاثرة البلد فافترق الفرنج فرقتين فرقة تقاتل صلاح الدين وفرقة تقاتل أهل عكا إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ودام القتال ثمانية أيام متتابعة آخرها الثامن والعشرون من الشهر وسئم الفريقان القتال وملوا منه لملازمته ليلا ونهارا والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج فإنهم لم يتركوا حيلة إلا عملوها فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئا وتابعوا رمي النفط الطيار عليها فلم يؤثر فيها فأيقنوا بالبوار والهلاك فأتاهم الله بنصر من عنده وأذن من إحراق الأبراج
وكان سبب ذلك أن إنسانا من أهل دمشق كان مولعا بجمع آلات النفاطين وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه وهو يقول هذه حالة لم أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها وكان بعكا لأمر يريده الله فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما
فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها وقال له يأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله فازداد غيظا بقوله وحرد عليه فقال له قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا
فقال له من حضر لعل الله تعالى قد جعل الفرج على يد هذا ولا يضرنا أن نوافقه على قوله فأجابه إلى ذلك وأمر المنجنيقي بامتثال أمره فرمى عدة قدور نفطا وأدوية ليس فيها نار فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج حتى علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ألقى قدرا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج وألقى قدرا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص فاحترق هو ومن فيه وكان فيه من الزرديات الكامل ج: 10 ص: 193 - والسلاح شيء كثير
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل يحملهم على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة فلما احترق البرج الأول انتقل الى الثاني وقد هرب من فيه لخوفهم فأحرقه وكذلك الثالث وكان يوما مشهودا لم ير الناس مثله والمسلمون ينظرون ويفرحون وقد اسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحا بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد إلا وله في البلد إما نسيب وإما صديق(/1)
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والأقطاع الكثيرة فلم يقبل منه الحبة الفرد وقال إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر وأرسل يطلب العساكر الشرقية فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي سيره أبوه مقدما على عسكره وهو صاحب الموصل ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره وينضم إليه غيرهم ويقاتلونهم ثم ينزلون
ووصل الأسطول من مصر فلما سمع الفرنج بقربه جهزوا الى طريقه اسطولا ليلقاه ويقاتله فركب صلاح الدين في العساكر جميعها وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الاسطول ليتمكن من دخول عكا فلم يشتغلوا عن قصده بشيء فكان القتال بين الفريقين برا وبحرا
وكان يوما مشهودا لم يؤرخ مثله وأخذ المسلمون من الفرنج مركبا فيه من الرجال والسلاح وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين ووصل الأسطول الإسلامي سالما
ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام وموته
في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده وهم نوع من الفرنج من أكثرهم عددا وأشدهم بأسا وكان قد ازعجه ملك الإسلام البيت المقدس فجمع عساكره وازاح علتهم وسار عن بلاد وطريقه على القسطنطينية فأرسل ملك الروم بهذا إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعده أنه لا يمكنه من العبور في بلاده فلما وصل ملك الألمان الى القسطنطينية عجز ملكه عن منعه من العبور لكثرة جموعه لكنه منع عنهم الميرة ولم يمكن أحدا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم فضاقت بهم الأزواد والأقوات وساروا(/2)
التقدير في خلق الإنسان
د. محمد بن إبراهيم دودح 18/5/1427
14/06/2006
(1) معجزة التنويع في الخلق:
(2) لطمات في تاريخ الداروينية:
(3) التزوير في تاريخ الداروينية:
(4) فلسفة استعمارية:
(5) رأي الكنيسة:
(6) رأي الباحثين المسلمين:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
ارتبط موضوع أصل الحياة والإنسان في تاريخ العلوم بالداروينية نسبة إلى دارون في كتابه "أصل الأنواع" الذي صدر في منتصف القرن التاسع عشر وقال فيه بتطور أنواع الأحياء بآليات افترضها مضمونها الصدفة, وخالفته الكشوف العلمية لاحقا فغير أنصاره الملامح تحت اسم الداروينية الجديدة مع استمرار الحفاظ على مضمون الصدفة, ويفترض سؤال اتفاق علماء الطبيعة عليها ابتداء فيقول: (هل هناك اتّفاق بين المختصين في العلوم وبين علماء الإسلام في مسألة أصل الإنسان؟), ولكن لم يتفق المختصون عليها بحيث يصادم علماء الإسلام الواقع إذا خالفوهم, ومستعينا بالله تعالى أوجز القول في ضوء ثوابت علم الأحياء Biology وعلم تاريخ الإنسان Anthropology مبينا أن النقطة الجوهرية هي رفض فلسفة الحدوث ذاتيا صدفة مهما كانت كيفيات تقدير الخلق وفق ما يكشفها العلم, وأن تدرج التنويع ليس بالضرورة تطورًا, وذلك في النقاط التالية:
(1) معجزة التنويع في الخلق:
أعلن مِندل عن اكتشاف قوانين الوراثة عام 1865 فمهد لولادة علم الوراثة Genetics في أوائل القرن العشرين, وقبل نشوء علم الوراثة ومعرفة دور الجينات في الحفاظ على صفات النوع وراثيًا رأي لامارك Lamarck عام 1809 أن أفراد الكائنات الحية تنقل السمات التي اكتسبتها في حياتها إلى الأبناء، فالزرافة مثلا تطورت عن طريق إطالة أعناقها شيئاً فشيئاً عندما كانت تحاول الوصول إلى الأغصان الأعلى، ولم يدرك دارون كذلك آلية الحفاظ على توريث صفات النوع وإن تنوعت الأفراد فافترض تغيره ذاتيا صدفة لأسباب خارجية عزاها إلى الطبيعة, ولكنها لا تمتلك إرادة واعية لتقرر ما ينفع وتنسق العمل بين الأعضاء وبين الذكر والأنثى فلا بد إذن من قوة عليا مدبرة, ومن المسلمات عند العقلاء أن البيت المرتب الأثاث لا يبني نفسه وينظم أثاثه ذاتيا وأنه لا بد من إرادة واعية بنته ورتبته, ولكن الفلسفة المادية Materialism أفرزت نظرية التطور عام 1859 مخالفة أبسط المسلمات عندما افترضت أن الفوضى Chaos يمكن أن تصنع نظاما وأن الترتيب يوجد ذاتيا صدفة, فجوهرها في تفسير معجزة تنوع الأحياء هو إبداعات الصدفة ولذا من الأولى كشف القناع بتسميتها "نظرية الصدفة", ولكن أدى اكتشاف تركيب الحمض النوويDNA البالغ التعقيد ليحافظ على سمات أسلاف كل نوع ويورثها للنسل إلى نقض قواعد نظرية دارون من الأساس, ومع ذلك استمر ترويجها مما يعكس غرضا عقائديا أكثر من كونها اهتمامات علمية بحتة.
وتدّعي الداروينية Darwinism أن الحياة بدأت بخلية تكونت صدفة من مركبات غير عضوية في ظروف أولية للأرض, ولكن لم ينجح أبداً أي شخص في تكوين تركيب خلوي واحد من مواد بسيطة ولا حتى في أكثر المختبرات تطوراً, والخلية أكثر تعقيدا وروعة في أداء وظائف الحياة مما كان يظن دارون في القرن التاسع عشر فهي تحتوي على محطات لتوليد الطاقة ومصانعَ مدهشة لإنتاج الإنزيمات والهرمونات اللازمة للحياة ونظم نقلٍ وخطوطَ أنابيب معقدة لنقل المواد الخام والمنتجات ومختبرات بارعة ومحطات تكرير تحلل المواد الخام إلى أجزائها الأبسط وبروتينات حراسة متخصصة تغلف أغشية الخلية لمراقبة المواد الداخلة والخارجة وبرنامج بالمعلومات الضرورية لتنسيق الأعمال في وقتها, فهل يُبني هذا كله ذاتيا صدفة!.(/1)
وقد رأى البعض بحساب الاحتمالات أنه أيسر لقرد يعبث بمفاتيح آلة كاتبة أن يصنع قصيدة صدفة من صنع بروتين واحد صدفة فما بالك بالنظام والتخطيط والتصميم البديع الذي نراه في كل الكائنات الحية وجميع التكوينات في الكون أجمعه, ووفق الموسوعة العلمية البريطانية فإن اختيار كل الأحماض الأمينية Amino Acids وهي أساس تكوين البروتينات لتكون عسراء الاتجاه صدفة بلا تدخل واع أشبه بقذف عملة معدنية في الهواء مليون مرة والحصول دائماً على نفس الوجه!, ونشأة خلية حية واحدة من ذاتها يعد احتمالا مستحيلا مثل احتمال قيام القرد بكتابة تاريخ البشرية كله على آلة كاتبة بلا أخطاء, ويعني هذا أن خلية حية واحدة تتحدى مقولة الصدفة, وقد بين السير فِرِِد هويل Sir Fred Hoyle في مقالة نشرت عام 1981 أن احتمال ظهور أشكال الحياة صدفة يقارن بفرصة قيام سيل يمر بساحة خردة بتجميع طائرة بوينج 747 صالحة للطيران, والنتيجة التي يقود إليها العلم والمنطق وليس الإيمان فحسب هي أن كل الكائنات الحية قد جاءت بتخطيط واعي وقصد أكيد, ومن يظل معتقدا في عصرنا بالفلسفة المادية بعدما دحضها العلم في مجالات علمية شتى عليه ألا يحسب نفسه من المحققين, قال ماكس بلانك: "ينبغي على كل من يدرس العلم بجدية أن يقرأ العبارة الآتية على باب محراب العلم: (تَحلَّى بالإيمان)", وقال الدكتور مايكل بيهي: "على مدى الأربعين سنة الماضية اكتشف علم الكيمياء الحيوية.. أسرار الخلية، وقد استلزم ذلك من عشرات الآلاف من الأشخاص تكريس أفضل سنوات حياتهم.. وقد تجسدت نتيجة كل هذه الجهود المتراكمة.. لدراسة الخلية.. في صرخة عالية واضحة حادة تقول: التصميم المبدع! والتصميم الذكي المبدع يؤدي حتماً إلى التسليم بوجود الله"*.
والتبصر في الأسماك والنباتات والحشرات والطيور وحيوانات البر وهي غافلة عنه يعني وجود توجيه وقصد لم تفرضه ضرورة وإنما أملته إرادة عليا تعلم بكل شيء فأعدت للحدث قبل وقوعه, فأقدام البط تمتلك غشاء منذ خروجه من البيض وليس وليد محاولة العوم, والثدي يمتلئ بلبن سميك Colostrum قبيل ولادة الجنين وكأنه على علم مسبق بموعد الولادة, وقد وصف تشاندرا كراماسنغي الحقيقة بقوله: "تعرض دماغي لعملية غسيل هائلة كي أعتقدَ أن العلوم لا يمكن أن تتوافق مع أي نوع من أنواع الخلق المقصود.. (ولكني الآن) لا أستطيع أن أجد أية حجة عقلانية تستطيع الوقوف أمام وجهة النظر المؤمنة بالله.. الآن ندرك أن الإجابة المنطقية الوحيدة للحياة هي الخلق وليس الخبط العشوائي غير المقصود", وطريق معرفة آلية التنويع هو البحث العلمي, ولكن بدء النشأة وتجددها في الأحياء والوظائف المحددة لكل تركيب خلوي وانسجام كل عضو مع مثيله وتناسب كل زوج مع بيئته ونظيره هو عند النابهين دليل أكيد على الخلق والتوجيه مهما كانت الكيفيات, وهذا ما يعلنه القرآن الكريم ولا يصعب إدراكه حتى على البسطاء: "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ. الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ. وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ" الأعلى 1-3.
وتحت ضغط الحقيقة أقرت مصطلحات علمية مبدأ الخلق مثل التصميم الذكي Intelligent Design والكون الذكي Intelligent universe والتطور المبرمج Programmed Evolution والتطور الموجه بوعي Rational Directed Evolution وكلها تفصح عن تنظيم وتوجيه بلا فوضى وإنما تقدير Predestination فتعلن أن العلم يقود للإيمان, قال الفيزيائي هاوكنج Hawking: "ليس كل تاريخ العلم إلا التحقق التدريجي من أن الأحداث لم تقع بطريقة اعتباطية بل تعكس ترتيب ونظام ضمني أكيد"(1), وقال: "طالما أن للكون بداية (واحدة أكيدة) فحتما لا بد من خالق (واحد)" (2), وقال الشيخ جوهري: "هذا النظام الجميل شاهد عدل على إله نظمه بعلمه وأحكمه بقدرته فإن هذا العالم المشاهد لا يمكن أن يصدر إلا عن إرادة لأن المادة عمياء جاهلة والجاهل لا يعطي علما"(3), والقرآن الكريم يدعو لتأمل تلك الحقيقة وراء الخلق: "أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" العنكبوت 19و20.
(2) لطمات في تاريخ الداروينية:(/2)
دلت أقدم المتحجرات Fossils التي بلغ عمرها حوالي 600 مليون سنة على أن الحياة ظهرت بأشكال عديدة فجأة حتى وصف ظهورها بالانفجار Explosion, وظهرت بهيئات بسيطة أولا من اللافقاريات Invertebrates ولكنها معقدة التركيب ابتداء بحيث امتلك بعضها عيون ذات عدسات كالفقاريات Vertebrates, ولا يعلم أحد حتى اليوم على وجه اليقين كيف ظهرت هذه الأنماط المعقدة دون أسلاف سابقة انحدرت منها, ومع هذا التنويع الهائل لا يمكن تفسير نشأة أشكال الحياة إلا بخطوات مقررة مسبقا في سجل خطة الخلق محددة الخطوات عند نشأة الكون نفسه بلا سبق مادة منذ نحو: 10-15 بليون سنة.
وطبقا للداروينية تكونت للأسماك أقدام بدل الزعانف وخرجت للبر لتكون البرمائيات ثم الزواحف ثم الطيور والثدييات, ولكن الفك السفلي للثدييات يتكون من عظمة أما في الزواحف فتوجد ثلاث عظام صغيرة على جانبي الفك السفلي, وكل الثدييات لديها ثلاث عظام في أذنها الوسطى هي المطرقة والسندان والرِّكاب بينما توجد عظمة واحدة في الأذن الوسطى لدى كل الزواحف, فإذا كان عدد العظام مقياسا للتطور فأيهما أكثر تطورا: ذوات العظام الثلاثة أم العظمة الواحدة أم أن الكل مؤهل في أقصى درجات الكمال بما يناسبه والتسلسل في ظهور الكائنات وانقراضها ما هو إلا تجدد في الإبداع بروعة مذهلة!.
وقد تنبأ دارون قائلا: "إذا كانت نظريتي صحيحة فمن المؤكد أن هناك أنواعاً وسيطة لا حصر لها.. ولا يمكن أن تتوفر أدلة على وجودها في الماضي إلا بين بقايا المتحجرات", ومنذ القرن التاسع عشر يبحث أنصاره عن حلقة مفقودة بلا جدوى فتسببوا دون قصد في تكذيب نبوءته وإن ملئوا الساحة برسوم ظنية وأفلام خيالية للتأثير على العامة ولكنها تفتقر لأدلة علمية, فالمشكلة الأساسية في إثبات الداروينية تكمن في سجل المتحجرات نفسه فلم يكتشف قط أية آثار للحلقات الوسيطة بين الأنواع وعوضاً عن ذلك تظهر أجناس وتختفي أخرى, وقد اكتشفت متحجرة سمكية لها ما يشبه الرئة البدائية قدر عمرها بحوالي 410 مليون سنة سموها كولاكانث Coelacanth وافترض أنها الحلقة الوسيطة بين الأسماك والبرمائيات, ولكن في 22 ديسمبر عام 1938 اصطيدت من المحيط الهندي أول سمكة حية من نفس النوع فتبين أنها لا تعيش قريبا من السطح لتغزو اليابسة وإنما على عمق لا يقل عن 180 مترا وأن ما حيك حولها من وجود رئة بدائية لجعلها حلقة وسيطة مجرد افتراء.
ويشكل تركيب الطيور خاصة الأجنحة ذات الريش والعظام الخفيفة عائقا كبيراً لفرضية دارون, فمن غير الممكن أن تكون قد تشكلت جميع تركيبات الطيور المطلوبة للطيران على انفراد تدريجياً هكذا صدفة عن طريق تراكم تغييرات موجهة في الإتجاه الصحيح دوما, وافترضت الحلقة الوسيطة بعد ظهور الديناصورات مع العثور على بقايا متحجرة لما يشبه ديناصور صغير له أجنحة سموه الأركيوبتركچ Archaeopteryx يشتبه عدم نمو عظمة القص عنده وبالتالي عضلات صدره بما يكفى للطيران، ومع اكتشاف متحجرة عام 1992 تبين أنه ليس إلا طائرا منقرضا من ذوي الأسنان بعظمة قص عادية وريش وهو من ذوات الدم الحار بعكس الديناصور الذي يخلو بعضه من الأسنان, ومثله في وجود مخالب الأجنحة للتمسك بالأشجار كمثل بعض الطيور اليوم مثل طائر التاووراكو Taouraco وطائر الهواتزن Hoatzin، واكتشفت في الصين عام 1995 متحجرة لطائر معاصر له بلا أسنان سموه كونفوشيوسورنيس Confuciusornis مما ينفي أن الأسنان بالضرورة سمة للزواحف*, والخفاش يطير كذلك وهو حيوان ثديي ينتمي إلى فصيلة تختلف كل الاختلاف عن فصيلة الطيور, والحوت يسبح مع الأسماك وهو أيضا حيوان ثديي يختلف عن الأسماك, ولا سبيل لتفسير هذا التنوع البديع المعجز إلا القدرة المبدعة الخلاقة التي أتقنت كل شيء.(/3)
وكانت الضربة القاصمة للداروينية مع اكتشاف توريث صفات Traits كل نوع بما يحفظ خصائصه, وفي محاولة يائسة افترضت عام 1941 الطفرة Mutation ضمن النظرية التركيبية الحديثة للتطور The Modern Synthetic Evolution Theory, وسميت فرضية التطور البطيء التدريجي نتيجة تراكم تغييرات جينية باسم "الدارونية الجديدة New Darwinism", ولكن ثبت أن الطفرة لم تأت بكائن جديد وإنما بمسخ عقيم إذا لم تكتف بتخريب وظائف الجينات في الحامض النووي الذي يحفظ الصفات, وقد باءت كل المحاولات بفشل ذريع حتى في الإتيان بميزة نافعة واحدة جديدة, فأُدخلت الطفرات على ذبابة الفاكهةDrosophila جيلاً بعد جيل لأكثر من خمسين سنة فلم ينتج سوى التشوهات ولم تخرج ذبابة واحدة قط بصفة واحدة جديدة محمودة، وأما نتيجة إحداث الطفرات على الإنسان فالمثال الحي ما حدث للسكان الأبرياء في هيروشيما وناجازاكي عام 1945 حيث لم يكتسب ناج بعد إلقاء القنبلتين النوويتين أي صفة وراثية محمودة سوى التشوهات التي طالت الأجنة في بطون الأمهات وإصابة مختلف الأعمار بالسرطان, وفوق ذلك لم يعثر على أي من الأشكال الانتقالية التي من المفترض أن تدعم التطور التدريجي, وكشف التشريح المقارن كذلك أن الأنواع التي يفترض أنها تطورت بعضها من بعض تتسم بسمات تشريحية بعيدة الاختلاف مما يستبعد الانتقال التدريجي, ولذا استبدل بفرضية التطور بقفزات كبيرة متفرقة في بداية السبعينيات.
فاقترح بعضهم على سبيل المثال أن أول طائر خرج من بيضة إحدى الزواحف كطفرة هائلة؛ أي نتيجة صدفة ضخمة حدثت في التركيب الجيني, ولكن الطفرات لا تؤدي سوى إلى تلف المعلومات الوراثية ومن ثم فإن الطفرات الكبيرة لن ينتج عنها إلا تلفيات كبيرة، ولكن هل نشأت الحياة ذاتها كطفرة فجائية كبيرة! وهل نشأ الكون ذاته كذلك كطفرة ضخمة!, ومضمون الداروينية الجديدة تراكم طفرات عشوائية في التركيب الجيني تدريجيا أو فجائيا ويتم انتقاء سمات أنفع بآلية الانتقاء الطبيعي كأساس للتطور!, ولكنها بوجهيها كالدارونية القديمة تماما لم تكن نظرية علمية أبداً بل كانت مبدأ فلسفي يروج للإلحاد بخفاء حذر, ولو صح الانتقال التدريجي أو الفجائي في نشأة الأنواع فلن يكون ذلك مصادفة بل كعمليات خلق موجهة بوعي.
(3) التزوير في تاريخ الداروينية:
يقوم الداروينيون بإعادة البناء بالرسوم أو النماذج استناداً إلى بقايا المتحجرات باستخدام التخمين، ويمكنك أن تشكل من جمجمة نموذجا بملامح شمبانزي أو بقسمات فيلسوف ولذا لا تحظى بأي قيمة علمية وإن ضللت العامة, وتعد الرسوم الثلاثة المختلفة لمتحجرة القرد الأفريقي الجنوبي القوي (Australopithecus robustus) Zinjanthropus مثالاً شهيراً لمثل هذا التزييف.
ومع ذلك فإن هذه الحيل تبدو بريئة إذا ما قورنت بأعمال التزييف المتعمدة التي ارتكبت في تاريخ الداروينية, فلا يوجد دليل حفري موثوق على وجود حلقة وسيطة بين الإنسان وأقرب الثدييات شبها, فادعى تشارلز داوسون عام 1912 الحلقة المفقودة بعثوره على جزء من جمجمة وعظمة فك داخل حفرة في بيلتداون بإنكلترا فسماه إنسان بِلتْداون Piltdown Man, وعرضت العينة في المتحف البريطاني بزعم أن عمرها خمسمائة ألف سنة وكُتب عنهما ما لا يقل عن خمسمائة رسالة دكتوراه، ولم تكتشف الخدعة إلا عام 1949 عندما اختبر المتحف عمرها بطريقة الفلورين فتبين أن الجمجمة عمرها نحو خمسمائة سنة والفك حديث العهد يرجع لقرد والأدوات الحجرية الموضوعة معهما مقلَّدة فأعلنت الفضيحة عام 1953 على الجمهور.
وفي عام 1922 أعلن مدير المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي عن عثوره على ضرس متحجرة في نبراسكا يحمل صفات مشتركة بين الإنسان والقرد، فسماه البعض إنسان نبراسكا كما أُعطي له في الحال اسماً معقدا صعب النطق حتى يضفي نوعا من العلمية هو هسبيروبايثيكوس هارولدكوكي Hesperopithecus Haroldcooki, واستناداً إلى الضرس الأوحد رُسمت الرأس وأعيد بناء الجسد تخمينا بل تم رسمه مع زوجته, ولكن في عام 1927 عُثر على أجزاء أخرى من نفس الهيكل العظمي وتبين أن ذلك الضرس الأوحد يخص نوعاً منقرضاً من الخنازير البرية يسمى بروثينوبس Prosthennops.(/4)
وشجرة عائلة الإنسان المزعومة تمتد إلى القرد الأفريقي الجنوبي Australopithecus, ومنه نشأ الإنسان مستخدم الأدوات Homo habilis ثم الإنسان منتصب القامة Homo erectus, وأخيرا ظهر الإنسان العاقل Homo sapiens, وأما التصورات الحديثة بنشأة الإنسان في غير أفريقيا أو أنه عاش بجانب القرد الأفريقي فهي دليل على التخبط, والطريقة التي تتحرك بها القردة أسهل وأسرع وأكفأ من مشية الإنسان على قدمين فهو لا يستطيع أن يتحرك بالقفز بين الأشجار, ووفقاً لمنطق نظرية التطور كان حرياً به من هذا الجانب أن يتطور ليصبح من ذوات الأربع, وتبلغ أنواع القردة أكثر من ستة آلاف نوع لم يتبق منها اليوم سوى حوالي مئة وعشرين نوعاً فقط وتمثل البقية المنقرضة مصدراً ثرياً لتزييف الحقائق, والمتحجرات التي يدّعى أنها أسلاف للإنسان فإنها إما تخص قرودا منقرضة أو تخص أجناساً بشرية قديمة عاشت حتى فترة قريبة ولها نفس الهيئة والصفات الجسدية لبعض المجتمعات البشرية اليوم, وفي البحث الحديث الذي أجري في عام 1994 حول قنوات التوازن في الأذن الداخلية تم تصنيف القرد الجنوبي والإنسان مستخدم الأدوات ضمن فئة القردة بينما صُنّف الإنسان منتصب القامة ضمن فئة البشر, وأشهر العينات المكتشفة في أفريقيا ونسبت زورا للإنسان منتصب القامة هي تلك التي عُثر عليها قرب بحيرة توركانا في كينيا ثم تبين لاحقا أنها لغلام في الثانية عشر من عمره لذا سميت متحجرة غلام توركانا Turkana Boy, وما سموه بالنياندرتاليين Neanderthals هم جنس بشرى قد أثبتت الكشوف أنهم كانوا يدفنون موتاهم ويصنعون الآلات الموسيقية, وإذا كانت سعة الجمجمة معيارا للذكاء فالإنسان الكرومانيوني Cro-Magnon أكثر ذكاء من الإنسان حاليا لأن سعة جمجمته أكبر*.
(4) فلسفة استعمارية:
افترض داروين صراع قاس من أجل البقاء في الطبيعة تزول معه أشكال ضعيفة لم تتكيف مع بيئتها تتولد ذاتيا دوما وتبقى أخرى نجحت الصدفة في إبداعها بطريقة أحكم, وبذلك يكون التطور سلسلة من المنتخبات تميزت فيها الأنواع عبر حلقات وسيطة عديدة, ولذا كان العنوان الكامل لكتابه الأول الذي نشر عام 1859 واشتهر باسم "أصل الأنواع" هو: "أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي أو الحفاظ على الأجناس المفضلة في الصراع من أجل الحياة The Origin of Species by Means of Natural Selection or the Preservation of Favoured Races in the Struggle for life", ولكن علم الأحافير قد قدم ضربات أليمة لفرضية دارون فقد استنفذ الجهد ولم يعثر على أي حلقة وسيطة قط وفعل علم الأحياء نفس الشيء ولم يعثر على كائن واحد قط من أصغر خلية إلى أكبر حيوان غير متكيف مع بيئته تشريحيا ووظيفيا وسلوكيا.
وفي كتابه الثاني "سلالة الإنسان The Descent of Man" قدم دارون عام 1871 مزاعم حول تطور الإنسان من كائنات شبيهة بالقرود, فبدأ البحث والتنقيب ليس عن متحجرات فحسب بل عن سلالات بشرية حية تمثل الحلقات الوسيطة, فقام أحدهم عام 1904 في الكونغو باصطياد رجل أفريقي متزوج ولديه طفلين، وبعد تقييده بالسلاسل ووضعه في قفص كالحيوان نُقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم عرضه على الجمهور في إحدى حدائق الحيوان تصحبه بعض القردة بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان الغربي الأبيض, وأخيرا انتحر الرجل المسالم الذي كان يسمى بلغته المحلية أوتا بينجا Ota Benga بمعنى: الصديق*, وليس من قبيل الصدفة أن يُكتب في بروتوكولات حكماء صهيون العبارة التالية: "لاحظوا هنا أن نجاح دارون Darwin.. قد رتبناه من قبل والأمر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي (غير اليهودي) سيكون واضحاً لنا على التأكيد"(4), والزعم بصراع حضارات الأجناس البشرية ليس إلا غرضا استعماريا يتخفى بعباءة علمية زائفة ومضمونه تمييز عنصري, وهو جد الزعم بالإنسان الأمثل Superman سليل الإنسان الغربي الأبيض الذي يسود وتنقرض بقية الشعوب أو تصبح له عبيد, وما زالت البشرية تدفع ثمنا باهظا نتيجة لهذه الأفكار الزائفة التي جعلت دولا معاصرة تمارس همجية الغاب بادعاءات كاذبة.
(5) رأي الكنيسة:
اعتمادا على سفر التكوينgeneses رفضت الكنيسة الداروينية ليس لسبب تجاهل تدبير الله فحسب وإنما لمصادمة نصوص يستحيل حملها على التطور تدل على أن آدم هو اسم أول إنسان على الأرض وأنه خلق مباشرة من ترابها بلا أطوار تسبقه: "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة" تكوين 7, وأنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة: "فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم" تكوين 21و22, ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم وإلا شككت في صحة التدوين.
(6) رأي الباحثين المسلمين:(/5)
رفض جُل الباحثين المسلمين الداروينية إجمالا باعتبارها أحد شباك الإلحاد كما يُرفض الطعام كله إذا خالطه سم, قال الدكتور أحمد أبو خطوة: "نحن كمسلمين لا نتفق إجمالا مع نظرية التطور إن لم تُدخل في اعتبارها القدرة والمشيئة الإلهية"(5), واكتفى البعض برفض الصدفة وتوقفوا في إمكان الأطوار المقدرة كتفسير للتنويع الهائل في أشكال الكائنات الحية على الأرض, فوافقوا نظريات حديثة تجعل التقدير أساسا للتطور إن صح كمقولة التطور الموجه بوعي Rational Directed Evolution وتجنبوا الخوض فيما لم يفصل فيه العلم بعد؛ فقد جاء في فتاوى الأزهر: "ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر، وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى، قال بعض العلماء: إنه لا يوجد فى النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعة واحدة أو بتكوين متمهل على انفراد فسبيل ذلك التوقف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده ما دام أن الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى, ثم إن النواميس المذكورة فى مذهب داروين ظواهر واضحة في الكون ولا حرج في اعتقادها ما دام أن الله هو الذي خلقها ووجهها فهي لا تحقق وجودها من نفسها: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ} الأنعام 102، فهو خالق المادة والنواميس"(6), "(ولكن) قولهم إن المخلوقات خُلقت عشوائيا بغير تدبير سابق وعلم محكم يرده قول اللّه سبحانه {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر 49"(7).
وقال الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم: "يقرر العلم الحديث أن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت على شواطئ المسطحات المائية حيث يتكون بجوارها الطين الذي نشأ منه.. النبات فالحيوان فالإنسان وأن هذا التطور في حالات الطين وأشكاله.. حدثت عبر ملايين السنين حتى أثمرت.. وكان أكمل وأكرم ثمره من ثمارها في النهاية هو الإنسان, والقرآن الكريم لم يبين لنا كيف تفرعت هذه الشجرة حتى كان الإنسان أحد فروعها ولكنه أشار في أكثر من آية إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان وعالم الأحياء الناشئ من الماء الممزوج بالتراب, ففي قوله تعالى: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ" النور 45, وقوله سبحانه: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ" الأنبياء 30؛ دلالة قوية على أن الأحياء كلها ومنها الإنسان مخلوقة من مادة واحدة هي الماء"(8),
وقال سيد قطب: "شطر الآية.. "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ" الأنبياء 30؛.. يقرر.. حقيقة.. أن الماء هو مهد الحياة الأول.. وأقصى ما يُقال.. إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات"(9).
وساق البعض نقولا عن علماء مسلمين تصرح بأن التدريج مع التنويع وتطور الأشكال ظاهرة واضحة في الكون ولا تُعارض أن الله تعالى هو المدبر وإنما تُبين كيف بدأ الخلق, فغاية الوجود معرفة الله وعبادته ولذا كانت الوجهة منذ خلق الكون والأرض هي إيجاد الإنسان صاحب الفكر ليقوم بالمهمة, والتطوير دليل على التقدير وإلا ما كانت الوجهة دائما نحو الأرقى, قال ابن خلدون: "أنظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج, آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف.., ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر"(10), وقال البروسوي: "يكون الإنسان في زمرة الجمادات وأول نعمة عليه أن الله تعالى كرمه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات ثم عظم شأنه فنقله من عالم النبات إلى عالم الحيوان فجعله حساسا متحركا بالإرادة ثم نقله إلى عالم الإنسان فجعله ناطقا وهى نعمة أخرى أعظم مما سبق"(11), وفي تفسير الميزان: "العناية الإلهية تهدي أنواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها"(12).(/6)
ولكن علماء الإسلام لم يستخدموا كلمة التطور Evolution على نحو ما تعنيه في الداروينية وإنما بمعنى الترقي المتدرج في التنويع بيانا لوحدانية الله تعالى وقدرته, فوحدة الخلق في الأصل والطبيعة دليل على وحدانيته وطيف التدرج الواسع في التنويع دليل على قدرته تعالى, قال جوهري: "سنة التطور والارتقاء .. تجري عليها الطبيعة في جميع أركانها من الذرة.. إلى النظام الشمسي"(13), و"سنة الكون الترقي من أسفل إلى أعلى"(14).. "لا يُخلق الأعلى إلا بعد خلق الأدنى فلم يُخلق الحيوان إلا بعد خلق النبات ولم يُخلق الإنسان إلا بعد خلق الحيوان(15), ولكن "شعار الكون هو ذا: الوحدة في التفنن, فإن صعدت في سلم العوالم وجدت وحدة النظام والخلقة مع تفنن لا يعرف حده في تلك الأجرام الفلكية, وإن أجلت بنظرك في مراتب الحياة من (أدنى) الكائنات إلى أعلاها وجدت وحدة التناسب والتسلسل, كذلك القوى الطبيعية كلها صادرة بالتسلسل عن قوة أصلية واحدة"(16), وقد "خلق اللهُ العالم من مادة واحدة ليستدلوا على (وحدانيته) وقدرته"(17), وفي بيان الحكمة وراء خلق الجنين الإنساني في أطوار قال ابن عاشور: "التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة"(18), و"الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته فإن تطور الخلق.. والذاتُ واحدة.. دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار"(19), وقال سيد قطب: "ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة, ولكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطوراً من بعض"(20).(/7)
وتجنب آخرون المأثور وسلكوا مسلك التأويل على وجه غير شائع في التفسير بغير جزم, فقالوا مثلا: الزواحف تمشي غالبا على بطنها كالتمساح لثقله وتمشي الطيور على رجلين والثدييات على أربع؛ فإذا كان هذا هو ترتيب خلق أنواع الحيوان قبل الإنسان فهو نفس الترتيب مع بيان وحدة الأصل في قوله تعالى: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" النور 45, ولم يقل القرآن بأن الطين أصل مباشر للإنسان بل جعله بداية فحسب: "الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ" السجدة 7، ولم يعتمد القرآن رواية الضلع المفقود وإنما أفاد اصطفاء آدم كالأنبياء من بين أقوامهم وبقية الأجناس مما يحتمل أنه نبي جد رأس أمة: "إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" آل عمران 33, وفي قوله تعالى: "إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" آل عمران 59؛ قد يقال أن عيسى كآدم وكانت نشأته مباشرة فكذلك يجب أن تكون نشأة آدم من التراب مباشرة, ولكن لا توجد دلالة صريحة على خلق آدم فجأة وإنما المقام بيان للاقتدار فالمثلية في الاقتدار وظاهر المعنى أن الذي قدر على إيجاد آدم من تراب رغم الفرق الشاسع بينهما أهون عليه خلق عيسى نظيره بلا أب, وتقدير خلق آدم أطوارا يعمق الفرق ويبين القصد ويجلي الاقتدار, والقول بخلق الإنسان أطوارا يفيد أن خلقه هو المقصود على طول أطوار خلق العالم, ولذا يرجعه القرآن عند التفصيل إلى صلصال أو طين لازب, وفي قوله تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ" الحجر 26؛ الحمأ المسنون أشبه ما يكون بصخر ناري طحنته السنون وكلها أحوال مرت بها الأرض, وعندما يحدثك القرآن قائلا: "خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" العلق 2؛ فلا يعني خلق الجنين مباشرة مما يماثل علق البرك وكذلك النوع, وقوله تعالى: "خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" الأنبياء 37؛ يرجع الإنسان للحالة الأولى للكون حيث لم تكن مادة وإنما موجة أو اهتزازة تتردد في عجل كتعبير عن الشيء بلازمه, والمقام يتعلق بمادة خَلقه وطبيعته بعكس السائد أنه وصف لخُلُقه وطبعه نحو قوله تعالى: "وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً" الإسراء 11, ولكن الفيزياء نجحت بالفعل في إثبات توحد معظم القوى وتسعى جاهدة لإثبات توحدها جميعا في حالة سميت بالتوحد الكبير super unification أساسها قوة واحدة سميت بالقوة الكبرى Super Force قد نشأت منها كل القوى والمواد وتطورت أشكال الذرات والمجرات وأخيرا ظهر الإنسان, وفي قوله تعالى "مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً" نوح 13و14؛ قالوا: لا قيد يخصص الوصف بأطوار الجنين وظاهره مجموع النوع الإنساني منذ كان نباتا خاصة مع الاستطراد بعده بآيتين: "وَاللّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرْضِ نَبَاتاً" نوح 17, قال الجاعوني: "الكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة.. (و)استدلّ بها (الشيخ الوائلي) على أنها قد تشير إلى خلق الإنسان التدريجي من طور إلى آخر.. (وقال) هذه النظريّة أي تطوّر النبات إلى حيوان ثمّ إلى إنسان.. إذا قلنا.. عفوًا (أي ذاتيا صدفة؛ فهي) مرفوضة من أساسها.. (لأنه) لا شيء عفوًا بل بإرادة الله, (و)إذا قلنا.. (بتقدير) الخالق.. لا عفوًا فلا ضير من ذلك"(21), ومجمل القول أنه لو ظهر يوما ما بمعزل عن الداروينية دليل يرجح التطور بتقدير الله فالإسلام لا يصادم حقيقة مطلقًا أما اليوم فالدليل مفقود, والاستنصار لنشأة الإنسان خاصة من الحيوان بلا دليل علمي يؤيد تحوله ولا قرينة صارفة لظواهر المأثور سيظل كذلك ادعاء محل شك, ويسبق القرآن في بيان أول حالة للكون دليلا على الوحي وتأكيدا لخلق الإنسان بتقدير وقصد مهما كانت الكيفيات كحلقة متميزة من جملة حلقات موجهة بوعي منذ البدء؛ وذلك وفي قوله تعالى: "خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ" الأنبياء 37.
________________________________________
(1) “The whole history of science has been the gradual realization that events do not happen in an arbitrary manner, but that they reflect a certain underlying order.” (Brief history of Time, page 140)
(2) "So long as the universe had a (Certain one) beginning .. it had a (Certain one) Creator." (Brief history of Time, page 122)
(3) تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج21ص259.
(4) بروتوكولات حكماء صهيون, البروتوكول الثاني.(/8)
(5) د. أحمد نبيل أبو خطوة العدد الخامس من مجلة الإعجاز العلمي.
(6) فتاوى الأزهر ج7ص399.
(7) فتاوى الأزهر ج7ص412, مجلة الأزهر ج2ص749, مجلة الهداية البحرين عدد مارس 1993.
(8) القرآن وإعجازه العلمي - الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم ج 1ص97.
(9) في ظلال القرآن لسيد قطب المتوفى سنة 1386 هـ ج5ص155.
(10) مقدمة ابن خلدون ج1ص40.
(11) تفسير حقي البروسوي المتوفى سنة 1137 هـ ج13ص71.
(12) تفسير الميزان للطباطبائي المتوفى سنة 1402 هـ ج9ص293.
(13) تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج7ص140.
(14) تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج2ص48.
(15) تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج2ص180.
(16) تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ج1ص146.
(17) تفسير الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393هـ ج11ص101.
(18) تفسير الطاهر بن عاشور المتوفى سنة 1393هـ ج15ص337.
(19) في ظلال القرآن لسيد قطب المتوفى سنة 1386 هـ ج3ص195.
(20) النشوء والارتقاء ورؤية القرآن للخلق - تاج الدين محمود الجاعوني.
(21) خديعة التطور - عدنان أوكطار (هارون يحيى, جاويد يالجن):
المرجع الرئيس للمعلومات العلمية باختصار وتصرف.(/9)
التقديم والتأخير في القرآن
مقدمة:
من المسلم به أن الكلام يتألف من كلمات أو أجزاء , وليس من الممكن النطق بأجزاء أي كلام دفعة واحدة .من أجل ذلك كان لا بد عند النطق بالكلام من تقديم بعضه وتأخير بعضه الآخر .وليس شيء من أجزاء الكلام في حد ذاته أولى بالتقديم من الآخر .لأن جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ تشترك في درجة الاعتبار, هذا بعد مراعاة ما تجب له الصدارة كألفاظ الشرط والاستفهام . وعلى هذا فتقديم جزء من الكلام أو تأخيره لا يرد اعتباطاً في نظم الكلام , وتأليفه وإنما يكون عملاً مقصوداً يقتضيه غرض بلاغي أو داع من دواعيها .
إن ما يدعو بلاغياً إلى تقديم جزء من الكلام هو هو ذاته ما يدعو بلاغياً إلى تأخير الجزء الآخر . وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يكون هناك مبرر لاختصاص كل من المسند إليه والمسند بدواع خاصة عند تقديم أحدهما أو تأخيره عن الآخر , لأنه إذا تقدم أحد ركني الجملة تأخر الآخر , فهما متلازمان .(1)
إن تقديم الألفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول، يجمعها قولهم: إن التقديم إنما يكون للعناية والاهتمام. فما كانت به عنايتك أكبر قدمته في الكلام. والعناية باللفظة لا تكون من حيث أنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال. ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر لأن مراعاة مقتضى الحال تقتضي ذاك. والقرآن أعلى مثل في ذلك فإنا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام. فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر كل ذلك بحسب ما يقتضيه القول وسياق التعبير.
فإذا قيل لك مثلاً: لماذا قدم السماء على الأرض هنا؟ قلت لأن الاهتمام بالسماء أكبر ثم إذا قيل لك ولماذا قدم الأرض على السماء في هذه الآية قلت لأن الاهتمام بالأرض هنا أكبر، فإذا قيل: ولماذا كان الاهتمام بالسماء هناك أكبر وكان الاهتمام بالأرض هنا أكبر؟وجب عليك أن تبين سبب ذلك وبيان الاختلاف بين الموطنين بحيث تبين أنه لا يصح أو لا يحسن تقديم الأرض على السماء فيما قدمت فيه السماء أو تقديم السماء على الأرض فيما قدمت فيه الأرض بياناً شافياً. وكذلك بقية المواطن الأخرى ,ولم يكتف القرآن الكريم بمراعاة السياق الذي وردت فيه فحسب بل راعى جميع المواضع التي وردت فيها اللفظة ونظر إليها نظرة واحدة شاملة في القرآن الكريم كله. فنرى التعبير متسقاً متناسقاً مع غيره من التعبيرات(2) .
أسباب التقديم والتأخير في القرآن :
قال السيوطي:أما أسباب التقديم والتأخير وأسراره فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع :
الأول :التبرك كتقديم اسم الله في الأمور ذوات الشأن .ومنه قوله: )شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَا ([آل عمران:18].
الثاني: التعظيم ,كقوله: )وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ ([النساء:69]
الثالث: التشريف, كتقديم الذكر على الأنثى في نحو: )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات( [الأحزاب:35]الآية.
والحي في قوله: )يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ .... ([الروم:19]والخيل في قوله:) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا([النحل:8]والسمع في قوله: )إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَاد( [الإسراء:36].
حكى ابن عطية عن النقاش أنه استدل بها على تفضيل السمع على البصر(3) ,ولذا وقع في سمعه تعالى:) سَمِيعٌ بَصِيرٌ([الحج:61]بتقديم السمع.وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام وتقديم المؤمنين على الكفار في كل موضع .وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال .والسماء على الأرض.والشمس على القمر.ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله :) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة([المؤمنون:92]لأن علمه أشرف(4).
الرابع:المناسبة,وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام ,كقوله:) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ([النحل:6]فإن الجمال بالجمال وإن كان ثابتاً حالتي السراح والإراحة إلا أنها حالة إراحتها ,وهو مجيئها من المرعى آخر النهار ,يكون الجمال فيها أفخر ؛إذ هي فيه بطان ,وحالة سراحها للرعي أول النهار يكون الجمال بها دون الأول ؛إذ هي فيه خماص.
الخامس:الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به؛كتقديم الوصية على الدين في قوله:) مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن([النساء:11]مع أن الدين مقدم عليها شرعاً.(/1)
السادس:السبق,وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد؛كتقديم الليل على النهار,والظلمات على النور,وآدم على نوح ,ونوح على إبراهيم ,وإبراهيم على موسى ,وهو على عيسى,وداوود على سليمان ,والملائكة على البشر في قوله:) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس([الحج:75]والأزواج على الذرية في قوله:) قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِك([الأحزاب:59]والسنة على النوم في قوله:) لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ([البقرة:255]أو باعتبار الإنزال,كقوله:) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ([الأعلى:19]) وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَان([آل عمران:3،4]أو باعتبار الوجوب والتكليف،نحو:) ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا([الحج:77]
أو بالذات,نحو:) مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ([المجادلة:7]وأما قوله:) أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى([سبأ:46]فللحث على الجماعة والاجتماع على الخير.
السابع:السببية؛كتقديم العزيز على الحكيم؛لأنه عز فحكم .والعليم عليه؛لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم.ومنه تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة ؛لأنها سبب حصول الإعانة .وكذا قوله:) إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ([البقرة:222]لأن التوبة سبب للطهارة
الثامن:الكثرة,كقوله:) فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن([التغابن:2]لأن الكفار أكثر(5) ,قلت فقدمهم على المؤمنين.قيل :وقدم السارق على السارقة؛لأن السرقة في الذكور أكثر.والزانية على الزاني فيهن أكثر. ونحو قوله:) أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ( [البقرة:125] فكل طائفة هي أقل من التي بعدها فتدرج من القلة إلى الكثرة. فالطائفون أقل من العاكفين لأن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة. والعكوف يكون في المساجد عموماً والعاكفون أقل من الراكعين لأن الركوع أي الصلاة تكون في كل أرض طاهرة أما العكوف فلا يكون إلا في المساجد . والراكعون أقل من الساجدين وذلك لأن لكل ركعة سجدتين ثم إن كل راكع لا بد أن يسجد وقد يكون سجوداً ليس فيه ركوع كسجود التلاوة وسجود الشكر فهو هنا تدرج من القلة إلى الكثرة. ولهذا التدرج سبب اقتضاه المقام فإن الكلام على بيت الله الحرام. قال تعالى:) وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ( [البقرة:125]فالطائفون هم ألصق المذكورين بالبيت لأنهم يطوفون حوله، فبدأ بهم ثم تدرج إلى العاكفين في هذا البيت أو في بيوت الله عموماً ثم الركع السجود الذين يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم وسجودهم في كل الأرض.
ونحوه قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ([الحج:77] فبدأ بالركوع وهو أقل المذكورات ثم السجود وهو أكثر ثم عبادة الرب وهي أعمّ ثم فعل الخير.
وقد يكون الكلام بالعكس فيتدرج من الكثرة إلى القلة وذلك نحو قوله تعالى:) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ([آل عمران:43] فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة ثم السجود وهو أخص وأقل من عموم العبادة التي هي القنوت ثم الركوع وهو أقل وأخص منهما.
التاسع:الترقي من الأدنى إلى الأعلى,كقوله:) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا....([الأعراف:195]الآية.بدأ بالأدنى لغرض الترقي, لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر.
العاشر:التدلي من الأعلى إلى الأدنى .كقوله:) لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا( [الكهف:49]) لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْم([البقرة:255].
وزاد غيره أسباباً أخر ؛منها كونه أدل على القدرة وأعجب ؛كقوله:) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ([النور:45].وقوله:) وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ([الأنبياء:79].
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير ؛لأن تسخيرها له وتسبيحها له أعجب,وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ؛لأنها جماد،والطير حيوان ناطق(6).(/2)
وقد يكون التقديم لغرض آخر كالمدح والثناء والتعظيم والتحقير وغير ذلك من الأغراض، إلا أن الأكثر فيه أنه يفيد الاختصاص. ومن التقديم الذي لا يفيد الاختصاص قوله تعالى:) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ([الأنعام:84]فهذا ليس من باب التخصيص إذ ليس معناه أننا ما هدينا إلا نوحاً وإنما هو من باب المدح والثناء. ونحو قوله:) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ([الضحى:9,10] إذ ليس المقصود به جواز قهر غير اليتيم ونهر غير السائل وإنما هو من باب التوجيه فإن اليتيم ضعيف وكذلك السائل وهما مظنة القهر فقدمهما للاهتمام بشأنهما والتوجيه إلى عدم استضعافهما(7).
استثناء من الاطراد:
مر بنا أن التقديم والتأخير جاء في القرآن لأسباب قد بيناها وهي تكاد أن تكون قواعد مطردة ولكن قد تشذ تلك القواعد شيئاً بسيطاً عن الاطراد المعهود, سنبينها باختصار مع بيان أسباب ذلك :فقد قدم هارون على موسى في سورة طه رعاية للفاصلة لأن المعهود المطرد تقديم موسى على هارون, وأما تقديم الأنعام في قوله:) تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُم([السجدة:27]فلأنه تقدم ذكر الزرع ,فناسب تقديم الأنعام ,بخلاف آية عبس فإنه تقدم فيها :) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ([عبس:24]فناسب تقديم لكم(8).
وهكذا لو تقصينا الألفاظ التي تأخرت عن تقديمها المعهود لوجدنا الحكمة في ذلك واضحة جلية وليس المراد في هذا البحث استقصاء كل شاردة وواردة وإنما وضع لمسات بيانية يتضح منها المقصود علماً أنني قد أوردت في ثنايا هذا البحث بعض تلك الاستثناءات تجدها في مضانها والله تعالى أعلم .
السمع قبل البصر:
ورد في القرآن الكريم لفظي السمع و البصر معاً ( 19) تسعة عشر مرةً ، و ذكر في (17) سبعة عشر موضعاً لفظة السمع قبل البصر وقد بينا في أسباب التقديم والتأخير أن من بينها (التشريف) أي أن الله سبحانه قدم لفظة السمع على البصر لشرف السمع وأهميته ولا يخفى على أحد ممن تدبر وتأمل في هذه الحاسة العجيبة ولكن لنرى ما يقوله أصحاب الاختصاص :
1 ـ تبدأ وظيفة السمع بالعمل قبل وظيفة الإبصار . فقد تبين أن الجنين يبدأ بالسمع في نهاية الحمل و قد تأكد العلماء من ذلك بإجراء بعض التجارب حيث أصدروا بعض الأصوات القوية بجانب امرأة حامل في آخر أيام حملها ، فتحرك الجنين استجابة لتلك الأصوات ، بينما لا تبدأ عملية الإبصار إلا بعد الولادة بأيام قال تعالى :) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً( [الإنسان:2]
2- ومن الحقائق التي تجعل السمع أكبر أهمية من البصر هي أن تعلم النطق يتم عن طريق السمع بالدرجة الأولى ، وإذا ولد الإنسان وهو أصم ، فإنه يصعب عليه الانسجام مع المحيط الخارجي و يحدث لديه قصور عقلي وتردٍ في مدركاته وذهنه ووعيه . وهناك الكثير من الذين حرموا نعمة البصر وهم صغار أو منذ الولادة ومع ذلك فقد تعلموا درجة راقية من الإدراك والعلم حتى الإبداع ولكننا لم نسمع بأن هناك إنساناً ولد وهو أصم ، أو فقد سمعه في سنوات عمره الأولى ثم ارتقى في سلم المعرفة . وذلك لأن التعلم والفهم يتعلقان لدرجة كبيرة بالسمع ، والذي يفقد سمعه قبل النطق لا ينطق .ولذلك ربطت الآية القرآنية العلم بالسمع أولاً ثم البصر فقال تعالى:)و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون ([النحل:78].
3 ـ العين مسئولة عن وظيفة البصر أما الأذن فمسئولة عن وظيفة السمع والتوازن . و قد تكون العبرة في هذا الترتيب أكثر من ذلك. و الله أعلم بمراده(9).
ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا الأفضلية وهو أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية فقدم ذا المدى الأقل متدرجاً من القصر إلى الطول في المدى ولذا حين قال موسى في فرعون ) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى([طه:45] قال الله تعالى :) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى( [طه:46] فقدم السمع لأنه يوحي بالقرب إذ الذي يسمعك يكون في العادة قريباً منك بخلاف الذي يراك فإنه قد يكون بعيداً وإن كان الله لا يند عن سمعه شيء(10)
قلت وكذلك فإن السمع لا يمنعه الحاجز المادي من أداء عمله بخلاف البصر فإنه تمنعه الحواجز من إدراك الأشياء والله أعلم .
السمع قبل العلم :(/3)
وقع في القرآن الكريم تقدم السمع على العلم كذلك كقوله تعالى:) وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( [البقرة:137]وقوله:) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ([الأنفال:61]وذلك أنه خبر يتضمن التخويف والتهديد. فبدأ بالسمع لتعلقه بالأصوات وهمس الحركات فإن من سمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وشطن. ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم.ويمكن أن يقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه.(11)
نماذج من بلاغة القرآن :
1- نقرأ في وصف المنافقين , وفي وصف الكافرين ,هاتين الآيتين من سورة البقرة )صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ([البقرة:18]) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ([البقرة:171]وتقديم الصم , هنا جاء في غاية الإحكام , لأن بداية ضلال أولئك الأقوام , حينما أصاخوا بسمعهم عن آيات الله التي تتلى عليهم .
ونقرأ في مشهد من مشاهد يوم القيامة عن أولئك الذين ضلوا سواء السبيل )وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا([الإسراء:97]لقد تغيرت الصورة هنا . لذلك تغير معها نسق القول , ذلك لأن السماع لم ينفع أولئك الناس يوم القيامة شيئاً ولا يعود عليهم بخير , ثم إن العمى هو من أشد الأمور مشقة وأكثرها صعوبة عليهم في ذلك اليوم (12).
2- تحدث القرآن الكريم في آيات كثيرة عن الجن والإنس , ولكن الذي يلفت الانتباه , ما نجده في النظم القرآني البديع , من تقديم الجن تارة , وتقديم الإنس أخرى , وهذا ما يستدعيه السياق , وتوجيه الحكمة البيانية , ففي سياق التحدي بالقرآن الكريم , يقدم الإنس على الجن , لأن الإنس هم المقصودون بالتحدي أولاً وقبل كل شيء , قال تعالى:) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا([الإسراء:88]
أما في سياق التحدي بالنفوذ من أقطار السموات والأرض , فلقد قدم الجن؛ لأنهم أقدر على الحركة من الإنس.
قال تعالى:) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ([الرحمن:33] والدليل على أن الجن أقدر من الإنس في مجال الحركة هو قوله تعالى في سورة الجن :) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً([الجن 8 ـ 9].
أما قوله سبحانه )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون([الذاريات:56]فلقد قدم الجن على الإنس ؛ لأنه قد روعي السبق الزمني , فإن الجن مخلوقون قبل الإنس (13)
قلت: والدليل على أن الجن مخلوقون قبل الإنس قوله تعالى:) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ([الحجر:26,27]
3 - تقديم لفظ الضرر على النفع وبالعكس :حيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع. قال تعالى:) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّه([الأعراف:188] فقدم النفع على الضرر وذلك لأنه تقدمه قوله:) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ([الأعراف:178] فقدم الهداية على الضلال وبعد ذلك قال:) وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( [الأعراف:188] فقدم الخير على السوء ولذا قدم النفع على الضرر إذ هو المناسب للسياق.
وقال تعالى:) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّه ( [يونس:49] فقدم الضرر على النفع وقد قال قبل هذه الآية :) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ([يونس:11] وقال:) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ([يونس:12] فقدم الضر على النفع في الآيتين . ويأتي بعد هذه الآية قوله:) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون ([يونس:50]فكان المناسب تقديم الضرر على النفع ههنا.(/4)
وقال:) قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ([الرعد:16]فقدّم النفع على الضرر، قالوا: وذلك لتقدم قوله تعالى:) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( [الرعد:15] فقدم الطوع على الكره. وقال:) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّا ( [سبأ:42]فقدم النفع على الضر قالوا: وذلك لتقدم قوله:) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( [سبأ:39] فقدم البسط. وغير ذلك من مواضع هاتين اللفظتين.
إعداد/قسطاس إبراهيم النعيمي
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - علم المعاني –البيان – البديع/الدكتور : عبد العزيز عتيق/ دار النهضة العربية – بيروت.(133) .
(2) - من موقع منتديات القرآن الكريم /أحمد سعد الدين .
(3) - سيأتي مبحث تقديم السمع على البصر .
(4) - معترك الأقران في إعجاز القرآن / أبي الفضل جلال الدين السيوطي/دار الكتب العلمية-بيروت/الطبعة الأولى/(131-132) .
(5) - المرجع السابق .
(6) - الكشاف:3/101 .
(7) - من موقع منتديات القرآن الكريم .
(8) - معترك الأقران للسيوطي (132) .
(9) - مع الطب في القرآن الكريم تأليف الدكتور عبد الحميد دياب الدكتور أحمد قرقوز / مؤسسة علوم القرآن/ دمشق
(10) - من موقع منتديات القرآن الكريم .
(11) - المرجع السابق .
(12) - إعجاز القرآن الكريم / أ.دفضل حسن عباس,سناء فضل عباس/دار الفرقان/ الطبعة الرابعة / 1422هـ - 2001م/ (217) .
(13) - إعجاز القرآن الكريم (219) .(/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) الأحقاف ( (13والقائل ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) البينة (7). والصلاة والسلام على رسوله الأمين وإمام المتقين، زكى المسلمين وعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، جاءه سفيان بن عبد الله الثقفي يوما فقال: يا رسول الله: حدثني بأمر أعتصم به، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( قل آمنت بالله، ثم استقم ) رواه مسلم.
وبعد:
فإن أفكار الإسلام مفاهيم وليست معلومات لمجود المعرفة، وهي ضوابط لسلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا. فهي قد جاءت هدى ورحمة وموعظة، وجاءت معالجات لأعمال الإنسان وتعيينا لكيفية سلوكه، لذا كان لزاما على المسلم أن يدرك أن نصوص الشريعة قد جاءت للعمل بها، وجاءت خاصة بسلوكه في الحياة، أي يجب على المسلم أن يدرك أن الإسلام جاء بمفاهيم لضبط سلوكه في الحياة الدنيا فيأخذ كل فكر قانونا لضبط سلوكه ضمن هذا القانون، فتظهر فيه الناحية العملية لا الناحية التعليمية. ويجب أن يكون واضحا أنه إذا أخذت فيه الناحية التعليمية وحدها فقد صبغته الأصلية - وهي كونه قانونا لضبط السلوك- وصار معرفة كمعارف التاريخ والجغرافية، فيفقد بذلك حرارة الحياة الموجودة فيه ويفقد كونه مبدأ كاملا شاملا - أي عقيدة عقليه ينبثق عنها نظام مفصل ومتكامل- وإنما يصبح معارف إسلامية يندفع المسلم للإحاطة بها وينقب عنها ويهتم بها كمعلومات وكلذة علمية دون أن يخطر بباله أن يتخذها ضوابط لسلوكه في الحياة.
ولذلك كان من سمات العلماء من السلف الصالح أن يكون الواحد منهم عاملا بعلمه ولا يكذب قوله فعله. قال تعالى ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) البقرة (44)، وكان يحرص على أن لا يكون ممن قال فيهم تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) الجمعة (5)، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: " ويل لجماع القول! ويل للمصرين!" يريد الذين يستمعون القول ولا يعملون به، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " أهلك أمتي رجلان: عالم فاجر، وجاهل متعبد، فقيل يا رسول الله: أي الناس أشر؟ فقال: " العلماء إذا فسدوا"، وقال أبو الدرداء: أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله، أن يقول تعالى قد علمت.. فماذا عملت؟.
ومن هنا كانت معرفة الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية دون ملاحظة اعتبارها ضوابط للسلوك الإنساني هي الآفة التي لم تجعل للأفكار والأحكام أ ثرا في سلوك الكثيرين. هذا مع ما في ذلك من الإثم المبين والعقاب الشديد يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
لقد حرص الإسلام على تكوين الشخصية الإسلامية بالعقيدة الإسلامية، فبها تتكون عقليته، وبها نفسها تتكون نفسيته. فالعقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للأفكار عن الحياة، والنفسية الإسلامية هي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للإشباعات جميعها، وكما أمر الإسلام بالاستزادة من الثقافة الإسلامية لتنمية العقلية حتى تصبح قادرة على قياس كل فكر من الأفكار، فكذلك أمر بالقيام بالواجبات وبالإكثار من المندوبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات والمكروهات والشبهات لتقوى هذه النفسية وتصبح قادرة على ردع كل ميل يخالف الإسلام، وكل ذلك لترقية هذه الشخصية، وجعلها تسير في طريق المرتقى السامي، وتنال رضوان الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة.
إن الدنيا كلها عدوة الإسلام والمسلمين، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، وهم بجميع مذاهبهم ونحلهم يمكرون بأهل الإسلام ليلا ونهارا، وسرا وعلانية، وهم لا يهدأ لهم بال ولا تنام لهم عين ولا يقر لهم قرار حتى يطفئوا نور الله، وهم يعملون جاهدين للحيلولة دون إقامة دولة الخلافة ودون رجوع الإسلام إلى الحياة.(/1)
هذا حال الكفر وأهله، فكيف يمكن مواجهة هذا الكيد العظيم والبلاء المبين؟ إن النهضة التي نريد، واستئناف الحياة الإسلامية التي نرجو، لا بد لها من كفاح مرير بسلاح الفكر المستنير، ولا بد من التصدي للكفر وأعوانه من الحكام والمضبوعين بثقافته وحضارته. لا بد لها أيضا من نفسيات فذة راقية ونفوس عزيزة زاكية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتقوية الصلة بالله تعالى رب العالمين واستمداد العون منه والتوكل عليه حق توكله، وجعل نوال رضوانه المثل الأعلى في هذه الحياة، وكان لا بد من إحياء النفوس بتقوى الله وطاعته بالخوف من عذابه والطمع في جنته، وما أحوج حامل الدعوة إلى طاعة الله والاستقامة على دينه، فإنه إن فعل ذلك هانت الدنيا في عينيه وصغر شأن الكفار من أمامه، واستسهل الصعب، واحتمل العذاب والصد عن سبيل الله، واستهان بوعيد الكفار لوعد الله، ورأى النصر آتيا لا ريب فيه.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) ) محمد.
وهذه بعض القربات و الطاعات التي توجد عند حامل الدعوة الجو الإيماني وتزيد من إدراك صلته بالله تعالى، ومن ثم يقوي هذا الجو نفسية الداعية ويجعله يسير جميع ميوله حسب أوامر الله ونواهيه، وبذلك يحدث ارتباط بين العقلية والنفسية وتصبح شخصية الداعية شخصية متميزة، عقليتها ونفسيتها من جنس واحد، تستندان إلى قاعدة أساسية واحدة، هي العقيدة الإسلامية، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ).
رجب 1411 هـ فوزي سنقرط
الموافق كانون الثاني 1991 م
قربات وطاعات
1- إحسان العمل.
2- تلاوة القرآن الكريم.
3- الحرص على أداء الفرائض.
4- مراعاة سلم القيم.
5- السخاء والإيثار.
6- الإكثار من النوافل.
7- الدعاء والذكر والاستغفار.
8- الخوف من الله تعالى.
9- المحبة في الله.
10- طاعة الأمير.
11- الصبر عند الابتلاء.
12- الثقة بوعد الله.
إحسان العمل
حتى يكون العمل حسنا لا بد فيه من إخلاص القصد لله، وأن يكون موافقا للشرع، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) الملك (2) قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وعن سعيد بن جبير قال: " لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة ". وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا " وعن الإمام مالك أنه قال: " السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق" .
وحامل الدعوة يحرص كل الحرص على إحسان العمل وعلى أن لا يبتغي بدعوته عرضا من الدنيا، وإلا حبط عمله وكان من الخاسرين وقد ورد في الحديث الشريف " من تعلم العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار".
والعبرة بإحسان العمل لا بكثرته ولذلك قال تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا )، ولم يقل ليبلوكم أيكم أكثر عملا، وقد ورد عن مالك بن دينار قوله " قولوا لمن لم يكن صادقا ( في عمله) لا تتعب " وعن أبي أمامة أنه مر برجل ساجد فقال " يا لها من سجدة لو كانت في بيتك " وعن الفضيل بن عياض أنه قال " كم ممن يطوف بهذا البيت وآخر بعيد عنه أعظم أجرا منه ".
ومن هنا يجب مراعاة الإخلاص وحسن النيات في جميع الأعمال، وكانت صحة الأعمال وقبولها عند رب العالمين بالنية. ولذلك لم يكن أمرا مستغربا أن يعتبر العلماء حديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " أحد ثلاثة أحاديث عليها مدار الإسلام. وكان المتقدمون من علماء السلف يستحبون تقديم حديث الأعمال بالنية أمام كل شيء ينشأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها.(/2)
وكان الإخلاص عندهم أن تستوي أفعال العباد في الظاهر والباطن، يقول الإمام الحارث المحاسبي " الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله " وعن الإمام أبي القاسم القشيري: " الإخلاص إفراد الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر: من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق أو أي معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى " .
يقول الحسن بن الربيع عن جهاد الإمام الجليل عبد الله بن المبارك " خرج فارس من المسلمين ملثم فقتل فارسا من العدو كان فعل بالمسلمين فكبر له المسلمون، فدخل في غمار الناس ولم يعرفه أحد، فتتبعته حتى سألته بالله أن يرفع لثامه، فعرفته فقلت: أخفيت نفسك مع هذا الفتح العظيم الذي يسره الله على يدك؟ فقال الذي فعلت له لا يخفى عليه ".
ويقول ابن قتيبه في كتابه عيون الأخبار: " حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا، وكان في ذلك الحصن نقب - أي ثقب في الحائط - فندب الناس إلى دخوله، فما دخله أحد! فجاء رجل من عرض الجيش - أي من عامته غير معروف - فدخله ففتح الله عليه الحصن، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء، فجاء رجل إلى الأذن فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى الآذن إلى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له فقال الرجل لمسلمة: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا: ألا تسودوا اسمه - أي لا تكتبوه في صحيفة إلى الخليفة - ولا تأمروا له بشيء ولا تسألوه ممن هو؟ أي من أي قبيلة هو، قال مسلمة: فذاك له، قال الرجل: أنا هو، فكان مسلمة بعد هذه لا يصلي صلاة إلا قال: " اللهم اجعلني مع صاحب النقب ".
وما اجمل قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يشير إلى عاقبة الإخلاص لله تعالى " فإنما قدر عون الله للعباد على قدر النيات، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر عون الله له ".
ومن علامات الإخلاص الخضوع للحق وقبول النصح ولو ممن كان دونه في المنزلة، فلا يضيق صدره كيف ظهر الحق مع غيره، حكى الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري وهو أحد سادات أهل البصرة وعلمائها وكان قاضيها، قال عبد الرحمن بن مهدي تلميذه: كنا في جنازة فسئل عن مسألة، فغلط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القول فيها كذا وكذا، فأطرق ساعة فقال: إذن ارجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل، رحمه الله.
ومن علامات الإخلاص أن لا يكون جريئا في الفتوى وإعطاء الأحكام، ولذلك كان الكثير من السلف الصالح يتحرز من الفتوى ويتمنى أنه لم يسأل، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذأ إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول "، والذي يحب أن يتصدر المجالس ويسأل ليس أهلا أن يسأل كما أفاد بذلك بشر بن الحارث رحمه الله. وكان الواحد من كبار العلماء لا يخجل من قوله: لا أدري، سئل الشعبي يوما عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراقين قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ) البقرة (32).
جاء في طبقات الشافعية ما يلي:
حكى القاضي عز الدين الهكاري في مصنف له، ذكر فيه سيرة الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، أن الشيخ عز الدين أفتى مرة بشيء ثم ظهر له انه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ.
2- تلاوة القرآن الكريم
الاشتغال بالقرآن الكريم من أفضل العبادات فهو كلام الله تعالى وأساس الإسلام، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) فاطر (29) وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا ذر بذلك فقال: " عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء " وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال " إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب " لذلك يجب تعاهد القرآن الكريم والحذر من تعريضه للنسيان لحديث الصحيحين " تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها " .(/3)
كان من عادته صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأمر أصحابه بحسن قراءة القرآن وكان يقرأ لهم ويقرئهم بحضوره، قال ابن مسعود: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبعين سورة من القرآن، وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لإبن مسعود وهو على المنبر: " اقرأ علي، قلت: أأقرأ عليك وعليك أنزل، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ) النساء (41) قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ".
وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحمل الناس على القرآن حملا ويفاضل بينهم بمنزلتهم من القرآن فهو يقول: " يؤم القوم اقرؤهم " وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم، يعني ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا و كذا وسورة البقرة، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اذهب فأنت أميرهم ".
وينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب، ويستحب البكاء، والتباكي لمن لا يقدر على البكاء، والسنة التزام صفة تلاوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد كانت قراءته ترتيلا لا هذا ولا عجله بل مفسرة حرفا حرفا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يقرأ القرآن قائما وقاعدا ومضطجعا ومتوضأ ومحدثا، وإذا قرأ بآية دعاء دعا، أو استغفار استغفر، أو سجدة سجد أو رحمة طلبها. وينبغي المحافظة على تلاوة القرآن ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصى عبد الله بن عمرو أن يختمه في كل أسبوع مرة، وكذلك كان جماعه من الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون كعثمان، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وكان عثمان رضي الله عنه يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعام إلى هود، وليلة الأحد بيوسف إلى مريم، وليلة الاثنين ب طه إلى القصص، وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص، وليلة الأربعاء بالزمر إلى الرحمن، وليلة الخميس يكمل الختمة. ويستحب صيام يوم ختم القرآن إلا أن يصادف يوما نهى الشارع عن صيامه، كما يستحب الدعاء عند الختم بحضور الأهل وغيرهم فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن، جمع أهله ودعا.
وهناك سور وآيات يستحب الإكثار من تلاوتها وهي: يس، الدخان، الواقعة، الملك، الإخلاص، المعوذتين، آية الكرسي، الآيتان الأخيرتان من البقرة، وسورة الكهف وميقاتها يوم الجمعة.
3- الحرص على أداء الفرائض
وهي كثيرة، ومنها الصلوات الخمس كل في وقتها، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)) المؤمنون وقد حذر الشرع من التهاون في أمرها حيث قال الله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) ) الماعون وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام " من هانت عليه صلاته، كان على الله عز وجل أهون " ومما ينسب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله " فإنه من يضيع الصلاة فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشد تضييعا " وذلك يعني أن من يفرط في أمر الصلاة فلا يكون أمينا صادقا في حمل الدعوة والانتساب إلى الإسلام.(/4)
وطلب المحافظة على الصلاة لا يقتصر عليه، فقد طلب سبحانه وتعالى أن يأمر الرسول أهله بالصلاة ويصبر على مشاقها حيث قال: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) طه (132) وقد حث الشرع على صلاة الجماعة وحذر من تركها وقد سمع النداء، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق على من سمع منادي الله ينادى يدعوه إلى الفلاح ولا يجيبه " وعن عمرو بن أم كلثوم قال: قلت يا رسول الله: أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: ما أجد لك رخصة " وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " من سمع النداء بالصلاة فلم يمنعه من إتيانها عذر، قيل: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل عنه الصلاة التي صلى " وأخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " ثلاثة لعنهم الله: من تقدم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب " وقد أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولده عبد الله أن يطلق زوجته عاتكة بنت زيد بعد أن شغلته عن صلاة الجماعة فانصاع لأمر أبيه رضي الله عنهما.
وينبغي الخشوع في الصلاة والتفهم لمعنى الكلام ويكون ذلك بقطع الخواطر عن كل ما يشغل السمع والبصر وذلك بالقرب من القبلة والنظر إلى موضع السجود والاحتراز من المواضع المنقوشة وأن لا يترك عنده ما يشغل حسه فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما صلى في انبجانية لها أعلام نزعها وقال: " إنها ألهتني آنفا عن صلاتي " وعلى من يريد الصلاة أن يقضي أشغاله قبل الصلاة ويذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عز وجل وهول المطلع وأن يكون راجيا بصلاته الثواب كما يخاف من تقصيره العقاب.
وهذه صور من صلاة السلف الصالح رحمهم الله جميعا:
عن محمد بن أبي حاتم الوراق قال: دعي محمد بن إسماعيل البخاري إلى بستان بعض أصحابه، فلما حضرت صلاة الظهر صلى القوم، ثم قام للتطوع فأطال القيام، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه فإذا زنبور قد ابره في ستة عشر موضعا، وقد تورم من ذلك الجسد وكانت آثار الزنبور في جسده ظاهرة، فقال له بعضهم كيف لم تخرج من الصلاة في أول ما ابرك؟ فقال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها.
قال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي ملكية: صف لنا عبد الله بن الزبير فقال: والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله، لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا أو ثوبا مطروحا، ولقد مرت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحس بها، ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل ركوعه.
قال سعيد بن المسيب: حججت أربعين حجة، وما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة.
بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمسلمون من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار الرسول الكريم للحراسة نفرا من أصحابه يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة، ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة، ورأى عباد أن المكان من حوله آمن فقام يصلي، وإذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سورة من القرآن، اخترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته، ثم رمي بسهم ثان، ثم رماه المهاجم في ظلال الليل بسهم ثالث نزعه وأنهى صلاته، ثم ركع وسجد، وكانت قواه قد بددها الإعياء والألم، فمد يمينه وهو ساجد إلى صاحبه النائم بجواره، وظل يهزه حتى استيقظ، ثم قام من سجوده وتلا التشهد وأتم صلاته، وصحا عمار على كلماته المتعبة تقول له: قم للحراسة مكاني، فقد أصبت، ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين، ففروا ثم التفت إلى عباد وقال له: سبحان الله، هلا أيقظتني أول ما رميت، فأجابه عباد: كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها، ووالله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها.
4- مراعاة سلم القيم(/5)
ويعني ذلك أن يكون الله ورسوله أحب إلى نفسه من الدنيا وما فيها، وأن يضحي بجميع مصالحه وارتباطاته في سبيل الله، وان يكون لمقام الدعوة المقام الأول في حياته الدنيا، وهذا هو الإيمان الحق وعنوان التجرد لله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة (24) وقد علمنا الرسول الكريم ترتيب سلم القيم بقوله: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
وقد ضرب لنا السلف الصالح أمثلة في ذلك يقتدي بها العاملون المخلصون:
هذا خالد بن الوليد يقول يوما " ما ليلة يهدى إلي فيها عروس أو أبشر فيها بوليد بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المجاهدين أصبح بهم المشركين ".
