التربية الإسلامية للنشء مفتاح نهضة الأمة ...
مرحلة الطفولة المبكرة من أهم المراحل التربوية في نمو الطفل اللغوي والعقلي والاجتماعي ، وهي مرحلة تشكيل البناء النفسي الذي تقوم عليه أعمدة الصحة النفسية والخلقية، وتتطلب هذه المرحلة من الأبوين إبداء عناية خاصة في تربية الأطفال وإعدادهم ليكونوا عناصر فعالة في المحيط الاجتماعي ، وليساعدوا في نهضة الأمة في المستقبل باذن الله وتتحدد معالم التربية في هذه المرحلة ضمن المنهج التربوي التالي :
تعليم الطفل معرفة الله تعالى :
الطفل مجبول بفطرته على الايمان بالله تعالى ، حيث تبدأ تساؤلاته عن نشأة الكون وعن نشأته ونشوء أبويه ونشأة من يحيط به ، وأن تفكيره المحدود مهيأ لقبول فكرة الخالق والصانع فعلى الوالدين استثمار تساؤلاته لتعريفه بالله تعالى الخالق في الحدود التي يتقبلها تفكيره المحدود، والايمان بالله تعالى كما يؤكده العلماء سواء كانوا علماء دين أو علماء نفس من أهم القيم التي يجب غرسها في الطفل، مما سوف يعطيه الأمل في الحياة والاعتماد على الخالق، ويوجد عنده الوازع الديني، والتربية والتعليم في هذه المرحلة يفضل أن تكون بالتدريج ضمن منهج متسلسل متناسبا مع العمر العقلي للطفل ودرجات نضوجه اللغوي والعقلي.
والطفل في هذه المرحلة يكون مقلداً لوالديه في كل شيء بما فيها الايمان بالله تعالى، ويميل دائما الى علاقات المحبة والمودة والرقة واللين فيحب أو يفضل تأكيد الصفات الخاصة بالرحمة والحب والمغفرة الى أقصى حد ممكن مع التقليل الى أدنى حد من صفات العقاب والانتقام فتكون الصورة التي يحملها الطفل في عقله عن الله تعالى صورة جميلة محببة له فيزداد تعلقه بالله تعالى ويرى أنه مانح الحب والرحمة له.
والتركيز على قراءة القرآن في الصغر يجعل الطفل محباً لكتاب الله، ومطلعاً على ما جاء فيه وخصوصاً الآيات والسور التي يفهم الطفل معانيها ، وقد أثبت الواقع قدرة الطفل في هذه المرحلة على ترديد ما يسمعه ، وقدرته على الحفظ، فينشأ الطفل وعنده شوق للقرآن الكريم ، وينعكس ما في القرآن من مفاهيم وقيم على عقله وسلوكه.
تربية الطفل على طاعة الوالدين :
يلعب الوالدان الدور الأكبر في تربية الأطفال ، فالمسئولية تقع على عاتقهما أولاً وقبل كل شيء فهما اللذان يحددان شخصية الطفل المستقبلية، وتلعب المدرسة والمحيط الاجتماعي دوراً ثانوياً في التربية، والطفل إذا لم يتمرن على طاعة الوالدين فإنه لا يتقبل ما يصدر منهما من نصائح وارشادات وأوامر إصلاحية وتربوية، فيخلق لنفسه ولهما وللمجتمع مشاكل عديدة، فيكون متمرداً على جميع القيم وعلى جميع القوانين والعادات والتقاليد الموضوعة من قبل الدولة ومن قبل المجتمع. وتربية الطفل على طاعة الوالدين تتطلب جهداً متواصلاً منهما على تمرينه على ذلك، لأن الطفل في هذه المرحلة يميل الى بناء ذاته والى الاستقلالية الذاتية ، فيحتاج إلى جهد أضافي من قبل الوالدين، وأفضل الوسائل في التمرين على الطاعة إشعاره بالحب والحنان، فالوالدان هما الأساس في تربية الطفل على الطاعة .
الإحسان الى طفل وتكريمه :
الطفل في هذه المرحلة بحاجة الى المحبة والتقدير من قبل الوالدين وبحاجة الى الأعتراف به وبمكانته في الأسرة وفي المجتمع ، وأن تسلط الأضواء عليه ، وكلما أحس بأنه محبوب ، وأن والديه أو المجتمع يشعر بمكانته وذاته فإنه سينمو متكبفاً تكيفاً حسناً، والحب والتقدير الذي يحس به الطفل له تأثير كبير على جميع جوانب حياته فيكتمل نموه اللغوي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، والطفل يقلد من يحبه ويتقبل التعليمات والأوامر والنصائح ممن يحبه، فيتعلم قواعد السلوك الصالحة من أبويه وتنعكس على سلوكه اذا كان يشعر بالمحبة والتقدير من قبلهما.
التوازن بين اللين والشدة :
تكريم الطفل والاحسان اليه وإشعاره بالحب والحنان وإشعاره بمكانته الاجتماعية وبأنه مقبول عند والديه وعند المجتمع يجب أن لا يتعدى الحدود الى درجة الافراط في كل ذلك، وأن لا تترك له الحرية المطلقة في أن يعمل ما يشاء، فلا بد من وضع منهج متوازن في التصرف معه من قبل الوالدين ، فلا يتساهلا معه الى أقصى حدود التساهل، ولا أن يعنفا على كل شيء يرتكبه، فلا بد أن يكون اللين وتكون الشدة في حدودهما، ويكون الإعتدال بينهما هو الحكم على الموقف منه حتى يجتاز مرحلة الطفولة بسلام واطمئنان يميز بين السلوك السليم والسلوك الضار لأن السنين الأولى من الحياة هي التي تكون نمط شخصيته.
وفي حالة ارتكاب الطفل لبعض المخالفات السلوكية ، على الوالدين أن يشعرا الطفل بأضرار هذه المخالفة واقناعه بالاقلاع عنها فاذا لم ينفع الاقناع واللين يأتي دور التأنيب أو العقاب المعنوي دون البدنية ويجب في ضوء المنهج التربوي السليم أن يحدث التوازن بين المدح والتأنيب، فالمدح الزائد كالتأنيب الزائد يؤثر على التوازن الانفعالي للطفل ، ويجعله مضطرباً قلقاً.(/1)
الحرية في اللعب :
اللعب استعداد فطري عند الطفل يتم من خلاله التخلص من الطاقة الزائدة وهو مقدمة للعمل الجاد الهادف ، فيه يشعر الطفل بقدرته على التعامل مع الآخرين ، وبمقدرته اللغوية والعقلية والجسدية، ومن خلاله يكتسب الطفل المعرفة الدقيقة بخصائص الأشياء التي تحيط به ، فللعب فوائد متعددة للطفل وهو ضروري للطفل في هذه المرحلة والمرحلة التي تليها، فالطفل يتعلم عن طريق اللعب عادات التحكم في الذات والتعاون والثقة بالنفس. والألعاب تضفي على نفسيته البهجة والسرور وتنمي مواهبه وقدراته على الخلق والابداع ، ومن خلال اللعب يتحقق النمو النفسي والعقلي والاجتماعي والانفعالي للطفل ، ويتعلم الطفل من خلاله المعايير الاجتماعية، وضبط الانفعالات والنظام والتعاون، ويشبع حاجات الطفل مثل حب التملك ، ويشعر الطفل بالمتعة ويعيش طفولته.
تنمية العواطف :
العواطف من أهم دوافع الانسان للعمل وتبدأ العواطف منذ الأيام الاولى في مرحلة الرضاعة ثم تنمو بالتدريج حينما يتقدم الطفل من العمر، وحينما يتسع محيطه الاجتماعي ، ويتأثر نمو العواطف بالفكر الذي يؤمن به الطفل في حدود ادراكه العقلي ، فحينما يؤمن الطفل بأن أداء العمل يرضي والديه أو يرضي الله تعالى فإنه يندفع لآدائه ، والعكس صحيح.
كاتب المقال: د.محمود جمال أبو العزائم
المصدر: واحة النفس المطمئنة(/2)
التربية الإسلامية هي الإطار الحقيقي للتعلم
إن قضية التربية في العصر الحديث هي واحدة من أكبر القضايا، وإنها بالنسبة للمسلمين من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعهم اليوم بأشد الأخطار بل لعله ليس من المبالغة أو التزيد أن يقال أن أغلب التحديات التي تواجه المجتمع المسلم اليوم هو تلك التبعية لمناهج التربية الغربية، وانحسار منهج التربية الإسلامي إلى عدد قليل من الأقطار. وقد كشف أسلوب النقل أو الاقتباس من البرامج الغربية عن نتائج خطيرة أخرت سير حركة اليقظة الإسلامية وحالت دون قدرة المسلمين على امتلاك إرادتهم، وإقامة مجتمعهم الرباني سنوات طويلة، حتى جاءت النتائج الخطيرة كاشفة عن هذا السر الخفي، عندما وقعت أحداث النكبة والنكسة والسيطرة المثلثة: الاستعمار والصهيونية والماركسية على أجزاء من العالم الإسلامي كرأس جسر لتغريب هذه الأمة وحجبها عن منهجها القرآني الأصيل، والحيلولة بينها وبين اقتعادها مكانها الصحيح الذي تؤهله له مقداراتها وحجمها ومكانها الاستراتيجي، وتفوقها البشري – وامتلاكها للثروة فضلاً عن تاريخها الحافل، وتراثها الضخم، ودورها الواضح في بناء الحضارة البشرية حين قدمت (المنهج العلمي التجريبي) الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله.
ولقد ظنت الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار أن التماسها أساليب الغرب في التربية والتعليم ربما حقق لها القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه نم ثقافة وعلم وقوة وتمكين. ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً وخطأ سرعان ما كشفت الوقائع عن فساده، ذلك أن أمة من الأمم لن تستطيع أن تبني نفسها أو تجدد كيانها إلا إذا استمدت ذك من جذورها وأصولها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها أول الأمر، ومنذ جاء الإسلام وبنى هذه الأمة فكرياً وروحياً واجتماعياً وأخلاقياً. فإن هذه الأمة لن تستطيع أن تجد في أي منهج آخر سبيلها إلى اليقظة والنهضة إذا كرثتها الأحداث. بل إن عدوها الذي انتهز فرصة غفلتها تسيطر عليها لا يمكن بحال أن يقدم لها ما يمكنها نم التحرر نم قبضته.
ولذلك فقد عمد أول ما عمد إلى هدم ثلاث دعائم من كيانها تلك هي: حجب الشريعة الإسلامية في نظام الحدود، وتغيير نظام الاقتصاد بغرض الربا ثم كانت خطته الماكرة في تغيير مناهج التربية والتعليم، وإخراج القرآن والإسلام من هذا البناء الثقافي وتفريغه من روح الإيمان بالله ومنهج التكامل والترابط بين القيم وأخلاقية أسلوب الحياة.
وحشوه بروح المادية والتمرد على الله والثورة على القيم الروحية والخلقية وعبادة الجسد والمادة.
كان هذا هو الخطر الخطير والتحدي الشديد الذي بدأ به النفوذ الغربي تعامله مع المسلمين حين أقام مدارسه ومعاهده وإرسالياته. ثم فرض هذه المناهج على التعليم القومي الذي كان يشرف على إعداده بواسطة رجاله أمثال دانلوب في مصر وضريبة في سوريا والمغرب والعراق من أجل ما أسماه كرومر تلك الأجيال المؤمنة بالغرب المستسلمة له، أولئك المتفرنجين الذين أعدهم ليمتلكوا إرادة النفوذ في مختلف دوائر السياسة والثقافة والتربية والتعليم.
ولقد كانت لتلك الإرساليات (على اختلاف مذاهبها) دورها الخطير في تنشئة أجيال متعددة في العالم الإسلامي تابعت منهج الغرب، وحجبت منهج الإسلام حتى جاءت النتائج بعد أكثر من سبعين عاماً لتدق الأبواب كاشفة عن أثر ذلك الخطر في ذلك التمكن الذي أتيح للصهيونية وللماركسية وللنفوذ الاستعماري على حواشي هذا الوطن وفي قبله الحي: فلسطين والقدس.
يقول هاملتون جب المستشرق الإنجليزي في تصوير أثر منهج التربية الغربية في العالم الإسلامي:
لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثراً يجعلهم في مظهرهم العام – (لا دينيين) إلى حد بعيد. ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل كما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار.
هذه هي ثمرة خطة الاستعمار عن طريق التبشير بالمدرسة والاستشراق بالفكرة المسمومة، هذه الخطة التي ركزت تركيزاً شديداً على التعليم: ذلك أن التعليم كان هو المنطلق الحقيقي نخطة الغزو الثقافي وما زال، وسيظل إلى وقت طويل ما لم يتدارك المسئولون المسلمون، هذا الخطر ويعملوا على إيقاف السيطرة الأجنبية الواضحة الأثر على التعليم في مختلف مجالاته ومختلف بيئاته، ذلك أن القول اليوم بتوحيد مناهج التعليم العربية – على ما بها من تبعية وأخطار ومزالق وسموم ما تزال مسيطرة على جوانب كثيرة نم أساليب الدراسات والتعليم – وهو أخطر كثيراً من الأثر الذي كان يتخذ في كل قطر من الأقطار التي يستعمرها أسلوباً معيناً نم التعليم يستهدف به.
أولاً: عزل هذا القطر عن أمته العربية، ثم عزله عن العالم الإسلامي كله.(/1)
ثانياً: الحيلولة بينه وبين الارتباط بالجذور التاريخية والأدبية واللغوية بإدعاء أن العصر الحديث بدأ بحملة نابليون، وأن هذا العصر منفصل تماماً عما قبله مما أطلق عليه زيفا (عصر الانحطاط) محاولة في إيجاد شعور نفسي بالكراهية والانسلاخ من الماضي كله.
ثالثاً: بعد عزل القطر (إقليمياً) عن أمته العربية الصغرى، وأمته الإسلامية الكبرى، وعن أصول فكره الإسلامي القرآني الممتد وراء أربعة عشر قرناً تقوم إلى إحياء التاريخ الإقليمي الفرعوني والفينيقي والآشوري والبابلي وغيره، ثم الارتباط بالغرب وحضارة العرب وعظمة الغرب وبطولاته وأمجاده، هذا الغرب صاحب الحضارة التي لا تقهر وممدن الشعوب المتأخرة إلى آخر هذه الزيوف والأضاليل.
رابعاً: إعلاء العامية على اللغة الفصحى والاهتمام باللهجة الإقليمية وما يتصل بها من حكايات وفلكلور وأزجال وموال وغيره إغراقاً في العمق الإقليمي وحيلولة دون الامتداد الطبيعي للأمة.
خامساً: إعلاء اللغة الأجنبية الإنجليزية أو الفرنسية على اللغة العربية والدعوة إلى تعلمها بحجة أنها لغة الحضارة، ثم السيطرة عن طريقها فكرياً على المثقفين الذين يوجهونه بعد ذلك إلى الاعتماد على فلسفات ومفاهيم الغرب.
هذه كانت خطة التعليم العامة مع تغييرات يسيرة، اختلف بها المنهج من قطر إلى قطر، ولكن الهدف في الجملة واحد. هو إزدراء الوطن والأمة، والفكر العربي الإسلامي كله، والالتفات نحو الغرب صاحب الحضارة المستعمرة وبطولاته وأمجاده.
وقد امتدت هذه الخطة بعد انتهاء الاحتلال.
وكانت قد أنتجت ثمارها في تلك التشكيلات الفكرية المختلفة التي فرقت الأمة شيعاً والتي ارتبطت بولاءات مختلفة مع هذا المعسكر إذ ذاك. ومع هذه الثقافة أو تلك.
وقد ركزت المناهج في المرحلة الاستقلالية على الوطنية والإقليمية، وامتدادها السابق على الإسلام وبقى جوهر الخطة التعليمية كما هو وظلت هذه المناهج توحي بشبهات وأخطاء واضحة: من هذه الأخطاء:
القول بأن الإسلام دين عبادة لا صلة له بالمجتمع ولا بالدولة.
القول بأن مخططات الاستعمار والتبشير الأولى في أفريقيا هي كشوف علمية.
التاريخ الإسلامي لا يزيد عن أن يكون خلافات بين الحكام: وصراعاً على الملك، بين الأمويين والعباسيين والعلويين.
تغليب مفاهيم الفلسفة الغربية المادية بما فيها من شكوك ومادية ومفاهيم متعارضة مع الفكر الإسلامي بما يؤجج في النفس الشبهات والتمزق وبوادر الإلحاد.
نسبة كل مناهج العلوم إلى الغرب وإنكار دور المسلمين الواضح فيها بما يصور للطالب المسلم أن المسلمين عاله على الأمم وأنه لم يكن لهم دور في بناء هذه العلوم.
سيطرة نظريات المدرسة الاجتماعية والتحليل النفسي والوجودية على علوم النفس والأخلاق والتربية؟، وكلاه تقوم على الفكر المادي.
دراسة العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية دور بيان وجهة نظر الإسلام فيها. هذه بعض مناقض ومحاذير المناهج التعليمية القائمة في المدارس – والجامعات في مختلف بلاد العالم الإسلامي والتي لم تتغير مطلقاً.
فإذا جاءت اليوم الدعوة إلى (توحيد مناهج التعليم) فإنها ستجعل مثل هذه المحاذير أخطاراً عامة تشمل البلاد العربية كلها. مونها الأقطار التي لم تتصل من قبل بمناهج الإرساليات التبشيرية أو تسيطر عليها مناهج التعليم الغربية الدنلوبية وغيرها.
ومن هنا فإننا نواجه فعلاً ما يمكن أن يسمى (أزمة التربية والتعليم) وهي جديرة بالبحث والعمل الجاد في سبيل تحرير مناهج التعليم من أخطار المفاهيم التي بثها الاستعمار وأراد بها السيطرة على العرب والمسلمين بإكراههم على انتقاض – تراثهم وتاريخهم ودينهم وقيمهم. والإعجاب والتقدير والإعلاء المغرض للتاريخ الغربي وحضارة الغرب وفكرة. واعتبار المناهج التي تدرس في كليات العلوم والطب وغيرها وكأنها من نتاج الفكر الغربي وحده، مع أن أصولها الأولى هي من نتاج الحضارة الإسلامية مع الإضافات التي قدمها العصر الحديث.
كذلك فإن النظريات الخاصة بعلوم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد إنما تدرس على أنها (علوم) وهي في الحقيقة (نظريات) قامت على أساس فروض فرضها الباحثون والفلاسفة في بيئات معينة، واستجابات لتحديات معينة وفي عصر معين.
ومن هنا فليست لها (أولاً) صفة الحقيقة العلمية التي لا تنقض (ثانياً) ليس لها صفة العالمية. ذلك لأن لكل أمة قيمتها وعقائدها ومفاهيمها في مجال العلوم – الإنسانية والعلوم الاجتماعية.(/2)
وإذا نظرنا إلى ما قاله (هاملتون جب) ق\رنا تماماً مدى الخطر الذي أحاط بالمسلمين خلال القرن الماضي. فقد سيطرت قوى الاستعمار ومن ورائها قوى الاستشراق والتغريب، والغزو الثقافي وأداتها معاهد التبشير وجامعات الإرساليات بمختلف صورها: أوروبية وأمريكية وكاثوليكية وبروتستانتية، ومن ورائه الفكر التلمدي والاستشراق اليهودي الذي يستهدف غايات أخرى تختلف عن الغايات التي يطمع فيها الاستعمار، والتي تقوم أساساً على مصدر واحد هو حرمان هذه الأمة الإسلامية من تطبيق شريعتها الإسلامية كمنهج حياة، والحيلولة دون استمداد ثقافتها وتربيتها وتعليمها من مناهج القرآن الكريم.
ويمكن القول اليوم: إن التعليم بهذه الصورة مصدر كبير للغزو الفكري وسبب بارز من أسباب تخلف المسلمين. وقد انتقلنا في السنوات الأخيرة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة وخفت رياح التهافت على التعليم الغربي. وبقى أن ندخل في المرحلة الحاسمة وهي النظر إلى هذه المناهج نظرية علمية وواقعية تضع علوم الغرب ونظرياته موضع الفحص والدراسة. وتكشف مع الفروق العميقة بين وجهة نظره وبين وجهة نظر الفكر الإسلامي. وكيف نجد أن معطيات الإسلام أكثر إيجابية وسلامة وقوة، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن للبشرية كلها. هذا على حد تعبير العلامة السيد أبو الحسن الندوي في مهرجانه القريب الذي دعا فيه إلى إقامة التعليم في إطار التربية الإسلامية. والعمل على تغيير نظام التعليم تغييراً جوهرياً يلائم طبيعة الأمة الإسلامية انطلاقاً من مبدأ واضح صريح. هو أن عملية التربية في أي أمة وبلاد ليست بضاعة تصدر أو تستورد كالمواد الخام. وإنما هي لباس – يفصل على إقامة الشعوب وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها. وأن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسليمها بالدلائل العلمية إذا احتيج إليها، وسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة. أ هـ – وإذا كنا نرى أن نتائج نظام التربية الغربية الوافد قد ظهر واضحاً في تكوين هذه الأجيال – الممزقة المضطربة القلقة نفسياً المأزومة فكرياً في بلادنا فإننا نجد أن الغرب نفسه قد أخذ يعلن فساد هذا النظام الذي حمل لواءه الفيلسوف (ديوي) – والذي وجد بالتآمر والتمويه أثراً عميقاً في البيئات الإسلامية والعربية، فقد نشرت مجلة – تايم نيو مجازين في 31/3/1948 م بحثاً ضافياً أشارت فيه إلى فشل نظرية (ديوي) القائلة بأن الله والفضيلة كلها غايات قابلة للنقاش والجدل. ومن ثم فلا جدوى من مناقشتها وفي مكانها يجب أن تحل غاية أخرى هي: (الانسجام مع الحياة) وقال الكاتب أن الطلبة قد انقطعت صلاتهم بتقاليدهم. وأن هناك حاجة كبرى إلى التفكير في الأهداف السليمة للتربية وأنه لابد أن يكون هدف التربية الأول هو تزويد الفرد بثقافة صحيحه تقنعه بأن هناك تاريخاً وأهدافاً وراء هذه التربية.
ولا ريب أن الفصل بين التربية والعقيدة والأخلاق إذا صلح كمنهج في الغرب فإنه لا يصلح في العالم الإسلامي والأمة العربية لأنه يتعارض مع (تكامل) منهجها في الحياة، ونظامها الرباني الجامع.
ومعنى عزل الدين أو الأخلاق عن التربية هو بناء شخصية هشة طرية لا تمتلك القدرة على حمل أمانة المجتمع ومسئولية الأمة. ولا تكون قادرة على مقاومة العدوان أو مواجهة وسائل الإغراء، أو مؤامرات القضاء على كيان العالم الإسلامي.
وعندما نستقضي مناهج التربية في العالم كله فلن تجد منهجاً واحداً منها يخطي بما يخطي به برنامج التربية الإسلامية من التكامل الجامع ومن الاستعلاء على أهواء البشرية، ويتمثل هذا التكامل في خصائص خمسة:
أولا:الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ثانياً: الجمع بين الروح والجسم والعقل.
ثالثاً: الجمع بين التربية للفرد والتربية للمجتمع.
رابعاً: الجمع بين الغايات الوطنية والغايات الإنسانية.
خامساً: الجمع بين التربية دينية وخلقية وعقلية.
ويقوم هذا المنهج على التوازن والموائمة فلا لطفى فيه ناحية من النواحي على ناحية أخرى. ويكون به الفرد فردياً واجتماعياً، لا تطغى فرديته على جماعيته يقوى استقلاله الذاتي وتفتحه الروحي والعقلي معاً. وينتقل من الأنانية إلى الغيرية، إنه إعداد الفرد لذاته ولمجاوزة ذاته في نفس الوقت. وبذلك ينتقل الإنسان من أهوائه إلى الحق، ومكن الحيوانية إلى الإنسانية، ومن البشرية إلى الربانية، فيكون قابلاً للارتفاع فوق المطامع والشهوات متجهاً إلى الارتفاع (ولو شئنا لرفعناه بها).
إن التربية الإسلامية تحقق للإنسان مفهوم الحرية الصحيح: التحرر من الأهواء والغرائز والنزوات. وذلك عكس ما ترمي إليه الغربية التي تقصر الإنسان على الاستجابة للأهواء.(/3)
والتربية الإسلامية تهدف إلى بناء الشخصية بالقرآن والتاريخ والقدوة الطيبة وبناء الشخصية بناءً أخلاقياً دينياً عقلياً. هو أساس بناء المجتمع ومصدر القوة في مواجهة كل تحديات الغزو الخارجي.
وأبلغ مظاهر التربية الإسلامية: التزكية: "تزكية النفس" والتزكية تعني تنمية الروح الأخلاقية ونزعات الخير وفق القاعدة القرآنية.
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها – قد أفلح من زكاها) وأبلغ ما تصل إليه التزكية: تربية الواعز النفسي القائم في أعماقها كالديدبان اليقظ يدعوها إلى الخير، ويردها عن الشر، ويشكل الإرادة الحية القادرة على الامتناع عن الشر والاندفاع إلى الخير وفق قاعدة الرسول الرائعة:
(طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر).
وليس أصدق من حاجة الأمة الإسلامية إلى بناء مناهج التعليم في إطار التربية الإسلامية. ذلك أن التعليم هو تزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات والمهارات، وما لم تكن هذه العلوم حية ومتحركة في إطار تربوي أخلاقي ديني عقلي سليم فإنها تفقد وجهتها، ولا تكون عاملاً من عوامل البناء والتقدم في الطريق الصحيح.
لقد أعدت التربية الإسلامية المسلم بأمرين جهلتهما التربية الحديثة وعجزت عنهما نتيجة لمصادرها المادية، وهي قوام الحياة الحقة على هذه الأرض وأساس بناء الإنسان الرباني وهما:
أولاً: الإرادة والمسئولية الفردية حتى يعرف الإنسان أنه قادر على أن يختار بين الخير والشر، والحق والباطل، وأن يمضي مع موكب الحياة ويضع لبنات جديدة في ذلك الصرح الحضاري الإنساني وبدون هذه الإرادة والمسئولية الفردية لا يكون الجزاء الدنيوي والآخرون بعد البعث والنشور، هذه المسئولية قائمة على غاية (هي الجزاء: ثواباً وعقاباً) وبدون هذا لا يستقيم عمل الإنسان ولا يعتصم في دائرة التقوى من شر الأهواء والمطامع.
ثانياً: الالتزام الأخلاقي: الذي يحيط بالإنسان وعمله إحاطة السوار بالمعصم فيدفعه دائماً إلى الطريق الصحيح والشريف ويحميه نم أخطار المعصية والخطيئة والفساد والانحلال والإباحية، ويجعله إنساناً قوياً قادراً على مواجهة كل خطر، والوقوف في وجه كل عاصفة.
ومن خلال هذين السلاحين الماضيين رسمت التربية الإسلامية طريقها الحق في بناء الإنسان لنفسه رجلاً معتصماً بالله عن الخطأ والفساد وعاملاً لأسرته وجماعته دون أن تجرفه الأنانية الطاغية. فهو بذلك يكون قادراً على حماية عقيدته ووطنه وأمته من ما تتعرض له من تحديات وأخطار سواء كانت في مجال الأرض أم مجال الفكر، أما حين تخلو التربية الحديثة الوافدة في العالم الإسلامي من قيم العقيدة والأخلاق فإنها لن تكون إلا تبعية شائنة لأهواء الحياة وأخطاء المجتمعات. وذلك هو ما قصدت إليه القوى المتربصة بالإنسانية الشر الراغبة في تدمير المجتمعات قبل السيطرة عليها.
وبعد فإن الخطر الحقيقي الذي واجهته الأمة الإسلامية إنما بدأ من التعليم وإن اليقظة الحقيقية إنما تبدأ منه، لقد حجبت القوة الاستعمارية منهج الأمة في التربية وأقامت نظاماً ازدواجياً خطيراً مزق الأمة ودمر فكرها، وأنشأ تلك التحديات الخطيرة، فالأسلوب أسلوب التربية الإسلامية أساساً في السنوات الأولى، ثم يتفرع منها التعليم المدني زراعياً أو تجارياً أو صناعياً أو ثقافياً عاماً، وهذا هو ما يسمى بالتعليم الأصيل. ثم ينبثق منه التعليم المتخصص، وإن يقوم منهج التعليم كله في إطار التربية الإسلامية الجامعة المتكاملة.
وبعد فإن تلك المحاولات التي ترمي إلى "ترقيع" التعليم المدني الوافد القائم الآن بإدخال ما يسمى مادة الدين، إنما هو عمل ناقص، ومحاولة باطلة لإطالة أمد المنهج الوضعي الاستعماري، إن الإسلام هو الإسلام ليس مادة الدين التي تدرس منها بعض آيات وأحاديث وصلوات. إن الإسلام هوة مادة كل المناهج والعلوم والدراسات: اللغة العربية وعلم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وهو روح كل الدراسات في المدرسة الأولية والوسطى والإعدادية والثانوية والجامعة جميعاً.
ذلك أن الإسلام ليس ديناً بمفهوم الدين الغربي، ولكنه منهج حياة ونظام – مجتمع والدين جزء منه. ولن تستطيع هذه الأمة أن تحقق وجودها وتمتلك إرادتها ما لم يتحرر من النفوذ الغربي من مناهج التربية والتعليم التي صنعت أجيال الهزيمة والنكسة والانهيار والتدمير، ولابد مع التماس منابع الإسلام في الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية أن يكون هناك تربية إسلامية أصيلة.
نحن نعرف أن التربية والتعليم والثقافة هي وجود ثلاثة لحقيقة واحدة.
وإن ازدواجية التعليم وازدواجية الثقافة هي أخطر الرياح الصفراء العاتية التي تهب الآن في وجه الإسلام الحق. المدرسة والبيت والصحيفة والكتاب والجامعة كل هؤلاء مدعوون لبناء منهج تربي جديد قوامه تكامل التربية الإسلامية روحاً وعقلاً وجسماً، وقومية وإنسانية، وفردية وجماعية، وخلقية وعقلية، وربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.(/4)
إن هذا هو المصدر الوحيد للحصانة من خطر التيارات الوافدة والدعوات – الهدامة، هذه الأخطار التي تتمثل في الفكر الاستعماري والماركسي والصهيوني هذا الخطر ليست هناك أمة معرضة له بقدر ما تتعرض الأمة الإسلامية. لأنها هي وحدها التي تمتلك ثقافة وفكراً مستقلاً ومتميزاً له ذاتيته الخاصة وطابعه المفرد من وحي السماء يستمد مفهومه من التوحيد والحق والعدل والرحمة جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وما زال المسلمون مسئولين عن تبليغ هذا المنهج وحمايته وتطبيقه على مجتمعاتهم.(/5)
التربية الإسلامية هي الإطار الحقيقي للتعلم
إن قضية التربية في العصر الحديث هي واحدة من أكبر القضايا، وإنها بالنسبة للمسلمين من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعهم اليوم بأشد الأخطار بل لعله ليس من المبالغة أو التزيد أن يقال أن أغلب التحديات التي تواجه المجتمع المسلم اليوم هو تلك التبعية لمناهج التربية الغربية، وانحسار منهج التربية الإسلامي إلى عدد قليل من الأقطار. وقد كشف أسلوب النقل أو الاقتباس من البرامج الغربية عن نتائج خطيرة أخرت سير حركة اليقظة الإسلامية وحالت دون قدرة المسلمين على امتلاك إرادتهم، وإقامة مجتمعهم الرباني سنوات طويلة، حتى جاءت النتائج الخطيرة كاشفة عن هذا السر الخفي، عندما وقعت أحداث النكبة والنكسة والسيطرة المثلثة: الاستعمار والصهيونية والماركسية على أجزاء من العالم الإسلامي كرأس جسر لتغريب هذه الأمة وحجبها عن منهجها القرآني الأصيل، والحيلولة بينها وبين اقتعادها مكانها الصحيح الذي تؤهله له مقداراتها وحجمها ومكانها الاستراتيجي، وتفوقها البشري – وامتلاكها للثروة فضلاً عن تاريخها الحافل، وتراثها الضخم، ودورها الواضح في بناء الحضارة البشرية حين قدمت (المنهج العلمي التجريبي) الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله.
ولقد ظنت الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار أن التماسها أساليب الغرب في التربية والتعليم ربما حقق لها القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه نم ثقافة وعلم وقوة وتمكين. ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً وخطأ سرعان ما كشفت الوقائع عن فساده، ذلك أن أمة من الأمم لن تستطيع أن تبني نفسها أو تجدد كيانها إلا إذا استمدت ذك من جذورها وأصولها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها أول الأمر، ومنذ جاء الإسلام وبنى هذه الأمة فكرياً وروحياً واجتماعياً وأخلاقياً. فإن هذه الأمة لن تستطيع أن تجد في أي منهج آخر سبيلها إلى اليقظة والنهضة إذا كرثتها الأحداث. بل إن عدوها الذي انتهز فرصة غفلتها تسيطر عليها لا يمكن بحال أن يقدم لها ما يمكنها نم التحرر نم قبضته.
ولذلك فقد عمد أول ما عمد إلى هدم ثلاث دعائم من كيانها تلك هي: حجب الشريعة الإسلامية في نظام الحدود، وتغيير نظام الاقتصاد بغرض الربا ثم كانت خطته الماكرة في تغيير مناهج التربية والتعليم، وإخراج القرآن والإسلام من هذا البناء الثقافي وتفريغه من روح الإيمان بالله ومنهج التكامل والترابط بين القيم وأخلاقية أسلوب الحياة.
وحشوه بروح المادية والتمرد على الله والثورة على القيم الروحية والخلقية وعبادة الجسد والمادة.
كان هذا هو الخطر الخطير والتحدي الشديد الذي بدأ به النفوذ الغربي تعامله مع المسلمين حين أقام مدارسه ومعاهده وإرسالياته. ثم فرض هذه المناهج على التعليم القومي الذي كان يشرف على إعداده بواسطة رجاله أمثال دانلوب في مصر وضريبة في سوريا والمغرب والعراق من أجل ما أسماه كرومر تلك الأجيال المؤمنة بالغرب المستسلمة له، أولئك المتفرنجين الذين أعدهم ليمتلكوا إرادة النفوذ في مختلف دوائر السياسة والثقافة والتربية والتعليم.
ولقد كانت لتلك الإرساليات (على اختلاف مذاهبها) دورها الخطير في تنشئة أجيال متعددة في العالم الإسلامي تابعت منهج الغرب، وحجبت منهج الإسلام حتى جاءت النتائج بعد أكثر من سبعين عاماً لتدق الأبواب كاشفة عن أثر ذلك الخطر في ذلك التمكن الذي أتيح للصهيونية وللماركسية وللنفوذ الاستعماري على حواشي هذا الوطن وفي قبله الحي: فلسطين والقدس.
يقول هاملتون جب المستشرق الإنجليزي في تصوير أثر منهج التربية الغربية في العالم الإسلامي:
لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثراً يجعلهم في مظهرهم العام – (لا دينيين) إلى حد بعيد. ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل كما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار.
هذه هي ثمرة خطة الاستعمار عن طريق التبشير بالمدرسة والاستشراق بالفكرة المسمومة، هذه الخطة التي ركزت تركيزاً شديداً على التعليم: ذلك أن التعليم كان هو المنطلق الحقيقي نخطة الغزو الثقافي وما زال، وسيظل إلى وقت طويل ما لم يتدارك المسئولون المسلمون، هذا الخطر ويعملوا على إيقاف السيطرة الأجنبية الواضحة الأثر على التعليم في مختلف مجالاته ومختلف بيئاته، ذلك أن القول اليوم بتوحيد مناهج التعليم العربية – على ما بها من تبعية وأخطار ومزالق وسموم ما تزال مسيطرة على جوانب كثيرة نم أساليب الدراسات والتعليم – وهو أخطر كثيراً من الأثر الذي كان يتخذ في كل قطر من الأقطار التي يستعمرها أسلوباً معيناً نم التعليم يستهدف به.
أولاً: عزل هذا القطر عن أمته العربية، ثم عزله عن العالم الإسلامي كله.(/1)
ثانياً: الحيلولة بينه وبين الارتباط بالجذور التاريخية والأدبية واللغوية بإدعاء أن العصر الحديث بدأ بحملة نابليون، وأن هذا العصر منفصل تماماً عما قبله مما أطلق عليه زيفا (عصر الانحطاط) محاولة في إيجاد شعور نفسي بالكراهية والانسلاخ من الماضي كله.
ثالثاً: بعد عزل القطر (إقليمياً) عن أمته العربية الصغرى، وأمته الإسلامية الكبرى، وعن أصول فكره الإسلامي القرآني الممتد وراء أربعة عشر قرناً تقوم إلى إحياء التاريخ الإقليمي الفرعوني والفينيقي والآشوري والبابلي وغيره، ثم الارتباط بالغرب وحضارة العرب وعظمة الغرب وبطولاته وأمجاده، هذا الغرب صاحب الحضارة التي لا تقهر وممدن الشعوب المتأخرة إلى آخر هذه الزيوف والأضاليل.
رابعاً: إعلاء العامية على اللغة الفصحى والاهتمام باللهجة الإقليمية وما يتصل بها من حكايات وفلكلور وأزجال وموال وغيره إغراقاً في العمق الإقليمي وحيلولة دون الامتداد الطبيعي للأمة.
خامساً: إعلاء اللغة الأجنبية الإنجليزية أو الفرنسية على اللغة العربية والدعوة إلى تعلمها بحجة أنها لغة الحضارة، ثم السيطرة عن طريقها فكرياً على المثقفين الذين يوجهونه بعد ذلك إلى الاعتماد على فلسفات ومفاهيم الغرب.
هذه كانت خطة التعليم العامة مع تغييرات يسيرة، اختلف بها المنهج من قطر إلى قطر، ولكن الهدف في الجملة واحد. هو إزدراء الوطن والأمة، والفكر العربي الإسلامي كله، والالتفات نحو الغرب صاحب الحضارة المستعمرة وبطولاته وأمجاده.
وقد امتدت هذه الخطة بعد انتهاء الاحتلال.
وكانت قد أنتجت ثمارها في تلك التشكيلات الفكرية المختلفة التي فرقت الأمة شيعاً والتي ارتبطت بولاءات مختلفة مع هذا المعسكر إذ ذاك. ومع هذه الثقافة أو تلك.
وقد ركزت المناهج في المرحلة الاستقلالية على الوطنية والإقليمية، وامتدادها السابق على الإسلام وبقى جوهر الخطة التعليمية كما هو وظلت هذه المناهج توحي بشبهات وأخطاء واضحة: من هذه الأخطاء:
القول بأن الإسلام دين عبادة لا صلة له بالمجتمع ولا بالدولة.
القول بأن مخططات الاستعمار والتبشير الأولى في أفريقيا هي كشوف علمية.
التاريخ الإسلامي لا يزيد عن أن يكون خلافات بين الحكام: وصراعاً على الملك، بين الأمويين والعباسيين والعلويين.
تغليب مفاهيم الفلسفة الغربية المادية بما فيها من شكوك ومادية ومفاهيم متعارضة مع الفكر الإسلامي بما يؤجج في النفس الشبهات والتمزق وبوادر الإلحاد.
نسبة كل مناهج العلوم إلى الغرب وإنكار دور المسلمين الواضح فيها بما يصور للطالب المسلم أن المسلمين عاله على الأمم وأنه لم يكن لهم دور في بناء هذه العلوم.
سيطرة نظريات المدرسة الاجتماعية والتحليل النفسي والوجودية على علوم النفس والأخلاق والتربية؟، وكلاه تقوم على الفكر المادي.
دراسة العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية دور بيان وجهة نظر الإسلام فيها. هذه بعض مناقض ومحاذير المناهج التعليمية القائمة في المدارس – والجامعات في مختلف بلاد العالم الإسلامي والتي لم تتغير مطلقاً.
فإذا جاءت اليوم الدعوة إلى (توحيد مناهج التعليم) فإنها ستجعل مثل هذه المحاذير أخطاراً عامة تشمل البلاد العربية كلها. مونها الأقطار التي لم تتصل من قبل بمناهج الإرساليات التبشيرية أو تسيطر عليها مناهج التعليم الغربية الدنلوبية وغيرها.
ومن هنا فإننا نواجه فعلاً ما يمكن أن يسمى (أزمة التربية والتعليم) وهي جديرة بالبحث والعمل الجاد في سبيل تحرير مناهج التعليم من أخطار المفاهيم التي بثها الاستعمار وأراد بها السيطرة على العرب والمسلمين بإكراههم على انتقاض – تراثهم وتاريخهم ودينهم وقيمهم. والإعجاب والتقدير والإعلاء المغرض للتاريخ الغربي وحضارة الغرب وفكرة. واعتبار المناهج التي تدرس في كليات العلوم والطب وغيرها وكأنها من نتاج الفكر الغربي وحده، مع أن أصولها الأولى هي من نتاج الحضارة الإسلامية مع الإضافات التي قدمها العصر الحديث.