وهذا مصعب بن عمير يقول فيه رسول الله: " لقد رأيت مصعبا هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، لقد ترك ذلك حبا لله ورسوله " .
وهذا سعد بن أبي وقاص يقول لأمه: تعلمين والله يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فكلي إن شئت أولا تأكلي.
وهذا صهيب الرومي يضحي بجميع ما يملك مقابل السماح له بالهجرة فيقول رضي الله عنه: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى ".
وهذا سعيد بن عامر يقول لزوجته وقد آسفها إنفاق زوجها في سبيل الله " تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءت جميعا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى من أن أضحي بهن من أجلك ".
يقول القاضي بهاء الدين بن شداد عن صلاح الدين رحمه الله: لقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوارحه استيلاء عظيما، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه، لقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه، وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة.
وهذأ جيل من الشباب يمضي في طريق الدعوة والثبات عليها ولا يبالي بما عليه الآباء والأمهات من الكفر والعناد: علي وجعفر على الإسلام، وأبوهما أبو طالب يموت كافرا، أبو عبيدة الجراح يقتل أباه عبد الله بن الجراح يوم بدر، أبو حذيفة يقتل أبوه عتبة بن ربيع يوم بدو فيحزن حزنا شديدا لا لسبب إلا لأنه مات على الكفر.
مصعب وسعد ناصبتهما أماهما العداء فلا يباليان، الوليد وهشام وخالد أولاد من قال فيه القرآن الكريم: ( ولا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) ) القلم.
وهناك مفارقة عجيبة، الإسلام يجمع بين زوجين كريمين هما حنظلة الغسيل وجميلة، وأبواهما من ألد أعداء الإسلام والمسلمين، حنظلة بن أبي عامر الراهب والأب رأس الكفر و العمالة لدولة الروم، وجميلة بنت عبد الله بن أبي والأب رأس النفاق بالمدينة المنورة.
مر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسيدة من بني دينار استشهد في معركة أحد: أبوها، وزوجها، وأخوها. وحين أبصرت المسلمين العائدين من المعركة، سارعت نحوهم تسألهم عن أبنائها، فنعوا إليها الزوج والأب والأخ وإذا بها تسألهم في لهفة: وماذا فعل رسول الله؟؟ قالوا: خيرا، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه، حتى أنظر إليه.
فلبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول: كل مصيبة بعدك، أمرها يهون .
5- السخاء والإيثار
من سجايا المسلمين بعامة وحملة الدعوة بخاصة السماحة والبذل وبسط اليد، فقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة بمدح الكرم والإنفاق وذم البخل والإمساك، قال الله تعالى: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون ((17 ) السجدة.(/6)
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله: " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا " وقال أيضا لبني سلمه: " من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على إنا نبخله، قال: وأي داء ادوأ من البخل؟ بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور " وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: " ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ".
وعن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " ما بقي منها؟ قالت: ما بقي إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها ".
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأنه ما سئل شيئا قط فقال: لا، وأن رجلا سأله فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
سمع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول له يوما: " يا ابن عوف إنك من الأغنياء وإنك ستدخل الجنة حبوا، فأقرض الله يطلق لك قدميك " ومنذ أن سمع عبد الرحمن ذلك وهو يقرض ربه قرضا حسنا، باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار ثم فرقها جميعها في أهله من بنى زهرة وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين، وقدم في يوم 500 فرسا في سبيل الله، وقدم في يوم آخر 1500 راحلة، وعند موته أوصى ب50 ألف دينار وأوصى لكل من بقي ممن شهد بدرا بأربعمائة دينار، حتى أن عثمان بن عفان أخذ نصيبه من الوصية رغم ثرائه وقال: إن مال عبد الرحمن حلال صفو، وإن الطعمة منه عافيه وبركة.
اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد، فقال لأهله، ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون على دارهم، قال: يا غلام ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعا.
ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالأ يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي: من كان عليه لقيس حق فهو منه في حل، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
ومادام السخاء من شيم المؤمنين ومن طبائعهم الأصلية فإنه لا يتوقف على الغنى وسعة ما في اليد، أنظر إلى قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " سبق درهم مئة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مئة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به" وهذا رجل من الأنصار فقير يقال له أبو عقيل يحدث عن نفسه في غزوة تبوك فيقول: لقد بت الليلة أعمل في نشل الماء مقابل صاعين من التمر انقلبت بإحداهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالأخر أتقرب به، فأمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ينثره في الصدقة، فعابه المنافقون لقلة ما أعطى وقالوا: لقد كان الله غنيا عن صاع أبي عقيل، فأنزل الله تعالى قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة (79).
وأرفع درجات السخاء الإيثار، وليس بعده درجه في السخاء، وقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالإيثار فقال: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) الحشر (9) وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة قصة أبي طلحة لما آثر ذلك الرجل المجهود بقوته وقوت صبيانه.
واستشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام وجماعة من بني المغيرة، فأتوا بماء وهم صرعى فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذوقوه رحمهم الله تعالى.
ولله در الشاعر العربي حيث يقول:
... تراه إذا ما جئته متهللا ... ... ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
6- الإكثار من النوافل
وذلك مثل قيام الليل فإن فضله عظيم وهو السبيل إلى المقام الموعود، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد، وفي الليل ساعة يستجاب فيها الدعاء "، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام " إن في الليلة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا آتاه إياه، وذلك كل ليله "، وإذا استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات كما أخبر الرسول الكريم بذلك، يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله: لم أجد من العبادة شيئا أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.(/7)
ومن النوافل الاعتكاف وخاصة في رمضان حتى ولو كان قصيرا، ومنها صلاة الضحى، وصلاة التراويح وصلاة الوتر، والاستخارة في الأمور كلها، والإكثار من الصدقات وأداء العمرة وصوم التطوع في الأيام التي حددها الشارع، وغير ذلك كثير وقد كان السلف الصالح يكثرون من فعل النوافل ويرجون من الله أن يكون ذلك طريقا إلى التوفيق وتحقيق الغايات، ففي يوم الاثنين 19 جمادى الأولى سنة 757 هـ، 28 أيار سنة 1453 م ندب السلطان محمد الفاتح جنده لصيام ذلك اليوم تقربا إلى الله، وتزكية لنفوسهم استعدادا للهجوم النهائي الذي قرر أن يشنه في اليوم التالي على القسطنطينية، وما أن أذنت شمس يوم الاثنين بالمغيب وأدى المجاهدون صلاة المغرب، أقبلوا يتناولون إفطارهم، ثم دعا السلطان مجلس حربه، وقادة جيشه إلى الاجتماع الأخير قبل بدء الهجوم، وخطب فيهم خطبة، جاء فيها ما يلي:
" إذا أعاننا الله عز وجل ففتح علينا القسطنطينية فسيتحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعجزة من معجزاته العظام، وسيكون من حظنا ما تضمنه حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التقدير والتشريف، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردا فردا أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرا وشرفا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا نصب عيه، فلا يصدر عن أي واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بأذى، وليدعوا القساوس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون ".
وحين تنزل نصر الله عز وجل كان أول عمل بدأ به السلطان محمد الفاتح أن خر ساجدا على الأرض شكرا لله على ما أفاء على المسلمين من نصر مؤزر مبين، وما كاد العثمانيون يدخلون المدينة حتى وثب العديد منهم إلى أعالي الأسوار يزيلون الرايات البيزنطية من فوقها ويرفعون مكانها الرايات الإسلامية العثمانية، وفي تلك الأثناء كان العشرات من المجاهدين يرفعون أصواتهم بالأذان من فوق أسوار المدينة، ولما بلغ الفاتح منتصف المدينة، توقف عن المسير وقرأ بلغة عربية فصحى البشارة النبوية الكريمة " لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش ".
لما أبطأ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه " أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر ( الزبير بن العوام، المقداد بن الأسود، عبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد ) وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس و حضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس وأمر الناس أن يكونوا لهم صدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم ".
فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر ففتح الله عليهم.
7- الدعاء والذكر والاستغفار
الدعاء من أعظم العبادة، وهو مخ العبادة كما أخبر الرسول الكريم بذلك، ومن لم يسأل الله يغضب عليه، وليس شيء أكرم على الله من الدعاء، لذا يندب الدعاء في السراء والضراء، وفي السر والعلن حتى ينال ثواب الله تعالى، والأفضل أن يدعو بما ورد في القرآن والحديث من أدعية وأذكار تشمل جميع الحالات: من الاستيقاظ من النوم وعند الخروج من المنزل ودخوله، وعند المشي إلى المسجد ودخوله والخروج منه، وعند الوضوء وبعد الصلاة وعند الاستخارة، وعند المطر والرعد ورؤية الهلال، وعند الطعام ورؤية ما يعجبه، وعند الأرق والهم والحزن، وعند السفر والزواج ومباشرة الزوجة، وعند المرض ورؤية أهل البلاء، وعند مواجهة الظالمين والقتال في سبيل الله، وغير ذلك كثيرا، ويمكن الرجوع إلى كتاب الأذكار للنووي، وإلى عمل اليوم والليلة لابن السني لحفظ جميع الأذكار والأدعية. وحامل الدعوة لا يدعو لنفسه فحسب بل يدعو للمسلمين ولشباب الدعوة بالنصر والثبات وأن يجيرهم رب العالمين.
فيقول: " اللهم ارحم الأمة الإسلامية ".
ويقول: " اللهم افتح علينا وافتح بنا وعجل بقيام دولة الخلافة ".
ويقول: " اللهم إنا نعوذ بك من الكفار وعملائهم ومخابراتهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم ".
ويقول: " اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لنا جارا من فلان بن فلان وأحزابه من خلائقك أن يفرط علينا أحد منهم أو يطغي، عز جارك وجل ثناؤك، ولا اله إلا أنت ".(/8)
ويقول: " اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا وأمكر لنا ولا تمكر علينا، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا ".
ويطلب الإكثار من الذكر، يقول عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " ما عمل ابن آدم عملا له من عذاب الله من ذكر الله " وقال: " قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة " وقال: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ".
وفضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى كذا قاله سعيد بن جبير رحمه الله وغيره من العلماء، وقال عطاء رحمه الله " مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلى وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه ذلك " قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر، فإن لله تعالى سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم "، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث قال: أما إني لا أعني القصاص، ولكن حلق الفقه. وروي عن أنس معناه أيضا، وروى أحمد في كتاب الزهد: كان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون فيها العلم، ومعهم فتى شاب فقال لهم: قولوا سبحان الله والحمد لله، فغضب أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذن؟؟ بل إن مجالس العلم أفضل من مجالس ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير، لأنها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية، والذكر المجرد تطوع محض.
وينبغي الاستغفار والإكثار منه لكثرة وقوع المعصية من العبد، جاء في الحديث القدسي " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم " وقد روى البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " ويقول أبو هريرة لم أر أحدا أكثر أن يقول: " استغفر الله وأتوب إليه " من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وأين نحن من رسول الله وهو أتقانا وأخشانا لله؟؟ وفي الحديث الشريف ما يشير إلى عاقبة الاستغفار وفضله حيث قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ". ويجب الإسراع إلى التوبة وأن يحرص المسلم بعامة وحامل الدعوة بخاصة على صفاء نفسه، وأن لا يدع المنكرات تجتمع عليه، وإلا هلك والعياذ بالله، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضيره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا".
ومن أحسن الذكر عند الابتلاء ما روي عن الإمام جعفر الصادق قوله: " عجبت لمن ابتلي بأربع كيف ينسى أربعا:
- عجبت لمن ابتلي بالخوف كيف ينسى أن يقول "حسبنا الله ونعم الوكيل " وقد قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) ) آل عمران.
- عجبت لمن ابتلي بالمرض كيف ينسى أن يقول " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وقد قال الله تعالى: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) ) الأنبياء.
- وعجبت لمن ابتلي بالغم كيف ينسى أن يقول " لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقد قال الله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ) الأنبياء.(/9)
- وعجبت لمن ابتلي بمكر الناس كيف ينسى أن يقول " وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " وقد قال الله تعالى: ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) ) غافر.
8- الخوف من الله تعالى
قال أحد قادة المسلمين يصف رجاله:
" نعم الشباب مكتهلين، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة إلى الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر، قد نظر الله
إليهم في آناء الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية
فيها النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه ".
هذه بعض ثمرات الخوف من الله تعالى، وهو خوف مفيد ونافع، وهو الحارس والحامي، فهو الذي يضمن سير الإنسان
على الصراط المستقيم قال تعالى: ( فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران (175) وقال: ( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) المائدة (44) وفي الحديث القدسي: " لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة " وعنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: " لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ".
روي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه بكى يوما فقالت له امرأته: ما لك تبكي؟ قال: أنبئت أتي وارد ولم أنبأ أني صادر. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار.
قال سعيد بن عامر لعمر بن الحطاب رضي الله عنهما: " إني موصيك بكلمات من جوامع الإسلام ومعالمه: اخش الله في الناس، ولا تخش الناس في الله، لا يخالف قولك فعلك فإن خير القول ما صدق الفعل، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته ولا تخف في الله لومة لائم ".
ذكر الإمام أبو يوسف في مقدمة كتاب ( الخراج ) أنه لما هلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله جاء الفقهاء إلى زوجته يعزونها ويذكرون عظم المصيبة التي أصيب بها أهل الإسلام لموته، فقالوا لها: أخبرينا عنه، فإن أعلم الناس بالرجل أهله، فقالت: والله ما كان بأكثرهم صلاة ولا صياما، ولكن والله ما رأيت عبدا لله كان اشد خوفا لله من عمر، كان رحمه الله قد فرغ بدنه ونفسه للناس فكان يقعد لحوائجهم يومه، فإذا أمسى وعليه بقية من حوائجهم وصله بليلته، فأمسى يوما وقد فرغ من حوائجهم فدعا بمصباح قد كان يستصبح به من ماله، ثم صلى ركعتين ثم أقعى واضعا يده تحت ذقنه تسيل دموعه على خده، فلم يزل كذلك حتى رق الفجر فأصبح صائما، فقلت له: يا أمير المؤمنين لشيء ما كان منك ما رأيت الليلة؟ قال: أجل إني قد وجدتني وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها فذكرت الغريب القانع الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المقهور وأشباههم في أطراف الأرض، فعلمت أن الله تعالى سائلني عنهم وأن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجيجي فيهم، فخفت على نفسي ووالله إن كان عمر ليكون في المكان الذي ينتهي إليه سرور الرجل مع أهله، فيذكر الشيء من أمر الله فيضطرب كما يضطرب العصفور قد وقع في الماء، ثم يرتفع بكاؤه حتى أطرح اللحاف عني وعنه، رحمه الله . ثم قالت " والله لوددت لو كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد ما بين المشرقين ".
والخوف من الله عز وجل يدفع شباب الدعوة إلى أن يبذل الواحد منهم جهده في نشر الأفكار وكسب الأنصار، وأن يجهر بالحق ولا يخشى في الله لومة لائم فلا ينافق ولا يداهن ويحرص على أن تكون السيادة للمبدأ فلا يحسب حسابا لرضى الناس وقبولهم، فهو حارس أمين للإسلام ينزل الأحكام على الوقائع الجارية بصدق وأمانة، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " لا يحقرن أحدكم أن يرى أمرا لله فيه مقال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت فيه كذا وكذا؟ فيقول: مخافة الناس، فيقول الله: إياي أحق أن تخاف ".
نهى أبو جعفر المنصور مالك بن أذس رحمه الله أن يحدث بحديث " ليس على مستكره طلاق " ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس فضربه.
قال أحد تلامذة العز بن عبد السلام له حين حاسب الحاكم أما خفته؟ قال: والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط.
دخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: " يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله، وان كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته قال: قل، قال:(/10)
يا أمير المؤمنين، إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوه فيك، خربوا الآخرة وعمروا الدنيا، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، وإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا والأمة خسفا، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا بائع آخرته بدنيا غيره ".
فقال سليمان: أما أنت فقد سللت لسانك، وهو أقطع من سيفك، فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عيك، قال: فهل من حاجة في ذات نفسك؟ قال: أما خاصة دون عامة فلا، ثم قام فخرج
فقال سليمان: لله دره، ما أشرف أصله وأجمع قلبه، وأذرب لسانه، وأصدق نيته، وأروع نفسه ".
قال إسحاق بن حنبل ــ عم أحمد بن حنبل رحمه الله ــ دخلت على أبي عبد الله في سجنه فقلت: يا أبا عبد الله : قد أجاب أصحابك وبقيت أنت في الحبس والضيق، فقال أبو عبد الله : يا عم، إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، متى يتبين الحق؟.
قال: فأمسكت عنه، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب؟، " إن من كان قبلكم ينشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه "، قال إسحاق: فيئسنا منه، ثم قال أحمد: لست أبالي بالحبس ما هو إلا ومنزلي واحد، ولا قتلا بالسيف، إنما أخاف السوط، وأخاف أن لا أصبر، فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، ما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فلما سمع ذلك سري عنه.
9- المحبة في الله
قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " وقال: " ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه " وهما من السبعة الذين يظلهما الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ووجود هذه المحبة الصادقة، وهذا الود الصافي أمر طبيعي بين شباب الدعوة وهو دليل على التفاعل وحمل الدعوة بصدق، ومن كانوا كذلك فهم من أولياء الله حقا، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال متعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية:
( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس (62).
وقد ذكر الله تعالى لنا طبيعة العلاقات بين المهاجرين والأنصار في قرآن يتلى على مدى الأيام إذ قال: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر (9) ثم لما فرغ سبحانه من ذلك ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) الحشر (10).
لذا ينبغي تقوية الصلات بين شباب الدعوة والإكثار من التزاور فيما بينهم، وتفقد الأحوال والسؤال عن بعضهم البعض، وأن يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وأن يكونوا عند بعضهم البعض في الشدائد والحاجات فقد روى مسلم في صحيحه قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه معتكفا في مسجد الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام إذ رأى رجلا حزينا جالسا في طرف من المسجد، فأقبل عليه يسأله عن سبب حزنه، فلما علم بمشكلته قال له: قم معي وأنا أقضي لك حاجتك، فقال الرجل: أتترك اعتكافك في مسجد الرسول من أجلي؟ فبكى أبو هريرة وقال: سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب يقول: " لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه حتى يقضيها له خير من اعتكافه في مسجدي هذا عشر سنين ".
وعلى الشاب المسلم أن يترك غيبة أخيه وذلك بأن يذكره بالسوء من وراء ظهره، والصحيح أن ينشغل بعيوب الكفار والمنافقين وبيان ما يبيتون للإسلام والمسلمين.
قال سفيان بن حسين الواسطي: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة - وهو تابعي يضرب المثل بذكائه - فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟ فقلت: لا، السند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال سفيان: فلم أعد بعدها.(/11)
وعلى المسلم أن يترك إساءة الظن بإخوانه وأن يحمل فعلهم على الحسن مهما أمكن لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وإن سوء الظن قد يدعو إلى التجسس المنهي عنه، وعلى الشاب أن يستر عيبة أخيه ويتغافل عنها فإن ذلك من شيم أهل التقوى، قال عبد الله بن المبارك: " المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات " ومن المعروف أن منشأ التقصير في ستر العورات والمغري بكشفها هو الحقد والحسد، والمؤمن الحق أبعد ما يكون عن ذلك وعلى المسلم أن يدعو لأخيه في حياته وبعد موته بكل ما يدعو به لنفسه، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل " وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو في السحر لستة نفر. وقد ورد في ( الأدب المفرد ) حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب " وورد فيه أيضا أن أبا بكر الصديق قال: " إن دعوة الأخ في الله تستجاب ".
وعلى الشاب المسلم أن يخفض جناحه لإخوانه، وأن يذعن للحق ولا يتبع الهوى، وقد حذر الرسول الكريم من إعجاب المرء بنفسه ومن اتباع الهوى، وهو يقول في حديث ناهيا عن الكبر وداعيا إلى التواضع " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس " قال الشوكاني في معنى بطر الحق: هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا قاله النووي، وفي القاموس المحيط: بطر الحق أن يتكبر عنده فلا يقبله، والغمص أو الغمط قال النووي: هو احتقار الناس. وفي الإخلاص والتواضع يقول الشافعي رحمة الله " ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي ".
وفي نفس المعنى وفي مبلغ حب الخير للآخرين يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
" إني لأتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي اعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط، فأفرح له وأدعو له، ومالي عنده قضية، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة ".
10- طاعة الأمير
الطاعة أمر أساسي لوجود الانضباط، وهي فرض أمر به الله تعالى وأمر به رسوله الكريم، ويجب الالتزام بها ولو لم يلاق المأمور به هوى في نفس المأمور حتى ولو كره ذلك، قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام " من كره من أميره شيئا فليصبر " وقال " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وها نحن نرى رسول الله يقرن بين تقوى الله وبين السمع والطاعة لأمر الأمير، وما ذلك إلا لخطر أمر الطاعة، ومتى استجابت النفس لوصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن الطاعة تصبح سجية من سجايا حملة الدعوة فلا تحدثهم بالتمرد على الأوامر ومخالفتها أو التوقف عن تنفيذها ولو خالفت آراءهم حتى ولو لم يقتنعوا بها ما لم تكن إثما وكل ذلك من أجل الانضباط والحفاظ على الكتلة التي أمر الله بإقامتها، وتمكين القيادة من تسيير شؤون الدعوة والتفرغ لمقارعة الكفر والعملاء.
جاء أبا ذر وهو في الربذة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية العصيان ضد الخليفة، فزجرهم بكلمات حاسمات: " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل، لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت ورأيت ذلك خيرا لي، ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق، لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت وصبرت ورأيت ذلك خيرا لي ".
حين ولي أبو هريرة رضي الله عنه ادخر مالا من مصادره الحلال وعلم عمر رضي الله عنه بذلك، فدعاه إلى المدينة، يقول أبو هريرة: قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟ قلت: ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه، لكني عدو من عاداهما، ولا أنا من يسرق مال الله، قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قلت: خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت، قال عمر: فادفعها إلى بيت مال المسلمين، ودفع أبو هريرة المال إلى عمر، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: " اللهم اغفر لأمير المؤمنين ".(/12)
11- الصبر عند الابتلاء
في حمل الدعوة ومقارعة الكفر وأعوانه يكون الابتلاء أمرا غالبا، ولا يظن حامل دعوة أنه لا يفتن ويبتلى مهما كانت درجة الابتلاء، يقول الله سبحانه وتعالى: ( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) ) العنكبوت ويقول: ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) آل عمران (186). والابتلاء بحسب الدين والإيمان لما رواه الشيخان: " أشد الناس ابتلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة أبتلي على قدر ذلك، وإن كان فيه رقة، هون عليه، فما يزال البلاء بالرجل حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ".
والمسلم حتى يكون قادرا على مواجهة الابتلاء لا بد أن يؤمن بالقدر فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء كتبه الله عليه، وهذه العقيدة تستقر في أعماق أعماقه وتصبح قناعة يسلم بها فتضبط سلوكه في الحياة وتجعل منه إنسانا شجاعا مقداما يندفع للقيام بأعباء الدعوة دون تردد أو وجل.
روى أبو داود في سننه عن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لإبنه عند الموت: " يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك " سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني ".
وحتى يواجه الابتلاء لا بد أن يستعين بالصبر والصلاة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) البقرة (153) وهو يوصي غيره بالصبر وإلا كان من الخاسرين ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ) العصر وهو يدعو ربه أن ينعم عليه بالصبر ( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين ) الأعراف (126) وهو يصبر صبرا جميلا كما أمر الله تعالى وهو الصبر بلا شكوى إلى المخلوق كما يقول ابن تيمية رحمه الله، وهو يعلم أن ثواب الصابرين عظيم ( أُوْلَئِك ُيجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ) الفرقان (75) وقد ورد عن رسول الله قوله: " عجبا للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ومما ينسب إلى علي كرم الله وجهه " إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور ".
وشباب الدعوة يوقنون بأن الصبر هو السبيل إلى نصر الله قال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) الأنعام (34) وقال: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ) الروم (60).
ولقد ابتلي المخلصون من حملة الدعوة قديما وحديثا بشتى أنواع البلاء من القتل والتعذيب والضرب والتجويع والاستهزاء والدعايات الكاذبة والطرد من الأوطان والسجن والملاحقة، فما لانت لهم قناة ولا فترت لهم همة، وما نال منهم أعداؤهم نيلا يرضي غرورهم أو يشفي صدورهم.
هذا خبيب بن عدي ينشد حين بلغه أن القوم قد اجتمعوا لصلبه:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... ... ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... ... ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... ... ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... ... ... على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعا ... ... ... ... ولا جزعا إني إلى الله مرجعي(/13)
وهذا خباب بن الأرت يقول عنه الشعبي " لقد صبر خباب ولم تلن له بين أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه " وكانت أم أنمار سيدة خباب تأخذ الحديد المحمى الملتهب وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخباب يتلوى من الألم، وقد مر به رسول الله يوما فطار قلبه رحمة وحنانا وأسى فلم يملك يومها إلا أن يثبته ويدعو له قائلا: " اللهم أنصر خبابا ".
وهذا عمار بن ياسر يقول عنه عمرو بن ميمون " أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمر به، ويمرر يده على رأسه ويقول: " يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم " وكان عمار يقول تحت العذاب " يا رسول الله لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ " فناداه الرسول الكريم " صبرا أبا اليقظان، صبرا أل ياسر، فإن موعدكم الجنة ".
يقول الزبير رضي الله عنه " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوا، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها فقام عند المقام ثم قرأ: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ــ رافعا بها صوته ــ ( الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) ) الرحمن، ثم استقبلهم يقرؤها، فتأملوه قائلين: ماذا يقول ابن أم عبد!! إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو ماض في قراءته، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم عاد إلى أصحابه، مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا له: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون ".
لما عجز ملك الروم عن إغراء عبد الله بن حذافة السهمي في ترك الإسلام ودخول النصرانية وذلك بإشراكه في ملكه وتزويجه ابنته، أمر بقدر من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه النصرانية فأبى فأمر به أن يلقى في القدر فرفع ليلقى فيها فبكى فطمع فيه الملك ودعاه فقال عبد الله: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله فقال له الملك: قبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
يصف الإمام ابن القيم الجوزية حال شيخه ابن تيمية وهو محبوس في قلعة دمشق ــ يقول: " قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ــ يعني بذلك: إيمانه وعمله ــ أين رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، ولو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير " وقد بقي الشيخ محبوسا حتى مات في السجن رحمه الله.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن حالهم حين المقاطعة:
" خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ورضضتها بالماء، فقويت بها ثلاثا ".
هذه بعض مواقف الرجال وهي غيض من فيض في تاريخ المسلمين، وفي هذه الأيام أبتلي الكثير من حملة الدعوة الإسلامية في أنفسهم وأموالهم بالسجن والتعذيب والتشريد والملاحقة والمحاربة في الأرزاق وتعطيل المصالح والمنع من السفر وحتى القتل والإعدام في بعض أقطار الإسلام، فنسأل الله لهم المغفرة وجزيل الثواب ونرجوا الله تعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب (23).
12- الثقة بوعد الله
ورد في سورة الأحزاب بيان لموقفين مختلفين:
موقف للمؤمنين أظهرته هذه الآية الكريمة: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ) الأحزاب (22).(/14)
وموقف للمنافقين فضحته هذه الآية الكريمة: ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) الأحزاب (12) المؤمنون يصدقون الله ورسوله، والمنافقون يكذبون الله ورسوله، لذا فقد تحدد موقف المؤمنين وهو موقف متميز بالثقة المطلقة بوعد الله، وهو موقف لا يتزعزع ولا يضطرب وإلا كان هناك شك في الإيمان.
والذي يتابع آيات القرآن الكريم يجدها قد أكدت على أن وعد الله آت لا ريب فيه، وأن النصر حليف المؤمنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الله غالب على أمره وأن الله مظهر الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون، لنستمع إلى هذه ا لآيات:
( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ) الروم (60).
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) البقرة (214).
( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) غافر (51).
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) الأنفال (36).
وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنصر والفرج في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة فمن ذلك قوله لخباب حين جاءه شاكيا من العذاب الشديد: " والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ".
وروى مسلم في صحيحه حديث " تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله " وروي أيضا " ستفتح مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا " وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام عن فتح القسطنطينية مخبرا بذلك قبل ثمانية قرون ونصف " لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش ".
هذه وعود من الله ورسوله، فماذا كان مصيرها!؟ لقد تحقق وعد الله ورسوله، فقامت دولة الإسلام وهزمت قريش وظهر الإسلام وأنحي الشرك من أرض الجزيرة، وتقوض بنيان اليهود وغاب ملك فارس والروم عن الوجود وفتحت القسطنطينية، وخفقت راية العقاب فوق أكثر بقاع الأرض، وكانت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم مدة ثلاثة عشر قرنا وأصبحت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
واليوم ــ وبإذن الله ــ ستقوم دولة الإسلام من جديد فقد أخبر الرسول الكريم بذلك حين قال: " إن أول دينكم نبوة ورحمة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون ملكا عضوضا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تعمل في الناس بسنة النبي، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض يرضى عنها سكان السماء وسكان الأرض، فلا تبقي السماء من قطرها إلا أنزلته، ولا تبقي الأرض من خيراتها ونباتها إلا أخرجته ".
وسينتصر المسلمون على اليهود ثانية ويظهرون عليهم فقد وعد الرسول الكريم بذلك حيث قال: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ".
وستفتح روما كما فتحت القسطنطينية قبلها، فقد وعد الرسول الكريم بذلك، " قال عبد الله بن عمرو بن العاص: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أي المدينتين تفتح أولا، القسطنطينية أو رومة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مدينة هرقل تفتح أولا ".(/15)
وحملة الدعوة على يقين بذلك كله، لأن هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، والأمر يتطلب منا العمل الدائم والنظرة إلى المستقبل بأمل باسم، ولا يجوز لنا أن نتصور أنه يجب تحقيق الوعود على أيدينا، فإن تحقق شيء من ذلك على أيدي الرعيل الأول فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وإلا فيجب الاستمرار في الدعوة وهي فرض وتركها إثم كبير، والقنوط من رحمة الله ضلال، واليأس من روح الله من عمل القوم الكافرين، ونحن نرى الكفار على كفرهم يصبرون على تحقيق ما يريدون ولا يقعدون عن العمل وصولا لغايتهم وأهدافهم، فقد صبر اليهود خمسين عاما حتى أقام لهم الكفار دولتهم في فلسطين سنة 1948، وصبر الشيوعيون سبعين عاما حتى قامت أول دولة لهم في روسيا سنة 1917، فما بال شباب الدعوة، وعدوهم على الباطل وهم على الحق، والله مولاهم وهو نعم المولى ونعم النصير.
( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) محمد (11).
وبعد،
هناك حديثان قدسيان شريفان يعتبران جماع القول وفصل الخطاب يقول الأول : " يا عبد ي ما أقل حيائك تطلب رحمتي وتبخل علي بطاعتي، فكيف أجود برحمتي على من يبخل علي بطاعتي ".
ويقول الآخر: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ ني لأعيذنه ".
فلنجهد إذا في طاعة الله، ولنتقرب إليه بالفرائض والنوافل حتى يرضى الله عنا ويرحمنا، ويصبح الواحد منا إسلاما يمشي على الأرض، وحتى نكون شامة بين الناس، وعسى أن نكون من خير الجلساء الموصوفين بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قيل يا رسول الله: أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكركم بالله رؤيته، وزادكم في عملكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله.
وإنا لنرجوه سبحانه وتعالى أن يكون وجود هذا الطراز من الرجال طريق التوفيق فيعجل لنا بالنصر ويمكن لنا في الأرض، فتقوم دولة الخلافة وتعلو راية الإسلام من جديد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.(/16)
التقرير الرهيب من قذائف الحق
ملفات متنوعة
أضيفت بتاريخ : 06 - 07 - 2004 نسخة للطباعة القراء : 20179
تعالوا نقرأ التقرير الذي وصفه الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - بـ (( التقرير الرهيب )) ... في كتابه الممنوع من التداول في مصر (( قذائف الحق)) ، يقول الشيخ - رحمه الله - :
" كنت في الأسكندرية في مارس من سنة 1973 وعلمت من غير قصد بخطاب ألقاه البابا شنودة في الكنيسة المرقصية الكبرى في اجتماع سري أعان الله على إظهار ما وقع فيه ... وإلى القراء تقرير ما حدث كما نقل مسجلاً إلى الجهات المعنية :
(( بسم الله الرحمن الرحيم
نقدم لسيادتكم هذا التقرير لأهم ما دار في الاجتماع :-
بعد أداء الصلاة و التراتيل طلب البابا شنودة من عامة الحاضرين الانصراف ولم يمكث معه سوى رجال الدين وبعض أثرياء الأسكندرية ، وبدأ كلمته قائلاً :
" إن كل شىء على ما يرام و يجري حسب الخطة الموضوعة لكل جانب من جوانب العمل على حدة في إطار الهدف الموحد " ، ثم تحدث في عدد من الموضوعات على النحو التالي :
أولاً : شعب الكنيسة
صرح لهم ( أي شنودة ) أن مصادرهم ـ في إدارة التعبئة و الإحصاء ـ أبلغتهم أن عدد المسيحيين في مصر بلغ ما يقارب الثمان مليون(8.000.000) نسمة ( هذا الكلام في عام 1973 ) ، و على شعب الكنيسة أن يعلم ذلك جيدًا ، كما يجب عليه أن ينشر ذلك و يؤيده بين المسلمين ، إذ سيكون ذلك سندنا في المطالب التي سنتقدم بها إلى الحكومة التي سنذكرها لكم اليوم . و التخطيط العام الذي تم الاتفاق عليه بالإجماع و الذي صدرت بشأنه التعليمات الخاصة لتنفيذه ، وُضع على أساس بلوغ شعب الكنيسة إلى نصف الشعب المصري ، بحيث يتساوى عدد شعب الكنيسة مع عدد المسلمين لأول مرة منذ 13 قرنًا ، أي منذ (( الاستعمار العربي و الغزو الإسلامي لبلادنا )) ـ على حد قوله ـ ، و المدة المحددة وفقًا للتخطيط الموضوع للوصول إلى هذه النتيجة المطلوبة تتراوح بين 12 ـ 15 سنة من الآن .
و لذلك فإن الكنيسة تحرم تحريمًا تامًا تحديد النسل أو تنظيمه ، و تعد كل من يفعل ذلك خارجًا عن تعليمات الكنيسة ، و مطرودًا من رحمة الرب، و قاتلاً لشعب الكنيسة ، و مضيعًا لمجده، و ذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها الطب و الكنيسة خطر الحمل أو الولادة على حياة المرأة ، و قد اتخذت الكنيسة عدة قرارات لتحقيق الخطة القاضية بزيادة عددهم : ـ
1- تحريم تحديد النسل
2- تشجيع تحديد النسل و تنظيمه بين المسلمين ( خاصة و أن أكثر من 65% من الأطباء و القائمين على الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة )
3- تشجيع الإكثار من شعبنا ووضع حوافز ومساعدات مادية ومعنوية للأسر الفقيرة من شعبنا.
4- التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية على المستويين الحكومي وغير الحكومي كي يضاعفوا الخدمات الصحية لشعبنا، و بذل العناية و الجهد الوافرين، وذلك من شأنه تقليل الوفيات بين شعبنا على أن نفعل عكس ذلك مع المسلمين .
6- تشجيع الزواج المبكر و تخفيض تكاليفه، و ذلك بتخفيف رسوم فتح الكنائس و رسوم الإكليل بكنائس الأحياء الشعبية
7- تحرم الكنيسة تحريمًا تامًا على أصحاب العمارات و المساكن المسيحيين تأجير أي مسكن أو شقة أو محل تجاري للمسلمين ، و تعتبر من يفعل ذلك من الآن فصاعدًا مطرودًا من رحمة الرب و رعاية الكنيسة ، كما يجب العمل بشتى الوسائل على إخراج السكان المسلمين من العمارات و البيوت المملوكة لشعب الكنيسة ، و إذا نفذنا هذه السياسة بقدر ما يسعنا الجهد فسنشجع و نسهل الزواج بين شبابنا المسيحي ، كما سنصعبه و نضيق فرصه بين شباب المسلمين ، مما سيكون أثرًا فعالاً في الوصول إلى الهدف ، و ليس بخافٍ أن الغرض من هذه القرارات هو انخفاض معدل الزيادة بين المسلمين و ارتفاع هذا المعدل بين المسيحيين .
ثانيًا : اقتصاد شعب الكنيسة : ـ
قال شنودة : " إن المال يأتينا بقدر ما نطلب و أكثر مما نطلب ، و ذلك من مصادر ثلاثة : أمريكا، الحبشة و الفاتيكان، و لكن ينبغي أن يكون الاعتماد الأول في تخطيطنا الاقتصادي على مالنا الخاص الذي نجمعه من الداخل، و على التعاون على فعل الخير بين أفراد شعب الكنيسة ، كذلك يجب الاهتمام أكثر بشراء الأرض ، و تنفيذ نظام القروض و المساعدات لمن يقومون بذلك لمعاونتهم على البناء ، و قد ثبت من واقع الإحصاءات الرسمية أن أكثر من 60 % من تجارة مصر الداخلية هي بأيدي المسيحيين، و علينا أن نعمل على زيادة هذه النسبة .(/1)
و تخطيطنا الاقتصادي للمستقبل يستهدف إفقار المسلمين و نزع الثروة من أيديهم ما أمكن ، بالقدر الذي يعمل به هذا التخطيط على إثراء شعبنا ، كما يلزمنا مداومة تذكير شعبنا و التنبيه عليه تنبيهًا مشددًا من حين لآخر بأن يقاطع المسلمين اقتصاديًا ، و أن يمتنع عن التعامل المادي معهم امتناعًا مطلقًا ، إلا في الحالات التي يتعذر فيها ذلك ، و يعني ذلك مقاطعة : المحامين ـ المحاسبين ـ المدرسين ـ الأطباء ـ الصيادلة ـ العيادات ـ المستشفيات الخاصة ـ المحلات التجارية الكبيرة و الصغيرة ـ الجمعيات الاستهلاكية أيضًا ( !! ) ، و ذلك مادام ممكنًا لهم التعامل مع إخوانهم من شعب الكنيسة ، كما يجب أن يُنبهوا دومًا إلى مقاطعة صنّاع المسلمين و حرفييهم و الاستعاضة عنهم بالصناع و الحرفيين النصارى ، و لو كلفهم ذلك الانتقال و الجهد و المشقة . "
ثم قال البابا شنودة : " إن هذا الأمر بالغ الأهمية لتخطيطنا العام في المدى القريب و البعيد ."
ثالثًا : تعليم شعب الكنيسة :
قال البابا شنودة : " إنه يجب فيما يتعلق بالتعليم العام للشعب المسيحي الاستمرار في السياسة التعليمية المتبعة حاليًا مع مضاعفة الجهد في ذلك ، خاصة و أن بعض المساجد شرعت تقوم بمهام تعليمية كالتي نقوم بها في كنائسنا، الأمر الذي سيجعل مضاعفة الجهد المبذول حاليًا أمرًا حتميًا حتى تستمر النسبة التي يمكن الظفر بها من مقاعد الجامعة و خاصة الكليات العملية " .. ثم قال : " إني إذ أهنئ شعب الكنيسة خاصة المدرسين منهم على هذا الجهد و هذه النتائج ، إذ وصلت نسبتنا في بعض الوظائف الهامة و الخطيرة كالطب و الصيدلة و الهندسة و غيرها أكثر من 60% !!!! إني إذ أهنئهم أدعو لهم يسوع المسيح الرب المخلص أن يمنحهم بركاته و توفيقه ، حتى يواصلوا الجهد لزيادة هذه النسبة في المستقبل القريب . "
رابعًا : التبشير:
قال البابا شنودة : " كذلك فإنه يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية إذ أن الخطة التبشيرية التي وضعت بنيت على أساس هدف اتُّفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم و التمسك به ، على ألا يكون من الضروري اعتناقهم المسيحية ، فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم ، و تشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم و صدق محمد ( قلت : " اللهم صلِّ عليه و على آله وسلم " ) .. و من ثم يجب عمل كل الطرق و استغلال كل الإمكانيات الكنائسية للتشكيك في القرآن و إثبات بطلانه و تكذيب محمد ( قلت : صلى الله عليه و سلم )
و إذا أفلحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة المقبلة فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئات من طريقنا ، و إن لم تكن هذه الفئات مستقبلاً معنا فلن تكون علينا.
غير أنه ينبغي أن يُراعَي في تنفيذ هذا المخطط التبشيري أن يتم بطريقة هادئة و ذكية ، حتى لا يكون سببًا في إثارة حفيظة المسلمين أو يقظتهم .
و إن الخطأ الذي وقع منا في المحاولات التبشيرية الأخيرة ـ التي نجح مبشرونا فيها في هداية عدد من المسلمين إلى الإيمان و الخلاص على يد الرب يسوع المخلص ـ هو تسرب أنباء هذا النجاح إلى المسلمين ، لأن ذلك من شأنه تنبيه المسلمين و إيقاظهم من غفلتهم ، و هذا أمر ثابت في تاريخهم الطويل معنا ، و ليس هو بالأمر الهين ، و من شأن هذه اليقظة أن تُفسد علينا مخططاتنا المدروسة ، و تؤخر ثمارها و تُضيِّع جهودنا، و لذا فقد أصدرت التعليمات الخاصة بهذا الأمر ، و سننشرها في كل الكنائس لكي يتصرف جميع شعبنا مع المسلمين بطريقة ودية تمتص غضبهم ..... ( قلت : هذا لا يحدث الآن .. فقد مات الذين يختشون ) ........و تقنعهم بكذب هذه الأنباء ، كما سبق التنبيه على رعاة الكنائس و الآباء و القساوسة بمشاركة المسلمين احتفالاتهم الدينية ، و تهنئتهم بأعيادهم ، و إظهار المودة و المحبة لهم .
و على شعب الكنيسة في المصالح و الوزارات و المؤسسات إظهار هذه الروح لمن يخالطونهم من المسلمين ... "
ثم قال بالحرف الواحد :
" إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه من نكسة و محنة...... ( يقصد ما قبل حرب 1973 و ما بعد نكسة يونيو 1967) ...... لأن ذلك في صالحنا ، و لن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم نحو هدفنا إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو بالحرب " ، .... ثم هاجم من أسماهم بضعاف القلوب الذين يقدمون مصالحهم الخاصة على مجد شعب الرب و الكنيسة ، و على تحقيق الهدف الذي يعمل له الشعب منذ عهد بعيد ، و قال أنه لم يلتفت إلى هلعهم ، و أصر علي أنه سيتقدم للحكومة رسميًا بالمطالب الواردة بعد ، حيث أنه إذا لم يكسب شعب الكنيسة في هذه المرحلة مكاسب على المستوى الرسمي فربما لا يستطيع إحراز أي تقدم بعد ذلك . "(/2)
ثم قال بالحرف الواحد : " و ليعلم الجميع خاصة ضعاف القلوب أن القوى الكبرى في العالم تقف وراءنا و لسنا نعمل وحدنا، و لا بد من أن نحقق الهدف ، لكن العامل الأول و الخطير في الوصول إلى ما نريد هو وحدة شعب الكنيسة و تماسكه و ترابطه .. و لكن إذا تبددت هذه الوحدة و ذلك التماسك فلن تكون هناك قوة على وجه الأرض مهما عظم شأنها تستطيع مساعدتنا . "
مطالب البابا شنودة
يقول الشيخ الغزالي - رحمه الله - :
" ثم عدد البابا شنودة المطالب التي صرح بها بأنه سوف يقدمها رسميًا إلى الحكومة :
1- أن يصبح مركز البابا الرسمي في البروتوكول السياسي بعد رئيس الجمهورية و قبل رئيس الوزراء.
2- أن تُخصَّص لهم (( للنصارى )) ثمان وزارات
3- أن تُخصَّص لهم ربع القيادات العليا في الجيش و الشرطة
4- أن تُخصَّص لهم ربع المراكز القيادية المدنية ، كرؤساء مجالس المؤسسات و الشركات و المحافظين و وكلاء الوزارات و المديرين العامين و رؤساء مجالس المدن .
5- أن يُستشار البابا عند شغل هذه النسبة في الوزارات و المراكز العسكرية و المدنية ، و يكون له حق ترشيح بعض العناصر و التعديل فيها.
6- أن يُسمَح لهم بإنشاء جامعة خاصة بهم ، و قد وضعت الكنيسة بالفعل تخطيط هذه الجامعة ، و هي تضم المعاهد اللاهوتية و الكليات العملية و النظرية ، و تُموَّ ل من مالهم الخاص.
7- أن يُسمَح لهم بإقامة إذاعة من مالهم الخاص.
ثم ختم حديثه بأن بشّر الحاضرين و طلب منهم نقل هذه البشرى لشعب الكنيسة بأن أملهم الأكبر في عودة البلاد و الأراضي إلى أصحابها من (( الغزاة المسلمين )) قد بات وشيكًا ، و ليس في ذلك أدنى غرابة ـ في زعمه ـ و ضرب لهم مثلا بأسبانيا النصرانية التي ظلت بأيدي ((المستعمرين المسلمين )) قرابة ثمانية قرون (800 سنة) ، ثم استردها أصحابها النصارى ، ثم قال و في التاريخ المعاصر عادت أكثر من بلد إلى أهلها بعد أن طُردوا منها منذ قرون طويلة جدًا ...... قال الشيخ - رحمه الله - ( واضح أن شنودة يقصد إسرائيل) و في ختام الاجتماع أنهى حديثه ببعض الأدعية الدينية للمسيح الرب الذي يحميهم و يبارك خطواتهم !!!!!!!!! "))
انتهى كلام الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -
فما رأي القارئ الكريم المتابع للأحداث في مصر , هل المخطط جاري للآن ووصل لمراحل متقدمة أم ماذا؟؟؟؟(/3)
التقليد من الوجهة النفسية
إن الله - تعالى - بل بني آدم، بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين المتشابهين. وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم. حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.
ولما كان بين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص: كان التفاعل فيه أشد. ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلابد من نوع تفاعل بقدره. ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلابد من نوع من المفاعلة. ولأجل هذا الأصل: وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النُّفرة. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة؛ توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرّد الإسلام. و المشاركة في الهدى الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان والزمان، فهذا أيضاً أمر محسوس. فمشابهتم في أعيادهم ولو بالقليل؛ هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به، ودار التحريم عليه. فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات.وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط.ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له.وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة.
اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ص 220
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/1)
التقمص والتناسخ
الشيخ أحمد الجمال الحموي
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
في مقابلة قديمة مع أحد الأدباء الذين فارقوا الدنيا أواخر القرن العشرين كلام يقرر فيه عقائد ليس لها دليل من بحوث علمية ولا من الآيات القرآنية ولا من الأحاديث النبوية الشريفة.
ومما جاء في هذه المقابلة:
(اعتقادي الخاص بالتقمص يعود إلى أنني عشت أعواماً عديدة قبل أن أكون الآن، وليست ولادتي هي أول ولادة لي. لماذا سيكون فلان والدي، وفلانة والدتي بين كل رجال ونساء الأرض، إلا إذا كانت هناك علاقة سابقة بيني وبينهم. والعلاقة السابقة لم تكن في هذا العمر بل في حياة سابقة عشتها أنا قبل أن أولد).
وهذا كلام سريع التداعي أمام البرهان توحي به خيالات وأوهام ليس إلا.
ومع أن الرد سيأتي بعد قليل لكننا نسأل الأديب الأريب إذا كان فلان والدك، وفلانة والدتك دون سائر الناس في ولادتك هذه لأنهما – كما تزعم - كانا كذلك في حياة سابقة فلماذا كانا والديك في تلك الحياة السابقة أيضاً، وما أراك إلا ستحيلنا على حياة سابقة على هذه السابقة ويبقى السؤال قائماً ما الذي جعل هذين والدين لك في أول ولادة ظهرت بها، تلك الولادة التي لم يك قبلها ولادة، مهما تباعدت في الزمن الماضي وأوغلت فيه.
ولعل الأديب العجيب يريد أن يقول إن الناس جهلة، أما هو فليس بجاهل فقد عرف التقمص الذي ظنه حقيقة جهلها الناس وآمن به حيث كفر بهذا التقمص مليارات البشر على مدى العصور.
ويتابع هنا الأديب حديثه عن التقمص فيقول: (تفكيري يرشدني إلى أن الأشياء التي حصلت معي في أعوامي هذه إنما هي تتمة لأشياء حصلت معي في أعوام سابقة... واسأل أي إنسان من أين لك هذه المعرفة، مستحيل أن تأتيك خلال السنوات التي عشتها، كل معرفتك تتوقف على حياتك السابقة).
إن تفكير هذا الأديب هو الذي يرشده كما يظن، ولو عرف أن تفكيره يضله لأراح واستراح، وها هو تفكيره يتخبط به فيزعم أن معرفته نشأت من حياته هذه ومن حيوات قبلها، ومن اللافت للنظر أنه لم يشعر بهذا الوسواس إلا هو وأمثاله من التناسخيين، ولو صدق قوله لولد الإنسان متعلماً ولوجدنا مخترعين عظماء وهم لا يزالون في سن الرضاع.
ثم يتابع الأديب وكأنه يريد إقناع نفسه، فيقول (أومن بالتقمص لكني "لم أصل درجة المعرفة القصوى" لأتبين حياتي السابقة بالتفاصيل الدقيقة إنما لدي "شعور عميق" بأنني لست ابن البارحة، عمري الآن 98 سنة ومن الخطأ أن أقول ذلك فأنا عمري الزمان كله.)
ولا يخفى على اليقظ اللبيب تخبط هذا (الأديب) فبعد أن زعم أن تفكيره هو الذي أرشده إلى التقمص إذا به الآن يرجع هذه العقيدة إلى (الشعور) وليقدر كل عاقل فداحة المصاب عندما تبنى عقائد خطيرة على المشاعر العليلة. وإذا شئنا أن نحسن الظن نقول إن (الأديب) أراد أن يضم الشعور إلى الفكر لا أن يلغي أحدهما بالآخر، ومع هذا فإن الضعف بدا واضحاً عندما اعترف أنه لم يصل درجة المعرفة القصوى ولذا فهو يجهل تفاصيل حياته بل حيواته السابقة وكأني به يدفع سؤالاً توقع أن يوجه إليه عن حياته بل حيواته التي عاشها من قبل فاحتاط للأمر قبل وقوعه.
ولم يك هذا الجهل والعجز عن معرفة التفاصيل نابعاً من كبر سنه وخرفه بل لأنه لا وجود لهذه الحياة المزعومة، ولذا عجز عن تذكرها عندما كان في ريعان شبابه.
وحسبنا هذه المقاطع من كلامه الكثير فإنه لا يخرج عما نقلناه وسنكتفي بالرد على فكرة التقمص –التي ألح عليها وأبرزها- خشية علوقها بعقول بعض البسطاء. وقد كان في حديث ذلك الأديب سقطات وضلالات أخرى لكننا لن نعرض لها فقد احتل التقمص الساحة وغطى على غيره.. وإنني أخشى أن يكون الذي أجرى اللقاء مع الأديب من تلك الفرق الباطنية التي تؤمن بهذه القصائد وإلا فكيف نفسر استسلامه في المقابلة وعدم مناقشة الأديب وعدم التعقيب عليه ولو بكلمة واحدة، أو لعله في أحسن الاحتمالات مسلم جاهل عافانا الله من الجهل.
وقبل أن نمضي قدماً في الرد نشير إلى أن هناك فرقاً تقول بالتقمص وفرقاً تقول بالتناسخ وبين التناسخ والتقمص فروق يسيرة لكن الجوهر والمآل واحد.
ويجمع الفريقين اسم (التناسخيين) وقد اتفق التناسخيون على أصل هو الأساس في تعريف التناسخ ثم اختلفوا في فروع لا تتناقض مع الأصل، بل هي إما توسع في مفهومه وإما نتيجة تكاد تكون لازمة من لوازمه أو تكون الهدف من القول بهذه العقيدة الباطلة.
الأصل الذي اتفق عليه التناسخيون
أما الأصل الذي يتفق عليه القائلون بالتناسخ والذي يشكل لب هذه العقيدة فهو (أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر) فلو مات إنسان ما –مثلاً- فإن روحه في زعم التناسخيين تنتقل إلى جسم آخر تطلع إلى الحياة وزحف نحوها، ثم تبقى فيه حتى يحين حينه فتفارقه إلى جسم آخر اشرأب إلى الحياة، وهكذا دونما انقطاع.
وهذا هو التعريف الجامع للتناسخ، والقدر الذي يتفق عليه التناسخيون جميعاً.
الفروع التي اختلف فيها التناسخيون(/1)
نستعرض الآن ما اختلف فيه القائلون بالتناسخ من جزئيات لا تمس الأصل المشار إليه آنفاً. حيث افترقوا في ذلك فرقتين.
1- أجازت أولاهما انتقال الأرواح بعد مفارقتها أجسادها (إلى أجساد أخر وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت)(1) وهو قول القرامطة وأشباههم، فيجوز بناء على رأيهم انتقال روح الإنسان بعد موته إلى حيوان، كما يجوز انتقال روح الحيوان بعد موته إلى إنسان، وهذا كما هو واضح توسع في مفهوم التناسخ ونشر لظلاله (وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب، قالوا: فالفاسق السيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار والسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح)(2) حتى نقل ابن حزم عن أحدهم وهو محمد بن زكريا الرازي الطبيب قوله (لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان ألبتة).(3)
وبناء على زعمهم الفاسد لا حاجة لليوم الآخر والحساب وما يتلوه من ثواب وعقاب على الطريقة التي فهمها أهل السنة والجماعة الذين هم لب الإسلام وحقيقته إذ أن الحساب في زعمهم يجري هنا على الأرض ويتحقق الثواب والعقاب فيما تخيلوه من التناسخ.
ويختلف انتماء أتباع هذه الفرقة فنرى بعضهم ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه من أهله، ويعد هؤلاء تاريخياً من الفرق الإسلامية. ونرى آخرين من ملل متعددة ومذاهب مختلفة لا صلة لها بالإسلام.
2- أما الفرقة الثانية فقد (منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت)(4) فلا يمكن عندهم انتقال روح الحيوان بعد موته إلى الإنسان ولا يمكن العكس أيضاً (وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيء من الشرائع وهم الدهرية)(5) وقد انطلق هؤلاء أساساً من الكفر والجحود المطبق فقد أنكروا وجود خالق لهذا الكون وانتهوا إلى ما انطلقوا منه بإنكارهم الآخرة بما فيها من حساب وجزاء.
ويظهر لدى التأمل أن هذا الإنكار للآخرة من لوازم التناسخ، أو هو الهدف الحقيقي من اعتقاده والقول به. وهؤلاء أبعد عن الإسلام من الفريق الأول وأكثر إيغالاً في الكفر منه، وعلى كل فالفكر وصف جامع لهما.
أدلة التناسخيين
تشبث التناسخيون على اختلاف آرائهم بأوهام حسبوها أدلة كافية لإثبات مزاعمهم وسنشرع الآن بسرد هذه الأدلة مرجئين مناقشتها إلى فقرة تالية.
الفرقة الأولى:
فقد احتجت الفرقة الأولى التي أجازت انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت بحجج تنقلب عليهم لدى تأملها والنظر فيها. وهذه هي حججهم:
1- احتجوا ببعض النصوص التي فهموها فهماً يخالف فهم المسلمين جميعاً على مر العصور حيث تشبثوا بقول الله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فَعَدَلَكْ في أي صورة ما شاء ركبك) وبقوله تعالى: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه) وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (قيامة كل أحد موته).
2- ويتردد في أوساط بعض أتباع هذه الفرقة كالنصيريين ما نستطيع أن نسميه (دليل الشعور) حيث يدعي بعضهم تذكره لحياة سابقة كان يحياها قبل سنين طويلة، وذلك وقت إذ كانت روحه في جسد ملك مدينة كذا أو في جسد العالم المشهور فلان كما يهذون.
3- أما الذين لا ينتسبون إلى الإسلام أصلاً من هذه الفرقة الأولى فقد احتجوا بالفلسفة أو بكلام قد يسميه بعضهم دليلاً عقلياً وما هو كذلك فقالوا (إن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد، فالنفس منتقلة أبداً وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها)(6).
4- وترى طوائف من هذه الفرقة أن عدد الأرواح في العالم ثابت لا يمكن أن يزيد ولا أن ينقص، ومن ثم ذهبوا إلى الادعاء بوجود توازن بين الحيوان والإنسان، فعندما يكثر الموت في الحيوان يزيد عدد الإنسان حسب اعتقادهم وعندما يكثر الموت في الإنسان يزيد عدد الحيوان.
الفرقة الثانية:
وحجة الفرقة الثانية التي منعت انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت (هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها القائلة إنه لا تناهي للعالم فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبداً، قالوا، ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلقها به)(7) فهؤلاء أقروا مبدأ انتقال الروح من جسد إلى جسد لكنهم اشترطوا أن يكون انتقال الروح إلى جسد من نوع جسدها الذي فارقته.
مناقشة أدلة التناسخيين
يكفي في بطلان فهم الفرقة الأولى للآيتين اللتين أوردوهما إجماع الأمة كلها على أن المراد بهما غير ما ذكروه فالمراد بقوله تعالى: (في أي صورة ما شاء ركبك) الصورة التي رتب الإنسان عليها من طول أو قصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد وما أشبه ذلك. فهي الصور المختلفة من جنس صور الإنسان. وليس المراد قطعاً حلول الروح الإنساني في صور غير صورة هذا النوع.(/2)
ولم يخالف في هذا الفهم الذي أوردناه أحد من أهل الحق خلال القرون المتعاقبة...
وأما الآية الأخرى فإن معناها: (إن الله تعلى امتن علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً نتولد منها. ثم امتن علينا (كما في آية أخرى) بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج. ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا. فتبين من ذلك بياناً ظاهراً لا خفاءَ فبه أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا، ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا)(8) ولا بد من بيان أن كلام التناسخيين دعوى بلا برهان وأنه مخالف لما فهمه أهل العلم سلفهم وخلفهم دون استثناء. وحسبك هذا برهاناً على فساد تأويلهم للآية ومجافاته للصواب.
أما المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولاً لا يبلغ درجة أن تبنى عليه أحكام فرعية فضلاً عن أن تبنى عليه عقيدة خطيرة كهذه. وهو ثانياً، لا يؤدي إلى ما زعموه. وغاية ما يفيده –بعد تذكر أن القبر أول منازل الآخرة وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وفيه سؤال الملكين- غاية ما يفيده أنه لا عودة إلى الحياة بعد خروج الروح وأن الإنسان يبدأ بمعاينة آثار أعماله التي فعلها في الحياة الدنيا منذ انتقاله إلى عالم البرزخ، وهذا المعنى يناقض ما وجهوا الحديث إليه مناقضة تامة.
مبدأ مهم في التعامل مع النصوص
وهناك شيء لا يغيب عن تفكير المسلم، هو أنه لا يجوز أن ينظر الإنسان إلى نص ما في موضوع ما ثم يغمض عينيه عن مئات النصوص في الموضوع ذاته.
ولو نظروا نظرة شاملة مستوعبة مع حسن القصد وسلامة الطريقة المتبعة في الدراسة لعدلوا عن هذه العقيدة عدولاً كاملاً، وواضح أن النصوص الصريحة تذكر نفخة أولى تنهي الحياة ثم نفخة ثانية يعقبها البعث ثم يحشر الناس إلى أرض نقية ثم يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبدأ الحساب وبعد هذا إما إلى جنة أو إلى نار فكيف تترك هذه النصوص الصريحة كلها ويعدل عنها إلى استنتاجات سخيفة وإلى تحميل النصوص ما لا يمكن أن تحتمله. وهنا نقطة مهمة جداً وهي أن عقيدة خطيرة كعقيدة التناسخ لا يمكن أن تأتي مبهمة ضمن إشارات غامضة مرفوضة تنسف النصوص القطعية الواضحة. وليس من طريقة الإسلام أن يأتي بالعقيدة على هذا النحو ولا بهذا الأسلوب.
وإن المرء ليعجب من أقوام يدعون أنهم يؤمنون بالله ثم يعتنقون هذه الفكرة فيتساءل وحق له أن يتساءل ما الذي يحملهم على ذلك ومن أين جاءتهم هذه اللوثة؟
وإن النظرة الشاملة إلى النصوص تؤكد أن الحياة ستنتهي دفعة واحدة بنفخة الصور ثم تعود مرة أخرى في ظروف مختلفة، ثم يحاسب الناس معاً في وقت واحد إلا ما استثنى الله من الحساب ثم يكون الجزاء في دار ورد وصفها تفصيلاً، ولا تنطبق الأوصاف الواردة في وصفها على هذه الدنيا بل هي مغايرة لها أشد المغايرة.
دليل الشعور:
ونأتي إلى الدليل الذي أسميناه دليل الشعور فنقول في شأنه: إنه تلقين لا قيمة له يتلقاه الأبناء عن الآباء في تلك البيئات بأسلوب مباشر أو غير مباشر.
فكثيراً ما يسمع الصغار من الكبار قصصاً وأحاديث تقرر هذا المعنى بطريقة عاطفية تؤثر في النفس فيندفع الصغار في هذا السبيل. ولو كان التناسخ حقيقة من الحقائق لأحس الناس جميعاً بأنهم كانوا في حياة سابقة على حياتهم التي يحيونها الآن.
فإن رد المعجبون بهذه العقيدة إن هذا الشعور لا يناله إلا من كانوا على درجة عالية من الصفاء الروحي والقلبي وأنهم وحدهم متصفون بهذا أجيبوا بأن الروح الحال في جسم إنسان هو روح في حالِ نعيمٍ جزاءً على حياة سابقة عُمرت بالخير –إذ لو كان الأمر خلاف ذلك لحلت الروح في صورةٍ غيرِ بشرية- وهذا يستدعي أن يكونَ الصفاءُ والشفافية حليفين لها في المراحل الأولى منْ حياة الإنسان على الأقل وهي التي تسبق البلوغَ والتكليف، حيث يتفق أرباب الأديان والفلاسفة على ثبوت الطهارة والبراءة فيها للإنسان فلماذا لا يحس الأطفال والفتيان من مختلف الأديان والألوان وفي مختلف البيئات بما يدعي التناسخيون؟
ومن المآخذ الكبيرة على هذه الفكرة تصادمها مع العلم. فكم سمعنا بعضهم يقول إن فلاناً ولد لما مات فلان، مشيراً بذلك إلى انتقال روح المتوفى إلى المولود. وقد جهلوا أن الروح تكون قد نفخت في هذا المولود قبل خروجه من رحم أمه بزمن طويل.
ولا ندري هل يغير التناسخيون كلامهم بعد الاكتشافات العلمية التي سبق القرآن إليها، أو أنهم سيظلون في غيهم وضلالهم.. ولا بد أن نقول في هذا الموطن: ما الفائدة من القول بأن حياة الإنسان الحالية هي جزاء على حياة سابقة عاشها إذا كان لا يحس بذلك لا من قريب ولا من بعيد.(/3)
ثم لنفترض أن كوارث كبيرة وقعت أودت بحياة مئات الألوف من الناس في مدة وجيزة كما حدث في هيروشيما، وكانت نار الحرب التقليدية إبان ذلك تلتهم الجمَّ الغفير من الناس كل يوم إضافة إلى من يموت حتف أنفه، وكما حدث في زلزال آسيا أواخر عام 2004 عندما اندفعت أمواج الساحل فأزهقت أرواح مئات آلاف البشر والحيوانات في وقت قصير جداً، فأين انتقلت أرواح هؤلاء الموتى وهنا يجيب من يجيزون انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت بأنها انتقلت إلى أجساد إنسانية أو حيوانية غير التي كانت فيها.
والخلل بين في الجواب ففي مثل حالة إلقاء القنبلة الذرية يعم الموت الإنسان والحيوان ولا ينفع التناسخيين قولهم إن الأرض واسعة والتوازن والتكامل ليسا محصورين في رقعة صغيرة منها. فهذا مردود بأنه من غير المألوف ارتفاع عدد الولادات أو الحمل فجأة في عالمي الإنسان والحيوان في الأرض بمقدار كبير يستوعب الأعداد الهائلة من الأرواح المفارقة لأجسادها في مثل هذه الحالات.
طوفان نوح:
ونتابع فنقول إن دراسة طبقات الأرض التي أجريت في القرن العشرين أثبتت أن الطوفان قد عم الأرض كلها في فترة من الفترات ومن أراد التأكد فليرجع إلى تلك الدراسات وهذا ما قرره الإسلام والديانات السابقة، فكيف أمكن تحقيق التوازن حينئذ؟ في الوقت الذي هلك فيه معظم الإنسان والحيوان. أما الأسماك فقد كانت موجودة من قبل ولا تستطيع أن تتكاثر في يوم أو يومين تكاثراً يفي بالغرض ويلبي الحاجة الناشئة. فإن قالوا: لا مانع من بقاء الأرواح مسلولة من أغماد الأجساد إلى حين، ريثما يتاح لها جسد تتغلغل فيه. قلنا: ما دام قد جاز هذا التجرد عن الجسد مدة من الزمن فهو إذن ممكن غير مستحيل ولا فرق في بقاء الروح طليقة من قفص الجسد بين المدة القصيرة والمدة الطويلة.
ومن المفيد الإشارة إلى أن نظرية التوازن هذه مبنية في رأي بعضهم على نظرية أخرى هي ثبات عدد الأرواح مطلقاً وهذا رأي لا يمكن إثباته فالشرع لم يرد بذلك، والعلم لم يستطع تحديد طبيعة الروح وهذا يجعله عاجزاً عن مراقبتها وعن القيام بعملية إحصاء لها.
نعيم هو سبب للعذاب:
ولنا سؤال نطرحه على الذين قالوا إن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب وهو: إذا كانت حياة الإنسان الحالية جزاءً حسناً على حياة قضاها بالتقى والصلاح إذ إن ظهوره في صورة إنسانية دليل على هذا أفلا يمكن أن تصدر منه في حياته الحالية مخالفات وإساءات؟ والجواب إما بالإثبات أو بالنفي لا محالة.
فإن كان بالإثبات فههنا إشكال كبير. إذ كيف تكون هذه الحياة التي هي نعيم باعتبارها جزاء حسناً لحياة سابقة فاضلة، كيف تكون متضمنة لأسبابِ عقاب يأتي في حياة مقبلة وذلك إذا عصى وخالف؟ وهل يكون الإنسان في نعيم بينما هو يتورط من حيث لا يدري في أسباب شقاء سيلحقه وهو في غفلة عن ذلك؟
وإن كان الجوابُ بالنفي فالإشكال قائم أيضاً. لأن معنى هذا أن الإنسان إذا أحسن في حياته الأولى فسيبقى محسناً على الدوام ما دام صدور الإساءة منه في حياة تالية غير ممكن لكن هذا المنع مردود بقوله صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطاء) وبالمشاهدة التي تؤكد عدم خلو إنسان من الخطأ والزلل.
هل تنتقل الروح من جسد إلى آخر بما تحويه من علوم ومعارف؟
وما رأي التناسخيين عموماً بعالمٍ واسعِ الإطلاع على فنون العلم المختلفة يموتُ ثم تنتقلُ روحه في زعمهم إلى إنسان آخر. هل يصافح المولودُ الجديدُ الذي انتقلت إليه وحلت فيه روح هذا العالم الكبير الحياة بذلك العلم الغزير لأن روحه مشبعة بتلك المعارف والعلوم التي اكتسبتها لما كانت رهينة هيكل بشري سابق. ونحن نلاحظ أنه ما من مولود يأتي إلى الدنيا بهذه الصفة. (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعملون شيئاً).
ولا عبرة بما حصل من خوارق العادات كالكلام في المهد فإن له شأناً لا يخفى على أرباب العلم والفهم، إذ أنه يدخل في باب الخوارق وهو محصور في أضيق نطاق وأقل عدد خلال عمر الدنيا الطويل المديد.
وبعد تفنيد ما تشبث به التناسخيون من حجج نقرر بصوت الحق العالي أن الروح بعد مفارقتها جسدها لا تعود في الدنيا إلى جسد آخر البتة وليس هناك دليل من عقل أو نقل على عودها إنما هو الهوى يعصف بهؤلاء الباطنيين وهو الحقد الدفين الذي يدفعهم إلى الكيد للإسلام فيدعون الانتساب إليه ليتاح لهم القيام بالتخريب من الداخل،ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون.
سؤال يوجه إلى الدهريين:
ولئن كانت الردود السابقة تشمل مَن ينتسب إلى الإسلام من التناسخيين وتشمل الدهريين منهم على حد سواء فإن ثمة كلاماً يوجه إلى الدهريين خاصة، وهو: كيف يتم اختيار الروح لجسدها ما دمتم لا تؤمنون بوجود خالق يوجهها ويسوقها. وما هي الأسس التي يتم على ضوئها امتزاج روحٍ ما بجسد ما. وما من شك أن هؤلاء عاجزون عن استغلال العلم في الإجابة على هذا السؤال. ولا قيمة للخرص والتخمين في مثل هذا الأمر الخطير.
النتيجة:(/4)
وبهذا يتضح بطلان انتقال الأرواح سواء إلى أنواع أجسادها التي فارقت أو إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت. بل إن الثاني أظهر فساداً من الأول مع أن كليهما موفور الفساد.
وإن الرد على الأول يتضمن رداً على الثاني من باب أولى، علماً أننا رددنا على المذهبين جميعاً.
ولا ننسى أن عامة فرق الباطنية تقول بالتناسخ وتؤمن به ثم تتمسح بالإسلام –في عالمنا الإسلامي- لكن العلماء مجمعون على ضلالهم وعلى أن من قال بقولهم ليس بمسلم ولو نطق بالشهادتين وأتى بأركان الإسلام –فكيف إذا تخلص منها بالتأويل الشنيع – لأن القرآن الكريم والسنة الشريفة تقرران بجلاء خلاف هذا، وفيهما من التفاصيل الوافية عن الموت وحياة البرزخ وعن البعث والحشر والحساب والجزاء ما يدمغ الباطنية بطابع الضلال الأسود، ويبدو كلامهم بإزائه هزراً قبيحاً، وسماً زعافاً يجب اجتنابه والتحذير منه.
وليست هذه هي الفكرة الوحيدة الفاسدة في سجل هذه الفرق المدسوسة على الإسلام والمسلمين وإنما بجوارها ما هو أدهى وأمر ولعلي أوفق إلى الكتابة عنه في مستقبل الأيام بعون الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
ملحوظة:
النقول من 1-8 من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حز(/5)
التقوى: مدخل لغوي واصطلاحي د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنَّ التقوى في اللغة: هي الوقاية مما يُكرَه ويُحذَر.
قال القرطبي رحمه الله: "الأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فَعْلَى؛[1] فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه: أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله: وقي، وكذلك تُقاة كانت في الأصل وُقاة، كما قالوا تُجاه وتُراث، والأصل: وُجاه ووُراث".[2] وقال ابن منظور رحمه الله: "جُعِلَ قلبُ الياء واوا في التقوى والدعوى والفتوى؛ عِوَضاً للواو مِن كثرةِ دخولِ الياء عليها".[3]
وقال ابنُ كثير رحمه الله: "أصلُ التقوى: التوقِّي مما يُكرَه؛ لأنَّ أصلَها وَقْوَى من الوقاية، قال النابغة:
سقطَ النصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ** فتناولَتْه واتقَتْنا باليدِ
... وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال له: أما سلكتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما عملتَ؟ قال: شمرتُ واجتهدت؛ قال: فذلك التقوى. وقد أخذَ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خَلِّ الذنوبَ صغيرَها ** وكبيرَها ذاك التُّقَى
واصنعْ كَماشٍ فوق ** أرضِ الشوكِ يحذر ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرةً إنَّ ** الجبالَ مِن الحَصَى!"[4]
وقال ابن منظور: "يقال: وقاك الله شرَّ فلان: وِقاية، وفي التنزيل العزيز (ما لهم من الله مِن واقٍ): أي مِن دافِع، ووقاه وِقايةً بالكسر: أي حَفِظَه، والتوقِية: الكَلاءة والحفظ... والاسم التقوى: التاء بدلٌ من الواوِ، والواوُ بدل من الياء. وفي التنزيل العزيز (وآتاهم تقواهم): أي جزاء تقواهم وقيل: معناه ألهمهم تقواهم. وقوله تعالى (هو أهل التقوى وأهل المغفرة): أي هو أهلٌ أن يتقى عقابه وأهلٌ أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. وقوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله) معناه: اثبت على تقوى الله ودم عليه... وقوله تعالى: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) تأويله: إني أعوذ بالله؛ فإن كنت تقيا فستتعظ بتعوذي بالله منك... ابن الأعرابي: التقاة والتقية والتقوى والاتقاء: كله واحد".[5]
وأما في الاصطلاح، فإن عبارات العلماء في تعريف التقوى تدور على صيانةِ النفس من المعاصي، وترك الشركِ والفواحِشِ والكبائرِ، والتأدُّب بآدابِ الشريعة؛ فالتقوى إذن: فِعلُ الطاعات واجتنابُ السيئات.
فقد قال القرطبي رحمه الله: "قال أبو يزيد البسطامي: المتقي: من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله. وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات".[6]
وقال محمد بن أبي الفتح الحنبلي: "التقوى: تركُ الشركِ والفواحِشِ والكبائرِ عن ابن عباس، وأصله من الإتقاء، وهو الحجز بين الشيئين، وعن ابن عمر: التقوى: أن لا ترى نفسَك خيراً من أحدٍ! وعن عمر بن عبد العزيز: التقوى: تركُ ما حرَّمَ الله وأداءُ ما افترضَ الله، وقيل: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل: التقوى: تركُ ما لا بأسَ به حَذراً مما به بأس، وقيل: جِماعُها: في قوله تعالى: (إنَّ الله يأمرُ بالعَدلِ والإحسان)[7]".[8]
وقال عبد الرؤوف المناوي: "التقوى: تجنبُ القبيحِ خوفاً من الله. وأصلها الوقاية. وعند أهل الحقيقة: التحرز بطاعة الله عن عقوبته وهو صيانة النفس عما يُستقبَح".[9] وتبعه علي بن محمد الجرجاني فقال: "التقوى في اللغة: بمعنى الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية. وعند أهلِ الحقيقةِ: هو الاحترازُ بطاعةِ الله عن عقوبتِه، وهو صِيانةُ النفسِ عما يُستقبَح من فعلٍ أو تركٍ، والتقوى في الطاعة يراد بها الإخلاص، وفي المعصية يراد به الترك والحذر. وقيل: أن يتقي العبد ما سوى الله تعالى. وقيل: المحافظة على آداب الشريعة، وقيل: مجانبة كلِّ ما يُبعِدُك عن الله تعالى، وقيل: ترك حظوظِ النفسِ ومُباينة النَّهْي، وقيل: ألا ترى في نفسِك شيئا سوى الله، وقيل: ألا ترى نفسَك خيراً من أحدٍ، وقيل: تَركُ ما دُون الله".[10]
ورحم الله القرطبي حيث قال: "التقوى فيها جماعُ الخيرِ كلِّه، وهي وصيةُ الله في الأولِين والآخِرِين، وهي خيرُ ما يستفيدُه الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إنَّ أصحابَك يقولون الشعر؛ وأنت ما حفظ عنك شيء! فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه ** ويأبَى الله إلا ما أرادا!
يقول المرء فائدتي ومالي ** وتقوى الله أفضل ما استفادا!
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجةٍ صالحة؛ إن أمرَها أطاعَتْه، وإن نظرَ إليها سَرَّتْه، وإن أقسَمَ عليها أبَرَّتْه، وإنْ غابَ عنها نصَحَتْه في نفسِها ومالِه).[11]
- - -
[1] قال ابن منظور: "التقوى: أصلها وقيا؛ لأنها فَعْلَى مِن وَقَيت".لسان العرب 15/110. وسيأتي بيانها.
[2] الجامع لأحكام القرآن 1/162.
[3] لسان العرب 11/114.(/1)
[4] تفسير القرآن العظيم 1/58-59. وذكر القصة القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 1/161.
[5] لسان العرب 15/204.
[6] الجامع لأحكام القرآن 1/161.
[7] النحل 90.
[8] المطلع لمحمد بن أبي الفتح الحنبلي 1/99. المكتب الإسلامي بيروت، ط1401 هـ.
[9] التعاريف للمناوي (ت 1031 هـ) 1/199. دار الفكر بيروت، ط1، 1410 هـ.
[10] التعريفات للجرجاني (ت 816 هـ) 1/90، دار الكتاب العربي بيروت، ط1، 1405 هـ.
[11] الجامع لأحكام القرآن 1/162.(/2)
التكاثر السكاني من منظور إسلامي
د. إبراهيم محمد أحمد بلولة*
مدخل:
إنَّ قضية النمو السكاني كادت تشغل العالم وتتسبَّب في حدوث مشكلاته الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والبيئية. وذلك على افتراض أنَّ النمو السكاني هو السبب في حدوث كل هذه المشكلات. وعند طرح الحلول والسياسات لمحاولة علاجها؛ فإنَّ من أهم فروضها هو كبح تكاثر السكان وتثبيت نموهم على أساس أنَّ السيطرة على نمو السكان والحد منه هما مفتاح الحل لهذه المشكلات.
إنَّ القول بأنَّ العالم يَمُرُّ بمرحلة نمو سكاني سريع أمر تتأكد حقيقته في كل يوم، غير أنَّ هذا النمو السريع يمثل ظاهرة ترتبط بالدول النامية دون المتقدمة. فقد كان العالم حتى سنة 1950م يضيف لسكانه في المتوسط نحو 38 مليون نسمة سنوياً، ثم ارتفع هذا المعدل في الفترة ما بين 1950م وما بين 1990م إلى 70 مليون نسمة سنوياً. واليوم يستقبل العالم نحو 95 مليون نسمة سنوياً، 95% منهم في الدول النامية. كذلك أصبح كل بليون جديد من البشر يضاف بصورة أسرع من سابقه. فقد أخذ العالم فترة 2 إلى 5 ملايين سنة ليصل عدد سكانه إلى بليون نسمة سنة 1800م. ولكن بعد ذلك بنحو 130 سنة (سنة 1930م) صار عدد السكان بليونين. وبعد ثلاثين سنة أخرى (سنة 1960م) صار ثلاثة بلايين، ثم أخذ 16سنة بعد ذلك (سنة 1976م) ليصبح أربعة بلايين نسمة، ثم أخذ 14 سنة ليصبح عدد سكان العالم خمسة بلايين نسمة
(1990)([1]).
هذا وقد احتفل العالم في عام 1999م بإضافة البليون السادس إلى سكانه، بعد حوالي تسع سنوات فقط من إضافة البليون الأخير([2]).
ويضم العالم اليوم ستة بلايين نسمة، منهم 20% في الدول المتقدمة مقابل 80%، أو خمسة بلايين في الدول النامية. وهذه الأخيرة تتمتع بمعدلات عالية للنمو السكاني تصل في المتوسط إلى 29%، و1.8%،
و1.8% في كل من إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، على الترتيب. هذا في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط معدلات النمو السكاني في كل من أمريكا الشمالية، وروسيا، وأوربا، نحو 1.1%، و0.5%، و0.3%، لكل منها على التوالي. بالتالي بينما يتضاعف سكان الدول المتقدمة في المتوسط بمعدل مرة واحدة كل 70ـ80 سنة، فإنَّ سكان الدول النامية يتضاعفون مرة كل 25ـ30 سنة. مع تباين فترة التضاعف هذه من دولة لأخرى، فمثلاً في الوقت الذي يتضاعف فيه سكان إندونيسيا مرة كل 24 سنة؛ يتضاعف سكان المملكة المتحدة مرة كل 140 سنة([3]).
وقد أصبحت القضية أداة في يد الدول المتقدمة، يتم عن طريقها نسج الإستراتيجيات، وصياغة الخطط، وبسط البرامج الخاصة بتحديد النسل لوقف النمو السكاني في الدول النامية، من أجل تحقيق أهداف ومصالح خاصة بتلك الدول المتقدِّمة بعد أنْ ضمنت وأمَّنت لنفسها وضعاً تكنولوجياً متقدِّماً يغنيها عن الحاجة للكثرة العددية في السكان، بل لقد أصبحت قضية النمو السكاني بمثابة المنفذ الواسع الذي تدخل منه كثير من المفاهيم والأفكار والممارسات والشرور المتعلقة بها، بل والقيم التي تفرزها المجتمعات المادية الغربية، إلى رحاب المجتمعات الإسلامية مهدِّدةً إيَّاها بنسف قيمها، وتفكيك مجتمعاتها، وتقويض بنيانها الحضاري، والعقائدي، والأخلاقي، والاجتماعي.
ولما كانت قضية النمو السكاني بمضامينها المختلفة؛ تتسم بهذا القدر الكبير من الأهمية، وتنطوي على هذا القدر الكبير من المخاطر بالنسبة للأُمَّة المسلمة من ناحية، وفي ظل غياب الرؤية الواضحة لقضية النمو السكاني وآثارها لدى الأوساط العلمية والرسمية في الأُمَّة من ناحية أخرى؛ فقد رأى الباحث ضرورة الوقوف عندها، ثم وزن حقائقها بموازين إسلامية، وإعادة صياغتها على نحو يقرِّبها من الفهم الإسلامي الصحيح، الذي يساعد على وضع الخطط والسياسات السكانية الناجعة بالنسبة للأُمَّة الإسلامية وعلى مستوى أقطارها.
التكاثر السكاني في الفكر الغربي
اتضح من دراسة توزيع السكان على سطح الأرض حقيقتان مهمتان:
أولاهما: الزيادة الكبيرة في أعداد السكان.
وثانيتهما: اختلاف المناطق التي يعيش فيها الإنسان، واختلاف الكثافات المحلية للسكان بها.
وتتصل هاتان الحقيقتان بتطور السكان.
ولدراسة الأيديولوجيات السكانية الخاصة بتطور حجم السكان؛ نجد أنَّ هناك نظريات تناولت عددية السكان، وتنقسم هذه النظريات إلى مجموعتين: نظريات ترمي إلى زيادة عدد السكان، وأخرى تنادي بالحد من الزيادة السكانية.
وقد ظهرت الاتجاهات الهادفة إلى زيادة عدد السكان منذ العصر اليوناني، إذ تبنَّى فكرة زيادة السكان بقصد القوة الحربية فلاسفة (إسبارطة)، الذين يرون أنَّ زيادة عدد سكان الدولة يُعَدُّ في حد ذاته قوة تؤدي إلى احترامها في المجال الدولي، وإلى زيادة رقعتها، وتبرير مطالبها بمجالات حيوية. كما أنَّ زيادة عدد سكان الدولة يمثل زيادة لقوتها الاقتصادية، إذ إنَّ كثرة القوى العاملة سوف يزيد من قوة الإنتاج.(/1)
وبينما يؤيِّد فريق من الباحثين هذا الرأي؛ نجد آخرون يعارضونه، ويذهبون إلى القول بأنَّ زيادة السكان هي نتيجة لتطور الدولة الاقتصادي وزيادة مواردها الاقتصادية، وأنَّ الزيادة السكانية لا يمكن أنْ تسبق التطور الاقتصادي نفسه([4]).
ومن بين الفلاسفة الذين نادوا بزيادة السكان إميل دوركايم
((E. Durkheim، الذي اعتقد أنَّ تقسيم العمل والتخصص وزيادة الإنتاج نتيجة مباشرة لزيادة السكان. ففي نظره أنَّ التجمعات البشرية قسمان:
أحدهما: يشمل المجتمعات قليلة السكان، محدودة النطاق، غير مميزة الوظيفة ولا تعرف التخصص، ومن ثم ليس هناك سلطة حاكمة أو هيئة تشرف على شؤونها الاقتصادية.
والثاني: يشمل المجتمعات الكبيرة، المعقدة التركيب، التي يظهر فيها تقسيم العمل بصورة واضحة، إذ أنَّ هذا المجتمع الكثير السكان يقوم على أساس تضامن عضوي ((Salidarite Organique، بعكس المجتمعات الأولى التي تقوم على أساس التشابه في الوظائف أو التضامن الميكانيكي
(Soldari Mecaneque) ([5]).
أما عن النظريات التي تنادي بالحد من الزيادة السكانية؛ فهي قديمة أيضاً، إذ تتصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الملائمة أو الموازنة بين الموارد الاقتصادية أو حاجات الإنسان وأعداده المتزايدة. فالبيئة مهما تنوعت محدودة الموارد، ولا يمكن أنْ تفي بجميع رغبات الإنسان الآخذة في الزيادة مع اضطراد ونمو المجتمعات، ومن ثَمَّ فعملية الملاءمة أو التوازن أمر ضروري للحياة.
[1] نظرية مالتس:
يعتبر روبرت مالتس من أئمة الاقتصاديين التقليديين، ومن أهم مؤلفاته بحث في مبادئ السكان ظهر سنة 1798م، وقد عَرَضَ فيه نظرية ذات طابع تشاؤمي، يقول: "إنَّ إشباع رغبات الإنسان وتنمية أوجه نشاطه الطبيعية، والعقلية، والروحية، لا يكون إلاَّ بالطعام أولاً وقبل كل شيء، وليس إنتاج الثروة إلاَّ وسيلة هذا الطعام الذي يقيم أوده، فيتمكَّن من أنْ ينشط ويعمل ويفكر، والإنسان هو وسيلة الإنتاج الرئيسة، وهو في النهاية هدف الإنتاج الرئيسي"([6]).
وأنَّ مؤدى هذه النظرية أنَّ نسبة الزيادة في السكان تفوق بمراحل الزيادة في الانتاج الغذائي.
يرجع ذلك إلى أنَّ السكان يتزايدون طبقاً لمتوالية هندسية أساسها
(2)، (2، 4، 8، 16، 32، ..)، بينما تتزايد المنتجات الزراعية طبقاً لمتوالية عددية أساسها (1)، (1، 2، 3، 4، 5، ..)، وأنَّ المدة التي تنقضي بين كل رقمين في كلتا الحالتين هي 25 سنة. ومعنى هذا أنَّ عدد السكان يزيد خلال قرن واحد إلى 16 ضعفاً، في حين أنَّ المواد الغذائية لا تزيد من نفس المدة إلاَّ خمسة أضعاف فقط. ولذلك فإنَّ اختلالاً لا بُدَّ وأنْ يحدث بين عدد السكان وكمية المنتجات الغذائية.
ويرى مالتس أنَّ هنالك بعض الموانع التي تعمل على تجنب وقوع الكارثة، وعلى إبقاء جملة السكان عند الحد الذي تسمح به الموارد التي تشبع الحاجات الأساسية للإنسان. وهذه الموانع تنقسم إلى نوعين: موانع سلبية، وموانع إيجابية.
فالموانع السلبية هي تلك التي يلجأ إليها الإنسان من تلقاء نفسه، نتيجة تبصره كي تحول دون وقوع الكارثة. وهي تطبق غالباً في المجتمعات المتقدمة حيث يُقْبِل النَّاس طواعية على تأجيل الزواج إلى سن متأخرة، أو إلى الامتناع عنه، وكذلك تحديد النسل .
فإذا لم تَفِ هذه الموانع السلبية أو لم يُقْبِل الأفراد عليها؛ تدخلت العوامل الإيجابية لمنع تجاوز عدد السكان عن الحد الذي يمكن أنْ تكفيه المواد الغذائية. وهذه العوامل هي: سوء التغذية، والأوبئة، والحروب..إلخ).
هذا موجز عن أهم ما ورد بنظرية مالتس للسكان. أما الانتقادات التي وجهت إليها فتعتمد غالبيتها على أنَّ تنبؤاته لم تتحقَّق، فلم يتضاعف السكان دائماً كل خمسة وعشرين عاماً، كما أنَّ الإنتاج الزراعي قد زاد في كثير من الدول زيادة فاقت بمراحل الزيادة في عدد السكان، ولم يحدث ذلك في البلاد الجديدة غير كثيفة السكان ـ كالولايات المتحدة ـ فحسب؛ بل في كثير من دول أوربا الغربية التي كانت تكتظ بالسكان وقت إعلانه النظرية.
إنَّ صحة النظرية أو عدمه يتوقف على الظروف السائدة في المكان أو الزمان، وأنَّ النظرة العامة لا تكفي لهدم النظرية أو لتأييدها، ويجب النظر إلى كل من شِقْيِّ النظرية على حده: تزايد السكان، وتزايد الإنتاج الزراعي. وذلك بعد تقسيم الدول إلى مجموعات، طبقاً لنوع الإنتاج السائد فيها، وطبقاً لمراحل تطورها.
ففيما يختص بتضاعف السكان مرةً كل خمسة وعشرين عاماً؛ فإنه وإنْ كان لا يتحقَّق في عدد من الدول، فإنَّ الغالبية العظمى من الدول النامية تتزايد طبقاً لهذا المعدل في الوقت الحاضر أو ربما بأكثر منه.
وفي هذا الصدد؛ فإنَّ التحليل الحديث لتطور نسب الزيادة في السكان في الدول المختلفة، يميز بين أربع مراحل من التطور([7]):
المرحلة الأولى:(/2)
وفيها يرتفع معدل المواليد وكذلك معدل الوفيات، والنتيجة هي تزايد السكان ببطء ويبدو أن هذه المرحلة هي التي قصدها مالتس، إذ أن العوامل الإيجابية التي ذكرها تتدخل لترفع من معدل الوفيات وتنطبق هذه الحالة على الدول البدائية.
المرحلة الثانية:
وفيها يعمل انتشار الأساليب الصحية الحديثة على انخفاض معدل الوفيات، فتحدث زيادة كبيرة لعدد السكان.
وهنا يظهر شبح مالتس بصورة مخيفة، ويبدأ المفكرون في البحث عن مخرج، والحل الطبيعي لذلك هو إعادة التوازن بين السكان والإنتاج، إما عن طريق تحديد النَّسل، أو عن طريق الإسراع بزيادة الإنتاج، أو اتِّباع الطريقتين معاً. وتنطبق هذه الحالة على كثير من الدول النامية في الوقت الحاضر.
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة تتميز بانخفاض في معدل المواليد وانخفاض في معدل الوفيات.
وانخفاض معدل المواليد ينتج في هذه الحالة عن رغبة الأفراد أنفسهم في تقليل حجم الأسرة، حتى يتمتع الكل بمستوى معيشة أفضل، أي ينتج عن طريق العوامل السلبية التي ذكرها مالتس.
والمشاهَد أنه نتج عن تدخل هذه العوامل السلبية في البلاد الغربية في الوقت الحاضر آثاراً أكبر من تلك التي تخيَّلها مالتس، فلم تعمل هذه العوامل على حفظ التوازن بين عدد السكان وحجم المنتجات فحسب؛ بل أدت إلى ثبات عدد السكان أو تزايدهم بنسبة بسيطة. وفي الوقت نفسه زاد الإنتاج زيادة هائلة، وهذا يفسِّر المستوى المرتفع للمعيشة الذي ينعم به سكان أوربا الغربية في الوقت الحاضر.
المرحلة الرابعة:
يرى البعض أنها تلي المرحلة السابقة، التي ترتفع فيها نسبة المواليد وتظل نسبة الوفيات على انخفاضها، والنتيجة هي زيادة السكان بمعدل مرتفع. وتنطبق هذه الحالة على الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا يخشى من زيادة السكان في هذه الحالة، لأن البلاد تتمتع بمقدرة إنتاجية هائلة، تسمح بزيادة الإنتاج زيادة تفوق بمراحل، نسبة الزيادة في السكان.
هذا بالنسبة لما جاء في نظرية مالتس عن مضاعفة السكان كل خمسة وعشرين عاماً. أما فيما يختص بما ورد عن زيادة الموارد الغذائية مرة كل خمسة وعشرين عاماً؛ فقد تعرضت النظرية إلى نقد شديد من جانب كل المتشائمين والمتفائلين.
فقد تقدَّمت الأساليب الزراعية تقدُّماً ملموساً منذ ظهور نظرية مالتس، وثبت أنه من الممكن مضاعفة الإنتاج الزراعي في سنوات قليلة، نتيجة مقاومة الآفات، وإنتاج سلالات أكثر غلة، وانتقاء البذور، واستخدام الأسمدة، وغير ذلك من مظاهر التقدُّم العلمي في الزراعة.
ولا ينكر المتشائمون هذه الحقيقة، وإنما يرون أنَّ هذه الزيادة في الحاصلات الزراعية لا يمكن أنْ تستمر إلى ما لا نهاية، فالأرض الجيدة محدودة، وزراعتها الكثيفة تؤدي إلى تناقص درجة خصوبتها، كما أنَّ التوسع في الإنتاج الزراعي يتم دائماً نتيجة زراعة أراضي أقل جودة، هذه نفسها محدودة المساحة، إذ لا يمكن تصور زيادة لا نهائية لمساحة الأرض المزروعة.
وتظهر هذه المشكلة حالياً بصورة مفزعة في بعض البلدان النامية، ففي بلد كمصر يلاحظ أنَّ نصيب الفرد من المواد الغذائية المنتجة يتضاءل سنة بعد سنة، على الرغم من التقدُّم الملموس في الري، والزراعة، وإصلاح الأراضي. وسوف تؤدي المشاريع الحالية للسد العالي وزراعة أراضي جديدة إلى التخفيف من حدة المشكلة، ولكن آثار هذه المشاريع لن تكون سوى وقتيه، إذ من المتوقع أنْ يعود الحال في وقت قريب إلى ما هو عليه الآن، وربما إلى أسوأ منه إذا ما ظل شبح هذه الزيادة المروعة في السكان قائماً.
والخلاصة، أنَّ عدم تحقيق تنبؤات مالتس في كثير من الدول لا يعني أنَّ نظريته غير صحيحة؛ بل يعني فقط أنها ليست نظرية عامة تطبق في كل زمان ومكان.
[2] نظرية الحجم الأمثل للسكان:
ترى هذه النظرية أنَّ لكل إقليم حجماً مثالياً للسكان، يتناسب مع مقدرته الإنتاجية، وكل زيادة للسكان في الإقليم الذي ينقص عدد سكانه عن الحجم الأمثل تؤدي إلى زيادة الإنتاج بنسبة تزيد عن نسبة هذه الزيادة. فإذا ما تعدَّى عدد السكان هذا الحجم؛ فإنَّ أية زيادة سكانية يترتب عليها انخفاض كمية المنتجات التي تخص الفرد في المتوسط.
ويتضح من هذا أنَّ فكرة الحجم الأمثل للسكان تعتمد على نظريتيْ: الإنتاج، والغلة المتناقصة. فهي تفترض أنَّ مقدار العمل المتوفر في أي إقليم يتوقف على تعداد سكانه، أو أنَّ مقدار العمل اللازم للإنتاج يتوقف على مدى توفر عوامل الإنتاج الأخرى من رأس المال والموارد الطبيعية. فإذا كان العمل نادراً بالنسبة لعاملي الإنتاج الآخرين؛ فإنَّ أي زيادة في عرضه تؤدي إلى تزايد الغلة، وتستمر هذه الزيادة حتى تصل إلى نقطة يجب عندها التوقف عن استخدام أموال جديدة، وإلاَّ فإنَّ النتيجة ستكون تناقصاً في الغلة.(/3)
ويفهم من هذا التحليل؛ أنَّ الحجم الأمثل للسكان ليس ثابتاً، بل يتغيَّر طبقاً للتغيُّرات التي تحدث لمقدرة الإقليم الإنتاجية، أي طبقاً لحجم ودرجة كفاءة عوامل الإنتاج الأخرى. ولذلك فإنَّ الإقليم الذي يصل عدد سكانه إلى العدد الأمثل؛ يجب عليه أنْ يزيد من رأس المال المستخدم في الإنتاج (عدد الآلات)، وكذلك مساحة الأراضي المزروعة، فإذا لم تزد هذه العوامل الأخرى بنسبة كافية؛ فإنَّ النتيجة تكون تعرُّض السكان لانخفاض مستوى المعيشة إذا ما زاد عددهم.
والملاحظات التي أثيرت بشأن هذه النظرية كثيرة، ولكن نتعرض لأهمها:
[أ] إنَّ قبول فكرة وجود حجم أمثل للسكان؛ يعني قبول فكرة وجود حجم أقصى لهم. ويعبِّر هذا الحجم الأقصى عن أكبر عدد من السكان يستطيع أنْ يتحمَّله الإقليم، بحيث لو زاد عن هذا القدر انخفض مستوى المعيشة إلى ما دون حد الكفاف.
وتقترب نظرية الحجم الأمثل للسكان في هذا الشأن من نظرية مالتس، فالحد الأقصى المشار إليه هو الحد الذي تنشط عنده الموانع الإيجابية التي ذكرها مالتس.
[ب] لعل من أسباب تأييد الكثيرين لهذه النظرية؛ هو ما أتت به من تعريف جديد للدول المزدحمة بالسكان والدول قليلة السكان. فطبقاً لتعاليم النظرية فإنَّ عدد السكان في الكيلو متر المربع لا يصلح أساساً لمعرفة ما إذا كانت الدولة مزدحمة بالسكان أم لا، فالدولة تعتبر قليلة السكان إذا كانت تستطيع أنْ تقبل سكان جدد وتستفيد منهم في رفع مستوى المعيشة فيه، بصرف النظر عن العدد الفعلي للسكان في الكيلومتر المربع، وبالعكس فإن الدولة تعتبر مكتظة بالسكان إذا كان عدد سكانها لا يمكن أن يتزايد دون أن يصحب ذلك انخفاض في متوسط دخل الفرد.
إلاَّ أنه يعاب على هذا التعريف أنه يبسِّط الأمور أكثر من اللازم، فالعلاقة بين عدد سكان دولة ما ومستواها الاقتصادي؛ علاقة معقدة، فلا تكفي مجرد الزيادة في السكان لرفع أو خفض الدخل القومي بها، لأنَّ النتيجة النهائية تتوقف على صفحات السكان الجدد من حيث السن، والكفاءة، ومقدار الاستثمارات الديموغرافية التي أنفقت لتكوينهم.
[ج] عاب البعض على النظرية أنها لو قبلت من الناحية النظرية، فإنه يصعب تطبيقها من الناحية العملية، فالاهتداء إلى الحجم الأمثل لسكان دولة ما من الصعوبة بمكان، فالحجم الأمثل للنظرية يتحدَّد على أساس ظروف المجتمع، ومن بينها حالة العمال من حيث: الكفاءة والمهارة والتطورات التي تحدث في هذا الشأن. إلاَّ أنه من الثابت أنَّ تغيُّر حجم السكان يؤدي إلى ظهور تغييرات كثيرة في شكل الهرم السكاني، وفي نسبة العاملين إلى مجموع السكان، ومقدرتهم
الإنتاجية.. إلخ، ومن ثم صعب الوصول إلى رقم معين.
إنَّ محاولات إيجاد رباط أو علاقة بين ظاهرة النمو السكاني ومشكلة استنزاف الموارد الطبيعية عامة والمعدنية بصفة خاصة؛ لا تدعمه أي حقائق علميَّة مجردة ومؤكدة، ولا توثقه أي دراسات جادة. وبالتالي؛ فإنَّ الزعم بأنَّ النمو السكاني هو السبب في مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية، إنما هو مجرد زعم باطل لا تؤكده الحقائق العلميَّة، لأنَّ مشكلة الاستنزاف ترجع أسبابها وتفسيراتها إلى عوامل كثيرة مختلفة، طبيعية وبشرية، ولكن على رأسها يأتي الاستهلاك المفرط للشعوب الغنية والمتقدمة. أما النمو السكاني فقد تبيَّن أنه ليس المسؤول عن الضغط الواقع على تلك الموارد. ذلك لأن الأمر عندما يتعلق بالضغط على موارد العالم الطبيعية كما يقول محبوب الحق: "فإنه لا يجوز أنْ نكتفي بالأعداد المجردة؛ بل ينبغي معرفة دخل هذه الأعداد وطلبها الاستهلاكي... إلخ".
فالعالم الثالث ـ عدا الدول المصدرة للبترول ـ يضم 70% من سكان العالم، ولا يتمتع إلاَّ بحوالي 11% فقط من الناتج القومي الإجمالي للعالم. وبالتالي فهو لا يستهلك غير ما يقرب من عُشر موارد العالم، بل إنَّ استهلاكه للموارد غير القابلة للتجديد قد يكون أدنى من ذلك، لأن نمطه العام للاستهلاك إنما يقوم على السلع البسيطة التي تحتاج إلى قدر من الموارد يقل كثيراً عما تتطلبه أساليب الحياة في الدول الغنية.
ويعني ذلك أيضاً أنَّ الزيادة السنوية الحالية في السكان في البلدان المتطورة ـ حتى وإنْ كان أقل من 1% سنوياً ـ تطرح فيما يتعلق بموارد العالم مشكلة عالمية بدرجة أبعد كثيراً مما يطرحه نمو سكاني قدره 3% لسكان العالم الثالث، وذلك بسبب التفاوت الجوهري الراهن في الدخول بين الدول الغنية والفقيرة.
ومن الزاوية الكمية؛ فإنَّ الزيادة الجارية في سكان البلاد المتطورة تفرض على موارد العالم الطبيعية ضغطاً لا يقل عن ثمانية أمثال ما يفرضه عليها نمو السكان في العالم الثالث، وذلك لمجرد أنَّ كل عضو جديد في الدول الغنية يتمتع بدخل يفوق دخل نظيره في الدول الفقيرة بحوالي عشرين مرة، ويتكلَّف العالم من الموارد لإطعام أمريكي واحد ما يزيد عن ثلاثين مرة على ما يتكلَّفه لإطعام مواطن هندي واحد([8]).(/4)
ولإطعام كل العالم مستخدمين نفس أسلوب الزراعة الكثيف في أمريكا اليوم؛ فإنَّ التلوث سيزداد، وسيزيد استهلاك الطاقة التي يستخدمها العالم يومياً، وسيستنزف احتياطي النفط المعروف في 13 سنة فقط([9]).
وهكذا تبقى الحقيقة الجوهرية متمثلة في أنَّ مستويات الوفرة والاستهلاك التي تزداد ارتفاعاً باستمرار في الدول الغنية؛ هي التي تلقي على موارد العالم العبء الأكبر، مقارنة بما تلقيه الزيادة في أعداد السكان في البلاد الفقيرة([10]).
التكاثر السكاني في الفكر الإسلامي
أهمية تكاثر السكان في الإسلام:
إنَّ التكاثر والتناسل في الإسلام يعتبر أمراً طبعياً، وغريزة فطرية لدى الإنسان. فقد أودع الله عَزَّ وجَلَّ لدى الإنسان قوى ودوافع غريزية وفطرية، تقوده إلى البحث عن التوالد، وطلب الذرية، وزيادة الأبناء، على اعتبار أنَّ التناسل أو التكاثر وزيادة النَّسل يمثل إحدى ضروريات الحياة الخمسة بالنسبة للإنسان، وهي: (الدِّين، والعقل، والمال، والنَّفس، والنَّسل)، والتي تجب المحافظة عليها. كما أنَّ التناسل يتوقف عليه بقاء واستمرارية الجنس البشري.
وهناك عدد من الآيات القرآنية التي تعكس هذه المعاني، منها قوله تعالى: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}([11]).
وقيل في معنى {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}، أي: من ذلك الذي كتب الله لكم في حصول النَّسل والولد([12]).
ومن معاني ودلالات التوالد والتكاثر هبة الذرية والأبناء، وهي خير ومِنَّة من الله سبحانه وتعالى على عباده: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً}([13]).
ويذكر الشيخ ابن الخطيب([14]) بأنَّ الهبة لا تكون إلاَّ في الخير المحض. فلا يجوز أنْ يقال: وهبه الله تعالى (مُصِيبَة)، بل كل ما ساقه الله تعالى في كتابه الكريم بمعنى الهبة هو خير محض وسعادة بينة، مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}([15])، {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا.. }([16])، {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى}([17])، {لأَهَبَ لَكِ غُلاماً}([18])، {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}([19])، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}([20])، {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}([21]).
أما الجعل ـ كما يقول ابن الخطيب ـ فقد يكون خيراً، وقد يكون شراً، فمثال الخير: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}([22])، {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ}([23])، {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ}([24])، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}([25]). ومثال الشر: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً.. }([26])، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}([27]).
وبناءً على هذا الفرق ـ كما يذكر ابن الخطيب ـ فإنَّ قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} يقتضي الخير المحض، بينما قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً} يقتضي الشر المحض.
إذاً فإنَّ الحد من هبة الله تعالى لعباده، والمتمثلة في الإنجاب والتوالد والتكاثر أو وقفها بإرادتنا المحضة، فهو شر. ولكن استمراريتها ورعايتها وصيانتها، فهو خير، خاصة إذا علمنا أنَّ هذه الهبة قد أحاطها الله العزيز الحكيم بسياج منيع يحول دون نقصها أو فشلها، قال تعالى {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}([28]).
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس من تراب الأرض، ثم استخلفهم فيها بجنسهم، واستعمرهم فيها، وضمن لهم الأرزاق ليعمروها، ويستفيدوا منها، ويعبدوه سبحانه وتعالى {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}([29]).
ولعل من مقتضيات الخلافة والعمارة والعبادة؛ الخلق والتكاثر والتزايد، لأن ذلك يعني استمرارية الحياة. بل إنَّ الخالق جَلَّ وعلا قد ربط أمر الدِّين بالنَّاس، سواء من حيث التنزيل، أو الخطاب، أو التكليف، أو التبليغ، وجعل العقيدة للنَّاس فيما تتميَّز به من الفاعلية والعالمية والشمول، وأكَّد سبحانه وتعالى أنَّ مصيرها مرتبط بمصير البشر، فهي عميقة قوية صادقة بوجود النَّاس المؤمنين، الكُثْر، الأقوياء، الصادقين، لحملها ونشرها ودفع مسيرتها نحو المستقبل.(/5)
إضافة لضرورته بالنسبة لاستمرارية الجنس البشري في الدِّين والعقيدة؛ فإنَّ التكاثر ضروري أيضاً لبقاء الأُمَّة الإسلامية على وجه الخصوص، واستدامة بقائها خاصة في ظل المكانة التي أرادها الله لها أنْ تكون فيها، والدور الذي أراده لها أنْ تقوم به، والموصوفان في القرآن والسُّنَّة، وهما مكانة الخيرية ودور الشهادة على الناس، قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}([30])، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ..}([31]).
إنَّ بقاء الأُمَّة لا بُدَّ أنْ تتوافر له ثلاثة أشياء، هي: الأرض الكافية الوافية، والوحدة الفكرية والوجدانية الضامنة لجميع الشعوب، ثم العدد الكافي الغفير من النَّاس. حتى إذا ما تعرَّضت هذه الأُمَّة لأي سبب أو آخر من مخاطر الفناء والإبادة بسبب الأوبئة أو الحروب أو غيرها تكون قادرة على الصمود والاستمرارية في رسالتها([32]).
والكثرة العددية هنا مهمة بالنسبة للأُمَّة الإسلامية، وهي تتحمَّل مسؤولية قيادة الأمم والشهادة عليها عبر الأجيال المتعاقبة.
أبان المولى عز وجل بأنَّ القلة ذلة والكثرة عزة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ.. }([33])، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}([34]).
وقد طلبها الرسول صلى الله عليه وسلم لأُمَّته عندما قال: (تناكحوا، تناسلوا، تكاثروا، فإني مباهٍ بكم الأُمَم يوم القيامة)، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ)([35]). وإذا كانت في الكثرة عزة، وهذه هي سنته صلى الله عليه وسلم ؛ فمن الواجب ألا يرغب عنها المسلمون، ويدعون للقلة وهي ذلة.
لقد أمر الله تعالى المسلمين بإعداد القوة، لحماية وتقوية الأُمَّة الرسالية في خوضها معركة الصراع الحضاري وتحدياته لمجابهة الأعداء والباطل بالحق والدفاع عن الحق والعدل {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.. }([36]). ومعلوم أنَّ القوة مرتبطة بالكثرة العددية ومصاحبة لها {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ.. }([37])، {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً}([38])، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً}([39]).
وإذا كانت الكثرة تعني القوة؛ فإنها إذن ضرورية لتمكين الأُمَّة المسلمة من الصمود في وجه الظلم والبغض والطغيان، ثم المقاومة ورد العدوان، ثم الانتصار في نهاية المطاف. وبالعكس فإنَّ القلة العددية تعني الضعف وترتبط بالوهن {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}([40])، {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ}([41])، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}([42])، {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ.. }([43]).
فإذا كانت القوة الناتجة من الكثرة العددية تعني الانتصار العسكري والحضاري، والقيادة والريادة، والظهور والتقدُّم بالنسبة للأُمَّة؛ فإنَّ الضعف الناتج عن القلة، هو رديف التراجع والخضوع الفكري والسياسي، والانهزام النفسي والعسكري، والاستسلام للخصوم. والأُمَّة الضعيفة المتخلفة المتخاذلة لا تستطيع أنْ تنفِّذ المشروع الرسالي الحضاري الإسلامي الكبير، وتتحمَّل مسؤوليته وأمانته التاريخية.(/6)
غير أننا نلمِّح هنا إلى أنه رغم أنَّ الأصل في القلة العددية الضعف والذلة، وفي الكثرة العددية القوة والعزة؛ إلاَّ أنَّ أيَّاً منهما ليس عاملاً كافياً رغم ضرورته لاستحقاق الهزيمة أو لتحقيق النصر، فالكثرة رغم أنها مطلوبة لكنها قد لا تكون بالضرورة نافعة كما جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ..)([44]).
والكثرة قد تنقلب بأمر الله تعالى إلى ضعف وهزيمة، والقلة قد تنقلب إلى قوة ونصر، كما قال الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً}([45])،{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}([46]). وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذِّر المسلمين من التخاذل بقوله: "إنني لا أخاف كثرة العدد وقلته، إنني أخاف من الذنوب"([47]).
وسمع خالد بن الوليد أحد جنوده يقول في أحد معارك الشام: ما أكثر الروم وأقل المسلمين. فرد عليه خالد قائلاً: "إنما ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتضعف بالخذلان"([48]).
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوضح أسباب هزيمة المسلمين وانتصارهم، فيقول: "إنما نعادي عدونا وننتصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم يكن لنا قوة بهم، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فلو استوينا نحن وهم في المعصية؛ كانوا هم أفضل منا فى القوة والعدد"([49]).
أما بالنسبة للجانب المتعلق بإعمار الأرض وتنميتها؛ فيمكن القول بأنَّ عنصر السكان من حيث الكم والنوع؛ يعتبر الركيزة الأساسية للتنمية المادية، المتمثلة فى كم ونوع السلع والخدمات، والتنمية الإنسانية من ناحية الفكر، والثقافة، والسلوك، والأخلاق، بل إنَّ هذا النوع الأخير من التنمية ـ تنمية الإنسان ـ يحظى بالأولوية وفقاً لمنهج التنمية وفلسفتها في الإسلام. حيث تمثل البشرية إحدى أهم منطلقات التنمية بمجاليها المادي والإنساني، لقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}([50]). فالقرآن الكريم يقرِّر في هذه الآية أنَّ أي تغيير في الوضع المادي أو الموضوعي، الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الأخلاقي، أو السلوكي…إلخ للحياة البشرية إنْ هو إلاَّ نتاج تغيير المحتوى الداخلي للإنسان، بما يحمل من غرائز، ومشاعر، ووجدان، ونوازع، واستجابات، فما لم تتغيَّر الذات البشرية باتجاه التكامل التنموي لا تحصل التنمية فى الحياة الإنسانية. وهذا يعني أنَّ تطور الإنسان، ورفع مستواه الحضاري عقلياً أو فكرياً وثقافياً، يأتي في المقام الأول وقبل تطوير الجهاز الإنتاجي من معدات وآلات ومصانع.. إلخ.
هكذا يتضح أهمية تكاثر السكان من وجهة النظر الإسلامية، المتمثلة في النواحي الفكرية والعقائدية أو المادية والتنموية الخاصة بالحياة الإنسانية وتطورها. فإنَّ التكاثر السكاني هو مدعاة دائماً للعناية والاهتمام من جانب الإسلام. فقد اهتم الإسلام بالخصوبة السكانية وتنامي عدد السكان وتكاثرهم، وشجَّع على ذلك، فأمر المسلمين بالزواج، وحَثَّ على الزواج المبكر، وأباح تعدُّد الزوجات، كذلك حَثَّ الإسلام على الزواج من الولود الودود، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ)([51]). كما حارب الإسلام ومنع كل ما يؤدي إلى إهلاك النَّسل، كالزنا، والشذوذ الجنسي، وتدابير منع الحمل، والإجهاض، وغير ذلك من مظاهر الإباحية الجنسية والفساد الاجتماعي، وحظر إجراءات وقف النمو السكاني والتكاثر البشري دون سبب شرعي.
مفهوم الإسلام للمشكلة السكانية:
يبدأ مفهوم الإسلام بطبيعة مشكلة التكاثر السكاني من مسلَّمات عقدية، مفادها أنَّ ما تحويه الدنيا من ثروات هو كافٍ للمخلوقات كافة حتى نهاية الحياة على هذه الدنيا، وأنه متناسب مع عدد السكان وغيرهم من المخلوقات وتزايدهم إلى أنْ يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
هذه الحقيقة يمكن أنْ تتضح من خلال المعادلة البسيطة بين الأرزاق من جهة، والمخلوقات من جهة أخرى، وفقاً لما تصوِّره بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}([52])، وقوله تبارك وتعالى فى آية أخرى: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}([53]).(/7)
ففي الآية الأولى يحدثنا القرآن الكريم عن التقدير الإلهي لمخزون الأرض، فالله سبحانه وتعالى الذي خلق الأرض قد قدّر فيها أرزاق مخلوقاته، أي ما يحتاج أهلها إليه من أرزاق كما يقول الإمام ابن كثير([54]) فى معناها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} أي وفق مراده، من له حاجة إلى رزق فإنَّ الله تعالى قدّر له ما هو محتاج إليه. وهذا القول يشبه ما ذكروه فى قوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}([55]).
وإلى جانب تقدير الأرزاق في الأرض؛ فقد بارك فيها وأكثر خيرها ومنافعها. إذاً فقد قدَّر الله تعالى في الأرض الأقوات وأحل فيها البركة. ومدلول البركة هنا هو الكثرة والزيادة والكفاية المستمرة. وقد جاء في الحديث الشريف عندما اشتكى بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يأكلون فلا يشبعون فرد عليهم: (..فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ)([56]).
إنَّ الشاهد فى كل المعاني والمدلولات التي وردت بشأن تقدير الأقوات وبركاتها؛ هو أنَّ الأرزاق التي خلقها الله سبحانه وتعالى هي وافرة وكافية، وهى متجدِّدة متصلة، لا تنقطع سواء فى الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وأنها لا تتوقف وذلك بحكم تقدير الله تعالى وعلمه وحساباته وبموجب ما أودعه في الأرض من بركة. وعلى الرغم مما كشفه الله تعالى للإنسان حتى الآن، وسخَّره له من أشياء كثيرة من بركته فى الأرض، ومن الأقوات التي خزَّنها وأودعها فيها؛ إلاَّ أنَّ ذلك لا يساوي شيئاً مقارنةً بالإمكانات المدخرة المودعة في الأرض والمسخرة لمنفعة الإنسان، ولكل ما خلق الله سواء في ماضيهم أو حاضرهم أو مستقبلهم، ورزق ربك ما له من نفاد: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}([57]). {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}([58])، وقوله : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ.. }([59]).
وفي الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ..)([60]).
أما فى الآية الثانية، التي تبيِّن الشق الآخر من معادلة الأرزاق والخلق؛ فيحدثنا القرآن الكريم أيضاً عن التقدير الإلهي لخلقه. ونجد ذلك في قوله تعالى: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}([61]).
يقول ابن الخطيب في معاني ودلالات هذه الآية: "فالله وحده هو الذي يتولى زيادة المواليد ونقصانها وحاجة الكون لها، وقد خلقه وأبدعه وأعدَّ له ما يصلحه وما ينفعه)، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}([62])، واختياره وإرادته، فالله عزَّ وجَلَّ يعلم ـ علم إنشاء وإرادة ـ ما تحمله كل أنثى في أرحامها، وما تغيضه تلك الأرحام مما تحمله بسقوط الأجنة، وما تزيده من تعدُّد الأجنة في الرحم الواحد بولادة واحدة (التوائم). وجميع ذلك بمقدار معلوم لديه تقتضيه الضرورة وتستلزمه الحاجة والمصلحة وعِلْمه جل شأنه كما لا يخفى سابق لأمره. إذا كان ذلك فمن أعلم من الله؟ ومن أخبر منه بحاجة مخلوقاته وكائناته؟"([63]).
إذاً فقد بيَّن القرآن العظيم التقدير الإلهي لمخزون الأرض، وضبط المعادلة الاقتصادية، وتوفير مستلزمات الحياة عليها فقال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}([64])، وقال: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى …}([65])، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}.
وبالتأمل في عبارة {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}، و{سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}([66])، كما يقول ابن الخطيب: "نستنتج أنه لا نقص في موجودات الطبيعة المعاشية، ولا اختلاف في الموازنة مهما تزايد عدد السكان ونما"([67]).(/8)
ويقول المحاسبي: "لقد أخبر الله بتقسيمه الرزق بين خلقه، وتوليه ذلك في آيات كثيرة؛ فقال جل شأنه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}([68])، {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.. }([69])، {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}([70])، فأقسم الله بنفسه أنه قد قسَّم الأرزاق بين الخلق وبتوليه ذلك، وأمضى الضمان بالكفاية لهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. }([71]). وكان من تدبيره أنْ جعلهم أجساداً لا تقوم إلاَّ بالأغذية، ولا يدوم بقاؤها إلاَّ بالأطعمة، فكتب الأعمال، وضرب الآجال، وقسَّم الأرزاق، وختم أمر الدنيا بالفناء، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}([72]). فقد اتبع الله الخلق بالرزق. والإنسان منذ أنْ كان طفلاً في بطن أمه في ظُلَم الأرحام ساق إليه في خفاء مكانه الرزق، وأدّى إليه على غامض موضعه الغذاء ثم نقله عَزَّ وجَلَّ من هذه الحال إلى دار الزوال بعد أنْ كتب له عمله، وضرب له أجله، وقسَّم له رزقه"([73]).
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد تكفَّل بأرزاق العباد، ورزق أبنائهم وحفدتهم، ودوابهم وكل شيء خلقه، وإذا كان الإسلام قد أعلن بأنَّ الموارد في الأرض تكفي، وستكفي إلى نهاية الحياة على الأرض؛ فإنَّ كل معتقد خلاف ذلك فهو كافر بالنص القرآني {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}([74]).
يقول الإمام المحاسبي: "الذي يجب على النَّاس في جملتهم من التوكل المفترض عليهم؛ التصديق لله رب العالمين فيما أخبر من قسم وضمان الكفاية، وكفالته في سياق الأرزاق إليهم، وإيصال الأقوات التي قسَّمها في الأوقات التي وقَّتها، بتصديق تقوم الثقة به في قلوبهم، وينفي به الشكوك عنهم والشُّبَه، ويصفو به اليقين، ويثبت به حقائق العمل، إنه الخالق الرازق، المحي المميت، المعطي المانع، المتفرد بالأمر كله … فكان على الخلق تصديقه فيما أخبر وأقسم، فمن صدق في ذلك كان بتصديقه وإيمانه مؤمناً متوكلاً، ومن كذب أو شَكَّ كان بذلك معانداً كافراً بما قص علينا جَلَّ ثناؤه في كتابه"([75]).
خلاصة الأمر؛ فإنه انطلاقاً من المسلَّمات العقدية التي ذكرناها والإيمان بها، فإنَّ ما تختزنه الأرض من موارد وأرزاق متناسب ـ من حيث حجمه وكميته ـ وبشكل متوازن مع عدد السكان وتزايدهم وسائر الكائنات الحية الأخرى. وأنه لا اختلاف في الموازنة هذه مهما تزايد عدد السكان ونما. وإنَّ هذه الحقيقة قد دعَّمتها أيضاً البيانات والإحصائيات وشواهد الواقع، بأنَّ الموارد كافية؛ بل وفائضة عن حاجة البشر. وإذا كان القوت موجوداً وكافياً، وأنَّ هذه المعادلة بين الخلق والأرزاق متناسقة متوازنة؛ فإنَّ ذلك الطريق إلى القوت مرسوم وواضح بشكل ثابت في كل زمان ومكان.
يبيِّن القرآن الكريم أنَّ المشكلة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المشكلات التي يعاني منها الإنسان في الحياة؛ سببها الإنسان ذاته وليس نقص الإمكانات الطبيعية أو عدم توافرها أو عدم كفايتها أو زيادة السكان وتكاثرهم، ونقرأ ذلك في قوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([76]). فالآيات تبيِّن نعم الله تعالى الكثيرة المسخرة للإنسان، والإمكانات الطبيعية وكفايتها لحياته.(/9)
فالسبب في المشكلات ليس السكان وتكاثرهم، وليس هو النقص في الإمكانات الطبيعية أو عدم توافرها وكفايتها؛ ولكنه الإنسان بجشعه، وشرهه، وظلمه، وأنانيته، وحبه للسيطرة، وإسرافه، وتبذيره في الإنفاق والمؤونة والاستهلاك، وغيرها مما يقود إلى الاحتكار، واكتناز الثروة، وحرمان الآخرين، وسوء التوزيع، وسوء الاستغلال للموارد الطبيعية. وبكل ذلك يكون الإنسان جاحداً ومكذباً بالنعمة، غير معترف بها، وبهذه النزعة للجحود والكنود وسوء الظن بالله تعالى؛ فهو إذن السبب في المشكلة. إنه هو الإنسان لكونه جاحداً لنعم الله تعالى، ساتراً لها عن أنْ تصل للآخرين.
إذاً فإنَّ الحل الأكثر جدوى وفعالية في الحد من مشكلة النمو السكاني؛ يكمن في استئصال الفقر من البلدان النامية عن طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، التي تؤدي إلى زيادة الدخل وعدالة توزيعه، وتحسين التغذية، ورفع المستويات الصحية والتعليمية للنَّاس. وقد يكون هذا الحل معقّداً وأعلى تكلفة بكثير من برامج تنظيم الأسرة، ولكنه الحل الوحيد الذي يمكن أنْ يلقى النجاح والقبول، وأنه الأعظم حكمة بكثير بالنسبة للبلدان النامية الفقيرة الموارد أنْ تتخذ من التدابير ما أثبتت التجربة أنه يحقق بعض النتائج، وذلك بدلاً عن تطبيق برامج تنظيم الأسرة، التي لم تثبت جدواها إلاَّ في البيئة المعملية الخالية من المعوِّقات البشرية. كذلك هو الحل المقبول لدى شعوب العالم الثالث، لأن مشكلة السكان عميقة الجذور في التراث والمؤسسات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية لهذه البلاد، ولا يمكن ببساطة عزلها أو معالجتها على انفصال ككيان مصطنع يمكن أنْ يستجيب للتكنولوجيا الحديثة([77]). وهذا أيضاً هو الحل الذي تأكَّدت فعاليته وجدواه في الحد من الخصوبة والإنجاب من خلال التجربة الواقعية، سواء كان ذلك على مستوى الدول المتقدمة أو النامية. ولعل خير شاهد ودليل على ذلك الذي نقول به؛ ما تفيد به نظرية (فرانك نوتشتاين) المعروفة باسم التحول السكاني ((Demographic Transition، والتي أثبت من خلالها أنَّ الدول الأوروبية كانت تشهد مع مراحل تطورها تحولات ديموغرافية مصاحبة، تتمثل في انخفاض معدل النمو السكاني مع كل مرحلة يتم فيها تحول أو تقدُّم مادي. ففي المرحلة الأولى من التحول السكاني الذي اتسمت به المجتمعات قبل الحديثة؛ كانت معدلات المواليد والوفيات على السواء مرتفعة، وكان عدد السكان ينمو ببطء، إنْ كان هناك ثمة نمو على الإطلاق. وفي المرحلة الثانية؛ تحسَّنت ظروف المعيشة مع الأخذ بالتدابير الصحية العامة، بما في ذلك التوسع في التصميمات والزيادة في الإنتاج الغذائي. وظلت معدلات المواليد مرتفعة، في حين انخفضت معدلات الوفيات، وزادت سرعة النمو السكاني. وأعقب ذلك المرحلة الثالثة، عندما أدَّت المكاسب الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن انخفاض معدلات وفيات الأطفال إلى انخفاض الرغبة في الأسرة كبيرة العدد. وكما كان الحال في المرحلة الأولى؛ حدث توازن في معدلات المواليد ومعدلات الوفيات ولكن بمستوى أقل كثيراً([78]).
إنَّ نتائج العدد من الدراسات التي أجريت مؤخراً؛ تؤكد أهمية وفاعلية إزالة الفقر أو تحقيق التنمية لحل المشكلة السكانية في الدول النامية. فقد قام ميردوتش مثلاً بدراسة ظاهرة التخلف والفقر في الدول النامية وتحليل أسبابها، فأكَّد من خلال تحليلاته أنَّ ارتفاع معدلات المواليد في الدول النامية راجع في الأساس إلى أسباب اقتصادية واجتماعية تتعلق بالفقر. وأشار الباحث إلى أنَّ الأُسر الكبيرة في تلك الدول هي أمر منطقي من الناحية الاقتصادية بالنسبة للفقراء وأنَّ هذا التوجه نحو الأُسر الكبيرة يتلاشى كلما ارتفع دخل الأسرة أو تحسَّن مستوى رفاهيتها. وهذا ينعكس أيضاً في ظاهرة انتشار حجم الأُسر الأصغر عند المستويات العالية من الدخل ومستوى الرفاهية. وبناءً على ذلك خلص الكاتب إلى القول بأنَّ أنماط التنمية العادلة هي الآلية الوحيدة التي يمكن أنْ تساعد كثيراً على التحكم الفاعل والسريع في مسالة النمو السكاني. بمعنى أنَّ معدلات المواليد العالية في العالم، وبخاصة في البلاد النامية، يمكن خفضها عن طريق تحقيق عدالة أكبر من توزيع الدخل والتنمية بين المجتمعات الريفية والمجتمعات الحضرية. وما دام الريف هو "الدينمو" المحرك للنمو؛ فإنَّ المساواة بين الريف والحضر عبر التنمية المتوازنة يعتبر ـ في رأي الباحث ـ أمراً حاسماً بالنسبة لخفض معدلات المواليد، ومن ثَمَّ كبح النمو السكاني السريع في الدول النامية([79]).
وتؤكِّد دراسات أخرى بأنَّ الفترة ما بين 1970ـ1977م، قد شهدت انخفاضاً واضحاً في معدل المواليد في الدول النامية، حيث كان هذا المعدل في الانخفاض يزداد بقدر ثلاثة أضعاف على معدل الانخفاض في المواليد في الفترة من 1950م – 1970م، الشيء الذي ساعد كثيراً في خفض معدل النمو السكاني في العالم ككل([80]).(/10)
ولكن الواضح أنَّ هذا الانخفاض في معدل النمو السكاني ـ كما تفيد تلك الدراسات ـ لم يكن مرتبطاً بزيادة الناتج القومي وتحسين دخل الفرد، بل وأهم من ذلك أنه كان مرتبطاً بعدالة توزيع ذلك الدخل والخدمات، نتيجة لسياسات تحويل الموارد في العديد من الدول النامية نحو خدمة المجموعات الأفقر فيها. فقد انخفضت معدلات المواليد خلال تلك الفترة في بلاد مثل: مصر، وهونج كونج، وتايوان، والأرجنتين، وكوبا. حيث ارتبط ذلك الأمر باتباع سياسات تنموية قومية كانت موجهة لصالح الفئات والقطاعات الفقيرة من المجتمع فيها، مما حقَّق لها مستويات عدالة أكبر في توزيع الدخل خلال تلك الفترة المشار إليها. وبالعكس فقد وُجد أنَّ الدول التي شهدت خلال تلك الفترة تدهوراً بالنسبة لأوضاع فئات الدخل المنخفض مثل: البرازيل، فنزويلا، المكسيك، والفلبين؛ فإنها لم تتأثر أو تتدنى فيها معدلات المواليد بأي نسبة تذكر([81]).
وكذلك([82]) تؤكد نتائج الدراسات التي تمت حديثاً بأنه كلما تحقَّق للأفراد مستوى أفضل للدخل والصحة والتعليم؛ انخفض معدل الخصوبة، وبالتالي يصغر حجم الأسرة ويتم خفض النمو السكاني([83]).
وعلى ضوء تلك المعاني والمدلولات المتعلقة بحرية الإنسان في الفعل والاختيار ومسؤوليته في ذلك من جانب، ومحاذير الوقوع في مصيدة الاستضعاف ومخاطره من جانب آخر، يتحدَّد المنهج الإسلامي وطريقته في حل مشكلة السكان، انطلاقاً من معالجة الفقر واستئصاله أولاً، على أساس أنَّ ذلك يؤدي تلقائياً إلى الحد من الإنجاب أو تنظيم النَّسل، ثم يأتي بعد ذلك الحد من الإنجاب أو تنظيم الأسرة باعتبار أنَّ الفعل الخاص بالحد من الإنجاب ينطلق من التصرف الشخصي للإنسان، بإرادته الحرة وبصيرته ومسؤوليته في ذلك، من دون تأثير عليه من خارج ذاته أو إجبار من أحد على فعل ذلك.
وهكذا جاء أيضاً الموقف الإسلامي من عملية تحديد النَّسل أو تنظيمه محدداً بجوازه، لا على أساس الفهم الاقتصادي القائم على عدم كفاية الموارد بالنسبة للسكان إذا ما تزايد عددهم؛ وإنما انطلاقاً مما يتمتع به الإنسان من حق وحرية في اختيار التحديد أو عدمه، وفقاً لأمانة الحرية والبصيرة البناءة التي تفعل مختارة وتعلم لماذا هي فاعلة ما تفعل وتتحمَّل تبعة فعلها. هذا بالرغم من أنَّ التشريع الإسلامي قد دعا إلى الإنجاب والإكثار من الأبناء، وحَضَّ على ذلك، ورغَّب في النَّسل وتكثيره، واعتبره أمراً مستحباً خصوصاً، لأن كثرة النَّسل تقوي الأُمَّة اجتماعياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وتزيدها عزة ومنعة، وفيها من المزايا والفوائد الأخرى.
ولقد أجاز الفقهاء تنظيم النَّسل باستعمال الموانع والعقاقير الطبية التي تمنع الحمل، انطلاقاً من حق الإنسان وحريته الشخصية في تحديد الإنجاب، ووفقاً لما تقتضيه الضرورة الشخصية. والتي يترك تقديرها لضمير الفرد ودينه، ولكن ليس تأسياً بنظرية عدم كفاية الطبيعة لإعاشة البشرية. فإنَّ هذا المفهوم يتناقض مع الأصل الاعتقادي في الإسلام.
وبذا يمكن للمسلم والمجتمع الإسلامي أنْ يعمل بمبدأ تحديد النَّسل وتنظيمه لأسباب صحية أو غيرها من الأسباب الشرعية على أنَّ هذا التحديد لا يصح أنْ يصل إلى حد الإضرار بكيان الأُمَّة الإسلامية البشري، واختلال الموازنة السكانية بينها وبين العالم غير الإسلامي. ويُفهم من هذا أنَّ جواز وقف الإنجاب أو تحديد النَّسل كما بيَّنه الفقهاء مرهون بمعرفة السبب الدافع إليه، والإحاطة بالنتائج المترتبة عليه. فإنْ كان السبب خشية الجوع والفقر؛ فهو غير جائز، وإن كانْ الفعل ينقص عزة الأُمَّة الإسلامية ومنعتها وفيه إضعاف لها اجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً؛ فإنه أيضاً لا يجوز([84]).
الخاتمة:
نالت مسألة التكاثر السكاني اهتماماً متزايداً منذ القدم في العالم الأوربي، وكان اختلاف وجهات النظر فيها منذ البداية، وارتبط ذلك الخلاف بوجهات نظر، منها ما يشجَّع تزايد السكان، انطلاقاً من مفهوم أنَّ تكاثر السكان يعني القوة الحربية التي تؤدي إلى احترام الدولة في المجال الدولي، ويعني ذلك أيضاً زيادة قوة الدولة الاقتصادية على أساس كثرة القوة العاملة يزيد من قوة الإنتاج.
والنظريات الأخرى تنادي بالحد من تكاثر السكان، إيماناً منها بفكرة الملاءمة والموازنة بين الموارد الاقتصادية أو حاجات الإنسان وأعداده المتزايدة.
ومنذ القدم كانت الانتقادات توجَّه لهذه النظريات المتباينة، وتعرض الحُجَج والبراهين لذلك، ولكن رؤية الإسلام في هذه القضية واضحة ومحسومة، فكرة، وعقيدة، ومصلحة للعباد.
ولكن فكرة التأصيل لمثل هذه المفاهيم وغيرها غائبة. لهذا السبب حاول الباحث أن يطَّلع على المشكلة، ويتدبَّر أمرها، ويبحث ما كُتب عنها من قِبَل الكتاب المسلمين. لذا جاءت فكرة المقارنة بين تكاثر السكان في الفكر الأوربي، ومقارنة ذلك بفكرة الإسلام ورؤيته الواضحة وحسمه للمشكلة السكانية.
وخلص الباحث للحقائق التالية:(/11)
بالنسبة للفكر الأوربي ونظرته لهذه المشكلة؛ أصبح واضحاً إذا أخضعنا مشكلة التكاثر السكاني للواقع المعيش في كل العالم، ومن منظور مفكري الغرب أنفسهم، فمنذ القدم كان هناك مَنْ يعارض فكرة تحديد النَّسل ويقدم الحُجَج البينة في ذلك، وهذا ما يؤكِّد أنَّ مشكلة التكاثر السكاني ـ حتى من وجهة نظر الغربيين أنفسهم ـ أنَّ الإنسان وهو الذي يتسبَّب في هذه المشكلة، بوسائل علميَّة مختلفة، وبتدخله في هذه البيئة التي خلقها الله عَزَّ وجَلَّ وحدَّد موازنتها الحقيقية، فالإنسان هو الذي يتسبَّب في ظلم نفسه والآخرين، وكان الإنسان ظلوماً جهولاً.
وقد استبان الأمر في نظر الإسلام أنَّ مشكلة التكاثر السكاني مصطنعة من قِبَل الفكر الغربي، ولكنها محسومة من ناحية علمية، بل شجَّع الإسلام على التكاثر بصورة أوضح مما تصورته العصور الغربية القديمة، فالكثرة السكانية في نظر الغرب نفسه ـ قديماً وحديثاً ـ هي نوع من الظواهر الحضارية (الكثرة العددية والنوعية). وهم يعلمون هذا جيداً، ولكن لا يريدون ذلك لغيرهم، خاصة وأنَّ الدول النامية
ـ معظمها مسلمة ـ وهي التي تحتفظ بخيراتها الطبيعية من بترول، ومعادن، ومياه، وسعة في الأراضي الزراعية، ولم يبق لها سوى التكاثر السكاني ـ كمّاً وكيفاً ـ والوعي الحضاري، الذي يمكنهم من استخراج هذه الخيرات. وهذا ما يخيف هؤلاء الأعداء، مما دعاهم لاصطناع الحيل، وتأجيج نيران العنف والمشاكل في الدول النامية، وفرض الهيمنة عليها.
فمشكلة التكاثر السكاني ـ في نظر الإسلام ـ واضحة وبيِّنة وطريقة حلها تنطلق من إزالة الفقر، ورفع حاجة الناس بالتنمية، وتوفير الأمن المادي والغذائي، والعناية بذلك على اعتبار أنَّ ذلك شرط ضروري مسبق لكي تتم عملية اختيار الإنسان بين الإنجاب أو عدمه بحرِّية تامة، وبصيرة متفتحة، ومسؤولية كاملة. وعلى كل مسلم تفهُّم ذلك جيداً، وتفهُّم معنى الحضارة، والتي يفهمها كثير من الشباب المسلم الآن بأنَّ الحضارة في الزواج المتأخِّر، بعد جمع مالٍ كافٍ يؤهله للصرف والبذخ، وبعد تكوين نفسه ـ كما يقولون ـ وربما يصل ذلك إلى ما بعد سن الأربعين، هذا إذا وُفِّق. وبعد ذلك يرى الكثير منهم أنَّ مفهوم الحضارة في الإنجاب بولدٍ واحد واثنين أو ثلاثة على الأكثر، وهذا مفهوم خاطئ للحضارة، حتى من وجهة نظر الغرب ناهيك عن وجهة النظر الإسلامية، التي تدعو إلى التكاثر السكاني، الذي فيه العزة والقوة والمنعة، وفيه المباهاة التي دعانا لها الرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذا كله مدعاة للباحث لأن يخوض في مثل هذه المواضيع، تأصيلاً لرؤى حضارية إسلامية يجهلها العدد الغفير من المسلمين.
التوصيات:
[1] الحل الأمثل لمشكلة النمو السكاني السريع من وجهة نظر الإسلام؛ يمكن الوصول إليه عبر التنمية وتطبيق ركن الإسلام (الزكاة)، والذي يتم بموجبه استئصال الفقر وتحقيق الرفاهية في المجتمع.
[2] التكاثر السكاني ظاهرة مصحوبة بالخير والبركة، وهو إعمار للأرض، وتكوين للأسرة، من أجل تحقيق السكن النفسي، والمحافظة على قيم العفة والفضيلة.
[3] إنَّ عنصر السكان ـ كمصدر للأيدي العاملة ـ يمثل عاملاً ضرورياً بالنسبة للإنتاج للدول المتقدمة، بسبب إحلال الآلة والتكنولوجيا محل الإنسان في ذلك، ولكننا نقول: إنَّ الإنسان هو مصدر التفكير، وهو صانع هذه التكنولوجيا التي يدَّعونها.
[4] إنَّ تحقيق المصالح الاقتصادية المتمثلة في التبادل التجاري وغيره، يعتمد على الكم العددي والنوعي للشعوب التي يتم التعامل معها أو الاعتماد على تزايدها.
[5] النمو السكاني في العالم الإسلامي يمثل تحدياً للدول الغربية، خاصة إذا صحب هذا النمو الوعي والتقدم العلمي، فيصبح تهديداً سياسياً، واقتصادياً، واستراتيجياً، وعسكرياً، لهذه الدول المعادية للإسلام فكرياً.
[6] إنَّ جعل مشكلة النمو السكاني، التي تعني النقص في الغذاء
ـ كما تدَّعي الدول المتقدمة ـ والتي أوهمت بها دول العالم الإسلامي، وجعلتها تتعامل مع هذا الوهم، وأنها دائماً هي في حاجة إلى الإغاثة التي تقدمها الدول المتقدمة، وتفرض بموجبها سياسات مدمرة للشعوب الإسلامية. فلا بُدَّ من وعي ذلك والتخلص من هذا الوهم ورسم سياسات علمية تدحض هذا الوهم.
[7] المطلوب من دول العالم الإسلامي، وضع الخطط التي يتم بموجبها التكاثر السكاني، ووضع البرامج المشجعة لذلك.
المصادر والمراجع
أولاً: المراجع العربية:
[1] القرآن الكريم.
[2] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر: سنن البيهقي الكبرى، مكتبة بن بازر، 1994م.
[3] ابن حجر، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: فتح الباري شرح صحيح البخاري، المعرفة، 1379هـ.
[4] أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: صحيح مسلم، إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
[5] أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الزوري: سنن أبي داود، دار الفكر.(/12)
[6] ابن الخطيب، محمد محمد عبد اللطيف: حقائق ثابتة في الإسلام، مطبعة الأفق، طهران 1974م
[7] ابن كثير، الحافظ: تفسير القرآن العظيم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1970م، مجلد 6، ص164.
[8] الجوهري، يسري: جغرافية السكان، مكتبة الإشعاع للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1997م.
[9] الجسر، نديم: بشائر عن معركة المصير بين المسلمين وإسرائيل على ضوء القرآن والأحاديث، جوهر الإسلام، السنة الثانية العدد 18، أبريل 1975م.
[10] المحاسبي، الحارث بن أسد: الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله، تحقيق محمد عثمان الخشن، مكتبة القرآن الكريم للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1984م.
[11] المسير، محمد زكي: مبادئ علم الاقتصاد، مطابع جامعة القاهرة، 1973م.
[12] النووي، محمد: سلاحنا الفريد، جوهر الإسلام، العدد 8، أبريل 1970م.
[13] النسائي، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن: سنن النسائي، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط/2، 1986م.
[14] القرضاوي، يوسف: برنامج: (الشريعة والحياة)، قناة الجزيرة الفضائية القطرية، 19/4/1998م.
[15] الشايقي، جعفر حسن: زيف الاعتقاد في مضار تكاثر العباد، شركة مطابع السُّودان للعملة المحدودة، الخرطوم، عام 2000م.
[16] الشايقي، جعفر حسن: تحليل لبعض مشكلات التنمية وإمكانياتها في السُّودان، دراسات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، العدد الثاني، السنة الأولى، عام 1990م.
[17] براون، ليستروكين، هال: السكان وكوكب الأرض، ترجمة ليلى زيدان، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 1966م.
[18] محبوب الحق: ستار الفقر: خيارات أمام العالم الثالث، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الهيئة العربية العامة للكتاب، عام 1977م.
ثانياً: المراجع الإنجليزية:
1-Lappe, F.M. and other: Solid Warte Pollution, causes and cures, Washington, 1976.B:34.
2-Miller, G.T the poverty of nations: the political Economy of Hunger and population, the John Hoplins University press, U.S.A.1980.B.161.
3-Murdoch, W.W :( Counting Kilocalories) Focus vol 30,No.3 Jon-.Feb.198.B.15-83.
4-United Nations Population Fund: Population Growth and Economic Development ,1993.B.11.
----------
([1]) United Nation Population Fund: Population Growth and Economic Development -1993.BII
([2]) بروان، ليتروكين، هال: السكان وكوكب الأرض، ترجمة ليلي زيدان، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 1966م، ص 30.
([3]) جعفر حسن الشايقي: زيف الاعتقاد في مضار تكاثر العباد، شركة مطابع السُّودان للعملة المحدودة، الخرطوم، 2000م، ص 9.
([4]) يسري الجوهري: جغرافية السكان، مكتبة الإشعاع للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1997م، ص 111-113.
([5]) يسري الجوهري: جغرافية السكان، مرجع سابق.
([6]) محمد السيد غلاب: في قانون السكان لتوماس روبرت مالتس، المركز الديموغرافي لشمال إفريقيا، القاهرة، 1996م.
([7]) محمد زكي المسير: مبادئ علم الاقتصاد، مطابع جامعة القاهرة، 1973م، ص 59.
([8]) محبوب الحق: ستار الفقر خيارات أمام العالم الثالث، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الهيئة العربية العامة للكتاب، 1977م، ص150-151.
([9])Hunger and Population, John Hyphin University Press, Baltimore U.S.A ,1980. Miller, G.T, The Poverty of nations: The Political Economy of
([10]) محبوب الحق: مرجع سابق، ص 108-109.
([11]) سورة البقرة، الآية (187).
([12]) القرضاوي، يوسف: برنامج: (الشريعة والحياة)، قناة الجزيرة الفضائية القطرية، مقابلة بتاريخ 19/4/1998م.
([13]) سورة الشورى، الآيتان (49-50).
([14]) ابن الخطيب، محمد محمد عبد اللطيف: حقائق ثابتة في الإسلام، مطبعة الأفق، طهران، 1974م.
([15]) سورة إبراهيم، الآية (39).
([16]) سورة مريم، الآية (53).
([17]) سورة الأنبياء، الآية (90).
([18]) سورة مريم، الآية (19).
([19]) سورة آل عمران، الآية (38).
([20]) سورة الفرقان، الآية (74).
([21]) سورة آل عمران، الآية (8).
([22]) سورة الأنعام، الآية (165).
([23]) سورة المائدة، الآية (20).
([24]) سورة الأنعام، الآية (6).
([25]) سورة الأنعام، الآية (122).
([26]) سورة هود، الآية (82).
([27]) سورة الفيل، الآية (5).
([28]) سورة الواقعة، الآيتان (58-59).
([29]) سورة هود، الآية (61).
([30]) سورة البقرة، الآية (143).
([31]) سورة آل عمران، الآية (110).
([32]) الجسر، نديم: بشائر عن معركة المصير بين المسلمين وإسرائيل على ضوء القرآن والأحاديث، جوهر الإسلام، السنة الثانية، العدد 18، أبريل 1975م.
([33]) سورة الأعراف، الآية (86).
([34]) سورة المنافقون، الآية (8).
([35]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، برقم 1754.
([36]) سورة الأنفال، الآية (60).
([37]) سورة غافر، الآية (82).(/13)
([38]) سورة القصص، الآية (78).
([39]) سورة التوبة، الآية (69).
([40]) سورة الجن، الآية (24).
([41]) سورة الأنفال، الآية (26).
([42]) سورة آل عمران، الآية (123).
([43]) سورة الأنفال، الآيتان (43-44).
([44]) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، برقم 3745.
([45]) سورة التوبة، الآية (25).
([46]) سورة البقرة، الآية (249).
([47]) النووي: سلاحنا الفريد، جوهر الإسلام، العدد 8، أبريل 1970م، ص 41ـ42.
([48]) حلية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت،
1405هـ، ط/4، 5/303.
([49]) تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ط/1، 2/337.
([50]) سورة الرعد، الآية (11).
([51]) سنن أبي داود، كتاب النكاح، برقم 1754.
([52]) سورة فصلت، الآية (10).
([53]) سورة الرعد، الآية (8).
([54]) ابن كثير، الحافظ: تفسير القرآن العظيم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1970م، 6/164.
([55]) سورة إبراهيم، الآية (34).
([56]) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة برقم 3272، وابن ماجة في الأطعمة برقم 3277، والإمام أحمد في مسند المكيين برقم 15498.
([57]) سورة الكهف، الآية (109).
([58]) سورة ص، الآية (54).
([59]) سورة النحل، الآية (96).
([60]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، برقم 4674.
([61]) سورة الرعد، الآية (8).
([62]) سورة فاطر، الآية (11).
([63]) ابن الخطيب، محمد محمد عبد اللطيف: مرجع سابق، ص67-68
([64]) سورة فصلت، الآية (10).
([65]) سورة الرعد، الآية (8).
([66]) سورة الرعد، الآية (8).
([67]) ابن الخطيب، محمد محمد عبد اللطيف: مرجع سابق، ص 67-68.
([68]) سورة هود، الآية (6).
([69]) سورة العنكبوت، الآية (60).
([70]) سورة الذاريات، الآيتان (22-23).
([71]) سورة الزخرف، الآية (32).
([72]) سورة الروم، الآية (40).
([73]) المحاسبي، الحارث بن أسد: الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله، تحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1984م، ص 40–43.
([74]) سورة فصلت، الآيتان (9-10).
([75]) المحاسبي: نفس المصدر، ص 44–47.
([76]) سورة إبراهيم، الآيتان (32-33).
([77]) محبوب الحق: ستار الفقر، مرجع سابق، ص 160–161.
([78]) بروان، ليستروكين، هال: السكان وكوكب الأرض، مرجع سابق، ص 97.
([79])Murdoch, W.W: (Counting Kilocalories) Focus Vol 30, No.3, Jan – Feb- 1980 – B.15 – 83.
([80]) محبوب الحق: مرجع سابق، ص156.
([81])Lappe, F.M. And others: Solid Warty Pollution: Caures and Cures, Washington, 1976. B.34
([82]) محبوب الحق: مرجع سابق، ص 66.
([83]) جعفر حسن الشايقي: تحليل لبعض مشكلات التنمية وإمكانياتها في السُّودان، دراسات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، العدد الثاني، السنة الأولى، 1990م، ص 36.