كذلك فإن النظريات الخاصة بعلوم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد إنما تدرس على أنها (علوم) وهي في الحقيقة (نظريات) قامت على أساس فروض فرضها الباحثون والفلاسفة في بيئات معينة، واستجابات لتحديات معينة وفي عصر معين.
ومن هنا فليست لها (أولاً) صفة الحقيقة العلمية التي لا تنقض (ثانياً) ليس لها صفة العالمية. ذلك لأن لكل أمة قيمتها وعقائدها ومفاهيمها في مجال العلوم – الإنسانية والعلوم الاجتماعية.(/2)
وإذا نظرنا إلى ما قاله (هاملتون جب) ق\رنا تماماً مدى الخطر الذي أحاط بالمسلمين خلال القرن الماضي. فقد سيطرت قوى الاستعمار ومن ورائها قوى الاستشراق والتغريب، والغزو الثقافي وأداتها معاهد التبشير وجامعات الإرساليات بمختلف صورها: أوروبية وأمريكية وكاثوليكية وبروتستانتية، ومن ورائه الفكر التلمدي والاستشراق اليهودي الذي يستهدف غايات أخرى تختلف عن الغايات التي يطمع فيها الاستعمار، والتي تقوم أساساً على مصدر واحد هو حرمان هذه الأمة الإسلامية من تطبيق شريعتها الإسلامية كمنهج حياة، والحيلولة دون استمداد ثقافتها وتربيتها وتعليمها من مناهج القرآن الكريم.
ويمكن القول اليوم: إن التعليم بهذه الصورة مصدر كبير للغزو الفكري وسبب بارز من أسباب تخلف المسلمين. وقد انتقلنا في السنوات الأخيرة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة وخفت رياح التهافت على التعليم الغربي. وبقى أن ندخل في المرحلة الحاسمة وهي النظر إلى هذه المناهج نظرية علمية وواقعية تضع علوم الغرب ونظرياته موضع الفحص والدراسة. وتكشف مع الفروق العميقة بين وجهة نظره وبين وجهة نظر الفكر الإسلامي. وكيف نجد أن معطيات الإسلام أكثر إيجابية وسلامة وقوة، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن للبشرية كلها. هذا على حد تعبير العلامة السيد أبو الحسن الندوي في مهرجانه القريب الذي دعا فيه إلى إقامة التعليم في إطار التربية الإسلامية. والعمل على تغيير نظام التعليم تغييراً جوهرياً يلائم طبيعة الأمة الإسلامية انطلاقاً من مبدأ واضح صريح. هو أن عملية التربية في أي أمة وبلاد ليست بضاعة تصدر أو تستورد كالمواد الخام. وإنما هي لباس – يفصل على إقامة الشعوب وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها. وأن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسليمها بالدلائل العلمية إذا احتيج إليها، وسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة. أ هـ – وإذا كنا نرى أن نتائج نظام التربية الغربية الوافد قد ظهر واضحاً في تكوين هذه الأجيال – الممزقة المضطربة القلقة نفسياً المأزومة فكرياً في بلادنا فإننا نجد أن الغرب نفسه قد أخذ يعلن فساد هذا النظام الذي حمل لواءه الفيلسوف (ديوي) – والذي وجد بالتآمر والتمويه أثراً عميقاً في البيئات الإسلامية والعربية، فقد نشرت مجلة – تايم نيو مجازين في 31/3/1948 م بحثاً ضافياً أشارت فيه إلى فشل نظرية (ديوي) القائلة بأن الله والفضيلة كلها غايات قابلة للنقاش والجدل. ومن ثم فلا جدوى من مناقشتها وفي مكانها يجب أن تحل غاية أخرى هي: (الانسجام مع الحياة) وقال الكاتب أن الطلبة قد انقطعت صلاتهم بتقاليدهم. وأن هناك حاجة كبرى إلى التفكير في الأهداف السليمة للتربية وأنه لابد أن يكون هدف التربية الأول هو تزويد الفرد بثقافة صحيحه تقنعه بأن هناك تاريخاً وأهدافاً وراء هذه التربية.
ولا ريب أن الفصل بين التربية والعقيدة والأخلاق إذا صلح كمنهج في الغرب فإنه لا يصلح في العالم الإسلامي والأمة العربية لأنه يتعارض مع (تكامل) منهجها في الحياة، ونظامها الرباني الجامع.
ومعنى عزل الدين أو الأخلاق عن التربية هو بناء شخصية هشة طرية لا تمتلك القدرة على حمل أمانة المجتمع ومسئولية الأمة. ولا تكون قادرة على مقاومة العدوان أو مواجهة وسائل الإغراء، أو مؤامرات القضاء على كيان العالم الإسلامي.
وعندما نستقضي مناهج التربية في العالم كله فلن تجد منهجاً واحداً منها يخطي بما يخطي به برنامج التربية الإسلامية من التكامل الجامع ومن الاستعلاء على أهواء البشرية، ويتمثل هذا التكامل في خصائص خمسة:
أولا:الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ثانياً: الجمع بين الروح والجسم والعقل.
ثالثاً: الجمع بين التربية للفرد والتربية للمجتمع.
رابعاً: الجمع بين الغايات الوطنية والغايات الإنسانية.
خامساً: الجمع بين التربية دينية وخلقية وعقلية.
ويقوم هذا المنهج على التوازن والموائمة فلا لطفى فيه ناحية من النواحي على ناحية أخرى. ويكون به الفرد فردياً واجتماعياً، لا تطغى فرديته على جماعيته يقوى استقلاله الذاتي وتفتحه الروحي والعقلي معاً. وينتقل من الأنانية إلى الغيرية، إنه إعداد الفرد لذاته ولمجاوزة ذاته في نفس الوقت. وبذلك ينتقل الإنسان من أهوائه إلى الحق، ومكن الحيوانية إلى الإنسانية، ومن البشرية إلى الربانية، فيكون قابلاً للارتفاع فوق المطامع والشهوات متجهاً إلى الارتفاع (ولو شئنا لرفعناه بها).
إن التربية الإسلامية تحقق للإنسان مفهوم الحرية الصحيح: التحرر من الأهواء والغرائز والنزوات. وذلك عكس ما ترمي إليه الغربية التي تقصر الإنسان على الاستجابة للأهواء.(/3)
والتربية الإسلامية تهدف إلى بناء الشخصية بالقرآن والتاريخ والقدوة الطيبة وبناء الشخصية بناءً أخلاقياً دينياً عقلياً. هو أساس بناء المجتمع ومصدر القوة في مواجهة كل تحديات الغزو الخارجي.
وأبلغ مظاهر التربية الإسلامية: التزكية: "تزكية النفس" والتزكية تعني تنمية الروح الأخلاقية ونزعات الخير وفق القاعدة القرآنية.
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها – قد أفلح من زكاها) وأبلغ ما تصل إليه التزكية: تربية الواعز النفسي القائم في أعماقها كالديدبان اليقظ يدعوها إلى الخير، ويردها عن الشر، ويشكل الإرادة الحية القادرة على الامتناع عن الشر والاندفاع إلى الخير وفق قاعدة الرسول الرائعة:
(طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر).
وليس أصدق من حاجة الأمة الإسلامية إلى بناء مناهج التعليم في إطار التربية الإسلامية. ذلك أن التعليم هو تزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات والمهارات، وما لم تكن هذه العلوم حية ومتحركة في إطار تربوي أخلاقي ديني عقلي سليم فإنها تفقد وجهتها، ولا تكون عاملاً من عوامل البناء والتقدم في الطريق الصحيح.
لقد أعدت التربية الإسلامية المسلم بأمرين جهلتهما التربية الحديثة وعجزت عنهما نتيجة لمصادرها المادية، وهي قوام الحياة الحقة على هذه الأرض وأساس بناء الإنسان الرباني وهما:
أولاً: الإرادة والمسئولية الفردية حتى يعرف الإنسان أنه قادر على أن يختار بين الخير والشر، والحق والباطل، وأن يمضي مع موكب الحياة ويضع لبنات جديدة في ذلك الصرح الحضاري الإنساني وبدون هذه الإرادة والمسئولية الفردية لا يكون الجزاء الدنيوي والآخرون بعد البعث والنشور، هذه المسئولية قائمة على غاية (هي الجزاء: ثواباً وعقاباً) وبدون هذا لا يستقيم عمل الإنسان ولا يعتصم في دائرة التقوى من شر الأهواء والمطامع.
ثانياً: الالتزام الأخلاقي: الذي يحيط بالإنسان وعمله إحاطة السوار بالمعصم فيدفعه دائماً إلى الطريق الصحيح والشريف ويحميه نم أخطار المعصية والخطيئة والفساد والانحلال والإباحية، ويجعله إنساناً قوياً قادراً على مواجهة كل خطر، والوقوف في وجه كل عاصفة.
ومن خلال هذين السلاحين الماضيين رسمت التربية الإسلامية طريقها الحق في بناء الإنسان لنفسه رجلاً معتصماً بالله عن الخطأ والفساد وعاملاً لأسرته وجماعته دون أن تجرفه الأنانية الطاغية. فهو بذلك يكون قادراً على حماية عقيدته ووطنه وأمته من ما تتعرض له من تحديات وأخطار سواء كانت في مجال الأرض أم مجال الفكر، أما حين تخلو التربية الحديثة الوافدة في العالم الإسلامي من قيم العقيدة والأخلاق فإنها لن تكون إلا تبعية شائنة لأهواء الحياة وأخطاء المجتمعات. وذلك هو ما قصدت إليه القوى المتربصة بالإنسانية الشر الراغبة في تدمير المجتمعات قبل السيطرة عليها.
وبعد فإن الخطر الحقيقي الذي واجهته الأمة الإسلامية إنما بدأ من التعليم وإن اليقظة الحقيقية إنما تبدأ منه، لقد حجبت القوة الاستعمارية منهج الأمة في التربية وأقامت نظاماً ازدواجياً خطيراً مزق الأمة ودمر فكرها، وأنشأ تلك التحديات الخطيرة، فالأسلوب أسلوب التربية الإسلامية أساساً في السنوات الأولى، ثم يتفرع منها التعليم المدني زراعياً أو تجارياً أو صناعياً أو ثقافياً عاماً، وهذا هو ما يسمى بالتعليم الأصيل. ثم ينبثق منه التعليم المتخصص، وإن يقوم منهج التعليم كله في إطار التربية الإسلامية الجامعة المتكاملة.
وبعد فإن تلك المحاولات التي ترمي إلى "ترقيع" التعليم المدني الوافد القائم الآن بإدخال ما يسمى مادة الدين، إنما هو عمل ناقص، ومحاولة باطلة لإطالة أمد المنهج الوضعي الاستعماري، إن الإسلام هو الإسلام ليس مادة الدين التي تدرس منها بعض آيات وأحاديث وصلوات. إن الإسلام هوة مادة كل المناهج والعلوم والدراسات: اللغة العربية وعلم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وهو روح كل الدراسات في المدرسة الأولية والوسطى والإعدادية والثانوية والجامعة جميعاً.
ذلك أن الإسلام ليس ديناً بمفهوم الدين الغربي، ولكنه منهج حياة ونظام – مجتمع والدين جزء منه. ولن تستطيع هذه الأمة أن تحقق وجودها وتمتلك إرادتها ما لم يتحرر من النفوذ الغربي من مناهج التربية والتعليم التي صنعت أجيال الهزيمة والنكسة والانهيار والتدمير، ولابد مع التماس منابع الإسلام في الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية أن يكون هناك تربية إسلامية أصيلة.
نحن نعرف أن التربية والتعليم والثقافة هي وجود ثلاثة لحقيقة واحدة.
وإن ازدواجية التعليم وازدواجية الثقافة هي أخطر الرياح الصفراء العاتية التي تهب الآن في وجه الإسلام الحق. المدرسة والبيت والصحيفة والكتاب والجامعة كل هؤلاء مدعوون لبناء منهج تربي جديد قوامه تكامل التربية الإسلامية روحاً وعقلاً وجسماً، وقومية وإنسانية، وفردية وجماعية، وخلقية وعقلية، وربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.(/4)
إن هذا هو المصدر الوحيد للحصانة من خطر التيارات الوافدة والدعوات – الهدامة، هذه الأخطار التي تتمثل في الفكر الاستعماري والماركسي والصهيوني هذا الخطر ليست هناك أمة معرضة له بقدر ما تتعرض الأمة الإسلامية. لأنها هي وحدها التي تمتلك ثقافة وفكراً مستقلاً ومتميزاً له ذاتيته الخاصة وطابعه المفرد من وحي السماء يستمد مفهومه من التوحيد والحق والعدل والرحمة جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وما زال المسلمون مسئولين عن تبليغ هذا المنهج وحمايته وتطبيقه على مجتمعاتهم.(/5)
التربية الجهادية
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف
عبد العزيز بن ناصر الجليل
التربية الجهادية
في ضوء الكتاب والسنة
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين·
وبعد:
فيقول الله عز وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى· وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى·
وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر· وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرًا مفروضًا على المسلمين دفاعًا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق"(1).
وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علماً وعملاً وحالاً· قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) (التوبة: من الآية46).
وفي المقابل لأحوال المفرِّطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجَّلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة·فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين·
وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة· أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين·
والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عُدته في النفس والواقع؛ أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل، وهو ما دفع إلى كتابة هذه الأوراق التي أرجو أن تكون فاتحة خير في هذا الموضوع المهم، ولعلها أن تفتح الباب للمهتمين بالدعوة والجهاد كي يدلوا بدلوهم في هذا المجال المهم من مجالات التربية والإعداد للجهاد ويكملوا ما نقص منه حتى يجد المربون فيه بغيتهم من البرامج العلمية والعملية لإعداد شباب الصحوة وبقية الأمة للجهاد في سبيل الله تعالى·
وقبل الدخول في ذكر الوسائل والبرامج التي تُحيي في النفوس الجهاد والاستعداد له يحسن الحديث عن بعض المقدمات المهمة التي تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله تعالى·(/1)
المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه·
المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله عز وجل·
المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل·
المقدمة الرابعة: ثمرة الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة·
المقدمة الخامسة: مخاطر إهمال الجهاد في سبيل الله عز وجل وترك الاستعداد له·
المقدمة الأولى
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة· وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم·
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(8).
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق· وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس·
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "··· وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية·
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده· ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا·
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن· وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا·
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه·
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج·(/2)
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس·
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).
إذا عُرِفَ هذا فالجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس - وجهاد الشيطان - وجهاد الكفار - وجهاد المنافقين·
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين·
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها·
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله·
الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله· فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات·
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:
إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوكِ القادحة في الإيمان·
الثانية: جِهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات· فالجهادُ الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بُعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات·
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب:
بالقلب، واللِّسان، والمال، والنفس، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان·
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليد - إذا قَدَرَ - فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و (من مات ولم يغزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُْعبَةٍ من النفاق)(12).
وأكملُ الخلق عند الله، من كمَّلَ مراتِبَ الجِهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتمُ أنبيائه ورُسُلِهِ؛ فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد وجاهد في سبيل الله حقهَ جهاده ··"(13).
وقال أيضاً: "لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: بالقرآن (جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ"(14).
من هذا الكلام النفيس حول المفهوم العام للجهاد وأنواعه يمكن الخروج بالفوائد التالية:
الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق·(/3)
الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لهما وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار·
الثالثة: أن الكُمَّل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها·
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "··· إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك· وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم"(15).
المقدمة الثانية
أقسام الجهاد في سبيل الله
بعد أن تعرفنا على المعنى العام للجهاد ومراتبه نأتي فنتعرف على أقسام الجهاد مع الكفار حيث ينقسم إلى قسمين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب·
1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي - سواءً كان فردًا أو طائفة - ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين·
وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)(16).
وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز· وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه· وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره· وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره"(17).
وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: "لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات"(18).
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: "فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد·
وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه - كما قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(الحج: من الآية39).(/4)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد)(19) - لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد·
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق·
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد·
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين·
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي·
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر"(20).
وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين·
المقدمة الثالثة
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك·
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة·
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى· إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى· ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى·
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه·
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله· فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ··· والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه· ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).(/5)
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد· والجهاد دليل المحبة الكاملة ··· فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة· ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم· وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم· ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا·
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين·
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم·
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة· ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة·
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم·
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة·
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده·
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه·
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته·
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).(/6)
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد· إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد·
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار·
شبهة وجوابها :
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة· ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون·
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه· فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب· وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد·
وأما الجواب المفصل :
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله·
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ··· فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام· والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي ·· مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" ·· أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار·
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ·· وهذه وحدها تكفي ·· ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!(/7)
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ·· فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه· ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ····
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده ·· إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته· ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه·
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً·
هذا كله حق ·· ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا··
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة ·· إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله· ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" ·· نوع الإنسان ·· في "الأرض" ·· كل الأرض ·· للشر والفساد والعبودية لغير الله·
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ·· ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها·
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!·· ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة ·· حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد ·· إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! ·· والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان· إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس· والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام· وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة· والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة ·· ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء·
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" ·· وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة ·· ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!(/8)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية· وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام· أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات ·· ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة·
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ·· فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة· وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" ·· يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله ·· وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما ·· ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" ·· والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك ·· إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ··
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين ·· إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ·· أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور ·· ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله ·· ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا·
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"·
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)·
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم·
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين· ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).(/9)
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" ·· نوع الإنسان ·· في "الأرض"·· كل الأرض ·· ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! ·· إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات ·· فهنا: "لا إكراه في الدين" ·· أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا·
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد· وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف·
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ·· وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثته صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح·
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده· ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان·
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم· وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).(/10)
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ· ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية·
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب·
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة· ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها·
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين·
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة·
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه·
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب·
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر·
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها·
ويستند أصحاب هذا الرأي على هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر· وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل·
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل· ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب·(/11)
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً· وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة· وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين ·· إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو ·· إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" ·· جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله ·· جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد ·· "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" ·· وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض ·· ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها ·· فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم ·· إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! ·· لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر ·· وهو يهول فعلاً! ·· فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً ·· ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه· وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة··· إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال· إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:(/12)
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم ·· إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار·
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار· ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى·
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك·
تنبيه:
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس· فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا·
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار·
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه· وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم·
المقدمة الرابعة
فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة
تقدم الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل وثمرته الكبرى في الدنيا والآخرة، وأنه شرع لتعبيد الناس لرب العالمين، وحتى لا تكون فتنة ولا شرك ويكون الدين كله لله· هذا في الدنيا أما في الآخرة فرضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار·(/13)
وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وسيتم في هذه المقدمة تفصيل بعض الثمار والخيرات التي تترتب على الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والتي هي فرع عن غاية الجهاد.
( أ ) الثمار التي تظهر في الدنيا :
1- بالجهاد تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له، ويظهر الصادق فيها من الكاذب؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وتقديم الروح رخيصة لله تعالى من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء·
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلىُّ حُرقَة الشَّجيِّ· فتنوع المدعون في الشهود· فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31).
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )(التوبة: من الآية111).
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا· فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس· فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار· وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"·
فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: منذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)(33).
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "·· والجهاد دليل المحبة الكاملة ··· فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهي عما نهى عنه؛ فهو موافق له في ذلك ···)(34).
وقال أيضًا: "فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه"(35).
وهنا يحسن الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله؛ ألا وهي: أن هذه الشعيرة العظيمة التي هي صلب التوحيد وأسه المتين إنما تقوى وتصقل بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه· وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وفي واقع الدعوة إلى الله عز وجل يرى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية·
فكلما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الجهاد في نفس العبد المخلص لربه قويت هذه العقيدة في نفسه وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك·
بل إن هذه العقيدة لتبلغ ذروة السنام في قلب الداعية ومواقفه؛ وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
والعكس من ذلك واضح ومشاهد؛ فما من داعية فترت همته عن الدعوة والجهاد ومال إلى الدنيا وأهلها إلا كان الضعف في عقيدة الولاء والبراء مصاحبًا لذلك·(/14)
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تحفظ في الذهن المجرد، بل هي: عقيدة وعمل ومفاصلة ودعوة وجهاد وحب وبغض؛ فإذا أردنا أن تقوى هذه العقيدة فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وكلما ابتعد العبد عن هذه الأعمال مؤثرًا الراحة عليها فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة وتعرضها للخطر والاهتزاز·
وهذه إحدى ثمار الجهاد؛ حيث يميز صادق الولاء لله تعالى ولدينه من كاذبه، كما أنه في نفس الوقت يقوي هذه العقيدة ويصقلها· والصلة بين الجهاد وعقيدة الولاء والبراء صلة تناسب مطرد متبادل؛ بمعنى أن الحماس للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى يقوى بقوة عقيدة الولاء والبراء في القلب، كما أن الولاء والبراء يقوى ويشتد بالجهاد في سبيل الله تعالى·
2- نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها، وتسعد البشرية بها، ويرتفع عنها الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم· والتاريخ يشهد بذلك؛ فما من أمة فشى فيها الشرك والكفر إلا وعانت من الظلم والشقاء وتسلط الطواغيت الشيء العظيم، وما من أمة دخلها الإسلام وحكمها بحكمه العادل القائم على توحيد الله عز وجل إلا صلح أمرها وعاشت هنيئة سعيدة تحت ظلاله الوارفه، فالجهاد إذن شرع رحمة بالعباد·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك مما يفرح به العبد المطيع؛ فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده؛ ففيها حكمة له ورحمة لعباده؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها: وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار؛ وقد قال تعالى في أول السورة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) فهو يحب ذلك؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد؛ وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة"(36).
3- بالجهاد يُدفع عذاب الله عز وجل ونقمته في الدنيا والآخرة ويعيش المسلمون حياة طيبة عزيزة خالية من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم· والعكس من ذلك يحصل حين يُترك الجهاد ويركن الناس إلى الدنيا؛ حيث يحل محل العزة ذل المسلمين واستكانتهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب في أديانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم·
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(37).
وواقعنا المعاصر أكبر شاهد على ذلك؛ حيث يعد عصرنا من أسوء العصور التي مرت بالمسلمين حيث بلغ المسلمون فيه من الذل والاستكانة والتفرق ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، مما أغرى بهم أعداؤهم فتداعوا إلى بلدان المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وما ذاك إلا بترك طاعة الله عز وجل وحب الدنيا وكراهية الموت، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى·
ولن يُرفع هذا الذل عن المسلمين إلا أن يراجعوا دينهم ويرفعوا عَلَم الجهاد على الكفار ويعدوا ما استطاعوا من قوة لقتالهم دفاعًا وطلبًا· وقبل أن يتم ذلك فلا نرجو عزة، ولا نطمع أن يكف الكفار شرهم عن المسلمين بمجرد المفاوضات السياسية أو عن طريق مجلس الأمن - أعتذر - مجلس الخوف، أو هيئة الأمم الكفرية الطاغوتية· كلا فلن يردع الأعداء المعاصرين إلا ما ردع أسلافهم المعتدين من قبل؛ إنه الجهاد في سبيل الله تعالى·(/15)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) ، فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل البهائم· فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان· ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة؛ فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول·
قال مجاهد: لما يحييكم يعني للحق·
وقال قتادة: هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة·
وقال السدي: هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر·
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: لما يحييكم يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم·
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول ظاهرًا وباطنًا·
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله لما يحييكم هو: الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني·
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم· قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة"(38).
4- المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم؛ كما دل عليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(39) ا·هـ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد:4-5).
قرأها الجمهور: "قاتلوا" وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "قتلوا".
5- الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم وسائل التربية للنفس وتزكيتها باطنًا وظاهرًا: فكم من الأخلاق الفاضلة وأعمال القلوب الزكية لا يمكن إصلاحها والوصول بها إلى كمالها أو قرب كمالها إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى· وبدون الجهاد ستبقى هذه الأعمال ضعيفة أو يصعب على العبد تكميلها وهو قاعد·
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعليقه على كون الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ حيث قال: "··· ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: من الآية54). وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128).(/16)
··· وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا· وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: من الآية111)(40).
6- وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم: حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، وما كانوا ينتهون من غزوة أو معركة إلا ويدخلون في أخرى، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، والعكس من ذلك يحدث عندما يعطل الجهاد وينشغل المسلمون بعضهم ببعض·
( ب ) الثمار الأخروية للجهاد :
في الآخرة تتحقق الثمرة العظمى للجهاد في سبيل الله تعالى، والتي تنافس فيها المتنافسون، وضحى في سبيلها المجاهدون بأرواحهم رخيصة راضية بها نفوسهم، وكيف لا وهم يرجون رحمة الله تعالى ورضوانه وجناته؟! هذه الغاية الشريفة والثمرة العظيمة التي يرخص في سبيلها كل شيء·
وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل والمتدبر لجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة وما أعد الله عز وجل فيها لأهلها من الرضوان والنعيم ليلفت نظره أمرٌ مهم وشيئ عجيب؛ ألا وهو أن جل ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه من الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك، وبالتأمل في أوصافهم تلك نجد أنها تكاد تنحصر في: المجاهدين، والصابرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر· وفيما يلي ذكر بعض الآيات التي يذكر الله عز وجل فيها ما أعد لعباده المجاهدين من الرحمة والنعيم والرضوان·
- الآية الأولى: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218).
- الآية الثانية: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
- الآية الثالثة: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
- الآية الرابعة: قوله تعالى: )وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157).
- الآية الخامسة: قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:169-172).
- الآية السادسة: قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195).
- الآية السابعة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74).(/17)
- الآية الثامنة: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 20-22).
- الآية التاسعة: قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:71-72).
- الآية العاشرة: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
- الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:4-6).
- الآية الثانية عشر: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف: 10-12).
وأما الأحاديث في فضائل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء في الآخرة فهي كثيرة جدًا والمتأمل في أحاديث الفضائل يجد أنه ما من عمل صالح جاء في فضيلته والترغيب فيه والثناء على أهله أحاديث كثيرة لم تأت لغيره من الصالحات كما جاء في شعيرة الجهاد؛ ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سَرية، ولوددت أني أقتلُ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل)(41).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المُجاهد في سبيل الله)(42).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةِ، وجبت له الجنة)(43).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِن في الجنة مائة درجةٍ أعدها الله للمُجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سأَلتم الله فاسألُوهُ الفرْدَوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)(44).
- وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: (من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْهَا عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأُخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)(45).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار)(46).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكًا يوم القيامة)(47).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)(48).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)(49).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)(50).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع)(51).(/18)
ولأجل هذه الفضائل كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم أحرص الناس على هذه الشعيرة العظيمة؛ فتسابقوا في بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله عز وجل راجين هذه الفضائل العظيمة، وعلى رأسها رضوان الله عز وجل ورحمته وجنته· وأسوق فيما يلي نماذج من حرص السلف على هذه الشعيرة العظيمة:
- عن حماد بن سلمة: حدثنا عليُّ بن زيد، عن ابن المسيِّب، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وأيمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل· فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ربح البيعُ أبا يحيى!) ونزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية207)(52).
- وقال الواقدي : حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه عن ابن عمر، قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال"(53).
- وقال ابن الجوزي في ترجمة سعد بن خيثمة : يكنى أبا عبدالله، أحد نقباء الأنصار الاثنا عشر· شهد العقبة الأخيرة مع السبعين· ولما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك· فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستَّهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر(54).
- وعن ابن عُيينة عن ابن أبي خالد، عن مولى لآل خالد بن الوليد أن خالدًا قال: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ(55).
- وعن جُبير بن نُفَير قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال الله تبارك وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين(56).
- وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه(57).
- وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس: أنَّ أبا طلحة قرأ: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني· فقال بنوه: يرحمُك الله! إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن· قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير(58).
- وعن أنس رضي الله عنه قال : "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة· ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم ··"(59).
- وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ! أنزل عذري· فأنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء: من الآية95). فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين(60).
- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه· فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا· فعمدتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا· فقال: أَمَا إذْ ترك لكم هذا فنعم(61).(/19)
- وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل أظن قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ، قال: لقد طلبتُ القتل مظانَّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي· وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نُغيرَ على الكفار· ثم قال: إذا متُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله· فلما تُوفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على خالد من دمُوعهن ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً(62).
- ومن ترجمة أبي عقيل عبدالرحمن بن ثعلبة - وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - روى ابن الجوزي عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل· فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم· قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال· قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى· قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا· قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم· قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة· قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك - بلسان ملتاث (63)- لمن الدَبرَة(64).؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله· فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله· ومات يرحمه الله·
قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله· فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان - ما علمت - من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم رضي الله عنهم(65).
- ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح· وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه· فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم· قال: فيما أطقت؟ قال: نعم· فأسلم وبايعه(66).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم· قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً· فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم· فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر· فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام· فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت· فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر· فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ(67) من الناس وهم على الشخوص(68) فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة(69) بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي· قال واثلة: نعم· قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص(70) فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها· فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا(71).(/20)
- وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك· فقلت: لأرمقنه اليوم· فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم· قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا· فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة(72).
- وعن ابن المبارك عن السري بن يحيى، حدثنا العلاء بن هلال أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أعطيتُ شهدة، وأُعطيت شهدتين، فقال تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا· وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك· قال: يا أبة؛ تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان راميًا - حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه فدعا له ثم قاتل حتى قتل رحمه الله(73).
- وقال حماد بن سلمة : أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ(74).
سؤال وجوابه:
بعد ذكر هذه الفضائل والثمار العظيمة للجهاد والمجاهدين في سبيل الله عز وجل يتبادر إلى الذهن سؤال جدير بالجواب ألا وهو: لماذا هذه الفضائل العظيمة التي أُعدت للمجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل دون غيرهم؟
الجواب - والله أعلم - يكمن في معرفة غاية الجهاد وبواعثه في نفس المؤمن· وقد مر بنا في مقدمة سابقة أنه تعبد لله تعالى ومحك حقيقي لمحبة الله عز وجل؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وبذل الروح رخيصة له سبحانه أكبر دليل على صدق المحبة والعبودية لله تعالى؛ والتي يستحق صاحبها هذه الفضائل العظيمة دون غيرها من الأعمال·
كما أن تقديم الروح في سبيل الله عز وجل لأجل أن ينتشر التوحيد والعدل في الأرض، ويكون الدين كله لله، وينجو الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لهو أيضًا عمل شريف كريم عظيم يستحق صاحبه هذه الفضائل العظيمة؛ حيث بذل نفسه في سبيل الله تعالى حتى ينجو بموته فئام من الناس ويخرجون من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى النعيم؛ فأكرم به من عمل وأعظم بها من غاية·
وفي هذا يستطرد الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى حيث يقول: "ما سبب فضل الجهاد في سبيل الله، وسبب امتداحه بهذا الشكل؟ ولماذا يقال للمجاهدين في سبيل الله مرة بعد مرة إنهم هم الفائزون، وإن لهم الدرجات العليا؟ ولماذا وُجّه مثل هذا التحذير للقاعدين في بيوتهم لا يشاركون في هذا الجهاد؟(/21)
إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مراجعة النظر مرة ثانية في تلك الآيات التي ورد فيها ذكر حكم الجهاد وفضله، ومساوئ الفرار منه؛ ففي هذه الآيات لم يرد معنى الفوز والعظمة في أي موضع بالحصول على المال والثروة، والملك والسلطان مثلما كان كرشن يقول لأرجُن: "إذا فزت في هذا القتال فسوف تنال ملك الدنيا" (جيتا 2:73)، فمثل هذا لم يرد في القرآن، ولم يحث القرآن المجاهدين على القتال في سبيل الله لينالوا مقابله ثروة الدنيا وسلطانها، بل على العكس من هذا كلما ذكرت ثمار الجهاد في سبيل الله كان ذكرها مقترنا بمرضاة الله فقط، والحصول على مقام عالٍ عند الله، والنجاة من العذاب الأليم· وقد أرشد رب العزة عباده إلى أن الخروج في سبيل الله أفضل من سقاية الحاج وعمارة البيت - وكانتا من أكبر مصادر الدخل عند العرب، وأعظمها أثرًا ورسوخًا - ولم يذكر للجهاد من ثمرة سوى: "أعظم درجة عند الله"(75)، وفي مكان آخر أرشد عباده وعلمهم قاعدة من قواعد التجارة يظن منها أنه يذكر الثروة والمال، ولكن بعد قليل نلاحظ أن حقيقة هذه التجارة أو رأسمالها هو التضحية بالروح والمال في سبيل الله، والثمرة - أي ثمرة هذه التجارة - هي النجاة من العذاب، وفي موضع آخر يحذر ويعنف الهاربين من القتال لأنهم أصبحوا أسرى لمحبة زوجاتهم وأولادهم، وأنهم يخشون على أموالهم التي كسبوها، ويخشون كساد تجارتهم، بينما المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في هذه الدنيا وينتصرون ويفتحون البلاد، ويحصلون على أموال طائلة، وتزدهر تجارتهم، ويجدون مساكن يسلبونها من الأمة المغلوبة، إلا أن هذا ليس هو المقصود بالجهاد ·· فإذا لم يكن المقصود من هذا الجهاد ثروة الدنيا وسلطانها فماذا ينال من هذا القتال حتى يعد عباده المقاتلين بالدرجات العليا؟ وماذا في هذا العمل الخطير حتى يجعل من أقدام المهرولين إليه المثيرة للغبار موردًا للطفه وعنايته؟ ثم أي نجاح وأي فوز يكمن فيه حتى يقال "مرة بعد مرة" عن المقاتلين في هذه الحروب الشديدة إنهم هم الفائزون (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: من الآية20) ؟!·
إن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية251)، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: من الآية73)؛ فالله لا يريد أن تنتشر الفتن وينتشر الفساد على أرضه، وهو لا يقبل أن يتعذب عباده دون ذنب، أو أن يحل بهم الدمار والبلاء، ولا يحب أن يأكل القوي الضعيف، وأن يسلبه أمنه وطمأنينته، أو أن يصاب عباده في حياتهم الأخلاقية والنفسية والمادية، وهو لا يرضى أن تنتشر أعمال السوء والشر في الدنيا، وأن ينتشر الظلم والإجحاف والقتل والغزو، كما لا يقبل أن يصبح عباده عبادًا لمخلوقيه من بقية العباد فيلطخوا شرفهم الإنساني بجراح الذلة والهوان، وبعد كل هذا فالجماعة التي تنهض لتطهير العالم من هذه الفتنة وتخلصه من الظلم، وتقيم العدل دون رغبة في نيل جزاء، وبغير أي طمع في ثروة أو في مال، وتضحي في سبيل هذا العمل الطيب بروحها وبمالها وبمصالحها التجارية وبحبها لأبنائها وآبائها وأخوتها، وبراحتها داخل بيتها ·· أهناك من هو أحق منها بمحبة الله ومرضاته؟ ··
هذه هي فضيلة الجهاد في سبيل الله التي جعلته يحتل الدرجة العليا بين جميع الأعمال الإنسانية بعد الإيمان بالله"(76).
المقدمة الخامسة
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله
بعد أن تبين لنا في المقدمة السابقة فضل الجهاد وثمرته في الدنيا والآخرة فإنه يسهل علينا في هذه المقدمة الحديث عن مخاطر ترك الجهاد والاستعداد له، وما يترتب على ذلك من المفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة·
ويكفي أن نعكس الفضائل والثمار السابقة لتظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة لتلك العواقب والثمار الحميدة، وقد عد أهل العلم ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب·
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(77).
ولذلك كان ترك الجهاد وعدم الاستعداد له علامة على النفاق قال ": (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)(78).(/22)
وقد عده الله عز وجل علامة على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو ضعف اليقين به فقال تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:44-46).
ويمكن تفصيل المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد كما مضى كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة·
قال تعالى: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39).
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذين يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بأنهم أقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله تعالى؛ فيقول: صلى الله عليه وسلموأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها· وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه· وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء"(79).
إذًا فترك الجهاد في سبيل الله سبب للهلاك في الدنيا والآخرة؛ وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).
قال ابن كثير: "وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه - ومعنا أبو أيوب الأنصاري - فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة· فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله - وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد - وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد"(80).
كما أن في ترك الجهاد إضعافًا لعقيدة الولاء والبراء؛ وذلك كما مر بنا سابقًا أن عقيدة الولاء والبراء تتناسب طردًا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فكلما ركن العبد عن الجهاد ضعفت عقيدة الولاء والبراء وأصابها الوهن؛ وكفى بذلك خطرًا·
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).(/23)
"فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين، ويكبت الكفار ويذلهم لاعتلوا على المؤمنين، وإذا اعتلى الكافر جعل الناس يعبدونه هو من دون الله سبحانه وتعالى، وإذا عبد الناس من دون الله أحدًا فسدت حياتهم كلها؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا إذا سارت على المنهج الذي رسمه الله؛ وهو المنهج الذي يحقق العبودية لله، ويحقق الأخلاق الرفيعة والفضائل الحميدة للبشر؛ فالذي رسم المنهج هو الله الذي خلق الحياة والأحياء العالم بما يصلحهم، أما إذا اعتلى كافر على الأرض وشرع للناس من عند نفسه فإنه لا يعلم جميع الأمور، وليس مبرأ من النقص والهوى، ولا يعلم ما الذي يصلح النفس البشرية فيتخبط خبط عشواء ويفسد الحياة كما هو الحال اليوم· ونظرة على الواقع الذي يعتلي فيه كافر كافية بتقرير هذه الحقيقة، ولولا تخاذل المسلمين عن الجهاد الذي أمر الله به لصلحت حياة الناس الذين يحكمون بشرع الله· لأجل هذا شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى مع الإمام الفاجر الذي لم يصل إلى درجة الكفر؛ لأن بقاء الإسلام وأهله يحكمهم فاسق خير لهم من أن يحكمهم كافر يحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن الحكم بغير ما أنزل الله هو سبب فساد الأرض"(81).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)(82).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد·
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين·
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(83).
"فإذا وجد إحساس لدى أمة ما بضرورة دفع الشر عن نفسها، وضحت في سبيل ذلك براحتها ومتعها وثروتها ومالها، وبشهواتها النفسية، وبروحها وبكل عزيز لديها؛ فإنها لا يمكن أبدًا أن تظل أمة ذليلة مستضعفة، ولا يمكن لأية قوة مهما كانت أن تنال من عزتها أو شرفها· ويجب أن تتصف الأمة الشريفة العزيزة بأن تخفض الرأس أمام الحق، وأن تفضل الموت عن أن تخفض الرأس أمام الباطل، وإذا لم تتوافر لها القوة لإعلاء كلمة الحق ومساعدة الحق فلا بد على أقل تقدير أن تعمل للحافظ على الحق بكل شدة وبكل صلابة، وهذه أقل درجات الشرف"(84).
ويقول سيد قطب رحمه الله: "والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض ·· إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!"(85).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى·
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض·
ونظرة فاحصة إلى أيام الفتن التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه تطلعنا على أثر ترك الجهاد في سبيل الله، وما يحدثه من الفتن والاختلاف والافتراق؛ فلقد توقف غزو الكفار طيلة تلك المدة، ولم يستأنف المسلمون فتوحاتهم إلا بعد أن اجتمعت الكلمة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهدأت الفتنة·
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير عن سعيد بن عبدالعزيز قال: "لما قتل عثمان رضي الله عنه ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية رضي الله عنه، فأغزاهم مرات، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل"(86).(/24)
ونظرة أخرى إلى واقعنا المعاصر وما جرى فيه من تعطيل لشرع الله عز وجل - ومن ذلك الجهاد في سبيل الله - ترينا كيف حلَّ بالمسلمين من الفرقة والتحزب والاختلاف بين المسلمين حيث انشغل بعضهم ببعض· وما ذاك إلا من الانحراف عن المنهج الحق وتعطيل هذه الشعيرة العظيمة وما ترتب عليها من تسلط الكفار على بلاد المسلمين وتأجيجهم نار الخلاف والفرقة والتحريش بين المسلمين، وهذه سنة الله عز وجل في كل من أعرض عن شرعه سبحانه ونسي حظًا مما ذكر به قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)
التربية الجهادية
وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر
بعد أن تعرفنا في المقدمات السابقة على معنى الجهاد العام والخاص، ومراتبه ومراحله، وغايته وأنواعه، وفضائله والمخاطر التي تترتب على تركه؛ يحسن بنا الآن أن ندخل إلى صلب موضوعنا؛ ألا وهو ذكر المجالات المختلفة للتربية الجهادية ووسائل الإعداد لذلك، والذي هو الدافع إلى كتابة هذا البحث، وذلك بعد ما رأيت من نفسي ومن كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل من التقصير الكبير في إعداد النفس للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما صاحب ذلك من الترف والركون إلى الدنيا والميل إلى زهرتها وزينتها· وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أرى أنه لا بد من توصيف سريع لواقع المسلمين اليوم في ضوء المقدمات السابق ذكرها في الصفحات المتقدمة·
فأقول وبالله التوفيق:
- إن المسلمين اليوم يقاسون من الذلة والمهانة وتسلط الأعداء والغثائية الشيء العظيم؛ وما ذلك إلا من الإعراض عن الدين وحب الدنيا وترك الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْنَ) قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(87)، ومن ذلك أيضاً حديث العينة السابق ذكره(88).
- يواجه المسلمون اليوم في بعض الأقطار احتلالاً وغزوًا عسكريًا في عقر دارهم، وغزوًا فكريًا وأخلاقيًا في كل ديارهم، وساعد الأعداء في ذلك بطانة السوء والمنافقين من أبناء المسلمين الذين ربوا على عين الغرب وتسلطوا على أزمة الحكم في أكثر بلدان المسلمين وحكموا بقوانين الشرق والغرب ورفضوا الحكم بشرع الله عز وجل، ووالوا أعداءه وعادوا أولياءه·
- وفي ظل هذه الظروف لم يترك الله العزيز الرحيم الحكيم العليم هذا الغزو العسكري أو الفكري بلا مدافعة؛ بل اصطفى من عباده المؤمنين طائفة تقوم بالحق وتدافع الباطل على ضعفها وقلة إمكانياتها؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(89).
وهذه الطائفة منتشرة في الأرض ومتنوعة المهام فمنهم العلماء الربانيون الذين يصدعون بالحق ويعلمون الناس أمور دينهم·
ومنهم المربون والدعاة الذين يدعون الناس إلى الخير ويحذرونهم من الشر، ويجوبون القرى والمدن لنشر التوحيد والخير بين الناس، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل المتاحة التي تساعد على ذلك من: المحاضرات والندوات، والدورات الشرعية، والتأليف، والأشرطة النافعة، إلى غيرها من الوسائل·
ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الذين يحتسبون على الناس ويغيرون المنكرات بقدر استطاعتهم·
ومنهم المرابطون على الثغور الذين يجاهدون العدو الكافر الذي استحل ديار المسلمين ويدافعونه بقدر استطاعتهم· ومع وجود هذه الفئات التي تقوم كل واحدة منها بنوع من أنواع الجهاد إلا أن الفساد والباطل والغزو العسكري والفكري أكبر بكثير من جهد وإمكانات هذه الفئات، وقد تخلو بعض ديار المسلمين من هذه الفئات تمامًا·(/25)
- لقد حذرنا الله عز وجل من أعدائنا الكفار وبطانتهم من المنافقين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:118-119)، وإن ما يدور منذ سنوات ولا سيما بعد أحداث (11 سبتمبر) من حملة صليبية صريحة على الإسلام والمسلمين لهو أكبر شاهد ومصدق لهذه الآية وغيرها من الآيات التي تحذر المسلمين من الكفار وعداوتهم مثل قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217).
.
وإن الحملة الصليبية على أفغانستان وما صاحبها من الدمار المروع الذي أهلك الحرث والنسل، وما زامن ذلك من أحداث فلسطين المروعة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن كل هذا يوجب على المسلمين - ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم - أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم· وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم·
ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبًا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "··· فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ··· وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو"(90).
وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قيام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار· ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولاً، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "·· وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(91).
- في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرًا حتميًا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضًا ولا مناص منه - كما هو الحاصل اليوم في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين التي احتلها العدو الكافر - ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة· كما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار·
- ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرًا مفروضًا - سواء ما كان من هذه البلاد محتلاً أو ما كان مهددًا بالاحتلال والغزو - فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟·
والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف
إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد - وهو الممهد لجهاد الكفار - والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم·
بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان - وذلك حسب القدرة والاستطاعة - وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان· والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجهاد بنوع من هذه الأنواع·(/26)
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية(92)، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).
أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(93).
وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار· والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك· بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها·
وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص· ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه)(94).
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل·
الوقفة الثانية
الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع
حتى يكتمل هذا الإعداد
إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني· إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس·
إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك·
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(95).
ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم· وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين·
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات·
الوقفة الثالثة
مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع
يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:
1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:
( أ ) القدرة في العدة والعتاد·(/27)
(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة؛ والذي سيأتي تفصيله قريبًا إن شاء الله تعالى·
(حـ) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه·
( د ) إذا كان العدو منافقًا أو مرتدًا قد التبس أمره على المسلمين فلا بد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يُعَرِّف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا كما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية· وسيأتي تفصيل هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى·
أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم كما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين·
كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في تركه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط·
2- كما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة·
أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضاً إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو·
أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونهما لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى·
الوقفة الرابعة
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني - أو المعنوي - للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)(96).
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين· وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادى إليه·
إن "تحديث النفس بالغزو" الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي· إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورًا عملية لا بد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي·
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته· ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرًا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم· ومن ذلك أَمْرُ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادًا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4).
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:66-67).(/28)
والإعداد الإيماني علمًا وعملاً وحالاً يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيرة إلى غزو الفرس: "فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ··· [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة"·
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: "باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم"(97).
وقال ابن حجر في فتح الباري: "جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو· إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة"(98).
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)"(99).
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله· وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم· وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان· وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل· وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق·
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
فقال: هم (التائبون) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات·
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين·
(الحامدون): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار·
(السائحون): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم·
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام· والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك·
(الراكعون الساجدون) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود·
(الآمرون بالمعروف): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات·
(والناهون عن المنكر): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه·
(والحافظون لحدود الله): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركًا"(100).
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان ·· هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!(/29)
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء ·· لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا ·· كلا ·· إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام ·· والثمن: هو الجنة ·· والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال ·· والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد ··· إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق ·· بل لا بد أن يقطع عليه الطريق ·· ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله· ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا! ·· وما دام في "الأرض" كفر· وما دام في "الأرض" باطل، وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، "ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"(101). ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة:112). هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح· وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته· وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله· وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق· وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة· وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك·
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال·
وليست الحياة لهوًا ولعبًا· وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعًا· وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة ·· إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله ·· ثم الجنة والرضوان ··"(102).
الوقفة الخامسة
جهاد النفس ومراتبه
بعد أن تبين لنا من آية التوبة صفات المؤهلين للجهاد اتضح لنا بذلك أهمية الإعداد الإيماني للمجاهدين حتى يلقوا عدوهم وهم مستعدون معنويًا وإيمانيًا لذلك، وفي هذه الوقفة الأخيرة سيتم تفصيل جوانب هذا الإعداد والوسائل المختلفة لتحقيقه حسب ما يفتح الله عز وجل إنه هو الفتاح العليم، وهو المستعان وحده وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه·
فأقول وبالله التوفيق:
الأصل في الإعداد الذي يسبق جهاد الكفار هو جهاد النفس والشيطان· والمعركة معهما مستمرة ومتواصلة منذ بلوغ المسلم سن التكليف إلى أن يوافيه الأجل· فهو إذن جهاد لا يتقيد بوقت، بل هو مطلوب قبل ملاقاة العدو وأثناء ملاقاته وبعد ملاقاته· والنصر على الأعداء في معارك القتال مرهون بالانتصار على النفس والشيطان في معركة الجهاد معهما·(/30)
والمطلوب في الإعداد المتمثل في جهاد النفس: أربعة جوانب مهمة سبق ذكرها في أول البحث نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأعيدها هنا لمناسبتها ولكونها أصول الإعداد الشامل التي بها ينجو العبد من الخسران في الدنيا والآخرة، ويثبته الله عز وجل بها في ميادين الجهاد وغيرها من المواقف(103).
يقول رحمه الله تعالى: "فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين·
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها·
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ ولا يُنجيه من عذاب الله·
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وبتحمَّل ذلك كله لله·
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الرَّبَّانيين؛ فإن السلف مُجمِعُونَ على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعلَّمه، فمن علم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"(104).
وتحت كل مرتبة من هذه المراتب أمور تفصيلية وبرامج علمية وعملية لتحقيقها وتكميلها، ولذلك سأعيد هذه المراتب المذكورة آنفًا مصاغة بشكل تفصيلي؛ وذلك كما يلي:
المرتبة الأولى
مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق
العلم بالشرع والبصيرة بالحق أمر لازم لكل مسلم فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل والمجاهد في سبيله تعالى؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن الدعوة إليه - والجهاد من الدعوة - يجب أن يكون على بصيرة؛ أي على علم بأن ما يدعو إليه ويجاهد من أجله هو الحق الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبدون العلم بالشرع والفهم الصحيح للدين تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد، ويتخلف شرط أساس من شروط قبول العمل عند الله عز وجل؛ ألا وهو المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم·
والعلم الذي يجب أن يستعد به المجاهدون في سبيل الله عز وجل نوعان: 1- عيني· 2- وكفائي·
أما العيني: فهو الذي يعنينا في هذا المقام وهو في حق المجاهد نوعان:
أ - نوع عام: يشترك فيه المسلمون جميعًا، وهو العلم بالفقه الواجب على كل مسلم، وهو: الفقه بالعقيدة، والفقه بالأحكام العينية، ومن ذلك فهم أصول الإيمان الستة على مذهب السلف الصالح، ومعرفة الإيمان والتوحيد وأنواعه، وما يضاده من الكفر والشرك والنفاق، والمعرفة المجملة بضوابط التكفير، وما يترتب على ذلك من الأحكام·
ومن ذلك معرفة أركان الإسلام علمًا وعملاً، والمعرفة الإجمالية بقواعد الأحكام ومقاصد الشريعة، ومعرفة المحرمات العينية والفروض العينية الواجبة على كل مسلم· كل هذا مما يجب العلم به قبل الجهاد، فإن فرض على المسلمين القتال قبل إتمامه، فإنه يحصله أثناء الجهاد ويكمل منه ما نقص· والمقصود أن لا يُقدم المسلم - فضلاً عن المجاهد - على أمر حتى يعلم حكم الشريعة فيه، فإن لم يعلم فليسأل من يدله على حكم الشرع فيه؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: من الآية7)، ومما يدخل في هذا: العلم بسبيل المجرمين، والبصيرة بواقع الكفار الذين يراد قتالهم·
ب - نوع خاص: وهو العلم بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي سيجاهد المسلم تحتها·
كل هذا مما يجب أن يعلمه المجاهد قبل الشروع في الجهاد؛ حيث أن الإخلاص لا يكفي وحده، بل عليه أن يعرف ما إذا كان الجهاد الذي ينوي الدخول فيه مشروع ومحبوب إلى الله عز وجل أم ليس كذلك· وهذا فرض واجب؛ لأن الجهاد فيه ذهاب الأنفس والأموال، والمسلم لا يملك إلا روحًا واحدة، فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضيًا لله عز وجل· وأسوق فيما يلي مثالين اثنين يوضحان حرص السلف الشديد على علمهم بمشروعية أي جهاد قبل الدخول فيه·(/31)
المثال الأول: المناظرة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه مشروعية قتالهم وناظر أبو بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدر عمر لقتالهم· فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها· قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(105).
المثال الثاني: روى الذهبي في السير قال: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبدالله يدعونه إلى رأيهم فقال: "يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرِّر بها"(106).
ومما يلحق بالعلم بمشروعية الجهاد: العلم بالراية التي سيجاهد المسلم تحتها، وما غايتها؛ فهذا مما يجب العلم به، فلا يكفي أن يعلم هل قتال العدو واجب أم غير واجب، أم غير جائز، بل لا بد من معرفة الراية التي سيقابل العدو تحتها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: من الآية76). فمما ينافي القتال في سبيل الله: القتال تحت راية عمية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)(107).
والمقصود أنه كلما كان المسلم على بينة من سبيل المؤمنين الذي يحبه الله عز وجل، وعلى بينة من سبيل المجرمين كان هذا أكبر دافع للجهاد في سبيل الله تعالى·
وأما العلم الكفائي: فيكفي أن يعلمه طائفة من المجاهدين؛ حيث يفرغ بعضهم لطلب العلوم الشرعية اللازمة لسد حاجات الدعوة والتعليم والإفتاء، ويكونوا من ذوي الاستعداد لذلك· وإذا وجد الحد الأدنى من الكفاية سقط الوجوب عن الآخرين· والأصل في هذا أن يكون قبل ملاقاة الأعداء؛ لأن أيام القتال أيام شغل، لكن إن فرض على المسلمين القتال قبل إتمام حد الكفاية من هذا العلم فينبغي إتمامه أثناء الجهاد قدر المستطاع·
والخلاصة:
أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل القول والعمل· والجهاد من العمل، فإن لم يكن العلم صحيحًا موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفًا· ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال· فلما جاء الإذن بالجهاد، ثم فرضه ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة· ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين - وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح - انطلاقًا من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لبناء العلم الشرعي في النفوس؛ سواء على هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة· والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس، فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده·(/32)
وأختم هذه المرتبة من جهاد النفس بكلام نفيس لأحد الصحابة رضي الله عنهم يتبين منه أهمية معرفة الحق والعلم به، وأنه ضروري للمجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه لا يكفي في المجاهد أن يكون مخلصًا لله تعالى في جهاده، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك أن يكون جهاده على الحق· والحق لا يتبين إلا بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين، والواقع· فقد روى ابن وضاح - رحمه الله تعالى - في كتابه "البدع والنهي عنها" بسنده: "قال: حدثنا أسد قال: حدثنا مبارك بن فضالة عن يونس ابن عبيد عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان - وأبو موسى الأشعري قاعد - فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة· قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول· قال أبو موسى سبحان الله، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة· قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول· حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار· ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا"(108).
المرتبة الثانية
مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه
إن تعلم العلم والتزود به ليس مطلوبًا لذاته، وإنما هو مطلوب للعمل والسير في ضوئه إلى الله تعالى؛ بفعل ما يحبه ويرضاه واجتناب ما يسخطه وينهى عنه·
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة· وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها - قبل جهاد الكفار - على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه·
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادًا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببًا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة - وما أحوج المجاهدين إلى معية الله تعالى ونصره وتأييده - كما أن في اجتناب المعاصي والمحرمات بعدًا عن أسباب الهزيمة والخذلان؛ فما شيء أخطر على المجاهدين من ذنوبهم؛ قال الله تعالى: {أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً إنَّ پلَّهّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ قّدٌيرِ} [آل عمران: 165] ، وقال سبحانه عن بركة العمل الصالح والامتثال لأوامر الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66-68).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في فضل التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل: (·· وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ···)(109).
كما أن فعل محاب الله واجتناب مساخطه يورث التقوى في القلب، والتقوى تورث ثمارًا عديدة منها تفريج الكروب وتيسير الأمور؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2)، ومنها تأليف القلوب؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96). وكلما كثر في المجاهدين من يتصف بهذه الصفات كانوا أقرب إلى نصر الله تعالى· فلذلك وجب الاستعداد بالأعمال الصالحة التي تؤهل لهذه المقامات الرفيعة التي ينصر الله عز وجل أهلها ويثبتهم ويستجيب دعاءهم·
ذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمته لمحمد بن واسع العابد الزاهد المجاهد رحمه الله تعالى· قول الأصمعي: "لما صافَّ قتيبة ابن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء· قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير"(110).
ومن الأعمال الصالحة التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد ما يلي:
أولاً : أعمال القلوب:(/33)
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)(111).
ومن الأعمال القلبية التي يجب أن يعتني بها المربون في الإعداد للجهاد ما يلي:
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه:
المحبة هي أصل العبادة، وهي ثمرة معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى، وهي مستلزمة لتوحيده وطاعته، وكلما قويت المحبة في قلب العبد ظهر أثرها في الانقياد التام لأمر الله عز وجل والتضحية في سبيله، وبغض أعدائه ومجاهدتهم وموالاة أوليائه ونصرتهم· كما يظهر أثرها في البعد عن الحزبيات المقيتة والرايات العصبية والمنافع الدنيوية؛ فلا ينقلب بغيض الله حبيبًا له بإحسانه إليه، كما لا ينقلب حبيب الله له بغيضًا إذا وصله منه ما يكرهه ويؤلمه؛ والمجاهدون في سبيل الله عز وجل أو من يعدون أنفسهم للجهاد أحوج من غيرهم إلى تزكية هذا العمل القلبي الشريف؛ وذلك حتى لا يتورط المجاهد في رايات عمية ولوثات حزبية أو وطنية أو قومية·
والتربية على هذا الأصل تأتي من الفهم الصحيح للعقيدة على مذهب السلف الصالح، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، مع القراءة في سير الصالحين والمحبين وتضحياتهم وجهادهم، وما تحلوا به من صدق في المحبة له سبحانه والمحبة فيه· كما أن للقدوات من المربين والموجهين والعلماء أثرًا في تقوية هذا العمل القلبي وتزكيته· وكما ذكرت في أول البحث من أن كثيرًا من الأعمال القلبية ستبقى ناقصة وضعيفة ولا يكملها ويقويها ويبلغ بها ذروة سنامها إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو ذروة سنام هذا الدين وفي بيئته وأجوائه تصل كثير من أعمال القلوب إلى ذروة قوتها وكمالها(112).
2- الإخلاص لله عز وجل:
وهو من أعظم أعمال القلوب والتي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وهو أن يريد الإنسان بقرباته وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل والذي يقدم فيه العبد أغلى ما عنده - وهي نفسه التي بين جنبيه - فإذا لم يكن قاصدًا بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته في الآخرة خسر خسرانًا مبينًا؛ ولذلك يجب إعداد المجاهدين قبل الجهاد بالإخلاص في أعمالهم والتجرد لله سبحانه في حركاتهم وسكناتهم·
وكما أن للإخلاص أثره في نيل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين، فإن له أثرًا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: من الآية18)، وإذا تمكن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحد الهم في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا·
والإخلاص من أشرف أعمال القلوب التي يجب أن يعتنى بها في جميع الأعمال، ولا سيما في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من فتنة الشهرة، أو حب المدح، والثناء عليه بالشجاعة والبذل والتضحية·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وفي ماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(113).
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده "في سبيل الله"· وكذلك من يقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيدًا إلا إذا كان في سبيل الله· قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئًا من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون "في سبيل الله" ·· في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله· في سبيل هذا الحق الذي أنزله· في سبيل المنهج الذي شرعه· في سبيل هذا الدين الذي اختاره ·· في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار· وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر ·· غير الله ··(/34)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(114) أخرجه مالك والشيخان·
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثًا· كل ذلك يقول: (لا أجر له)(115) أخرجه أبو داود·
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة· والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك· والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني· والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)(116).
فهؤلاء هم الشهداء· هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله·
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبدالرحمن بن أبي عقبة عن أبيه - وكان مولى من أهل فارس - قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي· فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)(117).
فقد كره له " أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين· وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء"(118).
ويقول في موطن آخر - رحمه الله -: "إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده· والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية· ويقاتل رياء· أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(119).
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة، إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف· من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة·
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة· وما عدا هذا فليس لله ولكن للشيطان·وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد· وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام· وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف"(120).
ويقول في موطن ثالث: "ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله· قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب· ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ··حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء ·· وموعدًا كذلك للفصل بين الحق والباطل، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه· فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والزاد؛ إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(121).(/35)
ومن ثمار الإخلاص في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لأن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى وحظوظ النفس، فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: من الآية46).
وإن مما يقوي الإخلاص وينميه: صدق المحبة لله تعالى - والتي سبق ذكرها - وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى واليقين الصادق باليوم الآخر، والقراءة في سير الصالحين المخلصين وكيف كان حرصهم على تحقيق الإخلاص في جميع أعمالهم، وخوفهم من الرياء والنفاق، وإخفاؤهم لأعمالهم، وحفظهم لها من كل ما يكون سببًا في إحباطها وإبطالها؛ فإن ذلك مما يشوق النفوس إلى أعمالهم واللحوق بهم·
كما أن وجود القدوات المخلصة التي تعلم وتربي وتوجه يعد من الأسباب المهمة في إعداد المجاهدين المخلصين، كما أن من أعظم أسباب الإخلاص الزهد في الدنيا والتخفف منها، والإكثار من ذكر الموت، والتطلع إلى الدار الآخرة، والطمع في رضوان الله تعالى ونعيمه فيها، والخوف من سخطه وعذابه· وهذا ما سيدور الكلام حوله في الفقرة التالية من أعمال القلوب·
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة:
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح· ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة·
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة·
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزامًا علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعًا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا(122)، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة،وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا - وهاهم من حولنا - فإن أول من يقعد عن الجهاد فيذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم· والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها· ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبأ:34-35)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود: من الآية116).
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد؛ لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد· والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم·(/36)
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: "الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التَّغَلُّب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببًا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتَفَنَّقوا(123) في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم"(124).
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان عليه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا·
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، "والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم· والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر· فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون·
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت· والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)"(125).
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس،ن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلاّ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها· والآية تقرر سنة الله هذه ···"(126).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته· وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم·
كما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالاً للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم· ولنتصور شخصًا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يرى شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر· فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب والازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما·
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين· إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثَّرَ في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال فعلاً بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟·(/37)
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ···)(127).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها كما قال: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)(127) أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها· فهذا أحد النظرين·
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تَبَيَّن له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تَبَيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"(128).
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أيامًا أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلاً للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به·
4- التوكل على الله عز وجل :
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها· وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها·
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحوِّل هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملاً وحالاً·
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "··· وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص ··· ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل· فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به···"(129).
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه· من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه·
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (لأنفال: من الآية60)، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).(/38)
وظاهر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين· ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين· قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) (التوبة: من الآية25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب· وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وَزَرًا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختيار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورًا به ذُم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما· وإن كان السبب محرمًا حرم عليه مباشرته وتَوَحَّد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق· وإن كان السبب مباحًا نظرت هل يُضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته - [إلى أن قال] - وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء"(130).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك·
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى· وهذا الفريق من الناس يفرِّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل·
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين·
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية،ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه· ومعلوم أن المسلمين في كل وقت - وبخاصة في هذا الوقت - لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض·(/39)
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم· ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية7)، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:7)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31)، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها· ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بيانه(131).
ثانياً : أعمال اللسان :
1- الذكر والدعاء :
الدعاء هو العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وفي الذكر ثناء وتمجيد وتسبيح وحمد لله تعالى، وفي الدعاء تبرؤ من الحول والقوة وتعلق بقوة الله وحده؛ فهو في الحقيقة يعبر عن حقيقة التوكل والاستعانة بالله عز وجل وحده·
وقد مر بنا في صفات المجاهدين الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم أنهم (العابدون الحامدون)· والدعاء: هو العبادة، والحمد: هو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبما أنعم وأحسن على عباده·
وقد أمر الله عز وجل عباده المجاهدين أن يستعدوا للقاء عدوهم بكثرة الذكر والدعاء والتضرع فإنها من أسباب النصر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (لأنفال:45).
وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكارًا في اليوم والليلة ينبغي للمسلم وخاصة المجاهد ومن يعد نفسه للجهاد أن يحفظها ويذكر الله بها في أوقاتها؛ فهي من أكبر العون في طمأنينة القلب وتوكله على الله وحده واستحضار معية الله سبحانه له؛ وذلك كما جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ···)(132) الحديث·
وأعظم الذكر قراءة القرآن قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: من الآية50)، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وإن مما ينبغي على الداعية والمجاهد أن لا يغفل عن كتاب الله عز وجل، بل يتعاهده حفظًا وتلاوة وتدبرًا، وأن يكون له حزب يومي لا يخل به مع كتاب الله عز وجل·
2- التوبة والاستغفار :
وقد ذكر الله عز وجل في آية التوبة أن من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم أنهم (التائبون)·
والتوبة: الرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه والندم على فعل الذنب بعد الإقلاع عنه، وعدم الرجوع إليه· وحاجة المجاهد إلى التوبة والاستغفار شديدة؛ لأن المجاهد معرض أكثر من غيره للعجب بعمله الصالح مع دنو أجله وتعرضه للموت في كل لحظة ولأن أكثر ما يخذل المجاهدين في المعارك ذنوبهم؛ فبالتوبة والاستغفار تمحى آثار الذنوب والمعاصي وتزول أسباب الهزيمة والخذلان، فضلاً عن أن التوبة عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها·(/40)
والمجاهد بشر ليس بمعصوم، بل إنه معرض للذنوب، ولكنه لا يصر على الذنب، بل يسرع الرجوع ويستغفر ربه عندما تضعف نفسه وتزل قدمه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201)، وقال سبحانه في الآيات التي سبقت قصة أحد في آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يكثر من الاستغفار ويقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (133)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)(134).
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسيأتي التفصيل فيها إن شاء الله تعالى في المرتبة الثالثة من مراتب جهاد النفس وهي جهادها على الدعوة والتعليم·
4- صدق الحديث، وطيب الكلام :
وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس في تحقيقه، وليس المقام مقام تفصيل في فضل الصدق وأدلة ذلك، وإنما المراد أن الداعية والمجاهد في سبيل الله من أخص أوصافه أنه صادق لا يبطن خلاف ما يظهر، ولا يكذب على إخوانه في حديثه بل يصدقهم، وينصح لهم ولا يغشهم، وبهذا تصفو النفوس وتطيب القلوب·
ثالثاً: أعمال الجوارح، ومن أهمها في الإعداد للجهاد:
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها:
سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة، والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون)؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها· ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية·
وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى·
ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي مر بنا قريبًًا، والذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله· وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل· وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا·
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) فيقول: "وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد إذا لم يكن هناك زاد ومدد ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد· المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع· ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والثقة، واليقين·(/41)
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئًا وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشًا والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق ·· هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربه القوي الباقي ·· إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض· إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود ·· ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال)(135) ·· ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله·
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة· والعبادة فيه ذات أسرار· ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر ·· إن الله سبحانه حينما انتدب محمدًا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).
فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن ·· إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان"(136) ا·هـ·
2- الصيام:
والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به)(137).
والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة·
وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).
وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون)، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين·
والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى· كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس·
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها :
جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها· وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح· فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف· فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك·(/42)
وقد وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)(138). وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقًا)(139). وقال أيضاً: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(140)، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة·
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل·
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيط، وكف الأذى، والحلم والإناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة·
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء؛ وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة·
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته· وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش· كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)(141). وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه·
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس·
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة···)(142) ا·هـ·
والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم· ومن ذلك:
( أ ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله:
وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل·
ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن)(143).
ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم· وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل·
ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق·
كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم·
( ب ) العفو والصفح وكظم الغيظ :
وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة· قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).(/43)
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:121). ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) (آل عمران: من الآية137) فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: "··· وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب· والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين· والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي· وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك"(144).
والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة· وسيأتي الحديث عن خلق الصبر إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل عند الحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس·
وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية - ولا سيما خلق الحلم والعفو والصفح - فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له· ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.
وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم - وذكر منها - إخلاص العمل لله)(145).
كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة·
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "·· وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام"(146).
( ج ) الأمانة وحفظ العهد والوعد :
لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة "المؤمنون": (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية58)، ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27).
والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).(/44)
وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها·
وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه· ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله·
كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة)(147). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: وكيف إضاعتها· فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)(148).
ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها· لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب·
ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: (ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علىَّ ساعيه· وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)(149). وقوله بايعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس· فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات·
المرتبة الثالثة
مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس
والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذَيْن يسبقان جهاد السنان،ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس·
إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر·ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) (التوبة: من الآية111) الآية. ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112). والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد - كما مر بنا - هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله·
ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزامًا قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!
والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون·(/45)
أما جهاد الدفع، فكما أشرت في أكثر من مرة إلى أنه في الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطًا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لُبِّس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق· وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرَّفوا الناس حقيقته وعرَّفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة·
وعندما يُؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يُفترض سلفًا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه· وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق، ومعرفة ما يناقضه· وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره·
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك· ولهذا يقال: والضد يُظهِر حُسْنَه الضِدُ)(150).
وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) وذلك بقوله: "إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية ·· ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص ·· كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل ·· وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذي يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: من الآية31). ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين·
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح· واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم· فهما صفحتان متقابلتان· وطريقان مفترقتان ·· ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ··
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات· فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم؛ بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان؛ ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين·(/46)
وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية· فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لا يدخل معهم في هذا الدين ·· ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا ·· إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته ·· ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا· وإذا هي تنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا - وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا! - فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ·· وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله ·· وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد؛ كائنًا من كان اسمه ولقبه ونسبه· وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد· وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ··
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! ·· تهمة تكفير "المسلمين"!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى ·· وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المومنين وسبيل المجرمين ·· ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! ··
··· أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس؛ فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون"، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون"(151) ا·هـ·
وإن المتدبر لهديه صلى الله عليه وسلم في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاده صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي،ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك· وما ذاك - والله أعلم - إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة· ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أُمر المسلمون أن يكفو أيديهم في مكة·(/47)
وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمن وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب وفقه الله تعالى فيقول: "نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادًا كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان جيلاً فريدًا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس "النموذجي"، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون، حين يئول إليهم أمر التعليم·
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة - لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله ،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض· لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر·
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وَجَّهَنَا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديًا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكًا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ··· يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين·
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ). ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة·
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:
أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين·
فمَن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصّلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة·
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحًا تمامًا، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)... وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم·
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضًا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق·(/48)
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعًا، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ·· فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرًا هينًا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله·
وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خَلَد أحد - كما استقر في خَلَد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله إلا الله ·· هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية "لا إله إلا الله" على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة ··· لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعًا من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرًا لا شبهة فيه؛ كفرًا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله ·· وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: من الآية42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، هو من مستلزمات الدعوة ·· فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس "لا إله إلا الله"، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب·
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!"(152).
والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف - وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد - والنهي عن المنكر - وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر - هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم· كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم·
كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها·
كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفًا· وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها·(/49)
ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام· لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد· وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضًا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله·
وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46). ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد·
وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يُسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى - عندما يأخذ بها المربون - أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة· وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل· وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفًا واحدًا وقلوبًا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم· فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا·
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين· نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(153).
المرتبة الرابعة
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق
وهذه المرتبة من جهاد النفس لا يستغني عنها المسلم في جميع مراتبه السابقة، وفي عمره كله· وبدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك· وإذا كان لا غنى عن الصبر لكل مسلم، فإنه في حق المجاهدين والذين يعدون أنفسهم للجهاد أشد وآكد؛ وذلك لبعد الشقة وطولها·
إذن فالصبر خلق عظيم رفيع الشأن لا بد من التزود به في أداء الطاعات واجتناب المحرمات، وفي مواجهة المصائب والمكروهات وفي مقاتلة الأعداء قال تعالى عن المتقين: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: من الآية177).(/50)
والحديث عن الصبر وأنواعه ومراتبه وفضله لا يتسع له المقام(154)، وليس هو غرضنا في هذه الدراسة· وإنما مقصودنا هو الإشارة إلى ضرورة توطين النفس على الصبر والتحلي به للاستعداد للجهاد في سبيل الله تعالى لأنه الزاد، وهو من أسباب النصر على الأعداء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
وما أحسن ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية إذ يقول: "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة· إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء ·· الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرر والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع ··
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل ·· لا تصوره حقيقة الكلمات· فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة· إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي· فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء؛ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه ·· والمصابرة ·· وهي مفاعلة من الصبر ·· مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين ·· مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة· بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء· فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار ·· ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء· وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة: الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء ·· وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدًا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس· وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان!"(155) ا·هـ·
والمواطن التي يحتاج الداعية والمجاهد أن يوطن نفسه فيها على الصبر كثيرة منها ما ذكره سيد قطب في النقل السابق، ومنها ما لم يذكره، ومن أهمها:
- الصبر على شهوات النفس ورغباتها وميلها إلى الراحة والترف والدعة·
- الصبر على ضعف النفس ونقصها وسرعة ملالها·
- الصبر على ضغوط الواقع وأذى الأعداء؛ فلا يتغلب اليأس ولا القنوط·
- الصبر على طول الطريق وشدة الابتلاء؛ فلا يدفع إلى العجلة والمواجهة قبل أوانها·
- الصبر على الناس وشهواتهم وجهلهم وسوء تصوراتهم، وانحراف طبائعهم، وإعراضهم عن الحق·
- الصبر على إخوان الدعوة والجهاد، وما يطرأ عليهم من ضعف أو ما يصدر منهم من بعض الأذى والأخطاء؛ فلا يؤدي ذلك إلى الفرقة والتنازع·
- الصبر على انتفاش الشر وانتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وقلة الناصر، وضعف أتباع الحق وقلة حالهم، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب·
- الصبر على ضبط النفس في ساعات القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال ذلك بالتواضع والشكر لله عز وجل، وبدون خيلاء أو تجاوز في القصاص الحق إلى الاعتداء·(/51)
- الصبر على البقاء في صلة مستمرة مع الله عز وجل في السراء والضراء، والاستعانة به وحده، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة·
- الصبر على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان للدعوة والجهاد·
- الصبر على تخذيل المخذلين وإرجاف المرجفين، وشبهات المشبهين·
- الصبر في ساحات الوغى على قتال الكافرين، والمصابرة والمرابطة في ذلك·
والتربية على الصبر، وتوطين النفس عليه يحتاجان إلى جهد ومشقة وأخذ بالأسباب المعينة عليه· ومن أعظم الأسباب تقوية الصلة بالله عز وجل وكثرة ذكره وتسبيحه وكثرة العبادة· وهذا واضح من توجيه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم؛ حيث يغلب على الآيات التي يأمر فيها الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر أن تكون مقرونة بالأمر بالتسبيح والصلاة والاستغفار؛ قال الله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان:24-26)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:49)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). والآيات في هذا المعنى كثيرة·
كما أن مما يعين على الثبات والصبر وعدم النكول والضعف ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصبر عن أنواع الصبر، وأن هناك شروطًا ثلاثة إذا حققها العبد في صبره حصل له الثبات، وإن تخلف واحد منها أو أكثر ضعف صبره وخذل· وملخص هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون الصبر بالله تعالى؛ وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة والاعتراف بالضعف والهلكة لو وكل العبد إلى نفسه· وهذا ينبه على ضرورة الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الصبر والثبات؛ لأنه سبحانه هو المصبر والمثبت ولولاه لم يصبر الصابرون ولم يثبت المجاهدون·
2- أن يكون الصبر لله تعالى؛ بأن يكون الباعث على الصبر محبة الله عز وجل وإرادة وجهه، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض·
3- أن يكون الأمر المصبور عليه مرضيًا لله تعالى ودائرًا مع مراده الديني وأحكامه الدينية صابرًا نفسه معها سائرًا بسيرها، يتوجه معها أين توجهت ركابها، وينزل معها أين استقلت مضاربها(156).
ونظراً لأهمية هذه الشروط في تحقيق الصبر وكماله كان لزامًا على من يعدون أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل أن يعتنوا بهذه الأمور، ويبذلوا الأسباب العلمية والعملية في تقويتها في النفس، وأن يتواصوا بها؛ فما خذل عبد في موقف وضعف صبره فيه إلا بتخلف واحد أو أكثر من هذه الشروط·
تنبيه مهم:
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط·
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج· وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا·
وقد ينظر إلى هذه الممارسات - كما أسلفت - على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها - والله أعلم - قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد· وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل(157).(/52)
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين·
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77)، وامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد· ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلموصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون· فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا· ولا يخفى ما في هذا من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة·
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور· وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره· ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا·
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، ولم تكن ذات النصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يحترقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار"(158).
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة ·· بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل؛ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار ·· حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدَّروا، وأشق مما تصوروا· فكانوا أول الصف جزعًا ونكولاً وانهيارًا ·· على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف· فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته ·· والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!(/53)
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة· فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة· والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال· وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (النساء: من الآية77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً؛ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض؛ وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه - إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة ···"(159).
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: "أما حكمة هذا فلسنا في محل الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية· أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة ·· وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا، وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة ·· نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب ·· على أنه مجرد احتمال ·· وندع ما وراءه لله· لا نفرض على أمره أسبابًا وعللاً، لا يعلمها إلا هو ·· ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب ·· اجتهادية ·· تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين ··· ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئات تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم·
(ب) وربما كان ذلك لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية ····
(جـ) وربما كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين ···
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة؛ فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك···
(هـ) لم يكن هناك حاجة للقتال؛ فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة ···)(160).
ويشير الأستاذ محمد قطب وفقه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: "من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء: من الآية77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أُمرنا بقتالهم)(161).
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت·(/54)
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار·
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر·
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش··!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية··! ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في "التأديب" إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم·
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ····· ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب،وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء ·· لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة·
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير ·· إنه قضية "لا إله إلا الله" دون غيرها من القضايا ··
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ··
ليس الصراع على "شرف" سدانة البيت، ولا "وجاهة" خدمة الحجيج ··
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد·
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائمًا - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله·
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية "الشرعية"، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين·
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع·
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله·
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم·
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله"(162).
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله·
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق· وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم·(/55)
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين· وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين·
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1-2).
وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا· وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله· وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله·
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس·
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً· وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة· لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف·
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهمية وفضل جهاد البيان، وذلك في كتابه العظيم "منهاج السنة" وهو يرد على شبهة الرافضي في أن عليًا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل· حيث أوضح - رحمه الله تعالى - عكس ذلك بقوله:
"ومما ينبغي أن يُعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إمّا وبالاً عليه، إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له، إن استعملها فيما لا يقرّبه إلى الله تعالى·
فشجاعة عليّ والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة، إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقّوا ما حمد الله به المجاهدين·
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجّة والبيان والدعوة·
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52) فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفّار بالقرآن جهادًا كبيرًا· وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له· وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال· وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد· وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن· وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن·
قال أبو محمد بن حزم: "وجدناهم يحتجون بأن عليًا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفّار وضربا، والجهاد أفضل الأعمال· قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان· والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير· والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب· فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر· أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ· وأما عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد· وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما·
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر·(/56)
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويَدًا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارًا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب، وأُنْسًا بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة·
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليًا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قُتل في صدر الإسلام، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة - يعني أبا دجانة - وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل مع ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليًا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعليّ بعثا إلا إلى بعض حصون خيْبر ففتحه· فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليًا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم"(163).