([84]) ابن الخطيب، محمد محمد علي عبد اللطيف: مرجع سابق، ص69.(/14)
التكامل والتوازن في التَّربية
المحتويات
مقدمة
مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة
طبيعة الأنسان
التوازن والتكامل سنة الله في الحياة
الشرع قائم على الوسطية والتكامل
كثرة التحديات التي تواجه الأمة
من صور التكامل والتوازن في المجال الفردي
أولاً : في التعامل مع نصوص الشرع وأحكامه
ثانياً : التكامل والتوازن في تربية ومحتوى الشخصية
ثالثاً : مراعاة جوانب الشخصية المختلفة
رابعاً : التكامل والتوازن في الجانب الواحد
التكامل والتوازن على مستوى المجتمع
أولاً: رعاية كافة فئات المجتمع
ثانياً : التكامل بين المؤسسات التربوية
ثالثاً : التكامل داخل المؤسسة التربوية الواحدة
رابعاً : التكامل بين الوسائل التربوية
وسائل تعين على تحقيق التكامل والتوازن
أولاً : التخطيط والإعداد:
ثانياً : وضوح الأهداف واتفاقها مع الأهداف الشرعية :
ثالثاً : المراجعة المستمرة :
رابعاً : عدم الاستجابة لردود الأفعال
تنبيهات أخيرة
الأول
الثاني
مقدمة
إن الحديث عن إنقاذ الأمة وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة وإنقاذها حديثٌ أحسب أننا قد تجاوزناه، وأصبح من البديهات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ويدرك دوره في إنقاذها.
إنما مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغير، وأحسب أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافقنا أن التربية ضرورة ملحّة لغرس المعاني والتوجيهات في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحّة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة، ولإعداد الأمة لأن تكون أهلاً لأن تحمل هذا الدِّين، و هذه الرسالة لا لهذه الأمة وحدها بل للعالم أجمع.
وهي حينما تسعى للقيام بهذا الدَّور وأداء هذا الواجب فلا بد أن تكون مؤهّلة لهذه المنزلة، ولا أظن أننا نملك بديلاً غير التربية؛ لذا فهي تستحقّ منا الحديث الكثير عن ضرورتها والمطالبة بها، والحديث عن المناهج التربوية، والحديث عن الأخطاء التربوية، والحديث عن أساليب التربية.
إنه جانب ينبغي أن نعنى به جميعاً لا على مستوى رجال الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات، ونحن حين نتحدَّث حول هذا الموضوع وهو موضوعٌ شموليّ يتحدَّث عن جوانب كثيرة سواء أكانت جوانب فردية أم جوانب على مستوى الأمة، وسواء أكانت جوانب تخص الفرد بحد ذاته، أم كانت تخصّ الأسرة ودور الأب والأم، أم كانت تتعلَّق بالمؤسسات التربوية، إننا حين نتحدَّث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجرَّدة فالحديث عن هذه القضية أظن أوسع من أن نأتي عليه في هذه الأمسية.
ثانياً : حين نتحدث عن القضايا التربوية فنحن نطرح منهجاً نظريّاً وربما يكون قابلاً للصواب وللخطأ لكن هذا شيء، وتطبيقه على آحاد الأفراد شيء آخر، فنحن نتحدّث عن أسلوب ومنهج، أو عن برنامج، وهذا لا يعني أن زيداً من الناس أو عمراً من الناس ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك، ذلك أن كثيراً من الأخوة الأساتذة والمربِّين يطبق ما يسمع حرفاً بحرف، وما يقول قد يكون حالة من الحالات يعيشها المربي مع من يربِّيه مع تلميذه، أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة، حالة لها اعتبارات خاصة.
ثالثاً : التربية ليست مسؤولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها ووقوعها، إنك مثلاً قد تجد البعض من الآباء يعرض مشكلة ابن من أبنائه أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه وشب عوده؛ فلم يعد قادراً على تربيته، فيعرض عليك مشكلته ويطلب منك حلاًّ لها، قد تجد حلاًّ وقد تنجح؛ لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة من أسبابها سوء التربية ابتداءً؛ فنحن حين نتحدث عن التربية نرى أنها كفيلة – بإذن الله – لحل كثير من المشكلات والعقبات، وهي ليست مسؤولة عن حل مشكلات لم تكن هي السبب في حدوثها.
إن المفترض أن تبدأ تربية الشاب من صغره وطفولته، بل أن يتربى وهو حمل في بطن أمه؛ فضلاً عن طفولته ومراهقته وشبابه، وحين يسار به وفق المنهج الشرعي والتربوي السليم فالأغلب حينئذ – بإذن الله – أن يستقيم وفق المنهج القويم وحين يفلت فلان أو فلان فالقلوب بيد الله - عز وجل-.
رابعاً : حين نتكلم عن هذه القضايا التربوية التي تخص فئة وقطاعاً عاماً من الناس فهي تعني الأستاذ، وتعني الأب، وتعني الأم، تعني الكثير من الناس، حينئذ فنحن لسنا نتحدث حديثاً أكاديميا، ولسنا نتحدث للمختصين؛ فلا بد حينئذ أن يكون حديثاً عامًّا يأخذ طابع العمومية وحينئذ أرجو أن لا يؤاخذني أهل الاختصاص والاصطلاح حين أسطو على مصطلح من مصطلحاتهم فأستخدمه أوسع أو أضيق مما يريدون هم أو يستخدمونه هم في قضية من قضاياهم.
هذه مقدمات حول هذه القضايا التربوية التي سوف نطرحها في هذا الدرس أو غيره .. وبعد ذلك ندلف في الحديث عن هذا الموضوع.
مسوغات المطالبة بالتربية المتكاملة المتوازنة(/1)
إننا نطالب أن تكون التربية متكاملة، وأن تكون متوازنة في الوقت نفسه، سواء على مستوى الأفراد أو على المجتمع ككل. وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا إلى هذا الأمر مسوغات عدة :
طبيعة الأنسان
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بجوانب كثيرة متنوعة (جسم، وعقل، ومشاعر…) وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان ينبغي أن يكون متوافقاً مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير المصدر الشرعي محكوماً عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر والله – سبحانه وتعالى – هو الذي خلقهم [ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ] وغالباً ما ترى تشريعات البشر وآراءهم تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء، إذن فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق أصلاً مع خلق الإنسان ومع فطرته التي فطره الله عليها.
ولأضرب على ذلك مثلاً .. إننا حين نربي الناس على الخضوع وعلى التسليم لكل الآراء التي تطرح عليهم أيا كان مصدرها، ونطلب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وألاّ يفكروا مطلقاً فيما يُقال لهم، إننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي خلقه الله – عز وجل – له، وما خلقه الله – سبحانه وتعالى – إلا لحكمة، ولو كانت أمور الناس تستقيم على التقليد والتبعية لخلق الله – عز وجل – لنخبة من الناس عقولاً دون عقول سائر الناس حتى يخضع بعضهم لبعض ويكونوا تابعين لغيرهم.
أما وقد خلق الله العقول للناس جميعاً فهذا يعني أن تربى العقول، وهذا يعني أن يربى الناس على أن يستخدموا عقولهم ويحكّموا عقولهم داخل الدائرة الشرعية التي لا تخرجهم عن حدودها. وأي تربية تسعى إلى تكتيم حريات الناس وعقولهم وتفكيرهم فإنها تعارض الفطرة، وأي منهج يخالف الفطرة فإنه يحمل بين طياته الهلاك والبوار.
وحين نأخذ منهجاً تربويًّا يتعامل مع جانب العقل والمعرفة وحدها ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان، يعيش في تناقض يحكم عليه بالفشل والبوار، كما هو الحال في المجتمعات الغربية المعاصرة، وقل مثل ذلك في أي منهج يتعامل مع جانب واحد من جوانب الإنسان.
التوازن والتكامل سنة الله في الحياة
فالجنون مثلاً نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والحسية ولهذا يقال عن المجنون : " إنسان غير موزون "، " والصرع العضوي من أسباب زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان "، " وفقر الدم أو ضعفه يحصل عن عدم توازن كريات الدم الحمراء والبيضاء في الدم "، " ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في حالة إغماء لدى الإنسان "، " كما يتسبب ضغط العين أو القلب على انعكاسات صعبة خطيرة ". هذه بعض النتائج التي يخلّفها عدم التوازن في الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.
أما عدم التوازن في الكون والحياة فهي أكثر من أن تحصى .. " إن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً وقد تجعله سمًّا قاتلاً "، " وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثيرٌ من الأمور أقلها اختلال نظام الليل والنهار، وتعاقب الفصول وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحياة بكاملها ".
وما يصنعه الإنسان من آلات وما يشترون من بنايات فجميعه محكومٌ بقاعدة التوازن وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.
وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تخرج إنساناً غير متناسق، فجمال الوجه – مثلاً – به توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس؛ بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة هزيلة أو ناقصة، وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الرئيسة بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والفيتامينات والأملاح والمعادن .. إلى غير ذلك، والحديث في هذا يطول.
والإخلال بالتوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور؛ فحين يسعى الإنسان لتجميل منزله فيبالغ فيه أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً.
وتقرأ في كتاب الله – عز وجل – الحديث عن هذا الكون وأنه محكوم بهذه السنة، قال تعالى :[وخلق كل شيء فقدَّره تقديرا] ويقول [ إنا كل شيء خلقناه بقدر ] [ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه] [لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون] [الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور* ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ] .
الشرع قائم على الوسطية والتكامل
إن شرْع الله – عز وجل – قائم على الوسطية في كل الأمور: الوسط في الاعتقاد، الوسط في العبادة، الوسط في السلوك، فشرْع الله – عز وجل – قائم على هذه القاعدة .(/2)
وهو كذلك تبدو فيه ظاهرة التكامل معلماً بارزاً فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حُكم، فإنك ترى للشرع حُكماً في معتقد الإنسان، وترى للشرع حُكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وترى للشرع حُكماً في عبادة الإنسان، ترى له حُكماً في سلوكه، وترى له حُكماً في أخلاقه، وفي الاقتصاد والسياسة وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم…. إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلاّ وفيه حُكم واضح للشرع، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل.
إذاً حينما نريد أن نربي الناس على هذا الشرع ينبغي أن نربيهم تربية متكاملة ومتوازنة؛ ولهذا أنكر الله على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض : [ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ]،[ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً ] .
ومن إعجاز القرآن أن حذَّر الله – سبحانه وتعالى – نبيه من صورة نراها في واقعنا فحين أمر الله نبيه أن يحكم بشرع الله قال بعد ذلك :[ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ] وكأن هذه الآية تنطق بواقع القرون المتأخرة، وأن هناك من يساوم على بعض شرع الله فيأخذ بعض شرع الله ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله – عز وجل – في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب.
إن هذا دليل على أن هذا الشرع جاء للحياة كلها، وهذا يعني أن أي منهج تربوي يريد تربية الناس على خلاف هذا المنهج فهو منهج غير متكامل وغير متوازن، ومعارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة .
كثرة التحديات التي تواجه الأمة
الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربويًّا من أبواب شتى؛ فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، وكذلك الرجال والنساء، والصغير والكبير بل حتى الطفل المسلم تُعد له أفلامٌ وتُكتب له قصصٌ ومجلاّت يقصد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي.
وحياة الناس في عقيدتهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها تحديات؛ فنحن نواجه تحدياً شاملاً، تحدياً متكاملاً في جوانب الحياة كلها؛ لخلع الأمة عن دينها ثم تربيتها على غير شرع الله - عز وجل –؛ فالتربية التي تهدف إلى إنقاذ جيل الأمة، والوقوف في وجه هذا التيار الوافد ما لم تكن آخذةً بالتكامل والتوازن فإنها حينئذٍ لن تكون مؤهلة للمواجهة، ولن تكون مؤهلة لصدّ هذا السيل الجارف من الغزو الذي تواجَه به الأمة .
من صور التكامل والتوازن في المجال الفردي
إننا لا نستطيع أن نأتي على جميع ما نريد فلعلنا نقتصر على بعض النماذج على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع كله .
أولاً : في التعامل مع نصوص الشرع وأحكامه
إن من التكامل والتوازن في التربية هو أن يُربَّى الفرد على التوازن في التعامل مع نصوص الشرع وأحكامه؛ فالغلو صفة ممقوتة مرذولة بالعقل ويأباها ويرفضها الشرع، والإهمال والتجاوب مع رغبات النفس وشهواتها لا يسوغ أن تكون بديلاً للغلو [ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ]،[ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ] .
إننا حين نربي أبناءنا على الفوضى والتساهل في الأحكام الشرعية والتفلّت منها، فإننا نربيهم تربية غير متوازنة تربية متطرفة إلى جانب دون جانب، وإننا حين نربيهم على الغلو والمبالغة فإنها هي أيضاً تربية غير متوازنة.
إننا كثيراً ما نسمع الشكوى من أن الابن يواجه - مثلاً – التعويق من أبيه وهو يدعوه إلى التجاوب مع شهواته، يدعوه إلى التجاوب مع التقصير والإهمال بل نرى الأب وللأسف يحض ابنه على التقصير في الصلاة، والتهاون فيها، فيما نرى الأب أحياناً يدعو ابنته إلى الزهد في الحجاب والعفاف والفضيلة. إنها تربية غير متوازنة، تربية متطرفة، تربية تخل بهذا المبدأ، تخل بهذه الوسطية التي جاء عليها شرع الله - عز وجل - .
ثانياً : التكامل والتوازن في تربية ومحتوى الشخصية
إن التربية التي نطالب بها الأبوين لابنهما ليست أمرُه بالصلاة فقط، ونهيه عن سائر الأخلاق السيئة فقط، وإن كان هذا أساساً ومبدأً هاماً من مبادئ التربية، فالتربية السليمة لابد أن ترعى صحة الابن، إنه لا يسوغ أبداً أن تهمل الأم ابنها أو طفلها الصغير أو طفلتها تجاوباً مع داعي النوم الذي يدعوها للراحة، ولا يسوغ أبداً أن تكون المكالمات الهاتفية والحديث مع بنات جنسها مدعاةً لانشغالها عن صبيتها ورعايتهم، والأب كذلك هو الآخر.(/3)
لهذا يوصي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر في الصحيحين، أن نحرص على رعاية الأبناء وحمايتهم مما قد يضرهم. يقول صلى الله عليه وسلم : "إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ" فهو يأمرنا r أن نحرص على صحتهم وأن نحرص على إبعادهم عما قد يضر بها، ودخل صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي فقال: "ما بال صبيكم هذا؟ فهلاّ استرقيتم له من العين" رواه الإمام أحمد. ولهذا يوصي ابن القيم – رحمه الله – برعاية هذا الجانب، فيقول:"ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه فإنه ينشأ على ما تعود في صغره من غضب ولجاج وعجل وخفة مع هوى وطيش وحدّة وجشع، فيصعب عليه تلافي ذلك".
ثالثاً : مراعاة جوانب الشخصية المختلفة
إن المرء له جوانبه العقلية وجوانبه المعرفية وجوانبه الوجدانية؛ فالتربية السليمة ينبغي أن ترعى هذه الجوانب كلها ولنقرأ – على سبيل المثال – قراءة سريعة عاجلة في التربية والتعليم الذي نراه على مستوى الأمة الإسلامية، هل التربية المدرسية الآن ترعى هذه الجوانب كلها أم أنها تتعامل مع جانبٍ واحدٍ فقط من هذه الجوانب؟ ماذا يتلقى الطالب في المدرسة؟ إن الذي يتلقاه لا يزيد على أن يكون معلومات معرفية مجردة جافة، وحتى هذه المعلومات تعطى إليه تلقيناً يطلب منه أن يعتاد أن يخضع ويسلم، وأن يعتاد على مبدأ التسول الفكري، يعتاد على أن يلغي عقله ويلغي تفكيره، فكل ما يقوله له والده صواب لا يحتمل الخطأ، وكل ما يقوله له حق لا يقبل الخطأ ولا النقاش.
إن هذه تربية غير متكاملة تربية لا متوازنة، إننا بحاجة إلى أن نعيد إلى النظر في مناهجنا التربوية، هل هي تغطي هذه الجوانب التربوية أم لا؟
ولك أن تتساءل كم هم من الشباب والفتيات الذين يعيشون في سن المراهقة ويعانون من مشكلات معيّنة تثور مع هذه المرحلة؟ وهل مناهج التعليم في العالم الإسلامي تتعامل مع هذه المشكلات في هذه المرحلة بما يليق؟ كم نرى في العالم الإسلامي بأسره من الشباب والفتيات من رواد الجامعات ورواد المدارس، ممن يكونون ضحية للمخدرات أو للانحراف الجنسي أو للخلل هنا وهناك، فأين أثر التربية ؟ أظن أن جزءاً كبيراً من المشكلة يكمن في أن التربية هنا تربية غير متكاملة فهي لا ترعى إلا جانباً واحداً فقط هو الجانب المعرفي فحسب .
رابعاً : التكامل والتوازن في الجانب الواحد
وفي الجانب الواحد في الرفد ذاته نحتاج إلى تكامل وتوازن؛ فالتربية العلمية –على سبيل المثال- بحاجة إلى أن تكون تربية متكاملة متوازنة، وهذا يعني أن تتنوع التخصصات، وأن يتربى الشاب، على أن يحمل رصيداً متكاملاً وخلفية علمية متكاملة مما يحتاج إليه في مرحلته وسنّه، ويعني ثانياً – أيضاً – أن يتعلم أدوات البحث ووسائله ومراجعه، ويتعلم المنهج العلمي الصحيح؛ فلا يكون التعليم قاصراً على شحن ذهنه بالمعلومات فحسب، وحين نمعن في مراجعة التربية المعرفية وحدها نجد أن هناك شرخاً واضحاً في هذا الجانب وخللاً واضحاً في رعاية التكامل والتوازن فيه، فما بالكم بسائر الجوانب الأخرى.
وأختم الحديث عن الجانب الفردي بعبارة للحسن - رضي الله عنه – وكأنه يخاطب بها جيل الصحوة، يقول: " العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح؛ فاطلبوا العلم طلباً لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروا بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم، فخرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم " – يقصد بذلك الخوارج – ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا من الخروج عن منهج محمد صلى الله عليه وسلم .
فحري بجيل الصحوة أن يتربى تربية متكاملة، تربية تعنى بالعبادة الحقة والصلة بالله – عزوجل– والعناية بالجانب العلمي والمعرفي، والعناية بالجانب العملي والدعوي والتطبيقي وأن تكون تربية متكاملة ترعى هذه الجوانب كلها .
التكامل والتوازن على مستوى المجتمع
فالتكامل والتوازن مطلوب على مستوى المجتمع ككل، وهذا يشمل:
أولاً: رعاية كافة فئات المجتمع
وذلك يعني ألا تكون التربية خاصة بفئة دون فئة، فمن المهم أن نعنى بتربية النشء، وتربية الشباب، وتربية طلاب العلم، وأن تصرف جهود كبيرة في ذلك؛ لكن حين نغفل عن تربية قطاع مهم من قطاعات المجتمع، عن تربية المرأة والفتاة، وعن تربية الطفل فإن هناك إخلالاً بالتكامل.
إنك تُسرُّ وأنت ترى الجهود المبذولة في تربية الشباب وتربية الجيل، لكنك يدركك الأسى حين تتأمل في الجهود المبذولة في تربية الفتاة وتربية المرأة –على سبيل المثال- فما الجهود التي تبذل لتربية هذا القطاع المهم من قطاعات المجتمع ؟ وما حجم الكتابات والأعمال والجهود والمدارس التربوية التي تقدم للطفل المسلم الذي يرى وهو في منزله الأفلام التي تحكي له الشرك بالله – عز وجل – عافانا الله وإياكم؟ وللطفل الذي يتربى على الشهوات من صغره؟ وقل مثل ذلك في سائر الطبقات.(/4)
ثانياً : التكامل بين المؤسسات التربوية
وذلك بأن تتكامل الجهود وتتضافر في كامل المؤسسات التربوية من المنزل والمدرسة والإعلام والمسجد؛ فلا يليق أن تربي المدرسة الشاب تربية يسمع نقيضها بعد ذلك في الشارع، ويراها في وسائل الإعلام؟ إننا نعيش ازدواجية تربوية فيسمع من خلال المنبر في خطبة الجمعة حديثاً يرى نقيضه في الشارع، ونقيضه في النادي، ونقيضه في وسائل الإعلام، ونقيضه في المنزل، يسمع حديثاً في المدرسة ثم يرى نقيضه بعد ذلك في سائر المؤسسات! إن مثل هذا السلوك لا يعدو أن يُخرج لنا جيلاً يعيش في حلقات مُفرغة.
وحين نكون جادين في تربية الجيل، فلتتكامل مؤسسات التربية كلها في المجتمع لتسير في خط واضح واحد يتفق مع عقيدتنا الإسلامية، ومع منهجنا، ومع هوية الأمة، وحينئذٍ نرى الثمرة اليانعة بإذن الله.
ثالثاً : التكامل داخل المؤسسة التربوية الواحدة
إننا نرى على - سبيل المثال - في المنزل –وهو الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية- تناقضاً تربويًّا بين قطبي الأسرة، بين الأب والأم؛ فالأب له كلمة تخالف كلمة الأم، والأم لها منهج يخالف منهج الأب، وكيف نتصور شابًّا صغيراً أو فتاةً صغيرةً ترى التناقض وازدواجية التوجيه داخل البيت من الأم والأب؟
وقد يكون هناك خلاف بين الأب والأم حول بعض الوسائل أو الأساليب التربوية، وقد يكون بينهم خلاف حول بعض الحلول لبعض المشكلات، وهذا أمر طبعي بل ينبغي أن تختلف وجهات النظر؛ لكن هذا شيءٌ، وبروز هذا الخلاف على السطح شيءٌ آخر، هذا شيء، والتعامل مع الطفل من خلال الاختلاف شيءٌ آخر.
رابعاً : التكامل بين الوسائل التربوية
إننا وللأسف في مجالات كثيرة لا نحسن إلا أسلوباً واحداً : أسلوب التوجيه المباشر أسلوب الأمر والنهي، أسلوب الترهيب والوعيد والعقوبة، من الأب الذي يكافئ ابنه ويثني عليه حين يحسن؟ ومن الأستاذ الذي يكافئ تلميذه حين يبدو منه موقفاً يستحق المكافأة والثناء؟
وحين نستخدم العقوبة فإننا ينبغي أن نستخدم بالقدر نفسه - أيضاً – الثناء والثواب؛ وحين نستخدم الترهيب فإننا ينبغي أن نستخدم بالقدر نفسه الترغيب؛ وحين نستخدم التوجيه المباشر فإننا ينبغي - أيضاً – أن نستخدم بالقدر نفسه التوجيه غير المباشر؛ إننا نفتقر كثيراً في مؤسساتنا التربوية في المدرسة والمنزل-بل ربما في الدرس التربوي في المسجد- نفتقر إلى التكامل بين الوسائل والأساليب التربوية؛ فلا نكاد نجيد إلاّ أساليب محدودة، والأساليب المحدودة ربما تصب في قالب واحد ولا شك أن هذا سوف ينتج لنا تربية نشازاً .
وحين نقرأ القرآن الكريم نجد أن القرآن ينوع بين الترغيب والترهيب، والقصة والموعظة، وبين الثناء وبين العتاب على الخطأ. وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هكذا؛ فهو صلى الله عليه وسلم تارة يثني على أصحابه، وتارة يعاتب أحدهم، وتارة يغضب عليه، وتارة يوجه توجيهه مباشراً، وتارة غير مباشر، وهكذا نرى هديه صلى الله عليه وسلم التكامل بين الأساليب والوسائل التربوية.
وسائل تعين على تحقيق التكامل والتوازن
كان الحديث فيما سبق عن شيء من مضمون التوازن والتكامل، وأرى أن ما ذكرته لا يعدو أن يكون أمثلة تدل على ما سواها، ومعالم تقود إلى غيرها بعد ذلك ننتقل إلى أمور وخطوات أظن أنها قد تكون معينة لنا على أن تتكامل تربيتنا وأن تكون متوازنة .
أولاً : التخطيط والإعداد:
مَنْ مِنَ الأمهات والآباء يجلس مع نفسه ويفكر تفكيراً هادئاً في واقعه مع ابنه وابنته؟، وكيف يمكنه التعرف على مشكلاتهما وكيف سيتعامل مع هذه المشكلة وتلك؟ وكيف سيوفق في هذا الهدف أو ذاك؟
والأستاذ والمربي أيًّا كان موقعه كم يأخذ منه التفكير والتخطيط والترتيب للعملية التربوية؟
حينئذٍ ندرك سر الخلل؛ وأنه صادر عن تصرفات مرتجلة لم يسبقها تخطيط وتقعيد من قبل .
ثانياً : وضوح الأهداف واتفاقها مع الأهداف الشرعية :
فينبغي أن نرسم أهدافاً نريد أن نصل إليها، وهذه الأهداف يجب أن تكون أهدافاً منضبطة مع الضوابط الشرعية؛ فالتربية التي تدعو إلى تكوين المواطن الصالح تربية تخالف المنطلقات الشرعية؛ لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة لا تعرف الحدود ولا تعرف الحواجز، وحين نربي أبناءنا وبناتنا على الإقليمية وعلى العنصرية، على أن يوالي ويعادي على المعايير القبلية والإقليمية والوطنية، فإن ذلك هدف غير شرعي.
وأخطر من ذلك حين تتطور القضية على المستوى الفكري وعلى مستوى ما يطرح في الساحة، فيربى الناس على التعلق بالقومية، وبالشعارات الوطنية، إن هذا يخرج لنا أمة متناقضة أمة متناحرة.
وحين نربي بناتنا وأولادنا على أن يكون همهمّ الأول هو تحصيل المادة، وحين نربيهم على أن يكون هم التعليم هو تحصيل الشهادة فهذه أهداف مرفوضة، وأهداف لا تتوافق مع أهداف الشريعة التي يريدها الله - عز وجل – أن تخرج المسلم العابد المتجرد لله عز وجل - .
ثالثاً : المراجعة المستمرة(/5)
إنما ينبغي أن نراجع كثيراً من مناهجنا التربوية، وأن نراجع الأساليب والوسائل التي نستخدمها في بيوتنا وفي مدارسنا ومؤسساتنا التربوية، وكل عمل تربوي نرسمه فهو جهد بشري لا يستغني عن المراجعة والتصحيح، وحين نرفض المراجعة فإن هذا يعني أن نبقى على ما نحن عليه من أخطاء ونبقى على ما نحن عليه من زلاّت وهفوات .
رابعاً :عدم الاستجابة لردود الأفعال
إن غالب حالات الخلل الذي ينشأ في رعاية هذا الجانب إنما هي ردة فعل واستجابة لأفعال تولد الانحراف.
ففي المعتقد: المرجئة الذين قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب , إنما قالوا قولهم هذا ردة فعل لأولئك الخوارج الذين غلوا فكفّروا مرتكب الكبيرة، فجاء أولئك وغلوا في هذا الجانب، وأولئك النواصب الذين ناصبوا آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم العداء إنما جاء موقفهم ردة فعل لانحراف الرافضة الذين يسبون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذين شبهوا الله - سبحانه وتعالى – بخلقه، إنما انطلقوا من ردة فعل لأولئك الذين نفوا صفات الله - عز وجل -.
وقل مثل ذلك في المدارس الفقهية والتربوية.
وحينما يكتشف الإنسان في تربيته لنفسه أنه قد وقع في خطأ فركّز في جانب على حساب آخر، فإنه غالباً ما يجنح إلى ردة الفعل فيغلو الطرف المقابل؛ إنه قد يرى غيره ممن يعتني بالعبادة على حساب طلب العلم الشرعي وعلى حساب الدعوة، فيرى أن هذا خطأ، فيعالج هذا الخطأ بخطأٍ آخر؛ فيهمل جانب العبادة ويهمل التقرب إلى الله تعالى، ويعيش قاسي القلب ليس له حظ من عبادة الله - سبحانه وتعالى –.
وقل مثل ذلك في سائر الجوانب، فينبغي أن نحذر ونحن نعالج أخطاءنا من ردود الأفعال، وأن نحذر أيضا ونحن نعالج أخطاء الآخرين من ردود الأفعال، وأن تكون مواقفنا متزنة.
تنبيهات أخيرة
الأول
إننا حين ندعو إلى التوازن في التربية، فندعو الشاب إلى أن تكون له صلة بالله - عز وجل – والعبادة ونصيب من العلم الشرعي، ونصيب من الدعوة إلى الله تعالى، وإنكار المنكرات ونصيب من أبواب الخير، فإن التوازن ليس مرادفاً للتساوي والتعادل، فهذا لا يعني أن يحمل من كل شيء قدراً متساوياً، فإن الناس طاقات ومواهب وقدرات، ثم إن الأمة الإسلامية تحتاج أبواباً كثيرة قد تؤدي إلى أن يربى بعض الناس على جانب، وأن يعنى بعض الناس بجانب ويتأخرون في جانب آخر.
وحين ندعو إلى التوازن فإننا لا ندعو بالضرورة أن تكون النسب متساوية ومتعادلة، إنما التوازن يعني على سبيل المثال أن لا تكون عبادة الإنسان على حساب عنايته بالعلم الشرعي، وأن لا يكون طلبه للعلم على حساب عنايته لصلاح قلبه، أوعلى حساب دعوته، وقل مثل ذلك في باقي الجوانب .
الثاني
الدعوة إلى التكامل والتوازن لا تعني إهمال التخصص؛ فالناس خلقهم الله – عز وجل – متفاوتين في عقولهم وقدراتهم، كما قال الإمام مالك – رحمه الله - : "رب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الذكر، ورب رجل فُتح له في العلم ولم يفتح له في الجهاد، وما أظن أن ما أنا عليه دون ما أنت عليه وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر " قال هذا – رحمه الله – لذاك الرجل الذي أنكر عليه العناية بالعلم وقلة التفرغ للعبادة، فلابد من التخصص ولا بد من أن يعنى فلان بجانب من الجوانب، وقد يكون على حساب غيره، ولكن هذا التخصص ينبغي أن يكون بقدر لا يخرج المرء عن القدر المشترك الذي ينبغي أن يكون عند الناس جميعا.
إذن فالتكامل والتوازن لا يعني إهمال التخصص ولا يعني إهمال القدرات الشخصية التي قد يفوق فيها فلان من الناس عن غيره، ولا يعني أن تكون الأمور كلها بنسبٍ متعادلة.
لكن الذي اشتغل بالعلم والتعلم –على سبيل المثال - وصرف فيه نفيس وقته، وهو على خير و لا يليق به أن يهمل جانب العبادة وحقه منها إهمالاً واسعاً بحيث يؤدي به إلى قسوة القلب، وأن يكون بعيداً عن ما ينبغي أن يكون عليه سمت أهل العلم، وقل مثل ذلك فيمن يدعو إلى الله ويحتسب في إنكار المنكرات العامة،، هذا ما أردت الحديث عنه حول هذه القضية التربوية حول قضية التكامل والتوازن، أسأل الله - عز وجل – أن يجعل فيما قلت الخير والبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع قريب مجيب .(/6)
التكبر
يتناول الدرس إظهار العامل إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين، وينال من ذواتهم، ويترفع عن قبول الحق منهم، وما هي أسباب ذلك، وأثر هذا التكبر على المتكبر نفسه وعلى العمل الإسلامي، وما مظاهر هذا التكبر، وما هو العلاج لهذا المرض .
معنى التكبر:
لغة : التكبر في اللغة هو التعظم، أي إظهار العظمة، قال في 'لسان العرب':'والتكبّر والاستكبار: التعظم، ومنه قوله تعالى:
}سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ[146]{ “سورة الأعراف” أي: يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم' .
اصطلاحا : وفي اصطلاح الدعاة، فإن التكبر هو: إظهار العامل إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم، وينال من ذواتهم، ويترفع عن قبول الحق منهم. جاء في الحديث عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ] قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ] رواه مسلم والترمذي وأحمد.
الفرق بين التكبّر، والعزة:
الفرق بينهما: أن التكبر ترفع بالباطل، والعزة ترفع بالحق . أو أن التكبر:نكران النعمة وجحودها، والترفع: اعتراف بالنعمة وتحدث بها، على نحو ما تضمنه منه الحديث المذكور آنفا.
أسباب التكبر:
ولما كان التكبر الإعجاب بالنفس، المؤدية إلى احتقار الناس والترفع عليهم، فإن أسبابه التي تؤدى إليه، وبواعثه التي ينشأ منها، هي بعينها: أسباب وبواعث الإعجاب بالنفس، والغرور، إذا أهملت ولم تعالج، وهي لا تزال في مهدها، أو في أوائلها، ويزاد عليها:
1- مبالغة الآخرين في التواضع، وهضم النفس: ذلك أن بعض الناس قد تحملهم المبالغة في التواضع على ترك التجمل والزينة في اللباس ونحوه، وعلى عدم المشاركة بفكر، أو برأي في أي أمر من الأمور، بل والعزوف عن التقدم للقيام بمسئولية، أو تحمّل أمانة، وقد يرى ذلك من لم يدرك الأمور على حقيقتها، فيوسوس له الشيطان، وتزين له نفسه، أن عزوف الآخرين عن كل ما تقدم إنما هو للفقر، أو لقلة ذات اليد، وإلا لما تأخروا أو توانوا لحظة، وتظل مثل هذه الوساوس، وتلك التزيينات تلح عليه، وتحيط به من هنا وهناك، حتى ينظر إلى الآخرين نظرة ازدراء وسخرية، في الوقت الذي ينظر فيه إلى نفسه نظرة إكبار وإعظام، وقد لا يكتفي بذلك، بل يحاول إبرازه في كل فرصة تتاح له، أو في كل مناسبة تواتيه، وهذا هو التكبر، وقد لفت القرآن الكريم، والسنة النبوية، النظر إلى هذا السبب، أو الباعث من خلال دعوتهما إلى التحدث بنعمة الله تعالى:
إذ يقول سبحانه: }وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[11]{ [سورة الضحى].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ...] رواه مسلم والترمذي وأحمد.
وَعَنْ مَالِكِ بن نَضْلَةَ الجُشَمِي قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ: [ أَلَكَ مَالٌ] قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: [مِنْ أَيِّ الْمَالِ] قُلْتُ: قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ قَالَ: [ فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ]رواه أبوداود والنسائي وأحمد.
وقد فهم السلف ذلك، فحرصوا على التحدث بما يفيض الله عليهم من نعم، وعابوا على من يغفل هذا الأمر من حسابه، قال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: [إذا أصبت خيراً، أو عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك]. وقال بكر بن عبد الله المزني:'من أعطي خيراً فلم ير عليه، سمى بغيض الله، معادياً لنعم الله' .
2- اختلال القيم أو معايير التفاضل عند الناس: ذلك أن الجهل قد يسود في الناس إلى حد اختلال القيم، و معايير التفاضل عندهم، فتراهم يفضلون صاحب الدنيا، ويقدمونه حتى لو كان عاصياً أو بعيداً عن منهج الله، في الوقت الذي يحتقرون فيه البائس المسكين الذي أدارت الدنيا ظهرها له، حتى وإن كان طائعاً، ملتزماً بهدى الله، ومن يحيا في هذا الجو، يتأثر به لا محالة - إلا من رحم الله - ويتجلى هذا التأثر في احتقار الآخرين، والترفع عليهم. وقد ألمح القرآن والسنة إلى هذا السبب من خلال رفض هذا المعيار، ووضع المعيار الصحيح مكانه:(/1)
إذ يقول الله سبحانه وتعالى:} أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ[55]نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ[56]{ [سورة المؤمنون] }وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ[35]قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[36]وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ[37]{ [سورة سبأ].
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ] قَالُوا رَأْيَكَ فِي هَذَا نَقُولُ هَذَا مِنْ أَشْرَفِ النَّاسِ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُخَطَّبَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا] قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لَمْ يُنْكَحْ وَإِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعْ وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعْ لِقَوْلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا] رواه البخاري وابن ماجه.
3- مقارنة نعمته بنعمة الآخرين ونسيان المنعم : فمن الناس من يحبوه الله بنعم يحرم منها الآخرين، كالصحة، أو الزوجة، أو الولد، أو المال، أو الجاه والمركز، أو العلم، أو حسن الحديث، أو الكتابة، أو التأليف، أو القدرة على التأثير، أو كثرة الأنصار والأتباع... إلخ، وتحت بريق وتأثير هذه النعم، ينسى المنعم، ويأخذ في الموازنة أو المقارنة بين نعمته ونعمة الآخرين؛ فيراهم دونه فيها، وحينئذ يحتقرهم، ويزدريهم، ويضع من شأنهم، وهذا هو التكبر. وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب، أو إلى هذا الباعث من خلال:
حديثه عن قصة صاحب الجنتين، فقال:} وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا[32]كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا[33]وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا[34] { [سورة الكهف].
4- ظن دوام النعمة أو عدم التحول عنها: فبعض الناس قد تأتيه النعمة من الدنيا، وتحت تأثيرها وبريقها يظن دوامها، أو عدم التحول عنها، وينتهي به هذا الظن إلى التكبر، أو التعالي على عباد الله، كما قال صاحب الجنتين لصاحبه:} قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا[35]وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا[36] {[سورة الكهف].وكما قال الله عن الإنسان:} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى... [50] {[سورة فصلت].
5- السبق بفضيلة أو أكثر من الفضائل: كالعلم، أو الدعوة، أو الجهاد، و نحو ذلك .(/2)
ذلك أن بعض الناس، قد يحبوهم الله بفضيلة السبق في بعض خصال الخير، وإذا بهم ينظرون إلى اللاحق نظرة ازدراء واحتقار، ولسان حالهم أو مقالهم ينطق في استكبار: ومن هؤلاء الذين يعملون الآن؟ لقد كانوا عدماً أو في حكم العدم يوم أن مشينا على الأشواك، وتحملنا مشاق ومتاعب الطريق، حتى عبّدناها لهم ولغيرهم من الناس. وقد لفت المولى سبحانه إلى هذا السبب، حين بين أن السبق لا يعتبر، ولا قيمة له إلا إذا كان معه الصدق، فقال:} لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[8]وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[9] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[10] {[سورة الحشر]. ولم ينظر المولى سبحانه إلى سبق هؤلاء إلا من خلال ما قدموه من الأدلة على صدقهم وثباتهم على الحق، مثل : الهجرة، والنصرة، واتباع سبيل المؤمنين، وحسن الصلة بالله، ومعرفة الفضل لذويه..وهكذا صار مبدأ الإسلام: 'ليس الفضل لمن سبق، بل لمن صدق'.. وصدق الله:} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23] { [سورة الأحزاب].
6- الغفلة عن الآثار المترتبة على التكبر : والعواقب المهلكة المترتبة على التكبر في الأرض بغير الحق، ذلك أن من غفل عن الآثار الضارة لِعِلَّةٍ من العلل، أو آفة من الآفات؛ فإنه يصاب بها، وتتمكن من نفسه، ولا يشعر بذلك إلا بعد فوات الأوان، وبعد الاستعصاء على القلع والعلاج .
مظاهر التكبّر:
1- الاختيال في المشية، مع ليّ صفحة العنق، وتصعير الخد: قال تعالى:}وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[23]{ [سورة الحديد] }وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]{ [سورة لقمان] .
2- الإفساد في الأرض عندما تتاح الفرصة مع رفض النصيحة، والاستنكاف عن الحق: قال تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ[205]وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ[206]{ [سورة البقرة] .
3- التقعر في الحديث: يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ الْبَاقِرَةِ بِلِسَانِهَا] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد. ،وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ] فَقَالَ: [هُمْ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ]رواه أحمد. .
4- إسبال الإزار بنية الاختيال والتكبر: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِنِّي لَأَتَعَاهَدُ ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ: [لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ] رواه أبوداود .
5- محبّة أن يسعى الناس إليه، ولا يسعى هو إليهم، وأن يمثلوا له قياما إذا قدم أو مر بهم: وقد جاء في الحديث: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
6- محبّة التقدم على الغير في المشي أو في المجلس، أو في الحديث، أو نحو ذلك .
آثار التكبّرعلى العاملين:
1- الحرمان من النظر والاعتبار : وذلك أن المتكبّر - بترفعه وتعاليه على عباد الله - قد اعتدى من حيث يدري أو لا يدري على مقام الألوهية، ومثل هذا لابدّ له من عقوبات، وأوّل هذه العقوبات: الحرمان من النظر، فتراه يمر على آيات الله المبثوثة في النفس وفي الكون، وهو في إعراض تام عنها:(/3)
} وَكَأَيِّنْ مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[105] {[سورة يوسف]. ومن حرم النظر والاعتبار؛ كانت عاقبته البوار والخسران المبين؛ لأنه سيبقى مقيمًا على عيوبه وأخطائه، غارقاً في أوحاله، حتى تنتهي الحياة، كما عقب النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ: } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[190]الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[191]{[سورة آل عمران] بقوله: [وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الَآَيَاتِ ُثَّم لَمْ يَتَفَكّرْ فِيهَا] رواه ابن حبان في'صحيحه'. وقد صرح سبحانه وتعالى بهذا الأثر في قوله: } سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [146] {[سورة الأعراف] .
2- القلق والاضطراب النفسي: فالمتكبر يحب - إشباعاً لرغبة الترفع والتعالي - أن يحني الناس رءوسهم له، وأن يكونوا دوماً في ركابه، ولأن أعزّة الناس وكرامهم يأبون ذلك، بل ليسوا مستعدين له أصلا،فإنه يصاب بخيبة أمل، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي، هذا فضلًا عن أن اشتغال هذا المتكبر بنفسه يجعله في إعراض تام عن معرفة الله وذكره، وذلك له عواقب أدناها في هذه الدنيا: القلق والاضطراب النفسي، وصدق الله إذ يقول: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [124]{ [سورة طه]،} وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا[17]{ [سورة الجن].
3- الملازمة للعيوب والنقائص: ذلك أن المتكبر لظنه أنه بلغ الكمال في كل شيء؛ لا يفتش في نفسه، حتى يعرف أبعادها ومعالمها، فيصلح ما هو في حاجة منها إلى إصلاح، ولا يقبل كذلك نصحاً، أو توجيهاً، أو إرشاداً من الآخرين، ومثل هذا يبقى غارقاً في عيوبه ونقائصه، ملازماً لها إلى أن تنقضي الحياة، ويدخل النار مع الداخلين }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا[103]الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[104] { [سورة الكهف] } بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[81]{ [سورة البقرة].
4- الحرمان من الجنة: فإن من يعتدي على مقام الألوهية، ويظل مقيماً على عيوبه ورذائله، ستنتهي به الحياة - حتماً - وما حصّل خيراً يستحق به ثواباً أو مكافأة، فيحرم الجنّة مؤبداًًً أو مؤقتاً. وصدق الله ورسوله، إذ يقول الحق في الحديث القدسيالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ] رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه-واللفظ له- وأحمد .
وإذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ] رواه مسلم والترمذي وأحمد.
آثار التكبر على العمل الإسلامي:
1- قلة كسب الأنصار بل والفرقة والتمزق : فالقلوب جبلت على حب من ألان لها الجانب، وخفض لها الجناح، ونظر إليها من دون لا من عَلٍ. أما من ترفع عليها واحتقرها، أونال منها ؛ فإنها تبغضه، وتنفر منه، بل وتحاول الابتعاد عنه، وتكون العاقبة خواء ذات اليد من الأنصار من ناحية، ووقوع الفرقة والتمزّق بين من هو نصير وظهير بالفعل من ناحية أخرى. ويوم ينتهي الأمر بالعمل الإسلامي إلى انعدام النصير من الخارج، ووقوع الفرقة والتمزق من الداخل، فإنه يسهل ضربه، أو على الأقل إجهاضه، فلا يؤتى ثمره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل.
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا الأثر، وهو يتحدث عن المنافقين فقال:} وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ[5]{ [سورة المنافقون]. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: [إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ]رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد.(/4)
2- الحرمان من العون والتأييد الإلهي : ذلك أن الحق سبحانه مضت سنته أنه لا يعطي عونه وتأييده، إلا لمن هضموا نفوسهم حتى استخرجوا حظ الشيطان من نفوسهم، بل حظ نفوسهم من نفوسهم، والمتكبرون قوم كبرت نفوسهم، ومن كانت هذه صفته، فلا حق له في عون أو تأييد إلهي. ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى:} وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [123] {[سورة آل عمران] حيث ربط نصره لهم، بحالهم التي كانوا عليها: من المسكنة، والتواضع، وهضم النفس، وكأن هذه الحال إذا انعدمت، أو غابت؛ غاب معها العون والتأييد.
علاج التكبّر :
1- تذكير النفس بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر: سواءً أكانت عواقب ذاتية، أو متصلة بالعمل الإسلامي، وسواءً أكانت دنيوية، أو أخروية على النحو الذي قدمنا، فلعل هذا التذكير يحرك النفس من داخلها، ويحملها على أن تتوب، وتتدارك أمرها قبل ضياع العمر، وفوات الأوان.
2- عيادة المرضى، ومشاهدة المحتضرين، وأهل البلاء، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور: فلعل ذلك أيضًا يحركه من داخله، ويجعله يرجع إلى ربه بالإخبات والتواضع.
3- الانسلاخ من صحبة المتكبرين، والارتماء في أحضان المتواضعين المخبتين: فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام شعاعها عليه، فيعود له سناه، وضياؤه الفطري كما كان عند ولادته.
4- مجالسة ضعاف الناس وفقرائهم، وذوي العاهات منهم : بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم، كما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وكثير من السلف، فإن هذا مما يهذب النفس، ويجعلها تقلع عن غيها، وتعود إلى رشدها.
5- التفكر في النفس وفي الكون، بل وفي كل النعم التي تحيط به من أعلاه إلى أدناه: من مصدر ذلك كله؟ ومن ممسكه؟ وبأي شيء استحقه العباد؟ وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة، فضلا عن باقي النعم؟ فإن ذلك التفكر لو كانت معه جدية، يحرك النفس، ويجعلها تشعر بخطر ما هي فيه، إن لم تبادر بالتوبة والرجوع إلى ربها.
6- النظر في سير وأخبار المتكبرين، كيف كانوا؟ وإلى أي شيء صاروا؟ من إبليس والنمرود إلى فرعون، إلى هامان، إلى قارون، إلى أبي جهل، إلى أيى بن خلف، إلى سائر الطغاة والجبارين المجرمين، في كل العصور والبيئات، فإن ذلك مما يخوف النفس، ويحملها على التوبة والإقلاع، خشية أن تصير إلى نفس المصير. وكتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتب التراجم والتاريخ، خير ما يعين على ذلك.
7- حضور مجالس العلم التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون لا سيما مجالس التذكير والتزكية: فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين، وتعود إليها الحياة من جديد.
8- حمل النفس على ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس: ممارسة ذاتية - مادامت مشروعة- كأن يقوم هذا المتكبر بشراء طعامه، وشرابه، وسائر ما يلزمه بنفسه، ويحرص على حمله، والمشي به بين الناس، حتى لو كان له خادم، على نحو ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، والسلف، فإن هذا يساعد كثيراً في تهذيب النفس وتأديبها، والرجوع بها إلى سيرتها الأولى الفطرية، بعيداً عن أي التواء، أو اعوجاج .
9- الاعتذار لمن تعالى وتطاول عليهم بسخرية أو استهزاء : بل ووضع الخد على التراب وإلصاقه به، وتمكينه من القصاص، على نحو ما صنع أبو ذر مع بلال لما عاب عليه النبي صلى الله عليه وسلم تعييره بسواد أمه.
10- إظهار الآخرين نعمة الله عليهم، وتحدثهم بها لا سيّما أمام المستكبرين : لعلهم يثوبون إلى رشدهم وصوابهم، ويتوبون ويرجعون إلى ربهم، قبل أن يأتيهم أمر الله .
11- التذكير دوما بمعايير التفاضل والتقدم في الإسلام : }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[13]{ [سورة الحجرات] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد-واللفظ له- .
12- المواظبة على الطاعات: فإنها إذا واظب عليها، وكانت متقنة لا يراد بها إلا وجه الله؛ طهرت النفس من كل الرذائل، بل زكتها وسمت بها إلى أعلى عليين:} مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [97]{ [سورة النحل].
13-محاسبة النفس أولا بأول: بحيث يعرف صاحب هذا الداء الحدّ الذي انتهى إليه في علاجه، وما فيه من نجاح أو قصور، فينقى نواحي النجاح، ويتدارك نواحي القصور.(/5)
14- الاستعانة بالله عز وجل: فإنه سبحانه يعين من استعان به، ويجيب دعاء المضطر إذا دعاه: }أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[62]{ [سورة النمل].
تمت
من كتاب:' آفات على الطريق' للدكتور/السيد محمد نوح(/6)
التكنولوجيا البدائية
التكنولوجيا المنفلتة
التكنولوجيا الرجعية
يحدثونك عن فضل حضارة الغرب عليك
في الوقت الذي تتكشف فيه عورة الغرب في حملته الدينية على الإسلام نجد لدينا من يحاول تغطيتها بورقة التوت في قولهم " ولكن ألست ترفل في مخترعاتهم وتكنولوجياتهم ؟
{ يرجع إلى كارثة التكنولوجيا في كتاب " الغرب والعالم " سلسلة عالم المعرفة }
جريدة الأهرام 27\4\1990
( الكارثة تقترب
والإنسان عدو نفسه
مع احتفال العالم كله بيوم " كوكب الأرض " هذا الأسبوع تعالت صرخات التحذير من كارثة مناخية مدمرة تهدد آلاف الملايين من البشر بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض ن وزيادة معدلات التلوث ، إلى درجة بالغة الخطورة . وبينما كان العلماء يصرخون من أن الوقت لم يعد في صالح البشر وأنه يتعين علينا جميعا أن نخوض " حربا عالمية " لإنقاذ الكرة الأرضية من دمار التلوث دخل ساسة الدول الكبرى في خلافات ومتاهات عميقة حول كيفية مواجهة هذه الأزمة .
وفي مؤتمرهم الذي عقد تحت إشراف الولايات المتحدة اتخذت الأزمة طابعا سياسيا عاصفا طغت عليه المصالح الاقتصادية والانتخابية . وانتهى المؤتمر – كما كان متوقعا – دون اتخاذ أية قرارت عاجلة أو طارئة للحد من السموم التي تهدد مناخ الأرض ورفضت أمريكا – رغم مسئوليتها وحدها عن حوالي ربع التلوث الصناعي في العالم - أن تقدم أية تعهدات أو تنازلات صناعية من شانها أن تؤثر على نموها الاقتصادي .
وفي ذات المؤتمر قال بوش – الأب – الذي كان يطلق عليه أيام الانتخابات اسم " رئيس البيئة " " إننا نريد حقائق علمية أولا .. نريد بحوثا دولية توضح لنا " الغموض " في هذا العلم .. إننا لا نستطيع أن نحسن المناخ على حساب نمونا الاقتصادي "
العلماء يريدون خفضا حادا في ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي ترفع درجة حرارة الأرض وذلك بما يتراوح بين 50 و 80 % ، وهذا يتطلب على أقل تقدير الخفض الجذري في استخدام السيارات ومعظم إمكانات الحياة الحديثة ، فهل يجرؤ أي زعيم سياسي على فرض مثل هذه الإجراءات ؟
إن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع 3 درجات مئوية ، فيذوب الجليد ، ويرتفع منسوب مياه البحار والمحيطات وتغرق الأراضي المنخفضة وربما دولا بأكملها .
وقد حذر العالم المصري مصطفى طلبة من أن شواطئ مصر والوجه البحري كله ليست بمنأى عن هذا الخطر ..
كما حذر الدكتور طلبة من أن التصحر والقحط سينتشر في الدول البعيدة عن المياه مما سيؤثر على الإنتاج الغذائي في العالم ، وسوف تموت الغابات والحيوانات التي لا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وستكثر العواصف والأعاصير ، فتقطع الاتصالات وتزيد من الكوارث الطبيعية ، وذلك علاوة على ما سيصيب الإنسان من أمراض مثل السرطان وفقدان المناعة وفقد البصر …
ويقول العلماء إننا دخلنا العد التنازلي للكارثة وان 50% من الضرر قد وقع فعلا خلال العقود الثلاثة الماضية وأنه في المستقبل القريب سوف تفقد 40 دولة احتياجاتها من الماء
وتظهر صور الأقمار الصناعية للمناخ في أوربا الشرقية كتلا كثيفة سوداء من الغازات والأتربة الصناعية تنتشر فوق مصانع ألمانيا الشرقية وتشكوسلوفاكيا وتغطي بولندا بأكلها ،وفي بولندا بالذات كل شيء مسمم : الجو والتربة والماء
وتتعرض أوربا الغربية أيضا وخاصة في المناطق السياحية بجبال الألب لأزمة بيئية نتيجة للأمطار الحمضية والتلوث النووي من تشرنوبل
وفي بريطانيا هناك نسبة تلوث عالية من الـ 1900 مصنع على أراضيها فأحد هذه المصانع يبعث ب ثمانية أطنان من ثاني أكسيد الكبريت يف الجو يوميا وه ما يزيد عشر مرات عن المعدلات المسموح بها
ووفقا لهذه التقارير فغن قارة أفريقيا لم تعد نصلح للحياة بسبب التلوث والجفاف وأن خمسين مليونا من البشر يعيشون في أراض متصحرة تهددهم المجاعات كل عام ، وأن القحط في أفريقيا ينتشر بمعدل 2,3 مليون متر مربع سنويا
ويقول تقرير أصدره مجلس السوفييت الأعلى أن شخصا من بين كل خمسة أشخاص بالاتحاد السوفيتي يتنفس هواء يحتوي على نسبة من الكيماويات الخطيرة تزيد عشر مرات عن الحد الأقصى المسموح به ، وان 600 مدينة سوفيتية نصحت مواطنيها بشرب المياه المعبأة
وفي الصين كلما هبت الرياح فوق المدن الصناعية انتشر دخان أحمر وأسود ليغطي الأراضي والسلطات هناك تواجه مشكلات رهيبة في مواجهة التلوث بإمكاناتها المحدودة .
وفي الولايات المتحدة مازالت الدولة تواجه مشكلات بيئية خطيرة ففي مائة مدينة يصل الدخان في الجو إلى نسب تزيد عن المسموح به ، مما يزيد من نسبة الإصابة بالسرطان ، كما أوقفت 2000 سفينة شحن في نهر المسيسبي بعد أن انخفض مستوى النهر عشرة أمتار
ويقول الباحثون إنه في العاصمة المصرية أصبح مجرد تنفس الهواء خطرا يهدد الحياة وهو لا يقل خطورة عن تدخين علبتي سجائر يوميا . )
الأهرام { مايو 1992}
( الكرملين يكذب : ممنوع الكشف عن تلوث الطعام بإشعاعات تشيرنوبل(/1)
قبل ست سنوات وفي شهر مايو 1986 وقعت كارثة تشيرنوبل الشهيرة – وبمناسبة ذكرى هذا الحادث الأليم كشفت صحيفة " ازفستيا " الروسية عن تفصيلات جديدة أوضحت أن الحزب الشيوعي قد طالب وسائل الإعلام ووزارة الصحة بعدم الإفصاح عن الحجم الحقيقي للكارثة وعدد الضحايا وما كان من وزارة الصحة إلا أن أعدت ثلاثة تقارير يختلف كل منها عن الآخر باختلاف الجهات التي اهتمت بهذه الواقعة .
وفي الثاني والعشرين من شهر أغسطس عام 1986 أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي قرارا بعد إعدام المواد الغذائية التي تأثرت بالمادة الإشعاعية الناتجة عن انفجار محطة تشيرنوبل ومنها اللحوم والألبان ، وطالبت بخلطها مع المنتجات الصحيحة الأخرى بنسبة واحد لعشرة .. لذلك أمكن تسريب هذه المنتجات في الفترة ما بين 1986 – 1989 إلى الأفراد وقدرها 47 طنا من اللحوم و 2 مليون طن من الألبان الملوثة بالإشعاع في معظم الجمهوريات والأقاليم السوفييتية باستثناء موسكو .
وصرح أحد الخبراء في ذلك الوقت " بكل فخر " أنه قد أمكن تحصيل واحد وسبعين مليار روبل من بيع هذه المواد " الفاسدة " رغم الكارثة ، وتشير الصحيفة إلى أن الاقتصاد الروسي كان سيتحمل ما بين 180 إلى 200 مليار روبل في حالة عدم تسريب هذه المواد الفاسدة للبيع والتجارة بالإضافة إلى تحمل نتائج الانفجار الذي وصف بأنه يماثل انفجار ثلاثمائة قنبلة ذرية مثل التي ألقيت على هيروشيما
وتقول صحيفة الفيجارو الفرنسية التي نشرت تقارير زميلتها الصحيفة الروسية أن مثل هذه الحقائق لم يكن مقدرا لها الظهور إلا بعد سقوط الحزب الشيوعي وأمكن الاطلاع على الملفات السرية التي كانت تخفي حقائق كثيرة )
الأهرام 4\12\1991 : من كلمة الكاتب أحمد بهجت في " صندوق الدنيا "
( الحرب البيولوجية
سألت الدكتور محمد صادق صبور أستاذ الأمراض الباطنية بجامع عين شمس عن حقيقة الحرب البيولوجية ومتى بدأ الإنسان في استخدامها فقال :
لعل أول استخدام للأسلحة البيولوجية جاء حوالي 300 سنة قبل الميلاد أثناء الحروب بين الفرس والرومان عندما كانت الجيوش تلوث مياه الآبار الصالحة للشرب قبل انسحابها
وجاء ذكرها في العصور الوسطى عندما كان الروس يقذفون أجسام ورءوس المرضى فوق أسوار المدن التي يحاصرونها ويستعصي عليهم دخولها لنشر الأوبئة داخل هذه المدن المحاصرة
وتبدا المرحلة الوسطى من الحرب البيولوجية عام 1763 وتمتد حتى 1925 ، فقد عثر على خطابات كتبها ضابطان فرنسيان مع قائدهما البريطاني أثناء قتالهم للهنود الحمر عام 1763 ، وكان المقاتلون من سكان أمريكا الأصليين قد أوشكوا على دحر الغزاة الأوربيين ن وفي هذه الخطابات يستأذن الفرنسيان لتلويث البطاطين والمناديل ببثور المصابين بالجدري وتركها في الخيام قبل انسحابهم منها ليدخلها المقاتلون من الهنود الحمر ويحصدهم الجدري ، وقد أعطى لهم قائدهم الإنجليزي الإذن للقيام بهذا العمل ، وهذه الخطابات محفوظة بالمتحف الأمريكي الذي أنشأته الجمعية الأمريكية الميكروبيولوجية بواشنطن منذ عشر سنوات ، وتعتبر أقدم الوثائق بهذا المتحف
وقد استخدم الأمريكيون نفس هذه الوسيلة في حربهم ضد الإنجليز سنة 1776 في حرب التحرير وتأسيس الولايات المتحدة ، وفي عام 1915 استخدم الألمان ميكروب الكوليرا ضد القوات الإيطالية
وأثارت هذه الأسلحة السخط بين الأوربيين وقرروا حظر استخدام الأسلحة البيولوجية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووقعوا معاهدة جنيف سنة 1925 ولم توقعها أمريكا
بعد ذلك بدأت المرحلة الحديثة من الحرب البيولوجية )
الخليج 12\12\ 1995
( عباقرة ولكن لصوص
بعض العباقرة الذين يتحدث العالم عن عبقرياتهم بما يشبه الانبهار لم يكونوا عباقرة على الإطلاق وإنما أناس عاديون سرقوا عبقريات غيرهم ونسبوها لأنفسهم وبدوا أمام الناس في جلود غير جلودهم ، وثياب غير الثياب التي يرتدونها .
وحتى الآن ما يزال الناس يعتقدون أن صموئيل مورس هو الذي اخترع إشارة مورس التي تحمل اسمه ، بينما يقول المؤرخون أن مورس لا علاقة له بهذه الإشارة التي فتحت أمام العالم عصر اللاسلكي ومخترعها هو مساعده ألفريد فيل .
وقد كافأ مورس مساعده فيل بتعيينه في منصب قيادي في عالم الاتصالات لكي يضمن سكوته
وعندما حاول مورس تسجيل اختراعه في أوربا والحصول على براءة اختراع ، وجد صعوبة في ذلك ، فقد اكتشف أن الأوربيين سبقوه إلى الاختراع بسنوات . وأن السير تشارلز ويتسون وشريكه ويليام كوك يمتلكان شبكة التلغراف في لندن منذ عام 1840(/2)
ويقول المؤرخون إن تشارلز ويتسون ساهم في تطوير الفونوغراف الذي يعتقد الناس أن توماس أديسون اخترعه عام 1877 .. أما المخترع الحقيقي للفونوغراف فهو ليون سكوت دومار تينفيك الذي ابتكر جهازا أطلق عليه اسم الفونوغراف ولم يكن هذا الجهاز يعمل بإبرة وإنما وكل ما هنالك هو أن أديسون استغل علاقته في مكتب تسجيل الاختراعات وسجل الاختراع ، باسمه ، ولم يستطع دومار تينيفيك أن يفعل شيئا
ونفس اللعبة لعبها اديسون بالنسبة للمصباح الكهربائي .. ويقول المؤررخون إن المصباح الكهربائي من اختراع شخص بريطاني اسمه السير جوزيف سوان ، وقد توصل إليه عام 1878 ويقول المؤرخون إن أديسون سمع بخبر هذا الاختراع وسارع إلى إنشاء شركة للتصنيع الكهربائي وبدأت الشركة بالعمل في أكتوبر 1880 أي قبل شهر واحد من حصول سوان على ترخيص لإنشاء شركته التي أطلق عليها اسم " شركة سوان للمصباح الكهربائي " وسجل الاختراع باسمه، ولو عاد أديسون وسوان إلى الحياة هذه الأيام لشعرا بالذهول من الثورة التي أحدثها المصباح في حياتنا وسلوكياتنا
ويقول المؤرخون إن أليشاجراي وليس جراهام بل هو الذي اخترع جهاز الهاتف ، وعندما ذهب إلى تسجيل اختراعه في مكتب براءات الاختراعات وجد أن ألكسندر جراهام بيل سبقه إليه بثلاث ساعات .
ويقول المؤرخون إن الكسندر جراهام بل كان يسعى في مختبره إلى تطوير جهاز كهربائي للصم وتشاء الصدف أن يسكب بيل بعض الأسيد على الجهاز دون قصد منه ، فنادى على مساعده جراي يلتمس منه المساعدة فسمع جراي صوت بيل عبر قطعة من المعدن موصولة بمغناطيس مثبت بشريط إلى زجاجة الأسيد التي سكبها بيل . )
الخليج 31\1\1994 : من مقال إلياس سحاب
( اخلاقيات القرن العشرين
.. لكن نظرة تحليلية استرجاعية للمحطات الرئيسية في القرن العشرين تؤكد أن هذا القرن بالذات قد انتج علاقة عكسية بين التقدم العلمي والتقدم الحضاري – الأخلاقي ، حتى يمكننا أن نقول إن أحداث القرن العشرين قد جاءت تؤكد أنه كلما حققت البشرية تقدما علميا يتيح لها مزيدا من السيطرة على قوى الطبيعة راحت تمارس زهوها بهذه السيطرة على حساب القيم في حركة انحدار خلقي إلى أسفل .
….
….
لقد ابتكرت الحضارة الغربية الحديثة … سلوكا في الحياة الفردية والاجتماعية والبشرية الدولية جوهره التزييف الكامل لكل القيم النبيلة والرفيعة التي راكمتها الحضارة البشرية العامة منذ اقدم العصور وحتى يومنا هذا ، أي منذ بدأ الإنسان أول مرحلة في الترقي والتمدن ، وصولا إلى القرن العشرين ، وهو سلوك يغلب الشكل على المضمون ، ويقيم معيارا لقياس حضارة أي فرد وأي مجتمع وأي شعب قوامه الشكل الخارجي للسلوك بغض النظر عن جوهر هذا السلوك ، بل حتى لو كان جوهر هذا السلوك مناقضا لكل القيم والمثل الحضارية ، فليس مهما أن تقتل إنسانا ، المهم أن تكون عندما تمارس عملية القتل نظيف الجسد والملابس هادئا مبتسما رقيق الخطو ، ولا بأس من أن تكون مرتديا لقفازات حريرية ، والأفضل أن يكون المسدس الذي تقتل به كاتما للصوت ، حتى لا يزعج صوته أحدا ، فإذا أمنت لنفسك كمل هذه المظاهر الحضارية الشكلية فأنت إنسان متحضر . صحيح أنك قاتل ولكنك قاتل متحضر .
….
وما قصص المافيا والفساد والرشوة وتجارة السلاح الدولية وتجارة المخدرات سوى نماذج صارخة وحية على هذه الأزمة ، وما قصص جمعيات الرفق بالحيوان التي تزدهر في مجتمعات أيديها ملطخة بجرائم سياسية جماعية يذهب ضحيتها مئات الألوف من البشر .. سوى تعبير آخر عن هذه الظاهرة
ويمكننا على سبيل المثال أن نتخيل عدد ومستوى الجرائم التي يمكن أن تحاكم بها الدولة البريطانية أمام محكمة الحضارة الإنسانية – لو وجدت هذه المحكمة – لو وجه إليها المدعي العام في هذه المحكمة لائحة بالاتهامات عن كل مأساة فردية أو جماعية نتجت عن مسئولية بريطانيا السياسية والأخلاقية والقانونية في تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية .)
من مقال للسيد إبراهيم محمود علي \ دبي بجريدة الخليج 15\10\1995
( والتطور الصناعي سلاح ذو حدين ، فقد اخترع الغربيون مالا يحصى من المنتجات الصناعية لخير البشرية ورفاهيتها وفي الاتجاه المضاد اخترعوا أدوات التدمير والقنابل النووية والانشطارية والفوسفورية والفراغية والارتجاجية ، وقنابل النيوترون التي تقضي على الإنسان وتبقي على الأبنية مما يدل على أن الإنسان لا قيمة له في عرف حضارة الأسمنت والخرسانة .
وجين نضع الحضارة الغربية تحت المجهر وتتمعن فيها على الصعيد المادي والمعنوي نجد أن هذه الحضارة قد قدمت للإنسان الغربي كل احتياجاته المادية أما الجانب المعنوي فقد سقط سهوا أو اسقط عمدا والاعتبارات الأخلاقية لا محل لها من الإعراب(/3)
وحين يتحول المجتمع إلى غابة ويتحول أفراده إلى قطيع من اسماك القرش كل واحد ينشب أنيابه في لحم الآخر بأنانية مطلقة النظير ، ويصبح العالم حلبة سباق لا يعيش فيها إلا الأسرع والأقوى والأطول نفسا وتنقطع الصلات الإنسانية وتنفصم عرى كل الروابط ويزول التراحم والبر وصلة الرحم ويقطع الرجل ذوي رحمه ويعق أبويه ، ويتنازل عن كل القيم ويدوس على كل المثاليات والفضائل في سبيل مصالحه المادية يغدو الكون جحيما ، يستحيل الإنسان إلى وحش شعاره أنا ومن بعدي الطوفان
وفي هذا المجتمع العابث المنساق إلى حتفه يصل الإنسان إلى حافة اليأس ، وليس أدل على ذلك من الارتفاع المذهل في معدلات الجريمة والجنون والانتحار والإدمان ، ويذكر أن أعلى نسبة للانتحار في أوربا تقع في أكثرها ازدهارا كالدول الاسكندنافية ، وهذا المؤشر الخطير يكشف عن بداية وعي الإنسان الغربي بعبثية وجوده واستحالة تحقيق حياة هانئة للإنسان بالمعادلة المادية وحدها )(/4)
التكييف الفقهي لشركات التسويق الشبكي
(شركة جولد كويست وشركة بزناس)
إبراهيم أحمد الشيخ الضرير*
تقوم فكرة الشركات التي سوف نناقشها في هذه الورقة على مبدأ في التسويق التجاري يدعي التسويق الشبكي أو التسويق الطبقي Network Marketing.
ولقد ظهر مبدأ التسويق الشبكي في الولايات المتحدة ودول أوربا منذ خمسين عاماً, ويعتمد مبدأ التسويق الشبكي على إقامة علاقات مباشرة بين المصنع والمستهلك والاستغناء عن كافة الوكلاء والوسطاء وشركات الدعاية والإعلان.
واستخدام مبدأ التسويق الشبكي يجعل المنتج يصل إلى المستهلك مباشرة ويتم إلغاء جميع التحويلات التي يحصل عليها الوكلاء والوسطاء ومنصرفاتهم من إيجارات ومرتبات ودعاية وتسويق ويتم توزيع مجموع هذه العمولات بين المصنع وبين مجموع الزبائن في شكل عمولات.
يتم توزيع منتجات الشركة في مبدأ التسويق الشبكي بواسطة الزبائن المشترين حيث يقوم المشتري بعمل الدعاية الشفهية للشركة ومنتجاتها ويحصل على عمولة نظير تسويقه لمنتجات الشركة وفق شروط معينة تختلف من شركة على أخرى.
التكييف الفقهي لشركة جولدكوست العالمية المحدودة:
تأسست الشركة عام 1998م من رجال أعمال آسيويين بالاتحاد مع مجموعات استثمارية من المملكة المتحدة ودول اسكندنافية، مؤسس الشركة رجل اقتصادي فلندي تقلد عدة مناصب اقتصادية في المنظمات الدولية هو (أوليس جوهانا ماكيتا لو) ورأس مال الشركة عند التأسيس 2 مليون دولار أمريكي تخطت مبيعاتها حتى منتصف عام 2002م النصف بليون دولار.
المقر الرئيسي للشركة في هونغكونغ ومنها تدير أعمالها في أكثر من 100 دولة ينتشر فيها أكثر من 350 ألف عميل يستفيدون من برنامج العمولات.
النشاط الرئيسي للشركة:
ـ بيع العملات والميداليات والمجوهرات الذهبية التذكارية عن طريق البريد الإلكتروني وفق مفهوم التسويق الشبكي.
ـ تقوم الشركة بالتسويق للعديد من إصدارات البنوك المركزية ودور الصك الملكية الكندية وبعض البنوك المركزية الآسيوية والأوربية وبعض المصارف المركزية العربية مثل المغرب والصومال.
منتجات الشركة:
عبارة عن ميداليات ذهبية وساعات وقلادات تذكارية وجميعها مصنوعة من الذهب الخالص (عيار 24) بنسبة نقاء (99.9) وزن القطعة أونصة كاملة أي يعادل (31.1 جرام)، تقوم الشركة بإنتاج عدد محدود (10 ألف قطعة) من المنتج الواحد ليكتسب قيمة تاريخية بمرور الزمن، كل منتج تصاحبه شهادة معتمدة من بنك مركزي لأحد الدول وهو الضمان لنقاء الذهب ووزنه محدودية العدد المصدر منه؛ مما يدل على مدى انتشار الشركة في دول العالم بضمان ومباركة البنوك المركزية لعدة دول.
الخطة التي تتبعها الشركة في تسويق منتجاتها كما سبق هي مبدأ التسويق الشبكي بإغراء عملائها بالفوائد والعمولات الخيالية والكبيرة جداً والمتزايدة باستمرار، حيث تبدأ وفق نشاط العميل من 400 دولار لتصل لحد أقصى 48 ألف دولار في الشهر كحد أقصى وبصورة دورية غير متناهية ومن ثم فهو يورث.
لجولدكوست عدة شروط يجب تحققها للدخول في شبكة العملاء والاستفادة من برنامج الفوائد والعمولات غير المتناهية هي:
1. أن يكون عمر المشترك (18 سنة فما فوق) لضمان أهليته لممارسة العمل.
2. شراء منتج واحد على الأقل من منتجات الشركة.
3. الشراء عن طريق معرِّف أو مرجع باستخدام رقم حسابه TCO لدى الشركة (والمعرف هو زبون سابق لدى الشركة).
4. تعبئة استمارة الشراء وإرسالها بالبريد مع حوالة بريدية بقيمة المنتج الذي تم شراؤه. أو يمكن تعبئة الاستمارة وإكمال عملية الشراء من خلال مخزن الشركة الإلكتروني على الإنترنت بالبطاقة الائتمانية أو البطاقات المدفوعة القيمة سابقاً الخاصة بالشركة (E Card) (بمجرد أن يحقق المشترك الشروط السابقة, يدخل في نظام العمل ليبدأ تحقيق أرباحه المادية من خلال رقم الحساب TCO الذي يمنح له فور إتمام عملية الشراء).
رأس المال:
إن رأس المال في هذه العمل هو قيمة المنتج الذي يدفع مرة واحدة في العمر ولا توجد أي رسوم اشتراك أو تجديد في المستقبل.
إن معظم منتجات الشركة يبلغ (800دولار) للقطعة بالإضافة إلى (60 دولار) عبارة عن رسوم التوصيل, أي أن مجموع ثمن المنتج يساوي (860 دولار), ويمكن للمشترك أن يقوم بدفعه بطريقتين هما:
1. دفعة كاملة: 860 دولار وبالتالي يصله المنتج بواسطة الـfedex في خلال 4 إلى 5 أسابيع.
2. دفعة جزئية: أي أن يدفع المشترك (460دولار) فقط ولكن المنتج لن يصله حتى يقوم بسداد ال400 دولار المتبقية من جملة المبلغ أو تخصم من أول عمولة يستحقها من الشركة.
طريقة الكسب المادي:
أن نظام العمل في شركة جولدكويست إنترناشينونال هو نظام (ثنائي BINARY), أي أن كل شخص يشترك في هذا العمل يصبح له طرفان (أيمن وأيسر وأقل ما يمكن سيحضر شخصين وهكذا تبدأ الشبكة).(/1)
وهو نظام يمكن لأي شخص مشترك أن يحقق أرباح أكثر أو أسرع من الشخص المشترك في ذلك النظام قبله, ولكن في نظام العمل في شركة جولدكويست (الثنائي-AL-BINARY) يمكن تحقيق ذلك, وكل شخص يحقق أرباح بمقدار ما يبذل من جهد.
بمجرد أن يدخل المشترك في نظام العمل, يصبح له (TCO) أي (Tracking Center Owner) بمعنى أنه يصبح (مالك لمركز متابعة أو مركز عمل)، ومن خلال هذا المركز يبدأ بتحقيق أرباحه المادية.
المطلوب فعلياً من المشترك هو أن يقوم على الأقل بتعريف اثنين من أصدقائه ومعارفه على الشركة، ويوضح لهما مدى قوتها ومصداقيتها، ومميزات منتجاتها، وطريقة الاشتراك فيها، وكيفية الكسب المادي من خلالها، ثم أن يقوم هذان الشخصان بالاشتراك بالشركة، بعد تحقيق الشروط اللازمة للاشتراك بشراء منتج واحد على الأقل من منتجات الشركة، ومن ثم يضع المشترى الأول على يمينه والآخر على يساره فيصبح لكل منهما رقم T.C.O الخاص به بمجرد تعبئة استمارة الشراء.
يعتمد نظام العمولة في شركة جولدكويست إنترناشيونال على تساوي الطرفين (الأيمن والأيسر) لكل مشترك, وهو نظام مكون من 6 خطوات, أساس كل الخطوة من هذه الخطوات هو العدد (5).
بمجرد أن يكمل المشترك 5 مبيعات على يمينه مقابل 5 على يساره , يحصل على عمولة من الشركة مقدارها 400 دولار أمريكي.
وذلك موضح كما يلي:
أي أنه بعد ست 6 خطوات يصبح عدد المبيعات على طرف المشترك الأيمن يساوي 30 عملية بيع، وكذلك عدد المبيعات على طرف الأيسر يساوي 30 عملية بيع، ويكون مجموع العمولات التي حصل عليها من الشركة يساوي 2400 دولار. (هذا في حالة الدفع الكامل لقيمة العملة، أما إذا كان المشترك قد دفع نصف ثمن العملة عند اشتراكه فيكون مجموع ما وصله بعد الخصم الـ400 دولار الأولى 2000 دولار فقط).
وبذلك يكون المشترك قد أكمل ما يسمى الدورة بمفهوم الشركة.
الدورة هي عبارة عن مرحلة وهمية من صنع الشركة, ويقوم المشترك بإكمالها بمجرد أن يبلغ عدد المبيعات على طرفه الأيمن 30 مقابل 30 عملية بيع على طرفه الأيسر ومن ثم مضاعفاتهما أي أنك كل ما تنهي دورة تدخل تلقائياً بالدورة الجديدة من دون توقف.
1. ضمان استمرارية الشركة:
وذلك عن طريق تحديد سقف أعلى لدخل الفرد المشترك، وتقيد هذا الدخل بدورة واحدة يومياً، أي أن أقصى عمولة يمكن أن تدفعها الشركة للمشترك في اليوم الواحد هو عمولة دورة كاملة أي 2400 دولار يومياً.
فلو فرضنا أن المشترك قد كبرت شبكته، ودخل على طرفه الأيمن في يوم واحد 500 شخص مقابل 500 شخص على طرفه الأيسر، فإن مجموع ما يستحقه في ذلك اليوم من عمولة 40.000 دولار، فلو كانت الشركة ستدفع هذا المبلغ لشخص واحد في يوم واحد فإنه سيأتي عليها يوم تنهار وتعلن إفلاسها، ولذلك قامت الشركة بصنع الدورة، بحيث أنه إذا كان عدد الأشخاص المشتركين في يوم واحد أكثر من 30 شخص على اليمين مقابل 30 شخص على اليسار، أي 2400 دولار أمريكي يومياً ولكن الشخص لا يخسر قدرة عمل الأشخاص الذين لا يستلم عليهم عمولة.
2.زيادة مبيعات الشركة:
بحيث أنه عندما يستكمل المشترك الخطوة الأولى من كل دورة جديد، تقوم الشركة بإعطائه قسيمة مشتريات بقيمة 400 دولار لكي يشتري بها من منتجات الشركة بدلاً من أن تعطيه 400 دولار نقداً، وهكذا تكون الشركة قد زادت مبيعاتها.
أي إن الشخص يستلم عن كل دورة 2000 دولار نقداً وقسيمة شرائية تعادل 20 نقطة تمكن المستفيد من استبدالها بإحدى منتجات الشركات الأخرى المخصصة للبيع.
إن نظام العمل في الشركة يصبح أسرع، وتصبح الأرباح أكثر بمرور الوقت، فلو افترضنا أن شخصاً اشترك الآن واستغرق ثلاثة أشهر حتى أكمل الدورة الأولى، فمن البديهي أن الدورة الثانية ستستغرق وقت أقل من ثلاثة أشهر، حيث أنه في الدورة الأولى كان يعمل بمفرده، أما الآن فإن 30 شخصاً على طرفه الأيمن و30 شخصاً على طرفه الأيسر يعملون معه، وبالتالي فإن الدورة الثالثة ستستغرق وقت أقل نتيجة زيادة عدد الأشخاص الذين يعملون في الشبكة.
وهكذا حتى يصبح قادراً على أن يكمل دورة يومياً، أي يحقق 2400 دولار يومياً.
أي أنه كلما زاد عدد الأشخاص الموجودين في الشبكة تزداد قدرة عمل الشبكة فيتناقض الوقت وتزداد الأرباح.
والشكل التالي يوضح ذلك:
كما توجد طريقة لمضاعفة العمولات بالاشتراك الشخص الواحد بثلاثة مراكز بشراء ثلاثة منتجات وبذلك تضاعف عمولاته وفق ما هو مبين في نشرة الشركة.
تعطي الشركة العميل الذي يفشل في إنماء شبكته أربعة حلول:
1. يحق للمشترك أن يلغي اشتراكه خلال ستة شهور من اشتراكه في حالة اختياره للدفع الجزئي ويحصل على نصف أونصة من الذهب مقابل نقوده المدفوعة وهي 400 دولار تصله خلال 12 شهر.
2. بدون تحديد الفترة الزمنية يحق للمشترك إكمال المبلغ المتبقي عليه في أي وقت ويحصل على الأونصة كاملة.
3. يحق للمشترك في أي وقت أن يبيع مركز عمله لأي شخص يريد.(/2)
4. يحق للمشترك مدى الحياة أن يبدأ العمل في أي وقت فينشط مركزه وبالتالي يحصل على الذهب وعلى العمولة وأن يحقق الأرباح.
النتائج المترتبة على شروط الشركة:
يتضح من السرد السابق أن لجولدكويست شروطاً للدخول في البرنامج حوافز الشركة تترتب عليها عدة نتائج هي:
1. شراء المنتج شرط في الدخول في البرنامج عمولات التسويق.
وهذا يعني أن الذي يتولى الدعاية والتسويق لمنتجات الشركة مهما أفلح في تسويق المنتجات فإنه لا يستحق أي عمولة ولو كان المشترين عن طريقه مئات ما لم يشتر المنتج.
2. لا يمكن للفرد أن يسجل تحته مباشرة أكثر من اثنين. وكل جهد إضافي يسجله تحت آخر مشترك في الشبكة.
وهذا يعني أن هنالك أفراداً بالشبكة يستفيدون من جهد الذين تحتهم ويتقاضون عمولات عن سلع لم يكن لهم جهد في تسويقها.
3. هنالك عدة شروط قصد منها الحد من نمو دخل العميل وحرمانه من ثمرة جهده تتمثل في الآتي:
أ. اشتراط تسويق عدد معين من المنتجات (عشرة) وتسمى هذه خطوة والدفع يتم عن الخطوة وليس عن عدد المنتجات المسوقة فإن سوق أي قدر من المنتجات يقل عن خطوة فلا يستحق عليه الموزع شيئاً. وهذا يعني أن الشركة يمكن من الناحية العلمية الاستفادة من جهد المشتركين في توزيع منتجاتها دون أن تدفع شيئاً لهم.
ب. وضع سقف أعلى لنمو دخل العميل وحددته الشركة بدورة واحدة في اليوم (60 مشتركاً جديداً) وهذا يعني أن العميل لا يستحق عمولة على أكثر من 60 عميلاً في اليوم ولو تجاوز عدد الداخلين المئات مع استفادة الشركة من مشترياتهم.
4. كما أن النمو غير المتوازن للشبكة يحرم العميل من الاستفادة من العمولات مع تحقيقه للشركة سلسلة من المبيعات، فلو فرضنا أن شبكة عميل حققت نمواً في الجانب الأيمن بلغ المئات ولم تحقق أي نمو في الجانب الأيسر فإن هذا العميل لا يستحق أي عمولة مع استفادة الشركة من هذا في تسويق منتجاتها ونمو دخلها.
ومن ثم يتضح أن هنالك صوراً في هذه المعاملة يمكن للعميل أن يبذل جهداً تستفيد منه الشركة في تسويق منتجاتها وتعظيم دخلها دون أن تدفع أي عمولة مقابل ذلك.
مقصد الشركة من هذا النظام:
يتضح مما سبق أن مقصد الشركة من نظامها بناء شبكة من الأفراد في شكل متوالية هندسية أساسها اثنان تتسع قاعدتها في شكل هرمي، صاحب الحظ فيه هو السابق في البناء الهرمي بثلاث درجات، تدفع فيه قاعدة الهرم مجموع عمولات الذين فوقهم مضافاً إليه ربح الشركة.
إن بناء هذه الشبكة بهذه الكيفية وما يتولد منه من دخل هو القصد والهدف وليس التسويق منتج بعينه وهذا واضح فلو كان المقصد هو تسويق لمنتجات الشركة دون اشتراط شراء المنتج ولكان المنطق يقتضي أيضاً أن يكافأ المسوق المباشر الذي أحضر المشتري دون أن يشاركه غيره في ذلك.
فإذا اتضح أن النظام الشركة يحرم المسوق غير المشترك ويحفز المشترك غير المسوق علمنا يقيناً أن بناء نظام الحوافز الهرمي هو المقصد الحقيقي للشركة وليس المنتج. إن المنتج في هذه العملية ليس سوى طعم ضروري لأحداث قدر من الثقة والاطمئنان في نفوس المشتركين ومن ثم فقد أحاطت الشركة منتجاتها الذهبية بشهادة ضمان صادرة من بنوك مركزية بدول معتبرة لتدلل على جودة وقيمة المنتج لتورث الثقة في نفوس المتعاملين ولإعطاء ضمان للمشترك في حالة فشله في بناء شبكته، كما تقول دعاية الشركة (لو لم ينجح مركز عملك في تحقيق أرباح فإنك لن تخسر رأس مالك لأنك في الأصل قمت بعملية شراء ومقابل نقود حصلت على منتج من الذهب قيمته تزداد بمرور الوقت لأنه ليس ذهباً عادياً بل عملة تذكارية).
إن الشركة تعلم أن الدافع من شراء المنتج ليس شراء عملة تذكارية ولكنه الطمع في نمو شبكة العملاء و تدفق العمولات وأن المنتج ليس سوى باعث للثقة والاطمئنان خاصة في بداية العمل وقبل أن تحوذ الشركة على ثقة الناس.
بقي أن نسأل عن قصد المشتركين والغاية من شرائهم المنتج.
لقد سألت أكثر من مشترك وراغب في الاشتراك هذا السؤال: لو أن شركة أخرى تسوق منتجات بنفس المواصفات وبسعر أقل من سعر الشركة دون أن ننتهج هذا الأسلوب أي لا يتولد لك تيار من الدخل المتدفق عبر الزمان أكنت مفضلاً هذا المنتج الرخيص على منتج الشركة؟
لقد كانت الإجابات الصادقة بالنفي وهذا أمر بدهي مدرك لكل ذي عقل.
إن الإقبال الكبير على هذه المنتجات ليس لذاتها ولكن لما يتولد من شرائها من دخل ومن ثم يتضح أن منتجات الشركة ليست هي المقصود من وراءه بل العمولة المتدفقة في شكل تيار من الدخل لا ينتهي هي مقصد كل مشترك ولو كان الواسطة في ذلك قصاصة ورق تثبت لصاحبها حقه ومركزه في الشبكة.
فلو توقفت هذه العملية لأي سبب لعض المشتركون خاصة الجدد منهم أصابع الندم والحسرة على أحلامهم التي لم تتحقق بينما ملء أيديهم ذهب حقيقي ونقي بنسبة 99%.(/3)
فلو تصورنا بنكاً مركزيا لدولة ما (لما يجده من القبول) أصدر شهادات اشتراك في شبكة كهذه تدر دخلاً متدفقاً مثله، يحفز فيه السابق مما يدفعه اللاحق دون أن تتوسط سلعة للقي قبولاً ولتكالب الناس طمعاً فيما يتولد عنه من دخل.
التكييف الفقهي:
فإذا توصلنا لهذا فإن المنتج أياً كان يسقط عند النظر في التكيف الفقهي لهذه النازلة فالحكم يبنى على المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني إذ الأمور بمقاصدها في الشرع الحنيف.
وبتجريد التسويق الشبكي من كل منتج تلبّس به يبدو عارياً، ويغدو الأمر ليس سوى تجميع اشتراكات من أفراد تديره الشركة يدفع فيه الشخص في أسفل الهرم لمن سبقه في أعلى الهرم بالإضافة لعمولة الشركة نظير إدارتها لهذا العمل.
ومن ثم يتضح جوهر هذه العملية في كونها حلقات مقامرة، مال المقامرة فيه مضمن في سلعة ومدسوس في ثمنها (مال المقامرة في جولدكويست هو الفرق بين ثمن المثل للمنتج وثمنه في الشركة).
حلبات المقامرة في جولدكويست متداخلة في حلقات قمار غير منتهية. الرابح فيها هو السابق في الشبكة يتدفق إليه تيار من الدخل يبدو غير منتاهي بقدر اتساع شبكته من الأفراد المغرر بهم. الخاسر فيها القاعدة المتلهية بالأمل في الصعود ونمو شبكتها بالمزيد من المغرر بهم ممن يحدوهم الأمل في الكسب الرخيص دون عمل منتج فهي في جوهرها تتفق مع لعبة (البنتاجونو) مع الاختلاف في الحافز، ففي البنتاجونو يحقق قمة الهرم كسبه غير المشروع مرة واحدة ويخرج بذلك من اللعبة ليحل محله ثلاثة غيره مشكلاً كلاً منهم هرماً منفصلاً وهكذا تتوالى. فحلقات القمار في البنتاجونو تتفكك من أعلى وتتسع من أسفل في شكل هرمي تتفرع منه كل ما اتسع عدة أهرامات وهكذا في صورة غير متناهية.
أما الجولدكويست فالهرم فيها واحد يقبل الزيادة والأتساع في قاعدته دون أن يفقد صاحب القمة مركزه ودخله ومن ثم فإن دخله ينمو ما بقيت اللعبة مستمرة فإذا توقفت خسرت القاعدة وغنمت القمة وهذا هو معنى القمار.
- فضلاً عن ذلك فإن نظام الشركة يشتمل على عدة مخالفات شرعية أخرى (على فرض أن السلعة مقصودة ) تتمثل في الأتي:
1. يشمل عقد الشركة على عقدين في عقد فالشركة تشترط لدخول الشخص في الشبكة ونظام التسويق شراء المنتج هو شرط في ذلك (في بعض الصور يجوز الدخول في شبكة التسويق دون الشراء العاجل للمنتج ولكنه لا يعتمد العميل في هذه الحالة بصورة رسمية ببرنامج الحوافز إلا بعد شرائه المنتج أي أن البيع يتم بثمن مؤجل).
فيكون العقد الأول هو عقد التسويق الموجب للعمولة والعقد الثاني هو بيع المنتج عاجلاً كان بثمن معجل أو مؤجل ومن ثم يطاله الخلاف الفقهي في الحكم البيعتين في بيعة.
2. نظام الشركة وشروطها يجعلانها تحقق مكسباً من عمل الكثيرين من العملاء دون إن تدفع لهم شيئاً نظير وهذا واضح في عدة صور سبق بيانها وهذا ظلم لا يجوز حيث استفادت الشركة من جهدهم في تسويق منتجاتها، والعدل يقتضي أن تدفع لهم مقابل ذلك وهذه مخالفة تؤخذ على العقد سواء كيّف على كونه إجارة أو جعالة. أما كونه إجارة (وهو الأقرب) فالأمر واضح فالأجير له حظ في أي جهد بذلة حقق نفعاً للمؤجر وفق عقد الإجارة فيكون لهم عمولة على أي منتج سوّقوه.
وإن قلنا إنه جعالة فإنه يشترط في الجعالة عدم استفادة الجاعل من جزء عمل العامل ومع هذا فقد أوجب جمهور العلماء حقاً للعامل في الجعالة إن انتفع بجزء عمله صاحب الجعالة. قال أصبغ: سؤال ابن القاسم عمن قال من يحفر لي بئراً طولها كذا وكذا وعرضها كذا وكذا فحفر رجل نصف ذلك, ثم يعتل. قال: "لا أرى له حقاً إلا أن ينتفع بها صاحبها".
قال محمد بن رشد في هذه المسألة: "يكون للمجعول له فيما حفر من البئر إذا انتفع بذلك صاحبها قدر ما عمل مما انتفع به"[البيان والتحصيل ج8 ص 511].
وعند الشافعية "لو قال العاقد: من رد جمليَّ المفقودين فله دينار ورد العامل واحداً من الجملين استحق نصف دينار لأنه أنجز نصف العمل المراد" [المهذب ج1 ص 412، مغني المحتاج ج2 ص 432].
وجاء في الإنصاف في فقه الحنابلة: "أو قال من رد عبديَّ فرد أحدهما فله نصف الجعل" [الإنصاف ج6 باب الجعالة مسألة 389 (جامع الفقه)].
ومن ثم فإنه (على فرض صحة المعاملة في أساسها) يجب أن يكافأ كل متسوق على قدر جهده أي أن تدفع الشركة عن كل منتج يسوّق أربعين دولاراً (عمولة الشركة عن كل عشرة 400 دولار) دون أن تضع حداً أدنى لاستحقاق الجعل أو حداً أعلى يسقط بعده حق العامل في العمولة.
3. في بعض صور هذه المعاملة يتم بيع المنتج الذهبي بتقسيط الثمن مما يدخل المعاملة في ربا النَّساء المنهي عنه.
4. وفي بعض صورها أيضاً يجوز الاشتراك والتعاقد مع الشركة دون دفع ثمن المنتج وحينئذ لا يسلم المنتج وغياب البديلين يدخل المعاملة في بعض صور الدَين بالدَين. فالأمر لا يخرج عن كونه وعد والوعد في الصرف لا ينشئ التزاماً ولا يشغل ذمة.(/4)
5. تجعل الشركة للمشتركين خيار فسخ العقد خلال ستة أشهر من الشراء على ألا ترد لهم الثمن إلا بعد عام وهو ما لا يجوز في البيع الأموال الربوية. ولو خرج على أنه لإقالة واستئناف عقد جديد فإن شرط الشركة في رد ثمن المنتج بعد عام يرد المسألة إلى ربا النَّساء.
فهذه المعاملة بشروطها المعلومة ظلمات بعضها فوق بعض فهي قمار في أصلها وربا نساء في بعض صورها وأكل لأموال الناس بالباطل ومن ثم فهي باطلة ويجب على الذين اشتركوا فيها أن يتخلصوا من كل دخل حصلوا عليه منها وصرفه في أوجه البر كأي كسب خبيث لا يجوز لصاحبه الانتفاع به ولا يترك ما يرد إليه مستقبلاً من الشركة للشركة لتتتفع به قياساً على الفتوى في شأن الفوائد الربوية.
التكييف الفقهي لشركة بزناس:
أسس الشركة كل من السيد/علي الشرجي عماني الجنسية والسيد/عمران خان باكستاني, وكلاهما صاحب خبرة في التسويق الشبكي.
بدأت الشركة عملها في أكتوبر 2001
مقر الشركة الأم بسلطنة عمان
تدار عملياتها بواسطة فريق مختص بباكستان حيث توجد أجهزة الحاسب الرئيسية للاستفادة من الخبرة الباكستانية ورخص الأيدي العاملة.
يقدر عدد المشتركين بها أكثر من 110.000 مشتركاً موزعين على 50 دولة حتى الآن.
المنتج الرئيسي للشركة عبارة عن حزمة من المبيعات التجارية الخاصة بالحاسب تتكون من:
- خمسة مواقع على الإنترنت بمساحة 10 ميغابايت(المجموع 50 ميغابايت).
- مناهج تعليمية للكمبيوتر والإنترنت.
- بريد إلكتروني بمساحة 25 ميغابايت.
- بطاقة الخصومات والمزايا.
يستفيد المشترك من كل المزايا الخمسة المذكورة مقابل 99 دولاراً أمريكياً ما يعادل 27000 ديناراً سودانياً.
بالإضافة للدخل في برنامج الفوائد وهو عبارة عن ثلاثة مكافآت تتمثل في الأتي:
1. فوائد الخطة الثنائية وهي الخطة الرئيسية.
2. خطة الدخل من الحوافز.
3. خطة الدخل من يونيلفل uni-level.
1. الخطة الثنائية:
وللدخول في شبكة الشركة والاستفادة من فوائدها الرئيسية المسماة في مصطلح الشركة بالخطة الثنائية لابد من توافر عدة شروط:
1. امتلاك مركز عمل.
2. التسويق لاثنين من الزبائن الجدد أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار.
3. تسويق 9 مبيعات وتعتبر هذه في عرف الشركة(خطوة) step وتعطي الشركة عن كل خطوة
(9 مبيعات) مبلغ 55 دولاراً تقريباً. الشرط الأساسي لاستحقاق الحافز عن كل 9 مبيعات أن تكون على الأقل ثلاث من هذه المبيعات من أحد الجهات اليمنى أو اليسرى وبصورة أخرى لابد من تحقيق ثلاثة مبيعات من جهة وستة من جهة أخرى أو أربعة من جهة وخمسة من الجهة الأخرى, فلو كانت التسعة مبيعات من جهة واحدة فإن المشترك لا يستحق شيئاً فالنمو غير متوازن للشبكة يقف
المشترك حقه في الحافز ولو بلغ عدد المشتركون تحته بالمئات.
4. يمكن للمشترك أن يشكل عدداً لا نهائياً من الخطوات وفي أي مدى زمني أسبوعي أو يومي أو على مدار الساعة ويستحق على كل خطوة 55 دولاراً.
فإن افترضنا أن شبكة المشترك تمت بصورة مثالية أي أنه بعد أن سوق لاثنين واحد عن اليمين و آخر عن اليسار ثم قام كل واحد من المشترين الجدد بالتسويق لاثنين آخرين وبنفس الطريقة فإن الشبكة سوف تنمو في شكل متوالية هندسية أساسها اثنين ومن ثم يحقق المشترك الأول التالي:
... مبيعات جديدة ... مجموع المبيعات ... الدخل بالدولار
1 ... 2 ... 2 ... 0
2 ... 4 ... 6 ... 0
3 ... 8 ... 14 ... 55
4 ... 16 ... 30 ... 110
5 ... 32 ... 62 ... 165
6 ... 64 ... 162 ... 440
7 ... 128 ... 254 ... 770
8 ... 256 ... 510 ... 1540
9 ... 512 ... 1022 ... 3135
10 ... 1024 ... 2046 ... 6215
11 ... 2048 ... 4094 ... 12485
12 ... 4096 ... 8190 ... 25080
مجموع المقبوضات ... 49,995
2. خطة الحوافز:
أما خطة الحوافز فهي إعطاء حافز مقداره خمسة دولارات عن كل مشترك جديدي يدخل الشبكة عن طريقك مباشرة بعد أول مشتركين مباشرين.
ولا يوجد حد أقصى لعدد الأشخاص الذين يمكن إدخالهم مباشرة مع الأخذ في الاعتبار في أن هؤلاء الزبائن الجدد سوف يحلون في أسفل الشبكة وتحت آخر مشترك فيها على أن يكون موقعه في أقصى يمين الشبكة أو أقصى يسار الشبكة.
في هذه الحالة يستفيد جميع المشتركين الأعلى من المشترك الجديد بدخوله في خططهم الثنائية (الخطة الرئيسية) ويحق لهم الاستفادة من مزاياها وتقاضي عمولة عنه.
3. خطة الدخل من (يونيلفل) uni-level:
- يسجل في هذه الخطة كافة الزبائن الذين اشتروا منتج الشركة( المجموعة التجارية) تلقائياً.
- الأشخاص الذين قامت الشركة بإشراكهم بطريقة مباشرة يعتبرون مستوى أول و الأشخاص الذين يشترون من المستوى الأول يعتبرون مستوى ثان لك وهكذا إلى عشرة مستويات بحد أقصى.
- يعطي المشترك دولاراً واحداً عن كل زبون في هذه الخطة بحد أقصى عشرة مستويات عن كل زبون مباشر.(/5)
- لما كان عدد الزبائن المباشرين متوقفا ًعلى النشاط المشترك فإن الخطة (يونيلفل) تمتد بامتداد زبائنك المباشرين بواقع عشرة مستويات لكل مشترك مباشر.
يتضح من السرد السابق أن كلا من بزناس و جولدكوست يشتركان في جوهر الفكرة مع بض الاختلافات غير الجوهرية في طريقة الحوافز ومقدارها وشرط توازن الشبكة المفضي لاستحقاق الحافز فبينما تشرط جولدكوست التوازن التام المتمثل في خمسة من كل جهة فإن التوازن في بزناس يتم ب3و6 من كل جانب أو 5 و4 من كل جانب مع اختلاف كل من المشتركين في نوع المنتج التجاري ومن أوجه الاختلاف غير المؤثرة في الحكم بين الشركتين الآتي:
1. أن بزناس لديها برنامج حوافز مواز لبرنامج الدخل الرئيسي حيث تعطي كل مروج لمنتجاتها 5دولارات عن كل منتج يسوقه مباشرة ولا علاقة له بالبرنامج الرئيسي ويطلق عليه في عرف الشركة بخطة الحوافز وهو عقد جعالة لا غبار عليه حيث ألزمت الشركة نفسها 5 دولارات لكل شخص يسوق لها منتجاً.
2. يتم الاشتراك في جولدكويست مرة واحدة, أما نظام بزناس فيطالب المشترك بتجديد اشتراكه سنوياً وإلا فقد مركزه.
3. في جولدكويست شراء المنتج شرط أساسي للدخول في الشبكة مما أدخل المعاملة في حكم البيعتين في بيعة وشركة بزناس لا تشترط هذا الشرط.
4. تتفق الشركتان في أن دخل العميل لو ترك ينمو دون ضابط لأدى إلى إفلاسهما ومن ثم وضعت كل شركة في نظامها كابح حول دون نمو دخل العميل بصورة غير متناهية و مع اتفاق الشركتين في المبدأ إلا أنهما اختلفتا في الكيفية التي يكبح بها نمو دخل العميل, فبينما تجعل جولدكويست حداً زمانياً و سقفاًَ أعلى للدخل يتمثل في دورة واحدة في اليوم و هو ما يعادل 2400 دولار في خمسة أيام في الأسبوع فقط أي أن دخل العميل المشترك بمركز واحد لا يتجاوز 48000 دولار في الشهر, أما بزناس فإن الكابح يتمثل في إدخال المشتركين الذين تجاوزت خطواتهم ال20 خطوة في الشهر في سلة واحدة يتقاسمون فيما بينهم (وفق خطواتهم المتكونة) الدخل المستقطع من القاعدة للخطة الرئيسية(55دولاراً) غنماً وغرماً فإذا زادت عدد الخطوات المتشكلة قل الدخل, وإذا قلت زاد الدخل.
ومن ثم يتضح أن بزناس تتفق مع جولدكويست في جوهر المعاملة مع الاختلاف في بعض الشروط وأيضاً في بعض الحوافز غير المؤثرة في جوهر المعاملة.
أوجه الاتفاق:
1. نظام البناء الشبكي ففي كل من الشركتين يبنى على أساس متوالية هندسية أساسها اثنان لا يجوز لأي مشترك أن يسجل تحته مباشرة أكثر من اثنين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.
2. نظام الحوافز المتنامي والمتسع مع اتساع الشبكة يدفع فيه الذين في أسفل الشبكة لمن هو في أعلاها, الرابح فيه السابق والخاسر فيه اللاحق. تقول دعاية شركة بزناس( سوف تخسر الكثير إذا تأخر انضمامك إلينا بيوم واحد ...كلما انتظرت أكثر كلما خسرت أكثر ... ابدأ الآن....)
3. لا من النظامين يحفز المشترك غير المسبوق .
4. المقصد والهدف هو بناء نظام حوافز شبكي هرمي وليس تسويق المنتج.
5. مقصد وأهداف المشتركين في كلّ من الشركتين هو الدخل المتولد من الاشتراك في المرتبة الأولى وليس المنتج.
هذه النقطة والتي قبلها في حاجة إيضاح. فمن المعلوم أن شركات إنتاج البرامج الكمبيوتر (وحفظاً لحقها كمنتج) تضع حماية خاصة على برامجها تحول دون نسخها أما بزناس فد تركت برامجها التعليمية مع قيمتها العالية فقد تركتها كلأ مباحاً لكل راغب وإن لم يشترك.
ولم تحفظ حقها إلا مقابل استغلالها من قبل شركات أخرى إما للاستفادة الشخصية فالأمر مفتوح دون أن يدفع المستفيد شيئاً وما ذلك إلا لعلم الشركة أن هدف المشتركين هو تيار الدخل في المقام الأول ولهذا لم يؤثر ترك المنتج مباحاً في سلوك المستهلكين وتكالبهم على شرائه, ومن ثم يتضح سلوك المشتركين وهدفهم من الاشتراك, فالمنتج بين أيديهم ويمكن الاستفادة منه دون قيد شروط ودون مقابل مادي فما الدافع إذا لشرائه وبذل الثمن في سلعة تكلفة استعمالها تعادل صفراً إلا إذا كانت هنالك غاية أخرى وفرصة أعظم سوف يضحي بها عند عدم الاشتراك وهي واضحة وتتمثل في فقد تيار الدخل المتدفق وهو لاشك يدخل في تقييم الفرصة البديلة وهو المبرر الأساسي لشراء المنتج.
ولا يقال أن المنتجات الأخرى من موقع على الإنترنت أو البريد الإلكتروني وهو الذي يشكل سلوك المشتركين فيؤثر في اختيارهم إذ الحاجة لهذه المواقع تكاد تكون منعدمة لمعظم المشتركين أما البريد الإلكتروني فخدمته موجودة على الإنترنت مجاناً ودون مقابل فإذا انعدمت الحاجة للمواقع لدى جمهور المشتركين مع وجود باقي الخدمات مجاناً لم يبق إلا ما قدمناه هدفاً لاشتراكهم وهو الطمع في تيار دخل متنامي.
ومن ثم يسقط المنتج عند النظر في التكييف الفقهي لشركة بزناس كما سقط في تقييم شركة جولدكويست ليبدو الحكم واحداً وهو حلقات قمار متداخلة الرابح فيه السابق في الهرم والخاسر فيه اللاحق في أسفله.(/6)
ومال المقامرة في بزناس أكثر وضوحاً حيث حددت بـ55 دولاراً مضاف إليه صافي عمولة الشركة 24 دولاراً مخصوماً منها التكاليف الحقيقية للمنتجات.
وعليه يمكن لأي شركة إذا حازت على ثقة الناس أن تدير شبكة كهذه وبنفس الشروط وضوابط الاشتراك في بزناس دون أن توسط منتجاً تصدر فقط شهادات تثبت للمشترك حقه ومركزه. ويحقق المشتركون فيها نفس الدخل وتحقق إدارة الشركة نفس الأرباح.
فالمنتجات في التسويق الشبكي أيا كانت ليست سوى طعم دس فيه مال المقامرة ليحقق للشركات المعينة عدة أهداف منها:
1. إعطاء واجهة سلعية مقبولة ليبني عليها الترخيص القانوني لمزاولة النشاط في الدولة المعينة.
2. مراعاة الحالة النفسية للمشتركين وإيهامهم بأنهم يزاولون عملاً منتجاً ومفيداً.
3. إعطاء ضمان للمشتركين في حالة فشلهم في بناء الشركة وهو أمر ضروري في لأحداث قدر من الثقة والاطمئنان لدى جمهور الراغبين في التعامل مع الشركة خاصة عند بداية العمل وقبل أن يحقق أي من المشتركين السابقين مكسباً ليمثل سابقة مقنعة ومثلاً يضرب للراغبين في الاشتراك.
فالحكم على بزناس كالحكم على جولدكويست وعلى كل سلعة سوقت بهذه الطريقة ولا يشفع لشركة بزناس عظم منتجاتها وفائدتها للفرد والأمة فالغايات لا تبرر الوسائل, وتحريم القمار بالمال مما لا يقبل الإستثناء بحال ونفع المنتج مهدر بنص القرآن قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) [سورة البقرة: 219 ].
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
* مركز الكلم الطيب للبحوث والدراسات(/7)
التلاحم بين المؤمنين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فنحن اليوم مع حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعدُّ من جوامع الكلم , وهو ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا , وشبك بين أصابعه"(1)
ففي هذا الحديث يشبِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجب أن يكون عليه المسلمون من تفاهم وتلاحم بالبيت الذي تم بناؤه بإحكام وعناية .
فحينما يمر الإنسان على قصر شاهق جميل فإنه يقف أمامه وقفة المتأمل ويثني على من شيده .
وحينما يفكر في المواد الأولية التي شُيِّد منها ذلك القصر يجد أنها لبناتٌ وحديد ومواد أخرى لاتلفت الانتباه , بل تبقى ملقاة على الأرض لايستفاد من كل مادة منها إلا إذا رُكِّبت مع المواد الأخرى لتشكِّل في المستقبل بناء محكما .
وهكذا نجد المجتمع الإسلامي فهو جسم عظيم هائل , وبناء قوي محكم , حينما يكون أفراده على قلب رجل واحد , وحينما يكون هدفهم جميعا نصرة الإسلام وإحكامَ بناء المجتمع الإسلامي.
فحينما يتخذ المسلم الإسلام مبدأ له في الحياة فإنه يتحمس لاتِّباعه ويدافع عنه ويحاول فهم نصوصه ليبينها للناس , ويبذل جهده في كسب أكبر عدد من المؤمنين به , وحينما يفعل ذلك يكون لبنة قوية صالحة تتخذ مكانها اللائق في بناء الجماعة الإسلامية .
ولكنه حينما يكتفي بالانتساب إلى الإسلام , وأداء بعض الشعائر بشكل معتاد رتيب يخلو من حرارة الإيمان ومن حضور القلب أو يَضعُفُ ذلك عنده بحيث لايؤثر على سلوكه .. وحينما يدخل في غمار الحياة وهو يشعر بأنه يتصرف في أعماله اليومية , ويتقلب في مصالح الحياة بوحي من عقله المجرد وهوى نفسه الذي يتذوق الأشياء ثم يختار منها مايناسب هواه, وإن كان في ذلك هلاكه البطئ وهلاك أمته .
وحينما يقف من أعداء الإسلام الذين يتهجمون عليه ويحاولون إضعاف ثقة المسلمين به موقف المتفرج الذي يُظهر عدم المبالاة , أو يتوارى عن الأنظار حتى لايُطلب منه أن يقوم بعمل جاد تجاه دينه الذي أظهر الإيمان به .
وحينما يقف من إخوانه المسلمين الذين يُقتَّلون ويعذبون وتنتهك حرماتهم موقفا سلبيا ناتجا عن أنه كان خالي الذهن من الموضوع وكأن أوضاع المسلمين لاتهمه بقليل ولابكثير , أو ناتجا عن عدم المبالاة بما يجري على إخوانه من حوله , وكأنه مسؤول عن نفسه ولْيفعل الأعداء بالمسلمين ما شاؤوا ما دام أن نار المعركة لم تصل إلى بيته ولم تهدد شيئا من مصالحه الخاصة .
حينما يسلك المسلم هذا السلوك المنحرف ويفكرُ بهذا التفكير السلبي القاصر فإنه لايُعدُّ في نظر الإسلام لبنة صالحة في قيام بنائه العظيم المتكامل وإن أظهر الانتساب إليه ودافع عن حقيقة انتمائه إلى مجتمعه الفاضل .
وحينما تتحطم الجماعة الإسلامية أو يضعفُ لدى المسلم شعوره بالانتماء لهذه الجماعة فإن أفراد المسلمين لن يَعملوا شيئا يذكر في سبيل قيام المجتمع الإسلامي وإن كان هؤلاء الأفراد يؤمنون إيمانا صادقا بهذا الدين .
إن إيمانهم الصادق بهذا الدين من غير أن يجتمعوا على كلمة الحق لايعدو مرحلة الصلاح الفردي, فهو يشبه اللبنات الصالحة للبناء , ولكن ماقيمة اللبنات إذا كانت ملقاة على الأرض , فهي لاتُظل من الشمس ولاتقي من البرد والحر , وإن كانت صالحة للبناء ؟ ولكنه بالتفكير المبدع من المتخصصين بالبناء تنضمُّ هذه اللبناتُ ليشكِّل منها البنَّاء البارع قصرا منيفا يُدهش الناظر ويعجب المتأمل .
وكذلك أفراد المجتمع حينما يكونون يدا واحدة في السراء والضراء , يحملون في أفكارهم الاهتمام الكبير في بناء المجتمع الصالح الذي ينضمُّ فيه الأفراد ويُسهمون في بنائه إسهاما فعالا.
ولابُدَّ لاجتماع الأبدان من أن تجتمع القلوب قبل ذلك , ولا تلتقي القلوب إلا بتخليصها من الغل والحقد , وأن يحب المسلم الخير لإخوانه المسلمين , وأن يكره لهم الوقوع في الشر , كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه " .
وإن من أسباب الْتقاء القلوب أن يعامل المسلم إخوانه المسلمين بالإحسان , وأن لايقابل إساءتهم إليه بإساءة مثلها , بل ينبغي له أن يتجاوز عن الذين يخطئون عليه , وذلك لإشاعة المودة والإيثار بين المسلمين .
وحينما يقيم البنَّاء بناءه على أسس غير سليمة , ويضعُ المواد اللازمة للبناء في غير مواضعها فإن البناء سرعان ماينهار أو يضعف قوامه , وكذلك حينما يتم بناء المجتمع على غير الأسس الإسلامية , أو يكلَّفُ أفراده بغير المهام التي تناسب كفاءاتهم فإن المجتمع ينهار أخلاقيا أو يضعفُ كيانه .(/1)
إن المسلمين حينما يجتمعون على رأي واحد , ويرجعون عند الاختلاف إلى مفاهيم واضحة يحتكمون فيها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم بذلك يكوِّنون مجتمعا قويا متماسكا , لاتستطيع معاول الهدم أن تحطم كيانه , ولا أن تفرق بين أفراده , كالبناء القوي المحكم الذي يصعب هدمه , ويتعرض من يحاول هدمه لاستنكار الرأي العام وتوهين رأيه وتفكيره , ولكنَّ تحطيم لبنات ملقاة على الأرض أو التفريقَ بينها أمر سهل ولايثير الانتباه ولاسخط الرأي العام.
وهكذا رأينا أعداء الإسلام يوم تفرقت الأمة الإسلامية إلى دويلات متفرقة ومجتمعات صغيرة لم يجدوا صعوبة تُذكر في الاستيلاء على أراضيها ومحاولة نزع ثقة بعض أفرادها بدينهم وماضيهم المجيد .
______________
(1) صحيح البخاري رقم 6026 , صحيح مسلم رقم 2585(/2)
التلاعب ... السلام
يتناول الدرس قضية التلاعب بمصير الأمة، من خلال نموذج تاريخي فيه الكثير من العبر التي تحتاجها الأمة في واقعها المعاصر وعرض لبعض تلاعبات علماء السوء بمصير الأمة، ثم تحدث عن السلام المزعوم التي تضلل به الأمة، ثم ذكر أنه ضاع في تيه هذه المغالطات كثير من الناس، ثم عرض أسئلة مهمة يتساءل عنها أعداد من المسلمين الحريصين على عقيدتهم .
التلاعب بمصير الأمة : عندما انتقل يوسف بن تاشفين من المغرب إلى الأندلس عام 479هـ يريد دعم إماراتها ضد الطاغية الإسباني الذي استبد بالأمر؛ فقد خاف يوسف على ضياع الأندلس من أيدي المسلمين، وصعب عليه أن يرى الصليبيين يستذلون المسلمين. ولما حط رحاله في الأندلس رغب أن يسمع توجيه الدعاة إلى السكان، وكلام الذين يتصدّرون المجالس يتحدّثون عن الإسلام، فخرج يومًا إلى صلاة الفجر وحده لا يعرفه أحد، وقد علم أن بعد الصلاة درسًا وتوجيهًا للشيخ أحمد التبريزي.
فلما انقضت الصلاة تحلّق الناس، وانتظموا ثم جاء الشيخ، وأخذ يوجّه الناس، ويبحث في العقيدة، وكان يردد في حديثه:'إخواننا المسيحيون' و'المسيحيون موحدون'... من هذه العبارات التي لا يصحّ قولها، وهي تُضعف معنويات المسلمين. فسأل يوسف سؤالاً على سجيته دون تكلف ولا اهتمام، فاستغرب الحضور- وإن وجدوا فيه الحق والجرأة- وبدا لهم أن الشيخ يغالط في أقواله ويُريد المداهنة.
وقال يوسف: كيف تقول يا شيخ: 'مسيحيون' والله سبحانه وتعالى يقول عنهم :'نصارى' حيث يقول:} وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[120]{ 'سورة البقرة' والمسيح عليه السلام برئ منهم فلماذا تنسبهم إليه؟
قال الشيخ: هكذا جرت العادة، وليس في الأمر.. وتعلثم .
قال يوسف: تقول عنهم:'موحدون' والله سبحانه وتعالى يقول:} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[72]{ 'سورة المائدة'.
قال الشيخ: يا بُني إن النصارى موحدون غير أنهم يجعلون الألوهية أقانيم ثلاثة نحن نوحدها في:'الله الواحد الأحد، العزيز القهار' وهم يُجزئونها تقريبًا لمفاهيم أتباعهم، وتسهيلاً لأبنائهم .. والأصل في النصرانية كما نزلت من عند الله سبحانه وتعالى في صورتها الأولى ـ كما تعلم ـ لا تختلف عن الإسلام، بل تُبشر بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ديانة سماوية.
قال يوسف: ولكن حرّفها الرهبان والأحبار حتى خرجت عن التوحيد، وغدت تقوم على الشرك.
قال الشيخ: لكن عندما نتكلم عن النصرانية فإنما نتكلم عنها في أصولها كما نزلت.
قال يوسف: لكن لا يوجد اليوم ـ بين النصارى ـ من يتبع النصرانية الحقيقية كما أنزلت، فهي لا تُوجد في عالم الواقع، كما لا يوجد إنجيل خال من التحريف. إن الذي يُوجد بين أيدي النصارى هو ما يتّبعونه، وهو المحرّف، وكلهم يقولون بالشرك.
قال الشيخ: نعم. نعم الأقانيم الثلاثة واحد .
قال يوسف: يقول تعالى:} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[73]{ 'سورة المائدة'.
قال الشيخ- وقد تلعثم وظهر عليه الارتباك- : لا تناقش كثيرًا يا بني، يبدو عليك أنك غريب. وانتهت الجلسة وهمّ الناس بالانصراف، فقال الشيخ: ما تعرّفنا على ضيفنا، ما اسمك يا ضيفنا؟
قال يوسف: يوسف بن عبد الله .. قال الشيخ: أهلاً وسهلاً .. يا أبا سعيد-أحد إخوان الشيخ-: أخونا يوسف في ضيافتك اليوم.. قال أبو سعيد : نعم. من واجبنا إكرام الضيف.. اعتذر يوسف.. وشكر لهم إكرامهم .
وقام الناس للانصراف، وأخذوا يغادرون أماكنهم ..قال الشيخ: حبذا لو انتظر ضيفنا قليلاً .
قال يوسف: نعم. أنتظر .. وخرج الجميع.
قال الشيخ: يا يوسف إن وضعنا ـ كما تعلم ـ نعيش على الثغور، والنصارى يُهدّدوننا في كل وقتٍ فإن اقتحموا علينا الديار؛ فعلوا بنا الأفاعيل، وقد علموا ما نقول عنهم من النصارى الذين يوالونهم ويعشون بين أظهرنا، لذا نضطر أن نقول مثل هذا الكلام.
قال يوسف: وما الذي يدعوك إلى أن تقول مثل هذا الكلام، اجلس في بيتك، ودع الحديث لغيرك.
قال الشيخ: ولكن تصدُّر المجالس، وتقدير الناس لمن يجلس مجلس العلم أمر محبب للنفوس، وعلى العالم واجب كبير ومسئولية أمام الله.(/1)
قال يوسف: ولكن ألا ترى أن حديثك هذا يجعل المسلمين لا يُعدّون أنفسهم للقتال حق الإعداد ما داموا يُقاتلون إخوانًا لهم، وما دام النصارى موحدين، لذا يتخاذل المسلمون على حين يقوى الصليبيون إذ يُصور لهم بطارقتهم المسلمين كفاراً، وأنهم يعبدون محمداً، وأنهم يحبون العدوان، ولو انتصروا عليهم لقتلوا رجالهم، وأبقوا نساءهم عندهم سبايا وإماء، وأنهم قد طردوا النصارى من قبل من بلاد الشام وشمالي أفريقيا واستحوذوا على بيت المقدس، وإنّ طرح هذا الكلام ليجعل الجند النصارى يقاتلون بضراوة، الأمر الذي يجعلهم ينتصرون علينا.
إن البطارقة يغالطون رعاياهم ويكذبون ليضمنوا النصر، وأنتم تغالطون الأمة مغالطةً، وعدم صدقٍ لتُضعفوا من الروح المعنوية، ويؤدّي ذلك بالتالي إلى الهزيمة.
قال الشيخ: لا، لا، أبدًا، لا تُشغل نفسك في هذا الموضوع، فالنصر بيد الله، والمسلمون يستعدّون، فتوكل على الله، ولا تخف.
وانصرف يوسف وهو يقول في نفسه: إن أمثال هؤلاء من مشايخ السوء لأخطر على المسلمين من أعدائهم، ولئن نصرني الله لأبدأ بهم ـ إن شاء الله ـ.
ودخل يوسف بن تاشفين الحرب ضدّ الإسبان النصارى وكانت بينهم تلك المعركة المشهورة:'معركة الزلاقة' إذ قضى المسلمون فيها على الجيش الإسباني.
ارتفعت معنويات المسلمين في الأندلس بعد هذا النصر العظيم، وحرص ابن تاشفين مُدّة إقامته في الأندلس على التخلص من مشايخ السوء الذي يُغالطون في عقيدتهم من أجل مصالحهم.
السلام المزعوم:
بعد أن حقّق يوسف بن تاشفين النصر في الأندلس على الصليبيين، وأمّن وضع الأمراء فيها عاد إلى الغرب، وما إن رجع حتى فُسح المجال ثانية أمام مشايخ السوء فانطلقت ألسنتهم بالمغالطات، وامتدت أيديهم الباردة نحو العامة تقذف في قلوبهم الوهن، وتسلب منهم الحيوية، وتُميت عندهم فكرة الجهاد.
بدأت المغالطات بإعلان: أن الإسلام دين السلام لا يعتدي على أحدٍ، ولا يحارب إلا إذا هوجم، ولا يدخل منطقة إلا إذا اعتُدي عليه، ولا يدخلها إلا لمنع الهجوم عليه ثانية وقطع دابر الغارات على أبنائه، وإذا مدّ سلطانه إلى مكانٍ فإنما ليصل إلى مكانٍ منيعٍ يتقي فيه شر الجوار وحرب الأعداء، هكذا الإسلام، فهو في نظر هؤلاء الذي يغالطون: ضعيف لا يُريد أن يتوسع، ولا يُريد أن ينتشر، وليس على أبنائه مُهمّة في الحياة هي الدعوة لله حتى تعمّ الأرض، ذليل يقبع في زاوية من الأرض حتى تدبّ الحياة في أتباعه .. هكذا وبهذه الصورة البشعة في نظر هؤلاء من أهل السوء.
عاد الضعف إلى المسلمين مرة ثانية فالأمراء والحكام رجعوا إلى اختلافهم، وتفرّقهم، واستعانة بضعهم على بعض بالطاغية النصراني، والروح المعنوية انخفضت نتيجة مشايخ السوء الذين يقدّرون مصالحهم فقط وقبل كل شيء، وبدأت غارات الإسبان تارة أخرى وأخذت تجوس خلال ديار المسلمين، واضطر المعتمد بن عبّاد حاكم إشبيلية اجتياز بحر الزقاق والتوجّه نحو المغرب يستنجد بأمير المرابطين يوسف بن تاشفين للعودة إلى الأندلس بجيوشه ومساعدة المسلمين، واستجاب يوسف لدعوة المعتمد، بل لأنين المسلمين، ونداء الواجب الإسلامي وانتقل إلى العدوة الأندلسية.
وأحبّ قبل أن يخوض الجولة أن يتعرّف على الروح المعنوية لدى المسلمين، ورأى أفضل طرق المعرفة الاستماع إلى الموجهين والمتحدثين الذين مقرّهم المسجد عادة، فخرج إلى صلاة العصر في أكبر مساجد قرطبة، وقد علم أن أحد العلماء- وهو إبراهيم بن عبد الملك الباجي يُلقي محاضرة.
انتهت صلاة العصر واجتمع الناس، وأمّ الجامع آخرون أدّوا صلاتهم في غيره، وقد ازدحم الجامع بالناس رغم اتساعه، وجاء الشيخ إبراهيم وجلس على أريكة، ووضعت حولها أمثالها من كلا الجانبين وبدأ الحديث: فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على رسول الله، خاتم النبيين وآله وصحبه، ثم أخذ في الكلام، فكان صوته عاليًا واضحًا، وكلامه فصيحًا مُبينًا، وحديثه عذبًا طليقًا وبيانه مؤثرًا جميلاً، ومع هذا فكان يُغالط الحضور ويسير بهم بعيدًا عن الإسلام.(/2)
تكلم عن حرية العقيدة، وأطال في تفسير الآية الكريمة:} لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[256]{ 'سورة البقرة' وأعلن أن الإسلام لا يمانع في أن يتخذ الإنسان أية عقيدة يراها، ويؤمن بما شاء أن يؤمن، ثم انتقل إلى أن المسلمين لا يغزون وإنما يُدافعون عن أرضهم فقط إذا ما غُزوا، ويحرصون أن يصلوا إلى مواقع تقيهم غارات غيرهم، فهم مسلمون مسالمون، وما عُرف من أمر الجهاد فهو الدفاع عن النفس، وأطنب في ذلك الحديث حتى يظنّ المستمع أن الحضور سيخرجون إلى بيوتهم لا يكلّمون أحدًا خوفًا من الزلل، ولو اعتدى عليهم أحد المارة لأحنوا رءوسهم، حتى ليضنّوا بالبكاء خوفًا من أن يعدّ ذلك شكوى، فينجدهم أصحاب الشهامة فيكون قتال..وطال الحديث وكاد الوقت ينتهي، ويوسف بن تاشفين مطرق رأسه يستمع، وإن كان يبدو عليه الألم، ولولا افتضاح الأمر لقام وصفع الشيخ وقال له: لا تُمت علينا ديننا أماتك الله، غير أنه صبر.
وما أن انتهى الشيخ حتى قال له يوسف: هل يحقّ لرجل يُقيم في دار الإسلام أن يجعل لنفسه صنمًا ينصبه في ساحة يملكها، ويُقدّم له القرابين، ويعبده من دون الله، ويطوف حوله أمام الناس.
قال الشيخ: لا .
قال يوسف: هذا ما فهمه المستمعون منك، ولكننا نعرف من أهل العلم أنه لا يسمح أن يكون وثنيون في ديار الإسلام، ولا يصحّ أن يُعبد غير الله، ولا مكان في بلاد المسلمين إلا لأهل الكتاب ومن يتبعهم من مجوس، وتكون عباداتهم خاصة بهم في بيعهم وأديرتهم وكنائسهم، وهذا ما نُلاحظه في البلدان التي فتحها المسلمون حيث لا يوجد سوى ذلك الصنف الذي ذكرته:أهل الكتاب والمجوس.
قال الشيخ:} لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ يا بُني، فاستمع إلى مشايخك وأنصت، ولا تحاول أن تُخالف.. تأتي بجديد من عندك فيضلّلك الله.
قال يوسف: نعم. :} لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ .. ولا يُجبر الإسلام المرء على عقيدة مُعيّنةٍ، ويترك له الخيار في أن يعبد الله على الصورة التي يرى، ويدين بعقيدة من عقائد أهل الكتاب أو المجوس أما عدا ذلك فلا، فإن شاء اختار منها، وإلا رحل عن ديارالإسلام إلى أي مكان شاء إلى أن يصل الإسلام إليها، وهذا تفسير :} لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ ولكنكم تُفسرونها بشكل فيه مغالطة. وهي تعني عدم الإكراه في عبادة الله، عدم الإكراه في اختيار إحدى العقائد التي تعبد الله، أما الوثنية فلا.
ويبدو أن بعض الناس قد عرفوا يوسف بن تاشفين من لهجته ونبرة صوته فقد سمعوه عند قدومه في المرة الأولى، ورأوه في القتال، وحاولا أن يُنبّهوا الشيخ غير أن الشيخ تلا بعنف :} لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ وأراد المتابعة.
قال يوسف: يمكن أن أطرح موضوعًا آخر نستفيد منه، أيها القارئ الفاضل؟
قال الشيخ: تكلم ولا تطنب.
قال يوسف: عندما انتشر الإسلام، وقفت دولة الفرس يومذاك في وجهه، كما وقفت دولة الروم، وكما وقف الطغاة جميعًا، وعندها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى كسرى قتله، أصحيح هذا؟
قال الشيخ: نعم. صحيح، فما تبغي؟
قال يوسف: وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حركة المرتدّين في أرض العرب وجد المرتدّون سندًا لهم في دولتي الفرس والروم، أصحيح هذا؟
قال الشيخ: نعم. صحيح، فما وراء ذلك؟
تابع يوسف: فما على المسلمين أن يفعلوا وقد قضوا على المرتدّين؟ هل يتركون الفرس، والروم يُثيرون الفتن ضدّ المسلمين؟ هل يتركونهم يمنعون أي إنسانٍ أن يُسلم، وإن أسلم أحدهم قتلوه وصلبوه؟ أم ماذا يفعلون؟
قال الشيخ: يغزونهم، وقد فعلوا، فمن واجب المسلمين نشر الدعوة في سبيل الله، فمن وقف في وجهها قاتلوه، ولا يبدؤونهم بالقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام، فإن قبلوا؛ فقد اهتدوا، وأصبحوا من المسلمين، شأنهم شأن بقية المسلمين في الحقوق والواجبات، وإن أبوا عرضوا عليهم الجزية، فإن قبلوا اكتفى المسلمون بذلك ورجعوا عنهم، ومعنى قبول الجزية، أن يسمح للدعوة بالانتشار، وتُعطى حرية العمل للذين أسلموا في نشر دينهم دون إكراه، وإن رفضوا الجزية فلابدّ عندها من السيف بعد الإنذار.
قال يوسف: جزاك الله خيرًا، لقد أفدتنا، أي أن المسلمين يُقاتلون الذين يقفون في وجه الدعوة حتى يُسلموا أو يقبلوا الجزية ويسمحوا للدعوة بالانتشار، وهذا هو الجهاد.
قال الشيخ: هذا صحيح، وهذا ما أردته بالضبط.
قال يوسف: فتح المسلمون المغرب ووصلوا إلى ساحل المحيط، وكان بحر الزقاق يفصل بينهم وبين القوط في الأندلس، ويُعد البحر مكان حمايةٍ يمكنهم منع أعدائهم من النزول إلى بلادهم، فلماذا يا تُرى اجتاز المسلمون بحر الزقاق وانتقلوا إلى الأندلس، وقاتلوا أهلها، وفتحوها واستقرّوا فيها؟ فهل هذا اعتداء من قبل المسلمين؟
قال الشيخ: معاذ الله، أن يكون المسلمون معتدين، إنما استنجد فيهم المظلومون فأنجدوهم، وحاول الطغاة منعهم فقاتلوهم، وانتصروا عليهم، وأراد البغي أن يُثير الفتنة على المسلمين فاستقرّوا ليُقرّوا المسلم، وينشروا الأمن، ويُعطوا الرخاء.(/3)
قال يوسف: إذاً لا يحرص المسلمون على الوصول إلى مناطق تحميهم من الأعداء، وتردّ عنهم كيد المعتدين.
قال الشيخ: أبدًا، وإنما يُحارب المسلمون الظلم أينما وُجد، ولا تقف في وجههم عقبة من عقبات الأرض، وإنما عليهم أن يُؤدوا مُهمّتهم في الحياة مهما قدّموا من تضحيات، ومن مُهمّة المسلمين الأساسية رفع الظلم، ومنع الجور، ومقاتلة الشرك، وهذا ما يجب أن تضعه أمام عينك يا بُني، ويجب أن يعرفه الناس جميعًا.
قال يوسف: لو أن قومًا معتدين أغاروا على جزء من أرض الإسلام، فماذا يفعل المسلمون؟
قال الشيخ: يُصبح الجهاد فرض عين على المسلمين جميعًا أينما كانوا، وفي أيّة بُقعةٍ حلّوا، وإذا ما نال المعتدون من المسلمين كان على النساء من أهل تلك الجهة واجب القتال أيضًا والذود مع الرجال عن حمى المسلمين.
قال يوسف: إذاً يُجاهد المسلمون في سبيل الله، ويهبّوا للدفاع عن ديارهم.
قال الشيخ: نعم، يا بني.
قال يوسف: جزاك الله خيرًا، ونفع بك.
وشعر المستمعون أن الشيخ كان يُغالط، وقد أحسّ أمام السائل يوسف أنه كان يقول من غير تثبّت، وقد تراجع عما كان عليه، وأيقن الحضور أن كلام الشيخ كان يُضعف فيهم روح الجهاد، وأن واجبهم البقاء في ديارهم قابعين فإن داهمهم غزو قاموا لردّه والدفاع عن ديارهم وأموالهم وأعراضهم ليس إلا.
لكن الإسلام يأمرهم غير ذلك يأمرهم : بقتال الظلم، ونصر المظلومين، والسير إليهم لتخليصهم مما يُعانون ولو كانوا في آخر الأرض.. كما عليهم قتال كل من يقف في وجه الدعوة ومنع الإسلام من الانتشار مهما نأت ديار أولئك البغاة.. كما عليهم ألا ينتظروا الطغاة حتى يعتدوا عليهم فيردّوا كيدهم، وإنما عليهم أن يسيروا إليهم ويداهموهم في أماكنهم قبل أن يتحركوا، ولو فعلوا ذلك لما تطاول الإسبان ولما ارتفعت لهم راية، ولبقى الأندلس يعيش في ظل دوحة الإسلامية ويتقيأ في ظلالها.
لكن إن فهمت حقيقة الإسلام مجموعة فقد بقيت أعداء تنتشر في أمصار العالم الإسلامي الواسعة تبثّ تلك الأفكار الخاطئة وتُغالط في المفهومات الأساسية للإسلام حتى كادت تعمّ، وأصبح مفهوم الإسلام لدى كثيرٍ من الناس الاستسلام بمعنى السلام، وكان هذا من جملة أسباب تأخّر المسلمين ووصولهم إلى هذه الدرجة من التخلف والانهزامية والضعف حتى سيطر الأعداء على بلادهم .
ولا زال كثير من عامة المسلمين أو ممن يدّعون المعرفة يظنون أن الإسلام دين السلام فقط بمعنى الاستسلام، وليس دين القوة أيضًا، ودين العزّة والمنعة، والجهاد وسيلة من وسائل الدعوة إليه. فقد أراد الشيوعيون في يوم من الأيام أن يُغالطوا على المسلمين ويدخلوا عليهم من هذا الباب فيكسبون أعدادًا، منهم فشكلوا جمعية عُرفت بـ:' جمعية أنصار السلام' فأيّ تسمية هذه؟! وأيّ سلام هذا؟! أهو استعمار بلاد التتار وسحق أهلها، أم احتلال بلاد القفقاس وتشريد سكانها، أم اقتحام بلاد تركستان وقتل أبنائها، أم غزو بلاد الأفغان وتدمير مدنها وإحراق قراها، وتشريد الناس، وتسيير الدبابات الروسية على جماجم الأطفال والعاجزين .. أم ماذا؟
وجاءت هذه الجمعية لتنشر بين المسلمين أن الإسلام يدعو إلى السلام ونشر السلام، ونحن نؤيد فلنتعاون، ولنطالب بالسلام، وكانوا يأخذون تواقيع المغفلين من المسلمين دلالة على التأييد للمنظمات الشيوعية.
يجب أن ننتهي من تلك الغفلة، ومن تلك المغالطات، ونضرب على أيدي أولئك الذي يُغالطون، وينشرون الأخطاء بين الناس ليناموا.. يجب أن يستيقظوا الآن ويعرفوا أن الإسلام دين السلام وفي الوقت نفسه دين القوة والعزة والمنعة، والجهاد في سبيل الله، ومجاهدة الكفار والظالمين وحربهم أينما كانوا حتى يزول الظلم، وينتهي الشرك، ويعمّ العدل، ويسود الإسلام الأرض كلها.
نتائج المغالطات:
لقد ضاع في تيه هذه المغالطات كثير من الناس، فأعداد من المسلمين الحريصين على عقيدتهم يتساءلون:
* هل نحن نعيش في دار الإسلام أم في غيرها؟
* هل يصح موالاة أعداء الله وإقامة أحلاف معهم أم لا؟ أناس قالوا بهذا، وآخرون قالوا بذاك وفي كلا الفريقين من يقول بالعلم ..؟
* هل هذه مؤسسات إسلامية أم تحمل عنوانًا فقط؟ أناس يثنون، وتظنهم صالحين، ولا نزكي على الله أحدًا، ولكن الآخرين لا يريدون، وليس لهم مصلحة؟ مع أي الفريقين وجه الصواب؟
* هل الزهد مقبول؟ أهو الفقر أم هو عدم التمسك بالدنيا؟ وما هو الفرق بين الزهد والتصوف؟
إن الكثير من هؤلاء يريدون أن يتلمسوا الطريق فلا يعرفون؛ لذا كثرة الفئات وتعددت الجماعات، وتعصّب كل لرأيه، وما منع الناس أن يعرفوا الحق إلا التعصب للرأي، وللجماعة، والشيخ، إذ يعتقد كل أن من يتبعه على صوابٍ فلا يخطئ، وينسى أن لا عصمة في الإسلام لأحد بعد الأنبياء.
* لابد من الوضوح والأخذ من النبع الأصلي الصافي: كتاب الله، وسنة رسوله.
* ولابد من ترك التعصب للأفراد والجماعات، وسؤال أهل العلم، ومحاولة التمييز والمقارنة.(/4)
وكما ضاع المسلمون الحريصون على دينهم ضاع غير الحريصين، وهم نسبة لا بأس بها، ولا يمكن إغفالها ـ مع الأسف ـ وجدير بهم أن يضيعوا، وأمر طبيعي أن يتيهوا، وقد تخلوا عن عقيدتهم، وضاعوا في الحزبية، والمصالح وعصبيات المنافع الواحدة والمشتركة، والأهواء والشهوات.
من أسباب ضياع المسلمين:
أسباب خارجة عن إرادة المسلمين:
* المؤسسات الصليبية واليهودية المتعددة بأسمائها وعناوينها المكشوفة والمغطاة، والمخططات التي توضع.
* والفرق الباطنية التي تعمل بالسر، والظاهرة التي تعمل بوحي من أعداء الإسلام، وهم الذين أنشأوها ولا يزالون يدعمونها.
أسباب تعود إلى المسلمين أنفسهم:
* مصالحهم، وشهواتهم، والإغراءات التي يدلي بها لهم أعداؤهم، وينثرونها لهم حتى ينقلبوا إلى بهائم.. إلى جبابرة.. إلى طغاة يوجهون سيوفهم إلى رقاب أبناء عقيدتهم التي ينتمون إليها.
* وليس دور الجهل، والخرافة، والجلافة بأقل من ذلك؛ إذ لا يقبلون رأيًا، ولا يعرفون وضعًا، ولا يريدون أن يتعرفوا على ما يُرسم لهم ويخطط.
لابد من إنارة الطريق:
لابد من إنارة الطريق لهؤلاء الضائعين كي يسلكوا الطريق المستقيمة.. وينفضوا عن أعينهم ما سبق أن لحقها من غشاوة.. وإذا جدّ الدعاة.. وأخلص السائرون في سبيل الله؛ فإن النصر قادم ـ بإذن الله-. والله نسأل أن يوفقنا، وأن يسدد خطانا لإنارة الدرب، فهو نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من رسالة:' المغالطات وأثرها في الأمة' للشيخ/ محمود شاكر(/5)
التلفزيون وأثره السلبي على المشاهدين
بقلم : المقدم . مهندس / محمد بن أحمد الفضل
إن التلفزيون سلاح ذو حدين فله جانب إيجابي وآخر سلبي . يكمن الجانب الإيجابي في الدور الذي من الممكن أن يقوم به في الرفع من مستوى الوعي الثقافي لدى المشاهدين . ويكمن الجانب السلبي في عدة نواحٍ منها النواحي الاجتماعية والثقافية والنفسية والفسيولوجية ( أو العضوية ) وسأقوم بتناول كل منها في هذا المقال .
أولاً : الجانب الاجتماعي :
مع ظهور التلفزيون ودخوله كل بيت تقريباً تُحلق أفراد العائلة حوله مشدودين إلى البرامج المتنوعة التي يقدمها طيلة ساعات البث ، الأمر الذي تسبب في الحد من النشاطات الاجتماعية التي كان أفراد العائلة يزاولونها في عهد ما قبل التلفزيون مثل تبادل الزيارات العائلية مع الأهل والجيران فأصبح الإنسان لا يرى قريبه ربما لأشهر عديدة .
ثانياً : الجانب الثقافي والنفسي :
فكثير من علماء النفس يقومون بحملة ضد التلفزيون خاصة بالنسبة لتأثيره السلبي على النمو العقلي والفكري لدى الأطفال فهم يلقون باللوم عليه لكونه وسيلة إتصال من جانب واحد يقوم التلفزيون عن طريقها ببث ما يريده القائمون عليه من برامج وأفكار ومبادئ من جانب واحد فيفقد الطفل القدرة على التحاور وإبداء الرأي وتبادل الأفكار وبالتالي يفقد القدرة على الابتكار والمبادرة ومن ثم النمو الثقافي بل والنفسي أيضاً حيث يسبب لهم الانطوائية .
ثالثاً : الجانب العضوي ( أو الفسيولوجي ) :
وهو التأثير الذي يحصل على جسم الإنسان ويخفىَ على كثير من الناس . ولكي نتعرف على هذا الجانب دعونا نلقِ الضوء على كيفية عمل التلفزيون .
إن أهم جزء في جهاز التلفزيون هو الشاشة التي تقوم بتحويل الإلكترونات الساقطة عليها من الخلف إلى نقاط ضوئية تتشكل بواسطتها الصورة التي نراها . ويتم إنطلاق الإلكترونات بسرعة عالية جداً نتيجة وجود فرق جهد هائل بين مُطلِق الإلكترونات والشاشة قد يبلغ حوالي 30 ألف فولت وعندما تصدم هذه الإلكترونات بالشاشة المصنوعة في الغالب من مادة الفوسفور فإنها تسبب في إنطلاق نوع آخر من الجزيئات اسمها الفوتونات ( أو الجزيئات الضوئية ) التي تشكل النقاط الضوئية وبالتالي الصورة على الشاشة . وتماثل هذه العملية العملية الأخرى التي يتم بها تكوين أشعة إكس المستخدمة في المستشفيات للنواحي الشخصية .
فإن جهاز أشعة إكس يحتوي على لوح معدني تصطدم به الإلكترونات المنطلقة بسرعة هائلة ويتسبب ذلك الإصطدام في إنطلاق جزيئات الفوتون السالفة الذكر بطاقة كبيرة تُكَوِن بدورها أشعة إكس . وكما يعلم الجميع فإن الأشعة لديها القدرة على اختراق جسم الإنسان لتسقط على لوح فوتوغرافي ينطبع عليه شكل عضو الجسم المعرض للأشعة ، وهناك حقيقة ثابتة قد تخفى على بعض الناس وهي أن تلك الأشعة ضارة بالجسم إذا تُجَاوز القدر الذي يمتصه الجسم منها حداً معيناً . لذلك نرى مختصي الأشعة يرتدون ملابس واقية مصنوعة من الرصاص لأنه مادة تمنع مرور الأشعة .
وكذلك فإن الغرف الموجودة فيها أجهزة الأشعة تحاط بغلاف من الرصاص ، كما يدخل في مادة أبوابها الرصاص لتوفير الوقاية اللازمة للمارة خارج الغرفة . كما يوصي الأطباء بعدم التعرض لأشعة إكس الخاصة بالصدر لأكثر من مرتين سنوياً لأنها أشعة قوية .
وتكمن أضرار أشعة إكس في أنها قد تُعرض الإنسان لا سمح الله إلى تأين جزيئات خلايا جسمه مما قد يتسبب في حدوث نشاط غير عادي لتلك الخلايا ، ومن الأضرار التي قد تنشأ من ذلك : العقم وإصابة العين بالجلوكوما وتورم الغدة الدرقية وغيرها .
وكما ذكرت آنفاً فإن الشعاع الصادر نتيجة اصطدام الإلكترونات بشاشة التلفزيون يتولد معه أشعة إكس إلا أنها ليست بنفس قوة الأشعة التي تُستعمل في المستشفيات ولكن الخطر يكمن في أنه إذا إعتاد الإنسان الجلوس أمام التلفزيون عن قُرب ولفترات طويلة فإن كمية الأشعة الممتصة تتراكم في الجسم وللأسف فإن كثيراً من الأطفال إعتادوا على الإلتصاق بالتلفزيون بحيث لا يبعدهم عنه إلا مسافة متر فقط أو أقل ، لمشاهدة برامجهم المفضلة ولفترات طويلة وبدون التحول عنه مما يؤثر على قوة أبصارهم فنراهم بعد مدة وقد بدأوا يرتدون النظارات ، وهناك خطر آخر بدأ يبرز حديثاً وهو دخول الكمبيوتر الشخصي إلى البيوت وَوَلَع الأطفال بمختلف الألعاب التي يقدمها لهم ، ولهذا الجهاز الحديث جميع الجوانب السيئة التي ذُكِرَت سابقاً إضافة إلى التأثير الفسيولوجي الذي يحدث عندما يلتصق الطفل بشاشة الكمبيوتر ، أو شاشة التلفزيون عند توصيل الكمبيوتر به كما يفعل بعض الناس لمتابعة لعبته المفضلة لساعات طويلة وبتركيز شديد يرهق البصر وقد يتسبب في إحداث المشاكل العضوية التي ذكرت آنفاً .(/1)
مما سبق يتبين أن للتلفزيون وشاشات الكمبيوتر جوانب سيئة ينبغي علينا معرفتها وتوعية أطفالنا وفلذات أكبادنا بها ومحاولة تفاديها للمحافظة على سلامتنا بتتبع الخطوات التالية :
1 - تقليص الوقت الذي يشاهد فيه أفراد العائلة ، وخاصة الأطفال ، التلفزيون وشاشات الكمبيوتر ، بقدر الإمكان .
2 - التأكد من جلوس الأطفال على مسافة لا تقل عن ثلاثة أمتار عن الشاشة .
3 - حَضْ الأطفال على مزاولة النشاطات الأخرى المفيدة لعقولهم وأجسامهم مثل الرياضة والقراءة .
4 - استعمال الشاشات المخصصة للكمبيوتر لأنها تغطي في العادة بطبقة واقية ضد الوَهَجْ الذي يؤثر في العين .(/2)
التلفظ بالنية بدعة
س : السائل : س . أ . س- من مصر يقول : ما حكم التلفظ بالنية جهرا في الصلاة ؟
ج : التلفظ بالنية بدعة ، والجهر بذلك أشد في الإثم ، وإنما السنة النية بالقلب؛ لأن الله سبحانه يعلم السر وأخفى ، وهو القائل عز وجل : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن الأئمة المتبوعين التلفظ بالنية ، فعلم بذلك أنه غير مشروع ، بل من البدع المحدثة .
والله ولي التوفيق .
الشيخ عبد العزيز بن باز
المصدر / موقع الشيخ ابن باز
---------------------------
س : إذا تلفظت في داخل المسجد وقلت : اللهم إني نويت الوضوء لصلاة العصر مثلا ، أو نويت الصلاة بهذه الطريقة هل هذا يعتبر بدعة؟
ج : ليس التلفظ بالنية لا في الصلاة ولا في الوضوء بمشروع . لأن النية محلها القلب ، فيأتي المرء إلى الصلاة بنية الصلاة ويكفي ، ويقوم للوضوء بنية الوضوء ويكفي ، وليس هناك حاجة إلى أن يقول : نويت أن أتوضأ ، أو نويت أن أصلي ، أو نويت أن أصوم ، أو ما أشبه ذلك ، إنما النية محلها القلب ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
ولم يكن عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه يتلفظون بنية الصلاة ، ولا بنية الوضوء ، فعلينا أن نتأسى بهم في ذلك ، ولا نحدث في ديننا ما لا يأذن به الله ورسوله ، يقول عليه الصلاة والسلام : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد يعني : فهو مردود على صاحبه .
فبهذا يعلم أن التلفظ بالنية بدعة .
والله ولي التوفيق .
المصدر / موقع الشيخ ابن باز(/1)
التلميذ المثالي
أنا تلْمِيذٌ أحْرِصُ دَوْماً أنْ أتَعَلّمَ مِنْ أخْطائي
في مدْرَسَتي أرْفُضُ يَوْماً أنْ يَغْضَبَ مِنّي زُمَلاَئي
وأُحِبُّ الخَيْرَ وأَبْذُلُهُ للنَّاسِ جَمِيعاً.. ولِجَارِي
وأُحِبُّ الصِّدْقَ وأَجْعَلُهُ في كُلِّ الأَوْقاتِ شِعَارِي
دوْماً.. دوْماً أعْشقُ دَرْسي أصْحُو قَبْلَ شُرُوقِ الشّمْسِ
أتَوَضَّأُ حَالاً.. وأُصَلّي وأُراَجِعُ أَعْمَالَ الأَمْسِ(/1)
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه .
أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له ، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه ، كما قال سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقال عز وجل : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية ، وقال سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له ، وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما ، كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها ،
والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله ، وإخلاص له في العمل ، وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله ، فإن معناها : لا معبود حق إلا الله ، فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يجب أن تكون لله وحده ، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات ، ولقوله عز وجل : وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الآية ، وقوله عز وجل : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وقوله سبحانه : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ وقال تعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وقال عز وجل : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه ، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم ، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له ، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل ، ونفي الفلاح عن أهله ، كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعا غيره ، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة ، وأنه غافل عن دعائه إياه ، وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه ، ويتبرأ منها ، ويعاديه عليها ، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه ، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم .
وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة ، وأن العبادة بحق لله وحده ، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ الآية من سورة الحج .