إذن فأمر الإعداد للجهاد بالإيمان والبيان ليس أمرًا سهلاً إذا أخذ بعزم وجد· وكم يحتاج من التضحيات والصبر والمصابرة وطول النفس· وقد يتعرض أهله فيه من البلاء والقرح والشدائد ما قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات الوغى من المهالك والمتالف·
ونظرة سريعة إلى ما تعرض إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة من البلاء والتعذيب والحصار والتجويع والتشريد تعطينا دليلاً على أن جهاد التربية والإعداد والبلاغ والبيان يحتاج إلى صبر وتضحية واستعلاء على حب الراحة والسلامة لا يقل عن الصبر على قتال الأعداء·
إذن فالقول بأن الدعوة إلى الصبر على إعداد النفوس للجهاد وبيان الحق للناس، وعدم العجلة في منازلة الكفار قبل أوانها؛ بأنه هروب من الشدائد وإيثار للسلامة ليس صحيحًا ولامقبولاً لما قدمنا·
نسأل الله عز وجل العافية في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله·
تعقيبات
في ختام هذه الرسالة المتعلقة بالتربية الجهادية أورد بعض التعقيبات المهمة المتعلقة بالإعداد للجهاد أُضمن بعضها تتمات لمسائل لم تأخذ حظها من الإيضاح مع القناعة بأهميتها· وأضمن بعضها الآخر استدراكًا لبعض المسائل التي لها علاقة بالإعداد لكنني غفلت عن ذكرها في زحمة المسائل الأخرى·
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض :
إن ما ذكر من جوانب الإعداد ومراتبه (العلم والعمل والدعوة والصبر) لا يعني البقاء في مرتبة بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها· إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد· والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها؛ فمجاهدة النفس وإعدادها بالتعلم والتبصر في الدين لا يعني ترك مجاهدتها بالعمل الصالح، ومجاهدتها بالدعوة إلى الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك كله· وكلما علم العبد شيئًا من دين الله تعالى جاهد نفسه للعمل به والدعوة إليه والصبر على العمل والدعوة معًا· والمسلمون اليوم - وبخاصة من يهمهم أمر هذا الدين - لديهم رصيد لا بأس به من العلم يبدأون به الإعداد ويُحَوِّلون فيه هذا العلم إلى عمل ودعوة؛ أي إنهم لا يبدأون الإعداد العلمي وهم خلو منه؛ بل إن لديهم من العلم قدرًا جيدًا، وحينها يطالبون بالجهاد للعمل بهذا العلم وتكميل ما ينقصهم من العلم العيني لو وجد نقص في ذلك· والمقصود أن المربين لن يجدوا أنفسهم أمام أفراد لا علم عندهم، بل العلم موجود والحمد لله، والمطلوب تكميله في نفس الوقت الذي يحصل فيه المجاهدة بالعمل به والدعوة إليه·
التعقيب الثاني : تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهاد، والعناية بالمبرزين منهم :(/57)
يتفاوت المتربون الذين يُعدون للجهاد في الأخذ بهذه المراتب وتكميلها وإتقانها، وليس مطلوبًا أن يكونوا في مرتبة واحدة، وإنما المطلوب التأكيد عليها والسعي لمجاهدة النفس في الأخذ بها· مع التأكيد على ضرورة العناية بطائفة من الذين يعدون أنفسهم للجهاد، والذين تظهر عليهم علامات الصدق والجد والإخلاص والهمة العالية لتكميل هذه المراتب؛ فهؤلاء وأمثالهم ينبغي أن يكون لهم شأن آخر في الإعداد، وأن لا يتسامح معهم كما يتسامح مع غيرهم، وإنما يطلب منهم تكميل هذه المراتب قدر الإمكان؛ حتى يكونوا على قدر من العلم بالشريعة والواقع يؤهلهم لتربية أنفسهم والتأثير على الناس، ويكونوا على قدر كبير من: العمل الصالح، والإخلاص، والصدق، والتوكل على الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات فرضها ونفلها؛ حتى يتحملوا الشدائد ويكونوا قدوات لغيرهم في العلم والعمل، ويكونوا على قدر كبير من الدعوة والتأثير في الناس وبيان الحق والباطل لهم، وعلى قدر عظيم من الصبر يتحملون به ما يواجههم من الأذى والابتلاء من الكفار والمنافقين وأصحاب القلوب المريضة·
وهذه الفئة من الدعاة والمجاهدين ضرورية لأنها بمثابة القاعدة الصلبة التي يثبتها الله عز وجل عند الشدائد، ويثبت بها الصف الإسلامي من التفكك والإضطراب عند النوازل· وهذا هو الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة والإعداد في العهد المكي؛ حيث قام بتربية هذه الفئة من المسلمين ورباها بالعلم والعمل والتجرد والإخلاص والصبر والتوكل على الله عز وجل، فصلب عودها وثبتت أمام البلاء والمحن، وكانت القاعدة الصلبة التي قام عليها سوق الدعوة والجهاد، وفتح الله عز وجل بها الدنيا، وحمى بها بيضة الإسلام من الأعداء المتربصين·
وعن أهمية إعداد القاعدة الصلبة يقول الدكتور/ عبدالله القادري حفظه الله تعالى: "كثير من الناس يستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم فينفذون أوامر الله ويجتنبون ما نهى عنه، وقد يخلطون العمل الصالح بآخر سيء، ولكن قليل هم الذين يستجيبون لهذا الدين فيطبقونه على أنفسهم، ويحملون غيرهم من قريب أو بعيد على تطبيقه بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل المال والجاه والمنصب في سبيل الله وتقديم النفس في ساح الوغى لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله·
هذا القليل يجب أن يأخذ حظًا أوفر من الدعوة والتوجيه والتزكية والتطهير والإعداد لتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويعنى به أكثر من غيره؛ لأن هذا الصنف هو الذي يثبت وقت الشدائد والمحن، وهو الذي يلتف حوله من لم يبلغ مثله في إيمانه وتحمله· ولولا أن الله تعالى يهيئ لعامة الناس رجالاً يلتفون حولهم ويقتدون بهم ويرون فيهم ما يجذبهم إلى الثبات معهم لما كان لأولئك العامة من شأن يذكر، بل لكانوا في مهب الرياح أينما تميلها تمل·
لذلك كان من الواجب على الدعاة أن يختاروا ذوي المواهب العالية في العلم والعمل والذكاء والقدرة على الاستيعاب، والصبر والجلد والقيادة؛ يولوهم من العناية ما يأخذ بأيديهم إلى المستوى اللائق بهم، ويدربوهم على تحمل مسؤولياتهم؛ كلٌّ فيما يظهر أنه أنفع فيه من غيره، وذلك هو الذي يضمن بتوفيق الله استمرار صفوف الدعاة إلى الله وقادتها؛ لأن القائد الواحد يربي قادة، والصف يربي صفوفًا؛ كلما ذهب قائد حل قائد آخر محله، وكلما ذهب صف تقدم إلى مكانه الصف الذي يليه، كما يضمن بقاء الروح الجهادية في النفوس ··· وهذا الإعداد يكون بتقوية الإيمان، وتزكية الأخلاق الفاضلة، وكثرة الطاعة لله ولرسوله، والبعد عن المعصية، والتوعية الكاملة والفقه في الدين ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس، والإخلاص الكامل والتجرد لله وحده·
وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها العواطف ···"(164).
وعن ضرورة تكوين القاعدة الصلبة والاعتناء بها ودورها في حماية الدين وأهله يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار فيقول: "إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي·
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارات تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد الجزيرة عن الإسلام·(/58)
··· إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذي تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً ···"(165).
التعقيب الثالث : الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم، وتبوّئهم للمراتب العليا فيه :
وهو مرتبط بما قبله؛ وذلك من جهة التأكيد على ثمرة مهمة من ثمار الإعداد القوي للقاعدة الصلبة؛ ألا وهي تحصين الصف المسلم أثناء الإعداد وأثناء الجهاد من المنافقين الذين يظهرون الصلاح وحب الدعوة والجهاد حتى يخترقوا صفوف الدعاة والمجاهدين ويصلوا إلى مستويات متقدمة في التوجيه والتأثير، وهدفهم من الاختراق أمور خطيرة من أهمها: زعزعة الصف من داخله، وبث الشقاق والفرقة بين الدعاة والمجاهدين، ومن أخطر أهداف الاختراق: الاطلاع على خطط الدعاة وأسرار المجاهدين وإيصالها إلى أوليائهم من الطواغيت والكفرة حتى يقطعوا على الصف المسلم أهدافه ويعرضوا أهله للبلايا والمحن·
لذا وجب على المتصدرين للدعوة والإعداد والتربية الحذر الشديد من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ قال الله عز وجل في التحذير منهم ومن غيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وإن المتأمل في تاريخ المسلمين في القديم والحديث ليرى أنه ما من مأساة و انتكاسة أو محنة وقعت بالصف المسلم إلا وكان للمنافقين يد فيها، ولذا فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الإعداد للجهاد الحذر من المنافقين وتحصين الصف من اختراقهم·
ومن أهم وسائل التحصين الاهتمام بالقاعدة الصلبة، وحسن إعدادهم وتربيتهم ولو طال الزمان، وأن لا يصل إلى مستوى التوجيه والإعداد إلا من صهرته التربية وظهر صبره وفضله وتقواه وصدقه، وأن يحرص على التربية الجادة ودقة الاختيار، والحذر ممن كان له تاريخ في النفاق ولو صلح بعد ذلك، وكذلك الحذر من كل من ارتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة، ومعرفة السبب في اشتهاره هل هو عمله أم أن جهات أخرى تولت هذه المهمة؟! فينبغي الحذر من أمثال هؤلاء فلا تسند إليهم مسؤوليات مهمة في الدعوة والإعداد·
وعن خطر المنافقين في واقعنا المعاصر وضرورة تحصين الصف منهم يقول أحد الدعاة الناصحين: "مرت فترات من عصرنا الحديث اشتد فيها عود الجماعات الإسلامية، وقويت شوكتها، وعلا أمرها، وتحقق لها بعض أهدافها في أكثر من بلد من عالمنا الإسلامي الكبير·
وفي مثل هذه الأجواء يستغل المنافقون مبدأ التوبة إلى الله، فيترددون على المساجد، ويشهدون حلقات الذكر، ويكتبون المقالات التي يعربون فيها عن ندمهم على ما اقترفته أيديهم من ذنوب ومعاص، ويتبرأون من ماضيهم الأسود، ويشنون حربًا ضروسًا على رفاق دربهم القدامى من الفاسدين والعلمانيين·
ويرحب بتوبتهم الذين يأخذون الأمور على ظواهرها من الدعاة وبعض قادة الجماعات، وإذا قيل لهم: احذروا من هؤلاء الوافدين الجدد، ولا تسندوا إليهم مناصب قيادية، وتذكروا ظهور النفاق بعد غزوة بدر الكبرى، ولا تنسوا أنَّ تفشي هذه الظاهرة يكثر بعد انتصارات الدعاة والجماعات الإسلامية؛ قالوا: لم نكلف بالبحث عن نوايا الناس وما تخفيه قلوبهم، والذي نعلمه أن التوبة تجب ما قبلها، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم·
ونحن لا نطلب من إخواننا الدعاة القادة البحث عن نوايا الناس، وما تكنه قلوبهم، ولا نريد منهم طرد من جاء تائبًا مستغفرًا؛ ولكن الذي نريده ونؤكد عليه ألا تسند لهؤلاء التائبين وظائف قيادية لأن علمهم الشرعي وماضيهم لا يسمحان بذلك·
وفي خضم هذه الأنشطة السياسية التي تنقصها التربية والإعداد تم اختراق معظم الجماعات الإسلامية من قبل أشخاص مشبوهين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، أو من قبل أشخاص مترفين يظنون أن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل تحكيم شريعته خالية من التمحيص والابتلاء وخشونة العيش ··· وإذا كانت معارك الموحدين الدعاة مع الطغاة دائمة ومستمرة، وشعار الحذر يجب أن يستمر مرفوعاً، فهناك مراحل تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر، ومنها هذه المرحلة التي مضى عليها أكثر من عقدين، وشهدنا فيها سقوط أصنام متعددة: شهدنا سقوط الصنم القومي، والصنم الثوري الاشتراكي، وشهدنا سقوط رائد القومية والتقدمية والوحدة، الصنم الذي عبده كثير من الجماهير من دون الله·(/59)
كفر الناس بهذه الأصنام كلها، وأيقنوا أن بعدهم عن الإسلام هو سبب هذه الهزائم المتكررة، وعاد الشباب إلى دين الله أفواجاً، وأصبحت الصحوة الإسلامية حديث الشرق والغرب، وقويت شوكة الجماعات الإسلامية، وكثر أنصارها ··· إن قوة الدعاة والجماعات الإسلامية مسألة تهدد كل طاغية وتنذر بزواله، فلا بد من تسخير جميع إمكاناتهم وتنسيق جهودهم من أجل وأد الصحوة في مهدها· ومن الأساليب التي يستخدمونها كما قلنا فيما مضى زرع جندهم داخل الصف الإسلامي، والعمل على ضرب هذا الصف من داخله، وهذه هي المرحلة التي تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر واتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، واستمر هذا النهج بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذين كانا يتشددان في اختيار الولاة(166) وكانا في شخصيهما قدوة حسنة لكل مسؤول ··· أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة· وأهمها: الأمانة والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى المنصب"(167).
ومن أجل هذا كان صف الصحابة رضي الله عنهم هو الصف المحصن الذي لم يخترق؛ وما ذاك إلا لكونهم القاعدة الصلبة الذين تعهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم وصقلتهم الشدائد والمحن؛ ولكونهم يملكون الموازين الشرعية الدقيقة في وزن الرجال، ومن أجل ذلك صعب على المنافقين اختراقهم، حيث لم يعرف أن أحداً من المنافقين قد أسندت له مهمة قيادية سواء في السلم أو الحرب·
التعقيب الرابع : يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم :
إن المراتب السابقة من مراتب الإعداد للجهاد في سبيل الله لا تعني أن تتوفر بتمامها في كل الأفراد، ولكن المطلوب توفرها بقوة في القاعدة الصلبة الذين هم قادة الناس وقدواتهم، وهم أصحاب التوجيه والتربية·
أما من سواهم فإنه يقبل منهم الحد الأدنى، ولا يتشدد معهم في توفر كل صفات المجاهدين فيهم· نعم لو اكتملت هذه الصفات في الجميع لكان هو الأفضل والمطلوب، لكن طبائع البشر وما يتعرضون له من ضعف وفتور تأبى ذلك·
ومع ذلك فتستمر التربية والتزكية، والمقصود الإشارة إلى أنه مع التأكيد على ضرورة التربية والإعداد إلا أن ذلك لا يعني أن لا يشارك في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى عندما يفرض على الأمة إلا من ليس عليه ملاحظات أو هفوات، بل قد يخرج للجهاد من هو متلبس ببعض الذنوب وبعض ما يقدح في كمال إيمانه الواجب لكنه يجاهد نفسه على ترك ذلك، ويستمر النصح والتوجيه له في جميع الأوقات بل إنه قد يخرج صاحب البدعة التي دون الكفر مع المجاهدين إذا احتاج المسلمون إلى ذلك؛ كأن يهاجَمون في عقر دارهم وهم على قلة من العدد والعتاد·
ولو لم يخرج للجهاد في سبيل الله تعالى إلا الكمل من الناس لتعطل الجهاد وتسلط الكفار على المسلمين وساموهم سوء العذاب، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة·
وكذلك من هم في موطن التوجيه والقدوة والمسؤولية؛ فمع أنه لا يسعهم ما يسع غيرهم ممن هم دونهم إلا أنهم ليسوا معصومين، وصدور بعض الهفوات أو الذنوب لا يقدح فيهم ولا ينقص من منزلتهم إذا كانت ذنوبًا طارئة يرجعون منها ويتوبون ولا يصرون·؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
التعقيب الخامس : أنواع الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني :
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي· وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل· والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح·
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني·
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها·(/60)
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع إحدهم الآخر أو يؤخره·
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)، ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها· وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد· والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر·
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك باقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين·
2- الإعداد الإعلامي:
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان· كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم·
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء·
3- الإعداد الجسمي:
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ (فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(168) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين·
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة·
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
( أ ) تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب·
(ب) تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد·
(جـ) تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها·
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام·
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية·
4- الإعداد بالتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي - ثلاثًا)(169).
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم·
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي· ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد·(/61)
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريب· والجواب أن يقال بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان·
التعقيب السادس : أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون مع الولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد :
إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن ينبغي الحذر كل الحذر عندما يكون هناك حاجة إلى ذكر هذه الأخطاء والتناصح حولها أن لا تكون في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، وقد يكون إبرازها في المنابر العامة مقصود لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة والمجاهدين؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب· وفي عدم الانتباه لمآلات الكلام عن أخطاء المجاهدين مفسدة كبيرة قد يجد المتحدث نفسه متورطًا في الإسهام مع أعداء الدين في عرقلة الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة من سباتها· وقد يجد نفسه وهو لا يشعر في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين·
ولو وجد الداعية نفسه مضطرًا للتعليق على بعض الأخطاء فيمكنه أن يتحدث عن ذلك بعبارة لا يستطيع الإعلام الماكر ومن وراءه أن يستفيدوا من ذلك في الوصول إلى مبتغاهم؛ وذلك كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وأعراضهم، ودورهم في إرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى بالنقد والفضح تلك الأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين· ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان هناك ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فيضعها في حجمها الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء·
إنه متى كان الحديث بهذه النفسية، وبهذا الحذر فلا أظن الإعلام الماكر سيسمح لأحد من الدعاة فضلاً عن أن يدعوه ويبرزه للناس ليقول هذا الكلام في منابره·
كما أن المجاهدين سوف لن تُجرح نفوسهم من هذا الداعية الذي هذا مقصده وهذا طرحه، ولن يتهموه بأنه من المخذلين أو أنه من الذين يعرضون بالمجاهدين ويشمتون بهم·
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل ووفق إليه من الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير ولا أزعم أني استوفيته أو قربت من تمامه، ففي الموضوع مسائل كثيرة تحتاج إلى العلماء العاملين ليبينوها للناس· وحسبي أني ساهمت ببضاعتي المزجاة وجهد المقل فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل وهو المان به وله الحمد والشكر. وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان واستغفر الله منه ومن جميع ذنوبي.
وأسأله سبحانه الإخلاص والصواب في القول والعمل. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويرفع فيه علم الجهاد إنك سميع قريب وأنت على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين·
الهوامش
رواه مسلم: (1910).
"المفردات": (ص99).
"الفتح": (6/3).
"بدائع الصنائع": (9/4299).
"حاشية ابن عابدين": (4/121).
"الشرح الصغير على أقرب المسالك": (2/267).
"فتح الباري": (6/3).
"مطالب أولي النهى": (2/497).
"مجموع الفتاوى": (10/192، 193).
"مجموع الفتاوى": (10/191).
رواه أحمد: (6/21)، وقال محمقق زاد المعاد "الأرناؤوط": "سنده جيد، وصححه ابن حبان: (25)، والحاكم: (1/11)، ووافقه الذهبي.
رواه مسلم: (1910) في الإمارة: باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، وأبو داود: (2502).
"زاد المعاد" ت: الأرناؤوط: (3/5-12) مختصراً.
"زاد المعاد": (3/71).
"روضة المحبين": (ص478).
أبو داود: (4/246)، وابن ماجة: (2/681)، وقد روى شطره الأول البخاري: (2480).
"مجموع الفتاوى": (28/320).
"مجموع الفتاوى": (28/321).
تقدم تخريجه.
"الفروسية" لابن القيم: (ص187-189).
وعن شعور اللذة بالعبودية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "... فقُرَّة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم". "طريق الهجرتين": (1/56) ط. دار الحديث.(/62)
"مجموع الفتاوى": (10/191-193) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (10/57-58) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (15/170).
"في ظلال القرآن": (3/1440-1444) باختصار.
"في ظلال القرآن": (3/1433-1436) باختصار.
"الجواب الصحيح": (1/74).
"زاد المعاد": (3/159-161).
انظر لمزيد من التفصيل عن هذه الحكم كتاب "في ظلال القرآن": (2/714، 715).
"في ظلال القرآن": (3/1581).
"في ظلال القرآن": (3/1737-1739) باختصار.
"الصارم المسلول": (2/414).
"مدارج السالكين: (3/9) ط الفقي.
"مجموع الفتاوى": (10/57، 58) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (10/193).
"مجموع الفتاوى": (8/36).
أبو داود (3462)، وأحمد: (2/28) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (2956).
"الفوائد": (ص88).
"مجموع الفتاوى": (28/242).
"مجموع الفتاوى": (28/441-443) باختصار.
البخاري في الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ابن ماجة (2753).
البخاري في الجهاد: باب أفضل الناس مجاهد بنفسه وماله (2787)، ومسلم (1878) واللفظ له.
أبو داود (2541)، وابن ماجة (7292) وصححه الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد (3/78).
البخاري في الجهاد: باب درجات المجاهدين (2790)، وأحمد (2/335).
مسلم: (1884)، والنسائي: (6/19-20).
البخاري في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة (907)، وأحمد (3/479).
ابن ماجه: (2775) بسند حسن.
البخاري في الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
مسلم: (1913).
قطعة من حديث رواه مسلم (1902)، وأحمد: (4/396).
البخاري: (2887).
"سير أعلام النبلاء":(2/23).
المصدر السابق: (1/422).
"صفة الصفوة": (1/468).
"سير أعلام النبلاء": (1/375).
"الجهاد" لابن المبارك: (1/88).
"سير أعلام النبلاء": (1/319).
"سير أعلام النبلاء": (2/34).
البخاري: (2801).
"سير أعلام النبلاء": (1/364).
"سير أعلام النبلاء": (2/290).
"سير أعلام النبلاء": (1/381). واللقلقة: الصوت الشديد المضطرب. والنقع: رفع الصوت وشق الجيب.
بسان ملتاث: ثقيل بطيء في الكلام.
الدَبَرة: النصر والغلبة.
"صفة الصفوة": (1/466، 467).
انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/232).
غُبَّرات: الجماعة الباقية.
الشخوص: المرتفعات.
لا رحلة بي: ليس لديه بعير أو ظهر يرتحل عليه.
قلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
"صفة الصفوة": (1/674-676).
"صفة الصفوة": (4/421).
"سير أعلام النبلاء": (3/499).
"سير أعلام النبلاء": (3/498).
المقصود هنا: أعظم الثمار وإلا فثمار الجهاد كثيرة كما مر بنا فيما سبق.
"شريعة الإسلام في الجهاد": (ص31-32).
"الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي: (2/163).
مسلم (1910).
"عدة الصابرين": (ص121).
"تفسير ابن كثير": (1/228)، وصحح الحديث ابن حبان (1667)، والحاكم: (2/275) ووافقه الذهبي.
"أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" د. العلياني: (ص252).
"الفتح الرباني" لترتيب مسند أحمد: (15/44) وقال المحقق الساعاتي: سنده جيد.
انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها، ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.
"شريعة الإسلام في الجهاد" للمودودي: (ص34).
"في ظلال القرآن": (4/1941).
"نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء": (1/242).
رواه أبو داود في الملاحم: باب في تداعي الأمم على الإسلام: (4297)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (3610).
انظر الحديث: (ص54، 79).
البخاري في التوحيد: (7460)، ومسلم: (1037).
"مجموع الفتاوى": (28/358، 359).
"مجموع الفتاوى": (28/259).
هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار.
"زاد المعاد": (3/72).
"الفوائد": (ص59)، وقد مضى في (ص56) قول ابن المبارك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم"، وعلى هذا فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) يدخل تحته جهاد الهوى وجهاد الكفار بالسنان.
"الاختيارات الفقهية": (ص309، 310).
تقدم تخريجه.
"فتح الباري": (6/29).
المصدر نفسه: (6/30).
"جامع الأصول": (2/580).
"تفسير السعدي": (2/290).
سبق تخريجه.
"في ظلال القرآن" (3/1716-1717) باختصار.
انظر تفاصيل هذه الأصول في رسالة "وقفات تربوية في ضوء سورة العصر" للمؤلف.
"زاد المعاد": (3/10).
البخاري: (1399، 1400)، ومسلم: (20).
"سير أعلام النبلاء": (4/195).
رواه مسلم: (1850).(/63)
"البدع والنهي عنها" لابن وضاح: رقم الأثر (86) ص (75)، ت: عمر عبد المنعم.
البخاري: (6502).
"سير أعلام النبلاء": (6/121).
البخاري (52)، ومسلم: (1599).
انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ص57).
"مجموع الفتاوى": (15/170).
البخاري في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، مسلم (1904).
أبو داود (2516) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم: (2196).
مسلم (1876).
أبو داود (5123)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1096).
"في ظلال القرآن": (1/144).
البخاري: (123)، ومسلم: (1904).
"في ظلال القرآن": (6/3288).
"طريق الدعوة في ظلال القرآن": (ص361).
ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان.
تَفَنَّقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
"المقدمة" لابن خلدون: (ص138).
"الجهاد في سبيل الله" (2/373)، د. عبد الله القادري.
"في ظلال القرآن": (5/2217).
البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: "الجهاد في سبيل الله" الدكتور/ عبد الله القادري (2/376).
"الفوائد" لابن القيم: (ص94، 95) باختصار.
"مدارج السالكين": (2/125).
"الفوائد": (ص86، 87).
انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص199).
البخاري: (7405)، ومسلم: (2675).
البخاري: (6307).
مسلم: (2702).
أبو داود: (4986)، وأحمد: (5/364) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4172).
"في ظلال القرآن": (1/141،142) باختصار وتصرف يسيرين.
البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).
مسلم: (746).
البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).
أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).
مسلم: (2609)، والبخاري في الأدب باب الحذر من الغضب.
"مدارج السالكين": (2/308) ط. الفقي.
البخاري: (6370).
"في ظلال القرآن": (1/459).
مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر "مشكاة المصابيح" الحديث (229).
"مدارج السالكين": (2/319).
مسلم في الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825).
البخاري: (59).
البخاري: (6497)، ومسلم: (143).
"مجموع الفتاوى": (10/301).
"في ظلال القرآن": (2/1105-1107) باختصار.
"كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 11-19) باختصار.
"مجموع الفتاوى": (24/172).
للتوسع في موضوع الصبر وما يتعلق به يمكن الرجوع إلى رسالة (وقفات تربوية في ضوء سورة العصر)، مبحث: "وتواصوا بالصبر" للمؤلف.
"في ظلال القرآن": (1/551، 552).
انظر "مدارج السالكين": (2/157).
أكرر ما ذكرته سابقاً من أني لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
"تفسير ابن كثير": عند الآية (رقم: 77) في سورة النساء.
"في ظلال القرآن": (2/712، 713).
"في ظلال القرآن": (2/713-715) باختصار شديد وتصرف.
ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/460،462) وصحح إسناده الأرناؤوط في "زاد المعاد": (3/460).
"كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 14-23) باختصار.
"منهاج السنة": (8/86-89).
"الجهاد في سبيل الله": (2/347-349) باختصار.
"في ظلال القرآن": (3/1577، 1578) باختصار.
ومن ذلك ما ذكره ا بن كثير – رحمه الله تعالى – في "البداية والنهاية": (6/323) في ترجمة طليحة الأسدي بعد أن ذكر ردته وتنبأه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته وقد رجع فشهد القتال مع خالد. وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره – يعني معاملته بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن –وهذا من فقه الصديق رضي الله عليه عنه وأرضاه". ا.هـ.
انظر "مجلة السنة" الأعداد: (31، 33، 35، 36، 37، 39، 41، 42) باختصار شديد وتصرف يسير.
انظر نص الحديث في صحيح مسلم: (2664).
رواه مسلم (917) في الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
الفهرس
{ تمهيد ·······················································································
{ المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه ··········································
المعنى اللغوي والشرعي للجهاد ····················································(/64)
مراتب الجهاد ···········································································
{ المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله تعالى ···································
1- جهاد الدفع ·········································································
2- جهاد الطلب ········································································
{ المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله تعالى ····································
شبهة وجوابها: في الرد على من قال أن الجهاد للدفاع ··························
تنبيه: الحديث عن غاية الجهاد لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ···········
مواقف خاطئة في النظر إلى مراحل الجهاد ········································
{ المقدمة الرابعة: فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة ·······
ثمار الجهاد في الحياة الدنيا ··························································
ثمار الجهاد في الآخرة ································································
الآيات الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين ·····································
الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين ·································
الآثار الواردة عن السلف وحرصهم على الجهاد وطلب الشهاة في سبيل الله تعالى
سؤال وجوابه حول الحكمة في ورود هذه الفضائل العظيمة للجهاد دون غيره من الأعمال ········································································
{ المقدمة الخامسة: مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله ·································
{ التربية الجهادية وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر ·······················
- الوقفة الأولى: الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف ·········
- الوقفة الثانية: الإعداد الإيماني للجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد
- الوقفة الثالثة: مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب والدفع ········
- الوقفة الرابعة: معنى الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله تعالى
الأصل في الإعداد الإيماني صفات المجاهدين في سورة التوبة {التائبون العابدون ···} الآية ··································································
- الوقفة الخامسة: أصول التربية الجهادية للنفس ومراتبها: ····················
+ المرتبة الأولى : مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق ····················
+ المرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه·····················
أولاً: من أعمال القلوب ·······························································
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه ····························
2- الإخلاص لله عز وجل ·····················································
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ······································
4- التوكل على الله عز وجل ··················································
ثانياً: من أعمال اللسان ······························································
1- الذكر والدعاء ·······························································
2- التوبة والاستغفار ···························································
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ·····
ثالثاً: من أعمال الجوارح ····························································
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها ·······························
2- الصيام ···································································
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق ··················································
- الكرم والجود والبذل في سبيل الله ·········································
- العفو الصفح وكظم الغيظ ··················································
- الأمانة وحفظ العهد والوعد ················································
+ المرتبة الثالثة: مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس ········
استبانة سبيل المجرمين ································································
+ المرتبة الرابعة: جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق ·················
ذكر بعض مجالات الصبر ····························································
شروط الصبر النافع ·····································································
<> تنبيه: العجلة في مصادمة الكفار قبل الاستعداد يدل على ضعف الصبر
الصبر على جهاد البيان لا يقل عن الصبر في ساحات القتال ···················(/65)
{ تعقيبات ····················································································
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض ···················
التعقيب الثاني: تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهل وضرورة العناية بالمبرزين منهم ······················································
التعقيب الثالث: الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم وتبوئهم للمراتب القيادية فيه ·················································
التعقيب الرابع: يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم ···················································
التعقيب الخامس: الإشارة إلى الإعداد المادي وضرورة العناية به بجانب الإعداد الإيماني ·····················································
- الإعداد المالي ····················································
- الإعداد الإعلامي ·················································
- الإعداد الجسمي ·················································
- الإعداد بالتدريب على الرماية ··································
التعقيب السادس: الحذر من الحديث عن أخطاء المجاهدين في منابر عامة حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد والنيل من المجاهدين
الهوامش .................................................................
الفهرس ····················································································(/66)
التربية الجهادية
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين•
وبعد:
فيقول الله عز وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى• وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى•
وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر• وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرًا مفروضًا على المسلمين دفاعًا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق"(1).
وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علماً وعملاً وحالاً• قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) (التوبة: من الآية46).
وفي المقابل لأحوال المفرِّطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجَّلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة•فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين•
وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة• أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين•
والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عُدته في النفس والواقع؛ أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل، وهو ما دفع إلى كتابة هذه الأوراق التي أرجو أن تكون فاتحة خير في هذا الموضوع المهم، ولعلها أن تفتح الباب للمهتمين بالدعوة والجهاد كي يدلوا بدلوهم في هذا المجال المهم من مجالات التربية والإعداد للجهاد ويكملوا ما نقص منه حتى يجد المربون فيه بغيتهم من البرامج العلمية والعملية لإعداد شباب الصحوة وبقية الأمة للجهاد في سبيل الله تعالى•
وقبل الدخول في ذكر الوسائل والبرامج التي تُحيي في النفوس الجهاد والاستعداد له يحسن الحديث عن بعض المقدمات المهمة التي تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله تعالى•
المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه•
المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله عز وجل•(/1)
المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل•
المقدمة الرابعة: ثمرة الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
المقدمة الخامسة: مخاطر إهمال الجهاد في سبيل الله عز وجل وترك الاستعداد له•
المقدمة الأولى
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة• وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم•
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(8).
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق• وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس•
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "••• وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية•
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده• ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا•
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن• وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا•
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه•
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج•(/2)
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس•
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).
إذا عُرِفَ هذا فالجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس - وجهاد الشيطان - وجهاد الكفار - وجهاد المنافقين•
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها•
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله•
الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله• فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات•
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:
إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوكِ القادحة في الإيمان•
الثانية: جِهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات• فالجهادُ الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بُعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات•
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب:
بالقلب، واللِّسان، والمال، والنفس، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان•
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليد - إذا قَدَرَ - فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و (من مات ولم يغزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُْعبَةٍ من النفاق)(12).
وأكملُ الخلق عند الله، من كمَّلَ مراتِبَ الجِهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتمُ أنبيائه ورُسُلِهِ؛ فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد وجاهد في سبيل الله حقهَ جهاده ••"(13).
وقال أيضاً: "لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: بالقرآن (جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ"(14).
من هذا الكلام النفيس حول المفهوم العام للجهاد وأنواعه يمكن الخروج بالفوائد التالية:
الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق•(/3)
الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لهما وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار•
الثالثة: أن الكُمَّل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك• وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم"(15).
المقدمة الثانية
أقسام الجهاد في سبيل الله
بعد أن تعرفنا على المعنى العام للجهاد ومراتبه نأتي فنتعرف على أقسام الجهاد مع الكفار حيث ينقسم إلى قسمين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب•
1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي - سواءً كان فردًا أو طائفة - ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين•
وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)(16).
وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز• وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه• وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره• وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره"(17).
وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: "لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات"(18).
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: "فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد•
وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه - كما قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(الحج: من الآية39).(/4)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد)(19) - لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد•
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق•
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد•
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين•
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي•
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر"(20).
وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين•
المقدمة الثالثة
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك•
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة•
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى• إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى• ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى•
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه•
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله• فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ••• والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه• ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).(/5)
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة• ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم• وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم• ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا•
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين•
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم•
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة• ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم•
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة•
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده•
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه•
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته•
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).(/6)
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد• إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد•
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار•
شبهة وجوابها :
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة• ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون•
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه• فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب• وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد•
وأما الجواب المفصل :
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله•
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ••• فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام• والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي •• مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" •• أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار•
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك •• وهذه وحدها تكفي •• ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!(/7)
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام •• فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه• ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ••••
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده •• إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته• ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه•
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً•
هذا كله حق •• ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا••
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة •• إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله• ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض" •• كل الأرض •• للشر والفساد والعبودية لغير الله•
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! •• ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها•
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!•• ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة •• حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد •• إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! •• والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان• إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس• والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام• وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة• والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة •• ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء•
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" •• وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة •• ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!(/8)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية• وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام• أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات •• ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة•
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان •• فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة• وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" •• يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله •• وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما •• ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" •• والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك •• إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ••
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين •• إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور •• أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور •• ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله •• ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا•
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"•
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)•
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم•
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين• ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).(/9)
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض"•• كل الأرض •• ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! •• إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات •• فهنا: "لا إكراه في الدين" •• أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا•
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد• وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف•
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن •• وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثته صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح•
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده• ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان•
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم• وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).(/10)
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ• ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية•
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب•
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة• ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها•
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين•
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه•
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب•
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر•
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها•
ويستند أصحاب هذا الرأي على هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر• وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل•
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل• ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب•(/11)
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً• وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة• وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين •• إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو •• إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" •• جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله •• جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد •• "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" •• وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض •• ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها •• فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم •• إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! •• لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر •• وهو يهول فعلاً! •• فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً •• ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه• وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة••• إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال• إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:(/12)
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم •• إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار•
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار• ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى•
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك•
تنبيه:
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس• فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا•
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار•
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه• وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم•
المقدمة الرابعة
فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة
تقدم الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل وثمرته الكبرى في الدنيا والآخرة، وأنه شرع لتعبيد الناس لرب العالمين، وحتى لا تكون فتنة ولا شرك ويكون الدين كله لله• هذا في الدنيا أما في الآخرة فرضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار•(/13)
وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وسيتم في هذه المقدمة تفصيل بعض الثمار والخيرات التي تترتب على الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والتي هي فرع عن غاية الجهاد.
( أ ) الثمار التي تظهر في الدنيا :
1- بالجهاد تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له، ويظهر الصادق فيها من الكاذب؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وتقديم الروح رخيصة لله تعالى من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء•
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلىُّ حُرقَة الشَّجيِّ• فتنوع المدعون في الشهود• فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31).
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )(التوبة: من الآية111).
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا• فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس• فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار• وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"•
فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: منذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)(33).
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "•• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهي عما نهى عنه؛ فهو موافق له في ذلك •••)(34).
وقال أيضًا: "فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه"(35).
وهنا يحسن الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله؛ ألا وهي: أن هذه الشعيرة العظيمة التي هي صلب التوحيد وأسه المتين إنما تقوى وتصقل بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه• وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وفي واقع الدعوة إلى الله عز وجل يرى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية•
فكلما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الجهاد في نفس العبد المخلص لربه قويت هذه العقيدة في نفسه وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك•
بل إن هذه العقيدة لتبلغ ذروة السنام في قلب الداعية ومواقفه؛ وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
والعكس من ذلك واضح ومشاهد؛ فما من داعية فترت همته عن الدعوة والجهاد ومال إلى الدنيا وأهلها إلا كان الضعف في عقيدة الولاء والبراء مصاحبًا لذلك•(/14)
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تحفظ في الذهن المجرد، بل هي: عقيدة وعمل ومفاصلة ودعوة وجهاد وحب وبغض؛ فإذا أردنا أن تقوى هذه العقيدة فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وكلما ابتعد العبد عن هذه الأعمال مؤثرًا الراحة عليها فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة وتعرضها للخطر والاهتزاز•
وهذه إحدى ثمار الجهاد؛ حيث يميز صادق الولاء لله تعالى ولدينه من كاذبه، كما أنه في نفس الوقت يقوي هذه العقيدة ويصقلها• والصلة بين الجهاد وعقيدة الولاء والبراء صلة تناسب مطرد متبادل؛ بمعنى أن الحماس للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى يقوى بقوة عقيدة الولاء والبراء في القلب، كما أن الولاء والبراء يقوى ويشتد بالجهاد في سبيل الله تعالى•
2- نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها، وتسعد البشرية بها، ويرتفع عنها الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم• والتاريخ يشهد بذلك؛ فما من أمة فشى فيها الشرك والكفر إلا وعانت من الظلم والشقاء وتسلط الطواغيت الشيء العظيم، وما من أمة دخلها الإسلام وحكمها بحكمه العادل القائم على توحيد الله عز وجل إلا صلح أمرها وعاشت هنيئة سعيدة تحت ظلاله الوارفه، فالجهاد إذن شرع رحمة بالعباد•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك مما يفرح به العبد المطيع؛ فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده؛ ففيها حكمة له ورحمة لعباده؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها: وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار؛ وقد قال تعالى في أول السورة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) فهو يحب ذلك؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد؛ وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة"(36).
3- بالجهاد يُدفع عذاب الله عز وجل ونقمته في الدنيا والآخرة ويعيش المسلمون حياة طيبة عزيزة خالية من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم• والعكس من ذلك يحصل حين يُترك الجهاد ويركن الناس إلى الدنيا؛ حيث يحل محل العزة ذل المسلمين واستكانتهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب في أديانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم•
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(37).
وواقعنا المعاصر أكبر شاهد على ذلك؛ حيث يعد عصرنا من أسوء العصور التي مرت بالمسلمين حيث بلغ المسلمون فيه من الذل والاستكانة والتفرق ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، مما أغرى بهم أعداؤهم فتداعوا إلى بلدان المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وما ذاك إلا بترك طاعة الله عز وجل وحب الدنيا وكراهية الموت، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى•
ولن يُرفع هذا الذل عن المسلمين إلا أن يراجعوا دينهم ويرفعوا عَلَم الجهاد على الكفار ويعدوا ما استطاعوا من قوة لقتالهم دفاعًا وطلبًا• وقبل أن يتم ذلك فلا نرجو عزة، ولا نطمع أن يكف الكفار شرهم عن المسلمين بمجرد المفاوضات السياسية أو عن طريق مجلس الأمن - أعتذر - مجلس الخوف، أو هيئة الأمم الكفرية الطاغوتية• كلا فلن يردع الأعداء المعاصرين إلا ما ردع أسلافهم المعتدين من قبل؛ إنه الجهاد في سبيل الله تعالى•(/15)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) ، فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل البهائم• فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان• ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة؛ فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول•
قال مجاهد: لما يحييكم يعني للحق•
وقال قتادة: هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة•
وقال السدي: هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر•
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: لما يحييكم يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم•
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول ظاهرًا وباطنًا•
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله لما يحييكم هو: الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني•
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم• قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة"(38).
4- المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم؛ كما دل عليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(39) ا•هـ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد:4-5).
قرأها الجمهور: "قاتلوا" وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "قتلوا".
5- الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم وسائل التربية للنفس وتزكيتها باطنًا وظاهرًا: فكم من الأخلاق الفاضلة وأعمال القلوب الزكية لا يمكن إصلاحها والوصول بها إلى كمالها أو قرب كمالها إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى• وبدون الجهاد ستبقى هذه الأعمال ضعيفة أو يصعب على العبد تكميلها وهو قاعد•
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعليقه على كون الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ حيث قال: "••• ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: من الآية54). وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128).(/16)
••• وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا• وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: من الآية111)(40).
6- وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم: حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، وما كانوا ينتهون من غزوة أو معركة إلا ويدخلون في أخرى، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، والعكس من ذلك يحدث عندما يعطل الجهاد وينشغل المسلمون بعضهم ببعض•
( ب ) الثمار الأخروية للجهاد :
في الآخرة تتحقق الثمرة العظمى للجهاد في سبيل الله تعالى، والتي تنافس فيها المتنافسون، وضحى في سبيلها المجاهدون بأرواحهم رخيصة راضية بها نفوسهم، وكيف لا وهم يرجون رحمة الله تعالى ورضوانه وجناته؟! هذه الغاية الشريفة والثمرة العظيمة التي يرخص في سبيلها كل شيء•
وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل والمتدبر لجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة وما أعد الله عز وجل فيها لأهلها من الرضوان والنعيم ليلفت نظره أمرٌ مهم وشيئ عجيب؛ ألا وهو أن جل ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه من الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك، وبالتأمل في أوصافهم تلك نجد أنها تكاد تنحصر في: المجاهدين، والصابرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر• وفيما يلي ذكر بعض الآيات التي يذكر الله عز وجل فيها ما أعد لعباده المجاهدين من الرحمة والنعيم والرضوان•
- الآية الأولى: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218).
- الآية الثانية: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
- الآية الثالثة: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
- الآية الرابعة: قوله تعالى: )وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157).
- الآية الخامسة: قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:169-172).
- الآية السادسة: قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195).
- الآية السابعة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74).(/17)
- الآية الثامنة: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 20-22).
- الآية التاسعة: قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:71-72).
- الآية العاشرة: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
- الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:4-6).
- الآية الثانية عشر: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف: 10-12).
وأما الأحاديث في فضائل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء في الآخرة فهي كثيرة جدًا والمتأمل في أحاديث الفضائل يجد أنه ما من عمل صالح جاء في فضيلته والترغيب فيه والثناء على أهله أحاديث كثيرة لم تأت لغيره من الصالحات كما جاء في شعيرة الجهاد؛ ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سَرية، ولوددت أني أقتلُ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل)(41).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المُجاهد في سبيل الله)(42).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةِ، وجبت له الجنة)(43).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِن في الجنة مائة درجةٍ أعدها الله للمُجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سأَلتم الله فاسألُوهُ الفرْدَوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)(44).
- وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: (من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْهَا عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأُخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)(45).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار)(46).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكًا يوم القيامة)(47).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)(48).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)(49).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)(50).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع)(51).(/18)
ولأجل هذه الفضائل كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم أحرص الناس على هذه الشعيرة العظيمة؛ فتسابقوا في بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله عز وجل راجين هذه الفضائل العظيمة، وعلى رأسها رضوان الله عز وجل ورحمته وجنته• وأسوق فيما يلي نماذج من حرص السلف على هذه الشعيرة العظيمة:
- عن حماد بن سلمة: حدثنا عليُّ بن زيد، عن ابن المسيِّب، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وأيمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل• فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ربح البيعُ أبا يحيى!) ونزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية207)(52).
- وقال الواقدي : حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه عن ابن عمر، قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال"(53).
- وقال ابن الجوزي في ترجمة سعد بن خيثمة : يكنى أبا عبدالله، أحد نقباء الأنصار الاثنا عشر• شهد العقبة الأخيرة مع السبعين• ولما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك• فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستَّهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر(54).
- وعن ابن عُيينة عن ابن أبي خالد، عن مولى لآل خالد بن الوليد أن خالدًا قال: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ(55).
- وعن جُبير بن نُفَير قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال الله تبارك وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين(56).
- وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه(57).
- وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس: أنَّ أبا طلحة قرأ: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني• فقال بنوه: يرحمُك الله! إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن• قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير(58).
- وعن أنس رضي الله عنه قال : "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة• ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم ••"(59).
- وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ! أنزل عذري• فأنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء: من الآية95). فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين(60).
- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه• فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا• فعمدتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا• فقال: أَمَا إذْ ترك لكم هذا فنعم(61).(/19)
- وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل أظن قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ، قال: لقد طلبتُ القتل مظانَّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي• وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نُغيرَ على الكفار• ثم قال: إذا متُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله• فلما تُوفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على خالد من دمُوعهن ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً(62).
- ومن ترجمة أبي عقيل عبدالرحمن بن ثعلبة - وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - روى ابن الجوزي عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل• فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم• قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال• قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى• قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا• قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم• قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة• قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك - بلسان ملتاث (63)- لمن الدَبرَة(64).؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله• فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله• ومات يرحمه الله•
قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله• فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان - ما علمت - من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم رضي الله عنهم(65).
- ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح• وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه• فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع• فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم• قال: فيما أطقت؟ قال: نعم• فأسلم وبايعه(66).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم• قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً• فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم• فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر• فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام• فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت• فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر• فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ(67) من الناس وهم على الشخوص(68) فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة(69) بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي• قال واثلة: نعم• قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص(70) فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها• فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا(71).(/20)
- وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك• فقلت: لأرمقنه اليوم• فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم• قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا• فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة(72).
- وعن ابن المبارك عن السري بن يحيى، حدثنا العلاء بن هلال أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أعطيتُ شهدة، وأُعطيت شهدتين، فقال تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا• وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك• قال: يا أبة؛ تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان راميًا - حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه فدعا له ثم قاتل حتى قتل رحمه الله(73).
- وقال حماد بن سلمة : أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ(74).
سؤال وجوابه:
بعد ذكر هذه الفضائل والثمار العظيمة للجهاد والمجاهدين في سبيل الله عز وجل يتبادر إلى الذهن سؤال جدير بالجواب ألا وهو: لماذا هذه الفضائل العظيمة التي أُعدت للمجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل دون غيرهم؟
الجواب - والله أعلم - يكمن في معرفة غاية الجهاد وبواعثه في نفس المؤمن• وقد مر بنا في مقدمة سابقة أنه تعبد لله تعالى ومحك حقيقي لمحبة الله عز وجل؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وبذل الروح رخيصة له سبحانه أكبر دليل على صدق المحبة والعبودية لله تعالى؛ والتي يستحق صاحبها هذه الفضائل العظيمة دون غيرها من الأعمال•
كما أن تقديم الروح في سبيل الله عز وجل لأجل أن ينتشر التوحيد والعدل في الأرض، ويكون الدين كله لله، وينجو الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لهو أيضًا عمل شريف كريم عظيم يستحق صاحبه هذه الفضائل العظيمة؛ حيث بذل نفسه في سبيل الله تعالى حتى ينجو بموته فئام من الناس ويخرجون من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى النعيم؛ فأكرم به من عمل وأعظم بها من غاية•
وفي هذا يستطرد الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى حيث يقول: "ما سبب فضل الجهاد في سبيل الله، وسبب امتداحه بهذا الشكل؟ ولماذا يقال للمجاهدين في سبيل الله مرة بعد مرة إنهم هم الفائزون، وإن لهم الدرجات العليا؟ ولماذا وُجّه مثل هذا التحذير للقاعدين في بيوتهم لا يشاركون في هذا الجهاد؟(/21)
إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مراجعة النظر مرة ثانية في تلك الآيات التي ورد فيها ذكر حكم الجهاد وفضله، ومساوئ الفرار منه؛ ففي هذه الآيات لم يرد معنى الفوز والعظمة في أي موضع بالحصول على المال والثروة، والملك والسلطان مثلما كان كرشن يقول لأرجُن: "إذا فزت في هذا القتال فسوف تنال ملك الدنيا" (جيتا 2:73)، فمثل هذا لم يرد في القرآن، ولم يحث القرآن المجاهدين على القتال في سبيل الله لينالوا مقابله ثروة الدنيا وسلطانها، بل على العكس من هذا كلما ذكرت ثمار الجهاد في سبيل الله كان ذكرها مقترنا بمرضاة الله فقط، والحصول على مقام عالٍ عند الله، والنجاة من العذاب الأليم• وقد أرشد رب العزة عباده إلى أن الخروج في سبيل الله أفضل من سقاية الحاج وعمارة البيت - وكانتا من أكبر مصادر الدخل عند العرب، وأعظمها أثرًا ورسوخًا - ولم يذكر للجهاد من ثمرة سوى: "أعظم درجة عند الله"(75)، وفي مكان آخر أرشد عباده وعلمهم قاعدة من قواعد التجارة يظن منها أنه يذكر الثروة والمال، ولكن بعد قليل نلاحظ أن حقيقة هذه التجارة أو رأسمالها هو التضحية بالروح والمال في سبيل الله، والثمرة - أي ثمرة هذه التجارة - هي النجاة من العذاب، وفي موضع آخر يحذر ويعنف الهاربين من القتال لأنهم أصبحوا أسرى لمحبة زوجاتهم وأولادهم، وأنهم يخشون على أموالهم التي كسبوها، ويخشون كساد تجارتهم، بينما المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في هذه الدنيا وينتصرون ويفتحون البلاد، ويحصلون على أموال طائلة، وتزدهر تجارتهم، ويجدون مساكن يسلبونها من الأمة المغلوبة، إلا أن هذا ليس هو المقصود بالجهاد •• فإذا لم يكن المقصود من هذا الجهاد ثروة الدنيا وسلطانها فماذا ينال من هذا القتال حتى يعد عباده المقاتلين بالدرجات العليا؟ وماذا في هذا العمل الخطير حتى يجعل من أقدام المهرولين إليه المثيرة للغبار موردًا للطفه وعنايته؟ ثم أي نجاح وأي فوز يكمن فيه حتى يقال "مرة بعد مرة" عن المقاتلين في هذه الحروب الشديدة إنهم هم الفائزون (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: من الآية20) ؟!•
إن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية251)، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: من الآية73)؛ فالله لا يريد أن تنتشر الفتن وينتشر الفساد على أرضه، وهو لا يقبل أن يتعذب عباده دون ذنب، أو أن يحل بهم الدمار والبلاء، ولا يحب أن يأكل القوي الضعيف، وأن يسلبه أمنه وطمأنينته، أو أن يصاب عباده في حياتهم الأخلاقية والنفسية والمادية، وهو لا يرضى أن تنتشر أعمال السوء والشر في الدنيا، وأن ينتشر الظلم والإجحاف والقتل والغزو، كما لا يقبل أن يصبح عباده عبادًا لمخلوقيه من بقية العباد فيلطخوا شرفهم الإنساني بجراح الذلة والهوان، وبعد كل هذا فالجماعة التي تنهض لتطهير العالم من هذه الفتنة وتخلصه من الظلم، وتقيم العدل دون رغبة في نيل جزاء، وبغير أي طمع في ثروة أو في مال، وتضحي في سبيل هذا العمل الطيب بروحها وبمالها وبمصالحها التجارية وبحبها لأبنائها وآبائها وأخوتها، وبراحتها داخل بيتها •• أهناك من هو أحق منها بمحبة الله ومرضاته؟ ••
هذه هي فضيلة الجهاد في سبيل الله التي جعلته يحتل الدرجة العليا بين جميع الأعمال الإنسانية بعد الإيمان بالله"(76).
المقدمة الخامسة
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله
بعد أن تبين لنا في المقدمة السابقة فضل الجهاد وثمرته في الدنيا والآخرة فإنه يسهل علينا في هذه المقدمة الحديث عن مخاطر ترك الجهاد والاستعداد له، وما يترتب على ذلك من المفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة•
ويكفي أن نعكس الفضائل والثمار السابقة لتظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة لتلك العواقب والثمار الحميدة، وقد عد أهل العلم ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب•
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(77).
ولذلك كان ترك الجهاد وعدم الاستعداد له علامة على النفاق قال ": (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)(78).(/22)
وقد عده الله عز وجل علامة على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو ضعف اليقين به فقال تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:44-46).
ويمكن تفصيل المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد كما مضى كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة•
قال تعالى: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39).
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذين يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بأنهم أقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله تعالى؛ فيقول: صلى الله عليه وسلموأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها• وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه• وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء"(79).
إذًا فترك الجهاد في سبيل الله سبب للهلاك في الدنيا والآخرة؛ وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).
قال ابن كثير: "وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه - ومعنا أبو أيوب الأنصاري - فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة• فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله - وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد - وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد"(80).
كما أن في ترك الجهاد إضعافًا لعقيدة الولاء والبراء؛ وذلك كما مر بنا سابقًا أن عقيدة الولاء والبراء تتناسب طردًا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فكلما ركن العبد عن الجهاد ضعفت عقيدة الولاء والبراء وأصابها الوهن؛ وكفى بذلك خطرًا•
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).(/23)
"فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين، ويكبت الكفار ويذلهم لاعتلوا على المؤمنين، وإذا اعتلى الكافر جعل الناس يعبدونه هو من دون الله سبحانه وتعالى، وإذا عبد الناس من دون الله أحدًا فسدت حياتهم كلها؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا إذا سارت على المنهج الذي رسمه الله؛ وهو المنهج الذي يحقق العبودية لله، ويحقق الأخلاق الرفيعة والفضائل الحميدة للبشر؛ فالذي رسم المنهج هو الله الذي خلق الحياة والأحياء العالم بما يصلحهم، أما إذا اعتلى كافر على الأرض وشرع للناس من عند نفسه فإنه لا يعلم جميع الأمور، وليس مبرأ من النقص والهوى، ولا يعلم ما الذي يصلح النفس البشرية فيتخبط خبط عشواء ويفسد الحياة كما هو الحال اليوم• ونظرة على الواقع الذي يعتلي فيه كافر كافية بتقرير هذه الحقيقة، ولولا تخاذل المسلمين عن الجهاد الذي أمر الله به لصلحت حياة الناس الذين يحكمون بشرع الله• لأجل هذا شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى مع الإمام الفاجر الذي لم يصل إلى درجة الكفر؛ لأن بقاء الإسلام وأهله يحكمهم فاسق خير لهم من أن يحكمهم كافر يحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن الحكم بغير ما أنزل الله هو سبب فساد الأرض"(81).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)(82).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد•
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين•
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(83).
"فإذا وجد إحساس لدى أمة ما بضرورة دفع الشر عن نفسها، وضحت في سبيل ذلك براحتها ومتعها وثروتها ومالها، وبشهواتها النفسية، وبروحها وبكل عزيز لديها؛ فإنها لا يمكن أبدًا أن تظل أمة ذليلة مستضعفة، ولا يمكن لأية قوة مهما كانت أن تنال من عزتها أو شرفها• ويجب أن تتصف الأمة الشريفة العزيزة بأن تخفض الرأس أمام الحق، وأن تفضل الموت عن أن تخفض الرأس أمام الباطل، وإذا لم تتوافر لها القوة لإعلاء كلمة الحق ومساعدة الحق فلا بد على أقل تقدير أن تعمل للحافظ على الحق بكل شدة وبكل صلابة، وهذه أقل درجات الشرف"(84).
ويقول سيد قطب رحمه الله: "والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض •• إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!"(85).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى•
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض•
ونظرة فاحصة إلى أيام الفتن التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه تطلعنا على أثر ترك الجهاد في سبيل الله، وما يحدثه من الفتن والاختلاف والافتراق؛ فلقد توقف غزو الكفار طيلة تلك المدة، ولم يستأنف المسلمون فتوحاتهم إلا بعد أن اجتمعت الكلمة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهدأت الفتنة•
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير عن سعيد بن عبدالعزيز قال: "لما قتل عثمان رضي الله عنه ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية رضي الله عنه، فأغزاهم مرات، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل"(86).(/24)
ونظرة أخرى إلى واقعنا المعاصر وما جرى فيه من تعطيل لشرع الله عز وجل - ومن ذلك الجهاد في سبيل الله - ترينا كيف حلَّ بالمسلمين من الفرقة والتحزب والاختلاف بين المسلمين حيث انشغل بعضهم ببعض• وما ذاك إلا من الانحراف عن المنهج الحق وتعطيل هذه الشعيرة العظيمة وما ترتب عليها من تسلط الكفار على بلاد المسلمين وتأجيجهم نار الخلاف والفرقة والتحريش بين المسلمين، وهذه سنة الله عز وجل في كل من أعرض عن شرعه سبحانه ونسي حظًا مما ذكر به قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)
التربية الجهادية
وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر
بعد أن تعرفنا في المقدمات السابقة على معنى الجهاد العام والخاص، ومراتبه ومراحله، وغايته وأنواعه، وفضائله والمخاطر التي تترتب على تركه؛ يحسن بنا الآن أن ندخل إلى صلب موضوعنا؛ ألا وهو ذكر المجالات المختلفة للتربية الجهادية ووسائل الإعداد لذلك، والذي هو الدافع إلى كتابة هذا البحث، وذلك بعد ما رأيت من نفسي ومن كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل من التقصير الكبير في إعداد النفس للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما صاحب ذلك من الترف والركون إلى الدنيا والميل إلى زهرتها وزينتها• وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أرى أنه لا بد من توصيف سريع لواقع المسلمين اليوم في ضوء المقدمات السابق ذكرها في الصفحات المتقدمة•
فأقول وبالله التوفيق:
- إن المسلمين اليوم يقاسون من الذلة والمهانة وتسلط الأعداء والغثائية الشيء العظيم؛ وما ذلك إلا من الإعراض عن الدين وحب الدنيا وترك الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْنَ) قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(87)، ومن ذلك أيضاً حديث العينة السابق ذكره(88).
- يواجه المسلمون اليوم في بعض الأقطار احتلالاً وغزوًا عسكريًا في عقر دارهم، وغزوًا فكريًا وأخلاقيًا في كل ديارهم، وساعد الأعداء في ذلك بطانة السوء والمنافقين من أبناء المسلمين الذين ربوا على عين الغرب وتسلطوا على أزمة الحكم في أكثر بلدان المسلمين وحكموا بقوانين الشرق والغرب ورفضوا الحكم بشرع الله عز وجل، ووالوا أعداءه وعادوا أولياءه•
- وفي ظل هذه الظروف لم يترك الله العزيز الرحيم الحكيم العليم هذا الغزو العسكري أو الفكري بلا مدافعة؛ بل اصطفى من عباده المؤمنين طائفة تقوم بالحق وتدافع الباطل على ضعفها وقلة إمكانياتها؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(89).
وهذه الطائفة منتشرة في الأرض ومتنوعة المهام فمنهم العلماء الربانيون الذين يصدعون بالحق ويعلمون الناس أمور دينهم•
ومنهم المربون والدعاة الذين يدعون الناس إلى الخير ويحذرونهم من الشر، ويجوبون القرى والمدن لنشر التوحيد والخير بين الناس، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل المتاحة التي تساعد على ذلك من: المحاضرات والندوات، والدورات الشرعية، والتأليف، والأشرطة النافعة، إلى غيرها من الوسائل•
ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الذين يحتسبون على الناس ويغيرون المنكرات بقدر استطاعتهم•
ومنهم المرابطون على الثغور الذين يجاهدون العدو الكافر الذي استحل ديار المسلمين ويدافعونه بقدر استطاعتهم• ومع وجود هذه الفئات التي تقوم كل واحدة منها بنوع من أنواع الجهاد إلا أن الفساد والباطل والغزو العسكري والفكري أكبر بكثير من جهد وإمكانات هذه الفئات، وقد تخلو بعض ديار المسلمين من هذه الفئات تمامًا•(/25)
- لقد حذرنا الله عز وجل من أعدائنا الكفار وبطانتهم من المنافقين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:118-119)، وإن ما يدور منذ سنوات ولا سيما بعد أحداث (11 سبتمبر) من حملة صليبية صريحة على الإسلام والمسلمين لهو أكبر شاهد ومصدق لهذه الآية وغيرها من الآيات التي تحذر المسلمين من الكفار وعداوتهم مثل قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217).
.
وإن الحملة الصليبية على أفغانستان وما صاحبها من الدمار المروع الذي أهلك الحرث والنسل، وما زامن ذلك من أحداث فلسطين المروعة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن كل هذا يوجب على المسلمين - ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم - أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم• وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم•
ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبًا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "••• فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ••• وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو"(90).
وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قيام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار• ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولاً، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "•• وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(91).
- في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرًا حتميًا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضًا ولا مناص منه - كما هو الحاصل اليوم في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين التي احتلها العدو الكافر - ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة• كما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار•
- ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرًا مفروضًا - سواء ما كان من هذه البلاد محتلاً أو ما كان مهددًا بالاحتلال والغزو - فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟•
والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف
إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد - وهو الممهد لجهاد الكفار - والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم•
بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان - وذلك حسب القدرة والاستطاعة - وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان• والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجهاد بنوع من هذه الأنواع•(/26)
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية(92)، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).
أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(93).
وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار• والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك• بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها•
وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص• ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه)(94).
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل•
الوقفة الثانية
الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع
حتى يكتمل هذا الإعداد
إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني• إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس•
إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك•
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(95).
ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم• وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين•
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات•
الوقفة الثالثة
مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع
يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:
1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:
( أ ) القدرة في العدة والعتاد•(/27)
(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة؛ والذي سيأتي تفصيله قريبًا إن شاء الله تعالى•
(حـ) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه•
( د ) إذا كان العدو منافقًا أو مرتدًا قد التبس أمره على المسلمين فلا بد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يُعَرِّف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا كما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية• وسيأتي تفصيل هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى•
أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم كما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين•
كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في تركه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط•
2- كما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة•
أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضاً إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو•
3- أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونهما لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى•
الوقفة الرابعة
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني - أو المعنوي - للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)(96).
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين• وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادى إليه•
إن "تحديث النفس بالغزو" الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي• إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورًا عملية لا بد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي•
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته• ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرًا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم• ومن ذلك أَمْرُ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادًا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4).
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:66-67).(/28)
والإعداد الإيماني علمًا وعملاً وحالاً يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيرة إلى غزو الفرس: "فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ••• [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة"•
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: "باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم"(97).
وقال ابن حجر في فتح الباري: "جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو• إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة"(98).
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)"(99).
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله• وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم• وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان• وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل• وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق•
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
فقال: هم (التائبون) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات•
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين•
(الحامدون): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار•
(السائحون): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم•
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام• والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك•
(الراكعون الساجدون) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود•
(الآمرون بالمعروف): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات•
(والناهون عن المنكر): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه•
(والحافظون لحدود الله): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركًا"(100).
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان •• هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!(/29)
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء •• لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا •• كلا •• إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام •• والثمن: هو الجنة •• والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال •• والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد ••• إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق •• بل لا بد أن يقطع عليه الطريق •• ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله• ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا! •• وما دام في "الأرض" كفر• وما دام في "الأرض" باطل، وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، "ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"(101). ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة:112). هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح• وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته• وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله• وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق• وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة• وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك•
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال•
وليست الحياة لهوًا ولعبًا• وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعًا• وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة •• إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله •• ثم الجنة والرضوان ••"(102).
الوقفة الخامسة
جهاد النفس ومراتبه
بعد أن تبين لنا من آية التوبة صفات المؤهلين للجهاد اتضح لنا بذلك أهمية الإعداد الإيماني للمجاهدين حتى يلقوا عدوهم وهم مستعدون معنويًا وإيمانيًا لذلك، وفي هذه الوقفة الأخيرة سيتم تفصيل جوانب هذا الإعداد والوسائل المختلفة لتحقيقه حسب ما يفتح الله عز وجل إنه هو الفتاح العليم، وهو المستعان وحده وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه•
فأقول وبالله التوفيق:
الأصل في الإعداد الذي يسبق جهاد الكفار هو جهاد النفس والشيطان• والمعركة معهما مستمرة ومتواصلة منذ بلوغ المسلم سن التكليف إلى أن يوافيه الأجل• فهو إذن جهاد لا يتقيد بوقت، بل هو مطلوب قبل ملاقاة العدو وأثناء ملاقاته وبعد ملاقاته• والنصر على الأعداء في معارك القتال مرهون بالانتصار على النفس والشيطان في معركة الجهاد معهما•(/30)
والمطلوب في الإعداد المتمثل في جهاد النفس: أربعة جوانب مهمة سبق ذكرها في أول البحث نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأعيدها هنا لمناسبتها ولكونها أصول الإعداد الشامل التي بها ينجو العبد من الخسران في الدنيا والآخرة، ويثبته الله عز وجل بها في ميادين الجهاد وغيرها من المواقف(103).
يقول رحمه الله تعالى: "فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها•
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ ولا يُنجيه من عذاب الله•
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وبتحمَّل ذلك كله لله•
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الرَّبَّانيين؛ فإن السلف مُجمِعُونَ على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعلَّمه، فمن علم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"(104).
وتحت كل مرتبة من هذه المراتب أمور تفصيلية وبرامج علمية وعملية لتحقيقها وتكميلها، ولذلك سأعيد هذه المراتب المذكورة آنفًا مصاغة بشكل تفصيلي؛ وذلك كما يلي:
المرتبة الأولى
مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق
العلم بالشرع والبصيرة بالحق أمر لازم لكل مسلم فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل والمجاهد في سبيله تعالى؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن الدعوة إليه - والجهاد من الدعوة - يجب أن يكون على بصيرة؛ أي على علم بأن ما يدعو إليه ويجاهد من أجله هو الحق الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبدون العلم بالشرع والفهم الصحيح للدين تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد، ويتخلف شرط أساس من شروط قبول العمل عند الله عز وجل؛ ألا وهو المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم•
والعلم الذي يجب أن يستعد به المجاهدون في سبيل الله عز وجل نوعان: 1- عيني• 2- وكفائي•
أما العيني: فهو الذي يعنينا في هذا المقام وهو في حق المجاهد نوعان:
أ - نوع عام: يشترك فيه المسلمون جميعًا، وهو العلم بالفقه الواجب على كل مسلم، وهو: الفقه بالعقيدة، والفقه بالأحكام العينية، ومن ذلك فهم أصول الإيمان الستة على مذهب السلف الصالح، ومعرفة الإيمان والتوحيد وأنواعه، وما يضاده من الكفر والشرك والنفاق، والمعرفة المجملة بضوابط التكفير، وما يترتب على ذلك من الأحكام•
ومن ذلك معرفة أركان الإسلام علمًا وعملاً، والمعرفة الإجمالية بقواعد الأحكام ومقاصد الشريعة، ومعرفة المحرمات العينية والفروض العينية الواجبة على كل مسلم• كل هذا مما يجب العلم به قبل الجهاد، فإن فرض على المسلمين القتال قبل إتمامه، فإنه يحصله أثناء الجهاد ويكمل منه ما نقص• والمقصود أن لا يُقدم المسلم - فضلاً عن المجاهد - على أمر حتى يعلم حكم الشريعة فيه، فإن لم يعلم فليسأل من يدله على حكم الشرع فيه؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: من الآية7)، ومما يدخل في هذا: العلم بسبيل المجرمين، والبصيرة بواقع الكفار الذين يراد قتالهم•
ب - نوع خاص: وهو العلم بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي سيجاهد المسلم تحتها•
كل هذا مما يجب أن يعلمه المجاهد قبل الشروع في الجهاد؛ حيث أن الإخلاص لا يكفي وحده، بل عليه أن يعرف ما إذا كان الجهاد الذي ينوي الدخول فيه مشروع ومحبوب إلى الله عز وجل أم ليس كذلك• وهذا فرض واجب؛ لأن الجهاد فيه ذهاب الأنفس والأموال، والمسلم لا يملك إلا روحًا واحدة، فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضيًا لله عز وجل• وأسوق فيما يلي مثالين اثنين يوضحان حرص السلف الشديد على علمهم بمشروعية أي جهاد قبل الدخول فيه•(/31)
المثال الأول: المناظرة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه مشروعية قتالهم وناظر أبو بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدر عمر لقتالهم• فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها• قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(105).
المثال الثاني: روى الذهبي في السير قال: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبدالله يدعونه إلى رأيهم فقال: "يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرِّر بها"(106).
ومما يلحق بالعلم بمشروعية الجهاد: العلم بالراية التي سيجاهد المسلم تحتها، وما غايتها؛ فهذا مما يجب العلم به، فلا يكفي أن يعلم هل قتال العدو واجب أم غير واجب، أم غير جائز، بل لا بد من معرفة الراية التي سيقابل العدو تحتها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: من الآية76). فمما ينافي القتال في سبيل الله: القتال تحت راية عمية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)(107).
والمقصود أنه كلما كان المسلم على بينة من سبيل المؤمنين الذي يحبه الله عز وجل، وعلى بينة من سبيل المجرمين كان هذا أكبر دافع للجهاد في سبيل الله تعالى•
وأما العلم الكفائي: فيكفي أن يعلمه طائفة من المجاهدين؛ حيث يفرغ بعضهم لطلب العلوم الشرعية اللازمة لسد حاجات الدعوة والتعليم والإفتاء، ويكونوا من ذوي الاستعداد لذلك• وإذا وجد الحد الأدنى من الكفاية سقط الوجوب عن الآخرين• والأصل في هذا أن يكون قبل ملاقاة الأعداء؛ لأن أيام القتال أيام شغل، لكن إن فرض على المسلمين القتال قبل إتمام حد الكفاية من هذا العلم فينبغي إتمامه أثناء الجهاد قدر المستطاع•
والخلاصة:
أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل القول والعمل• والجهاد من العمل، فإن لم يكن العلم صحيحًا موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفًا• ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال• فلما جاء الإذن بالجهاد، ثم فرضه ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة• ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين - وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح - انطلاقًا من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لبناء العلم الشرعي في النفوس؛ سواء على هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة• والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس، فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده•(/32)
وأختم هذه المرتبة من جهاد النفس بكلام نفيس لأحد الصحابة رضي الله عنهم يتبين منه أهمية معرفة الحق والعلم به، وأنه ضروري للمجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه لا يكفي في المجاهد أن يكون مخلصًا لله تعالى في جهاده، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك أن يكون جهاده على الحق• والحق لا يتبين إلا بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين، والواقع• فقد روى ابن وضاح - رحمه الله تعالى - في كتابه "البدع والنهي عنها" بسنده: "قال: حدثنا أسد قال: حدثنا مبارك بن فضالة عن يونس ابن عبيد عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان - وأبو موسى الأشعري قاعد - فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• قال أبو موسى سبحان الله، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار• ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا"(108).
المرتبة الثانية
مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه
إن تعلم العلم والتزود به ليس مطلوبًا لذاته، وإنما هو مطلوب للعمل والسير في ضوئه إلى الله تعالى؛ بفعل ما يحبه ويرضاه واجتناب ما يسخطه وينهى عنه•
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة• وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها - قبل جهاد الكفار - على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه•
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادًا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببًا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة - وما أحوج المجاهدين إلى معية الله تعالى ونصره وتأييده - كما أن في اجتناب المعاصي والمحرمات بعدًا عن أسباب الهزيمة والخذلان؛ فما شيء أخطر على المجاهدين من ذنوبهم؛ قال الله تعالى: {أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً إنَّ پلَّهّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ قّدٌيرِ} [آل عمران: 165] ، وقال سبحانه عن بركة العمل الصالح والامتثال لأوامر الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66-68).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في فضل التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل: (•• وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه •••)(109).
كما أن فعل محاب الله واجتناب مساخطه يورث التقوى في القلب، والتقوى تورث ثمارًا عديدة منها تفريج الكروب وتيسير الأمور؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2)، ومنها تأليف القلوب؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96). وكلما كثر في المجاهدين من يتصف بهذه الصفات كانوا أقرب إلى نصر الله تعالى• فلذلك وجب الاستعداد بالأعمال الصالحة التي تؤهل لهذه المقامات الرفيعة التي ينصر الله عز وجل أهلها ويثبتهم ويستجيب دعاءهم•
ذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمته لمحمد بن واسع العابد الزاهد المجاهد رحمه الله تعالى• قول الأصمعي: "لما صافَّ قتيبة ابن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء• قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير"(110).
ومن الأعمال الصالحة التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد ما يلي:
أولاً : أعمال القلوب:(/33)
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)(111).
ومن الأعمال القلبية التي يجب أن يعتني بها المربون في الإعداد للجهاد ما يلي:
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه:
المحبة هي أصل العبادة، وهي ثمرة معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى، وهي مستلزمة لتوحيده وطاعته، وكلما قويت المحبة في قلب العبد ظهر أثرها في الانقياد التام لأمر الله عز وجل والتضحية في سبيله، وبغض أعدائه ومجاهدتهم وموالاة أوليائه ونصرتهم• كما يظهر أثرها في البعد عن الحزبيات المقيتة والرايات العصبية والمنافع الدنيوية؛ فلا ينقلب بغيض الله حبيبًا له بإحسانه إليه، كما لا ينقلب حبيب الله له بغيضًا إذا وصله منه ما يكرهه ويؤلمه؛ والمجاهدون في سبيل الله عز وجل أو من يعدون أنفسهم للجهاد أحوج من غيرهم إلى تزكية هذا العمل القلبي الشريف؛ وذلك حتى لا يتورط المجاهد في رايات عمية ولوثات حزبية أو وطنية أو قومية•
والتربية على هذا الأصل تأتي من الفهم الصحيح للعقيدة على مذهب السلف الصالح، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، مع القراءة في سير الصالحين والمحبين وتضحياتهم وجهادهم، وما تحلوا به من صدق في المحبة له سبحانه والمحبة فيه• كما أن للقدوات من المربين والموجهين والعلماء أثرًا في تقوية هذا العمل القلبي وتزكيته• وكما ذكرت في أول البحث من أن كثيرًا من الأعمال القلبية ستبقى ناقصة وضعيفة ولا يكملها ويقويها ويبلغ بها ذروة سنامها إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو ذروة سنام هذا الدين وفي بيئته وأجوائه تصل كثير من أعمال القلوب إلى ذروة قوتها وكمالها(112).
2- الإخلاص لله عز وجل:
وهو من أعظم أعمال القلوب والتي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وهو أن يريد الإنسان بقرباته وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل والذي يقدم فيه العبد أغلى ما عنده - وهي نفسه التي بين جنبيه - فإذا لم يكن قاصدًا بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته في الآخرة خسر خسرانًا مبينًا؛ ولذلك يجب إعداد المجاهدين قبل الجهاد بالإخلاص في أعمالهم والتجرد لله سبحانه في حركاتهم وسكناتهم•
وكما أن للإخلاص أثره في نيل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين، فإن له أثرًا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: من الآية18)، وإذا تمكن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحد الهم في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا•
والإخلاص من أشرف أعمال القلوب التي يجب أن يعتنى بها في جميع الأعمال، ولا سيما في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من فتنة الشهرة، أو حب المدح، والثناء عليه بالشجاعة والبذل والتضحية•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وفي ماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(113).
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده "في سبيل الله"• وكذلك من يقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيدًا إلا إذا كان في سبيل الله• قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئًا من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون "في سبيل الله" •• في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله• في سبيل هذا الحق الذي أنزله• في سبيل المنهج الذي شرعه• في سبيل هذا الدين الذي اختاره •• في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار• وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر •• غير الله ••(/34)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(114) أخرجه مالك والشيخان•
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثًا• كل ذلك يقول: (لا أجر له)(115) أخرجه أبو داود•
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة• والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك• والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني• والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)(116).
فهؤلاء هم الشهداء• هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله•
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبدالرحمن بن أبي عقبة عن أبيه - وكان مولى من أهل فارس - قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي• فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)(117).
فقد كره له " أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين• وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء"(118).
ويقول في موطن آخر - رحمه الله -: "إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده• والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية• ويقاتل رياء• أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(119).
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة، إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف• من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة•
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة• وما عدا هذا فليس لله ولكن للشيطان•وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد• وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام• وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف"(120).
ويقول في موطن ثالث: "ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله• قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب• ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ••حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء •• وموعدًا كذلك للفصل بين الحق والباطل، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه• فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والزاد؛ إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(121).(/35)
ومن ثمار الإخلاص في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لأن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى وحظوظ النفس، فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: من الآية46).
وإن مما يقوي الإخلاص وينميه: صدق المحبة لله تعالى - والتي سبق ذكرها - وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى واليقين الصادق باليوم الآخر، والقراءة في سير الصالحين المخلصين وكيف كان حرصهم على تحقيق الإخلاص في جميع أعمالهم، وخوفهم من الرياء والنفاق، وإخفاؤهم لأعمالهم، وحفظهم لها من كل ما يكون سببًا في إحباطها وإبطالها؛ فإن ذلك مما يشوق النفوس إلى أعمالهم واللحوق بهم•
كما أن وجود القدوات المخلصة التي تعلم وتربي وتوجه يعد من الأسباب المهمة في إعداد المجاهدين المخلصين، كما أن من أعظم أسباب الإخلاص الزهد في الدنيا والتخفف منها، والإكثار من ذكر الموت، والتطلع إلى الدار الآخرة، والطمع في رضوان الله تعالى ونعيمه فيها، والخوف من سخطه وعذابه• وهذا ما سيدور الكلام حوله في الفقرة التالية من أعمال القلوب•
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة:
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح• ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة•
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة•
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزامًا علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعًا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا(122)، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة،وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا - وهاهم من حولنا - فإن أول من يقعد عن الجهاد فيذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم• والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها• ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبأ:34-35)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود: من الآية116).
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد؛ لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد• والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم•(/36)
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: "الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التَّغَلُّب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببًا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتَفَنَّقوا(123) في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم"(124).
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان عليه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا•
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، "والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم• والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر• فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون•
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت• والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)"(125).
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس،ن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلاّ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها• والآية تقرر سنة الله هذه •••"(126).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته• وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم•
كما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالاً للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم• ولنتصور شخصًا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يرى شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر• فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب والازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما•
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين• إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثَّرَ في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال فعلاً بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟•(/37)
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم •••)(127).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها كما قال: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)(127) أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها• فهذا أحد النظرين•
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تَبَيَّن له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تَبَيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"(128).
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أيامًا أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلاً للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به•
4- التوكل على الله عز وجل :
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها• وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها•
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحوِّل هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملاً وحالاً•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص ••• ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل• فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به•••"(129).
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه• من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه•
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (لأنفال: من الآية60)، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).(/38)
وظاهر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين• ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين• قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) (التوبة: من الآية25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب• وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وَزَرًا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختيار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورًا به ذُم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما• وإن كان السبب محرمًا حرم عليه مباشرته وتَوَحَّد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق• وإن كان السبب مباحًا نظرت هل يُضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته - [إلى أن قال] - وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء"(130).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك•
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى• وهذا الفريق من الناس يفرِّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل•
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين•
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية،ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه• ومعلوم أن المسلمين في كل وقت - وبخاصة في هذا الوقت - لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض•(/39)
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم• ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية7)، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:7)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31)، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها• ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بيانه(131).
ثانياً : أعمال اللسان :
1- الذكر والدعاء :
الدعاء هو العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وفي الذكر ثناء وتمجيد وتسبيح وحمد لله تعالى، وفي الدعاء تبرؤ من الحول والقوة وتعلق بقوة الله وحده؛ فهو في الحقيقة يعبر عن حقيقة التوكل والاستعانة بالله عز وجل وحده•
وقد مر بنا في صفات المجاهدين الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم أنهم (العابدون الحامدون)• والدعاء: هو العبادة، والحمد: هو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبما أنعم وأحسن على عباده•
وقد أمر الله عز وجل عباده المجاهدين أن يستعدوا للقاء عدوهم بكثرة الذكر والدعاء والتضرع فإنها من أسباب النصر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (لأنفال:45).
وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكارًا في اليوم والليلة ينبغي للمسلم وخاصة المجاهد ومن يعد نفسه للجهاد أن يحفظها ويذكر الله بها في أوقاتها؛ فهي من أكبر العون في طمأنينة القلب وتوكله على الله وحده واستحضار معية الله سبحانه له؛ وذلك كما جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم •••)(132) الحديث•
وأعظم الذكر قراءة القرآن قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: من الآية50)، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وإن مما ينبغي على الداعية والمجاهد أن لا يغفل عن كتاب الله عز وجل، بل يتعاهده حفظًا وتلاوة وتدبرًا، وأن يكون له حزب يومي لا يخل به مع كتاب الله عز وجل•
2- التوبة والاستغفار :
وقد ذكر الله عز وجل في آية التوبة أن من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم أنهم (التائبون)•
والتوبة: الرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه والندم على فعل الذنب بعد الإقلاع عنه، وعدم الرجوع إليه• وحاجة المجاهد إلى التوبة والاستغفار شديدة؛ لأن المجاهد معرض أكثر من غيره للعجب بعمله الصالح مع دنو أجله وتعرضه للموت في كل لحظة ولأن أكثر ما يخذل المجاهدين في المعارك ذنوبهم؛ فبالتوبة والاستغفار تمحى آثار الذنوب والمعاصي وتزول أسباب الهزيمة والخذلان، فضلاً عن أن التوبة عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها•(/40)
والمجاهد بشر ليس بمعصوم، بل إنه معرض للذنوب، ولكنه لا يصر على الذنب، بل يسرع الرجوع ويستغفر ربه عندما تضعف نفسه وتزل قدمه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201)، وقال سبحانه في الآيات التي سبقت قصة أحد في آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يكثر من الاستغفار ويقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (133)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)(134).
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسيأتي التفصيل فيها إن شاء الله تعالى في المرتبة الثالثة من مراتب جهاد النفس وهي جهادها على الدعوة والتعليم•
4- صدق الحديث، وطيب الكلام :
وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس في تحقيقه، وليس المقام مقام تفصيل في فضل الصدق وأدلة ذلك، وإنما المراد أن الداعية والمجاهد في سبيل الله من أخص أوصافه أنه صادق لا يبطن خلاف ما يظهر، ولا يكذب على إخوانه في حديثه بل يصدقهم، وينصح لهم ولا يغشهم، وبهذا تصفو النفوس وتطيب القلوب•
ثالثاً: أعمال الجوارح، ومن أهمها في الإعداد للجهاد:
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها:
سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة، والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون)؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها• ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية•
وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى•
ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي مر بنا قريبًًا، والذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله• وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل• وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا•
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) فيقول: "وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد إذا لم يكن هناك زاد ومدد ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد• المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع• ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والثقة، واليقين•(/41)
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئًا وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشًا والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق •• هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربه القوي الباقي •• إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض• إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود •• ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال)(135) •• ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله•
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة• والعبادة فيه ذات أسرار• ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر •• إن الله سبحانه حينما انتدب محمدًا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).
فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن •• إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان"(136) ا•هـ•
2- الصيام:
والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به)(137).
والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة•
وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).
وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون)، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين•
والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى• كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس•
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها :
جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها• وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح• فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف• فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك•(/42)
وقد وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)(138). وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقًا)(139). وقال أيضاً: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(140)، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة•
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل•
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيط، وكف الأذى، والحلم والإناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة•
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء؛ وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة•
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته• وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)(141). وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه•
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس•
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة•••)(142) ا•هـ•
والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم• ومن ذلك:
( أ ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله:
وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل•
ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن)(143).
ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم• وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل•
ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق•
كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم•
( ب ) العفو والصفح وكظم الغيظ :
وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة• قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).(/43)
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:121). ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) (آل عمران: من الآية137) فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: "••• وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب• والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين• والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي• وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك"(144).
والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة• وسيأتي الحديث عن خلق الصبر إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل عند الحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس•
وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية - ولا سيما خلق الحلم والعفو والصفح - فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له• ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.
وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم - وذكر منها - إخلاص العمل لله)(145).
كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة•
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "•• وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام"(146).
( ج ) الأمانة وحفظ العهد والوعد :
لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة "المؤمنون": (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية58)، ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27).
والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).(/44)
وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها•
وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه• ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله•
كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة)(147). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: وكيف إضاعتها• فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)(148).
ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها• لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب•
ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: (ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علىَّ ساعيه• وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)(149). وقوله بايعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس• فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات•
المرتبة الثالثة
مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس
والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذَيْن يسبقان جهاد السنان،ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس•
إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر•ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) (التوبة: من الآية111) الآية. ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112). والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد - كما مر بنا - هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله•
ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزامًا قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!
والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون•(/45)
أما جهاد الدفع، فكما أشرت في أكثر من مرة إلى أنه في الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطًا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لُبِّس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق• وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرَّفوا الناس حقيقته وعرَّفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وعندما يُؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يُفترض سلفًا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه• وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق، ومعرفة ما يناقضه• وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره•
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك• ولهذا يقال: والضد يُظهِر حُسْنَه الضِدُ)(150).
وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) وذلك بقوله: "إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية •• ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص •• كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل •• وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذي يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: من الآية31). ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين•
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح• واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم• فهما صفحتان متقابلتان• وطريقان مفترقتان •• ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ••
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات• فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم؛ بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان؛ ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين•(/46)
وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية• فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لا يدخل معهم في هذا الدين •• ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا •• إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته •• ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا• وإذا هي تنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا - وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا! - فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله •• وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله •• وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد؛ كائنًا من كان اسمه ولقبه ونسبه• وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد• وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ••
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! •• تهمة تكفير "المسلمين"!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى •• وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المومنين وسبيل المجرمين •• ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! ••
••• أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس؛ فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون"، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون"(151) ا•هـ•
وإن المتدبر لهديه صلى الله عليه وسلم في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاده صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي،ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك• وما ذاك - والله أعلم - إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة• ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أُمر المسلمون أن يكفو أيديهم في مكة•(/47)
وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمن وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب وفقه الله تعالى فيقول: "نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادًا كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان جيلاً فريدًا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس "النموذجي"، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون، حين يئول إليهم أمر التعليم•
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة - لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله ،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض• لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر•
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وَجَّهَنَا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديًا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكًا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ••• يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين•
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ). ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة•
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:
أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين•
فمَن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصّلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة•
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحًا تمامًا، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)... وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم•
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضًا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق•(/48)
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعًا، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام •• فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرًا هينًا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله•
وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خَلَد أحد - كما استقر في خَلَد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله إلا الله •• هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية "لا إله إلا الله" على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة ••• لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعًا من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرًا لا شبهة فيه؛ كفرًا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله •• وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: من الآية42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، هو من مستلزمات الدعوة •• فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس "لا إله إلا الله"، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب•
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!"(152).
والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف - وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد - والنهي عن المنكر - وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر - هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم• كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم•
كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها•
كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفًا• وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها•(/49)
ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام• لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد• وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضًا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله•
وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46). ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد•
وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يُسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى - عندما يأخذ بها المربون - أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة• وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل• وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفًا واحدًا وقلوبًا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم• فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين• نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(153).
المرتبة الرابعة
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق
وهذه المرتبة من جهاد النفس لا يستغني عنها المسلم في جميع مراتبه السابقة، وفي عمره كله• وبدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك• وإذا كان لا غنى عن الصبر لكل مسلم، فإنه في حق المجاهدين والذين يعدون أنفسهم للجهاد أشد وآكد؛ وذلك لبعد الشقة وطولها•
إذن فالصبر خلق عظيم رفيع الشأن لا بد من التزود به في أداء الطاعات واجتناب المحرمات، وفي مواجهة المصائب والمكروهات وفي مقاتلة الأعداء قال تعالى عن المتقين: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: من الآية177).(/50)
والحديث عن الصبر وأنواعه ومراتبه وفضله لا يتسع له المقام(154)، وليس هو غرضنا في هذه الدراسة• وإنما مقصودنا هو الإشارة إلى ضرورة توطين النفس على الصبر والتحلي به للاستعداد للجهاد في سبيل الله تعالى لأنه الزاد، وهو من أسباب النصر على الأعداء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
وما أحسن ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية إذ يقول: "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة• إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء •• الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرر والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع ••
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل •• لا تصوره حقيقة الكلمات• فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة• إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي• فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء؛ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه •• والمصابرة •• وهي مفاعلة من الصبر •• مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين •• مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة• بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء• فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار •• ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء• وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة: الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء •• وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدًا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس• وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان!"(155) ا•هـ•
والمواطن التي يحتاج الداعية والمجاهد أن يوطن نفسه فيها على الصبر كثيرة منها ما ذكره سيد قطب في النقل السابق، ومنها ما لم يذكره، ومن أهمها:
- الصبر على شهوات النفس ورغباتها وميلها إلى الراحة والترف والدعة•
- الصبر على ضعف النفس ونقصها وسرعة ملالها•
- الصبر على ضغوط الواقع وأذى الأعداء؛ فلا يتغلب اليأس ولا القنوط•
- الصبر على طول الطريق وشدة الابتلاء؛ فلا يدفع إلى العجلة والمواجهة قبل أوانها•
- الصبر على الناس وشهواتهم وجهلهم وسوء تصوراتهم، وانحراف طبائعهم، وإعراضهم عن الحق•
- الصبر على إخوان الدعوة والجهاد، وما يطرأ عليهم من ضعف أو ما يصدر منهم من بعض الأذى والأخطاء؛ فلا يؤدي ذلك إلى الفرقة والتنازع•
- الصبر على انتفاش الشر وانتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وقلة الناصر، وضعف أتباع الحق وقلة حالهم، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب•
- الصبر على ضبط النفس في ساعات القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال ذلك بالتواضع والشكر لله عز وجل، وبدون خيلاء أو تجاوز في القصاص الحق إلى الاعتداء•(/51)
- الصبر على البقاء في صلة مستمرة مع الله عز وجل في السراء والضراء، والاستعانة به وحده، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة•
- الصبر على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان للدعوة والجهاد•
- الصبر على تخذيل المخذلين وإرجاف المرجفين، وشبهات المشبهين•
- الصبر في ساحات الوغى على قتال الكافرين، والمصابرة والمرابطة في ذلك•
والتربية على الصبر، وتوطين النفس عليه يحتاجان إلى جهد ومشقة وأخذ بالأسباب المعينة عليه• ومن أعظم الأسباب تقوية الصلة بالله عز وجل وكثرة ذكره وتسبيحه وكثرة العبادة• وهذا واضح من توجيه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم؛ حيث يغلب على الآيات التي يأمر فيها الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر أن تكون مقرونة بالأمر بالتسبيح والصلاة والاستغفار؛ قال الله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان:24-26)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:49)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). والآيات في هذا المعنى كثيرة•
كما أن مما يعين على الثبات والصبر وعدم النكول والضعف ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصبر عن أنواع الصبر، وأن هناك شروطًا ثلاثة إذا حققها العبد في صبره حصل له الثبات، وإن تخلف واحد منها أو أكثر ضعف صبره وخذل• وملخص هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون الصبر بالله تعالى؛ وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة والاعتراف بالضعف والهلكة لو وكل العبد إلى نفسه• وهذا ينبه على ضرورة الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الصبر والثبات؛ لأنه سبحانه هو المصبر والمثبت ولولاه لم يصبر الصابرون ولم يثبت المجاهدون•
2- أن يكون الصبر لله تعالى؛ بأن يكون الباعث على الصبر محبة الله عز وجل وإرادة وجهه، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض•
3- أن يكون الأمر المصبور عليه مرضيًا لله تعالى ودائرًا مع مراده الديني وأحكامه الدينية صابرًا نفسه معها سائرًا بسيرها، يتوجه معها أين توجهت ركابها، وينزل معها أين استقلت مضاربها(156).
ونظراً لأهمية هذه الشروط في تحقيق الصبر وكماله كان لزامًا على من يعدون أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل أن يعتنوا بهذه الأمور، ويبذلوا الأسباب العلمية والعملية في تقويتها في النفس، وأن يتواصوا بها؛ فما خذل عبد في موقف وضعف صبره فيه إلا بتخلف واحد أو أكثر من هذه الشروط•
تنبيه مهم:
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط•
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج• وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا•
وقد ينظر إلى هذه الممارسات - كما أسلفت - على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها - والله أعلم - قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد• وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل(157).(/52)
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين•
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77)، وامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد• ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلموصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون• فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا• ولا يخفى ما في هذا من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة•
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور• وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره• ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا•
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، ولم تكن ذات النصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يحترقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار"(158).
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة •• بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل؛ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار •• حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدَّروا، وأشق مما تصوروا• فكانوا أول الصف جزعًا ونكولاً وانهيارًا •• على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف• فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته •• والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!(/53)
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة• فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة• والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال• وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (النساء: من الآية77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً؛ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض؛ وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه - إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة •••"(159).
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: "أما حكمة هذا فلسنا في محل الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية• أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة •• وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا، وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة •• نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب •• على أنه مجرد احتمال •• وندع ما وراءه لله• لا نفرض على أمره أسبابًا وعللاً، لا يعلمها إلا هو •• ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب •• اجتهادية •• تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين ••• ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئات تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم•
(ب) وربما كان ذلك لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية ••••
(جـ) وربما كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين •••
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة؛ فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك•••
(هـ) لم يكن هناك حاجة للقتال؛ فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة •••)(160).
ويشير الأستاذ محمد قطب وفقه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: "من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء: من الآية77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أُمرنا بقتالهم)(161).
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت•(/54)
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار•
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر•
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش••!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية••! ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في "التأديب" إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم•
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ••••• ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب،وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء •• لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة•
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير •• إنه قضية "لا إله إلا الله" دون غيرها من القضايا ••
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ••
ليس الصراع على "شرف" سدانة البيت، ولا "وجاهة" خدمة الحجيج ••
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد•
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائمًا - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله•
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية "الشرعية"، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين•
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع•
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله•
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم•
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله"(162).
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله•
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق• وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم•(/55)
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين• وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين•
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1-2).
وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا• وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله• وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله•
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس•
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً• وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة• لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف•
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهمية وفضل جهاد البيان، وذلك في كتابه العظيم "منهاج السنة" وهو يرد على شبهة الرافضي في أن عليًا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل• حيث أوضح - رحمه الله تعالى - عكس ذلك بقوله:
"ومما ينبغي أن يُعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إمّا وبالاً عليه، إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له، إن استعملها فيما لا يقرّبه إلى الله تعالى•
فشجاعة عليّ والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة، إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقّوا ما حمد الله به المجاهدين•
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجّة والبيان والدعوة•
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52) فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفّار بالقرآن جهادًا كبيرًا• وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له• وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال• وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد• وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن• وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن•
قال أبو محمد بن حزم: "وجدناهم يحتجون بأن عليًا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفّار وضربا، والجهاد أفضل الأعمال• قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان• والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير• والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب• فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر• أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ• وأما عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد• وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما•
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر•(/56)
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويَدًا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارًا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب، وأُنْسًا بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة•
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليًا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قُتل في صدر الإسلام، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة - يعني أبا دجانة - وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل مع ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليًا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعليّ بعثا إلا إلى بعض حصون خيْبر ففتحه• فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليًا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم"(163).
إذن فأمر الإعداد للجهاد بالإيمان والبيان ليس أمرًا سهلاً إذا أخذ بعزم وجد• وكم يحتاج من التضحيات والصبر والمصابرة وطول النفس• وقد يتعرض أهله فيه من البلاء والقرح والشدائد ما قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات الوغى من المهالك والمتالف•
ونظرة سريعة إلى ما تعرض إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة من البلاء والتعذيب والحصار والتجويع والتشريد تعطينا دليلاً على أن جهاد التربية والإعداد والبلاغ والبيان يحتاج إلى صبر وتضحية واستعلاء على حب الراحة والسلامة لا يقل عن الصبر على قتال الأعداء•
إذن فالقول بأن الدعوة إلى الصبر على إعداد النفوس للجهاد وبيان الحق للناس، وعدم العجلة في منازلة الكفار قبل أوانها؛ بأنه هروب من الشدائد وإيثار للسلامة ليس صحيحًا ولامقبولاً لما قدمنا•
نسأل الله عز وجل العافية في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله•
تعقيبات
في ختام هذه الرسالة المتعلقة بالتربية الجهادية أورد بعض التعقيبات المهمة المتعلقة بالإعداد للجهاد أُضمن بعضها تتمات لمسائل لم تأخذ حظها من الإيضاح مع القناعة بأهميتها• وأضمن بعضها الآخر استدراكًا لبعض المسائل التي لها علاقة بالإعداد لكنني غفلت عن ذكرها في زحمة المسائل الأخرى•
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض :
إن ما ذكر من جوانب الإعداد ومراتبه (العلم والعمل والدعوة والصبر) لا يعني البقاء في مرتبة بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها• إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد• والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها؛ فمجاهدة النفس وإعدادها بالتعلم والتبصر في الدين لا يعني ترك مجاهدتها بالعمل الصالح، ومجاهدتها بالدعوة إلى الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك كله• وكلما علم العبد شيئًا من دين الله تعالى جاهد نفسه للعمل به والدعوة إليه والصبر على العمل والدعوة معًا• والمسلمون اليوم - وبخاصة من يهمهم أمر هذا الدين - لديهم رصيد لا بأس به من العلم يبدأون به الإعداد ويُحَوِّلون فيه هذا العلم إلى عمل ودعوة؛ أي إنهم لا يبدأون الإعداد العلمي وهم خلو منه؛ بل إن لديهم من العلم قدرًا جيدًا، وحينها يطالبون بالجهاد للعمل بهذا العلم وتكميل ما ينقصهم من العلم العيني لو وجد نقص في ذلك• والمقصود أن المربين لن يجدوا أنفسهم أمام أفراد لا علم عندهم، بل العلم موجود والحمد لله، والمطلوب تكميله في نفس الوقت الذي يحصل فيه المجاهدة بالعمل به والدعوة إليه•
التعقيب الثاني : تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهاد، والعناية بالمبرزين منهم :(/57)
يتفاوت المتربون الذين يُعدون للجهاد في الأخذ بهذه المراتب وتكميلها وإتقانها، وليس مطلوبًا أن يكونوا في مرتبة واحدة، وإنما المطلوب التأكيد عليها والسعي لمجاهدة النفس في الأخذ بها• مع التأكيد على ضرورة العناية بطائفة من الذين يعدون أنفسهم للجهاد، والذين تظهر عليهم علامات الصدق والجد والإخلاص والهمة العالية لتكميل هذه المراتب؛ فهؤلاء وأمثالهم ينبغي أن يكون لهم شأن آخر في الإعداد، وأن لا يتسامح معهم كما يتسامح مع غيرهم، وإنما يطلب منهم تكميل هذه المراتب قدر الإمكان؛ حتى يكونوا على قدر من العلم بالشريعة والواقع يؤهلهم لتربية أنفسهم والتأثير على الناس، ويكونوا على قدر كبير من: العمل الصالح، والإخلاص، والصدق، والتوكل على الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات فرضها ونفلها؛ حتى يتحملوا الشدائد ويكونوا قدوات لغيرهم في العلم والعمل، ويكونوا على قدر كبير من الدعوة والتأثير في الناس وبيان الحق والباطل لهم، وعلى قدر عظيم من الصبر يتحملون به ما يواجههم من الأذى والابتلاء من الكفار والمنافقين وأصحاب القلوب المريضة•
وهذه الفئة من الدعاة والمجاهدين ضرورية لأنها بمثابة القاعدة الصلبة التي يثبتها الله عز وجل عند الشدائد، ويثبت بها الصف الإسلامي من التفكك والإضطراب عند النوازل• وهذا هو الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة والإعداد في العهد المكي؛ حيث قام بتربية هذه الفئة من المسلمين ورباها بالعلم والعمل والتجرد والإخلاص والصبر والتوكل على الله عز وجل، فصلب عودها وثبتت أمام البلاء والمحن، وكانت القاعدة الصلبة التي قام عليها سوق الدعوة والجهاد، وفتح الله عز وجل بها الدنيا، وحمى بها بيضة الإسلام من الأعداء المتربصين•
وعن أهمية إعداد القاعدة الصلبة يقول الدكتور/ عبدالله القادري حفظه الله تعالى: "كثير من الناس يستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم فينفذون أوامر الله ويجتنبون ما نهى عنه، وقد يخلطون العمل الصالح بآخر سيء، ولكن قليل هم الذين يستجيبون لهذا الدين فيطبقونه على أنفسهم، ويحملون غيرهم من قريب أو بعيد على تطبيقه بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل المال والجاه والمنصب في سبيل الله وتقديم النفس في ساح الوغى لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله•
هذا القليل يجب أن يأخذ حظًا أوفر من الدعوة والتوجيه والتزكية والتطهير والإعداد لتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويعنى به أكثر من غيره؛ لأن هذا الصنف هو الذي يثبت وقت الشدائد والمحن، وهو الذي يلتف حوله من لم يبلغ مثله في إيمانه وتحمله• ولولا أن الله تعالى يهيئ لعامة الناس رجالاً يلتفون حولهم ويقتدون بهم ويرون فيهم ما يجذبهم إلى الثبات معهم لما كان لأولئك العامة من شأن يذكر، بل لكانوا في مهب الرياح أينما تميلها تمل•
لذلك كان من الواجب على الدعاة أن يختاروا ذوي المواهب العالية في العلم والعمل والذكاء والقدرة على الاستيعاب، والصبر والجلد والقيادة؛ يولوهم من العناية ما يأخذ بأيديهم إلى المستوى اللائق بهم، ويدربوهم على تحمل مسؤولياتهم؛ كلٌّ فيما يظهر أنه أنفع فيه من غيره، وذلك هو الذي يضمن بتوفيق الله استمرار صفوف الدعاة إلى الله وقادتها؛ لأن القائد الواحد يربي قادة، والصف يربي صفوفًا؛ كلما ذهب قائد حل قائد آخر محله، وكلما ذهب صف تقدم إلى مكانه الصف الذي يليه، كما يضمن بقاء الروح الجهادية في النفوس ••• وهذا الإعداد يكون بتقوية الإيمان، وتزكية الأخلاق الفاضلة، وكثرة الطاعة لله ولرسوله، والبعد عن المعصية، والتوعية الكاملة والفقه في الدين ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس، والإخلاص الكامل والتجرد لله وحده•
وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها العواطف •••"(164).
وعن ضرورة تكوين القاعدة الصلبة والاعتناء بها ودورها في حماية الدين وأهله يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار فيقول: "إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي•
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارات تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد الجزيرة عن الإسلام•(/58)
••• إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذي تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً •••"(165).
التعقيب الثالث : الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم، وتبوّئهم للمراتب العليا فيه :
وهو مرتبط بما قبله؛ وذلك من جهة التأكيد على ثمرة مهمة من ثمار الإعداد القوي للقاعدة الصلبة؛ ألا وهي تحصين الصف المسلم أثناء الإعداد وأثناء الجهاد من المنافقين الذين يظهرون الصلاح وحب الدعوة والجهاد حتى يخترقوا صفوف الدعاة والمجاهدين ويصلوا إلى مستويات متقدمة في التوجيه والتأثير، وهدفهم من الاختراق أمور خطيرة من أهمها: زعزعة الصف من داخله، وبث الشقاق والفرقة بين الدعاة والمجاهدين، ومن أخطر أهداف الاختراق: الاطلاع على خطط الدعاة وأسرار المجاهدين وإيصالها إلى أوليائهم من الطواغيت والكفرة حتى يقطعوا على الصف المسلم أهدافه ويعرضوا أهله للبلايا والمحن•
لذا وجب على المتصدرين للدعوة والإعداد والتربية الحذر الشديد من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ قال الله عز وجل في التحذير منهم ومن غيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وإن المتأمل في تاريخ المسلمين في القديم والحديث ليرى أنه ما من مأساة و انتكاسة أو محنة وقعت بالصف المسلم إلا وكان للمنافقين يد فيها، ولذا فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الإعداد للجهاد الحذر من المنافقين وتحصين الصف من اختراقهم•
ومن أهم وسائل التحصين الاهتمام بالقاعدة الصلبة، وحسن إعدادهم وتربيتهم ولو طال الزمان، وأن لا يصل إلى مستوى التوجيه والإعداد إلا من صهرته التربية وظهر صبره وفضله وتقواه وصدقه، وأن يحرص على التربية الجادة ودقة الاختيار، والحذر ممن كان له تاريخ في النفاق ولو صلح بعد ذلك، وكذلك الحذر من كل من ارتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة، ومعرفة السبب في اشتهاره هل هو عمله أم أن جهات أخرى تولت هذه المهمة؟! فينبغي الحذر من أمثال هؤلاء فلا تسند إليهم مسؤوليات مهمة في الدعوة والإعداد•
وعن خطر المنافقين في واقعنا المعاصر وضرورة تحصين الصف منهم يقول أحد الدعاة الناصحين: "مرت فترات من عصرنا الحديث اشتد فيها عود الجماعات الإسلامية، وقويت شوكتها، وعلا أمرها، وتحقق لها بعض أهدافها في أكثر من بلد من عالمنا الإسلامي الكبير•
وفي مثل هذه الأجواء يستغل المنافقون مبدأ التوبة إلى الله، فيترددون على المساجد، ويشهدون حلقات الذكر، ويكتبون المقالات التي يعربون فيها عن ندمهم على ما اقترفته أيديهم من ذنوب ومعاص، ويتبرأون من ماضيهم الأسود، ويشنون حربًا ضروسًا على رفاق دربهم القدامى من الفاسدين والعلمانيين•
ويرحب بتوبتهم الذين يأخذون الأمور على ظواهرها من الدعاة وبعض قادة الجماعات، وإذا قيل لهم: احذروا من هؤلاء الوافدين الجدد، ولا تسندوا إليهم مناصب قيادية، وتذكروا ظهور النفاق بعد غزوة بدر الكبرى، ولا تنسوا أنَّ تفشي هذه الظاهرة يكثر بعد انتصارات الدعاة والجماعات الإسلامية؛ قالوا: لم نكلف بالبحث عن نوايا الناس وما تخفيه قلوبهم، والذي نعلمه أن التوبة تجب ما قبلها، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم•
ونحن لا نطلب من إخواننا الدعاة القادة البحث عن نوايا الناس، وما تكنه قلوبهم، ولا نريد منهم طرد من جاء تائبًا مستغفرًا؛ ولكن الذي نريده ونؤكد عليه ألا تسند لهؤلاء التائبين وظائف قيادية لأن علمهم الشرعي وماضيهم لا يسمحان بذلك•
وفي خضم هذه الأنشطة السياسية التي تنقصها التربية والإعداد تم اختراق معظم الجماعات الإسلامية من قبل أشخاص مشبوهين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، أو من قبل أشخاص مترفين يظنون أن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل تحكيم شريعته خالية من التمحيص والابتلاء وخشونة العيش ••• وإذا كانت معارك الموحدين الدعاة مع الطغاة دائمة ومستمرة، وشعار الحذر يجب أن يستمر مرفوعاً، فهناك مراحل تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر، ومنها هذه المرحلة التي مضى عليها أكثر من عقدين، وشهدنا فيها سقوط أصنام متعددة: شهدنا سقوط الصنم القومي، والصنم الثوري الاشتراكي، وشهدنا سقوط رائد القومية والتقدمية والوحدة، الصنم الذي عبده كثير من الجماهير من دون الله•(/59)
كفر الناس بهذه الأصنام كلها، وأيقنوا أن بعدهم عن الإسلام هو سبب هذه الهزائم المتكررة، وعاد الشباب إلى دين الله أفواجاً، وأصبحت الصحوة الإسلامية حديث الشرق والغرب، وقويت شوكة الجماعات الإسلامية، وكثر أنصارها ••• إن قوة الدعاة والجماعات الإسلامية مسألة تهدد كل طاغية وتنذر بزواله، فلا بد من تسخير جميع إمكاناتهم وتنسيق جهودهم من أجل وأد الصحوة في مهدها• ومن الأساليب التي يستخدمونها كما قلنا فيما مضى زرع جندهم داخل الصف الإسلامي، والعمل على ضرب هذا الصف من داخله، وهذه هي المرحلة التي تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر واتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، واستمر هذا النهج بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذين كانا يتشددان في اختيار الولاة(166) وكانا في شخصيهما قدوة حسنة لكل مسؤول ••• أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة• وأهمها: الأمانة والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى المنصب"(167).
ومن أجل هذا كان صف الصحابة رضي الله عنهم هو الصف المحصن الذي لم يخترق؛ وما ذاك إلا لكونهم القاعدة الصلبة الذين تعهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم وصقلتهم الشدائد والمحن؛ ولكونهم يملكون الموازين الشرعية الدقيقة في وزن الرجال، ومن أجل ذلك صعب على المنافقين اختراقهم، حيث لم يعرف أن أحداً من المنافقين قد أسندت له مهمة قيادية سواء في السلم أو الحرب•
التعقيب الرابع : يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم :
إن المراتب السابقة من مراتب الإعداد للجهاد في سبيل الله لا تعني أن تتوفر بتمامها في كل الأفراد، ولكن المطلوب توفرها بقوة في القاعدة الصلبة الذين هم قادة الناس وقدواتهم، وهم أصحاب التوجيه والتربية•
أما من سواهم فإنه يقبل منهم الحد الأدنى، ولا يتشدد معهم في توفر كل صفات المجاهدين فيهم• نعم لو اكتملت هذه الصفات في الجميع لكان هو الأفضل والمطلوب، لكن طبائع البشر وما يتعرضون له من ضعف وفتور تأبى ذلك•
ومع ذلك فتستمر التربية والتزكية، والمقصود الإشارة إلى أنه مع التأكيد على ضرورة التربية والإعداد إلا أن ذلك لا يعني أن لا يشارك في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى عندما يفرض على الأمة إلا من ليس عليه ملاحظات أو هفوات، بل قد يخرج للجهاد من هو متلبس ببعض الذنوب وبعض ما يقدح في كمال إيمانه الواجب لكنه يجاهد نفسه على ترك ذلك، ويستمر النصح والتوجيه له في جميع الأوقات بل إنه قد يخرج صاحب البدعة التي دون الكفر مع المجاهدين إذا احتاج المسلمون إلى ذلك؛ كأن يهاجَمون في عقر دارهم وهم على قلة من العدد والعتاد•
ولو لم يخرج للجهاد في سبيل الله تعالى إلا الكمل من الناس لتعطل الجهاد وتسلط الكفار على المسلمين وساموهم سوء العذاب، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة•
وكذلك من هم في موطن التوجيه والقدوة والمسؤولية؛ فمع أنه لا يسعهم ما يسع غيرهم ممن هم دونهم إلا أنهم ليسوا معصومين، وصدور بعض الهفوات أو الذنوب لا يقدح فيهم ولا ينقص من منزلتهم إذا كانت ذنوبًا طارئة يرجعون منها ويتوبون ولا يصرون•؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
التعقيب الخامس : أنواع الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني :
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي• وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل• والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح•
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني•
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها•(/60)
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع إحدهم الآخر أو يؤخره•
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)، ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها• وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد• والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر•
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك باقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين•
2- الإعداد الإعلامي:
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان• كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم•
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء•
3- الإعداد الجسمي:
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ (فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(168) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين•
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
( أ ) تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب•
(ب) تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد•
(جـ) تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام•
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية•
4- الإعداد بالتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي - ثلاثًا)(169).
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم•
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي• ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد•(/61)
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريب• والجواب أن يقال بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان•
التعقيب السادس : أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون مع الولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد :
إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن ينبغي الحذر كل الحذر عندما يكون هناك حاجة إلى ذكر هذه الأخطاء والتناصح حولها أن لا تكون في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، وقد يكون إبرازها في المنابر العامة مقصود لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة والمجاهدين؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب• وفي عدم الانتباه لمآلات الكلام عن أخطاء المجاهدين مفسدة كبيرة قد يجد المتحدث نفسه متورطًا في الإسهام مع أعداء الدين في عرقلة الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة من سباتها• وقد يجد نفسه وهو لا يشعر في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين•
ولو وجد الداعية نفسه مضطرًا للتعليق على بعض الأخطاء فيمكنه أن يتحدث عن ذلك بعبارة لا يستطيع الإعلام الماكر ومن وراءه أن يستفيدوا من ذلك في الوصول إلى مبتغاهم؛ وذلك كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وأعراضهم، ودورهم في إرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى بالنقد والفضح تلك الأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين• ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان هناك ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فيضعها في حجمها الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء•
إنه متى كان الحديث بهذه النفسية، وبهذا الحذر فلا أظن الإعلام الماكر سيسمح لأحد من الدعاة فضلاً عن أن يدعوه ويبرزه للناس ليقول هذا الكلام في منابره•
كما أن المجاهدين سوف لن تُجرح نفوسهم من هذا الداعية الذي هذا مقصده وهذا طرحه، ولن يتهموه بأنه من المخذلين أو أنه من الذين يعرضون بالمجاهدين ويشمتون بهم•
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل ووفق إليه من الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير ولا أزعم أني استوفيته أو قربت من تمامه، ففي الموضوع مسائل كثيرة تحتاج إلى العلماء العاملين ليبينوها للناس• وحسبي أني ساهمت ببضاعتي المزجاة وجهد المقل فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل وهو المان به وله الحمد والشكر. وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان واستغفر الله منه ومن جميع ذنوبي.
وأسأله سبحانه الإخلاص والصواب في القول والعمل. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويرفع فيه علم الجهاد إنك سميع قريب وأنت على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين•
الهوامش
(1) رواه مسلم: (1910).
(2) "المفردات": (ص99).
(3) "الفتح": (6/3).
(4) "بدائع الصنائع": (9/4299).
(5) "حاشية ابن عابدين": (4/121).
(6) "الشرح الصغير على أقرب المسالك": (2/267).
(7) "فتح الباري": (6/3).
(8) "مطالب أولي النهى": (2/497).
(9) "مجموع الفتاوى": (10/192، 193).
(10) "مجموع الفتاوى": (10/191).
(11) رواه أحمد: (6/21)، وقال محمقق زاد المعاد "الأرناؤوط": "سنده جيد، وصححه ابن حبان: (25)، والحاكم: (1/11)، ووافقه الذهبي.
(12) رواه مسلم: (1910) في الإمارة: باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، وأبو داود: (2502).
(13) "زاد المعاد" ت: الأرناؤوط: (3/5-12) مختصراً.
(14) "زاد المعاد": (3/71).
(15) "روضة المحبين": (ص478).
(16) أبو داود: (4/246)، وابن ماجة: (2/681)، وقد روى شطره الأول البخاري: (2480).
(17) "مجموع الفتاوى": (28/320).
(18) "مجموع الفتاوى": (28/321).
(19) تقدم تخريجه.
(20) "الفروسية" لابن القيم: (ص187-189).(/62)
(21) وعن شعور اللذة بالعبودية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "... فقُرَّة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم". "طريق الهجرتين": (1/56) ط. دار الحديث.
(22) "مجموع الفتاوى": (10/191-193) باختصار.
(23) "مجموع الفتاوى": (10/57-58) باختصار.
(24) "مجموع الفتاوى": (15/170).
(25) "في ظلال القرآن": (3/1440-1444) باختصار.
(26) "في ظلال القرآن": (3/1433-1436) باختصار.
(27) "الجواب الصحيح": (1/74).
(28) "زاد المعاد": (3/159-161).
(29) انظر لمزيد من التفصيل عن هذه الحكم كتاب "في ظلال القرآن": (2/714، 715).
(30) "في ظلال القرآن": (3/1581).
(31) "في ظلال القرآن": (3/1737-1739) باختصار.
(32) "الصارم المسلول": (2/414).
(33) "مدارج السالكين: (3/9) ط الفقي.
(34) "مجموع الفتاوى": (10/57، 58) باختصار.
(35) "مجموع الفتاوى": (10/193).
(36) "مجموع الفتاوى": (8/36).
(37) أبو داود (3462)، وأحمد: (2/28) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (2956).
(38) "الفوائد": (ص88).
(39) "مجموع الفتاوى": (28/242).
(40) "مجموع الفتاوى": (28/441-443) باختصار.
(41) البخاري في الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ابن ماجة (2753).
(42) البخاري في الجهاد: باب أفضل الناس مجاهد بنفسه وماله (2787)، ومسلم (1878) واللفظ له.
(43) أبو داود (2541)، وابن ماجة (7292) وصححه الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد (3/78).
(44) البخاري في الجهاد: باب درجات المجاهدين (2790)، وأحمد (2/335).
(45) مسلم: (1884)، والنسائي: (6/19-20).
(46) البخاري في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة (907)، وأحمد (3/479).
(47) ابن ماجه: (2775) بسند حسن.
(48) البخاري في الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
(49) مسلم: (1913).
(50) قطعة من حديث رواه مسلم (1902)، وأحمد: (4/396).
(51) البخاري: (2887).
(52) "سير أعلام النبلاء":(2/23).
(53) المصدر السابق: (1/422).
(54) "صفة الصفوة": (1/468).
(55) "سير أعلام النبلاء": (1/375).
(56) "الجهاد" لابن المبارك: (1/88).
(57) "سير أعلام النبلاء": (1/319).
(58) "سير أعلام النبلاء": (2/34).
(59) البخاري: (2801).
(60) "سير أعلام النبلاء": (1/364).
(61) "سير أعلام النبلاء": (2/290).
(62) "سير أعلام النبلاء": (1/381). واللقلقة: الصوت الشديد المضطرب. والنقع: رفع الصوت وشق الجيب.
(63) بسان ملتاث: ثقيل بطيء في الكلام.
(64) الدَبَرة: النصر والغلبة.
(65) "صفة الصفوة": (1/466، 467).
(66) انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/232).
(67) غُبَّرات: الجماعة الباقية.
(68) الشخوص: المرتفعات.
(69) لا رحلة بي: ليس لديه بعير أو ظهر يرتحل عليه.
(70) قلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
(71) "صفة الصفوة": (1/674-676).
(72) "صفة الصفوة": (4/421).
(73) "سير أعلام النبلاء": (3/499).
(74) "سير أعلام النبلاء": (3/498).
(75) المقصود هنا: أعظم الثمار وإلا فثمار الجهاد كثيرة كما مر بنا فيما سبق.
(76) "شريعة الإسلام في الجهاد": (ص31-32).
(77) "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي: (2/163).
(78) مسلم (1910).
(79) "عدة الصابرين": (ص121).
(80) "تفسير ابن كثير": (1/228)، وصحح الحديث ابن حبان (1667)، والحاكم: (2/275) ووافقه الذهبي.
(81) "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" د. العلياني: (ص252).
(82) "الفتح الرباني" لترتيب مسند أحمد: (15/44) وقال المحقق الساعاتي: سنده جيد.
(83) انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها، ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.
(84) "شريعة الإسلام في الجهاد" للمودودي: (ص34).
(85) "في ظلال القرآن": (4/1941).
(86) "نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء": (1/242).
(87) رواه أبو داود في الملاحم: باب في تداعي الأمم على الإسلام: (4297)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (3610).(/63)
(88) انظر الحديث: (ص54، 79).
(89) البخاري في التوحيد: (7460)، ومسلم: (1037).
(90) "مجموع الفتاوى": (28/358، 359).
(91) "مجموع الفتاوى": (28/259).
(92) هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار.
(93) "زاد المعاد": (3/72).
(94) "الفوائد": (ص59)، وقد مضى في (ص56) قول ابن المبارك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم"، وعلى هذا فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) يدخل تحته جهاد الهوى وجهاد الكفار بالسنان.
(95) "الاختيارات الفقهية": (ص309، 310).
(96) تقدم تخريجه.
(97) "فتح الباري": (6/29).
(98) المصدر نفسه: (6/30).
(99) "جامع الأصول": (2/580).
(100) "تفسير السعدي": (2/290).
(101) سبق تخريجه.