وذكر سبحانه في مواضع أخرى من كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة ، وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم ، كما قال عز وجل : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقال تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(/1)
فالواجب على كل ذي لب أن ينظر فيما خلق له ، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده ، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة ، وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها ، لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وخلاصة دعوتهم ، ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومقتضى هذا الإيمان ، تصديقه صلى الله عليه وسلم في إخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه ، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام . وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا ، لا يصح إسلامها ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله ، وإخلاص العبادة له عز وجل ، ومتابعة رسولها صلى الله عليه وسلم ، وعدم الخروج عن شريعته ، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده ، وأخبر أنه هو دينه ، كما في قوله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا وقوله عز وجل : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران :
أحدهما : أن لا يعبد إلا الله وحده ، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
الثاني : أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله ، ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده ، والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء ، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا ، كما قال الله عز وجل : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وقال سبحانه : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقال تعالى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال عز وجل : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله ، وترشد الأمة حكومة وشعبها إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به ، والحذر مما يخالفه ، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها ، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه ، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله ، وينفذوا حكمه في عباده ، ويخلصوا له القول والعمل ، ويقفوا عند حدوده التي حدها لعباده ، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعز في الدنيا والآخرة ، كما يفوزون بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب ، والعز الغابر ، كما قال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وقال سبحانه : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا ، وأنهم يودون عنتهم ، قال بعد ذلك : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون ، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق ، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ ، وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه .(/2)
وإني لأنصح إخواني أهل العلم والقائمين بالدعوة إلى الله سبحانه بأن يعنوا بهذا الأصل العظيم ويكتبوا فيه ما أمكنهم من المقالات والرسائل حتى ينتشر ذلك بين الأنام ويعلمه الخاص والعام ، لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه ، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور ، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك .
ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها .
فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا ، وأن يصلح قادتهم وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما يخالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين .(/3)
التمكين وتأويل الأحاديث
23/7/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
"وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ"(يوسف: من الآية21). ما أحوجنا إلى الوقوف مع هذه الآية في هذه الظروف التي تعيشها الأمة.
القنوط واليأس دخل كثيراً من القلوب بعد ما رأوا أعداء الله يعودون إلى استعمار بعض بلاد المسلمين مرة أخرى، ومن ذلك ما يفعله اليهود في فلسطين، وما يفعله الغرب في أفغانستان والعراق، نفوس أصابها التشاؤم واليأس والقنوط، والله غالب على أمره.
لقد تواترت الآيات مانعة من الخوف إلا من الله _جل وعلا_، وكذلك الخشية إلا من الله "فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ "(آل عمران: من الآية175)، "فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ "(المائدة: من الآية3). "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"(آل عمران: من الآية173). فعلينا أن نثق بالله وبوعده، وأن نأخذ بالأسباب التي توصلنا إلى العز والسؤدد والمجد، فلنحسن الظن بالله ولنثق به "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً"(الطلاق: من الآية3). "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51) . "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ "(يوسف: من الآية110).
هذه الآية "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ"(يوسف: من الآية21) من سورة يوسف الذي عاش ألوان الابتلاء، يأتي تصديقها في نفس السورة "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ" (يوسف: من الآية21)، التمكين تمكين خاص وعام، وقد حصل عليهما يوسف _عليه السلام_ مكنه الله في أول الأمر من قلب العزيز، ومكنه الله _جل وعلا_ في داخل السجن، وهذا تمكين خاص.
ثم جاء التمكين العام عندما قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، فأصبح هو عزيز مصر، بل هو سيد مصر الآمر الناهي، حكم فيه بشريعة الله _جل وعلا_ "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" (يوسف: من الآية21)، وكأن الآية تشير إلى أن من يأخذ بالأسباب التي أخذ بها يوسف فسيكون نهايته التمكين _بإذن الله_.
والسؤال: كيف نصل إلى ما وصل إليه يوسف؟
والجواب: هنالك أسباب جعلها الله _جل وعلا_ من أخذ بها حصل على التمكين، إما التمكين الخاص أو التمكين العام ولعله تأتي الإشارة بشي من التفصيل إلى ذلك لاحقاً أما ما يهمنا هنا فهو ما يتعلق بتأويل الأحاديث، فالله _عز وجل_ قرن به التمكين، فقال _سبحانه_: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). ذكر بعض العلماء أن تأويل الأحاديث هنا ليس محصوراً فيما يتعلق بتعبير الرؤى بل هو أعم من ذلك، فيشمل تفسير الأحداث وتوقع نتائجها والقدرة على التعامل معها، فيوسف _عليه السلام_ أكرمه الله بتأويل الأحاديث أي تعبير الرؤيا، وهذا معنى أوّلي، وهو ما مشى عليه عامة المفسرون، ومعنى آخر، وهو تأويل الأحاديث، بمعنى تفسير الأحداث واستشرافها والتخطيط لها، وهذا ما حصل عندما ولي أمر تدبير ما بدء تحققه مما توقعه بعد تأول الرؤيا.
ولعل هذا الضرب من تأويل الأحاديث فيه شبه مما أعطيه عمر بن الخطاب _رضي الله تعالى عنه_، فقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" [أخرجاه في الصحيحين] وليس ذلك من ادعاء علم الغيب. كلا وحاشا، بل هي فراسة وعلم قائم بذاته، يبنى على الحقائق والدراسات والأرقام. يلهمه الله بعض خلقه، وخاصة إذا توافر فيهم الصدق، والإيمان، والتقوى، فينير الله بصيرتهم، ويجعل لهم فرقاناً.
ولعل الناظر إلى علم دراسات المستقبل، والذي غدا اليوم علماً مستقلاً يدرس في أعرق الجامعات، يلحظ أن الذين تفارقهم التقوى والإيمان يخطئون كثيراً في هذا الجانب رغم عظم ما عندهم من وسائل مادية وإمكانات.
أما إذا توافر مع هذا العلم تقوى وورع وصدق مع الله _جل وعلا_ والتجاء إليه، فيجعل الله لأصحابه فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، وفراسة لا تكاد تخطئ، وقد قال الله _عز وجل_: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ "(البقرة: من الآية282). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً"(لأنفال: من الآية29).(/1)
كما إن دراسة السنن الكونية من الأهمية بمكان، فالسنن لا تتخلف. وكذلك دراسة التاريخ الذي تمر به حوادث مشابهة يستفيد اللبيب من نتائج تصرفات أهل تلك الحقبة، وكل ذلك جزء مما يسمى اليوم بعلم (فقه الواقع)، والذي يجب أن يبنى على الكتاب والسنة، ويجب أن نكون فيه وسط بين الإفراط والتفريط.
فهناك من غلا في هذا العلم فأخرجه عن حده، وهناك من أنكره، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فأصل هذا العلم في الكتاب والسنة، وفي سيرة السلف _رضوان الله تعالى عليهم_ وهو علم له أصوله ومنطلقاته، كما أنه من أهم ما نحتاج إليه في عصرنا الحاضر، بل ما أحوجنا إلى أن تنشأ له المعاهد والكليات المتخصصة، وما أحوجنا إلى ربطه بالكتاب والسنة، و السنن الكونية والأحداث التاريخية، مع ملاحظة واقعنا وقدراتنا وإمكاناتنا وأحوال أعدائنا، مع الالتجاء إلى الله بأن يهدينا سواء السبيل "اللهم اهدني وسددني" كما ورد في حديث علي عند مسلم.
وبهذا يكون تعاملنا مع هذا العلم تعاملاً واقعياً بلا إفراط أو تفريط ، ويكون عالم الشرعية على مستوى من الوعي بما يقع في أمته وما يحيط بها من أخطار.
وبهذا نصبح قادرين على رسم الطريق الصحيح لخروج الأمة من واقعها الأليم، قادرين على استثمار كل خطأ وكل حدث قد يصدر من الآخرين، مترقبين له متوقعين، وبهذا يحصل العز والتمكين للمسلمين، كما حصل لنبي الله يوسف من قبل "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".
نسأل الله أن يعز جنده، وأن يظهر كتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.(/2)
التمكينيّون والمرض العُضال
ياسر بن علي الشهري 16/6/1427
12/07/2006
الآراء الحديثة الواردة في "أدبيات التنمية" ربطت نجاح برامج التنمية وضمان استدامتها، وقدرة المجتمعات على مواجهة التغيرات العالمية والتواؤم معها، بتوافر معطيات أساسية للمرأة تمكنها من المساهمة الإيجابية في حركة التنمية وتوجيهها، وحددت في مقدمة هذه المعطيات، الإنتاج الاقتصادي، الذي يضع المرأة في موقع القوة، ويجعلها قادرة على خدمة مجتمعها.
إن الحركة الحديثة لمشاركة المرأة ارتبطت بفكر نرفضه تماماً لكونه؛ لا يعترف بحقائق الإسلام المطلقة، ولأنه يلغي الحياة الجماعية في مقابل "الرغبة" الفردية، ويقوم على النظرة المادية في التخطيط والقياس، ويتهم النظرات المغايرة له بالتقليدية، خاصة النظرة التي تعتمد على الدين الإسلامي.
ومصطلح "التمكين" الذي تلقّفه بعض المسلمين والمسلمات دون علم بجذوره، هو أحد إفرازات الحركة الحديثة لمشاركة المرأة؛ المنسوبة لعلم الاجتماع، وهو مؤشر فاضح للمرض العضال الذي أثخن في الحياة الفكرية والعلمية للأمة؛ نتيجة لجهل كثير من أبنائها وبناتها بحقيقة الإسلام، وتعطّشهم لتسوّل مبادئ العلوم الإنسانية من الغرب دون تمحيص، خاصة شَطَحات علماء الاجتماع التي حلّت محل الأديان المحرفة عندهم.
إن العلم بأن (التمكين أو البحث عن تحقيق القوّة للمرأة) من إفرازات التحليلات السيسيولوجية الحديثة ليكشف عن المرض الذي يعانيه "التمكينيّون" من أبناء وبنات المسلمين، والمتمثل في التبعيّة الفكرية والعلمية، والانهزامية أمام المنتج الغربي، وإلا كيف يُقبل مثل هذا المفهوم على الرغم من وجود المسوّغات الفكرية لرفضه، ونسف أصوله التي يقوم عليها، ومن ذلك:
أولاً: إن هذا المفهوم يشير إلى إيجاد (خلق!) القابلية لدى المرأة لامتلاك الوعي والمعرفة والخبرة التي تمكنها من المشاركة ومقاومة الضغوط الاجتماعية.. أو باختصار (تحقيق الذات) وسبب الرفض لهذا. إن تحقيق ذات المرأة المسلمة –وكذلك الرجل- كفله لها الإسلام إذا استقامت عليه واستقام عليه مجتمعها؛ فهو الذي يمنحها عمقاً عقدياً يربطها بخالقها وبالكون من حولها، ويكشف عن تكريمها, وشبكة من التشريعات والضمانات التي تحمي ذاتها، ويعمل على صياغة البيئة العامة والعلاقات الاجتماعية بما يعينها على أداء مهامها.
ثانياً: إن هذا المفهوم يشير إلى مدى القدرة على وضع الظروف ومقاومة الضغوط وصولاً إلى حضور المرأة في الواقع الاجتماعي. وهو ما يسمّونه بـ(حضور الذات). وسبب الرفض لهذا الرأي أن المرأة المسلمة حاضرة في الواقع الاجتماعي وليست غائبة، وأن علاقتها مع أطراف المجتمع علاقة تعاضد وتكامل، فهي الحاضن الأول للفرد الذي تعده وتؤهله ليكون عضواً في البنيان الاجتماعي وفق التشريع الذي ينظم كل هذه العمليات، ويكفل تهيئة البيئة المناسبة لممارسة التشريع على المستوى الفردي والمجتمعي.
إننا –في ظل هذه الانحرافات الفكرية- بحاجة إلى "شيوخ اجتماعيّين" (يقرؤون) على المرضى حتى يفهموا أن المرأة القادرة على تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمعها؛ هي المرأة التي أدركت الحكمة من وجودها، والتشريعات الربانية المنظمة لحياتها وعلاقاتها، ثم استقامت على ذلك بنفسها، وعملت على تقويم كل من تنجبه على المنهج نفسه. كما أننا بحاجة إلى "شيوخ تنمويّين" يواصلون عملية القراءة، ويعلّمون "المرضى" أن قياس النمو الاجتماعي للمرأة إنما يكون بمدى المحافظة على المكاسب الكبرى التي حققها الإسلام للمرأة، وحققتها المرأة المستقيمة لنفسها ولمجتمعها، وبمدى المحافظة على طبيعتها وأنوثتها.
وإذا كان الهدف من مشاركتها، تنمية المجتمع، فإن عملية التنمية تستهدف العنصر البشري (رجلاً، امرأةً) والعقلاء يدركون أن المرأة مسؤولة عن إعداد وتأهيل العنصر البشري عموماً (حملاً, رضاعةً, أمومةً, تربيةً, توجيهاً، تهذيب العواطف, دفعه نحو التقدم والنجاح في مجالات حياته) حتى ينتقل هذا العنصر البشري إلى موقعه، ويستطيع الاعتماد على نفسه، ويحقق عبوديته لربه، وأيضاً هي مسؤولة عن عمليات التأهيل للمجتمع بأكمله فهي التي تنمي، وتصنع في نفوس الأجيال القيم، وبالتالي فهي مؤثرة في المجتمع بأكمله من خلال مشاركتها الفاعلة في صياغة قيم الفرد والأسرة.
إن المرأة في ثقافتنا: راعية ومديرة الكيان الأكبر تأثيراً في الحياة الاجتماعية –الأسرة- والخلل ليس في ثقافتنا المستمدة من الدين.. أبداً، بل هو في العقول التي استوردت مقاييس شؤون المرأة، وعليه يجب أن نضبط المقياس الذي نقيس به تقدمنا في قضايا المرأة، وأن نبنيه في ضوء ثقافة الإسلام.
فمن قال إن المرأة لا تعمل إذا لم تكسب مادياً؟!
وإنها لا تحقق ذاتها إلا إذا كانت أجيرة أو ذليلة لماديات الحياة؟!!(/1)
ومن قال إنها غائبة عن الواقع الاجتماعي إذا لم تتبرّج وتختلط بـ(الذكور!!)؟ وإنها لا تحضر في الواقع إلا بخروجها لموضوع الرجل واختصاصه؟
إننا في ظل هذا الفهم الخاطئ بحاجة إلى هيئات ومنظمات وروابط نسائية في مجال تنمية ذات المرأة المسلمة، "وأقصد به ارتباطها بما تؤمن به وتقدّسه". وفي مجال تطوير قدراتها الفطرية (الأمومة، والتربية، والعلاقات الاجتماعية, ورعاية الأسرة, وتعليم القيم)، وكذلك في المجالات النسويّة الخاصة (طب الأسرة, طب المرأة, التمريض, التعليم, إعلام المرأة) للدفاع عن المرأة وحفظ حقوقها الشرعية، وإيقاف الدعوات التي لا تحترمها.
ويبقى نجاح الجهود التي تستهدف قضايا المرأة مرهون بالنتائج التي ستقدمها للمرأة من حيث حفظ هويتها وشخصيتها الإسلامية؛ فهي لا تتطلع لماديات الحياة فقط.. إنها مسلمة توظف كل إمكاناتها لتحقيق عبوديّتها لله، ونظرتها بعيدة إلى ما هو أعظم من هذه العاجلة. (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41]. فطموحها تحقيق ذاتها وحضورها في الحياة الأبدية (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). [الحج 56-57].
وهذا هو التمكين في ثقافتنا؛ ثقافة العقلاء الأغنياء بقيمهم، وليس البحث عن تحقيق القوة للمرأة من خلال تسوّل الأنظمة، وضغط الاتفاقيات، والمنظمات المشبوهة، التي ترعى المثلية! أو الأسر غير التقليدية! وتسميها (الصحة الإنجابية)!! وتعدها من أساليب تمكين المرأة!(/2)
التمني
والتمني والأمل قرينان , إلا أن الأمل صاحبه يقدم بين يديه سببا , بخلاف التمني فصاحبه يريد شيئا بلا سبب , والتمني ينقسم إلى محمود ومذموم. فما كان من أمر الآخرة فهو محمود ؛ لأن العبد لن يبلغ الجنة بعمله . فهو يتمنى فوق عمله بعد استيفاء الأسباب التي أمر الله بها , فطمع في رحمة الله ؛ فتمنى مالا يبلغه عمله , وما كان من أمر الدنيا!فإن كان عونا على الآخرة فهو محمود , وإن كان من أمر الدنيا محض فهو سفه , ونقص في العقول فإن الدنيا والآخرة ضرتان إن انشغل بواحدة أضر بأختها , ثم لن يأتيه مما تمنى إلا ما قُدِّر له , قال تعالى :{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} (1 )
تأمل قوله تعالى :(حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا)أي وصلوا إلى قمة الغفلة عن الله , واغتروا بما في أيديهم , ونسوا موجدهم , وفرحوا بما عندهم , وبينما هم كذلك بهتهم أمر الله , كما قال تعالى(أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) فأذهبهم الله عز وجل , وأذهب ما بأيديهم .
ولكن من يعتبر بآيات الله , ويقف عند الحقائق التي أوقف الله عباده عليها كما قال تعالى :(كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .
فالتمني المحمود هو رضى الله والجنة مع أخذ الأسباب بما أمر الله به..
قال تعالى :{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)}(2 )
وقال سبحانه :{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)}( 3)
ثم قال سبحانه بعدها مباشرة :
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123)}(4 )
نري الكثير اغتر بحلم الله عليه , وبلطفه به , وبإسباغ النعم ظاهرة وباطنة مع تقصيره وغفلته , فعاش في الأمنية التي عاش فيها أهل الكتاب . كما قال تعالى :{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)} (5 )
قال قتادة :إي والله لخلف سوء بعد أنبيائهم ورسلهم , أورثهم الله وعهد إليهم , تمنوا على الله أماني وغِرّة يغترون بها , لايشغلهم شئ عن شئ , ولا ينهاهم شئ عن ذلك , كلما هفّ لهم شئ من الدنيا أكلوه , لا يبالون حلالا كان أو حراما .( 6)
حسدوا من فوقهم في الطاعات , وبغوا عليهم ؛ وتعالوا على من دونهم في المعاصي , وقتروا عنهم , ويقولون سيغفر لنا !
ومن الخير تمني فعل الخيرات مع أخذ أسبابها , فإن عجز عن إيجاد السبب يؤجر على نيته ؛ وكذلك تمني الشر مع العجز عن إتيانه يأثم صاحبه.
عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا , فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ , وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ , وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا ؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ . وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا , فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ . وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ؛ فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ , وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ , وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا ؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ . وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ , فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. (7 )(/1)
فإذا استغرق العبد في الأماني بدون ضابطٍ من شرع وعجز عن تحقيق الأمنية , حسد من فوقه , وتعالى على من تحته وربما وقع في البغي .
فأول جريمة قتل وقعت بين بني الإنسان سببها الأمنية التي يصعب تحقيقها. وهي كما ذكر المفسرون : أن الله شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال , وكان يولد في كل بطن ذكر وأنثى , فكان يزوج أنثى هذا البطن لأنثى البطن الآخر , وكانت أخت هابيل دميمة , وأخت قابيل وضيئة , فتمناها وأراد أن يستأثر بها , فمنعه آدم إلا أن يُقَرِّبا قُربانا , فقربا , فتقبل من أحدهما , ولم يتقبل من الآخر كما ذكر الله قصتهما .
قال تعالى :{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30)} ( 8)
فالأماني تورث عدم الرضى والسخط على أقدار الله عز وجل عند من لا إيمان له , بخلاف المؤمن الذي يعلم أن تقدير الأمور من عند الله سبحانه , وأن العبد لا ينال من الدنيا إلا ما قُدر له .
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ , إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ , وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ .( 9)
ولذلك إذا انشغل الإنسان بالخير , وأخذ أسبابه مع تمني الغاية في بلوغ مراده نال الأجر العظيم وبلَّغه الله فوق ما تمنى , ورضَّاه بما قُسِم له .
وقتك هو رصيدك ورأس مالك :-
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة , وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم, ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم, وهو يمر أسرع من مر السحاب, فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره, وغير ذلك ليس محسوبا من حياته, وإن عاش فيه عاش حياة البهائم ,فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة , أو كان خير ما قطعه به النوم والبطالة , فموت هذا خير له من حياته , وإذا كان العبد وهو في الصلاة- ليس له من صلاته إلا ما عقل منها, فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله.
فعمرك الذي هو رصيد عملك في هذه الحياة ,يأتي الشيطان فيضيعه عليك بالأماني الكاذبة,فإذا بالعبد يؤمل ويتمنى , حتى يهجم عليه الموت فيرى أنه أضاع دينه ودنياه.
ولذلك انظر إلى حال الشيطان مع أولياءه قال تعالى{.. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراًً (120)}( 10)
انظر إلى قوله تعالى(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) ثم قال عز وجل(وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً)
كم من أناس أقعدهم الوهم , وألهتهم الأماني , وشغلهم الأمل ؛ فضيعوا العمر بدون فائدة . فإذا الأماني والآمال كانت سرابا , وجاء الموت بغتة حين لا ينفع الندم.
وإليك هذا المثال الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للمتمني , والمؤمل , وهو غافل عن أنياب المنايا..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا ؛ وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ ؛ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ . وَقَالَ : هَذَا الْإِنْسَانُ , وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ , وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ , وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا , وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا.. (11 )(/2)
فأما التمني الذي هو من شيم المفلسين , ومن طباع البطالين , مما يرد من الخطرات والفكر, فإما وساوس شيطانية , وإما أماني باطلة , وخدع كاذبة , بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى , والمحشوشين , والموسوسين , فهذا هو الباطل بعينه ، فصاحبه لا نال لذةً في الدنيا , ولا نعيماً في الآخرة .
قال الحسن البصري: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني , إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل .( 12)
أما هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم , وانقطعوا عن خالقهم وباريهم ؛ لسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق :
إِنْ كَانَ مَنْزِلَتي فِي الْحَشْرِ عِنْدَكُمُ
مَا قَدْ لَقِيتُ , فَقَدْ ضَيْعتُ أَيَّامِي
أُمْنِيَّةُ ظَفِرَتْ نَفْسِي بها زَمَناً
والْيَوْمَ أَحْسَبُها أَضْغَاثَ أَحْلامِ
أخي الحبيب : اعلم أن الأماني بحر المفاليس , وأن المتمني قد يكون قاصر العقل , ضعيف الدين , ينظر إلى الحياة بمنظار قاصر ؛ فإذا عاين الحقيقة ندم علي ما تمنى كما وقع مع قوم قارون قال تعالى :{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونََ (80)}(13 )
لما نظر هؤلاء البسطاء الجهال الذين ينظرون إلى الدنيا بمنظار الساعة , وعين الحاضر , لما نظروا إلى المكانة التي تبوءها قارون ؛ انخلعت قلوبهم رغباً للمكانة التي عليها , حتى قالوا : (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
فإذا بهؤلاء الذي تمنوا مكانه ؛ لما خسف الله به , وبأمواله وبدوره , ندموا على ما تمنوا . فهم الذين تمنوا ! وهم الذين ندموا على الأمنية ! وهذا دلالة على قصور عقولهم , قال تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونََ (82)}(14 )
وكذلك ترى المنافقين لما عاشوا في حياتهم على الأماني الكاذبة واغتروا بها , حرموا أعظم نعمة ! نعمة الإيمان ؛ بل كان إيمانهم في الدنيا وميض سرعان ما ينطفئ حتى سلبوا النور بالكلية , وكذلك حالهم في الآخرة .
ألا تعلم أنهم لما حرموا النور يوم القيامة , بخلاف أهل الإيمان , كان من ضمن أسباب حرمانهم: استغراقهم في الأماني كما قال تعالى :{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُُ (14)}( 15)
وربما تتحقق للإنسان أمنيته من الدنيا , ولا يسعفه الوقت في استعمالها , أو لا يجد الصحة التي يقيم بها هذه المتع التي تمناها .
حُكي أن رجلا كان فقيرا في شبابه , وكان يتمنى المال , والعبيد , والجواريَ , والمتع ؛ فلما جاوز السبعين استغنى , وملك , واشترى العبيد الأتراك , والجواريَ من الروم وغيرها؛ فإذا العمرُ قد ولى , والصحة قد تلفت فقال هذه الأبيات:
ما كُنْتُ أَرْجوهُ إِذ كُنْتُ ابنَ عِشْرِينا
مَلَكْتُه بعد أن جاوزتُ iiسَبْعِينا
تَطُوفُ بي مِنَ التركِ iiأغزلةٌ
مثلُ الغصونِ على كثبانِ iiيَبْرِينا
وخُرْدٌ( 16) من بناتِ الرومِ iiرَائِعةٌ
يَحْكيَن بالحُسْنِ حُورَ الجَنَةِ iiالعِينا
يَغْمِزْنَنِي بأساريعَ ( ii17)مُنَعَّمَةٍ
تكادُ تَعْقِدُ من أَطْرَافِها iiلِينا
يُرِدْنَ إِحْيَاءَ مَيْتٍ لا حِرَاكَ iiبِهِ
وكيف يُحْيِين مَيْتَاً صَارَ iiمَدْفُونا
قَالوا أَنِينُكَ طُولَ الليلِ iiيُسْهِرُنَا
فَمَا الذي تَشْتَكِي! قُلْتُ iiالثَّمَانينا
فانظر إلى حال هذا الرجل نال ما تمناه , فإذا أمانيه تحولت إلى عذاب! فما أشقى حال هؤلاء.(/3)
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر ؛ وإنما يضر استدعاؤه , ومحادثته فالخاطر كالمار على الطريق فإن تركته مر , وانصرف عنك ؛ وإن استدعيته سحرك بحديثه , وخدعه , وغروره, وهو أخف شيء على النفس الفارغة الباطلة , وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.فهناك نفوس تسبح عند العرش ، وهناك نفوس لا تتعدى الحش (18 ) .
وقد أحسن من قال :-
أَنْتَ يَا مَفْتُونُ مَا تَبْرَحَ فِي بَحْرِ iiالمَنَاِم
فَدَعِ السَّهْو وبَادِر مِثْل فِعْلِ iiالمُسْتَهِامِ
وَسُحِّ الدَّمْعَ عَلَى مَا iiأَسْلَفْتَهُ
وابْكِ ولا تَلْوِ عَلى عذلِ iiالملامِ
أَيُهَا اللَّائِمُ دَعْني لَسْتُ أُصْغِي iiللْمَلامِ
إِنَّنِي أَطْلُبُ مُلْكاً نَيْلُهُ صَعْبُ iiالَمَرامِ
في جِنَانِ الخُلْدِ والفِرْدَوْسِ في دَارِ السَّلامِ
وَعَرُوسَاً فَاقَتِ الشَّمْسَ مَعَ بَدْرِ iiالتَمَامِ
طَرْفُهَا يُشْرِقُ بالخَطِ مُضِياً iiبالسِهَامِ
ولها صَدْغٌ على خَدٍ كَنُونٍ تحتَ iiلامِ
أحْسَنُ الأَتْرَابِ قَدّا في اعْتِدَالٍ iiوَقَوامٍ
مَهْرُهَا مَنْ قَامِ لَيْلًا وهو يَبْكِي في iiالظَّلامِ
التمني على الله .
فإن العبد إذا تمنىّ على الله فليستكثر , فإن الله لا يعجزه شيء ؛ فخزائن السماوات والأرض بيده ؛ وهو سبحانه وتعالى له الآخرة والأولى ؛ يؤتي العبد فوق ما يتمنى كما قال تعالى{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}(19 )
فأخلص عملك لله , وتمنّ ثم تمنّ , ممن بيده الآخرة والأولى , الخلق جميعا إليه فقراء, وهو الغني ,استمع لهذا الحديث0
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا (20 ) نَفَقَةٌ سَحَّاءُ (21 ) اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ , وَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ , عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ , وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ ؛ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ. (22 )
بل استمع لندائه على عباده سبحانه وتعالى.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ؛ فَلَا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادِي : كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ . يَا عِبَادِي : كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي : كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي : إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . يَا عِبَادِي : إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي , وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي , يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي : لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ , مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ . يَا عِبَادِي : إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ؛ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ( 23)
انظر إلى عظيم فضله على عباده ؛ أنه سبحانه وتعالى منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل :{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} ( 24)
وقال عز وجل :{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)} ( 25)
وقال تعالى :{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ( 26)
فهو سبحانه وتعالى رغم قدرته عليه ؛ ولا يسمى ظلماً لأنه متصرف في حقه سبحانه ، إلا أنه لم يفعله فضلا وتكرما وإحسانا منه إلى عباده .
ثم انظر كيف دعاهم إليه , وقربهم منه ؛ فهو الذي يهدي , وهو الذي يُطعم , وهو الذي يكسي , وهو الذي يغفر الذنوب .(/4)
ثم انظر كيف بين لعباده أنهم جميعاً عجزة , وأنهم فقراء إلي سبحانه , وأن هدايتهم لن تزيد في ملك الله شيئا , وأن ضلالهم لن ينقص من ملك الله شيئا , وأن الخلق جميعا لو وقفوا في مكان واحد واختلفوا في المسألة لأعطى كل واحد ما أراد ؛ دون أن ينقص مما عنده شئ ! ثم أخبرهم أنه سبحانه يحصي عليهم الأعمال ، ثم يحاسبهم بها يوم القيامة فم وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
أخي الحبيب : عظم الأمنية وزد في رغبك ورهبك , وتمنى من ربك ماشئت فإنه لا يعجزه شئ .
رفع الله عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على الأمم الماضية , فغفر ذنوبها ومحا سيئاتها بأقرب رجوع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] قَالَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ , الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا , بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] قَالَ : نَعَمْ . [رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] قَالَ : نَعَمْ . [رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ] قَالَ : نَعَمْ . [وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] قَالَ : نَعَمْ. ( 27)
ثم تتعاظم رحمة الله بعبده عند لقائه ,فيرى من الله البر , والإحسان , والصفح , والغفران , فيتمنى أن ازداد في طاعته , وتفانى في بذل النفس فما دونها.
فهذا الشهيد الذي أكرمه الله عز وجل فقدم روحه وصدق مع الله أتدري ما أمنيته! استمع لهذا الحديث.
عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَن يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ. ( 28)
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمنّي الموت في الدنيا عسى أن يضاف إلى حسناته حسنات, أو يمحى من سيئاته , وما تمنى الشهيد ذلك إلا لما تعاظم أجر الله له.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ. (29 )
وكلما دنا العبد من ربه , قربه الله إليه وعظمه وأدناه , وكانت معية الله معه في السراء والضراء , استمع لهذا الحديث.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي .(/5)
فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي , وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ , وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا , وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا , وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ( 30). (31 )
أماني لا تتحقق
ثم ماذا بعد التمني والأماني والأحلام ! ساعات تضيع , وعمر ينقضي , ربما تحقق ما تمناه العبد وربما لا يتحقق , ويظل العبد غارقا في أمانيه حتى يهجم عليه الموت !!
أتدري ما تكون عندها الأمنية ! الرجوع إلى الدنيا مرة أخري ! لماذا ؟ ليدرك هذا المسكين , ما فاته في الحياة من عمل صالح , ومن قربة إلى الله , وهذا حاله كما وصف ربنا سبحانه وتعالى :{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} ( 32)
انظر إلى الجواب (كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)فلا تنفع الأماني ولا يفيد الندم .
بل نرى من الصالحين من يتمنى الرجوع لما يري من فضل الله عليه فيتمنى أن يزيد في العمل ! ولكن لا تتحقق الأمنية .
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قَالَ : أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ , لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ , تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ , ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً , فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا , فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ؛ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا ؛ قَالُوا يَا رَبِّ : نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا , حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى ؛ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا .( 33)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ؛ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ , وَتَرَكَ عِيَالًا , وَدَيْنًا . قَالَ : أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؛ قَالَ : قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ؛ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا . فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً ؛ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ . قَالَ : وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الْآيَةَ .( 34)
ثم ما ذا بعد !!
وهو في قبره يتمنى ! أتري ما الأمنية ! يتمنى ركعتين خفيفتين ! ولو خير بينهما وبين الدنيا وما فيها إلى قيام الساعة , لاختار الركعتين.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثاً فَقَالَ : رَكْعَتَان خَفيفَتَان , مِمَّا تَحْقِرون , وتَنْفِلُون , يَزيدُهما هَذَا في عَمَلِه , أحبّ إِلَيْهِ مِنْ بَاقِي دُنْيَاكُم .( 35)
ثم ماذا بعد ! أتدري ما هي أماني أهل النار ! أمانيهم الهلاك !
قال تعالى{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} (36 )
فيا عبد الله كلما راودتك أمنية فاعرضها على شرع الله ؛ فإن كانت لله فزينها بالإخلاص والعمل , وإن كانت لغير الله ؛ فأغلق عنها قلبك وعقلك , واطرحها جانبا , فإن الانشغال بها مهلكة عظيمة .
إياك والأماني التي هي أشبه بالأحلام , فإنها مصيدة إبليس لك ليكدر عليك قلبك , ويضيع عمرك , ويعطل سيرك إلى الله . اجعل أمانيّك واقعاً وحقيقة , حقق منها ما استطعت في الدنيا قبل أن يأتي الوقت الذي لا تحقق فيه أمنية .(/6)
قال إبراهيم التيمي : مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها وآكل من سخينها , وأشرب من زمهريرها , فقلت : يا نفسي أي شئ تشتهين ؟, قالت : أرجع إلى الدنيا أعمل عملا أنجو به من هذا العذاب . ومثلت نفسي في الجنة مع حورها , وألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها , فقلت : يا نفسي أي شئ تشتهين ؟ قالت : أرجع إلى الدنيا فأعمل عملا أزداد من هذا الثواب , فقلت : أنت في الدنيا وفي الأمنية .( 37)
أخي الحبيب : رغم تكاثر الذنوب والاستغراق في الأماني , إلا أن باب التوبة مفتوح , فعجل قبل حلول الأجل وانقطاع العمل , أو الوقت الذي لا تنفع فيه الأمنية ولا يطلبه الأمل .
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا .( 38)
أماني تتحقق
فإذا عجز الإنسان عن العمل مع أخذ أسبابه , ثم تمنى لو قدر على العمل أن يأتيه ؛ أعطاه الله أجره ؛ استمع لهذا الحديث : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ .( 39)
وكذلك ما مر بنا من حديث أبي كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : [وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا , وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ , فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ]
فهذه الأماني إن لم تتحق في الدنيا , يأخذ صاحبها الأجر في الآخرة إن صدقت نيته .
هل تعلم يا عبد الله أن النعيم في الجنة بالأمنية قال تعالى :{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} ( 40)
فما تمنى من طعام وشراب ووَصْلٍ ؛ فالكل مجاب .
وهذا عبد نجى من النار بعد أن لاقى الأهوال , حتى تخيل أنه ما نجى غيره , وكانت هذه غاية أمنيته , أن ينجو من النار , ولكن انظر إلى أمانيه بعد أن أنجاه الله من النار:(/7)
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً , وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ : تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ , لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا , فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ : لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا , فَيَقُولُ : لَا يَا رَبِّ وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا , وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ , فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا , ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنْ الْأُولَى . فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا , فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ : أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا . فَيَقُولُ : لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا , فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا , وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ , فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا , وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا , ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنْ الْأُولَيَيْنِ , فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا , لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا , فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ : أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا . قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا . وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا , فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِيهَا ؛ فَيَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ : مَا يَصْرِينِي ( 41) مِنْكَ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا , قَالَ يَا رَبِّ : أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ , فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ , فَقَالَ : أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ , قَالَ : هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ , فَيَقُولُ : إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ .(42 )
يقول ابن القيم في "نونيته"
وطَعامُهُم مَا تَشْتَهِيه iiنُفوُسُهُم
ولُحُومُ طَيِرٍ نَاعِمٍ iiوَسِمَانِ
وفَوَاكِهٌ شَتَّى بحسْبِ iiمُنَاهُم
يا شَبْعَة كَمُلت لِذي iiالإِيمانِ
لَحْمٌ وخَمْرٌ والنِّسا وفَوَاكِهٌ
والطِّيبُ مَعْ رَوْحٍ ومَعْ رَيْحَانِ
وصِحَافُهُم ذَهَبٌ تَطُوفُ iiعَليْهِمُ
بِأَكُفِ خُدَّامٍ مِنَ iiالولْدَانِ
فالدنيا دار عمل وجد ؛ ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها , فسارع وسابق وإياك والأماني التي تعطلك عن سيرك إلى الله .
تمني الموت !
لا ينبغي للعبد أن يتمنى الموت مهما بلغ به الضر ؛ فربما لو صبر على ضره نال أعلى الدرجات , ولعله فيما بقي من عمره أن يرزق العمل الصالح أو يقلع عن معاصيه وذنوبه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ , وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ .( 43)
فإن العبد في فسحة مادام قي الدنيا ؛ فينبغي أن يؤمل العفو ، والفضل من الله ؛ وأن يقدم الرجاء ، وأن يطمع في رحمة الله عز وجل .
ويجب على العبد أن يَجِدَّ في الطاعات , ويُلقي بقلْبهِ على أعتابِ الذل بين يدي ربه تبارك وتعالى , قبل أن يأتي الوقت الذي يتمنى فيه العبد ؛ أن يتقرب بطاعة فلا يستطيع , أو أن يقلع عن معصية فلا يستطيع , بل يتمنى الموت فلا يجده .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ , وَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ .( 44)(/8)
ولقد اختلف العلماء في تمني الموت . فأجازه جماعة عند حلول الفتن , وعدم القدرة على إتيان الطاعة , وتعاظم الأمر , وازدياد الخطب , وشدة البلاء .
واستدل البعض بتمني يوسف الموت لما أتم الله له النعم , ومنَّ عليه بالملك والنبوة ؛ اشتاق إلى الصالحين قبله ، كما في قوله تعالى :{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} (45 )
وكذلك ما وقع لسحرة فرعون ؛ حينما أرادهم فرعون عن دينهم ؛ وتهددهم بالقتل كما قال تعالى عنهم :{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} ( 46)
وكذلك تمنت مريم الموت ؛ حينما جاءها المخاض إلى جذع النخلة , ولم تكن ذات زوج فخشيت أن تقذف بالفاحشة . قال تعالى : { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً (23)} ( 47)
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى عن ابن عباس : (وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ ) (48 )
[من كتاب مكدرات القلوب للشيخ]
________________________________________
( 1) [سورة يونس 10/24]
(2 ) [سورة الإسراء 17/19]
(3 ) [سورة النساء 4/122]
( 4) [سورة النساء 4/123]
( 5) [سورة الأعراف 7/169]
(6 ) "ابن كثير "عند ذكر الآية .
(7 ) حسن : الترمذي(2325)ابن ماجة(4228)أحمد(17570)
(8 ) [سورة المائدة 5/27-30]
( 9) مسلم(2999)
( 10) [سورة النساء 4/117-120]
( 11) البخاري(6417)
( 12) ابن أبي شيبة"المصنف"(7/35218)
( 13) [سورة القصص 28/79-80]
(14 ) [سورة القصص 28/81-82]
(15 ) [سورة الحديد 57/13-14]
( 16)خُرْد : البكر التي لم تُمْسَسْ , جمع خَرُود.
( 17)أساريع : عصب في اليد .
( 18) الحش : أي أماكن قضاء الحاجة
(19 ) [سورة إبراهيم 14/34]
(20 )يَغِيضُهَا : ينقصها .
(21 )سَحَّاءُ : كثير العطاء والبركة .
( 22) البخاري(7411)مسلم(993)
( 23) مسلم(2577)
(24 ) [سورة آل 3/108]
( 25) [سورة طه 20/112]
( 26) [سورة النساء 4/40]
(27 ) مسلم(125)
( 28) البخاري(2817) مسلم(1877)
(29 ) البخاري(7235)مسلم(2682)
( 30)هَرْوَلَةً : الإسراع بين العدو والمشي .
( 31) البخاري(7405)مسلم(2675)
( 32) [سورة المؤمنون 23/99-100]
(33 ) مسلم(1887)
(34 ) حسن :الترمذي(3010)ابن ماجة(190)
(35 ) حسن :ابن المبارك"الزهد"(31)
(36 ) [سورة الزخرف 43/77]
(37 ) أبو نعيم"الحلية"(4/211)
(38 ) مسلم(2759)
( 39) البخاري(2839)
(40 ) [سورة الزخرف 43/71]
(41 ) الصر : الحبس والمنع .
( 42) مسلم(187)
(43 ) البخاري(7235)
(44 ) مسلم(157)
(45 ) [سورة يوسف 12/101]
( 46) [سورة الأعراف 7/126]
( 47) [سورة مريم 19/23]
( 48) حسن :الترمذي(3233)أحمد(3474)(/9)
التمييز بين الأبناء في العطايا
السؤال:
أفتونا مأجورين في امرأة لها أبناء و لديها أموال ، و اقترض منها أحد بنيها مبلغاً من المال ليدخل به في أحد المشاريع التجارية ، و لكنه فشِل فشلاً ذريعاً ، و خسر كل ماله ، فهل عليها وزر إن لم تنحل سائر أبنائها مثل ما نحلت هذا الابن ؟
الجواب :
الحال المذكورة في السؤال ليست ممّا تجب فيه المساواة في العطيّة ، و ليس على الأمّ أن تمنح سائر أبنائها مثل ما أعطت أحَدَهم قَرضاً ؛ لأنّ الواجب المساواة بينهم في الهبة و حَسْب ، و لا يُقاس الدَينُ على الهبة في الحُكم ، لوجود الفارق بينهما .
و ما دام المبلغ المشار إليه قد قَبضَه الابن على سبيل الدَينْ ، فإنّه يبقى في ذمّته ، و يحب عليه ردّه إلى مُقرِضِه ( و هي أمّه ) عند التمكّن .
أمّا إن وَضَعت الأمّ الدَينَ عن وَلَدِها المَدين ، فتتحوّل المسألة إلى مسألةِ تخصيص أحد الأبناء بمنحة دون الآخرين ، أو تفضيلُ بعضٍ على بعضٍ فيها ، و هذا ممّا نهى عنه الشارع الحكيم ، و كرهه جمهور ( و هذا مذهب الحنفيّة و المالكيّة و الشافعيّة ) ، و حرّمه بعضهم ، لحديث النعمان بن بشير بن الحصاصية رضي الله عنهما قال : أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال إني نحلت ابني هذا غلاماً فقال : ( أكل بنيك نحلت ؟ ) قال : لا ، قال : ( فاردده ) [ رواه الستة و غيرهم بألفاظ متقاربة ] .
و الراجح عندنا أنّه مكروه ، و ليسَ حراماً ، لأنّه وَرَد في بعض روايات الحديث التي أخرجها أحمد في مسنده و أبو داود في سننه ، قوله عليه الصلاة و السلام : ( أشهد عليه غيري ) ، و لو كان محرّماً على القطع ، لما أرشَده إلى إشهاد غيره عليه .
جاء في عون المعبود بشرح سنن أبي داود : ( لو وهب بعضهم دون بعض فمذهب الشافعي و مالك و أبي حنيفة رحمهم الله أنه مكروه ، و ليس بحرام و الهبة صحيحة .
و قال أحمد و الثوري و إسحاق رحمهم الله و غيرهم : هو حرام ، واحتجوا بقوله : ( لا أشهد على جور ) ، و بقوله : ( و اعدلوا بين أولادكم ) ، و احتج الأوّلون بما جاء في رواية ( فأشهد على هذا غيري ) ، و لو كان حراماً أو باطلاً لما قال هذا ... فإن قيل : قاله تهديداً , قلنا : الأصل خلافه ; و يُحمَل عند الإطلاق صيغة فعل على الوجوب أو الندب , و إن تعذر ذلك فعلى الإباحة . و أما معنى الجور فليس فيه أنه حرام لأنه هو الميل عن الاستواء و الاعتدال ، و كل ما خرج عن الاعتدال فهو جور سواء كان حراما أو مكروها ذكره في المرقاة ) .
و بالله التوفيق ، و منه السداد ، و عليه الاتكّال .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين(/1)
التنازل عن بيت المقدس عندما تباع المقدسات
المكان/ بيت المقدس ـ فلسطين.
الموضوع/ السلطان محمد الكامل الأيوبي يتنازل طواعية عن بيت المقدس للصليبيين.
الأحداث/
مقدمة:
مفكرة الإسلام : من يملك حق التكلم أو التفاوض عن مقدسات هذه الأمة؟ أو يتخذ قرارات بشأنها؟ من يستطيع أن يحدد مصير هذه المقدسات أو يتصرف في أمرها؟
إن من يملك هذه المقدسات هو وحده الذي يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، والإجابة الوحيدة عن هذه الأسئلة أن الأمة الإسلامية بأسرها عرب وعجم قريب وبعيد هي صاحبة ومالكة كل القرارات الخاصة بهذه المقدسات، فلا يستطيع أحد مهما كان شأنه وعلو مكانه أن يتصرف وحده فيما يخص مقدسات الأمة الإسلامية، فهي ملكية عامة لكل مسلم فيها نصيب باستخلاف الله عز وجل لهذه الأمة على هذه المقدسات ، وهذا الحق العام والرأي الجماعي فيما يخص تلك المسألة هو الضمان الأمثل من الوقوع في أمثال تلك الخطايا الكبرى التي ارتكبت قديمًا وترتكب حديثًا والضحية في النهاية مقدسات الأمة وكرامتها.
البلاد بعد صلاح الدين:
أنقذ الله عز وجل أمة الإسلام بصلاح الدين الأيوبي في فترة حاسمة من حياة ومصير البلاد وتصدى صلاح الدين لنيل شرف مهمة استعادة بيت المقدس، وقاد حملة جهادية ضد الوجود الصليبي بالشام طيلة عشرين سنة استطاع خلالها أن يستعيد بيت المقدس سنة 583 هـ، ويتصدى لثلاثة حملات صليبية متتالية، ثم مات رحمه الله في 27 صفر سنة 589هـ. وبموته تفرقت البلاد بالشام ومصر بعدما كانت مجتمعة كلها تحت قيادته بين أبنائه وهذا التفرق دائمًا قرين الخذلان والفشل وأول مقدمات التسلط والاستعداء، وبالفعل دب الخلاف بين أبناء صلاح الدين خاصة؛ بين العزيز عثمان [صاحب مصر]، والأفضل علي [صاحب دمشق].
ـ تعدى هذا الخلاف إلى طور الحرب والقتال مما استدعى تدخل الملك محمد أبي بكر الأيوبي الملقب بالعادل، أخي صلاح الدين، ورفيقة على درب الجهاد المقدس من البداية، وكان من أكثر الناس حزمًا وسياسة وعدلاً استطاع أن يقضي على هذا الخلاف وأن يتخذ الخطوة الصحيحة في هذا الظرف الراهن، فأعاد توحيد الجبهة الشامية والمصرية تحت إمرته وعادت للبلاد وحدتها وقتها. [[وفي ذلك درس وعبرة في أسباب النجاح وعوامل الفشل مهما كانت قوة البلاد وتقدمها طالما كانت متفرقة ومختلفة فإن الهزيمة والفشل هو طريقها ولو بعد حين]].
ـ ورغم حكمة الملك العادل الأيوبي ورؤيته لما جرى للبلاد عندما تقسمت بين أبناء صلاح الدين وحجم الخلاف الذي وقع بينهم إلا أنه لم يستفد من هذا الدرس المجاني من أبناء أخيه وأقدم على نفس الخطأ فقسم البلاد بين أبنائه الثلاثة كالآتي:
ـ الأمير محمد الملقب بالكامل: على الديار المصرية وفلسطين.
ـ الأمير عيسى الملقب بالمعظم: على دمشق وباقي الشام.
ـ الأمير موسى الملقب بالأشرف: على منطقة الجزيرة 'بين الشام والعراق'.
ولاستمرار الحملات الصليبية على الشام ومصر لم يظهر بين هؤلاء الثلاثة خلافات بسبب تصديقهم للحملات الصليبية واشتغالهم بقتال الأعداء عن الخلافات المتوقعة.
ـ الحملة الصليبية الخامسة:
ـ لم يكف أبدًا الباباوات في روما عن إثارة عزائم وحفائظ ملوك وأمراء أوروبا من أجل استئناف سلسلة الحملات الصليبية التي هدأت قليلاً بعد وفاة صلاح الدين والفشل المدوي للحملة الصليبية الرابعة التي بدلاً من أن تتجه لقتال المسلمين بالشام اتجهت إلى قتال النصارى الأرثوزكس بالقسطنطينية وذلك سنة 600هـ، واستغل البابا 'أنوسنت' الثالث فرصة موت الملك المجاهد العادل الأيوبي وحشد جيشًا كبيرًا يقوده الفارس 'جان دي بريين' وكان مرشح البابوية ليكون ملكًا على بيت المقدس إذا استعادها من المسلمين.
ـ قررت هذه الحملة التوجه إلى دمياط لاحتلال مصر التي تمثل مركز الثقل في المنطقة وكان أمير مصر وقتها هو محمد الكامل الذي تصدى للحملة بمنتهى الشجاعة وطلب المساعدة من أخويه بالشام والجزيرة، بفضل الله عز وجل وحده ثم بطولات الشعب المصري استطاع المسلمون هزيمة تلك الحملة الخامسة التي ارتكب قائدها خطأ تعبويًا عسكريًا أدى لوقوعه في منطقة غيطان النيل وغرق معظم أفراد الحملة الجائرة.
ـ الإمبراطور فريدريك الثاني:
ـ توقف نشاط الحملات الصليبية بعض الوقت حتى حركها الإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور الدولة الجرمانية المقدسة وذلك سنة 625هـ بأن لبس شارة الصليب ـ وهذا إعلان بالخروج لحملة صليبية جديدة ـ وكان الخلاف بينه وبين بابا روما 'هونوريوس الثالث' شديدًا وذلك لأن فريدريك قد وعد البابا يوم اعتلائه لعرش الدولة الجرمانية بأنه سيشن حملة صليبية هائلة يستعيد بها بيت المقدس، ثم تراخى فريدريك عن ذلك واشتغل بأملاكه في منطقة صقلية ولومبارويا مما أدى لاصطدامه مع بابا روما الذي كان يعلن دائمًا أن منطقة إيطاليا وما حولها أملاك خاصة بالبابوية.(/1)
ـ أقدم فريدريك على خطوة أخرى زادت من حنق وغضب 'هونوريوس' عليه وذلك أنه تزوج من إيزابيلا ابنة جان دي بريين قائد الحملة الخامسة الفاشلة على دمياط والذي كان مرشحًا من قبل ـ كما ذكرنا ـ لإمارة بيت المقدس، وقد أعلن فريدريك بعد هذا الزواج أنه الأحق بملك بيت المقدس، وأظهر أنه خارج بقيادة الحملة الصليبية السادسة على بلاد الإسلام.
ـ خرج فريدريك يقود الحملة الصليبية السادسة دون أن يأخذ موافقة البابا مما أدى لغضبه عليه بشدة ثم تحول هذا الغضب إلى ثورة عارمة عندما ترك فريدريك الأسطول وعاد مسرعًا بحجة المرضى ودوار البحر، وهذا الأمر عمَّق الخلاف بشأن تلك الحملة فكان من المقدر لها أن تفشل كما حدث مع الحملة الرابعة والخامسة، ولكن الأغرب هو ما جرى على الجبهة الداخلية للمسلمين.
ـ المسلمون إلى أين؟
ـ كلما كانت الظروف عصيبة والمواجهة على أشدها كلما كان ذلك يقتضي من المسلمين الحيطة والحذر والمرابطة والاتحاد، خاصة من كان على ثغور الإسلام، ونعني بذلك الشام ومصر، ولكن الأمر العجيب حقًا أن يشاهد المسلمون ما جرى لهم مرات ومرات جراء تفرقهم واختلافهم وتناحرهم وأن عدوه على بابهم ينتظر هذه الفرصة لينقض عليهم ... وقد حدث ... ومع ذلك هم يعادون الكرة المرة بعد المرة ثم هم لا يتعظون ولا ينتهون، فلقد سبق وأن تسلط الصليبيون في الحملة الخامسة عندما افترق الصف وتناحر الإخوة، ومع ذلك عادت النغمة الرديئة فاختلف الأمير محمد الكامل مع أخيه الأمير عيسى المعظم على الحدود المشتركة بينهما، وطمع كلاهما في الآخر، واشرأب الخلاف بينهما ونجمت الصراعات العلنية، وطارت أخبار ذلك للصليبيين فقاد فريدريك حملته السادسة.
ـ ظهر تهديد آخر على ساحة الأحداث يوضح مدى ضياع الرابطة الإيمانية بين المسلمين وكيف أن الدنيا أهلكتهم كما أخبر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذا التهديد كان متمثلاً في القبائل الخوارزمية المسلمة التي هاجرت من ديارها تحت وطأة الاكتساح التتاري لبلادهم، وكانت هذه القبائل قوية وشرسة وصمدت طويلاً أمام التتار، ولكنها انهارت أمام الضربات الساحقة للتتار، توجهت هذه القبائل هائمة على وجهها ناحية منطقة الجزيرة والشام واشتبكت في معارك كثيرة مع المسلمين هناك، مما أوجد ضغطًا كبيرًا على المسلمين بالشام فمن يواجهون؟ الصليبيين أم إخوانهم المسلمين.
ـ بريق الكراسي:
ـ عاود فريدريك المسير ناحية الشام بعد ضغوط كنسية ولحق بالحملة عند مدينة عكا وانضم إليه ملك جزيرة قبرص الصليبي 'آندرو دي لوزينان' فاستولت الحملة على مدينة صور وصيدا، وانتشرت الشائعات عن قوة هذه الحملة وضخامتها، وعم الإرجاف بالشام ومصر، ولكن فريدريك كان يضمر في نفسه شيئًا آخر؛ فلقد كان يخطط منذ خروجه بهذه الحملة على عدم القتال والتفاوض مع المسلمين.
ـ كان فريدريك يخشى على أملاكه بأوروبا إذا دخل في قتال طويل مع المسلمين خاصة بعد صراعه وخلافه الحاد مع بابا روما 'هونوريوس' قبل الخروج للقتال، فأرسل إلى الأمير محمد الكامل أمير مصر يعرض عليه أن يتنازل محمد الكامل عن بيت المقدس ـ وكان من ضمن أملاكه مع مصر ـ نظير أن يرجع فريدريك عن غزو مصر وباقي بلاد الشام، ويتعهد بمنع الحملات الصليبية مهما كانت ومن أي مكان على الشام ومصر، ويعقد حلفًا مع المسلمين لمدة عشر سنين ونصف لا يحاربهم فيه أبدًا، وأيضًا يمنع المدد والمؤن عن باقي الأمراء الصليبيين بالشام، ويتعهد أيضًا بحفظ المسجد الأقصى وإعطاء المسلمين الحرية التامة في ممارسة شعائر دينهم.
ـ كان الأمير محمد الكامل يحب الدعة والسكون ويكره القتال رغم بطولاته الرائعة في صد الحملة الصليبية الخامسة على دمياط، وكان أيضا محبًا للملك والإمارة، وقد أعماه بريق الكرسي وأثر ملكه وماله وضياعه على مقدسات الأمة فوافق على العرض الذي تقدم به فريدريك، وتنازل عن بيت المقدس في ربيع الآخر سنة 625هـ طواعية بلا ضرب ولا جهد، وتسلمها الصليبيون غنيمة باردة، وعُدَّ ذلك إهانة عظيمة ومصيبة كبيرة، وركب المسلمون في أرجاء البلاد الهم والحزن والبكاء عن هذا الخزي والدنية التي قام بها محمد الكامل الذي آثر الدنيا وحبها عن الدفاع عن المقدسات.
ـ وكان محمد الكامل صاحب همة في العمل والعمران وتقدمت الديار لمصرية في عهده تقدمًا كبيرًا بفضل ما قام به من إصلاح الري وتحسين حال الزراعة، وبني المدارس العلمية، ولكن ما يساوي ذلك كله بجانب تفريطه في المقدسات من أجل مكاسب زائلة وأوهام فانية، فارتكب غلطة شنيعة أهالت التراب على كل تاريخه وجهاده السابق، وذهب ملكه بعد ذلك بقليل، فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وبقيت ذاكرة الأمة تحفظ له هذه الغلطة البالغة.
ـ الزنديق الأكبر:(/2)
ـ الأمر العجيب الذي يبكي العيون حقًا ويدمي القلوب فعلاً هو رد فعل الصليبية العالمية وكبيرها 'هونوريوس' على هذه المعاهدة بين الصليبيين والمسلمين؛ حيث أرسل إلى فريدريك يسبه ويشتمه ويقول له: 'إن الفرسان الصليبيين لا يذهبون إلى بلاد المسلمين من أجل التفاوض، وإنما من أجل القتال وسفك الدماء'. ثم أصدر قرارًا كنسيًا بحرمان فريدريك من الرحمة وطرده من الكنيسة للأبد، ومن يومها أطلق على فريدريك لقب 'الزنديق الأكبر'، واشتهر بهذا الاسم في كتب التاريخ الأوروبية، بل أرسل البابا له مجموعة خاصة من أجل اغتياله ولكن فريدريك نجا من هذه المحاولة.
[[يا لها من عصبية وحقد أعمى على المسلمين ما زال المسلمون يتجرعون لوقتنا الحاضر من حملات صليبية أمريكية وإنجليزية على بلاد المسلمين، فهم ما جاءوا للحرية ولا للعدل ولا للإصلاح، إنما جاءوا للسفك والقتل والاغتصاب واحتلال البلاد، واسألوا أهل العراق وسكان أبي غريب]].(/3)
التناسب في أسلوب القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية-جامعة إب، اليمن
القرآن الكريم يستحوذ على السمع ويؤثر في النفوس سلباً أو إيجاباً، وذلك حسب طبيعتها فاجرةً أو تقيةً {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7-10]، فإن كانت فاجرةً فهي تنفر من القرآن وتشمئز منه، وإن كانت تقيةً فهي خاشعةٌ ووجلةٌ لذكر الله.
فإن قيل: ما سر توجهك للحديث عن تأثير القرآن في النفوس واستحواذه على السمع قبل غيره من وجوه الإعجاز؟
فأقول: لتدرك الحكمة في الخطاب الإلهي الذي يبدأ بذكر السمع قبل غيره من الحواس فقال تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء:36] ، وقال: { وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78].
فلتكن أيها العاقل ممن قال الله تعالى فيهم: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آلعمران:193]، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21].
ولا كالذي {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:8] فأقبل ولا تخف، و {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16].
فدعنا نتأمل هذا البناء الإلهي المعجز تأملاً صادقاً، وننظر فيه بإمعانٍ فلا توغل في الدخول إليه دفعةً واحدة، بل خطوةً إثر خطوةٍ لتعقل ما تقف عليه وما تشاهده من أمور تثير إعجابك وتملك عليك سمعك وبصرك، تدبر في حدود سور هذا الكتاب العظيم، على الإطار العام فيها، ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها، فهذا أحد أمور الإعجاز للقرآن الكريم.
إذ أن القرآن نزل منجماً في أجزاءٍ طويلةٍ و أخرى قصيرةٍ خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً، إلا أن هذه الأجزاء رتبت ترتيباً لا مثيل له على الإطلاق في أي كتابٍ من كتب الأدب أو العلوم التي هي من تصنيف البشر.
فسور القرآن الكريم لم ترتب حسب موضوعاتها، ولا حسب زمن نزولها، إنما للقرآن طريقته المستقلة المخالفة لما هو مألوفٌ عند البشر في الكتب والمصنفات.
عندما كان ينزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بعض من يكتب الوحي بوضعها في مواضع محددة من السور التي لم تكن قد اكتملت بعد، وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضعٍ ما فإنها تبقى ثابتةً في موضعها الذي أمر عليه الصلاة والسلام بوضعها فيه من السورة دون أن يطرأ على ذلك الوضع تصحيحٌ أو تعديل، وهذا أكبر دليلٍ وأسطع برهانٍ على ربانية هذا الكتاب {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } [الشعراء:192-193]، وقال تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}.
عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص ببصره ثم صوّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض قال: ثم شخص ببصره فقال: "أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [1].
قال الزركشي: فأما الآيات في كل سورةٍ ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفيٌ بلا شكٍ ولا خلاف فيه[2].
ترتيب السور في القرآن الكريم:
قد مرّ معنا أن ترتيب القرآن لا مثيل له على الإطلاق في الكتب والمصنفات، فلم يرتب حسب الترتيب الزماني ولا حسب الموضوعات إنما له طريقته الخاصة.
لكن بعض العلماء غفر الله لهم يذكر أن ترتيب السور اجتهاديٌ بخلاف ترتيب الآيات، وبعضهم يذكر أن ترتيب السور بعضه توفيقي اجتهادي وبعضه توقيفي وعمدتهم في ذلك الاستدلال بحديثٍ يرويه يزيد الفارسي عن ابن عباس و سنأتي للكلام على هذا الحديث.
وبناءً على ما تقدم من قول بعضهم أن الترتيب توفيقي، فقد قالوا لا فائدة من البحث عن التناسب والارتباط بين الآيات والسور لأن القرآن نزل منجماً في مدة ثلاثٍ وعشرين سنةً وفي مناسباتٍ مختلفة.(/1)
ولكن هذا الكلام لا يسلم من الاعتراض عليه بل يجنح عن الصواب إذا قلنا أن القرآن من أهم المعجزات الشاهدة على رسالة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام بل هي أبقى المعجزات وأبينها، ومعلوم بالبداهة أن حسن الترتيب من أكبر محاسن الكلام البليغ، ونحن نعتقد بأن القرآن معجزٌ فهل نرضى بأن يكون عارياً عن حسن الترتيب والتناسق ؟!!
وكيف نترك النظر في فهم ارتباط معانيه وتناسق آياته وسوره وإتقان ترتيبها؟ والله عز وجل أمرنا بتدبر هذا الكتاب الكريم فقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [ النساء 82 ]
وقد وصف الله تعالى هذا الكتاب بكونه محكماً {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [ الزمر: 28]، وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } [ الإسراء 106 ]
فكونه أنزل على مدى سنين متطاولةٍ وبمناسباتٍ مختلفةٍ متفاوتة، فهذا دليل بين على إعجازه لأنه كلام عالم الغيب والشهادة: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء 88 ]
وربما يحط عندك قدر خطيب مصقع أتى بفنون من البلاغة وأثر في النفوس بخلابة بيانه لمحض أنه ذهل عن ربط الكلام فهام من وادٍ إلى وادٍ، مع أنه معذور لأنه ألقى خطبته ارتجالاً ولم يعمل فيها النظر والروية، وما مؤاخذاتك لذلك الخطيب إلا لأن الكلام البليغ لا يحتمل سوء الترتيب، فإذا كان الأمر كذلك، أليس من الموقن بإعجاز القرآن أن يثبت حسن نظمه وإحكام ترتيبه وتناسق آياته وسوره؟![3]
ماذا قال العلماء في موضوع التناسب والترتيب ؟
- قال الفخر الرازي:
"علم المناسبات علمٌ عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول".
- وقال الزركشي:
"وقال بعض مشايخنا المحققين: وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبةٌ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبةً سوره كلها و آياته بالتوقيف"[4].
- وفي معترك الأقران للسيوطي:
إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارةً ويظهر أخرى. [1/52].
- وقال السيوطي: علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته[5].
- وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني:
إن القرآن تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكةٌ واحدةٌ ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقةٌ مفرغة، أو كأنه سمطٌ وحيد وعقدٌ فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقاً لأوله، وبدا أوله مواتياً لآخره[6].
- وقال الشيخ محمد عبد الله دراز:
(أجل إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعاً من المباني جمعت عفواً، فإذا هي لو تدبرت بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسسٍ و أصول،ٍ وأقيم على كل أصلٍ منها شعب وفصول، و امتد من كل شعبةٍ منها فروعٌ تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيانٍ واحدٍ قد وضع رسمه مرةً واحدةً، لا تحس بشيءٍ من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيءٍ من الانفصال في الخروج من طريقٍ إلى طريقٍ، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام، والالتحام، كل ذلك بغير تكلفٍ ولا استعانةٍ بأمرٍ من خارج المعاني أنفسها، إنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرضٍ ومقطعه وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً[7].
وغير هؤلاء من العلماء كثيرٌ من المتقدمين و المتأخرين الذين يهتمون بعلم التناسب والربط بين السور و الآيات.
الأدلة من الكتاب والسنة على أن ترتيب السور توقيفي :
والأدلة التي استند إليها العلماء القائلون بأن ترتيب السور توقيفي وليس اجتهادي، كثيرةٌ منها:
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر 9 ].
وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [ هود 1 ].
وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [ النساء 82 ].
وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17](/2)
والجمع كما قال المفسرون على معنيين : جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ، وجمعه بمعنى تأليفه.
وفي الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلةٍ من شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة[8].
وعن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عامٍ مرةً فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عامٍ عشراً فاعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين[9].
وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } الإسراء 106 [10].
وقال أوس بن حذيفة الثقفي: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزّبون القرآن ؟ قالوا: ثلاثٌ وخمسٌ وسبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده[11].
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: (يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال في شهر، قال: إني أقوى من ذلك. ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: اقرأه في سبع، قال: إني أقوى من ذلك. قال: لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث) [12].
ردّ أدلة القائلين بأن ترتيب السور اجتهادي
اعتمد القائلون بأن ترتيب السور مسألةٌ توفيقيةٌ اجتهادية على حديثٍ رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس وهذا نصه:
عن يزيد الفارسي قال: سمعت ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين و إلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ؟
قال عثمان: كان النبي صلى الله عليه وسلم مما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية و الآيتان فيقول مثل ذلك وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم .
هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد .
قال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه وتعليقه عليه في المسند رقم [399]: في إسناده نظرٌ كثيرٌ، بل هو عندي ضعيفٌ جداً، بل هو حديثٌ لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على (يزيد الفارسي) الذي رواه عن ابن عباس، تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة الأعرابي . وهو ثقة.
ثم قال الشيخ أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيكٌ في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا أنه حديثٌ لا أصل له تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث .
ثم قال الشيخ محمد أمين المصري بعد أن نقل كلام الشيخ أحمد شاكر وغيره من العلماء المحققين كالعلامة محمد رشيد رضا .
قال: "وبعد هذا البحث الذي لا ندعي له الكمال و الاستيفاء نريد أن نخلص إلى أن الذي نؤمن به من غير ريبٍ أن الذي بين دفتيّ المصحف كتاب الله جل شأنه أنزله على نبيه لا مدخل للبشر في صفةٍ من أوصافه ولا في حرفٍ من حروفه ولا مجال للاجتهاد في ترتيب آياته ولا في ترتيب سوره بحيث أثبتت البسملة فإنما أثبتت بأمر الله، وحيث حذفت فإنما وقع ذلك بأمر الله".
وإنما الريب في مثل هذه الرواية التي سبق ذكرها التي تحيط بها الشكوك وتحفها الأوهام، ومن عجبٍ أن ينطلي أمر مثل هذه الرواية على بعض العلماء، كما مرّ لدى البيهقي والسيوطي ولعلهما أخذا بتحسين من حسنها وتصحيح من صححها والعصمة من الخطأ لله وحده[13]. أ.هـ .
وهل من أدلةٍ أخرى للقائلين بعدم كون الترتيب توقيفياً ؟
نعم، مما استدلوا به أيضاً اختلاف مصاحف الصحابة فمنهم من رتبها على حسب زمن النزول كمصحف علي رضي الله عنه، ومصحف عبد الله بن مسعود كان أوله سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران.
والجواب: أن تلك المصاحف مصاحف علمٍ وتأويل قصدوا بها ضبط وقائعٍ معينةٍ، وكان فيها المنسوخ تلاوةً، فلم تكن تلك المصاحف مصاحف تلاوة .(/3)
ولو كان ترتيب سور القرآن الذي جمع عثمان الناس على أساسه قائماً على الاجتهاد لما قبل هؤلاء الصحابة بتسليم مصاحفهم وعرضها للتحريق والتنازل عنها ولو كانت المسألة مسألة اجتهاد لتمسكوا باجتهادهم، إذ لا يلزم المجتهد أن يقلد مجتهداً آخر[14].
أنواع التناسب في القرآن :
مناسبة السورة للسورة التي تليها .
التناسب بين مطلع السورة وختامها .
المناسبة بين الآيات .
الوحدة الموضوعية لكل سورة .
التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسقٍ خاصٍ يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة .
ما الفائدة المرجوة من اعتبار ترتيب السور توقيفياً؟ وما الثمرة التي نجنيها من خلال التناسب والربط بين الآيات والسور ؟
في إثبات توقيفية ترتيب سور القرآن إثباتٌ وتأكيدٌ لمعنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلم يكن حفظ القرآن وصونه موكول لأحدٍ من البشر .
وفيه أيضاً ردٌّ للشبه التي يثيرها الروافض والمستشرقون حول جمع القرآن، والزيادة فيه والنقص منه كما يزعمون !! قبحهم الله .
ومن ثمرات هذا العلم الالتفات إلى الحكمة من هذا الترتيب والاهتمام باستخراج المعاني و الحكم و لطائف النكات التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة والربط .
كيفية التعرف على التناسب والربط بين السور والآيات، وبيان أسبابه :
معرفة المناسبة و ارتباط السور والآيات بعضها ببعضٍ يتم من خلال الاعتبارات التالية:
1- قد يكون الارتباط ظاهراً:
2- قد لا يكون الارتباط ظاهراً، بل يبدو لأول وهلةٍ أن كل آية أو جملة مستقلةٍ عن الأخرى، وهاهنا : - إما أن تكون معطوفةٌ على الأولى بحرفٍ من حروف العطف المشتركة في الحكم، ويندرج في هذا ما يسمى ربط التضاد أو المقابلة، كأن يذكر نوعين متضادين، كذكر المؤمنين والكافرين، والخير والشر، والعلم والجهل، والظلمات والنور، وطريق الهداية وطريق الغواية، ومصير الكافرين ومصير الأتقياء المؤمنين، والظلم والعدل، والبخل و الإنفاق، والطيب والخبيث، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم .
- وإما أن لا تكون معطوفة، فلا بد من قرينةٍ معنويةٍ تؤذن بالربط ومن ذلك إلحاق النظير بالنظير، كما في قوله تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} في سورة الأنفال، فكراهيتهم لما فعله عليه الصلاة والسلام في قسمة الغنائم، ككراهيتهم للخروج للقتال .
ومنه أيضاً : الاستطراد، وهذا يلاحظ في كثير من سور القرآن فإذا تحدث عن قصة آدم يستطرد لما يتبع ذلك من أمور[15] وكذلك في الحديث عن عصيان إبليس لربه، أو ذكر قصص الأنبياء وهكذا .
وبعد هذا العرض النظري المسهب لموضوع التناسب وترتيب سور القرآن، فهذا أوان الشروع في بيان الأدلة لإثبات المناسبة[16].
التناسب بين السور[17]:
- وجه المناسبة بين سورة الفاتحة وأول سورة البقرة :
أرشد الله تعالى عباده في سورة الفاتحة إلى أن يسألوه الهداية، بقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فاستجاب لهم سبحانه فقال: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ، فهذا القرآن هو طريقة الهداية الكبرى .
- وجه المناسبة بين آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران :
ختمت السورة المتقدمة على سؤال النصر : {وانصرنا على القوم الكافرين}، وفي مفتتح هذه السورة بيّن نصرتهم على الكفار باللسان والسنان .
ووجه آخر للربط بين السور الثلاث ( الفاتحة – البقرة – آل عمران )، قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فالذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون، والذين غضب الله عليهم هم اليهود ولذلك فقد كان الحديث عنهم وخطابهم أكثر في سورة البقرة، والضالون هم النصارى فكثر خطابهم في سورة آل عمران.
- وجه الترابط بين آخر سورة آل عمران و أول سورة النساء :
أن كليهما مشترك في الأمر بالتقوى، إذ انتهت سورة آل عمران على قوله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وابتدأت سورة النساء بقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}.
ولما كثر ذكر الجهاد في السورتين السابقتين، ذكر في هذه السورة مسألةً هامةً لا يتحقق الجهاد بدونها، هذه المسألة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وهي إنصاف المرأة وإعطاؤها حقها ورعاية حقوق اليتامى و الأرامل والمساكين والرأفة بهم والعطف عليهم وعدم ظلمهم، إذ الجهاد المشروع والنتيجة المرجوة منه لا يتحقق ما لم يكن المسلمون يداً واحدةً على العدو .
- وجه التناسب بين آخر سورة الأعراف وأول سورة الأنفال :
ختمت السورة المتقدمة بذكر الله في كل حال : {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} ، وبدأت سورة الأنفال بترك الانشغال بحطام الدنيا والسؤال عن الغنائم: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
- وجه الارتباط بين آخر سورة الحجر وأول سورة النحل :(/4)
قال تعالى في آخر سورة الحجر: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وقال في أول سورة النحل: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه} أي ما دام أن أمر الله تعالى آتٍ فلا يضيق صدرك بما يقولون، فالذي خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفةٍ ينزل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده فهو الذي يصطفى الرسل .
- وجه التناسب بين آخر سورة الواقعة وأول سورة الحديد :
قال تعالى في آخر سورة الواقعة: {فسبح باسم ربك العظيم} ، وقال في أول سورة الحديد: {سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} فالمناسبة والارتباط ظاهر .
- وجه التناسب بين آخر سورة التحريم و أول سورة تبارك :
لما ثبت في السورة المتقدمة (التحريم) أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام مع كونهما من الأنبياء لم يستطيعا أن ينقذا أزواجهما من النار، ولم يباركا فيهما.
وأن فرعون رغم جبروته وسعة ملكه وقوة سطوته لم يستطع أن يخضع زوجته ويجعلها تابعةً لكفره وشركه فقد باركها الله، و أن مريم بنت عمران باركها الله واصطفاها على نساء العالمين، فثبت أن البركة كلها إنما هي بيد الله عز وجل لا يشاركه فيها أحد، فـ {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.
التناسب بين السور من القارعة إلى الناس :
ذكر في سورة القارعة أحوال الساعة وشدائدها، وبعد ذكر هذه الشدائد الآتية في الساعة كان لكم أن تعتبروا وتتعظوا وتعملوا الصالحات ولكن ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) .
وبعد بذل الجهد في التكاثر، فإن حصل لأحد مال كثير يزعم أنه فاز كلا {والعصر ، إن الإنسان لفي خسر}، فالفائزون هم المؤمنون الذين {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
أما المكتنزون مالاً فـ {ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده} فلو كان المال يغني عن أحد لأغنى عن أصحاب الفيل {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} وبعد ذكر ما أحله الله بأصحاب الفيل، فهذه نعمةٌ من الله على أهل قريش {لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}.
ومن أنعم الله عليه إذ أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف، عليه أن ينفق في سبيل الله ويرعى اليتيم ويحض على طعام المسكين ولكنهم كذبوا بالدين، {أرأيت الذي يكذب بالدين} وهذا شأن كفار قريش و أما النبي r فقد كان يصل الرحم وينصر المظلوم ويعين على نوائب الحق فـ {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر}.
فاقطع موالاتهم و {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون}.
وهذا أوان تمام دينك وكماله وقد جاء الحق وزهق الباطل {إذا جاء نصر الله والفتح} فقد حان وقت ارتحالك من الدنيا {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}.
وإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فقد ثبت أن {تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب}. فأعلن ما جئت به {قل هو الله أحد، الله الصمد}.
و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس}.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
[1] - مسند أحمد: رقم الحديث [17842].
[2] - البرهان [1/256].
[3] - انظر دلائل النظام ص39 لعبد الحميد الفراهي.
[4] - البرهان [1/37].
[5] - معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/43].
[6] - مناهل العرفان [1/53].
[7] - النبأ العظيم [195].
[8] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. رقم الحديث [4997].
[9] - صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن. باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. رقم الحديث [4998].
[10] - رواه بن كثير في فضل القرآن وصحح إسناده.
[11] - رواه أبو داود.كتاب شهر رمضان. حديث رقم [1390] وفي المسند برقم [16111].
[12] - رواه أبو داود. كتاب شهر رمضان.حديث رقم [1387].
[13] - من هدي سورة الأنفال ص21، 22 .
[14] - انظر الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن وسوره . د/ محمد أحمد يوسف القاسم .
[15] - انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن [1/45،46] .
[16] - المراجع التي اعتمدت عليها في استخراج المناسبات ( تفسير الرازي وسبق الغايات في نسق الآيات لأشرف علي التهانوي: وأنوار التبيان في إسرار القرآن للقاضي شمس الدين بن شير محمد .
[17] - اقتصرت على ذكر بعض الأدلة للتناسب من مواضع مختلفة في القرآن، من أوله ووسطه وآخره، وسأفرد هذا الموضوع برسالة مستقلة تشمل جميع السور إن شاء الله تعالى .(/5)
التناقض بين المفهوم والواقع
________________________________________
عندما نتحدث عن التربية بمفهومها فإننا لن نتعرض للتعريف اللغوي المتشعب الذي يعرفه الكثير ولكننا مباشرة تتجه أذهاننا إلى ما وقف عليه المصطلح من تعريف متصل بالاهتمام بالفرد وتنميته وتثقيفه وتعليمه وما إلى ذلك مما يتصل بمحاولة جعل الفرد من النماذج الصالحة بالعمل بأسباب ذلك .
لكننا عندما نرجع إلى بعض من أولو هذا الأمر الاهتمام على سبيل الافتراض نجد بعضهم – إن لم يكن الكثير - بعيدين كل البعد عن تحقيق جوانبه ، أقصد أولئك الذين تسموا به وأصبح يشار إليهم ولو بإحسان الظن على أنهم فرسان أحلامه .
فتربية الفرد لا تكون بحبسه في مكان معين ثم إعطائه جرعات معينة ومتعددة من معارف متنوعة ، ولا تكون بتركه يسرح و يمرح تحت مظلة " الديموقراطية " ، " وعدم سلب حقوق الرأي " ، و" السماحة في التعامل " ، وإنما الأمر أبعد من ذلك .
إن تهذيب سلوك الفرد ، والتأكد من ذلك على مختلف الأزمان - بعيدةً كانت أو قريبةً ، وسواءً كان ذلك الفرد منحرفاً فتغير سلوكه أو كان ناشئاً فتأصل فيه ذلك التهذيب - هو المطلب الحقيقيّ ويضاف إليه ما يتعلمه ذلك المهذّب من العلوم التي استقاها .
ولقد شهدت الأمة في هذه الأزمنة الكثير من المتعلمين الحاصلين على الشهادات الوصفية لما تعلموا بل والمتسببة في أن يتبوأ بعضهم المراكز والمناصب العالية ؛ فإذا فتشت فيهم وسألت عن حالهم مع ربهم – جل جلاله – ومع دينهم وجدتهم مقلين – إن لم يكونوا أصفاراً محسوبة على الأمة – وقد تجد بعضهم مستأمناً على عقول الأجيال والبعض الأخر على أجساد النساء والرجال ، وتجد آخرين قد تمنطقوا في المقال وأصبح يُصفق لهم حتى من الأطفال ؛ وما هم إلا مزتزقة يقتنصون الأموال .
فإذا قلت لي الهداية من الله ؛ قلت لك نعم ولكن هذا يحتاج إلى عمل بالأسباب وإلى تربية سليمة قبل إعطاء المعارف ، وإلى غرس للعقيدة الصحيحة منذ الصغر حتى يخرج لنا من نعول عليهم الكثير بعد الله – عز وجل – في جميع التخصصات والمجالات ، ويخرج عندئذ من يربي أجيالاً آخرين .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المعلم والمربي والمجاهد والإمام ولم يكن يغفل أي جانب من جوانب تنمية العقول .
إعداد: محمد بن هاشم المالكي(/1)
التنزل للخصم في المناظرة
السؤال :
ما حكم التنزل في الكلام عند مناظرة مخالفٍ غير مسلم إذا رأينا في ذلك مصلحة راجحة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن من الحكمة في الحوار و المناظرة أن يخاطِبَ المُنَاظِرُ الناسَ بما يفهمون ، و أن يؤخذوا بقدر عقولهم ، فإذا كان في التنزل في الحوار معهم مصلحة راجحة فلا بأس في ذلك على الظاهر ، شريطة أن لا يؤدي الأمر في النهاية إلى فتنة أهل الحق ، أو تقوية أهل الباطل ؛ بتقديم ما يمكن أن يستغلوه في إشاعة و تثبيت باطلهم ، أو التشكيك في الحق ، و الطعن في أهله ، و لو بعد حين .
و يجد الباحث في كتاب الله أمثلة من التنزُّل في الحوار مع المشركين على نحو لا يشكل على من أحسن فهمه و تدبَّره .
فقد حكى القرآن الكريم تنزل مؤمن آل فرعون في خطاب قومه حيث قال عن نبي الله موسى عليه السلام و ما جاءهم به من عند الله فيما حكاه عنه رب العالمين : ( وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) [ غافر : 28 ] .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : تَنَزَّلَ مَعَهُمْ فِي الْمُخَاطَبَة فَقَالَ : ( وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبه وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْض الَّذِي يَعِدُكُمْ ) ؛ يعني : إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل و الرأي التام و الحزم أن تتركوه و نفسه فلا تؤذوه ؛ فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه و تعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا و الآخرة ، و إن يك صادقاً و قد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم ؛ فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذابٍ في الدنيا و الآخرة )
و أمر الله تعالى نبينا الكريم بأن يتنزل في حواره مع المشركين ، فقال فيما أوحاه إليه : ( قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ سبأ : 24 ] .
فانظر كيف عبَّر بلفظ الإجرام في قوله : ( لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ) عما يفعله المؤمنون مع براءتهم من الإجرام و أهله في حقيقة الأمر ، في مقابل التعبير بمجرد العمل لما تقترفه أيدي المخالفين مع ما يقع في أفعالهم من إجرام حقيقي في حق أنفسهم و حق المسلمين ، حيث قال : ( وَ لا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .
و لا ريب أن ذكر الإجرام في حق المؤمنين ليس إلا تنزلاً في حوار الخصم .
و مثل ذلك قوله تعالى لنبيه الكريم فيما أوحاه إليه : ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) ، فمجرد افتراض أن يكون لله ولد أمر محال شرعاً و عقلاً ، و لا يشك في استحالته عوام المسلمين فكيف بنبيهم الأمين ، و لكن الله تعالى أذن له صلى الله عليه و سلم في أن يقوله للمشركين تنزلاً في محاورتهم ، لعل ذلك يلزمهم الحجة أو يهديهم المحجة .
و أمام هذه الأمثلة من كتاب الله و غيرها مما كثر و اشتهر في الكتاب و السنة أرى جواز التنزل في مناظرة الخصوم شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى مفسدة أكبر ، كإمعانهم في التعنت ، أو الطعن في دين الله بسبب تنزل المتنزلين ، و اعتبار تنزلهم ضعفاً في الدين .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه أنيب .(/1)
التنصير في العراق.. تسهيلات بلا حدود!
د. محمد عبد القادر الشواف
mashawaf@hotmail.com
عرضت وسائل الإعلام العالمية صور عراقيين يبحثون عن طعام لأطفالهم بين بقايا القمامة، وأظهرت تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تردي الحالة الاقتصادية والاجتماعية وانتشار الجرائم بشكل غير مسبوق، في ظل الاحتلال الأمريكي الظالم!. في هذه الظروف التي تدمي قلب المؤمن، وتؤلم كل حر في العالم، يؤكد البيت الأبيض أنه منح تسهيلات كبيرة لما أسماه "الجمعيات الخيرية المسيحية" لتتمكن من ممارسة مهامها التنصيرية، التي يسمونها تبشيرية، في العراق.
فبدل رغيف الخبز الذي ينتظره العراقي المقهور تنهال عليه آلاف القنابل والصواريخ، مع آلاف الكتب والنشرات التنصيرية؛ فالغزو الفكري والعقدي مواكب للغزو العسكري، وكل ما يجري في العراق يؤكد ذلك، إضافة إلى الدور القذر للصهاينة والمجوس في تسعير نار الفتن ومحاولة تفتيت العراق وإضعافه، ونهب خيراته.
وحول الدور التنصيري لأمريكا في العراق، ذكرت مجلة (نيوزويك) الأمريكية أن جمعية الكتاب المقدس أرسلت إلى العراق أكثر من خمسين ألف نسخة من الكتب والنشرات التنصيرية، كما ذكر متحدث باسم مجلس التنصير الدولي أنه تم إرسال آلاف النسخ من الإنجيل، بينما أعلنت منظمتان تنصيريتان أنهما قد دربتا فريق عمل خاص للدخول إلى العراق، ونشر الديانة النصرانية.
والأمر ليس متوقفاً على العراق وحدها، فقد كشفت "الواشنطن بوست" فضيحة استغلال منظمات خيرية أمريكية لجهود الإغاثة، وجعلها ستاراً لحملة تنصيرية مدروسة في أندونيسيا بعد زلزال تسونامي والطوفان الذي خلف كوارث مأساوية هناك. كما نقلت الصحيفة ذاتها تنديد الأمين العام لمجلس العلماء الإندونيسي بعملية نقل مئات الأطفال إلى معاهد تنصيرية بحجة تقديم الرعاية لهم، وانتقدت مؤسسات أمريكية متخصصة هذا الاستغلال البشع للكوارث(هكذا ورد في التقرير) بعد ورود تقارير مؤكدة عن إخضاع الأطفال لبرامج تنصيرية، وفي هذا مخالفة واضحة لأنظمة الأمم المتحدة التي تمنع استغلال الكوارث لأهداف سياسية أو غيرها في ظل منع المؤسسات الخيرية الإسلامية من مساعدة المنكوبين، وتجميد حساباتها، نلاحظ تقديم تسهيلات غير مسبوقة، ونشاطاً تنصيرياً يتماشى مع دعوة (صموئيل هنتنغتون) لزيادة عدد النصارى حول العالم؛ حيث تكهن بتفوق عدد المسلمين على النصارى عام 2025م، إن لم تُتخذ إجراءات تحول دون ذلك.
إليك أخي القارئ بعض الإحصاءات التي تنشر عادة ليطمئن المتبرعون النصارى والداعمون للبرامج الصليبية أن العمل يسير على قدم وساق:
- يوجد أكثر من مئة وثلاثين ألف موظف، يعملون في خمسة آلاف محطة إذاعية وتلفزيونية حول العالم؛ تصل ميزانياتها إلى أكثر من خمسة مليارات دولار.
- تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من عشرة آلاف شخص يعملون من خلال مؤسسات تنصيرية في المناطق الساخنة فقط، بدعم من الدول الغربية دون أن يتعرض أحد منهم للمساءلة، ودون اتّهام أي مؤسسة بدعم الإرهاب الصهيوني.
- هناك أكثر من خمسة آلاف معهد ديني نصراني حول العالم، وأكثر من (300) مركز للأبحاث مرتبطة بالكنيسة، وأكثر من (12 ألف) مكتبة متخصصة في الديانة النصرانية، ولم يتجرأ أحد من العلمانيين بالدعوة إلى إغلاق مثل هذه المعاهد الدينية، أُسوة بإغلاق المعاهد الإسلامية.
- تجود المنظمات النصرانية على الشعوب حول العالم بأربعة مليارات وسبعمائة مليون نسخة من منتخب الكتاب المقدس سنوياً.
- تتوالى الإحصاءات ولا يتسع المقام لاستعراضها كلها، لكن بقى أن نشير إلى أن شعار أحد المؤتمرات التنصيرية التي عقدت في السويد كان "مواجهة الإسلام"، نعم هكذا: لا مواجهة الإرهاب، ويلاحظ القارئ الكريم هنا أنه لم تعد هناك حاجة للمجاملة والتذرع بمواجهة الإرهاب، فاللعب أصبح -كما يقولون- على المكشوف، مع أن ما خفي أعظم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ما زال الرئيس الأمريكي مُصِرّاً على الاعتذار عن مقولته بأنه يخوض حرباً صليبية؟!
ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي الع(/1)
التنقيب عن الآثار الفرعونية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 14/3/1425هـ
السؤال
نعلم أن أسلافنا المسلمين كانوا عندما يفتحون البلاد للإسلام يحطمون ما يجدونه من تماثيل ومعابد، ومنشآت مكرسة لعبادة غير الله -عز وجل- ولكننا في العصر الحديث وجدنا معاهد وجامعات أنشأتها حكوماتنا بإرشاد من الغرب الكافر، هذه الكليات والمعاهد منها ما هو متخصص في تخريج من يعمل كمفتش أو مرمم، أو موظف في مجال التنقيب عن آثار الفراعنة وحفظها وصيانتها، والسؤال: ما حكم العمل في وظيفة من هذه الوظائف السابقة؟ -وجزاكم الله خيراً-.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
العناية بالصور المجسمة من الأصنام والتماثيل باسم حماية الآثار هو عين الوثنية والجاهلية الأولى التي جاء الإسلام بنقضها، ولئن كانت جاهلية الأمس بدائية ساذجة، فإن جاهلية اليوم خبيثة ماكرة ومعقدة، فهي تتزيى بزي الثقافة والفن، والمحافظة على تراث الماضي من الآباء والأجداد، ولئن كانت الجاهلية الأولى يتبناها الأفراد فإن جاهلية القرن العشرين وما بعده تتبناها الدول والهيئات، فجعلتها منظمة مقننة، على حد قول الشاعر:
لقد كان فينا الظلم فوضاً فهذبت *** حواشيه حتى صار ظلماً منظما
يا أخي: -احمِد الله- أن هداك للحق، وعرفك به، فالزمه حيثما كنت، واعلم أن ترميم الأوثان والتماثيل حرام كمن يقوم بنحتها وصناعتها؛ وفي الحديث الذي رواه مسلم (832) عن أبي أمامة – رضي الله عنه - وفيه: "أرسلني ربي بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء"، وفي صحيح مسلم (969) أيضاً عن أبي الهياج قال لي علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه-: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته"، وأول ما يدخل في معنى الصورة في الحديث الصورة المجسمة، وابحث لك يا أخي عن عمل شريف خير لك من وظيفتك الحالية، ولا عليك حرج في إجازتك بدون مرتب – إن شاء الله- وفقك الله ورزقك حلاله عن حرامه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركات(/1)
التنقيب عن الآثار وبيعها
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التعويضات المالية
التاريخ ... 1/8/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ: يعلم الله بحالي، فأنا شاب تجاوز عمري السابعة والعشرين، ولم أجد عملاً، وأنعم الله علي بموقع أعلم تمام اليقين أن به ركازاً، وهو روماني؛ لأن الآثار الموجودة رومانية، وأعلم بجواز إخراجه، ولكنه في منطقة مشبكة، وعلمت أنه ستأتي شركة ألمانية لاستخراج الآثار، فما حكم إخراجه؟
الجواب
إذا كان هذا الموقع الأثري في أرض مملوكة لك فيجوز لك التصرف فيها، ببيع، أو هبة، أو معاوضة، وإذا وضعت الدولة يدها عليه كما يبدو من سؤالك، فواجب الدولة ممثلة بالجهة التي تعنى بالآثار أن تعوضك عنها بسعر يومها، ويجوز لك أن تقاضيها شرعاً، وإن كنت لا تستطيع فلك أن تبيعها، أو توكل من يقوم بمراجعة الجهة المسؤولة مقابل مبلغ معين أو جزء منها، ويجب أن تعلم أن (الركاز) هو ما وجد عليه علامة تدل على أنه من زمن الجاهلية قبل الإسلام، فهذا هو الذي يسمى ركازاً في الشرع، ويجب إخراج خمس قيمته زكاة، وإن لم يوجد ما يدل على أن هذا المدفون من زمن الجاهلية فليس بركاز ويزكَّى زكاة النقدين إن كان ذهباً أو فضة. والله أعلم.(/1)
التهرب من المسئولية
المحتويات
التهرب من المسئولية
الأسلوب الأول: الدفاع عن واقع المجتمع
الأسلوب الثاني: تفضيل واقع المجتمع على غيره
الأسلوب الثالث: تضخيم الانحراف والفساد
الأسلوب الرابع: الانشغال بالمصالح الخاصة
الأسلوب الخامس: تحميل المسئولية للآخرين
الأسلوب السادس: الانشغال بالنقد عن العمل
الأسلوب السابع: التفرغ لتحصيل العلم
الأسلوب الثامن: الاعتذار بالتقصير والوقوع في المعاصي
الأسلوب التاسع: انتظار البطل القادم
الأسلوب العاشر: الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية
الأسلوب الحادي عشر: الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير
الأسلوب الثاني عشر: انتظار فتح المجال أو التكليف
الأسلوب الثالث عشر: الاعتذار بعدم وجود الثمرة
نماذج من المصلحين
التهرب من المسئولية
إن واقع المسلمين اليوم لا يخفى على أحد، ولعل أصدق وصف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ).
ومما لا شك فيه أن السعي لإزالة الغربة والقيام بالأمة والنهوض بها مسئولية الأمة أجمع، وليست مسئولية فئة دون أخرى؛ فالنصوص التي وردت في وصف الأمة بالخيرية وربطت هذه الخيرية بقيامها بواجب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه النصوص نصوص عامة لم تخص أحدا دون أحد، ومنها قوله عز وجل ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
والنصوص التي جاء الأمر فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أيضا نصوص عامة لا تخاطب فئة دون أخرى "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما بعث الله من نبي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بهديه، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف، يقولون مالايفعلون، ويفعلون ما لايؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
إن من يقرأ هذه النصوص مهما كان مستواه العلمي، ومهما كانت قدراته العقلية سيدرك أنها نصوص عامة لكل المسلمين .
وإذا كان هذا الشان فيمن يرى منكرا معينا، أو معروفا معطلا، فكيف إذا كان المجتمع منغمسا في المنكرات واقعا في الفساد ، كيف إذا أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا؟
فواقعنا الذي تعيشه الأمة اليوم يحتم على الغيورين أجمع أن يقوموا لله، وأن يجتهدوا في الدعوة والإصلاح والسعي للتغيير.
ولئن تفاوتت المسئولية واختلفت الواجبات بحسب اختلاف ما لدى الناس من علم وقدرة ومسئولية ومنزلة اجتماعية، إلا أن هذا لا يلغي المسئولية العامة على الجميع.
إن كثيرا من الخيرين اليوم يمارسون صورا من التهرب من المسئولية والتنصل منها.
وبغض النظر عن درجة اقتناعهم بما يقولون، وعن مدى شعورهم بالتقصير، إلا أن القاسم المشترك لهذه الأساليب أنها أساليب يتهرب بها صاحبها من الشعور بالمسئولية الدعوية.
وقد تكون هذه الأساليب بينه وبين نفسه فيخادع نفسه ويوهمها بذلك، وقد تكون حجة يعتذر بها أمام الناس حين يطالب بالقيام بواجب الدعوة.
إننا سنقدم على الله وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهناك لا ينفع المرء إلا عمله، ولن يقبل منه صرف ولا عدل، فلنتذكر هذا المقام علنا أن نعمل ما دمنا في دار العمل.
ومن هذه الأساليب مايلي:
الأسلوب الأول: الدفاع عن واقع المجتمع
إن الدعوة إلى الإصلاح والتغيير فرع عن التسليم بوجود خلل في الواقع وانحراف يدعو إلى التغيير.
وثمة فئة تناقش في هذه المقدمة وتقول: إن واقعنا بخير وليس فيه ما يستدعي كل ما تدعون إليه، إن المعاصي قد وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهناك من زنا، وهناك من سرق، ومن قتل، بل لقد وقع السيف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف تريد الصفاء والنقاء والعصمة للمجتمعات في هذا الزمن؟.
إن ما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صور وحالات فردية شاذة، أما في واقعنا اليوم فالصورة تختلف بكثير .
في مجال الاعتقاد والتوحيد ثمة طوائف من المسلمين ليست بالنادرة ولا القليلة قد وقعوا في صور من الضلال والانحراف وربما أودت ببعضهم إلى الخروج من دائرة الإسلام وهم لا يفقهون.
هاهي الألوف تزدحم حول الأضرحة والرفات، وها هم يعلقون قلوبهم وأفئدتهم بغير الله تعالى، ناهيك عن الموقف من الكفار وغياب عقيدة الولاء والبراء والاحتكام للأنظمة الوضعية.
وفي ميدان الالتزام بالعبادات الشرعية تكفينا حال كثير من المسلمين مع الصلاة.
وفي ميدان الاقتصاد عم الربا وشاع في معاملات المسلمين ناهيك عن الظلم والغش والمعاملات المحرمة.
وفي ميدان السلوك والميدان الاجتماعي وسائر ميادين الحياة ثمة انحرافات وتغيرات على مستوى القيم والمفاهيم، وعلى مستوى السلوك والممارسة.
الأسلوب الثاني: تفضيل واقع المجتمع على غيره(/1)
تختلف مجتمعات المسلمين وتتفاوت في مدى التزامها الشرعي، ومدى انتشار المخالفات والمنكرات، وقد يعيش بعض الناس في بيئة ومجتمع أكثر محافظة من غيره، فيقارن دوما بين مجتمعه وسائر المجتمعات، ويحتج على من يطالبه بالإصلاح والدعوة بأن واقع مجتمعه خير من واقع غيره من المجتمعات.
إن المعيار الذي ينبغي أن نحتكم إليه هو المعيار الشرعي وليس الواقع، وقياسنا لتدين المجتمع يجب أن نعرفه من خلال الفارق بين الواقع وبين الصورة الشرعية المطلوبة من المجتمع.
وستبقى معظم المجتمعات المسلمة تجد نموذجا أسوأ منها في التدين والمحافظة، بل ربما تجد من يقارن بين مجتمعات المسلمين وغير المسلمين.
الأسلوب الثالث: تضخيم الانحراف والفساد
في مقابل من لا ينظر إلا إلى الصور المشرقة المضيئة في المجتمع هناك من ينظر إلى الصور السوداء القاتمة، وحين يثار الحديث حول الإصلاح والتغيير يحدثك عن ألوان الفساد والانحراف في المجتمع، ويقارنها بضآلة الجهود المبذولة في الإصلاح مع تهميش أثرها وتقليل جدواها، إنك حين تلقي موعظة على الناس فمن ينصت لك منهم؟ والذين ينصتون من يتأثر ويقتنع منهم؟ وحين ينصرفون فهم يرون في الواقع ألوانا من الصوارف والمؤثرات التي تمحو وتغسل أثر هذه الموعظة، وتعيدهم إلى ما كانوا عليه من قبل.
لكن اعتناء الناس بالقدر الذي يطيقونه ويستطيعون أداءه، والنظرة البعيدة التي تتجاوز حدود الزمن القريب سوف يدفعهم العمل والإصلاح رغم ما يرونه من ضخامة حجم الفساد، ومحدودية الطاقات والإمكانات التي يملكونها.
الأسلوب الرابع: الانشغال بالمصالح الخاصة
الصالحون والدعاة شأنهم شأن غيرهم من الناس لهم ارتباطات ومصالح خاصة: أسرية أو اجتماعية أو مصالح ترتبط بأعمالهم الوظيفية والمهنية.
وحين تتعارض بعض المطالب الدعوية مع المصالح والمشاغل الشخصية للمرء فقد يعتذر بها، وينطلق في ذلك من منطلقات شرعية كالقيام بحق الأهل والأولاد، أو الصلة...إلخ.
وحين نتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته نرى أنه كان لا يتخلف عن غزوة في سبيل الله عز وجل إلا سعيا للرفق بالمسلمين، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله".
كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعنده تسع نسوة كل منهن تطالبه بقدر من حقها.
وسار أصحابه على ذلك، فها هي قبورهم المتناثرة هنا وهناك، وها هي مشاهدهم في الغزو والجهاد والولاية والتعليم، هاهي تدل على عظم ما بذلوه، وقد كانوا بشرا كسائر البشر، لهم أهل وولدان، ولهم ضيعات وبساتين، بل كانت سبل الحياة والمعيشة في حقهم أصعب منها الآن.
إن أحدنا اليوم يستطيع السفر إلى منطقة أخرى والعودة في يومه دون أن يفقده أهله وجيرانه.
وحين ينتظر الإنسان أن يتفرغ من جميع مشاغله الخاصة فلن يتحقق له ذلك .
إننا لا ندعو أن يهمل الإنسان رعيته وأهل بيته، أو أن يتخلى عن مصالحه ومشاغله، لكننا ندعو إلى أن لا تكون هذه الأمور عائقا ومثبطا له عن واجبه الدعوي.
حين يسمع كثير من الناس الحديث عن الدعوة والإصلاح يتبادر إلى ذهنه صورة سامقة من النشاط والهمة الدعوية لا تتحقق إلا عند فئة محدودة من الناس.
ويقارن نفسه بهذه الصورة، فيرى أن الدعوة إلى الله منزلة ورتبة لم ولن يصل إليها، وحسبه أن يصلح نفسه.
ولئن كان التصدر للدعوة والقيادة والتعليم يتطلب قدرا من العلم والرسوخ والخبرة، فثمة مجالات دعوية عديدة يطبقها أفراد الناس وآحادهم.
وقد تيسرت اليوم وسائل وأساليب عدة تتيح لكثير من الناس أن يسهموا في الدعوة والإصلاح، وأن يتركوا أثرا يتجاوز حدود إمكاناتهم وقدراتهم.
وهذا كله يزيد من المسؤولية، ويقلل من فرص الاعتذار والتقاعس.
الأسلوب الخامس: تحميل المسئولية للآخرين
هناك من الناس من تكون سمته تحميل المسئولية للآخرين، فإنكار المنكرات العامة شأن الدعاة والعلماء البارزين، وتدريس العلم الشرعي شأن من نبغوا في العلم وتميزوا فيه، والمشروعات والبرامج الدعوية شأن المؤسسات الدعوية، وهكذا يوزع المسؤوليات على الآخرين ويصبح هو فردا عاديا غير مؤهل للقيام بأي مهمة، وحسبه إصلاح نفسه.
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم عموم المسؤولية على آحاد المسلمين بقوله:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول علن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته".
وعليه فالجميع مسئول وإن كانت المسئولية متفاوتة كل بحسبه فليس الطالب كالمعلم، وليس الفرد العادي كطالب العلم، ولكن تبقى المسئولية مشتركة بين الجميع.
الأسلوب السادس: الانشغال بالنقد عن العمل
كثيرا ما نسمع من ينتقد الجماعات الإسلامية والعالمين للإسلام والدعاة واللآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر، فه تارة متعجلون، وتارة مختلفون ومتصارعون، وأخرى ليسوا على مستوى الأحداث والمهام المنتظرة منهم.(/2)
وحين تقارن بين انتقاد هؤلاء وبين واقعهم العملي ترى بونا شاسعاً
إن النقد يجيده الكثير، فحين يقوم متحدث أمام الناس فقد يُنتقد بأن صوته ضعيف لا يسمع من حوله، أو أنه لا ينطلق في حديثه، أو أنه لم يعد لموضوعه إعدادا مناسباً.
لكن كثيرا من هؤلاء قد لا يستطيع إلقاء كلمة ولو بنصف مستوى إلقاء هذا المتحدث.
إننا لا نمانع من النقد الشرعي البناء، لكن النقد قد يكون في مصدره دفع المسؤولية عن النفس، فإن النفس تشعر بالتقصير حين ترى ما يقدمه الآخرون من جهد وعمل، فحين ينتقد الشخص عملهم وجهدهم يبقى في نظر نفسه سالما مما وقعوا فيه، لكنه ينسى أن سكوته وتقصيره قد يكون أشد من خطأ من عمل وأخطأ عن اجتهاد وحسن نية.
الأسلوب السابع: التفرغ لتحصيل العلم
لاشك أن العلم الشرعي مطلوب، وعودة الأمة إلى دينها ينبغي أن تكون قائمة على العلم الشرعي. وعليه فمن واجبنا علينا تفريغ جزء من أوقاتنا لتحصيل العلم الشرعي، ومن واجبنا دفع الشباب والناشئة إلى الاعتناء بالعلم وتحصيله.
لكن ذلك كله لا ينبغي أن يدعونا إلى إغفال ما سواه، أو اختزال حياة الناس فيه وحده دون سائر الواجبات الشرعية.
ولنا أن نتصور تخلي الأخيار من أهل الحسبة، أو العاملين في حقل الدعوة إلى الله عز وجل وتربية الشباب ورعايتهم، أو العاملين في المؤسسات الدعوية، لنا أن نتصور تخلي هؤلاء عن دورهم بحجة تفرغهم لتحصيل العلم الشرعي.
إن أول نتائج ذلك أن تؤول هذه الوظائف الشرعية إلى من يتعاملون معها على أنها مصدر للرزق ووسيلة للتكسب لا غير.
نعم هناك فئة من الناس لديهم نبوغ في العلم، وهمة في التحصيل، فشأن هؤلاء ليس كشأن غيرهم، وقد يكون انشغالهم بالعلم وتفرغهم له أولى من انشغالهم ببعض المهام الدعوية، لكن هذا لا يعفيهم من القيام بالمسؤوليات والأعمال الدعوية فيما تتسع له أوقاتهم ويحسنون من العمل.
والمقصود أن طلب العلم الشرعي عبادة ينبغي أن يراد بها وجه الله تعالى، وإعداد النفس للقيام بالمهام الشرعية، لا أن تكون عائقا للفرد ومثبطا له.
الأسلوب الثامن: الاعتذار بالتقصير والوقوع في المعاصي
يعتذر البعض بأن مظهره لا يؤهله للعمل لهذا الدين، أو أنه واقع في معاص وسيئات لم يطق الخلاص منها، فكيف يدعو وهو واقع فيها ومقارف لها؟
وهذا الاحتجاج ليس وليد عصرنا، فقد قال سعيد بن جبير رحمه الله: لو لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر إلا من ليس فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى أحد عن منكر, فقال مالك رحمه الله تعالى: صدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟.
وقال الحسن البصري رحمه الله لأحدهم: عظ أصحابك. قال: أخاف أن أقول مالا أفعل. فقال له يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟. يود الشيطان لو أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه أحد عن منكر .
وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ".
فلا يمكن أن يسلم أحد من الذنوب، حتى العلماء والدعاة كثيرا ما نسمعهم يعترفون بتقصيرهم وعدم رضاهم عن حالهم مع كونهم من أقل الناس تقصيرا، ولم يثنهم ذلك عن القيام بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حمل البريد إلي رسالة من أحد الشباب يذكر عن نفسه أنه يقع في معصية، ثم يقول وكنت أنصح الناس عن ترك هذه المعصية، ثم أني لم أعد أفعل ذلك لخوفي من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم يعض الظالم على يديه، وأحفظ قول الله تعالى:{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون.}
فتأمل كيف صنع الشيطان لهذا الرجل، وأقعده هذا الفهم الخاطئ عن القيام بواجب الدعوة والإصلاح، فإن خوفه الحقيقي من يوم القيامة هو الذي يدفعه للشعور بمسؤولية الدعوة.
وسلفنا الصالح مع أنهم أشد ورعا وأعمق فهما وأكثر إدراكا لنصوص الكتاب والسنة، لم يتركوا الدعوة إلى الله لمثل هذا الفهم.
الأسلوب التاسع: انتظار البطل القادم
من إفرازات الشعور بالهزيمة أن سيطرت على كثير من المسلمين عقدة انتظار البطل القادم، إنهم ينتظرون أن يأتي خليفة كعمر بن عبد العزيز، أو عالم كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو قائد كصلاح الدين، فتنقلب الأمور رأسا على عقب.
إنه لو وجد هذا المنتظر فمن الذي يضمن بقاءه سليما معافى دون أن يلقى في غياهب السجون أو تناله ألوان من الاضطهاد والأذى.
وإن سلم من هذا كله ربما لم يسلم من ألسنة الناس.
والبطل لن يقود الأمة وحدة، ولن يغير الواقع بين عشية وضحاها.
ولئن كانت التجارب الفردية تحقق نجاحا متميزا فيما مضى، فتعقد الحياة اليوم قد فرض شروطا صارمة، وصار التغيير الفردي أكثر صعوبة مما مضى.
الأسلوب العاشر: الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية
يحتج بعض الناس احتاجا خاطئا ببعض النصوص الشرعية، ويضعونها في غير موضعها؛ فيقعدون بذلك عن القيام بالواجب والنهوض بالمسؤولية.
ومن ذلك قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم).(/3)
وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنكم تقرءون قول الله تعالى:"وذكر الآية السابقة" وتجعلونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده".
ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيت شحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة"
يحتج هؤلاء بما سبق من النصوص وغيرها، وهي إما أن تكون على غير ماتأولوه أو تكون في أحوال خاصة، ويتركون سائر النصوص المحكمة الجلية.
الأسلوب الحادي عشر: الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير
بعض الناس عندما يخاطب للعمل للدين والسير في ركب الدعاة إلى الله عز وجل يعترف بتقصيره ثم يسأل الله أن يتوب عليه ويغفر له.
إن الاعتراف بالتقصير ينبغي أن يتبعه عمل وإصلاح للنفس، وتهيئة لها للنهوض بهذا الواجب.
إن كثيرا من هؤلاء يحاسب نفسه على التقصير في نافلة من النوافل، أو الوقوع في شبهة من الشبه، لكنه يتجاوز هذا الواجب العظيم، والمسؤولية الكبيرة دون وقفة جادة أو محاسبة صادقة.
الأسلوب الثاني عشر: انتظار فتح المجال أو التكليف
ينتظر طائفة من الناس أن يتلقى تكليفا، أو يفتح له المجال ليشارك في ميدان من ميادين الدعوة، ويعتبر غياب ذلك مما يعفيه من المسؤولية.
إن طائفة من هؤلاء يحرص على التنصل من أي مهمة، والاعتذار من أي تكليف وإحالة الأمر إلى غيره، معتقدا أن ذلك سيعفيه من المسؤولية ويلقي الأمانة على غيره من الناس.
ولهؤلاء أعرض قصة لعبد الحميد بن باديس رحمه الله:-
حيث قال له الحاكم الفرنسي : إما أن تترك التعليم وإعطاؤك ما تعطيه تلاميذك وإلا أرسلت لك الجنود ليغلقوا المسجد. فقال له: لن تستطيع ذلك. قال: كيف؟. قال: إذا أتيت العرس ذكرت الناس المحتفلين، وإذا أتيت مجلسا فيه عزاء وعظتهم، وإذا ركبت في حافلة ذكرت المسافرين، قال: فنسجنك. قال: فإذا سجنتموني وعظت المسجونين. قال: فنقتلك. قال: وإذا قتلتموني التهبت مشاعر الناس وأولى بك ألا تواجه المسلمين في دينهم.
إن من المسلم الغيور يشعر أن فتح الأبواب، والبحث عن المجالات المناسبة للعمل من مسؤوليته، وأنه حتى لو أوصدت الأبواب أمامه فإن من مسؤوليته أن يسعى لفتحها، والبحث عن البدائل، فضلا عن أن ينتظر حتى تفتح له.
الأسلوب الثالث عشر: الاعتذار بعدم وجود الثمرة
تعوق عدم رؤية النتيجة طائفة من الناس عن الدعوة والشعور بالمسؤولية، ويرون أن الناس لايستجيبون، وأن جهودهم تحبط ويقضى عليها.
ولهؤلاء وأمثالهم يقال:
أولا: ليست جميع نتائج الدعوة مما يظهر لصاحبها، فكثير من الجهود الدعوية لايدرك صاحبها أثرها، أو لاتؤتي أثرها إلا بعد حين.
ثانيا: أن مناط التكليف في الدعوة هو القيام بالواجب الدعوي، وليس استجابة الناس، فمتى قام الداعية بالواجب في دعوته فقد تحقق الأمر، وسقط عنه التكليف، واستحق الثواب، سواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا.
ولعل خير شاهد على ذلك سيرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، وهذا بلا شك لا يعني تقصير الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، فهذا النبي الذي لم يتبعه أحد خير من الدعاة الذين يهتدي على أيديهم آلاف الناس، فالعبرة إذا بالعمل لا بالنتيجة.
ثالثا: أن الواقع أننا نرى أن كثيرا من الأعمال الدعوية تظهر ثمرتها ويراها أصحابها، بل إنها لا تقارن بالجهود المبذولة.
رابعا: أن ضعف الثمرة في بعض الأعمال قد يكون مرده الخلل فيها، وليس بالضرورة صدود الناس وإدبارهم عن الحق.
نماذج من المصلحين
فيما يأتي إشارة سريعة إلى نماذج جاءت في كتاب الله تعالى ممن أدركوا المسؤولية وقاموا بها وهم بشر من آحاد الناس.
أولا: مؤمن آل فرعون الذي جاءنا من خبره ما ذكره الله تعالى في سورة غافر :(وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) إلى آخر قصته وحواره الطويل معهم، إنه ليس نبيا وعالما مشهورا ولكنه رأى أن واجبه الدفاع عن موسى ودعوته ففعل ما فعل.
ثانيا: قصة أصحاب القرية قال عز وجل عنهم (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ... إلى قوله تعالى وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون).
إن غاية ماقاله هذا الرجل أن دعى الناس إلى اتباع المرسلين، فالأمر لم يكن محتاجا إلى علم وفصاحة وإمكانات.
قال ابن هبيرة : "تأملت حال هذا الرجل فرأيت عجبا ، يقول وجاء من أقصا المدينة ولم يأت من وسطها، وجاء يسعى ولم يأت راكبا" فهل لنا في مثل هذا الرجل قدوة؟(/4)
ثالثا: قصة سليمان عليه السلام، عندما تفقد الطير وفقد الهدهد. قال عز وجل:(وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) فلما جاء الهدهد قال:(أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان عمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون).
لقد رأى الهدهد أن مسئوليته على الأقل تتمثل في أن يبلغ هذا المنكر الذي رآه ولم يحط به سليمان عليه السلام وكانت النتيجة أن دخلت هذه الأمة الإسلام وقالت ملكتهم: ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) .
وقام الهدهد بما قام به وهو غير مكلف، ويقصر كثير منا مع أننا محاسبون ومكلفون، وكلما كان أحدنا أكثر علما وأكبر إمكانيات كانت مسئوليته أعظم.
اسأل الله أن يعننا على حمل الأمانة وأداء المسؤولية إنه سميع مجيب.(/5)
التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
رئيسي :السيرة :الثلاثاء 4 محرم 1425هـ - 24 فبراير 2004م
الدارس لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يستلف نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها:
التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم: فكان ذو نفس سوية، فما كان صلى الله عليه وسلم بالكئيب العبوس الذي تنفر منه الطباع، ولا بالكثير الضحك الهزلي الذي تسقط مهابته من العيون.
وحزنه وبكاؤه في غير إفراط ولا إسراف: وفي ذلك يقول ابن القيم:'وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارةً رحمة للميت، و تارةً خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارةً من خشية الله، وتارةً عند سماع القرآن- وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية- ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له ..
وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا[41]}[سورة النساء]. وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته، وكان يبكى أحيانًا في صلاة الليل'.
أما ضحكه صلى الله عليه وسلم: فكان يضحك مما يُتعجب من مثله، ويستغرب وقوعه ويستندر، كما كان يداعب أصحابه. فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ] فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ]رواه أبو داود والترمذي وأحمد .
التوازن السلوكي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم: وهو أحد دلائل نبوته، فلقد جعل هذا التوازن من رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا التي تمثلت فيها كل جوانب الحياة، وإليك بعض مظاهر هذا التوازن السلوكي:
[أ] التوازن النبوي بين القول والفعل: وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر، فهو العابد والزاهد، والمجاهد والزوج... وما كان يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له.
فعن عبادته: فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: [أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا] رواه البخاري ومسلم . وعَنْ حُمَيْدٍ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ' رواه البخاري ومسلم-مختصرا-.
وعن زهده: قالت عَائِشَةُ: دَخَلَتْ عَلَيَّ اِمْرَأَة فَرَأَتْ فِرَاش النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَاءَة مَثْنِيَّة , فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوه صُوف , فَدَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ فَقَالَ: [ رُدِّيهِ يَا عَائِشَة , وَاَللَّه لَوْ شِئْتُ أَجْرَى اللَّه مَعِي جِبَال الذَّهَب وَالْفِضَّة]رواه البيهقي في دلائل النبوة.
وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوان قط، وما رأى شاة سميطاً قط، وما رأى منخلًا، منذ أن بعثه الله إلى يوم قبض ما أخذ من الدنيا شيئًا ولا أخذت منه شيئًا، وصدق صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: [مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد .(/1)
وأما عن شجاعته وجهاده: فيروى أنس رضي الله عنه قال:كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: [لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا] وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ. رواه البخاري ومسلم .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ'رواه أحمد. ولولا خوف الإطالة؛ لسردنا شمائله صلى الله عليه وسلم التي نادى بها، وعلّمها أمته ،وكان أول الممارسين العمليين لها.
[ب] الصدق النبوي في الجد والدعابة:لقد كان الصدق من أوضح السمات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفي دلالة على هذا الصدق أن قومه لقبوه بالصادق الأمين، بل إن أول انطباع يرسخ في نفس من يراه لأول مرة أنه من الصديقين، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: [أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
فهو الصادق في وعده وعهده، وما حدث أن وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عاهد فأخلف، أو غدر، ولا يحيد عن الصدق مجاملة لأحد . وحتى في أوقات الدعابة والمرح حيث يتخفف الكثيرون من قواعد الانضباط كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق في مزاحه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا قَالَ: [إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا] رواه الترمذي وأحمد.
[جـ] التوازن الأخلاقي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم :من أبلغ وأجمع الكلمات التي وصفت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالته عائشة رضي الله عنه :'كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ' رواه مسلم. ولقد كانت هذه الأخلاق من السمو والتوازن ما جعل تواضعه لا يغلب حلمه، ولا يغلب حلمه بره وكرمه، ولا يغلب بره وكرمه صبره… وهكذا في كل شمائله صلوات الله عليه- هذا مع انعدام التصرفات الغير أخلاقية في حياته.
فعن تواضعه: يروى أبو نعيم في 'دلائل النبوة' عن أنس رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ لطفًا وَاللهِ مَا كَانَ يَمْتَنِعُ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ مِنْ عَبْدٍ، وَلَا مِنْ أَمَةٍ، وَلَا صَبيّ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالمَاءِ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَمَا سَأَلَهُ سَائِلٌ قَطُّ إِلَّا أَصْغَى إِلَيْهِ أُذُنَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَكُونَ هُو الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَمَا تَنَاوَلَ أَحَدٌ بِيَدِهِ إِلَّا نَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَلَمْ يَنْزَعْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُهَا مِنْهُ'.
وعن حلمه: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ ... قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: [فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ]رواه البخاري ومسلم.(/2)
وعن كرمه: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:' مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا' رواه البخاري ومسلم. وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ' رواه مسلم .
[د] التوازن النبوي بين الحزم واللين:فرغم ما حباه الله به من الحلم والرأفة إلا أنه الحلم والرأفة التي لا تجاوز حدها، فكان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق إذا انتهكت حرمات الله، فإذا غضب؛ فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهي، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب، أو مسيء للأدب، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:'مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ' رواه البخاري ومسلم .
ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع الأحزاب على حرب المسلمين ثم رد الله كيدهم في نحورهم وأمكن الله رسوله منهم رضوا بحكم سعد بن معاذ كما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم سعد أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وزراريهم، فتهلل وجه الرسول، وقال: [ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ]رواه البخاري ومسلم . فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم في يوم واحد أربعمائة رجل صبرًا.
و عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ:[أَمَّا بَعْدُ أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ]رواه البخاري ومسلم.
إنه اللين الذي لا يعرف الخور، والحزم الذي به تكون الرجال فصلوات الله وسلامه عليه.
لقد سجل لنا التاريخ سير آلاف المصلحين، ولكن لم تجتمع كل المبادئ الطيبة إلا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم: في البيت، والقيادة، والأخلاق، والعبادة، والكثير من أوجه الحياة التي استنارت بمبعثه، فصلوات الله عليه في الأولين والآخرين.
من:' التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم '
د. خالد سعد النجار(/3)
التوازن في حياة المسلم
تناول الدرس شخصية الإنسان المسلم بحيث تنشأ معتدلة, سليمة, بحيث لا يطغى فيها جانب على حساب جانب آخر, ولا يغفل فيها جانب بسبب الاهتمام الزائد بجوانب أخرى وتناول مجتمع الصحابة وذكر السمات المميزة له وتنوع مواهبهم وتخصصاتهم، ثم ذكر إرشادات مهمة يجب مراعاتها في تأسيس المجتمع والشخصية .
إن الحمد لله؛ نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونتوب إليه, و أصلى وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد, وعلى آله, وأصحابه, ومن دعا بدعوته, واهتدى بهدية إلى يوم الدين... أما بعد,,,
المقصود بالتوازن:
هو أن تُكَوّن شخصية الإنسان المسلم تَكَوُّناً معتدلا, سليماً, بحيث لا يطغى فيها جانب على حساب جانب آخر, ولا يغفل فيها جانب بسبب الاهتمام الزائد بجوانب أخرى غيره ... ومثله التوازن في بناء المجتمع بحيث يتكون المجتمع المسلم من مجموعة من الأفراد المتوازنين الذين يلبون جميع الاحتياجات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم. وهناك حقيقة يكاد أن يتفق عليها الناس كلهم, وخلاصتها: أن الأفراد يختلفون فيما بينهم ويتفاوتون تفاوتاً:يقل, أو يكثر, لكنه لا يغيب .. بمعنى أنك لا تجد اثنين من الناس متماثلين في كل شيء,وهذا الأمر هو لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى؛فإن المجتمع بحاجة إلى مجموعة من الكفاءات المتفاوتة, وأي مجتمع بحاجة إلى القادة, والزعماء, وبحاجة إلى الأطباء, والعلماء, والمهندسين, وإلى الخبراء في كافة مجالات الحياة, بل وبحاجة إلى الخدم و إلى غيرهم من أصحاب الحرف والمهن العادية بل والوضيعة في نظر الناس, وبمجموع هذه الأشياء يتكون المجتمع, وهذه الحقيقة يجب أن لا تغيب عنا ونحن نتحدث عن التوازن في حياة الفرد المسلم وفي حياة المجتمع المسلم.
مجتمع فريد:
وإذا كانت هذه الحقيقة مسلمة, فإننا نطل إطلالة سريعة على ذلك المجتمع الفريد الذي تربى على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم: مجتمع الصحابة رضى الله عنهم المجتمع الذي أراد الله أن يكون منارة مرتفعة على التاريخ يتطلع إليها الناس في كل زمان, ومكان.هذا النموذج المتمثل في مجتمع الصحابة لا نطمع أن يتحقق مرة أخرى بنفس المستوى الراقي من الإيمان والعلم والعمل, لكن نطمع أن يكون هذا المجتمع قدوة مثلى لكل مجتمع, ولكل فرد مسلم يدعو إلى الله على مدار التاريخ, ويمكن أن نكتشف بها الخطأ من الصواب في كل وضع يعيشه المسلمون لأنه كما قيل:'بضدها تتميز الأشياء'. وكذلك يجب أن نقيس على هذا المجتمع الفريد كل وضع, وكل مجتمع, فنعرف مدى استقامته, أو انحرافه, ونعرف مقدار هذا الانحراف بهذا القياس, وهذه القضية المهمة نطبقها في موضوعنا: التوازن في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.
سمات ظاهرة في مجتمع الصحابة:
حين تنظر في مجتمع الصحابة نجد:
أولاً: كل فرد منهم متحقق بقدر من العمل سواء بالعبادة, أو الدعوة, أو غير ذلك, فلا تجد أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يغمط أو ينتقص بشيء من الإخلال بالواجبات الشرعية أو التقصير فيها إلا ما لابد من وقوعه من البشر من حوادث فردية معينة .
ثانيا: التزموا جميعا - كلهم بلا استثناء - بعقيدة واحدة صحيحة ناصعة نقية لم يأخذوها بالوراثة,ولا تجد أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقي على معتقد موروث من موروثات الجاهلية بل تمردوا عليها بالكلية وخلعوها على عتبة الإسلام وتلقوا العقيدة الصحيحة نقية صافية من فم محمد علية الصلاة والسلام, ولم يحصل أن وقع أحد منهم ببدعة اعتقادية, ولا ببدعة عملية على الإطلاق . إذاً قدر مشترك من العلم والعمل موجود لكل فرد من الأفراد في ذلك المجتمع الأول.
فإذا انتقلت إلى المجتمع بكليته وجدت أنه فيما عدا هذا القدر المشترك فإنه يوجد لكل واحد من أصحاب محمد صلى الله عيه وسلم ميزة, وخصيصة برز فيها هو وطائفة معه, وقد لا توجد في فرد أو أفراد آخرين:
فمعاذ بن جبل رضى الله عنه: [أمام العلماء يوم القيامة برتوة] كماورد عن النبي صلى الله عليه وسلم,وهو صحيح بمجموع طرقه، فكان معاذ فقيها من فقهاء الصحابة...
ومثله: عبد الله بن مسعود: فقد قال فيه عمر بن الخطاب: [ ابن مسعود كنيف ملئ علماً ] فهذا معاذ, وابن مسعود, ومعهم غيرهم من الصحابة تميزوا بالعناية بالعلم, والاهتمام بالتفقه في الدين.
أما خالد بن الوليد: فلم يشتهر بحمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ, أو ابن مسعود, أو غيرهم من فقهاء الصحابة, وإنما أشتهر خالد بإتقان فنون الحرب, والفروسية, حتى أصبح يجد لذته, وسعادته, وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس ولذلك كان رضى الله عنه يقول: [ما ليلة تهدي إلي فيها عروس أنا لها محب, أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد أصبّح فيها العدو في سرية من المهاجرين] يجد من اللذة في هذا الجو الشديد البرودة المخيف مالايجده في ليلة تهدي إليه فيها عروس, أو يبشر فيها بغلام .(/1)
أبوذر الغفاري رضى الله عنه: وأبو ذر لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره, ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره, و إنما عرف بالزهد والورع, والحث على التقلل من الدنيا, والتزود للآخرة ... وتجد من الصحابة غير هؤلاء لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق .
وهذه المزايا التي تنفرد بالتميز بها طائفة عن أخرى راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب, وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم, فخالد: جبل على الشجاعة, وابن مسعود: منح من قوة الذاكرة, وقوة الاستنباط, والجلد في طلب العلم ما ليس عند غيره ... وهكذا .
أمور يجب مراعاتها:
ومن مجموع هذه الخصائص يتكون المجتمع المسلم, وهذا أمر لابد من مراعاته في هذه الصورة المثالية في مجتمع الصحابة: يجب أن نعمل على أن نتمثلها في واقعنا اليوم, ونحن نسعى إلى تكوين المجتمع المسلم الصحيح الذي يتأسى بمجتمع الصحابة, فندرك أنه لابد أولاً: أن يلتزم كل فرد منا بقدر معين من الخصائص والصفات, فيكون هذا القدر مشتركا بين جميع الأفراد, فكل فرد لابد أن يتعلم من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في حياته العملية... وأن يعرف العقيدة الصحيحة- ليس عن طريق التقليد, والوراثة بل- عن طريق التلقي, ومعرفة الدليل ... وكل فرد لابد أن يلتزم بقدر من العمل, والعبادة, والقيام بما لابد منه في ذلك ... ثم بعد ذلك يتفاوت الأفراد, فيوجد منهم من يشعر بميل إلى الالتزام بطلب العلم الشرعي؛ لأنه يحس أن هذا الأمر خلق له, ويستطيع أن يبرز وينتج فيه أكثر من غيره حيث يملك أداته, فيتجه إلى هذا العلم ويحقق فيه من النتائج الشيء الكثير ... ونجد إنسانا آخر: يحس أنه يمكن أن يحقق لنفسه وللمسلمين في مجال تعلم الطب ما لم يحقق في غيره ... وثالث: يشعر إنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم الهندسة ما لا يحقق في غيره... ورابع: تجد أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم صناعة من الصناعات, أو حرفة من الحرف التي لا تحصر ما لا يحقق في غير هذا المجال, فعلي الإنسان أن ينظر في المجال الذي يحس أن نفسه إليه أميل, وطبعه به أوفق, فيعمل علي التوجه إلى هذا المجال؛ لينجح فيه, ويخدم نفسه والمسلمين من خلاله ما لم يكن هذا المجال مجالاً غير مشروع .
وهذه القضية إن كان علماء التربية اليوم يتحدثون عنها إلا أننا لسنا بحاجة إلى أن ننقل كلامهم كيف ونحن نجد من نصوص علمائنا السابقين ما يغنينا عن ذلك:فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول في كتابه' أحكام المولود' وهو يتحدث عن الأطفال, وتعليمهم: 'ومما ينبغي أن يعتمد: حال الصبي, وما هو مستعد له من الأعمال, ومهيأ له منها مما كان مأذونا فيه شرعا, فيعلم إنه مخلوق له فلا يحمله علي غيره' يعني أن المُرَبِّي يجب أن يتأمل حال المُرَبَّى, وما هو مهيأ له بأصل الخلقة, والطبيعة, فيوجهه إلى ذلك, ولا يحمله علي غيره, يقول:' فإنه إذا حمل علي غير ما هو مستعد له؛ لم يفلح فيه, و فاته ما هو مهيأ له, فإذا رآه حسن السمع, صحيح الإدراك, جيد الحفظ, واعيا, فهذه من علامات قبوله, وتهيؤه للعلم, وإن رآه خلاف ذلك من كل وجهة, وهو مستعد للفروسية وأسبابها: من الركوب والرمي واللعب بالرمح, وإنه لا نفاذ له في العلم, ولم يخلق له مكنّه من أسباب الفروسية, والتمرن عليها, فإنه أنفع له وللمسلمين, وإن رآه بخلاف, وإنه لم يخلق له ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع, ورآه مستعداً لها, قابلا لها, وهي صنعة مباحة نافعة للناس, فيمكنه منها هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه' .(/2)
إذاً ابن القيم أشار إلى القدر الذي لابد منه لكل إنسان, وهو تعلم كل ما يحتاج إليه في دينه, ثم أشار بعد ذلك إلى أن الأولى بالإنسان أن ينظر سواء في نفسه, أو فيمن يربيه فيما هو مستعد له فطرة وخلقة, فيوجهه إلى ذلك, فإنه إن وجهه إلى غيره؛ لم يفلح فيما وجهه إليه, وخسر الشيء الذي كان مستعداً له؛ لأنه لم يشتغل به, وهذا ملمح مهم جداً في قضية التوازن, وحين ننظر إلى جانب معين من جوانب التوازن, فمثلا: جانب العلم لنفترض أنك بعد أن تأملت نفسك وفكرت في الخصائص والمواهب التي منحك الله وجدت أنك تميل إلى تعلم العلوم الشرعية وتحصيلها, وهذا لاشك مهم جداً ولا غنى للمسلمين عنه في حال من الأحوال, فحينئذ ستجد نفسك أمام عدد كبير من العلوم: أمام تعلم التفسير المتعلق بكتاب الله وكتاب الله هو أشرف الكتب وأعظمها, والمسلم بحاجة إلى معرفته قبل معرفة غيره, وهذا يدعوك إلى العناية بالتفسير, فإذا التفت من جانب آخر وجدت أن السنة تفسر القرآن, وتبين مجمله, وتقيد مطلقه, وتخصص عامه, فأنت بحاجة إذاً إلى معرفة السنة حتى تفهم القرآن فهما صحيحاً, وإذا نظرت إلى جانب ثالث: وجدت أن علم العقائد أصل, وأن كل علم قبل هذا العلم لا يكفي, وأن الإنسان إذا فسدت عقيدته لا ينفعه بعد ذلك ما حصل من العلوم... وهكذا كل علم يبدي حجته؛ تجد أنك تحكم له, وتقول: هذا العلم أولى من غيره, ولذلك تجد أن بعض الطلبة ينتقل بين هذه العلوم بطريقة فردية غير منضبطة ولا مستقرة, فهو اليوم متجه إلى تعلم التفسير, فتلقاه بعد شهر أو شهرين قد ترك الكتب التي بدأها والبرنامج الذي ألزم نفسه في تعلم التفسير واتجه إلى حفظ السنة, فتلقاه بعد سنة وقد قطع هذا العمل على نفسه, وقال: لابد أن أتعلم العقيدة, فهي أساس كل شيء فلا يكاد أن يبدأ بتعلم العقيدة حتى ينتقل منها إلى الفقه, وهو يقول: الفقه علم عملي والناس محتاجون إليه في كل حركة وكل سكنة, ولابد من تعلم هذا العلم لسد حاجة الناس... بل أعجب من ذلك أنك تجد بعض الشباب يتجه إلى طلب علم من العلوم, فيلقاه بعض من حوله, فيسأله سؤالاً يتعلق بعلم آخر, فيجد نفسه حائراً أمام هذا السؤال الذي وجه إليه لا يستطيع الإجابة عليه فهذا السؤال وهذه الحيرة أملت عليه الاتجاه إلى العلم الذي يتعلق بهذا السؤال, فإذا كان السؤال فقهياً؛ اتجه إلى الفقه؛ لأنه شعر من خلال عجزه عن الإجابة على هذا السؤال بضرورة تعلم الأحكام التفصيلية وأدلتها, فإذا بدأ وجه إليه سؤال آخر وثالث ... وهكذا, فيكون الإنسان متردداً لا يكاد أن يستقر على حال بسبب ضعف انتباه الإنسان لنفسه, وضعف ضبطه للطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعلم بها, وبسبب عدم وجود المربى, أو الموجه الذي ينتفع الإنسان بخبرته ومعرفته في هذا المجال.
ولذلك قال علماؤنا السابقون: إن الإنسان إذا وجد في نفسه ميلا إلى علم من العلوم ينبغي عليه أن يركز في هذا العلم الذي شعر بأنه يميل إليه, ولو كان هذا العلم مفضولا, فمثلا لو وجدت في نفسك ميلاً إلى علم التاريخ, وأنك تبدع فيه أكثر من غيره, فإنك حينئذ ينبغي - بعد أن تتعلم بعض علوم الشرع التي لا بد لك منها- أن تركز على تعلم علم التاريخ, وأن تخدم الإسلام من خلال هذا العلم, فتبين مثلاً المرويات الباطلة التي دسها الرافضة, وغيرهم من أعداء الإسلام في كتب التاريخ, وشوهوا بها سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, بل شوهوا التاريخ الإسلامي, وخاصة القرون المفضلة, فأنت مؤرخ تخدم الإسلام من خلال تمحيص التاريخ الإسلامي, ومن خلال دراستك للتاريخ دراسة صحيحة, وبيانك للصورة المشرقة التي رسمها المسلمون الأولون حتى ينسج المسلمون على منوالها, فيعرفوا التصرف الصحيح, فيمتثلون, ويعرفوا ما تبين عدم صحته فيجتنبوه, ولذلك قال الشاعر :
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارا إلى عمره(/3)
وما يمكن أن يقال في التاريخ مثلا يمكن أن يقال في علم آخر, ولذلك قال الإمام ابن حزم في كتابه الذي سماه:' الأخلاق والسير في مداواة النفوس' :' من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره, فلا يشغلها بسواه, فيكون كغارس النارجيل في الأندلس, وكغارس الزيتون في الهند' وهذا كله لا يثمر, فحين تغرس نوعاً من الشجر في بلد لا تصلح تربته, أو لا يصلح جوه, فإنه يموت, فتخسر الشجرة, وتخسر الجهد الذي بذلته, والوقت والأرض ... وهكذا من وجه نفسه إلى علم لا يحسنه؛ يتعب كثيراً ولا يحصل فيه إلا القليل, بل إنني أقول: إن الأمر يتعدى ذلك, فإن كثيراً ممن يسيئون إلى العلم الشرعي ويخطئون من حيث أرادوا الصواب والإحسان هم من أقحموا أنفسهم في هذه المجالات, وهم لايملكون أداتها ولا آلتها ولم يخلقوا لها, فجاءوا من الآراء والنظريات والأقوال بالشيء الغريب الذي لم يسبقوا إليه, وتجد كثيرا من الشباب خاصة في بداية الطلب, وفي غمرة الحماس قد يأتون بآراء وأقوال في منتهى الغرابة, وقد يصدر منهم أيضا من التصرفات والمواقف الشيء الكثير, ولا حاجة إلى ضرب الأمثلة لذلك, فهي معروفة لدى الكثير .
إننا حين ندرك المواهب التي وهبنا الله عز وجل إياها و الأشياء التي نستطيع أن نفلح فيها أكثر من غيرها, فإننا بذلك نوفر على أنفسنا جهداً وعناءً كبيراً, ونقدم للدين الذي نحبه ونحب أن نضحي في سبيله شيئا كثيرا, وفي نفس الوقت نكون قد تناوبنا القيام بفروض الكفايات التي أوجبها الله علينا, فإن تعلم هذه العلوم فيما عدا العلم الذي يخص الشخص هو من باب فروض الكفايات, حتى علوم الصناعات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم العملية هو فرض كفاية, وكذلك تعلم العلوم الزائدة التي يحتاجها الناس, فإذا قام كل واحد منا بالتعرف على العلم الذي يحسنه, فوجه همه إليه, أو التعرف على الشيء الذي يناسبه- ولو لم يكن علما- ووجه همه إليه, فإنا سنجد في النهاية أننا بمجموعنا أفلحنا في تكوين مجتمع إسلامي متكامل, يتناوب أفراده القيام بفروض الكفاية, ولا يوجد فرد في غير محله, فكل فرد في موقعه الطبيعي .
ولا شك أن الإنسان قد يقول: كيف لي أن أعرف الموهبة التي يمكن أن أجيد فيها؟ وهذا فعلا لا يتحقق في كثير من الأحيان إلا بنوع من الانتباه والتجربة, ففي بعض الأحيان تكون مواهب الإنسان بارزة ومتجهة إلى شيء معين, وهذا لا إشكال فيه... لكن أحياناً أخرى تكون هذه المواهب خفيه تحتاج إلى تجربة, واستشارة, و بالتجربة, والانتباه والاستشارة يصل الإنسان إلى الموقع المناسب.
ويجب علينا أن ندرك أن الله حين قسم بيننا هذه المواهب, وهذه الملكات أراد منا أن نستثمرها في طاعته, وفيما يريده؛ ولذلك فإننا حين نضيعها نكون قد ظلمنا أنفسنا, وتعرضنا لسخط الله, أو عقابه, اقرأ قول الله: } وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [165] { سورة الأنعام
تأمل هذه الآية:}جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ { فنحن مستخلفون في هذه الأرض, ومطالبون بعمارتها. } هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [61] {سورة هود . ومطالبون بإقامة دين الله فيها بكل
جوانبه, ودين الله لا يقوم به إلا من أحاطه بجميع جوانبه, مطالبون بجميع ذلك, ثم قال: } وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ{ إذاً: فالناس درجات متفاوتة منهم: من جمع من الفضل والخير أنواعا كثيرة, ومنهم: دون ذلك, ومنهم: الفاضل في مجال, ومنهم: الفاضل في مجال آخر, منهم: العالم, ومنهم العابد, ومنهم المجاهد... وهذه درجات متفاوتة وأنواع من الفضل: } لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ{ إذاً:هذا الفضل هو ابتلاء واختبار, من هو الذي ينجح في هذا الابتلاء, فيقوم بما أوجب الله عليه بتوجيه المواهب الفطرية توجيهاً صحيحاً يخدم الإسلام, وبالاستفادة مما اكتسبه في طاعة الله, ومن هو الذي يخفق في هذا الامتحان, فيوجه مواهبه توجيهاً غير صحيح, أو يوجه ما اكتسبه في معصية الله, أو في الإث,م أو في أشياء لا فائدة منها, ثم ختم الآية بالإشارة إلى العقاب وإلى مغفرة الله ورحمته:}إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ { وهذا دليل جلي واضح على أنه ينبغي للشاب المسلم أن يستثمر مواهبه وطاقاته في خدمة الإسلام, ويدرك أن كل طاقة عنده مهما تكن بسيطة ينبغي أن توجه توجيهاً صحيحاً …(/4)
إن من الخطأ أن يكون الشاب في بناء شخصيته متذبذباً منتقلا من طرف إلى طرف بل ينبغي له أن يرسم لنفسه منهجا متوازناً معتدلا يجمع بين العمل والعبادة والعمل ثم يحرص على البروز أكثر وأكثر في المجال الذي يحسن فيه ...وفي الختام أتوجه إلى الله تعالى وأسأله أن يوفقنا للاستفادة مما وهبنا في طاعته وأن يجعلني وإياكم ممن صرفوا جميع إمكانياتهم في سبيل الله تعالى, وأن لا يجعل حظنا هو الكلام, أو الاستماع, وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/5)
التواصي على الدعوة إلى الله
________________________________________
يقو ل الله عز وجل في سورة العصر:
(( والعصر، إن الأنسان لفي خسر، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ))
سورة عظيمة تبين المنهج الذي ضل عنه كثير من الناس تبين إن الإيمان هو الأصل الذي تتفرع منه جميع الأصول، والعمل الصالح هو النتيجة الحتمية للإيمان الذي استقر في القلوب يقول سيد قطب رحمه الله:(( فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج بصورة عمل صالح )).
ولا يفوح ريحان الإيمان والعمل الصالح في ميادين الأمة الإسلامية إلا بالتواصي بالحق وبالتواصي بالصبر لذا على الدعاة إلى الله أن يتواصوا بالحق الذي يحملونه ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل لأن الحق لا يحق في أرض الواقع بمجرد قناعتنا وإيماننا به فكم من فكرة حقٍ ضاعت لأنها لم تجد من يضحى ويصبر من أجلها.
فيا دعاة الحق تواصوا بالصبر على طاعة الله وفرائضه، بالصبر عن معاصي الله، بالصبر على الدعوة إلى الله بالصبر على
خدمة دين الله بالصبر على طول الطريق وكثرة العقبات، يقول سيد قطب رحمه الله: (( والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، و وحدة المتجه وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار)).
ولقد رأينا زحف التيار اللا أخلاقي في مجتمعاتنا الإسلامية وذلك باسم الحرية والتطور والانفتاح ،وسبيلنا الوحيد لوقف الانحطاط في السلوك والقيم هو التواصي على الدعوة إلى الله فنبذل كل ما لدينا لإصلاح ماحو لنا ، وإمامنا في ذلك سيد المرسلين ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله تعالى:((يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر )) سورة المدثر
يقول الإمام أبن كثير – رحمه الله في تفسير الآية: " وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والاحرار والعبيد فأمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد"
الداعية....حبيب الله
والدعوة إلى الله من أفضل مقامات العبودية كما اخبر بذلك ابن الجو زى قال الله عز وجل :(( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين )) سورة فصلت
ويكفيك شرفا أخي المسلم أن تكون داعية إلى الله، يقول الحسن البصري رحمه الله في تفسير الايه:" هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال إنني من المسلمين"
والخير في امة الإسلام مرتبط ارتباط وثيق بالدعوة إلى الله، قال الله عز وجل:
(( كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ))آل عمران
داعية.... أينما كنت
والمسلم يجب إن يكون داعي إلى الله في بيته مع زوجته وأبناءه بين أصدقاءه وجيرانه في وظيفته في صباحه ومسائه في كل مكان فهو كالغيث أينما وقع نفع، لذا على الداعية إلى الله أن يتحرى الصدق والامانه فيما يفعله ويقوله، ولقد حذرنا الله عز وجل في قوله: ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ))
يقول سيد قطب –رحمه الله-: " إن آفة رجال الدين – حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة، إنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى الخير ويهملونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الأفه التي تصيب النفوس بالشك لافى الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها "
والصدق في الدعوة إلى الله هو السبيل الذي يفتح الله به قلوب الخلق، واستمع إلى ما قاله ابن القيم الجو زيه في وصف منزلة الصدق: " هو الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل من الواصلون إلى حضرة ذي الجلال "
- الدعوة إلى الله ومهارات الاتصال مع الآخرين والتأثير فيهم :
ا لإتصال مصطلح شاع وكثر استعماله بين أصحاب علم الإدارة والمراد به: (( سلوك أفضل السبل والوسائل لنقل المعلومات والمعاني والأحاسيس والآراء إلى أشخاص آخرين والتأثير في أفكارهم وتوجهاتهم وإقناعهم بما تريد سواء كان ذلك بطريقه لغوية أو غير لغوية))(/1)
وللاتصال أنواع منها الاتصال بالكلام والاتصال بالعيون والاتصال بتعبير الوجه وحركة الجسم وفيما يلي أهم القواعد في بناء الاتصالات والعلاقات مع الآخرين:
1 - أصلح ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس ،لأن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء قال الله تعالى:{ فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم }
2-أفش السلام وجعل الابتسامة رسولك إلى قلوب الآخرين فهي مفتاحك لأبواب النفوس قال صلى الله عليه وسلم : (( تبسمك في وجه أخيك صدقة ))
3-اعرف نمط الإنسان الذي تتعامل معه واختر كلماتك بعناية وكن وفياً بالوعد صادقاً بالحديث واحذر من جمود القسمات وغلظة الوجه .
يقول الشاعر:
إذا ما قلت كنت للقولِ فاعلاً وكان حيائي كافلي وضميني
تبشر عنى بالوفاءِ بشاشتي وينطق نور الصدق فوق جبيني
4- احتفظ بهدوئك ورباطة جأشك عند الاستفزاز من الطرف الأخر وتذكر وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( لا تغضب ،لا تغضب ، لا تغضب))
5- الهدية الجميلة وإن صغرت وهى من وسائل كسب القلوب وبناء العلاقة مع الناس قال عليه الصلاة والسلام: (( تهادوا تحابوا )) .
6 – احرص على نظافة البدن والفم والملبس و الأناقة الغير مبالغ فيها وكن ذو بساطة ولا تتكلف في التعامل وهذا كله من أدب الإسلام، قال القرطبي في تفسير قول الله عز وجل { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}: ((روى مكحول عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم وفى الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوى لحيته وشعره. قالت عائشة:فقلت له:يا رسول الله، وأنت تفعل هذا ؟ قال:نعم، إذ خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال))
في الختام اسأل الله عزوجل أن يجعلنا دعاة صادقين هداة مهتدين ، متبعين ومقتدين بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
مراجع:
حتى لاتكون كلا د. عوض القرني
شخصية المسلم د. محمد الهاشمي
في ظلال القران سيد قطب
الدعوة الفردية محمد السيد الوكيل
تأليف: عمر سالم المطوع(/2)
التواضُعُ والشكر
د. محمد عمر دولة*
مِن نِعَِمِِ الله علينا: أنْ يُقبِلَ بِقُلُوبِِنا على مَعرفةِ نِعَمِه العظيمة؛ حتى نشعرَ بهذه الرحمةِ الواسِعة ونُحِسَّ بهذه النِّعمةِ السابِغةِ البالِغة؛ وتلك رحمةٌ لا يُؤتاها إلا الموفَّقُون، ونِعمةٌ لا يُلَقَّاها إلا ذو حَظٍّ عظيم!
ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ؛ ما أحْسَنَ تَعْبِيرَه عن هذا المعنى بقولِه: "مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة"![1] فكَم مِن رحمةٍ سابِغةٍٍ لا يشعُرُ بها الناسُ، ولا يَقْدِِرُونَها حقَّ قدرِها، ولا يُلْقُون لها بالاً! وهم يسبحون في عُبابِها صباحَ مساء! فالشُّعُورُ الصادِقُ بأنَّ هذه النعمةَ مِن عندِ الله، وأنه لولا فَضلُه وكرَمُه وإحْسانُه لِعَبِيدِِه ما كانت: هو الرحمةُ والنعمةُ والسَّعادةُ!
وكأيِّن مِِن رجلٍٍ يَمُرُّ على قولِ الله عزَّ وجَلَّ: (وما بِكُم مِن نِعمةٍٍ فمِنَ الله)![2] ثم لا يذكر نعمةً من نِعَمِ الله عليه؛ فضلاً عن أن يَشْكُرَه عليها! والله المستعان!