(102) "في ظلال القرآن" (3/1716-1717) باختصار.
(103) انظر تفاصيل هذه الأصول في رسالة "وقفات تربوية في ضوء سورة العصر" للمؤلف.
(104) "زاد المعاد": (3/10).
(105) البخاري: (1399، 1400)، ومسلم: (20).
(106) "سير أعلام النبلاء": (4/195).
(107) رواه مسلم: (1850).
(108) "البدع والنهي عنها" لابن وضاح: رقم الأثر (86) ص (75)، ت: عمر عبد المنعم.
(109) البخاري: (6502).
(110) "سير أعلام النبلاء": (6/121).
(111) البخاري (52)، ومسلم: (1599).
(112) انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ص57).
(113) "مجموع الفتاوى": (15/170).
(114) البخاري في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، مسلم (1904).
(115) أبو داود (2516) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم: (2196).
(116) مسلم (1876).
(117) أبو داود (5123)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1096).
(118) "في ظلال القرآن": (1/144).
(119) البخاري: (123)، ومسلم: (1904).
(120) "في ظلال القرآن": (6/3288).
(121) "طريق الدعوة في ظلال القرآن": (ص361).
(122) ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان.
(123) تَفَنَّقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
(124) "المقدمة" لابن خلدون: (ص138).
(125) "الجهاد في سبيل الله" (2/373)، د. عبد الله القادري.
(126) "في ظلال القرآن": (5/2217).
(127) البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: "الجهاد في سبيل الله" الدكتور/ عبد الله القادري (2/376).
(128) "الفوائد" لابن القيم: (ص94، 95) باختصار.
(129) "مدارج السالكين": (2/125).
(130) "الفوائد": (ص86، 87).
(131) انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص199).
(132) البخاري: (7405)، ومسلم: (2675).
(133) البخاري: (6307).
(134) مسلم: (2702).
(135) أبو داود: (4986)، وأحمد: (5/364) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4172).
(136) "في ظلال القرآن": (1/141،142) باختصار وتصرف يسيرين.
(137) البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).
(138) مسلم: (746).
(139) البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).
(140) أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).
(141) مسلم: (2609)، والبخاري في الأدب باب الحذر من الغضب.
(142) "مدارج السالكين": (2/308) ط. الفقي.
(143) البخاري: (6370).
(144) "في ظلال القرآن": (1/459).
(145) مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر "مشكاة المصابيح" الحديث (229).
(146) "مدارج السالكين": (2/319).
(147) مسلم في الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825).
(148) البخاري: (59).
(149) البخاري: (6497)، ومسلم: (143).
(150) "مجموع الفتاوى": (10/301).
(151) "في ظلال القرآن": (2/1105-1107) باختصار.
(152) "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 11-19) باختصار.
(153) "مجموع الفتاوى": (24/172).
(154) للتوسع في موضوع الصبر وما يتعلق به يمكن الرجوع إلى رسالة (وقفات تربوية في ضوء سورة العصر)، مبحث: "وتواصوا بالصبر" للمؤلف.
(155) "في ظلال القرآن": (1/551، 552).
(156) انظر "مدارج السالكين": (2/157).
(157) أكرر ما ذكرته سابقاً من أني لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
(158) "تفسير ابن كثير": عند الآية (رقم: 77) في سورة النساء.
(159) "في ظلال القرآن": (2/712، 713).(/64)
(160) "في ظلال القرآن": (2/713-715) باختصار شديد وتصرف.
(161) ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/460،462) وصحح إسناده الأرناؤوط في "زاد المعاد": (3/460).
(162) "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 14-23) باختصار.
(163) "منهاج السنة": (8/86-89).
(164) "الجهاد في سبيل الله": (2/347-349) باختصار.
(165) "في ظلال القرآن": (3/1577، 1578) باختصار.
(166) ومن ذلك ما ذكره ا بن كثير – رحمه الله تعالى – في "البداية والنهاية": (6/323) في ترجمة طليحة الأسدي بعد أن ذكر ردته وتنبأه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته وقد رجع فشهد القتال مع خالد. وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره – يعني معاملته بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن –وهذا من فقه الصديق رضي الله عليه عنه وأرضاه". ا.هـ.
(167) انظر "مجلة السنة" الأعداد: (31، 33، 35، 36، 37، 39، 41، 42) باختصار شديد وتصرف يسير.
(168) انظر نص الحديث في صحيح مسلم: (2664).
(169) رواه مسلم (917) في الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.(/65)
التربية الذاتية
المحتويات
مقدمة
ماذا نعني بالتربية الذاتية
لماذا التربية الذاتية؟
أولاً: مبدأ المسؤولية الفردية
ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة
ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه
رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفرد معها
خامساً: تجاوز سلبيات المربي
جوانب التربية الذاتية
وسائل التربية الذاتية
التربية الذاتية ومفاهيم خاطئة
أولاً: استقلال النفس
ثانياً: التفريط في الدعوة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبدالله ورسوله، أما بعد:
فأول مسؤوليات الإنسان هي مسؤوليته عن نفسه، ومن ثم فحري به أن يعنى بتربيتها وإصلاحها، لذا كان لابد من الحديث عن التربية الذاتية، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة.
ماذا نعني بالتربية الذاتية
عندما نتحدث عن التربية الذاتية أو عن دور الشاب في تربية نفسه فإننا نقصد بها ذلك الجهد الذي يبذله الشاب من خلال أعماله الفردية، أو من خلال تفاعله مع برامج عامة وجماعية لتربية نفسه؛ فهي تتمثل في شقين: الأول : جهد فردي بحت يبذله الشاب لنفسه، الثاني :جهد فردي يبذله من خلال تفاعله مع برامج عامة، وسيأتي مزيد توضيح لهذا الجانب.
لماذا التربية الذاتية؟
عندما نطالب الشاب بأن يدرك مسؤوليته عن تربية نفسه، ونطالب الشاب بأن يقوم بجهد في تربية نفسه، فلماذا هذه المطالبة؟ وما المبررات والمسوغات للحديث عن هذه التربية الذاتية؟
إننا نقول لكل شاب، بل نقول لكل مسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى: لابد أن تتحمل مسؤوليتك في تربية نفسك، فالذي يدفعنا لذلك مبررات عدة، منها:
أولاً: مبدأ المسؤولية الفردية
إن المسلم بل كل إنسان في هذه الحياة مسؤول مسؤولية فردية يقول - جل وعلا - [ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى] ، ويقول سبحانه [كل نفسٍ بما كسبت رهينة] . إنك حين تقرأ في نصوص القرآن الكريم أو في نصوص السنة النبوية تجد التأكيد الواضح على أن كل فرد مسؤول مسؤولية خاصة عن نفسه، حتى ذاك الفرد يتعرض إلى الإضلال والغواية من خلال الضغط الذي يمارسه عليه غيره، سواء أكان ضغطاً نفسياً أم ضغطاً اجتماعيّاً -أيّاً كان مصدر هذا الضغط- لا يعفيه ذلك من المسؤولية، ونقرأ في القرآن الكريم في آيات عدة نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذين اتَّبَعوا وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، فيأتي المستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سبباً في إضلالهم وغوايتهم أن يتحملوا عنهم جزءاً من العذاب [ وقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص] ،[ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار].
وقال صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار من تبعه غير أنه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". وفي الحديث الآخر: "ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً".
فهذا فلان من الناس اتبع زميله أو صديقه أو أباه، وسار وراءه وأصبح ظلاًّ له، حتى قاده إلى طريق الضلالة والانحراف سيأتي يوم القيامة هذا الذي أضله يحمل وزر نفسه ووزر هذا الذي أضله [ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون] ولكن هذا المستضعف لن يعفيه ذلك من المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، ولن يغنيه أن يتلفت يمنة ويسرة، تارة يطالب صاحبه الذي أضله ، وتارة يرجو منه أن يتحمل عنه جزءاً من العذاب ]إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار] ومع ذلك لا يعفيه من العذاب، أليس هذا وحده دال على المسؤولية الفردية للإنسان، في أي بيئة وفي أي مجتمع وجد، وحتى لو سار وراء صاحبه وهو يظن أنه يحسن صنعاً فإن ذلك لا يعفيه أمام الله عز وجل، أرأيتم هذا القطيع الهائل الذي يسير وراء مشايخ أهل الضلال والخرافة، أو وراء غيرهم من أصحاب البدع والانحراف والضلال، كم يظن أولئك أنهم يحسنون صنعاً؟ وكم يظن هؤلاء أن أسيادهم وعلماءهم وأئمتهم يقودونهم إلى الطريق المستقيم الذي لا طريق سواه، إنهم ممن قال الله تعالى فيهم [قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].(/1)
لنأخذ مثالاً من السيرة يجلي لنا هذه الصورة تجلية واضحة، فحين نقض بنو قريظة العهد في غزوة الأحزاب، سار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم عليهم سعد رضي الله عنه أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، فكانوا يكشفون عن عوراتهم فمن وجدوه قد أنبت قتلوه، فهل قتل ذاك الشاب الذي لايزال في العقد الثاني من عمره ظلماً؟ كلا لم يقتل ظلماً وقد شهد عليه الصلاة والسلام على هذا الحكم بأنه حكم الله من فوق سبع سماوات، إن هذا الشاب ولد في بيئة تربيه على الكفر والضلال، أبوه يهودي وأمه يهودية، وسائر أقاربه وجيرانه كذلك، ومع ذلك فهو يتحمل المسؤولية عن نفسه، كان عليه أن يبحث عن طريق الهداية والنجاة، وعن طريق الحق والخير، وما كان ربك ليظلم أحداً سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، فإذا كان هذا الشاب الذي عاش في هذا المجتمع الغارق في الانحراف والغواية تمارس تجاهه كل وسائل التضليل، وتطمس عليه الحقائق وتصور له بغير صورها، ومع ذلك لم يكن معذوراً فغيره من باب أولى.
ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة
إن من لوازم المسؤولية الفردية أن كل إنسان سوف يحاسب يوم القيامة حساباً فرديّاً، قال عز وجل [واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون] وفي آية أخرى يقول عز وجل : [إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً] , فكل إنسان سيقدم على الله فرداً وحيداً، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسؤولية نفسه في تربية نفسه وتزكيتها وقيادتها إلى طريق الخير والاستقامة.
وقال صلى الله عليه وسلم :"ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر تلقاء وجهه فيرى النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة" . فلابد أن يصير المسلم إلى هذا الموقف وهو إما إلى إحدىحالين: إما أن يكون كما قال عليه السلام في حديث النجوى:"أما المؤمن فيدنيه ربه فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك قال: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الفاجر فينادى بذنوبه على رؤوس الخلائق" .
ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه
إن الإنسان أعلم بمداخل النفس، وأعلم بجوانب الضعف والقصور فها، ومن هنا فهو الأقدر على التعامل مع نفسه، إنه يتصنع أمام الناس ويتظاهر أمامهم بالخير، أو يدعوه لذلك الحياء والمجاملة، أما مافي نفسه فهو أعلم به من سائر البشر، حينئذ فهو أقدر من غيره على علاج جوانب القصور في نفسه.
رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفرد معها
تتاح للإنسان مناسبات وفرص جماعية تحقق له قدراً كبيراً من الاستفادة، لكنه لا يمكن أن يستفيد منها ما لم يتفاعل معها، قال عز وجل :[أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها] فالماء النازل من السماء واحد، لكن الأدوية تتفاوت فيما تحمله منه؛ فكل واد يحمل على قدر سعته، وهكذا القلوب تتفاوت بما تتلقاه من وحي الله جل وعلا، وتتفاوت في أثر هذا الوحي عليها كما تتفاوت هذه الوديان.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي أتى به وتلقي الناس منه تشبيهاً قريباً من ذلك، فقال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ويحدثنا القرآن الكريم عن نماذج من نتاج تخلف التربية الذاتية ]وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين]. لقد كانت هاتان المرأتان زوجتين لنبيين من أنبياء الله، ولابد أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام بذلا معهما جهداً في دعوتهما إلى الدخول في دين الله تعالى، ولكن حين لم يكن منهما مبادرة ذاتية لم ينتفعا بذلك الجهد وتلك الدعوة.
ويبذل الرسول صلى الله عليه وسلم جهده مع عمه أبي طالب حتى عند مرض الموت، وحين لم يكن من أبي طالب مبادرة ذاتية لم يستفد من الجهد الذي بُذل له.(/2)
وفي عصر النبي كان هناك فئة من المنافقين يصلون مع النبي الجمعة، ويشهدون معه مجالس الخير، ويذهبون معه في السفر والإقامة، ويشهدون معه بعض الغزوات؛ فيعيشون مع النبي كما يعيش معه سائر أصحابه، يتلقون من نفس القنوات التربوية التي يتلقى منها أصحاب النبي ، بل لعل بعض المنافقين كانوا أكثر حضوراً لمجالسه من بعض أصحابه، ومع ذلك لم ينتفعوا بشيء من ذلك أبداً.
فهب اليوم أن شابّاً وجد في مجتمع تربوي في القمة، فهو في بيت محافظ وعند أستاذ وشيخ يعتني به، لكنه لم يتفاعل ولم توجد منه مبادرة ذاتية، فلن يستفيد من هذه البيئة، بل ربما أصبحت وبالاً عليه.
خامساً: تجاوز سلبيات المربي
إن البشر أيّاً كانوا لا يخلون من سلبيات وجوانب من القصور، فهذا أستاذ لي أثق فيه وألازمه وأصاحبه وأحضر مجلسه وربما أصاحبه في سفر وذهاب وإياب وأرى فيه قدوة ظاهرة أمامي وأتمنى أن أكون مثله أو أن أسير على خطاه ….أيعني ذلك أن يسلم من القصور والضعف؟ فقد يكون لديه نوع من قسوة القلب، وقد يكون عنده نوع من سوء الخلق وعدم حسن التعامل مع الآخرين، قد يكون إنساناً متعجلاً ، لابد أن تكون فيه صفة سلبية وجوانب قصور.
وحينما يكون الشاب مجرد ظل لغيره، فإنه سيحمل سلبيات من يربيه، بالإضافة إلى سلبياته هو، فحين يكون الشاب يعاني من صفة سلبية كالكسل مثلاً، ووجد وتربى في بيئة يكثر فيها الهزل، فسيجمع بين الصفتين، وهكذا في سائر الأمراض جوانب القصور.
وحين يعتني بتربية نفسه تربية ذاتية، فإنه سيتجاوز كثيراً من سلبيات من يربونه، لتبقى لديه سلبياته وجوانب قصوره الشخصية.
ولا نزال نسمع شكوى كثير من الشباب اليوم، وتبريرهم لجوانب من القصور لديهم بأنهم نشأوا في أوساط تعاني من الضعف التربوي، أو تربوا على أيدي مربين قصروا في تربيتهم، ولذلك كان لبعض تلك الشكاوى نصيب من الصحة، فكثير منها إنما هي أسلوب إسقاط، وهروب من تحميل النفس المسؤولية.
وأيا كان الأمر هذا أو ذاك، فالشاب يتحمل مسئوولية نفسه، ولو كان جاداً لاعتنى بها منذ البداية، ولتجاوز سلبيات الآخرين ومشكلاتهم.
إن هذه المسوغات تؤكد على أهمية الاعتناء بالتربية الذاتية، وحين نعود إلى واقعنا اليوم نجد الوقوع في الإفراط والتفريط في هذه القضية، فتجد بعض الشباب يؤدي جهداً للآخرين، من خلال درس يلقيه، أو خطبة في المسجد، أو من خلال المشاركة في المركز الصيفي، تجد هذا الشاب ينشغل بالأمور الدعوية –ونعم ما انشغل به- لكنه يهمل نفسه وينساها، فيجد بعد فترة أن زملاءه وأقرانه قد فاقوه وأنه قد قصر في حق نفسه، هذه صورة.
والصورة المقابلة هي صورة ذاك الشاب الذي يرفض أن يقدم، ويرفض أن يعمل، ويرفض أن يعطي الآخرين من وقته بحجة أنه يريد أن يربي نفسه، وهذا هو الآخر قد جانب الصواب، فلابد من التوازن، لابد أن يقوم الشاب بمسؤوليته فيخصص جزءاً نفيساً من وقته يعلم غيره ويربي غيره ويفيد غيره ويسهم في حفظ وقت غيره، ومع ذلك لا ينسى حظ نفسه، فيعتني بتربية نفسه وتعليمها وإصلاحها.
جوانب التربية الذاتية
اتضح لنا فيما سبق أهمية التربية الذاتية، وحاجتنا للاعتناء بها، ولكن ما الجوانب التي ينبغي أن يعنى الشخص بتربية نفسه عليها؟ وسنشير هنا إشارة موجزة إلى أهم هذه الجوانب؛ إذ التفصيل يتطلب حديثاً موسعاً عن التربية لا يتسع له هذا الوقت المحدود:
الجانب الأول : الصلة بالله عز وجل: وهذا أهم الجوانب وآكدها، فكل مابعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسان بالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير، وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام والتلاوة والذكر.
الجانب الثاني : العلم الشرعي: ووسائل تحصيله لا تخفى علينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم وحلقاته المقامة في المساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية وحلقات علمية، أو من جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه، من خلال القراءة والإطلاع، أو من خلال الاستماع للأشرطة العلمية والدروس العلمية .
الجانب الثالث : التربية على العمل: إن الإنسان في حياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة - على سبيل المثال- حين يريد ذلك فإنه لايقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها، بل يعتني بالتدريب والممارسة، والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريب والممارسة .
وسائل التربية الذاتية
الوسيلة الأولى: الصلة بالله عز وجل: كما أن الصلة بالله عز وجل من الجوانب التي ينبغي أن يعنى بها المرء في تربيته لنفسه، فهي وسيلة من وسائل تربية النفس.(/3)
وبالإضافة إلى ماذكرنا من الاعتناء بالفرائض والبعد عن المعاصي، والاجتهاد بالنوافل لابد من السعي لتطهير القلب من التعلق بغير الله عز وجل؛ فصلاح القلب مناط تربية الصلة بالله عز وجل، بل هو مناط النجاة يوم القيامة ، قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام :[ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون. إلا من أتى الله بقلبٍ سليم] في هذه الآيات يدعو إبراهيم عليه السلام ربه أن يأتي يوم القيام بقلب سليم، وفي الآية الأخرى وصفه تبارك وتعالى بأنه جاء ربه بقلب سليم ]وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم] .
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن منزلة القلب وأن الجسد كله يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
وحين تصلح حال الإنسان مع الله، وتقوى صلته بربه تستقيم سائر أموره.
الوسيلة الثانية: القراءة والمطالعة : وهذا أيضاً عنصر مهم من عناصر التربية الذاتية، فأنت تقرأ في كتب الرقائق ما يرقق قلبك ويزيل قسوته، وتقرأ في كتب الأخلاق والآداب ما يصلح سلوكك، وتقرأ في كتب أهل العلم مايزيدك علماً، وتقرأ في تراجم العلماء مايزيدك حماسة للعلم والدعوة والبذل لدين الله عز وجل.
والقراءة تنمي أفق الإنسان، وتفكيره، وتزيد من قدرته على حل المشكلات، فالقراءة تنمي كافة الجوانب وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها قاصرة على الجانب العلمي وحده.
الوسيلة الثالثة: حفظ الوقت والاعتناء به: ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إن استغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت.
الوسيلة الرابعة: التفاعل مع البرامج العامة: إن هناك برامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي والمحاضرة وخطبة الجمعة واللقاءات الجماعية …إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى أن يتفاعل معها، من خلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك، وقد سبقت الإشارة إلى طوائف ممن كانوا يحضرون أعلى المجالس وأشرفها: مجالس النبي وكانوا لا يستفيدون من ذلك، بل كانت وبالاً عليهم.
الوسيلة الخامسة: الجماعية :لابد من الجماعية في التربية الذاتية، وكيف يكون ذلك؟ ذكر الأستاذ محمد قطب حديثاً جميلاً في كتابه منهج التربية الإسلامية حيث يقول :"وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنمو بعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل".
إن بعض الشباب يقول: علي أن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي ، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية لأمور:
أولاً: هناك أمور جماعية لا يمكن أن تؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة والتعاون والإيثار والصبر على جفاء الآخرين.
ثانياً: من خلال الجماعة تجد القدوة الصالحة وهي مهمة للتربية .
ثالثاً: من خلال الجماعة تجد القدوة السيئة وهي أيضاً مهمة للتربية؛ فحين ترى فرداً سيء الخلق تدرك كيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنساناً كسولاً فتدرك أثر الكسل والتفريط، إذاً أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لا تلازمها وتعاشرها لكن عندما ترى هذا النموذج تجتنبه.
رابعاً: اكتشاف أخطاء النفس، وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنساناً حاداً في تعامله مع الآخرين، مثاليّاً في أحكامه وفي المشروعات التي يطرحها وعندما ينتقد الآخرين وعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة، من خلال العزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربية الذاتية.
الوسيلة السادسة: الثقة بالنفس : وذلك بأن يشعر الشاب أنه قادر على أن يرقى بنفسه إلى درجات الكمال البشري، أما الكمال المطلق فلا يمكن أن يصل إليه البشر إطلاقاً، فالذي لايثق بنفسه لا يمكن أن يصنع شيئاً، ولا يمكن أن يرتفع بها أو يرتقي بها.(/4)
ولابد مع الثقة بالنفس من مقت النفس بجانب الله عز وجل حتى تتجنب طرفي الإفراط والتفريط، فالثقة بالنفس تعني أن يعلم الإنسان أنه قادر على أن يفعل هذا الشيء، وأن يتحمل المسؤولية حين تقع عليه، لكن ذلك لا يعني أن يصاب بغرور وإعجاب، بل ينبغي أن يعلم أنه مقصر وأنه مذنب وأنه مخطئ.
وحين أجمع بين الأمرين سيدفعني ذلك إلى بذل الجهد والمشاركة الدعوية ليكون في ذلك تكفيراً لذنبي، ورفعة لدرجاتي عند الله عز وجل.
افترض أني إنسان أعطاني الله عز وجل فصاحة وبلاغة أيمنعني هذا من أن أخطب الناس وأذكرهم بكتاب الله وسنة النبي، وإن كنت أشعر بأنني أرتكب المعاصي والذنوب، وهب أن أعطاني الله موهبة في التأثير على الآخرين وقدرة في التعامل مع الناس وكسبهم، هل يمنعني شعوري بالتقصير من استثمار هذه الموهبة دعوة الناس والتأثير عليهم، وهكذا أيًّا كانت هذه الموهبة ألا يدعوني ذلك إلى أن أستغلها في طاعة الله على كل حال؟
الوسيلة السابعة: محاسبة النفس : وذلك بأن يحاسب الإنسان نفسه قبل العمل وأثناء ه وبعده، وأن يداوم على محاسبة نفسه في كافة جوانب حياته؛ فالمحاسبة هي التي تُعرِّف الإنسان بعيوب نفسه وجوانب ضعفها، وهي التي تعينه على علاجها.
الوسيلة الثامنة: العزلة الشرعية : ونعني بالعزلة الشرعية أن يكون للشاب حظ من الوقت يخلو فيه بنفسه، ويقبل فيه على الله عز وجل يقول ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين تعليقاً في قوله صاحب المنازل في درجات الإيثار قال: ألا يقطع عليك طريق السير والطلب إلى الله جل وعلا مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله؛ فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار؛ فيكون مثلك كمثل رجل سائرٍ على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق الساعي إلى الله جل وعلا . فإيثارهم عليه عين الغبن وما أكثر المؤثرين على الله غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره، وكذلك الإيثار ما يفسد على المسلم وقته قبيحٌ أيضاً مثل أن يؤثر في وقته ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع همه وأمره إلى الله؛ ليفرق عليه قلبه بعد جمعيته ويشتت خاطره، وهذا أيضاً إيثارٌ غير مشروع، وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهمات الخلق ومصالحهم التي لا تتعين عليك، على الفكر النافع واشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى، بل هو حال الخلق والغالب عليهم ، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ومحاسبة نفسك مع الله فلا تؤثر به إنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم" .
إذاً فمهما كنت في ميدان من ميادين الخير: ميدان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، أو ميدان تعليم علم ، أو ميدان جهاد في سبيل الله، فلابد أن يكون لك نصيب -ولو كان يسيراً - تخلو فيه مع الله عز وجل، فتتلو فيه كتاب الله عز وجل وتتدبره، وتقوم الليل أو تصوم، فهذا زاد لك يعينك على هذا العمل الذي تفرغت له.
التربية الذاتية ومفاهيم خاطئة
لاشك أن الإنسان حينما يفكر في موضوع معين ويعتني به ويتفاعل معه، قد يكون لديه خلل أو فهم خاطئ نتيجة مبالغته في النظرة إلى هذا الموضوع، ومن هنا كان لابد أن نشير إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي قد تتبادر للذهن من خلال سماع هذا الموضوع، أو من خلال تفكيرنا بحاجتنا إلى التربية الذاتية.
أولاً: استقلال النفس
فقد يشعر بعض الشباب أننا الآن حشدنا الأدلة والمؤيدات في إقناعه بتربية نفسه، فيقول:ما دمت أدرك عيوبي أكثر من غيري، وما دمت مسؤولاً مسؤولية فردية، فأنا لست بحاجة إلى الآخرين، لست بحاجة إلى أن أحضر إلى مجالس العلم فبإمكاني أن أحصله بنفسي، ولست بحاجة إلى مشاركة الشباب الصالحين في برامجهم، إلى غير ذلك وهذا خطأ فالناس بحاجة إلى التعليم، وبحاجة إلى التربية وقديماً قيل: من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، فمن أراد أن يتعلم العلم من خلال الكتب وحدها لا يمكن أن يبلغ الغاية، ومن أراد أن يربي نفسه في هذا العصر وهذا المجتمع وسط هذا الزخم الهائل من المغريات والشهوات والفتن التي قد تتحدث عن شيء منها في محاضرة الغد (عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة) إن شاء الله في هذا الوسط الذي يظن أنه يستطيع أن يستقل بنفسه فهذا وهم كاذب، فلابد له من رفقة صالحة يعينونه على طاعة الله ، وكان عليه السلام كما يقول ابن عباس : "أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل" فإذا كان الرسولعليهالسلاميستفيد من لقائه بجبريل وهو رسول الله أفضل الخلق فغيره من باب أولى.(/5)
إذاً فحديثنا عن التربية الذاتية وأهميتها لا يعني إطلاقاً استقلال الشاب، فمع تأكيدنا على التربية الذاتية وأهميتها فنحن نؤكد أيضاً على الجماعية، كما ذكرنا أن من وسائل التربية الذاتية الجماعية، وذكرنا أن الإنسان الذي يعيش في وسط فردي بحت يعيش في نشاز إنسان شاذ في سلوكه ونشاطه وأخلاقه ومن جلوسك معه تعلم بأنه إنسان لا يعيش ولا يخالط الآخرين.
ثانياً: التفريط في الدعوة
ومن المفاهيم الخاطئة للتربية الذاتية: التفريط في الأعمال الهامة بحجة تربية النفس، فبعض الناس يقول أريد أن أتفرغ لكي أربي نفسي وأتعلم وأستزيد من العلم، ثم بعد ذلك يمكنني أن أقوم بالدعوة إلى الله عز وجل .
إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم لا يسمح لنا بهذا التباطؤ والتأخر، وأهل الشر يبذلون جهوداً جبارة في سبيل نشر باطلهم، وهب أننا قلنا للشباب جميعاً يجب أن تتفرغوا للعلم وحفظ القرآن وللإبداع فيه ثم تنزلون إلى الميدان، فمن سيتولى تربية هؤلاء الشباب، ومن سيقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سينفق على المحتاجين والضعفاء، ومن سيقوم بالجهاد في سبيل الله .
إن الشاب الذي تفرغ حينما يتخرج بعد ذلك سيحتاج إلى طريقة للتعامل مع وقته، وإلى تضحية لم يكن اعتاد عليها فيكون من الصعب عليه أن يعمل هذه الأعمال، لا يعرف كيف يتحدث مع الآخرين، لا يعرف المشكلات لم يعرف ولا كيف يواجهها.
وهذا نبي من أنبياء الله قد تفرغ لعبادته وترك الحكم بين الناس فعاتبه الله ألا وهو داود ]وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط … الآية[
وكم تصدى النبي صلى الله عليه وسلم للناس حتى أثر على عبادته صلى الله عليه وسلم فكان في آخر حياته يصلي جالساً كما تقول عائشة حين حطمه الناس، وهكذا المصلحون والعلماء وغيرهم من الناس الذين تصدوا لدعوة الناس.
والأمر يحتاج إلى اعتدال، فلايسوغ أن نهمل الدعوة والإصلاح بحجة تربية أنفسنا، وفي المقابل لا يسوغ أن نهمل أنفسنا، فلنؤت كل ذي حق حقه والله أعلم .(/6)
التربية بالموعظة
الشيخ أحمد فريد
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:
المواعظ سياط تضرب بها القلوب ، فتؤثر في القلب كتأثير السياط في اليدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التألم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة الألم أكثر ، كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا عليهم السكينة والوقار، فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاماً عقب ذلك، ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة.
أفضل الصدقة تعليم جاهل، أو إيقاظ غافل، ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربهبسياط الوعظ ليستيقظ.
إنما التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابتالقلب، قوي الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع. وأما من هم سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضرب؟ كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده كانوا لا يعدون الدنيا شيئاً.
قال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر على الصفا.
المواعظ ترياق القلوب، فلا ينبغي أن يسقي الترياق إلا طبيب حاذق معافى فأما لديغ الهوى فهو إلى شرب الترياق أحوج من أن يسقيه.
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو سقيم
ياأيها الناس الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
فابدا بنفسك فإنهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدي بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
يقول الأستاذ عبد الرحمن النحلاوي:
يعتمد الوعظ من الناحية النفسية والتربوية على أمور أهمها:
1- إيقاظ عواطف ربانية كانت قد ربيت في نفس الناشئين بطريق الحوار، أو العمل والعبادة والممارسة أو غير ذلك : كعاطفة الخضوع لله، والخوف من عذابه، أو الرغبة في جنته، وكذلك يربي الوعظ هذه العواطف وينميها، وقد ينشئها من جديد.
2- الاعتماد على التفكير الرباني السليم الذي كان الموعظ قد ربى عليه ، وهو التصور السليم للحياة الدنيا والآخرة ، ودور الإنسان أو ظيفته في هذا الكون ، ونعم الله، وأنه خلق الكون والموت والحياة.
3- الاعتماد على الجماعى المؤمنة، فالمجتمع الصالح يوجد جواً يكون الوعظ فيه أشد تأثيراً، وأبلغ في النفوس، لذلك جاءت معظم المواعظ القرآنية والنبوية بصيغة الجماعة كقوله تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً)
وكالحديث : (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا).
4- ومن أهم آثار أسلوب الموعظة: تزكية النفس وتطهيرها، وهو من الأهداف الكبرى للتربية الإسلامية، وبتحقيقه يسمو المجتمع، ويبتعد عن المنكرات وعن الفحشاء، فلا ينبغي أحد على أحد، ويأتمر الجميع بأمر الله بالمعروف والعدل والصلاح والبر والإحسان، وقد جمعت هذه المعاني في قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
وقد اشتمل القرآن الكريم على جمع مستكثرة من المواعظ العالية الغالية.
- فمن ذلك قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً * الذين يبخلون وأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهينا * والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فإن قريناً).
- وقوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذي صدقوا وأولئك هم المتقون).
- ومن ذلك قول تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سيعاً بصيراً).(/1)
- ومن ذلك قوله عز وجل: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم * ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالدي إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون * يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير * يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور * وأقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).
والقرآن كله مواعظ للمتقين كما قال تعالى: ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين). ولقد كان وعظ النبي صلى الله عليه وسلم على أرقى مستوى وأعلى درجة ، فكان يأسر بوعظه قلوب السامعين، فإما مناً بعد وإما فداء.
وغاية الواعظ أن يصل بمن وعظه إلى الخشية الحقيقية التي تحتمع في وجل القلب، ودمع العين، وأن يتذكروا أمور الآخرة فكأنهم يرونها رأي العين، وهكذا كان وعظ النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث العرباض بن سارية قال: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا) الحديث.
وكذا في قصة حنظلة عندما قارن بين حال قلبه في مجلس وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما يفارق هذا المجلس إلى مجالسة الزوجات والأولاد، فقال: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات).
وقد كان لوعظه صلى الله عليه وسلم سمات:
- فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكثر عليهم فيملوا، بل يجعلهم دائماً متشوقين إلى وعظه صلى الله عليه وسلم.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السام علينا، أو قال : السآمنة علينا.
ومن فقه الرجل تقصير الخطبة، وإطالة الصلاة.
من هديه صلى الله عليه وسلم في الوعظ أنه كان يؤثر في الصحابة رضي الله عنهم بقوة يقينه وتأثره، وكان يرفع صوته ويحرك يديه كأنه منذر جيش.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات يوماً على المنبر: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون). ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر: يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أن العزيز، أنا الكريم، فرج برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به. أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الدكتور عبد الله ناصح علوان: ولا يتصف الواعظ الداعية بهذا التأثير إلا أن يكون مخلص النية، رقيق القلب خاشع النفس، طاهر السريرة، مشرق الروح.
وفرق كبير بين داعية يتكلم بلسانه وهو متصنع بالكلام ليسبي به قلوب الرجال، وبين داعية مؤمن مخلص مكلوم القلب على الإسلام، يتكلم بنبضات قلبه ولواعج حزنه وأساه لما آل إليه حال المسلمين، فلا شك أن تأثير الثاني أبلغ، والاستجابة إليه أقوى، والاتعاظ بكلامه أعظم.
قال عمر بن ذر لأبيه: يا أبت ما لك إذا تكلمت أبكيت الناس، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ فقال: يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
-ومن هديه صلى الله عليه وسلم في الوعظ أنه كان يستعين أحياناً بضرب الأمثال، كما قال صلى الله عليه وسلم : (مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تشم منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة).
- ومن هديه صلى الله عليه وسلم في المواعظ أنه كان يستعين أحياناً بالرسوم الإيضاحية، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط. فقال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به ، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج –أي عن الخط- أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا).(/2)
- ومن هديه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعلمهم بالدرس العملي، كما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ أمام جمع من الناس ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).
- وصلى مرة صلى الله عليه وسلم بالناس إماماً وهو على المنبر ليروا صلاته كلهم، وليتعلموا من أفعاله ومشاهداته، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: (يا أيها الناس إ،ما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي).
- ومن هديه صل الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن ينهى عن شيء فربما أخذه بيده، وبين حرمته ليكون أوقع في نفوس أصحابه:
عن علي رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً بشماله وذهباً بيمينه، ثم رفع بهما يده فقال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم).
- ومن هديه صلى الله عليه وسلم في الوعظ استعمال التكرار المفيد للترغيب أو الترهيب.
يقول الأستاذ عثمان قدري مكانسي:
وبهذا الأسلوب الواضح المستأني، وبهذا التكرار المفيد يستوعب الصحابة الحديث فيحفظونه، وتثبت ألفاظه ومعانيه في العقل، وتنغرس الأفكار وظلالها، والألفاظ وإيحاءاتها في النفوس، ويتمثلون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً وتطبيقاً في مجال حياتهم، ثم تصل إلينا نقية لا شائبة فيها، حية بحيوية حامليها.
ومن الأحاديث التي ترى فيها صدق ما ذكرته سابقاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنفه ، رغم أنفه، رغم أنفه).
قالوا : يا رسول الله من ؟
قال: (من أدرك والديه عنده الكبر – أو أحدهما- فدخل النار).
أيه قشعريرة أخذتني وأنا أقرأ هذا الحديث، فأفاجا بقوله صلى الله عليه وسلم : (رغم أنفه) تتكرر ثلاث مرات ، وأن بعيد عن زمان الحديث ألفاً وأربعمائة وست عشرة سنة، فمادت بي الأرض.
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت).
- ومن ذلك: الترغبي ببيان عظم الثواب، والترهيب بالتخويف من شدة العقوبة.
فمن الأول قول صلى الله عليه وسلم : (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله).
ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة قتات ) أي : نمام.
- ومن ذلك استعمال القسم لتأكيد ما يريد بيانه، كما قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم).
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً) فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين) وهو البكاء الذي ينتشر من الأنف بغنة.
- ومن ذلك التحديد بالعدد حتى يسهل على أصحابه الحفظ وعدم تلفت شيء منهم، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم. فقالوا: من هم يا رسول الله ؟ فقال: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).
- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
- ومن ذلك الترقي من المهم إلى الأهم، فإذا وجد العبد إنساناً تاركاً للصلاة، ومسبل الإزار، أو يتختم بالذهب، والثلاثة من المحرمات، إلا أن ترك الصلاة أخطر الثلاثة – وقد اختلف العلماء في تكفير تارك الصلاة – فعلى الداعي أن ينصح بالمداومة على الصلاة أولاً، ثم إذا معاذاً إلى اليمين قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أو ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس).
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب الناس على قدر عقولهم:
وقد قيل : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إذا كان فتنة لبعضهم.
وفي الأثر : حدثوا الناس على قدر عقولهم ، اتحبون أن يكذب الله ورسوله.
فمن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (دعوه، وأربقوا على بوله سجلاً من ماء – أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين، ولم بعثبوا معسرين.(/3)
نقلاً من كتاب التربية على منهج أهل السنة والجماعة(/4)
التربية على حقوق الإنسان
عبدالله محمد السهلي 2/6/1427
28/06/2006
لقد كرم الله الإنسان, واصطفاه على سائر خلقه, وجعله سيدًا في الأرض وأمده بالوحي السماوي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). [الإسراء:70]. والإنسان يُعدّ من القضايا الكبرى في أي فلسفة تربوية، بل هو قطب رحاها وحجر الزاوية فيها. وإذا كانت التربية أداة التغيير، والانتقال بالإنسان إلى المثل العليا فإن العلاقة بينها وبينه علاقة دائرية، فالإنسان ينتج التربية ويتأثر بها في الوقت نفسه. والتربية نمط حضاري تعكس غاية المجتمع من أبنائه؛ لذا فهي الأداة الاجتماعية المحققة للانسجام والترابط بين أفراد المجتمع، وحين تُصاب التربية باضطراب وعدم وضوح، فإنها تنعكس على النشء متمثلاً في اضطراب ثقافته، وضعف انتمائه واستلابه ثقافياً؛ مما يؤثر سلباً في حركة البناء الحضاري (1)
وقد تنامى في العقدين الأخيرين الحديث عن قضية حقوق الإنسان، وارتبطت مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث بالغرب الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، وقد ساهم الاستعمار في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكونة للحقوق الأساسية للإنسان، ثم ظهرت العولمة امتداداً للاستعمار الثقافي من خلال أوعيتها الإعلامية النافذة إلى قلب العالم الإسلامي، والتي تسعى إلى قولبة الشعوب على النمط الغربي، فكانت الوسيلة المُثلى لتسويق حقوق الإنسان.
إن التطوّر التاريخي لفكرة حقوق الإنسان يؤكد على تحقيق الأهداف والقيم الغربية، والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، "فالطبيعي" يحل محل "الإلهي" أو "الوحي".(2) مما يعني أن مفهوم حقوق الإنسان هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي (3)، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية.