وقد روى أبو هريرةt عن رسولِ اللهr أنه قال: (لا يُنْجِي أحداً منكم عَملُه فقال رجل: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ فقال: ولا أنا؛ إلا أنْ يَتغَمَّدَني الله برحمته؛ ولكن سَدِّدُوا).[3] وفي روايةٍ: (سَدِّدُوا وقارِبوا واعلموا أنَّ أحداً منكم ليس بِمُنجِيهِ عَملُه قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أنْ يَتغمَّدَني الله برحمتِه).[4] وفي رواية: (ما مِنكم أحَدٌ يُنْجِيهِ عَمَلُه، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمَّدنِي الله برحمةٍ منه؛ سَدِّدُوا وقارِبُوا وقَرِّبُوا ورُوحُوا واغْدُوا وشيءٌ من الدُّلْجة والقَصدَ القصدَ تَبلُغُوا).[5] وفي رواية: (لن يَلِجَ الجنةَ أحَدٌ بِعَملِه! قالوا: ولا إياك يا رسولَ الله؟ قال: ولا إياي؛ إلا أن يتغمَّدَني الله برحمتِه، أو تسعَنِي منه عافِيَته).[6]
وروى أبو سعيد الخدريt قال: قال رسولُ اللهr: (لن يَدْخُلَ الجنةَ أحَدٌ إلا بِرِحْمَةِ الله. قُلنا: يا رسولَ الله ولا أنتَ؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يَتغَمَّدَنِي الله بِرَحْمَتِه، وقال بِيَدِه فوقَ رأسِه).[7]
وعن جابرt قال: قال رسولُ اللهr: (قارِبُوا وسَدِّدُوا؛ فإنه ليس أحدٌ مِنكم يُنجِيهِ عَمَلُه قالوا: ولا إياك يا رسولَ الله؟ قال: ولا إياي إلا أنْ يتغمَّدَنِي الله برحمتِه).[8] وفي رواية: (قارِبُوا وسَدِّدُوا؛ فإنه لم يُنْجِ أحداً عَمَلُه، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: فوضع يدَه على رأسِه، وقال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدَني الله برحمته).[9]
وروى أسد بن كرز بن عامر بن عبقر القسري قال: قال رسول اللهr (لا يدخل الجنةَ أحدٌ بِعَمله؛ ولكن برحمةِ الله. قلت: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتلافاني الله أو قال: يتغمَّدَني الله بِرَحْمَتِه).[10]
لو تأمَّلْنا هذا الحديثَ بهذه الألفاظِ المتعدِّدة الثرِيَّةِ بمعاني الحمدِ؛ (إلا أن يتغمَّدَني الله برحمتِه، أو تسعَنِي منه عافِيَته). ويسألr عن نفسِه؛ فيقول: (ولا أنا إلا أن يتلافاني الله أو قال: يتغمَّدَني الله بِرَحْمَتِه)! لَوَجَدْناه يَفِيضُ علينا بِيَنابيعِ التواضُع؛ فهذا رسولُ اللهr وخيرُ خلقِ الله وإمامُ المتقين وسيدُ المرسَلِين ورَحمةُ الله للعالَمِين المعصومُ من الذنوبِ والشفيع في العالَمين يشهد بأنَّ الله عزَّ وجَلَّ هو المتفضِّلُ عليه، فهو لا يستَغنِي عن بَرَكَتِه؛ بل يَفتقِرُ إلى رحمتِه؛ فكيف بِالعُصاةِ المذنِبِين الذين لا يَدْرُون هل غُفِر لهم ما تقدَّم من ذنبهم؟
فوالله لو قِيسَتْ أعظمُ أعمالِنا بِفَضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ علينا؛ لكان فَضلُه تعالى أعَمَّ وأعظم! فإنه تبارك اسمُه وتعالى جَدُّه المتفضِّلُ علينا بتوفِيقِنا للقيامِ بهذه الأعمالِ، وتَذْلِيلِها لنا وتَيْسِيرِها حتى نتمكَّنَ ِمن أدائها، ثم إعانتنا عليها بِحِفْظِها مِن الصَّوارِفِ والشَّواغِلِ، وصِيانَتِها مِن القوادِح؛ ثم التفضُّل بِقَبولِها، والتجاوُز عما فيها من القُصُور!
إنَّ تَمامَ مَعْرِفَتِنا بالنِّعَم.. وإدراكَنا لعظيمِ حقِّ الله علينا في شُكرِها؛ لَيَملأ قلوبَنا بروحِ التواضُعِ لله عزَّ وجلَّ والانكسار له تبارك وتعالى؛ إذْ إنَّ مَعْرِفََتَنا لِهذه النِّعَمِ العظيمة والآلاءِ الجسيمةِ تُساعِدُنا على إدراكِ فَضلِ الله علينا، ويَقِينِنا بالتقصيرِ في شُكرِ الله عزَّ وجَلَّ على كلِّ هذه النِّعَم السابغة البالغة!(/1)
ورحم الله البيهقي؛ فقد روى في (شُعَبِ الإيمان) أنَّ بعضَ العُلماءِ قال: "سُبحانَ مَن لم يَجعَلْ في أحدٍ مِن مَعرفةِ نِعَمِهِ إلا المعرفةَ بالتقصيرِ عن مَعرفتِها، كما لم يجعَلْ في أحدٍ مِن إدراكِه أكثرَ مِن العِلمِ أنه لا يُدْرِكُه فيَجعلُ معرفةَ نِعَمِه بالتقصيرِ عن مَعرفتِها شُكراً، كما شَكَرَ عِلْمَ العالَمِين أنه لا يُدْرِكُونَه؛ فجعلُه إيماناً عِلماً منه أنَّ العِبادَ لا يُجاوِزُون ذلك"![11]
----------
[1] في ظلال القرآن لسيد قطب 22/2923.
[2] النحل 53.
[3] رواه أحمد 2/451، حديث 9830. مؤسسة قرطبة، مصر.
[4] مسند أحمد 2/466. حديث 10011.
[5] مسند أبي داود الطيالسي 1/305، حديث 2322، دار المعرفة بيروت. والزهد لابن أبي عاصم 1/398، دار الريان للتراث القاهرة، ط2، 1408 هـ.
[6] الزهد لابن المبارك 1/507، حديث 1445، دار الكتب العلمية بيروت، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
[7] مسند أحمد 3/52، حديث 11504.
[8] مسند أحمد 3/337، حديث 14668.
[9] سير أعلام النبلاء للذهبي 16/447، ترجمة أبي الحسن محمد بن علي الماسرجسي مؤسسة الرسالة بيروت، ط9، 1413 هـ.
[10] مسند الشاميين لأبي القاسم الطبراني 1/396، حديث 686، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1405 هـ.
[11] شعب الإيمان 4/152، حديث 4624.(/2)
التوبة النصوح ست أبوها برير أحمد المهدي*
قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (سورة النور: من الآية 31)..
التوبة.. وما أدراك ما التوبة؟!.. تلك الرحمة الربانية، والباب الإلهي الذي فتحه الله لعباده جميعاً؛ والذين أسرفوا على أنفسهم حتى لا يقنطوا من رحمته؛ ولكي يلجوا عبره إلى دار المغفرة والفلاح؛ فتوبة العبد لربه، ورجاء رحمته، والأوبة إليه إقرار بالتقصير في حق الله، واعتراف باقتراف الذنب، وإعلان من العبد بأن تكليف الله عز وجل له بطاعته، وعدم معصيته تكليف حق.. وما دام العبد قد أقرّ بالذنب، وطلب المغفرة من الله فعليه أن لا يرتكب ذنوباً أخرى، وأن يصر على تجنب المعاصي حتى تكون توبة نصوحاً؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. فما أكثر الذنوب عندنا؛ وخاصة في زمننا هذا!.. ولكن ما أجمل كرم الله، ومنّه علينا بالتوبة وغفران الذنوب! (فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ومن تاب تاب الله عليه..
فالتوبة النصوح هي النابعة من إحساس العبد بالذنب، وبالفرار إلى الله، ولها شروط - كما قال العلماء - وهي أن يقلع العبد عن المعصية في ساعتها، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم أن لا يعود إلى المعصية أبدا، وأن تكون خالصة لله عز وجل.. أما إذا كان الذنب يتعلق بحق العباد فإضافة إلى هذه الشروط عليه أن يتخلص من حقوقهم؛ فإن كان مالاً أو نحوه رده إلى صاحبه، وإن كان حد قذف ونحوه مكّنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة فيستحله منها.
وهكذا نجد عفو الله ورحمته التي وسعت كل شيء، ومغفرته التي غلبت غضبه قد فتحت الباب واسعاً أمام كل عاصٍ حتى لا ييأس من رحمة ربه؛ قل تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
إذاً فعلى العبد أن يسارع إلى تلك المغفرة، ويتوب إلى الله في كل لحظة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وعندئذ يبوء بالخسران المبين؛ يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
وبذا يجد العبد نفسه أقرب إلى رحمة الله من عذابه؛ وهو يمد يده إلى السماء بتذلل وانكسار؛ يقول: يا رب! فيجيبه الله جل وعلا: لبيك عبدي؛ لو أتيتني بقراب الأرض ذنوباً ثم سألتني ورجوتني وأنت لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ولا أبالي!!.. نعم يا رب أنت قلت وقولك الحق: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ).. يا الله! ما أعظم كرم الله على عباده!.. إلهي يا رب:
إن عظمت ذنوبي كثرة ** فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ** فبمن يلوذ ويستجير المجرم
نعم.. إن الله الواحد الأحد، العفو الكريم، ذو الفضل العظيم، القائل لعباده: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)..
فالله يفرح بتوبة عبده كما جاء في الحديث في رواية مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم؛ كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه؛ وعليها طعامه وشرابه؛ فأيس منها؛ فأتى شجرة؛ فاضطجع في ظلها؛ قد أيس من راحلته.. فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده؛ فأخذ بخطامها؛ ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك!!.. أخطأ من شدة الفرح).
ومن هنا ندرك كرم الله ومنّه على عباده بالتوبة عليهم؛ وهو يبسط يده ليتوب عليهم كل لحظة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ حتى تطلع الشمس من مغربها).. رواه مسلم.
فالتائبون هم أحباب الله، وخير عباده؛ لإدراكهم معنى العبودية الخالصة لله، والخضوع له، ومراجعة النفس ومحاسبتها قبل الحساب يوم الفزع الأكبر: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).. فالعبد المؤمن قد يخطئ ولكن سرعان ما يتذكر الوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم؛ فيفر إلى الله تائباً، مستغفراً لذنبه؛ فيتوب الله عليه؛ (كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون).. قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المطهرين).(/1)
فالأمة المحمدية أمة مرحومة بفضل الله الذي أنعم عليها برسولها صلى الله عليه وسلم سيد المستغفرين، وإمام التائبين، الذي فضله الله وكرمه على الخلق أجمعين، والأنبياء والمرسلين.
إذاً ما أحوجنا أن ننعم بذلك الفضل الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فنتوب إلى الله، ونقتفي أثر رسولنا الكريم، النبي المعصوم، الذي يتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) رواه البخاري.
فتوبوا إلى الله أيها المؤمنون، واستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم
إلهي يا رب:
بك أستجير فمن يجير سواك ** فارحم ضعيفاً يحتمي بحماك
يا رب قد أذنبت فاغفر ذنبي ** أنت المجيب لكل من ناداك(/2)
التوبة النصوح
ست أبوها برير أحمد المهدي*
قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (سورة النور: من الآية 31)..
التوبة.. وما أدراك ما التوبة؟!.. تلك الرحمة الربانية، والباب الإلهي الذي فتحه الله لعباده جميعاً؛ والذين أسرفوا على أنفسهم حتى لا يقنطوا من رحمته؛ ولكي يلجوا عبره إلى دار المغفرة والفلاح؛ فتوبة العبد لربه، ورجاء رحمته، والأوبة إليه إقرار بالتقصير في حق الله، واعتراف باقتراف الذنب، وإعلان من العبد بأن تكليف الله عز وجل له بطاعته، وعدم معصيته تكليف حق.. وما دام العبد قد أقرّ بالذنب، وطلب المغفرة من الله فعليه أن لا يرتكب ذنوباً أخرى، وأن يصر على تجنب المعاصي حتى تكون توبة نصوحاً؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. فما أكثر الذنوب عندنا؛ وخاصة في زمننا هذا!.. ولكن ما أجمل كرم الله، ومنّه علينا بالتوبة وغفران الذنوب! (فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ومن تاب تاب الله عليه..
فالتوبة النصوح هي النابعة من إحساس العبد بالذنب، وبالفرار إلى الله، ولها شروط - كما قال العلماء - وهي أن يقلع العبد عن المعصية في ساعتها، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم أن لا يعود إلى المعصية أبدا، وأن تكون خالصة لله عز وجل.. أما إذا كان الذنب يتعلق بحق العباد فإضافة إلى هذه الشروط عليه أن يتخلص من حقوقهم؛ فإن كان مالاً أو نحوه رده إلى صاحبه، وإن كان حد قذف ونحوه مكّنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة فيستحله منها.
وهكذا نجد عفو الله ورحمته التي وسعت كل شيء، ومغفرته التي غلبت غضبه قد فتحت الباب واسعاً أمام كل عاصٍ حتى لا ييأس من رحمة ربه؛ قل تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
إذاً فعلى العبد أن يسارع إلى تلك المغفرة، ويتوب إلى الله في كل لحظة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وعندئذ يبوء بالخسران المبين؛ يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
وبذا يجد العبد نفسه أقرب إلى رحمة الله من عذابه؛ وهو يمد يده إلى السماء بتذلل وانكسار؛ يقول: يا رب! فيجيبه الله جل وعلا: لبيك عبدي؛ لو أتيتني بقراب الأرض ذنوباً ثم سألتني ورجوتني وأنت لا تشرك بي شيئاً غفرت لك ولا أبالي!!.. نعم يا رب أنت قلت وقولك الحق: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ).. يا الله! ما أعظم كرم الله على عباده!.. إلهي يا رب:
إن عظمت ذنوبي كثرة ** فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ** فبمن يلوذ ويستجير المجرم
نعم.. إن الله الواحد الأحد، العفو الكريم، ذو الفضل العظيم، القائل لعباده: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)..
فالله يفرح بتوبة عبده كما جاء في الحديث في رواية مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم؛ كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه؛ وعليها طعامه وشرابه؛ فأيس منها؛ فأتى شجرة؛ فاضطجع في ظلها؛ قد أيس من راحلته.. فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده؛ فأخذ بخطامها؛ ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك!!.. أخطأ من شدة الفرح).
ومن هنا ندرك كرم الله ومنّه على عباده بالتوبة عليهم؛ وهو يبسط يده ليتوب عليهم كل لحظة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ حتى تطلع الشمس من مغربها).. رواه مسلم.
فالتائبون هم أحباب الله، وخير عباده؛ لإدراكهم معنى العبودية الخالصة لله، والخضوع له، ومراجعة النفس ومحاسبتها قبل الحساب يوم الفزع الأكبر: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).. فالعبد المؤمن قد يخطئ ولكن سرعان ما يتذكر الوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم؛ فيفر إلى الله تائباً، مستغفراً لذنبه؛ فيتوب الله عليه؛ (كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون).. قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المطهرين).(/1)
فالأمة المحمدية أمة مرحومة بفضل الله الذي أنعم عليها برسولها صلى الله عليه وسلم سيد المستغفرين، وإمام التائبين، الذي فضله الله وكرمه على الخلق أجمعين، والأنبياء والمرسلين.
إذاً ما أحوجنا أن ننعم بذلك الفضل الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فنتوب إلى الله، ونقتفي أثر رسولنا الكريم، النبي المعصوم، الذي يتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) رواه البخاري.
فتوبوا إلى الله أيها المؤمنون، واستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم
إلهي يا رب:
بك أستجير فمن يجير سواك ** فارحم ضعيفاً يحتمي بحماك
يا رب قد أذنبت فاغفر ذنبي ** أنت المجيب لكل من ناداك(/2)
التوبة سعادة الدارين
رضوان سلمان حمدان
E-mail: radwan_hamdan@yahoo.com
الحاجة إلى التوبة تعادل الحاجة إلى مقومات الحياة لدى الإنسان على مستوى الفرد والجماعة إن لم تزد, فإذا كان الهواء والماء والطعام تشكل الحياة المادية للإنسان ليمارس حركته أياً كانت في الوجود؛ فإن التوبة هي تجديد وتجدد لهذه الحياة وتنشيط لها في الجانب الإيجابي لحركة الحياة وتزيد عليها أنها تطّلع إلى ما بعد الحياة الدنيا, من هنا نلمح السر في التعقيب بالفلاح في قوله تعالى:{ وتوبوا إلى الله جميعا أيها لمؤمنون لعلكم تفلحون} فالفلاح مطلق عن قيود ومحددات الزمان والمكان في الدنيا والآخرة .
فالرحمن الرحيم يأمر عباده أن يتوجهوا إليه بالتوبة في أمر مباشر سبع مرات من مجموع 87 مرة عدد ورود "التوبة" في القرآن بصيغ واشتقاقات مختلفة. وفي سورتي النور والتحريم يأتي الأمر المباشر للمؤمنين بالتوبة ونلحظ ما يلي :
1- أن الأمر بالتوبة في سورة النور جاء تعقيبا على أحكام شرعية وقضايا وأحداث وقعت في المجتمع المسلم كان لها تأثير على المجتمع هزتهم هزاً عنيفا , وتتمثل في ما يلي: حكم الزنا وعقوبته , والملاعنة بين الزوجين , وحديث الإفك الخطير وما تبعه من بيان وتنبيهات صارمة, ورمي المحصنات والتشديد فيه, والأمر بغض البصر للذكور والإناث وهو حكم شرعي تساهل فيه المسلمون اليوم كثيراً, وبيان حدود الزينة للمرأة ومن يجوز لها أن تظهرها أمامهم. بعد كل ذلك يأتي التعقيب في نهاية آية طويلة {... وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }. يقول القرطبي: والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال.
2- جاء الطلب بصيغة الأمر والأمر يفيد الوجوب فالتوبة فرض متعين وهذا يعني أن عدم الاستجابة لأمر الله في التوبة إثم يضاف إلى الإثم الأصلي المطلوب التوبة منه.
3- طلب التوبة جمعي وفردي { توبوا ... جميعاً ... المؤمنون } وفي هذا دلالة على أن التوبة من الخطأ والإثم:-
أ- لا يعفى منه أحد فليس من هو فوق السؤال أو التكليف وليس من أحد من البشر "لا يُسأل عما يفعل" أي خال من كل تبعة أو مسؤولية!! فالذي لا يسأل عما يفعل هو الله رب العالمين. حتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم يخاف الله ويخشاه ويستغفره ويتوب اليه ويدعوه ويتضرع إليه: قال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). رواه البخاري.
وهو صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن دونه...
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل:{ يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل و النهار و أنا الذي أغفر الذنوب و لا أبالي فاستغفروني أغفر لكم)
حديث صحيح على شرط الشيخين. ويقول عليه السلام:{كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.
ب- المجتمع هو مجموع الأفراد فإن توبتهم في المحصلة توبة المجتمع.
ج- إن التساهل في التوبة والإنابة والرجوع إلى الله يعني التساهل في الذنب والخطأ وهذا بدوره يزيد الأخطاء ويراكمها حتى تطفو على السطح وتنتشر ويسام بها المجتمع.
د- إن كثرة الخبث من ذنوب ومعاص له استحقاق حتمي في قانون الله عز وجل وهو حلول العقاب ووقوع الهلاك, عن زينب ابنة جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث).
رواه البخاري. وفي حديث السفينة (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).
رواه البخاري. دلالة واضحة على أن الأمة مجتمعة مسؤولة عما يقع من ذنب ولا يتم التراجع عنه . عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا).(/1)
أبو داوود.وفي حديث آخر (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم قال أبو عيسى هذا حديث حسن حدثنا علي بن حجر أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن أبي عمرو بهذا الإسناد نحوه).
قال الترمذي: حديث حسن.
4- والمؤمنون هم الموجه لهم الأمر بالتوبة ولهذا معان:
أ- إن الإيمان هو مناط التكليف وهذا يعني أن التوبة عبادة على المؤمنين تعبد الله بها.
ب- أن المؤمن معرض للخطأ فليس الإيمان بحاجز أو مانع عن الخطأ.
ج- المؤمن هو الذي يتحرك قلبه للاستجابة, من هنا جاء الخطاب موجهاً بصفة الإيمان حتى يلامس هذا الوصف مكنون القلب.
5- والسر في قوله تعالى { إلى الله } في أن التوبة من العبد إلى ربه مباشرة بدون وساطات أياً كانت فليس بين الله وبين عبده واسطة إلاّ الإيمان وصدق التوجه والعمل الصالح. وهذا يؤكد قضية التوحيد والقرب ( وهو أقرب إليكم من حبل الوريد)(ادعوني أستجب لكم).
6- وكنا في البداية قد بينا أن الفلاح عام في الدنيا والآخرة فوز وغنيمة وجنة ونعيم مقيم.
* باب التوبة مفتوح:
من رحمة الله بعباده أن جعل باب التوبة مفتوحاً إلى أن تطلع الشمس من مغربها وإلى أن تبلغ الروح التراقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها).
رواه مسلم. عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
قال الترمذي : حسن غريب
يا لرحمة الله التي وسعت كل شيء, وهكذا يفتح الله لعباده باب التوبة والرجاء والرجوع إليه.
*لا ذنب لا يغفر:
نعم, لا يرد الله توبةً من عبده إذا أقبل عليه بصدق مهما بلغ ذنبه كثرة وحجماً:-
إن الله يغفر الشرك لمن تاب عنه وأناب وعمل صالحاً {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }طه82 . {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة5.
والقتل!: فلو قتل مئة نفس ثم تاب تاب الله عليه عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فأنطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة قال قتادة فقال الحسن ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره)
رواه مسلم.
ومن الزنى؟! نعم, عن عمران بن حصين: (أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى فقالت يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بها ففعل فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)
رواه مسلم.
ومن التخلف عن الجهاد؟! نعم, {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }التوبة118. وفيهم حديث طويل رواه البخاري يقص توبتهم.
والقول الجامع في ذلك قول الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الزمر53. وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم) رواه مسلم.(/2)
وربّ قائل يقول إن التوبة تطمع الإنسان بالخطأ فيُكثر ويتمادى, والصحيح أن التوبة توقف الذنب والإساءة, ويعود العبد صالحاً وإيجابياً, وقد يتحول إلى داعية إلى الله تعالى, والشواهد من الماضي والحاضر أكثر من أن تحصى, فهذه هندٌ زوج أبي سفيان التي شقت صدر حمزة في غزوة أحد ولاكت كبده تُسلم ويحسن إسلامها وتجاهد في سبيل الله, ولها مواقف مشهودة في اليرموك وتصاب وتصبر وتحتسب. وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً دليل على إيجابية قبول التوبة ذلك أن من علم أن لا توبة له هو الذي يتمادى ويزيد في إجرامه ولن يردعه شيء ألم يكمل على المائة بمجرد أن قال له الراهب أن لا توبة له فكان الراهب هو الضحية!.
إن التوبة راحة وطمأنينة وإلا فالهم والغم والقنوط والشر والانتحار, فما أجل حكمة الله "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
ولو تكرر الذنب فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات فالإنسان غير معصوم وقد يستزله الشيطان ويضعف أمام هوى نفسه فمن له غير الله ملجأ وملاذاً.
*المسارعة في التوبة: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء17.
فليحرص العبد على أن يتوب سريعاً من المعصية فإنه لا يدري متى يدركه الموت, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل و هو يعظه : اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، و صحتك قبل سقمك ، و غناك قبل فقرك ، و فراغك قبل شغلك ، و حياتك قبل موتك.)
صحيح على شرط الشيخين. فإياك أخي المسلم من المماطلة والتسويف فإن ملك الموت لن يستأذن عند قبض الروح {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }الأعراف34.
*من أسباب قبول التوبة:
1. الإيمان بالله تعالى, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ }محمد34
2. الاعتراف بالذنب؛ فلا يقدم على التوبة من لم يعترف بأنه ارتكب ذنباً,
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة102
3. الندم على الذنب,عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: : (الندم توبة)ابن حبان.
4. الإقلاع عن الذنب, {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ }الأنفال38.
5. أن يضع في نفسه عند توبته أنه لن يعود ثانية. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135.
6. رد الحقوق والمظالم إلى أصحابها فإذا كان الله يغفر حقه فإن العبد له حقٌ يجب أن يعود اليه وإلا ضاعت الحقوق بين البشر وظلم بعضهم بعضا, فالتوبة تسقط حق الله ولا تسقط حق البشر, حتى الشهيد على ما له من مكانة ومنزله تبقى حقوق الناس في عنقه.
7. الإخلاص في التوبة , وهي التوبة النصوح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}التحريم 8 ,أي صادقة, كما في الجلالين.
8. العمل الصالح, فالذي يتوب عليه أن يبادر إلى الطاعات والأعمال الصالحة حتى يبدأ حياة جديدة تدلل على صدق توجهه وتوبته {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة5
9. التسبيح وذكر الله وملازمة الاستغفار, {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }النصر3
*العوامل المساعدة على التوبة والمسرّعة فيها والمثبّتة عليها:
1. الاستشعار بعظمة الله وقدرته وقوته وأنه تعالى يعلم السر وأخفى وأن علمه محيط بكل شيء.
2. الإيمان بأن الله رحمن رحيم حليم غفّار يفرح لتوبة العبد, عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها)
رواه مسلم(/3)
3. العلم بان التوبة تكفر السيئات وتجُبّ ما قبلها, {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }هود114 .عمرو بن العاص قال : : ( لما ألقى الله عز و جل في قلبي الإسلام قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ليبايعني ، فبسط يده إلي فقلت : لا أبايعك يا رسول الله حتى تغفر لي ما تقدم من ذنبي ؟ قال : فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عمرو أما علمت أن الهجرة تجب ما قبلها من الذنوب ؟ يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب.)مسند أحمد.
4. العلم بأن التوبة والإقلاع عن الذنب يبدل السيئات حسنات {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الفرقان70.
وأختم بالحديث الشريف, يقول صلى الله عليه وسلم: عن عباس بن سهل بن سعد قال سمعت بن الزبير على المنبر بمكة في خطبته يقول يا أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : (لو أن بن آدم أعطي وادياً ملئ من ذهب أحب إليه ثانياً ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً ولا يسد جوف بن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
رواه البخاري.
ثم قول الشاعر:
يا من أسا فيما مضى ثم اعترف
كن محسناً فيما بقي تُجزى الغُرف
اعمل بقول الله في تنزيله
إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف.(/4)
التوبة من الشرك والذنوب في آيتين وبيان معناهما
إحسان بن محمد بن عايش العتيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أولاً: يتوهم بعض الناس في آيات الله - تعالى -المعارضة، ويظن بعضهم أن بين آياته - تعالى -تناقضاً، ومما وقع قديماً وحديثاً: ظن بعضهم التعارض بين قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء / 48، 116] مع قوله - تعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر / 53]!
والواضح البيِّن أن لا تعارض بينهما، وبيانه:
أن الآية الأولى إنما هي في حكم الآخرة وفي حق من لقي الله - تعالى -بشركٍ لم يتحول عنه إلى إسلام، وبمعصية لم يتطهر منها.
فالأول: وهو المشرك: كتب الله - تعالى -على نفسه أنه لا يغفر له البتة.
والثاني: وهو صاحب المعصية الذي لم يتطهر منها: إنما هو في مشيئة الله - تعالى -إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه.
وأما الآية الثانية: فهي في حكم الدنيا، وهي بشرى من الله لعباده العاصين، بل والمشركين أنه - تعالى -يقبل توبتهم جميعاً في حال تطهرهم منها.
فليست الآية الأولى على ما يتوهمه بعضهم من أنها تشمل الدنيا لأن في ذلك إبطالا لنصوص القرآن والسنة واتفاق المسلمين أن من تاب: تاب الله عليه، وقد قبل الله - تعالى -توبة المشركين من شركهم والكافرين من كفرهم، ومن قال هذا فقد قال بقول سلفه من المعتزلة!
وليست الآية الثانية في الآخرة؛ لأن في ذلك إبطالاً لنصوص الوعيد من القرآن والسنة فضلاً عن اتفاق سلف هذه الأمة أنه لا مغفرة لمشرك يوم القيامة لم يتب من شركه، وفيها إبطال لعقيدة المسلمين أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة أو مؤمنة، فضلاً عن اتفاق المسلمين على هذا خلافاً لمن جهل ساء فهمه كما قال ابن القيم فظن أنها عامة في الدنيا والآخرة.
ويؤيد ذلك: الكتاب والسنَّة:
أما الكتاب ففي آيات كثيرة، منها:
1. قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان / 68 70].
وهي واضحة الدلالة على مغفرة الله - تعالى -للذنوب جميعاً ولو كانت شركاً بل إن فيها بياناً لفضل عظيم وهو تبديل السيئات حسنات.
ومن دعا مع الله إلها آخر فلم يتب منه، ولقي الله به: فله نصيب الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به}.
2. قوله - تعالى - على قول {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء / 137].
ويؤيد الأول والثاني أحاديث من السنة كثيرة:
1. " ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة ".
رواه مسلم (2687).
2. عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الدواوين عند الله - عز وجل - ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله: فالشرك بالله قال الله - عز وجل -: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة}، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً: فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها؛ فإن الله - عز وجل - يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة. [رواه أحمد (43 / 155) والحاكم (4 / 185) و (4 / 619)].
وفيه: صدقة بن موسى، ضعفه يحي بن معين والنسائي، ولذا ردَّ الإمام الذهبي على الحاكم تصحيح الحديث بقوله: صدقة: ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة.
قلت: لكن ابن بابنوس وثقه ابن حبان، وقال ابن عدي: أحاديثه مشاهير، وقال الدارقطني: لا بأس به.
انظر " الثقات " لابن حبان (5 / 548)، " سؤالات البرقاني " (ص 72)، " الكامل في ضعفاء الرجال " (7 / 278).
وله شاهد:
عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره الله: فالشرك قال الله {إن الشرك لظلم عظيم}، وأما الظلم الذي يغفره الله: فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله: فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض.(/1)
قال الهيثمي: رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري ولم أعرفه وبقية رجاله قد وثقوا على ضعفهم.
" مجمع الزوائد " (10 / 348).
قلت: ولعل الحديث أن يكون حسناً بمجموع الطريقين.
ثانياً: أقوال المفسرين والعلماء:
1. قال الطبري:
القول في تأويل قوله - تعالى -: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}:
يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يغفر لـ " طعمة " رجل من المشركين إذ أشرك ومات على شركه بالله!! ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به.
{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء، يعني بذلك جل ثناؤه: أن "طعمة" لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه! لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه، وكذلك حكم كل من اجترم جرماً فإلى الله أمره إلا أن يكون جرمه شركاً بالله وكفراً! فإنه ممن حتم! عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه! فإذا مات على شركه: فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. " التفسير " (5 / 278).
وقال:
وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله. " التفسير " (5 / 126).
وقال الطبري:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى - تعالى -ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك! لأن الله عمَّ بقوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} جميع! المسرفين فلم يخصِّص به مسرفاً دون مسرف.
فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟
قيل: نعم، إذا تاب منه المشرك!
وإنما عنى بقوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} لمن يشاء، كما قد ذكرنا قبل أن ابن مسعود كان يقرؤه، وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه، فقال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} فأما ما عداه: فإن صاحبه في مشيئة ربه إن شاء تفضَّل عليه فعفا له عنه، وإن شاء عدل عليه فجازاه به. [" التفسير " (24 / 16، 17)].
2. وقال ابن الجوزي:
والمراد من الآية: لا يغفر لمشركٍ مات على شركه! وفي قوله {لمن يشاء} نعمة عظيمة من وجهين:
أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يُقطع عليه بالعذاب وإن مات مصرّاً.
والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع. [" زاد المسير " (2 / 103، 104)].
3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصل: في قوله - تعالى -{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم. و أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له}:
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين!! وأما آيتا النساء: قوله {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يجوز! أن تكون في حق التائبين كما يقوله من يقوله من المعتزلة!! فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضاً بنصوص القرآن واتفاق المسلمين، وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته بل علَّقه بالمشيئة فقال: {و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء} …
والمقصود هنا أن قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} فيه نهي عن القنوط من رحمة الله - تعالى -وإن عظمت الذنوب وكثرت فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه ولا أن يقنط الناس من رحمة الله.
قال بعض السلف: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجريهم على معاصي الله ….
فإن قيل: قوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} معه عموم على وجه الإخبار فدل أن الله يغفر كل ذنب، ومعلوم أنه لم يرد أن من أذنب من كافرٍ وغيره فإنه يغفر له ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع إذ كان الله أهلك أمماً كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمَّة مَن عُذِّب بذنوبه إما قدراً وإما شرعاً في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال - تعالى -: {من يعمل سوءاً يجز به} وقال {فمن يعمل مثقال ذرَّةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرّاً يره} فهذا يقتضي أن هذه الآية ليست على ظاهرها، بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعا أي: ذلك مما قد يفعله، أو أنه يغفره لكل تائبٍ. [" مجموع الفتاوى " (16 / 18 22)].
وقال:(/2)
وكذلك قوله: {يغفر الذنوب} عام في الذنوب، مطلق في أحوالها؛ فإن الذنب قد يكون صاحبه تائباً منه وقد يكون مصرّاً، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبيِّن أن الذنب يُغفر في حال دون حال؛ فإن الله أمر بفعل ما تُغفر به الذنوب ونَهى عمَّا به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة فقال: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون. أن تقول نفسٌ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أنَّ لي كرةً فأكون من المحسنين. بلي قد جاءتك آياتي فكذبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين} فهذا إخبار أنه يوم القيامة يعذِّب نفوساً لم يغفر لها كالتي كذَّبت بآياته واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها. [" مجموع الفتاوى " (16 / 27)].
وقال ابن تيمية:
والله - سبحانه - لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال - تعالى -:{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}، وهذه الآية عامَّة مطلقة لأنَّها للتائبين!، وأما قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فإنها مقيَّدة خاصَّة لأنَّها في حق غير التائبين! لا يغفر لهم الشرك، وما دون الشرك معلَّق بمشيئة الله - تعالى -. [مجموع الفتاوى (2 / 358)].
وقال ابن تيمية:
وقد قال - تعالى -في كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فجعل ما دون ذلك الشرك معلَّقا بمشيئته، ولا يجوز أن يُحمل هذا على التائب؛ فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره! كما قال - سبحانه - في الآية الأخرى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} فهنا عمَّم وأطلق؛ لأن المراد به التائب! وهناك خصَّ وعلَّق.
(7 / 484، 485).
4. وقال ابن القيم:
الوجه الرابع: أن الذنوب تُغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء وعدد الرمل والحصا ثم تاب منها: تاب الله عليه قال - تعالى -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} فهذا في حق التائب! فإن التوبة تجبُّ ما قبلها، والتائب مِن الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفِّر الذنوب كما في الحديث الصحيح الإلهي " ابن آدم لو لقيتَني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتُك بقرابِها مغفرة ". " هداية الحيارى " (130).
وقال ابن القيم:
وكاتكال بعضهم على قوله - تعالى -: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} وهذا أيضاً مِن أقبح الجهل! فإن الشرك داخل في هذه الآية، فإنه رأس الذنوب وأساسها، ولا خلاف! أن هذه الآية في حق التائبين فإنه يغفر ذنب كلِّ تائبٍ أي ذنب كان.
ولو كانت الآية في حق غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلها وأحاديث إخراج قوم من الموحدين من النار بالشفاعة، وهذا إنما أوتي صاحبه من قلة علمه وفهمه! فإنه - سبحانه - ها هنا عمَّم وأطلق، فعلم أنه أراد التائبين، وفي سورة " النساء " خصَّص وقيَّد فقال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأخبر الله - سبحانه - أنَّه لا يَغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه، ولو كان هذا في حق التائب لم يفرق بين الشرك وغيره. " الجواب الكافي " (ص 12).
5. وقال ابن كثير:
وهذه الآية التي في سورة تنزيل أي: الزمر - مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أيِّ ذنب! وقد تكرر منه: تاب الله عليه، ولهذا قال {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} أي: بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك: لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك!! لأنه - تعالى -قد حكم هاهنا بأنه " لا يغفر الشرك "! وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء! أي: وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم. [" التفسير " (1 / 512)].
6. وقال الشنقيطي:
قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء / 48] ذكر في هذه الآية الكريمة أنه - تعالى -لا يغفر الإشراك به، وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء، وأن من أشرك به فقد افترى إثماً عظيماً.
وذكر في مواضع أخر: أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب: غفر له، كقواه {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً} الآية، فإن الاستثناء راجع لقوله: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} وما عطف عليه؛ لأن معنى الكل جمع في قوله: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} الآية، وقوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف} … [" أضواء البيان " (1 / 290، 291)].
والله أعلم(/3)
http://saaid.net المصدر:(/4)
التوبة من الغيبة
السؤال :
ابتليت بالغيبة و الوقوع في أعراض الناس أثناء دراستي في زمن الشباب ، ثم وقفت على خطورة الأمر ، و أضراره الاجتماعيّة فضلاً عن تحريمه في الشرع ، فكيف أتوب من الغيبة بعد صدورها مني ؟ هل أطلب السماح ممّن وقعتُ في أعراضهم ، أم يكفي إقلاعي و توبتي بيني و بين الله ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الغيبة مرض خطير يبخر في بنية المجتمع فيوهن أركانه ، و يغرس العداوة و البغضاء بين أفراده ، لذلك حذّر منها الإسلام ، و أنكر على مقترفها ، و شنّع عليه .
قال تعالى : ( وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ ) [ الحجرات : 12 ] .
و روى مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ ) قَالُوا : اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ( ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ) قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) .
و الغيبة من كبائر الذنوب ، و على من ابتُليَ بشيءٍ منها أن يُبادر بالتوبة إلى الله تعالى قبل أن يأتي يوم القيامة و قد تكاثر عليه أصحاب الحقوق يأخذون من حسناته ، و يُطرحُ عليه من سيّئاتهم ، و ذلك هو الخُسران المبين .
روى مسلم و الترمذي و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ ) قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ و لا مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَ صِيَامٍ وَ زَكَاةٍ وَ يَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَ قَذَفَ هَذَا ، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَ سَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَ ضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) .
فإذا تقرّر هذا فليُعلم أن الذنوب على أنواع :
• منها ما هو تقصير في حقّ الله تعالى فقط ، و ليس للعباد حقّ فيه ، كالفطر في رمضان ، و عدم الحجّ مع القدرة عليه .
و للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من توفّر ثلاثة شروط هي :
1. الإقلاع عن الذنب .
2. الندم على ما فات من فعله .
3. العزم على عدم العودة إليه مستقبلاً .
• و منها ما فيه استطالة في حقوق العباد ، كالاستيلاء على بعض ما يملكون بالغصب أو السلب أو نحو ذلك .
و للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من إعادة حقوق العباد إلى أصحابها ، إضافة إلى الشروط الثلاثة التي سبق ذكرها شرطاً للتوبة العامّة .
• و منها ما فيه إلحاق ضررٍ مادي ( كالتسبب في عزل العامل من عمله ) أو معنوي ( كالغيبة و النميمة التي لم تؤدي إلى قطيعة أو ضرر بمن أريد منها ، أو لم تبلغه ) من غير أن يستحوذ المذنب لنفسه ، أو يضع يده على شيءٍ من حقّ غيره .
و على من وقع في شيءٍ من الذنوب المندرجة تحت هذا النوع أن يتوب إلى الله تعالى توبةً مستوفية الشروط ، ثمّ يسعى إلى إبراء ذمّته ممّن أساء إليه بنفسه ، أو تسبب في جلب الإساءة إليه ، يكون ذلك بطلب الصفح منهم ، إن لم يكن ذلك مؤدياً إلى مفسدةٍ أكبر ، أو الإحسان إليهم بما يكافئ ما لحقهم على يده أو بسببه من أذى ، فإن عجز عن هذا و ذاك فليكثر من الدعاء لهم بظهر الغيب .
• و منها ما فيه حقّ ثابتٌ لله تعالى في الدنيا لا يسقط حتى و إن أسقط العباد حقوقهم ، و مثاله وجوب الدية لأهل المقتول خطأً ، مع الكفّارة و هي صيام شهرين متتابعين للقاتل الذي يريد التوبة ، و لا بُدّ له من تحرير رقبةٍ مؤمنةٍ ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، حتى و إن أسقَطَ أهل القتيل حقّهم في الدية ، لقوله تعالى : ( وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [ النساء : 92 ] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( أَيْ فَإِنْ كَانَ الْقَتِيل أَوْلِيَاؤُهُ أَهْل ذِمَّة أَوْ هُدْنَة فَلَهُمْ دِيَة قَتِيلهمْ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَدِيَة كَامِلَة وَ كَذَا إِنْ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا عِنْد طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء ... وَ يَجِب أَيْضًا عَلَى الْقَاتِل تَحْرِير رَقَبَة مُؤْمِنَة ) .(/1)
قلتُ : و الغيبة من النوع الثالث ، و على التائب منها أن يراعي المصلحة و المفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم ، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب فالأولى عدم طلب السماح منه ، و الاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها ، و تبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها ، و التعريف محاسنه و الثناء عليه بما فيه .
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها ، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به ، و إن رأى أنّ إصلاح ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف و تقديم الهدايا إليهم فعَل ، و دَرَءَ سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها .
و إن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعاً ، أو أنّه قد يؤدي إلى زيادة الفرقة و الضغينة في النفوس ، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء ، و ذكر محاسنهم ، و الكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم ، لعلّ الله يلهم الصفح ، و يقيل عثرةَ صاحبهم فيغفر له ، و هو أهل التقوى و أهل المغفرة .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات : ( قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك ، و يعزم على أن لا يعود ، و هل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ، و أن يتحلل من الذي اغتابه .
و قال آخرون : لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذاً أن يُثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، و أن يرد عنه الغيبة بحسبه و طاقته لتكون تلك بتلك ) .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .(/2)
التوبة والاستغفار:
الفصل الأول: تعريف وبيان (التوبة - الاستغفار - الإنابة - الأوبة).
الفصل الثاني: حكم التوبة وشروطها.
الفصل الثالث: فضائل التوبة والاستغفار في القرآن الكريم:
أولاً: قبول التوبة والمغفرة من صفات الرحمن جل جلاله.
ثانياً: أمر الله عز وجل عباده بالتوبة والاستغفار.
ثالثاً: التوبة والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين.
رابعاً: دعوة الأنبياء والصالحين أقوامهم للتوبة والاستغفار.
خامساً: بيان جزاء التوبة في الدنيا والآخرة.
الفصل الرابع: فضائل التوبة والاستغفار في السنة النبوية.
الفصل الخامس: الآثار والأقوال الواردة في التوبة والاستغفار.
الفصل السادس: مسائل في التوبة:
1- التوبة الواجبة والتوبة المستحبة.
2- التوبة النصوح.
3- التوبة الخاصة من بعض الذنوب.
4- التخلص من الحقوق والتحلل من المظالم.
5- توبة العاجز عن المعصية.
6- معنى التوبة من قريب والتوبة عند الموت.
7- رجوع الحسنات إلى الثائب بعد التوبة.
8- هل التوبة تُرجع العبد إلى حاله قبل المعصية؟
الفصل السابع: أمور تعين على التوبة:
1- الإخلاص لله والإقبال عليه عز وجل.
2- المجاهدة.
3- قِصَر الأمل وتذكر الآخرة.
4- العلم.
5- مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار.
6- استحضار أضرار الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة.
7- الدعاء.
الفصل الثامن: نماذج وصور وقصص للتائبين.
الفصل التاسع: أخطاء في باب التوبة:
1- تأجيل التوبة.
2- الغفلة عن التوبة مما لا يعلمه العبد من ذنوبه.
3- ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب.
4- ترك التوبة خوفاً من لمز الناس.
5- ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة.
6- التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله.
7- الاغترار بإمهال الله للمسيئين.
8- اليأس من رحمة الله.
9- اليأس من توبة العصاة.
10- الشماتة بالمبتلَين.
11- توبة الكذابين.
الفصل الأول: تعريف وبيان:
تعريف التوبة:
التوبة لغة: قال ابن المنظور: "هي الرجوع من الذنب، والتوبُ مثله.
وقال الأخفش: التوب جمع توبة، مثل عَزْمَة وعَزْم، وتاب إلى الله يتوب توباً ومتاباً: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة.
ومذهب المبرد أن التوب مصدر كالقول، أو أنه جمع توبة كلوزة ولوز، ومنه قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]".
وقال أبو منصور: "أصل تاب عاد إلى الله ورجع وأناب [ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ((رب تقبل توبتي واغسل حوبتي))]. وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة".
والتوبة لفظ يشترك فيه العبد والرب سبحانه وتعالى، فإذا نُسِبَت إلى العبد فالمعنى: أنه رجع إلى ربه عن المعصية، وإذا وصف بها الرب تبارك وتعالى فالمعنى: أنه رجع على عبده برحمته وفضله. وأما عن اتصاف الله بأنه توّاب بصيغة المبالغة فالمراد بذلك المبالغة في الفعل وكثرة قبوله، أو أنه لكثرة من يتوب إليه تعالى أو أنه الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا.
ويقول الحليمي في تفسير التواب: "إنه العائد على عبده بفضل رحمته كلما رجع لطاعته وندم على معصيته، فلا يحبط عنه ما قدمه من خير ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان.
وقال الخطابي: "التواب: الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب".
وأما وصف العبد بأنه تواب أي كثير الرجوع إلى الطاعة فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ} [البقرة:222].
تعريف التوبة شرعاً:
للتوبة في الشرع تعاريف كثيرة ذكرها العلماء، منها:
1- قال ابن جرير الطبري: "معنى التوبة من العبد إلى ربه: إنابته إلى طاعته وأوبته إلى ما يرضيه، بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيماً مما يكرهه ربه".
2- عرفها القرطبي بقوله: "هي الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله".
فالقرطبي جمع معظم شروط التوبة، ولكن ليست كلها، إلا أنه أضاف أمراً هاماً وهو أن تكون التوبة من أجل الله حياءً منه، لا خوفاً على منصب أو مصلحة.
3- وعرفها الراغب الأصفهاني بقوله: "التوبة ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة".
وأضاف ابن حجر العسقلاني إلى تعريف الراغب: "وردّ الظلامات إلى ذويها، أو تحصيل البراءة منهم".
4- ونقل ابن كثير عن بعض العلماء تعريفاً للتوبة فقال: "التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقة".
نظرة في التعاريف السابقة:(/1)
مما سبق نستنتج أن التوبة هي معرفة العبد لقبح الذنوب وضررها عليه، فيقلع عنها مخلصاً في إقلاعه عن الذنب لله تعالى، نادماً على ما بدر منه في الماضي من المعاصي قصداً أو جهلاً، عازماً عزماً أكيداً على عدم العودة إليها في المستقبل، والقيام بفعل الطاعات والحسنات، متحللاً من حقوق العباد بردها إليهم، أو محصلاً البراءة منهم.
تعريف الاستغفار:
الاستغفار لغة: الاستغفار مصدر قولهم: استَغفَر يستغفر، وهو مأخوذ من مادة (غَ فَ رَ) التي تدل على الستر في الغالب الأعم، فالغَفْر الستر والغفر والغفران بمعنى واحد، يقال: غفر الله ذنبه غفراً ومغفرة وغفراناً.
وقال ابن منظور: "أصل الغفر التغطية والستر يقال: اللهم اغفر لنا مغفرةً. واستغفر الله ذنبه على حذف الحرف طلب منه غَفْرةً".
وقال الراغب: "الغفر إلباس ما يصونه عن الدنس".
الاستغفار شرعاً: الاستغفار من طلب الغفران والغفران تغطية الذنب بالعفو عنه وهو أيضاً طلب ذلك بالمقال والفعال.
تعريف الإنابة:
الإنابة لغة: تدور مادة (ن و ب) حول الرجوع، يقول ابن فارس: "النون والواو والباء" كلمة واحدة تدل على اعتياد مكان ورجوعٍ إليه".
تقول: أناب فلان إلى الشيء، رجع إليه مرة بعد أخرى، وإلى الله تاب ورجع.
وقال الراغب: "الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل".
وفي التنزيل العزيز: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31] أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره، وقوله عز وجل: {وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} [الزمر:54] أي: توبوا إليه وارجعوا.
وقال ابن الأثير "يقال: أناب ينيب إنابة فهو منيب، إذا أقبل ورجع، وفي حديث الدعاء ((وإليك أنبت))".
الإنابة شرعاً: الإنابة: إخراج القلب من ظلمات الشبهات، وقيل: الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل، وقيل: الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأُنْس.
وقال الكفوي: "الإنابة: الرجوع عن كل شيء إلى الله تعالى".
وقال ابن القيم: "الإنابة: الإسراع إلى مرضاة الله، مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له".
تعريف الأوبة:
الأوبة لغة: الأوْب الرجوع، آب إلى الشيء: رجع، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقبل من سفر قال: ((آيبون تائبون لربنا حامدون))، وفي محكم التنزيل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ} [ص:25] أي: حسن المرجع الذي يصير إليه في الآخر.
وفلان أواب أواه أي: رجاع إلى التوبة.
قال ابن فارس: "الهمزة والواو والباء أصل واحد، وهو الرجوع، ثم يشتق منه ما يبعد في السمع قليلاً. وقال الخليل: آب فلان إلى سيفه أي ردّ يده ليستله".
الأوبة شرعاً: قال الراغب الأصفهاني: "والأواب كالتواب وهو الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصي وفعل الطاعات".
وقال أبو هلال العسكري: "الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد فلا يقال لمن رجع من بعض الطريق: آب، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25]".
وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]: "إنه إلى طاعة الله مقبل وإلى رضاه رجّاع".
وقال القرطبي: "أي: تواب رجاع مطيع".
العلاقة بين الاستغفار والإنابة والأوبة وبين التوبة:
أولاً: علاقة الاستغفار بالتوبة:
جاء ذكر الاستغفار منفرداً عن التوبة، كما جاء مقترناً بها في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة وسنسوق الشواهد على ذلك:
1- إفراد التوبة عن الاستغفار:
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، ويقول عز وجل: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً} [الفرقان:71]، ويقول سبحانه: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39].
أما من السنة النبوية:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)).
2- إفراد الاستغفار عن التوبة:
يقول سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ويقول سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10].
وأما من السنة:(/2)
فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقناً بها فمات قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)).
3- اقتران الاستغفار بالتوبة:
يقول الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3]، ويقول عز وجل: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، ويقول سبحانه: {وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52].
أما من السنة النبوية:
فعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كانت تُعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
أقوال العلماء في الفرق الاستغفار بين التوبة:
إذا اقترن ذكر التوبة بالاستغفار فإن الاستغفار حينئذ هو طلب المغفرة بالدعاء، والتوبة هي الندم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة.
وقيل: إن الاستغفار إذا اقترن بالتوبة فإنه يعني طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، وأيضاً فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقية شر الذنب، والتوبة أن تحصل له بعدها الوقاية مما يحبه.
وإذا أفرد الاستغفار أو أفردت التوبة يكون معناهما واحدا، قال ابن القيم: "الاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما يظنه بعض الناس أن المغفرة تعني الستر، فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه".
ثانياً: علاقة الإنابة بالتوبة:
الإنابة كالتوبة في أنها تعني الرجوع، يقول ابن منظور: "الإنابة الرجوع إلى الله بالتوبة".
لكن بعض العلماء كالراغب الأصفهاني وابن القيم والماوردي وابن منظور والجوهري يرون أن للإنابة معنىً زائداً عن التوبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "من نزل في التوبة وقام مقامها نزل في جميع منازل الإسلام فإن التوبة الكاملة متضمنة لها، وهي متدرجة فيها، فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة".
ثالثاً: علاقة الأوبة بالتوبة:
الأوبة تفيد معنى الرجوع كالتوبة، يقول ابن منظور: "الأوب: الرجوع، آب إلى الشيء رجع، يؤوب أوباً وإياباً وأوبة وأيبة".
ويقول الزبيدي: "الأوبة: الرجوع، وآب الشيء رجع، وأواب وتأوب وأيب كله: رجع).
فإذاً مادة (أوب) تفيد الرجوع وهي أصل التوبة فالعلاقة بين الأوبة والتوبة واضحة في كونهما يفيدان الرجوع والخضوع.
ترتيب لسان العرب (2/61) باختصار وتصرف.
الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (3551) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
تهذيب اللغة (14/332)، وانظر: المصباح المنبر في غريب الشرح الكبير (78)، والمفردات للراغب الأصفهاني (72)، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/357)، وأساس البلاغة (40).
انظر: تفسير الرازي (3/22)، الجامع لأحكام القرآن (1/325)، روح المعاني (1/237-238)، تفسير التحرير والتنوير (1/439).
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/107).
تفسير ابن جرير الطبري (1/283).
الجامع لأحكام القرآن (5/91).
المفردات (72).
فتح الباري (11/103).
تفسير ابن كثير (4/392)، وللاستزادة انظر: التعريفات للجرجاني (95).
التوبة في ضوء القرآن الكريم د. آمال نصير (21).
انظر: مقاييس اللغة(4/385).
لسان العرب (10/91).
المفردات (374).
نضرة النعيم (2/252).
مقاييس اللغة (5/367).
المعجم الوسيط (2/961).
المفردات (نوب) (529).
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/123).
الكليات (308).
مدارج السالكين (1/467) بتصرف.(/3)
أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب ما يقول إذا رجع من الغزو (3085)، ومسلم في كتاب الحج باب إذا ركب إلى سفر الحج (1342).
لسان العرب (1/257).
المعجم الوسيط (1/32).
مقاييس اللغة (1/152)، وانظر: أساس البلاغة للزمخشري (12).
المفردات في غريب القرآن (25).
الفروق اللغوية (250) بتصرف.
تفسير الطبري (10/591).
الجامع لأحكام القرآن (15/215).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب التوبة (6309).
أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب أفضل الاستغفار (6306).
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة (758).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم (6307).
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب ما يقول إذا قام من المجلس (3434) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
انظر: الفروق اللغوية (195).
انظر: مدارج السالكين (1/308-309).
مدارج السالكين (1/307-308).
لسان العرب (14/319) مادة (نوب).
مدارج السالكين (1/133-134).
لسان العرب (1/257).
تاج العروس من جواهر القاموس (1/152).
الفصل الثاني: حكم التوبة وشروطها:
ورد الأمر بالتوبة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فمما ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قال السعدي: "أمر الله تعالى بالتوبة فقال: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ثم علّق على ذلك الفلاح، فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ودل هذا أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة لأن الله خاطب المؤمنين جميعاً وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة".
وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، ويقول سبحانه: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8]، وغيرها من الآيات.
أما الأحاديث الدالة على الأمر بالتوبة فمنها:
عن أبي بردة قال: سمعت الأغر المزني رضي الله عنه يحدث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)).
والآيات والحديث تضمنت الأمر بالتوبة، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يصرف عنه إلى الندب إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
قال القرطبي: "واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين".
وقال أيضاً: "وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا بد لكل عبد من توبة، وهي واجبة على الأولين والآخرين".
أما النظر فإنه يؤكد أن الإنسان لا يخلو من معصية فلا يسلم من هذا النقص أحد من البشر، وإنما يتفاوت الخلق في المقادير، أما أصل ذلك فلا بد منه، وهو يجبر بالتوبة النصوح، وإلى هذا يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)). وذلك لأن السهو والتقصير من طبع الإنسان.
ولما كانت الذنوب انحراف عن خط الاستقامة وإضرار بمصالح البشرية فإنها تهدد الحياة الإنسانية وتنغص عيشتها وتعرضها للخطر، وليس من العقلاء من يرضى بهذا المصير ولا يسعى إلى تغييره؛ لذا كانت التوبة واجبة أيضاً بالعقل والنظر الصحيح.
والتوبة واجبة من كل الذنوب صغيرها وكبيرها ما يعلم منها وما لا يعلم عمداً أو سهواً جداً أو هزلاً، وذلك لأمر الله عز وجل عباده بها، وهذا الأمر للعموم؛ لذا فهو يشمل جميع الذنوب ولم يخص التوبة من ذنب دون آخر.
يقول الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة:160]: "التوبة لا تحصل إلا بترك ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي".
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث التي تدل على إكثاره صلى الله عليه وسلم من التوبة، وفي فعله تعليم لأمته عليه الصلاة والسلام.
فعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ((رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
ووجه الدلالة من الحديث أن العبد يسأل الله التوبة والمغفرة في جميع أحواله في العمد والجهل والهزل وما فعله في السر والعلانية.(/4)
يقول النووي رحمه الله عند شرحه للحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي)): "التوبة من جميع المعاصي واجبة، وإنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع".
ويعلل الغزالي لوجوب التوبة من جميع الذنوب فيقول: "وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو أن كل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه، إذ لم يخل عنه الأنبياء، كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح، فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهمّ فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة، فإن خلا عنه فلا يخلو من غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده".
أما شروط قبول التوبة:
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه دائماً لكل من أراد الدخول فيه بعد أن استيقظ قلبه وقويت عزيمته على هجر المعاصي والذنوب.
قال سيد قطب: "باب التوبة دائماً مفتوح يدخل منه كل من استيقظ ضميره وأراد العودة والمآب، لا يصد عنه قاصد ولا يغلق في وجه لاجئ، أياً كان وأياً ما ارتكب من الآثام".
وعلى ضوء ما ذكر في تعريف التوبة يمكن أن نقسم شروط قبول التوبة إلى قسمين:
الأول: شروط تتعلق بترك الذنب.
الثاني: شروط تتعلق بزمن قبول التوبة.
أولاً: الشروط التي تتعلق بترك الذنب:
الشرط الأول: الإسلام:
التوبة لا تصح إلا من مسلم، أما الكافر فإن توبته تعني دخوله الإسلام، قال القرطبي: "اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعاً، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق".
قال الله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].
والمراد من الآية نفي وقوع التوبة الصحيحة من المشركين، وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم فقوله: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي: لا توبة لأولئك ولا لهؤلاء.
وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} [النساء:116].
قال سيد قطب: "ولا غفران لذنب الشرك متى مات صاحبه عليه.. بينما باب التوبة مفتوح لكل ذنب سواه عندما يشاء الله، والسبب في تعظيم جريمة الشرك وخروجها من دائرة المغفرة أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً، وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً".
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].
الشرط الثاني: الإخلاص:
إن التائب من المعاصي لا تصح توبته إلا بالإخلاص، فمن ترك ذنباً من الذنوب لغير الله تعالى، كالخوف من الفضيحة أو تعيير الناس له أو عَجَزَ عن اقترافه أو خاف من فوات مصحلة أو منفعة قد تضيع بالاستمرار على تلك المعصية. مثال ذلك من تاب عن أخذ الرشوة لا خوفاً من الله واللعن، ولكن لتوليه منصباً اجتماعياً لا يسمح له بأخذها، فإن توبته وتوبة من تقدم تكون مردودة باتفاق أهل العلم.
وقال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110].
يقول الشنقيطي في قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا}: "أعم من الرياء وغيره، أي: لا يعبد ربه رياء وسمعة ولا يصرف شيئاً من حقوق خالقه لأحد من خلقه لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] إلى غير ذلك من الآيات، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الذي يشرك أحداً بعبادة ربه، ولا يعمل صالحاً أنه لا يرجو لقاء ربه، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله".
والتوبة من الأعمال الصالحة التي يجب فيها الإخلاص حتى تقبل عند الله عز وجل كسائر العبادات والقربات. والآيات والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة.
الشرط الثالث: الاعتراف بالذنب:
إن التوبة لا تكون إلا عند ذنب، وهذا يعني علم التائب ومعرفته لذنوبه، وجهل التائب بذنوبه ينافي الهدى؛ لذلك لا تصح توبته إلا بعد معرفته للذنب والاعتراف به وطلبه التخلص من ضرره وعواقبه الوخيمة.(/5)
والدليل من السنة قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: ((أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه)).
قال ابن القيم: "إن الهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهدى، والثاني: غي ينافي قصده وإرادته، فلذلك لا تصح التوبة إلا من بعد معرفة الذنب والاعتراف به وطلب التخلص من سوء عاقبته أولاً وآخراً".
الشرط الرابع: الإقلاع عن الذنب:
الإقلاع عن الذنب شرط أساسي للتوبة المقبولة، فالذي يرجع إلى الله وهو مقيم على الذنب لا يعد تائباً، وفي قوله تعالى {وتوبوا} إشارة إلى معنى الإقلاع عن المعصية؛ لأن النفس المتعلقة بالمعصية قلما تخلص في إقبالها على عمل الخير؛ لذلك كان على التائب أن يجاهد نفسه فيقتلع جذور المعاصي من قلبه، حتى تصبح نفسه قوية على الخير مقبلة عليه نافرة عن الشر متغلبة عليه بإذن الله.
الشرط الخامس: الندم:
الندم ركن من أركان التوبة لا تتم إلا به، وهو في اللغة: التحسر من تغير رأي في أمر فائت.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيمة الندم فقال: ((الندم توبة)).
ومعنى أنه توبة: أي عمدة أركان التوبة كقوله عليه السلام: ((الحج عرفة)).
الشرط السادس: العزم على التوبة:
العزم مترتب على الندم، وهو يعني الإصرار على عدم العود إلى الذنوب ثانية، والعزم في اللغة: عقد القلب على إمضاء الأمر.
ويقول عز وجل حاكياً عن أبينا آدم عليه السلام: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]، أي: لم نجد له صبرا وعزيمة، حيث لم يحترز عن الغفلة من وساوس الشيطان، وهذه الآية تشير إلى أن المؤمن لا بد وأن تكون عنده عزيمة قوية وإرادة فعالة. والتائب أكثر الناس حاجة إلى العزيمة والإرادة القوية حتى يمكن من السيطرة على شهواته ورغباته، فيقف أمامها وقفة صمود وقوة، تجعله لا يعاود الذنوب ثانية، فتكون توبته صحيحة مقبولة.
الشرط السابع: رد المظالم إلى أهلها:
ومن شروط التوبة التي لا تتم إلا بها رد المظالم إلى أهلها، وهذه المظالم إما أن تتعلق بأمور مادية، أو بأمور غير مادية، فإن كانت المظالم مادية كاغتصاب المال فيجب على التائب أن يردها إلى أصحابها إن كانت موجودة، أو أن يتحللها منهم، وإن كانت المظالم غير مادية فيجب على التائب أن يطلب من المظلوم العفو عن ظلامته وأن يعمل على إرضائه، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)).
قال ابن حجر: "فوجه الحديث عندي ـ والله أعلم ـ أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته، فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه، ثم يعذب إن لم يعف عنه، فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل من عقوبة سيئاته، يعني من المضاعفة؛ لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافي يوم القيامة مؤمناً والله أعلم".
ثانياً: الشروط التي تتعلق بزمن قبول التوبة وهي شرطان:
الشرط الأول: أن تقع التوبة قبل الغرغرة:
وقد أشارت إليه آيتان من سورة النساء فقال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:17-18].
قال القرطبي: "نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع؛ لأنها حال زوال التكليف".
وإلى هذا يشير الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
يقول المباركفوري: "أي: ما لم تبلغ الروح إلى الحلقوم يعني ما لم يتيقن الموت فإن التوبة بعد التيقن بالموت لم يعتد بها".
الشرط الثاني: أن تقع التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها:
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} [الأنعام:158].(/6)
يقول الألوسي: "والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده طلوعُ الشمس من مغربها".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون)) فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ثم قرأ الآية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)).
وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
ويعلل القرطبي نقلاً عن جماعة من العلماء عدم قبول الله إيمان من لم يؤمن وتوبة من لم يتب بعد طلوع الشمس فيقول: "وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوعها من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم ـ لإيقانهم بدنو القيامة ـ في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت".
تيسير الكريم الرحمن (516).
أخرجه الإمام مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (2702).
انظر: نهاية السول في شرح منهاج الأصول (2/251)، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (86، 102).
الجامع لأحكام القرآن (5/90).
الجامع لأحكام القرآن (18/197) (12/238).
مجموع فتاوى ابن تيمية (10/310).
أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2499)، من حديث أنس بن مالك وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد في باب ذكر التوبة (4251) وأخرجه الإمام أحمد برقم (12576) والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4391).
حادي الروح إلى أحكام التوبة النصوح (15) وانظر كتاب التوبة للدكتورة آمال نصير (24).
تفسير الفخر الرازي (4/150).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم (6398).
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه (7405) وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله (2675).
شرح صحيح مسلم (17/59).
إن الهم بالذنب أمر قد جاء الشرع برفع الحرج والإثم عنه إذا لم يعمل به الإنسان أو يتكلم فلا يؤاخذ عليه والله أعلم.
إحياء علوم الدين بتصرف (4/10).
في ظلال القرآن (1/258).
المفهم بشرح مختصر صحيح مسلم (7/717).
تفسير المنار (4/448) (4/450).
في ظلال القرآن (2/760).
انظر: فتح الباري (11/103).
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/199).
الحديث أخرجه مسلم بتمامه في كتاب التوبة باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (2770).
مدارج السالكين (1/179).
انظر كتاب التوبة في ضوء القرآن الكريم ( ) للدكتورة آمال نصير.
المفردات للراغب (507).
أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب ذكر التوبة برقم (4252) من حديث عبد الله بن مسعود وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (3387). وصححه الألباني في صحيح الجامع (6802).
المفردات (346).
التوبة، للدكتورة آمال.
أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب: من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له (2449) من حديث أبي هريرة.
فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/397).
الجامع لأحكام القرآن (5/93).
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله (3537)، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: ذكر التوبة (4253). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1903).
تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (9/521).
روح المعاني (8/63).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب: لا ينفع نفساً إيمانها (4636) واللفظ له، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (157).
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه (2703).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
تفسير القرطبي (7/149).
الفصل الثالث: فضائل التوبة والاستغفار في القرآن الكريم :
أولاً: قبول التوبة والمغفرة من صفات الرحمن جل جلاله:
قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].(/7)
قال ابن جرير: "{فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يعني: هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم هم الذين أتوب عليهم فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي والإنابة إلى مرضاتي {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عني إليّ، والرادها بعد إدبارها عن طاعتي إلى طلب محبتي".
قال الله تعالى: {وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:102].
قال السعدي: "{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوق منهما، بل لا بقاء للعالم العلوي والسفلي إلا بهما، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة".
وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104].
قال السعدي: "أي: كثير التوبة على التائبين، فمن تاب إليه تاب عليه، ولو تكررت منه المعصية مراراً، ولا يمل الله من التوبة على عباده حتى يملوا هم".
وقال تعالى: {حم A تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ B غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1-3].
قال وهبة الزحيلي: "ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] أي: أن الله هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة، أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة".
ثانياً: أمر الله عز وجل عباده بالتوبة والاستغفار:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8].
قال القرطبي: "أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان".
وقال الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قال القرطبي: "أمرٌ، ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة وأنها فرض متعين".
وقال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:106]، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:199].
قال السعدي: "أمر الله بالاستغفار والإكثار من ذكره عند الفراغ من المناسك، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها".
وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
قال ابن جرير الطبري: "وسل ربك غفران ذنوبك وحادثها وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء".
وقال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ A وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً B فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا} [النصر:1- 3].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا ويقول: ((سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)).
ثالثاً: التوبة والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين:
قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
قال مجاهد: "من مسألة الرؤية في الدنيا، وقيل: سأل من غير استئذان فلذلك تاب، وقيل: قاله على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات".
وقال الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ} [التوبة:112].
قال ابن كثير: "هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة".
وقال تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ B وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:2-3].(/8)
قال ابن كثير: "أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك".
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، وقال الله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران:193]، وقال الله تعالى في قصة توبة آدم عليه السلام: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ h قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [ص:34، 35].
رابعاً: دعوة الأنبياء والصالحين أقوامهم للتوبة والاستغفار:
قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ x ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ y وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [هود:50-52].
قال السعدي: "استغفروا ربكم عما مضى منكم، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى".
وقال الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود:61]، وقال تعالى حاكياً قول شعيب عليه السلام لقومه: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].
قال السعدي في سرده لفوائد قصة شعيب: "ومنها: أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويودُّه ولا عبرة بقول من قال: (إن التائب إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه بالعفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود)، فإن الله تعالى قال: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ}".
خامساً: بيان جزاء التوبة في الدنيا والآخرة:
أ- محبة الله عز وجل للتائبين:
قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ}.
ب- حصول المغفرة من الله عز وجل:
قال تعالى: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
قال ابن كثير: "{وَإِنّى لَغَفَّارٌ} أي: كل من تاب إليّ تبت عليه من أي ذنب كان حتى إنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل، وقوله: {تَابَ} أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق".
ج- الفلاح في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:70].
قال السعدي: "{وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة، ثم علق على ذلك الفلاح فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً".
د- تبديل السيئات إلى حسنات:
قال الله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.(/9)
قال القرطبي: "قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاصي مطيع، وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن. وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات. وقال القرطبي: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا))، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجده".
هـ- تكفير السيئات ودخول الجنات:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ}.
قال السعدي: "قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية، ووعد عليها بتكفير السيئات ودخول الجنات والفوز والفلاح".
و- منع العذاب في الدنيا:
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار).
ز- الإمداد بالأموال والبنين وإنزال الغيث:
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً J يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً K وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10- 12].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها).
تفسير الطبري (2/60).
تيسير الكريم الرحمن (350).
تيسير الكريم الرحمن (351).
التفسير المنير (24/73) باختصار.
الجامع لأحكام القرآن (18/197).
الجامع لأحكام القرآن (12/238).
تفسير السعدي (92) بتصرف.
تفسير الطبري (11/318).
أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب حدثنا الحسن بن الربيع (4967) وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود (484).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/279).
تفسير القرآن العظيم (2/374).
تفسير القرآن العظيم (2/417).
تفسير السعدي (383).
تفسير السعدي (389).
تفسير ابن كثير (3/169).
تفسير السعدي (567).
أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها (190).
الجامع لأحكام القرآن (13/78).
تفسير السعدي (874).
انظر: تفسير ابن كثير (2/317).
انظر: تفسير ابن كثير (4/453).
الفصل الرابع: فضائل التوبة والاستغفار في السنة النبوية:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيه، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[المطففين:14])).
قال المباركفوري: "والمعنى: نظّف وصفَّى مرآة قلبه، لأن التوبة بمنزلة المصقلة، تمحو وسخ القلب وسواده حقيقياً أو تمثيلياً".
2- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).(/10)
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدَلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك الموت في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)).
قال ابن حجر: "وفيه مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه... وقال عياض: وفيه أن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعاً لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف، لكن ليس هذا من موضع الخلاف، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، أما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف".
4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)).
5- عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
قال ابن أبي جمرة: "جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو، وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى".
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)).
قال ابن بطال: "الأنبياء أشد الناس اجتهاداً في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير".
وقال الغزالي: "كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي فإذا ارترقى إلى حال رأى ما قبلها دونها، فاستغفر من الحالة السابقة وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقاً بحسب تعدد الأحوال".
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: ((أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفر لك))، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: ((اعمل ما شئت)).
قال القرطبي: "يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارناً للسان لينحل به عقد الإصرار ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة".
الران: الطبع والختم.
أخرجه الترمذي في كتاب التفسير باب: ومن صورة المطففين (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزهد باب: ذكر الذنوب (4244).
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (9/254).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب (2759).
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب: حديث الغار (347)، ومسلم في كتاب التوبة باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766).(/11)
فتح الباري (6/518).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: التوبة (6308).
معنى أبوء أي: أعترف.
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل الاستغفار (6306).
انظر: فتح الباري (11/103).
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (6307).
شرح صحيح البخاري (10/77) بتصرف.
إحياء علوم الدين ( ).
أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب: قبول التوبة من الذنوب و إن تكررت الذنوب (2758). وأبو داود في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى يريدون أن يبدلوا كلام الله (7507)،
المفهم (7/85) بتصرف.
الفصل الخامس: الآثار والأقوال الواردة في التوبة والاستغفار:
قال محمد بن كعب القرظي: "يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العودة بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان"[1].
قال يحي بن معاذ: "الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة"[2].
وقال بعض أهل العلم: "من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع من الصواب"[3].
قال ابن القيم: "التوبة من أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات، وإن ارتحل السالك منها إلى منزل آخر ارتحل به ونزل به، فهي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما حاجته إليها في البداية كذلك"[4].
قال أبو موسى رضي الله عنه: (كان لنا أمانان، ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا، وبقي الاستغفار معنا، فإذا ذهب هلكنا).
قال الفضيل رحمه الله: "استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين".
ويقاربه ما جاء عن رابعة العدوية: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير".
سئل سهل عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: "أول الاستغفار الاستجابة، ثم الإنابة، ثم التوبة، فالاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق، ثم يستغفر من تقصيره الذي هو فيه".
قال ابن الجوزي: "إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبـ (لا إله إلا الله)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"[5].
---------------
[1] انظر: الآداب الشرعية (1/86) لابن مفلح.
[2] انظر: ذم الهوى لابن الجوزي (174).
[3] انظر: إحياء علوم الدين (1/206).
[4] مدارج السالكين لابن القيم (1/198).
[5] انظر فيما تقدم من الآثار: نضرة النعيم (2/301).
الفصل السادس: مسائل في التوبة:
1- التوبة الواجبة والتوبة المستحبة:
فالتوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والتوبة المستحبة تكون من فعل المكروهات وترك المستحبات.
فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين.
2- التوبة النصوح:
هي الخالصة الصادقة الناصحة، الخالية من الشوائب والعلل، وهي التي تكون من جميع الذنوب، فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوّم ولا انتظار.
وهي التي تقع لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، ليست لحفظ الجاه والمنصب والرياسة، ولا لحفظ الحال أو القوة أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدنيا أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل، فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدل الله سيئاته حسنات.
قال ابن كثير عند قول الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ}: "أي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلمّ شعث التائب وتجمعه وتكفه عما يتعاطاه من الدناءات".
وقال الألوسي: "وجوز أن يكون المراد بالتوبة النصوح توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور أثرها في صحابها واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضاها".
3- التوبة الخاصة من بعض الذنوب:
الواجب على العبد أن يتوب من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر، قبلت توبته مما تاب منه، ما لم يصر على ذنب آخر من نوعه.(/12)