وخلاصة ما سبق فإن قضية حقوق الإنسان من وجهة النظر الغربية مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بالنظرية الرأسمالية الغربية وبالإرث الكنسي البروتستانتي متدثرةً بعباءة البرجماتية الذرائعية، وبالتالي خطورة تعميمها أو الانخداع بها في ظل ضغط الواقع المعيش في بعض الأقطار الإسلامية, الأمر الذي ينتج نوعًا من الصراع الثقافي وغياب الهوية الإسلامية وازدواج المعايير، مما يولد أجيالاً شوهاء بعيدة عن مصدر عزتها، مغيبة عن هويتها الإسلامية. الأمر الذي استحث عدداً من المفكرين والكتاب المسلمين للكتابة في هذا الموضوع وإبراز موضوع حقوق الإنسان في الإسلام ومقارنتها بالفكر الغربي, إلاّ أن هذه الكتابات كانت في المجال الحقوقي والفكر السياسي والتشريع الإسلامي ومقارنته بالقانون الوضعي. وعلى الرغم من أهمية التربية في حياة الأمة؛ إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان، وتعكف على تحقيق غايتها منه، وعلى الرغم من أهمية دراسة هذا الموضوع من الجانب التربوي ( ) لمسيس الحاجة إلى إبراز القواعد والأسس التربوية التي يُبنى عليها موضوع حقوق الإنسان في الإسلام وارتباطها بمقاصد الشريعة الإسلامية، وتوضيح اختلافها، ومباينتها للفكر والتصور الغربي للموضوع، على الرغم من هذا كله لا نجد إلاّ عدداً يسيراً من الدراسات التربوية تناولت هذا الموضوع، وهذا اليسير من الدراسات - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة غايتها صب الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي(4)، ذلك أن هذه الممارسات والتطبيقات مرتبطة ـ بوصفها نظامًا فكريًا محدداً ـ بمنظومة الأفكار والمفهومات التي تقوم عليها, والمناداة بتسويق هذه التطبيقات والممارسات في بلاد المسلمين، يعني تقبل هذا الوعاء الفكري الذي تقوم عليه. في ظل غياب إطار مرجعي تربوي يوضّح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويُجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.(/1)
وقد انبنت مضامين الحقوق المعتمدة حالياً على مرجعيات فلسفية يمكن العودة بأصولها إلى عصر النهضة الأوروبي الذي أعلى من شأن الإنسان الفرد واعتبره غاية في حد ذاته، وأسمى الكائنات جميعها. ومع تنامي الطبقة البرجوازية، وفي خضم مواجهتها للكنيسة ونظام الإقطاع وحقوق الملوك الإلهية، تبلورت نظرية "الحق الطبيعي" والتي تعني "أن للإنسان حقوقاً يحميها القانون الطبيعي، وُلدت معه، وهي لصيقة به، ولا يملك حتى الإله ذاته أن يغيرها، وهذا يترتب عنه التزام القوانين الوضعية بها، ويعتبر فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر "حرية الأفراد ومساواتهم" هي أصل الحقوق الطبيعية كلها. وهي حقوق تجد مرجعيتها العقلية وعالميتها وشموليتها في القول بـ"حالة الطبيعة" للإنسان، على اعتبار أن هذا الأخير يشكل جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ويخضع لقوانينها، ولكي يحافظ الأفراد على حقوقهم الطبيعية ضمن الاجتماع الإنساني فإن فلاسفة أوروبا الحديثة أقروا ما يسمى بـ"العقد الاجتماعي"، وهو ميثاق يتنازل بموجبه الأفراد عن سيادتهم وحريتهم للحاكم، من أجل تحقيق السلم والأمن بينهم، أما (جان جاك روسو) (1712-1778) الذي يُعدّ أكثر فلاسفة أوروبا الحديثة تقريراً لفرضية العقد الاجتماعي، فهو يرى أن: "الإنسان بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه، ولمّا كانت إرادتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال إلاّ إذا كان مبنياً على "تعاقد" في ما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم، وبذلك تتحول تلك "الحقوق الطبيعية" إلى "حقوق مدنية": وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق" (5) .
لقد كانت أفكار ومضامين نظرية الحق الطبيعي وفلسفة العقد الاجتماعي من بين الدواعي الرئيسية لإقرار "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" خلال الثورة الفرنسية لسنة 1789. فهذا الأخير نص "على أن الناس يولدون أحراراً ويظلون أحراراً متساوين قانوناً (المادة الأولى)، وألاّ تُفرض حدود الحريات إلا بقانون (المادة الرابعة)، وأن السيادة للأمة (المادة الثانية)، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة (المادة السادسة)" هذه المبادئ الأساسية، والأفكار بما عرفته من تحليلات وتعثرات وانتقادات ونجاحات أو إخفاقات على مستوى التطبيق، وإضافات كانت الموجه الأساس والإطار العام الذي اعتمده واضعو "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" 1948 والاتفاقيات الدولية التي جاءت بعهده(6).
وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه "العالمية" للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه، انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكيد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة. (7)وقد أدّى هذا الاختلاف إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو العدو والتحدي الحقيقي لحقوق الإنسان بمفهومها "العلماني" و"العالمي"، فهذه الكتابات لم تدرك اختلاف المفاهيم الإسلامية عن غيرها، ومرجعيتها المتميزة نتيجة ارتباطها بالشرع، وبحث أصحابها عن مفهوم "حقوق الإنسان" بعناصره الغربية ولفظه اللغوي فلم يجدوه، وغفلوا عن خصوصية اللغة وخصوصية الرؤية الإسلامية للإنسان وحقوقه، فالإسلام قد بالغ في رعايته حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعلها في نظره ضرورات، ومن ثَمَّ أدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ومحاسبة أولي الأمر، كل هذه أمور نظر إليها الإسلام لا باعتبارها فقط حقوقًا للإنسان "يمكن" السعي للحصول عليها والمطالبة بها، بل هي ضرورات واجبة للإنسان، والمحافظة عليها هي محافظة على ضرورات وجوده التي هي مقاصد الشرع، فضلاً عن حفظ حاجيَّات هذا الوجود بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيرًا، حفظ تحسينيات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (8).(/2)
إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية - بغض النظر عن الفكر والمنهج - بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي، ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل "الواجب الشرعي" في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاً (9).
وفي ظل غياب أو- تغيب -الوعي الإسلامي خلال القرنين الماضيين وتخلّف المسلمين, وتقهقر الحضارة الإسلامية, وفرض الفكر الأجنبي والغزو الثقافي والقوانين المستوردة التي جاء بها المستعمر. اختل وضع الإنسان, وظهرت انتهاكات الحقوق, وتنادى العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان, وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان, مما يحتم أولاً العودة إلى حظيرة الدين, لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة, ويمارس عمليًا حقوق الإنسان ويطبقها فعلاً وليس دعاية أو شعارًا(10).
ولهذا فإن من الأهمية بمكان بحث هذا الأمر وتأصيله شرعيًا وتربويًا، ولذا لابد من تقرير أن من أهم أهداف الشريعة الإسلامية هو "تحرير الإنسان ورفع شأنه وتوفير أسباب العزة والشرف والكرامة له(11). كما أن من أهداف التربية الإسلامية المتعلقة بهذا المجال "مساعدة الإنسان المسلم، وفهم معنى وأبعاد الكرامة التي قررها القرآن الكريم, وتبصير الإنسان المسلم بضرورة احترام الحقوق العامة التي كفلها الإسلام وشرع حمايتها حفاظًا على الأمن وتحقيقًا لاستقرار المجتمع المسلم في الدين والنفس والنسل والعقل والمال"(12). كما أن العدل والإحسان في علاقة الإنسان بالإنسان يحققان شعار فلسفة التربية الإسلامية" بقاء النوع البشري ورقيّه "(13) وقد أولت التربية الإسلامية اهتماماً بالإنسان وتحديد حقيقته ، ووجوده وغايته.،... ومنهجه الذي يجب أن يكون عليه في حياته لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه تلك الحياة من أنماط معرفية وسلوكية واجتماعية تحقق له الخير والسعادة"(14)
ولعلي في ختام هذه المقالة أبرز بعض النقاط التي تؤكد أهمية التربية على حقوق الإنسان:
1. نظراً لأهمية التربية في حياة الأمة إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان وتعكف على تحقيق غايتها منه.
2. إن أولى المختصين بالحديث والاهتمام بحقوق الإنسان، وتأصيلها هم التربويون ذلك أن التربية صنعة مادتها وخامتها الأولى الإنسان وغايتها بناؤه.
3. عدم وجود إطار مرجعي تربوي يوضح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.
4. ندرة الدراسات التربوية التي تناولت هذا الموضوع - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- وهذه الدراسات تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة، غايتها نقل التطبيقات والممارسات، و صبّ الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي.
5. استجابةً لتوصيات منظمة المؤتمر الإسلامي، وبرنامجها العشري في قمتها الاستثنائية الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 5 - 6 ذو القعدة 1426هـ والمتضمنة الدعوة لوضع ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان، وتدريس التربية والثقافة والحضارة الإسلامية وتطوير مناهج دراسية تعزّز قيم التسامح وحقوق الإنسان.
الهوامش :
(1) نقد المعرفة التربوية المعاصرة. د.على خليل أبو العينين. ص7 بحوث مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلامية. عمان. الأردن. 1411هـ
(2) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. هبة عزت. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1995 .ص 84
(3) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان. دراسة مقارنة د. مفتي والوكيل.كتاب الأمة .1410هـ ص 41.(/3)
(4) استناداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966م وتوصية اللجنة الدولية لحقوق الإنسان قامت منظمة اليونسكوعام1972م باقتراح يحث الدول الأعضاء على تبني تدريس مبادئ تدريس حقوق الإنسان ضمن المناهج الدراسية. (حقوق الإنسان في الإسلام - إبراهيم المرزوقي - 1997م). وانظر (إعداد وثيقة التربية على حقوق الإنسان) ورشة عمل عُقدت في الدوحة دولة قطر مابين 24- 28/12/1424هـ حضرها ممثلو الدول من معدي السياسات التربوية في وزارة التربية والتعليم، وأشرف على إدارتها خبراء عرب وأجانب برعاية المفوضية السامية لحقوق الإنسان واليونسكو واليونيسيف. وأوصت بالتوسع في تضمين مبادئ وأهداف التربية على حقوق الإنسان في التعليم (المعرفة -127- شوال- 1426هـ).
(5) موقع الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي 7-8 ديسمبر 2005م
http://www.oic-oci.org/ex-summit/arabic/ex-summit.htm . وقد كان الاهتمام واضحاً بموضوع حقوق الإنسان فقد ورد في البيان الختامي وتقرير الأمين العام وفي البرنامج العشري تحت مادة ثالثاً: الإسلام دين الوسطية وفي ثامناً: حقوق الإنسان والحكم الرشيد، وفي ديباجة البرنامج.. قرّرنا نحن ملوك ورؤساء الدول الأعضاء وحكوماتها في منظمة المؤتمر الإسلامي المصادقة على برنامج العمل العشري التالي من أجل تنفيذه فوراً، والالتزام بمراجعته في منتصف هذه الفترة العشرية.
(6) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مركز أمان للدراسات الأردن ص3 www.amanjordan.org .
(7) يذكر الدكتور معروف الدواليبي أن (جان جاك رسو) كان له أستاذ عربي مسلم اسمه (أبوزيد)، وأن (روسو) أخذ مقولة عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وانطلق يتكلم في حقوق الإنسان، وأصدر عقده الاجتماع في أوروبا الإقطاع. مذكرات الدواليبي. عبدالقدوس أبو صالح. العبيكان. 1425هـ
(8) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مرجع سابق ص5
(9) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. .هبة عزت. مرجع سابق .ص 84، وانظر خطاب إلى الغرب. مجموعة مؤلفين. غيناء للنشر .1424 . ص 210
(10) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة. القاهرة دار الشروق .1989 . ص14
(11) حقوق الإنسان في الإسلام. النظرية العامة. جمال الدين عطية. 1987 ص 20.
(12) حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة. أ. د. الريسوني وآخرون, كتاب الأمة ــ عدد 87, محرم 1423هـ.
( 13) حقوق الإنسان في الإسلام ، زكريا البدري, دار الكلمة الطيب, القاهرة, 1997, صـ 7.
(14) فلسفة التربية الإسلامية . ماجد عرسان الكيلاني .دار القلم .1423 هـ .ط2 ، ص 155
(15) نقد المعرفة التربوية المعاصرة . علي أبو العينين مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية معاصرة .عمان . الأردن .1411هـ(/4)
التربية في ظل المتغيرات الجديدة
المحتويات
أبرز المتغيرات الجديدة
تحديات العولمة وآثارها
فرص العمل
الصراع العربي الإسرائيلي
التغيير التربوي المرتقب
التفاؤل
الإعتناء بالتربية الإيمانية
تقوية الحماية الداخلية
إعادة النظر في أهداف التربية
الارتقاء بالمربين
السعي لإنشاء مؤسسات تربوية عامة
توسيع دائرة الجهود التربوية
تطوير الأساليب التربوية
اقتحام وسائل الإعلام والمشاركة فيها
تعزيز الوظيفة الإجماعية للمدرسة
تدعيم الروابط الاجتماعية وتقويتها
تقديم الخدمات الاستشارية في الجانب النفسي والاجتماعي
تفعيل دور التعليم الأهلي
تطوير التعليم الشرعي
أبرز المتغيرات الجديدة
إن المتغيرات التي تعيشها الأمة اليوم بل يعيشها العالم بأسره، أصبحت هاجس الجميع بكل تخصصاتهم واهتماماتهم، المسلمون الغيورون الصادقون، وغيرهم ممن لا يدين بالإسلام، ودعاة التغريب والعلمنة. المتخصصون في علوم الشريعة، والمتخصصون في الاقتصاد والسياسة، وفي الدراسات الاجتماعية، الجميع تعنيهم هذه المتغيرات؛ فهي لا تنال طائفة معينة، ولا تستهدف فئة بعينها، إنما تستهدف الجميع.
وجدير بأمة الإسلام التي أخرجها الله عز وجل لتكون شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، هذه الأمة الذي اختصها الله تبارك وتعالى بهذا الدين وهذه الرسالة، واختار لها خير أنبيائه ورسله، وخصها بخير شرائعه، هذه الأمة جديرة بأن تعي موقعها في ظل هذه التحديات الجديدة المعاصرة، وجدير بها أن تراجع نفسها كثيراً وكثيراً.
وجدير بنا ونحن نتحدث في إطار التربية -وهي من أكثر ما يمكن أن يتأثر في ظل هذه المتغيرات- أن نبحث عن موقعنا في ظل هذه المتغيرات، وجدير بنا أن نعيد النظر والنقاش في كثير من أهدافنا وبرامجنا ووسائلنا التربوية.
الحديث في هذا اللقاء يهم التربويون بكل فئاتهم: يهم الأسرة وهي النواة الأولى في التربية، يهم المدرسة سواء فيما يتعلق ببيئة ونظام التعليم أو ما يتعلق بالمعلمين وما ينبغي عليهم، يهم القائمين على التربية في ظل المؤسسات الدعوية والجمعيات الدعوية.
وخصوصية الحديث في بعض الجوانب أو المجالات من هذا الحديث، أو ذكر بعض الأمثلة ينبغي أن لا يأخذ أكثر من مداه لدينا، فالتمثيل أحياناً قد يؤطر فهم المستمع في ظل هذا المثال، لكن المتحدث لا يستطيع أن يمثل على كل صورة بمثال يغطي هذه الجوانب.
وقبل أن نتحدث عن التربية في ظل هذه التحديات ينبغي أن نشير إشارة سريعة مختصرة لهذه التحديات التي تواجه بيئتنا في ظل هذه الظروف المعاصرة.
تعلمون جميعاً أن هذه المنطقة -منطقة دول الخليج عموماً- تعرضت لتطورات ونقلة وخاصة بعد اكتشاف النفط الذي نقل هذه الدول إلى مرحلة جديدة من حياتها، ولا شك أن هذه التغيرات التي أصابت المنطقة تركت أثرها على التربية بكافة مؤسساتها وأدواتها ووسائلها، وهذا التغير كان في نطاق الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية والحياة الفكرية والحياة التربوية. وكل من يتحدث عن منطقة الخليج لابد أن يعتبر قضية اكتشاف النفط وما صاحبه من تغيرات نقلة في هذه المنطقة.
إلا أن التغيرات التي نقبل عليها في هذه الأيام تغيرات تأخذ مدى أكبر من تلك التي مرت بها المنطقة في مرحلة اكتشاف النفط، سواء في المدى الأفقي أو المدى الرأسي ويمكن أن نلخص هذه التغيرات فيما يلي:
تحديات العولمة وآثارها
ولسنا نحن في حديث متخصص حول العولمة لكننا سوف نتناول بعض الجوانب التي يمكن أن يكون لها صلة بالتربية، ومنها:
أ- انفتاح الثقافة:
ستنفتح بلادنا على كافة ثقافات دول العالم، والثقافة المسيطرة والرائدة اليوم هي الثقافات الغربية بكل ما فيها من مساوئ وسلبيات، سواء في ميدان الاعتقاد والدين، أو فيما يتعلق بالشهوات والإباحية.
ب - زوال الخصوصية
هذه المجتمعات لها خصوصية فهي مجتمعات محافظة، والسلوك الإسلامي فيها ظاهر، ولكن هذه الخصوصيات سوف تتلاشى وتقل تدريجياً من خلال هذا الانفتاح الذي ستشهده البلاد كلها بل سيشهده العالم كله مع بداية عصر العولمة.
إن الشاب المراهق أو الفتاة المراهقة وهو يعيش في أسرة محافظة متدينة في غرفته ليس بينه وبين أن يتصل بأي ثقافة أو أي شخص في العالم إلا مجرد ضغطة زر وينفتح على العالم الآخر كله.
ج - التحديات الاقتصادية :
الجانب الاقتصادي في العولمة جانب كبير، بل بعض الناس يعتبر قضية العولمة هي القضية الاقتصادية، وستنتج آثار اقتصادية من خلال عصر العولمة تتمثل في تضاءل فرص العمل؛ لأنها تعني الانفتاح وزوال الحواجز أمام الشركات والمؤسسات العالمية الكبرى، ولا شك أن خبرات أبناء المنطقة، بل أبناء دول العالم الإسلامي لا تقاس ولا تقارن مع خبرات تلك المجتمعات، فسيكونون في وضع تنافسي أقل مع الآخرين، ولن تكون هناك قيود على ما يتعلق بالتشغيل والعمل والتوظيف، ولا قيود على حركة التجارة والشركات.
والانفتاح الاقتصادي سيولد اتساع احتكاك المجتمع بالجنسيات الأخرى بشكل أكبر وأوسع.(/1)
وسينشأ عنه أيضاً اتساع مشاركة المرأة في الحياة العامة، إننا مجتمعات يمكن أن تمارس فيها المرأة العمل لكن في ظل الضوابط الشرعية، أما حين تنفتح بلاد المسلمين على الشركات الكبرى فستزول كثير من هذه القيود، وسينشأ من ذلك زيادة اتصال أبناء هذه المجتمعات بأبناء المجتمعات الأخرى من خلال طبيعة النشاط الاقتصادي المنفتح.
والتحديات الاقتصادية ستعيد تحديد نوعية الطلب على التعليم؛ فالتعليم التي ستروج سوقه هو التعليم التي تطلبه تلك الشركات الكبرى التي ستوفر فرص العمل، وهذا يعني أن هذا الانفتاح الاقتصادي وهذا التغير الاقتصادي سيتحكم في نوعية الطلب على التعليم، وهذا سيؤدي إلى تقلص الدور التربوي للمدرسة بحيث يسيطر جانب الإعداد التقني، وإعداد الفرد ليتخصص وليعمل في هذه الميادين الاقتصادية بعيداً عن الإعداد الفكري الاجتماعي، الإعداد البنائي التربوي، وبعيداً عن حرص وسعي المدرسة إلى تأصيل ونقل ثقافة المجتمع وثقافة البلد إلى الناشئة.
وهذا أيضاً سيؤدي إلى تقلص الإقبال على العلم الشرعي فبلاد الخليج عموماً فيها قدر من الاعتناء بالعلم شرعي سواء في مستوى التعليم العام، أو في مستوى الكليات الشرعية أو غيرها، وهذا الاعتناء له أثر في إحياء العلم الشرعي ونشره، لكن الانفتاح الاقتصادي المقبل سيقلل من فرص التعليم الشرعي؛ لأن الطلب على خريجي هذه التخصصات وهذه الدراسات سيقل بكثير، وهذا لا شك سيؤدي إلى قلة الإقبال على التعليم الشرعي، وسيطرح أيضاً تحدياً من نوع آخر.
د – نوعية الثقافة السائدة:
تؤدي متغيرات العولمة إلى اتساع الثقافة على المستوى الأفقي، وسطحية الثقافة على المستوى الرأسي؛ فالعصر المقبل عصر وسائل الإعلام والانترنت، وستكون هذه هي مصادر الثقافة عند شريحة كبيرة من المجتمع، وهذه تغلب عليها العمومية والاتساع في المستوى الأفقي والسطحية في المستوى الرأسي، فهي ثقافة تغلب عليها العمومية، ثقافة تسيطر عليها التسلية والإثارة أكثر من الجانب الموضوعي العلمي، ثقافة تؤثر عليها الجوانب المادية والاقتصادية حيث تسخر وسائل ومصادر المعلومات لخدمة الشركات الكبرى وتسويق منتجاتها وأفكارها الاستهلاكية، ثقافة النمط السائد فيها هي الثقافة الغربية التي تخدم مصالح أصحاب رؤوس الأموال الغربية.
وهذا أيضاً سيقلص المساحة المتاحة للقراءة والاطلاع؛ فهو سيولد لنا جيلاً عنده نوع من الاتساع في الثقافة لكنه جيل سطحي على المستوى الرأسي، جيل لا يقرأ، جيل يبهره التفكير المادي ويسيطر عليه.
هـ تضاؤل دور الأسرة :
كان للأسرة دور كبير في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط؛ حيث كانت الأسرة وحدة واحدة،كان الأفراد جميعاً يعملون في إطار ومحيط الأسرة، كان الأب يرث مهنته من والده، ويعمل معه في الحقل والمتجر، كانت الأسرة تلتقي جميعاً يعيش الشاب وتعيش الفتاة وقتاً طويلاً مع أسرتها، فتقلص دور الأسرة مع عصر النفط، ومع تغير فرص وميادين العمل واتساع التعليم، ونحن مقبلون على تقلص أكبر، وهذا ميدان خطير يتطلب منا إعادة النظر في إيجاد مساحة أكثر للأسرة، ونحن اليوم أصبحنا في صراع مع الآخرين على أبنائنا، وصراع مع الآخرين على بناتنا.
فرص العمل
تعد فرص العمل في دول الخليج مشكلة كبرى، وتبدأ هذه المشكلة من القبول في التعليم الجامعي؛ ففي السابق كان الطالب حين ينتقل من المرحلة الثانوية يجد فرص القبول مهيأة له، والآن ومع زيادة النمو السكاني بدأت تتضاءل فرص القبول في التعليم الجامعي؛ فنسبة كبيرة من الطلاب والطالبات الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية لا يجدون لهم فرص قبول في التعليم الجامعي.
ثم تنشأ مشكلات العمل بعد التخرج من الجامعة وهذا لا شك سيولد إفرازات اجتماعية وتربوية ينبغي أن توضع في الاعتبار
الصراع العربي الإسرائيلي
من العوامل المؤثرة الصراع العربي الإسرائيلي ونحن قريبون من منطقة الصراع، وبغض النظر عما يؤول إليه هذا الصراع مع الأحداث القريبة الساخنة، فإما أن تسخن الأوضاع وتنقلب، أو أن تستمر عملية التطبيع وكلا الأمرين سيكون له أثر في المستقبل على المنطقة وعلى ثقافة المنطقة.
هذه باختصار إشارة سريعة إلى هذه التحديات التي تفرض علينا أن نعيد النظر في تربيتنا، وبعد ذلك انطلق إلى صلب الموضوع وهو عبارة عن بعض التوصيات وبعض الأفكار التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار في تربيتنا من خلال المتغيرات التي أشرت عليها في بداية هذا الحديث لنتواكب مع هذه الظروف الجديدة التي تمر بنا.
التغيير التربوي المرتقب
التفاؤل
من أول مايجب علينا: الحذر من اليأس وسيطرة الشعور بعدم إمكانية التغيير، أو استحالة التربية في ظل هذه المتغيرات، وحديث كثير من الإسلاميين الغيورين على واقع الأمة عن تداعيات العولمة حديث يقود كثيراً من الناس إلى اليأس والقنوط.(/2)
إن إدراك سوء الواقع ومرراته، والحرص على إثارة تفاعل الناس مع الواقع، قد يقودنا إلى مبالغة في الحديث لا ندرك آثارها، ومما يزيد الطين بلة أن كثيرا من المتحدثين يقف عند ذكر المخاطر والآثار، دون أن يتحدث عن برامج عملية لمواجهة المتغيرات –وهذا مايحتاجه الناس- والبرامج التي تقدم معظمها غير واقعية تزيد الناس يأساً من التغيير.
والذي يبنغي مراعاته عند الحديث عن هذه المتغيرات: الاعتدال وعدم المبالغة، والاعتناء بتقديم الحلول والبرامج العملية للناس، وتلمس الجوانب والمداخل التي يمكن الإفادة منها وتوظيفها مهما كانت محدودة.
الاعتناء بالتربية الإيمانية:
فينبغي أن نعتني بها أكثر من ذي قبل، وهي للأسف يتقلص دورها كثيراً، أولاً في دائرة الأسرة فالأسر المحافظة تحافظ على أولادها وبناتها، وتراقب حالات الانحراف والتغير، وربما تحول بين أولادها وبناتها وصحبة أهل السوء، لكنها تقف عند هذا الدور، فهي تمارس مهمة الحماية فحسب.
وقلما نجد من الأسر المحافظة فضلا عن الأسر المتفلتة من تعتني ببناء أولادها.
وفي دائرة المدرسة نتساءل: إلى أي حد مدارسنا اليوم تربي أبناءنا وبناتنا على حقائق الإيمان والتقوى والصلاح؟ ماذا يسمع أبناؤنا وبناتنا اليوم في مدارسهم؟ هل يجدون فيها ما يرقق القلوب وما يصلهم بالله عز وجل؟ أم أنهم يعيشون في عالم أحسن أحواله أنه عالم مادي بحت يعيش مع المعرفة المجردة فقط بعيداً عن هذه المعاني المهمة؟
إن الإيمان يقي صاحبه ويحميه من الوقوع في الرذائل, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي e :"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" (رواه البخاري (2475) ومسلم (57)).
وعن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي e قال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: ومن يا رسول الله، قال:"الذي لا يأمن جاره بوايقه" (رواه البخاري (6016)) .
والإيمان له أثر آخر على صاحبه، فهو يسمو بالنفس ويعلي أهدافها، ويجعل صاحبها يتعلق بالدار الآخرة أكثر من تعلقه بالدنيا.
وثمة عوامل تدعونا إلى بذل مزيد من الاهتمام بالتربية الإيمانية، ومنها: أن المتغيرات الجديدة تتسم بانفتاح هائل للشهوات وأبواب الفساد المحرمة، من خلال القنوات الفضائية وشبكة الإنترت، والانفتاح المتزايد على العالم الآخر، والعامل الثاني: أن المتغيرات الجديدة تزيد فيها الماديات ويعلو شأن تعلق الناس بها، حتى الصالحون منهم يصيبهم مايصيبهم في ذلك. إن وسائل الاتصال المعاصرة ومصادر الثقافة الجديدة تنقل الناس إلى عالم مادي بحت لاصلة له بما وراء المادة المحسوسة، ولا صلة له بالدار الآخرة وما يدعو إليها، بل إن الفتنة بالمنهج العلمي تقود إلى التشكيك في كل مالا تدركه حواس الناس القريبة.
كل هذا يدعو إلى الاعتناء بتدعيم التربية الإيمانية وتقويتها في كافة المؤسسات التربوية.
والتربية الإيمانية لابد أن يراعى فيها المعنى الشرعي للإيمان وشموله لكافة جوانب الحياة، وعدم التركيز على مجرد أداء الشعائر بل الاعتناء بالأصل وهو أعمال القلوب.
تقوية الحماية الداخلية :
تقلل المتغيرات الجديدة من فرص الضبط الخارجي والسيطرة، ومن ثم لابد من تقوية الحماية الداخلية، التي تجعل المرء يراقب الله تعالى، ويستطيع السيطرة على نفسه وضبطها، ومن الوسائل التي تعين على تقوية الحماية الداخلية:
أ - الاعتناء بالإقناع:
فالتوجيهات التربوية التي يتلقاها المتربون في مجتمعاتنا تعتمد على التوجيه المباشر، وتعتمد على تلقين النتائج والأحكام، وهذا لو نجح مع جيل لايتعامل إلا مع من يربيه، فإنه لن ينجح مع جيل لايعد المربي فيه على أحسن أحواله إلا واحدا من العوامل المؤثرة على المربي، وهذا يتطلب مراجعة شاملة لمحتوى المواد التربوية، ولأساليب تقديمها، وإلى اعتبار القدرة على الإقناع من أهم معايير اختيار المربين.
ب - تنمية قدرات الانتخاب والاختيار واتخاذ القرار
فالمتربي كان فيما سبق في كثير من مواقفه أمام موقف واحد أو رأي واحد، وهذا يجعله لايعاني من صعوبة اتخاذ القرار، أما الآن فهو أمام متغيرات عديدة، وأمام آراء وبدائل متكافئة في درجة إقناعها له.
وهذا يتطلب أن تضمن الخبرات التربوية مايعين المتربي على الاختيار بين البدائل واتخاذ القرار، ومراعاة ذلك من خلال مايقدم للمتربين، سواء في اختيار موضوعات ضمن البرامج العلمية والثقافية تحتاج إلى الاختيار واتخاذ القرار، أو في طريقة تقديم المادة العلمية بحيث يعطى المتربي الفرص في التدرب على الاختيار واتخاذ القرار تحت إشراف المربين مما يزيد من قدرته على الاستقلال بنفسه في ذلك، أو في وضعه في مواقف عملية تتطلب الاختيار بين البدائل واتخاذ القرار.
ج - تنمية الإرادة وتقويتها(/3)
تعتمد العوامل والمتغيرات الجديدة على إثارة الشهوات والغرائز، التي كثيرا مايؤتى منها المرء من جهة ضعف إرادته، وقلة قدرته على ضبط نفسه، والذي يعينه على ذلك بالإضافة إلى صحة العلم والإدراك قدرته على مواجهة دواعي النفس وغرائزها، ومن ثم كان لابد من الاعتناء بتقوية الإرادة، بالإضافة إلى تقوية التربية الإيمانية.
إعادة النظر في أهداف التربية :
ويتأكد هذا في التربية التي تتم من خلال المؤسسات الدعوية؛ فهي تهدف إلى تحقيق الاستقامة لدى المرء، وكثيراً ماتتجاهل الجوانب التي يحتاج إليها في حياته الدنيا، بل ربما وقفت عائقا دونها لأجل أن يتاح وقت أطول للمتربي يتلقى من خلاله التربية في هذه المؤسسات الدعوية.
ويتطلب ذلك الاعتناء بالإعداد لمتطلبات الحياة المادية، من خلال التعويد على تحمل المسؤولية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة في ذلك، وبيان أنه من تقوى الله وطاعته أن يسعى المرء في سبيل تحصيل مايحتاجه من مطالب الدنيا.
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" ( رواه البخاري (1471)) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو أحسبه قال إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خيرله من أن يسأل الناس" ( رواه البخاري (1480) ومسلم (1042)).
ولئن كان الاحتطاب ونحوه هو مصدر الرزق المتاح في ذلك العصر، فمصادر الرزق في هذا العصر لها طبييعة أخرى تتطلب إعداداً، وتعلماً لمهارات وعلوم تعين على الحصول على مصدر للرزق.
ويتطلب ذلك بالإضافة إلى تصحيح هذه المفاهيم، إتاحة المجال، وتقديم الرأي والمساعدة للحصول على مصادر الرزق، والسعي إلى إيجاد برامج تدريب وإعداد وفرص عمل تحتضن الشباب وتؤمن لهم أسباب تحصيل الرزق.
الإرتقاء بالمربين :
ويشمل ذلك: الارتقاء بتفكيرهم؛ ليستوعبوا المعطيات الجديدة ويتأهلوا للتعامل معها، وليكونوا قادرين على تجاوز الأساليب القديمة التي نشأوا عليها وألفوها، وحتى يرتقوا لفهم الجيل الجديد الذين يتعاملون معه ويربونه.
ويستوجب ذلك تقديم برامج تدريبية للمربين والآباء والأمهات، وإذا كانت التربية عملية تلقائية فيما مضى يمارسها أي شخص فالتحديات المعاصرة اليوم تفرض غير ذلك. ويحتاج الأمر إلى أن تقوم مؤسسات تربوية تقدم الدورات والبرامج التدريبية، وتعد مواد التعلم الذاتية للمربين.
السعي لإنشاء مؤسسات تربوية عامة :
تفتقر مجتمعاتنا اليوم إلى مؤسسات عامة تحتضن أبناء المجتمعات المسلمة، فالشباب والفتيات اليوم يعانون من الفراغ، وسوف تزداد مخاطره تبعا للمتغيرات الجديدة، لذا فمن مسؤولية الدعاة والمربين السعي لإيجاد محاضن عامة لأمثال هؤلاء.
ولايزال كثير من المربين يفكرون بعقلية منغلقة، ولايرون من الواقع إلا فئة محدودة ممن يتعاملون معه، وحين يسمعون مصطلح التربية يحصرونه في هذا الإطار.
توسيع دائرة الجهود التربوية :
تتطلب هذه المرحلة توسيع الجهود التربوية وعدم اقتصارها على النخبة، فلئن قدمت مؤسسات الصحوة اليوم برامج تربوية متميزة للشباب أنتجت هذا الأثر الملموس، فلابد من تقديم برامج تربوية عامة لطبقات وشرائح دون المستفيدين من البرامج التربوية القائمة اليوم.
وحتى تؤدي هذه البرامج المنتظرة ثمرتها لابد من توسيع أهدافها لتستهدف المحافظة على أصل التدين الموجود لدى هؤلاء الشباب، وتأصيل الثقافة الإسلامية الصحيحة، إنهم يواجهون مخاطر فكرية وعقدية يتربع على قمتها من يدعو إلى الإلحاد في ظل بناء هش وثقافة شرعية هشة وعلم شرعي سطحي، فنحن نحتاج إلى جهود تؤصل الثقافة الإسلامية عند الناشئة ولو كان السلوك الذي هم عليه اليوم غير مرضي.
ولا بد من التخلي من فكرة إما أن يكون الشاب متدينا صالحا داعيا أو لايكون، فلابد من مراعاة هذه المستويات وتقديم جهود متوازنة في ذلك من خلال : إقامة الجميعات والمؤسسات والأندية العامة الموجهة، وتصدي طائفة من المربين للتعامل مع هؤلاء، ومن خلال الأنشطة والبرامج المدرسية، والسعي قدر الإمكان لتوجيه البرامج العامة الموجهة للشباب كالجمعيات العامة والنوادي والأنشطة الكشفية والرياضية ونحوها.
تطوير الأساليب التربوية :
لا بد من تغير الأساليب التربوية وتطويرها، وتجاوز الأساليب التقليدية السابقة التي اعتاد المربون عليها، واختلطت فيها الوسائل بالغايات، والأساليب بالمنهج، ولئن كان السابقون يقولون : إن أولادكم خلقوا لعصر غير عصركم، فسرعة التغير اليوم تجعل هذه المقولة أكثر انطباقا ومصداقية، وتجعل التفاوت يلحظ في مستويات أكثر تقاربا في العمر من مستويات جيل الآباء وجيل الأبناء.
اقتحام وسائل الإعلام والمشاركة فيها:(/4)
نحتاج اليوم إلى مشاركة الدعاة مشاركة فعالة وتقديم المادة التربوية المتميزة، إن وسائل البث الإعلامي اليوم وأبرزها القنوات الفضائية لا تقدم في معظمها إلاّ المادة الهزيلة، المادة التافهة المادة التي تدور حول الإثارة والإغراء وتتجاوب مع عواطف الناس وغرائزهم، بل تستهدف إثارة الكامن من غرائز الناس، وهي بحاجة اليوم إلى أن تُثرى بالمواد الجادة التي يحتاجها الناس.
والمادة التي نحتاج اليوم إلى تقديمها منها ما يحتاجه الجيل المستهدف بهذا الغزو: جيل الشباب والفتيات وجيل الناشئة، فنحتاج أن نقدم لهم برامج جادة تقدم لهم المادة المتميزة المحافظة، وتجيب على تساؤلاتهم، وتتحدث عن همومهم، وتقدم لهم الثقافة الشرعية باللغة المعاصرة التي يفهمونها، وتتلاءم مع حاجاتهم ومع متطلباتهم
ونحتاج أيضاً إلى تقديم برامج تتناول القضايا التربوية التي يحتاجها المربون، وتحتاجها الأسرة، وتحتاجها المدرسة، ويحتاجها المعلمون والمهتمون بشؤون التربية.
وإلى متى تكون هذه الوسائل حكراً على دعاة الإثارة، والباحثين عن الشهرة، وإلى متى تظل هذه الوسائل تسهم في تسطيح ثقافة الأمة، وفي تهميش اهتماماتها؟
إن هذه الوسائل هي التي تتحكم اليوم في ثقافة الأمة وتصنع الرأي العام وتُوجّه الناس شئنا أم أبينا، ولابد من أن يفكر الجادوّن في التعامل مع مثل هذه الوسائل والقنوات، ولابد أن يعيدوا النظر في إحجامهم فيما سبق، ولئن كان الصالحون يجدون مبرراً وعذراً لهم فيما سبق في تأخرهم عن مشاركة في هذه القنوات باعتبار إنها قنوات مُدَنّسَةُ تنشر الفساد واللهو، فاليوم أصبحت مطلباً، وأصبحت المصالح التي ينتظر أن تتحقق من وراء هذا مصالح عظيمة، فهذه الوسائل هي القنوات والوسائل التي تخاطب الناس .
إن المنبر الذي يتحدث من خلاله خطيب الجمعة، أو درس المسجد، أو المدرسة المتميزة، هذه المؤسسات ستبقي تؤدى دورها ورسالتها، لكنها لم تعد اليوم تخاطب الشريحة الواسعة من الناس، إن معظم الشباب إذا حضروا إلي صلاة الجمعة لا يحضرون إلاّ متأخرين، وإذا حضروا وجدوا أن موضوع الخطبة يتناول قضايا بعيدة عن اهتماماتهم، وعن قضاياهم، ثم إن وسائل الإعلام تملك من الجذب والإثارة والوسائل مالا تملكه الوسائل الأخرى، فهي جديرة في أن نعيد النظر في مدى تعاملنا معها، وأن يهتم المربون بتقديم مادة جادّة فيها.
إنها تفتفقر إلى مواد للشباب والفتيات تخاطبهم بمستواهم وعقولهم وقدراتهم، وإلى برامج تربوية للآباء والمعلمين، وإلى إنتاج إعلامي متميز يخاطب الطفل والمرأة، يكون بديلا لهذا الإنتاج العفن الذي تعاني منه وسائل الإعلام، وسيزداد عفونة مع الانفتاح على النموذج الغربي المتعفن
تعزيز الوظائف الاجتماعية للمدرسة :
لابد من السعي لتعزيز الوظيفة الاجتماعية للمدرسة، وأن تتحول من مجرد ميدان للعطاء المعرفي إلى ميدان يجد فيه الطالب الراحة والانسجام والإقبال.
ويمتثل هذا الإصلاح في مسارين: الأول على المدى البعيد وهو يحتاج إلى إصلاح جذري في بنية التعليم وهيكليتيه، في ظل طلب متزايد على التعليم وإمكانات محدودة، وهذا لن يتم مالم يعطى التعليم أولوية في الإنفاق والجهد.
والمسار الثاني على المدى القريب وهو مايتعلق بمهمة ناظر المدرسة، أو مهمة المعلم والمشرف التربوي، والأخصائي الاجتماعي، ويتم هذا بإعادة النظر في أساليب التعامل مع الطلاب، وضرورة بناء علاقة اجتماعية جيدة معهم، والسعي للقرب منهم. كما يمكن أن تمثل الأنشطة اللاصفية ميدانا مهما يعزز من الوظيفة الاجتماعية للمدرسة.
إن طلابنا اليوم يكرهون المدارس، ويفرحون بالإجازة ويتمنونها؛ ذلك أنهم يعيشون في المدارس في جو أكاديمي بحت، وهي تطالبهم ولاتعطيهم، وهذا سيؤدي إلى تقليص أثر المدرسة، فمالم يجد الطالب الجو الاجتماعي المريح له فيها فلن تؤتي الإمكانات التربوية المتاحة للمدرسة أثرها.
وكما ينبغي الاعتناء بذلك في ظل الأسرة ومؤسسات التعليم والتربية الخيرية كحلقات التحفيظ ونحوها، وليسعى المربون في هذه المؤسسات إلى بناء جو اجتماعي يسهم في زيادة الإقبال على هذه البرامج، ويهيء نفسيات المتربين للتقبل والتلقي، فمهمة معلم القرآن لاينبغي أن تقتصر على إتقان التلاوة والتوجيهات العاجلة، بل لا بد من بناء علاقة اجتماعية جيدة بين معلم القرآن وبين الطالب تجعل من هذه الميادين ميادين تربوية منتجة.
إن جيل الطلاب الصالحين الأخيار الذين يقبلون على حلق القرآن وهذه الأنشطة غير الجيل السابق، هذا الجيل يحتاج إلى نوع من الترغيب ويحتاج إلى بناء علاقة اجتماعية ودافئة وقوية بينه وبين المربي حتى يستطيع أن يؤدي الدور الأكبر، وحتى يستطيع أن يوسع المساحة التي يأخذها من الدائرة الكبيرة التي تؤثر على هذا الشاب
تدعيم الروابط الاجتماعية وتقويتها :(/5)
يترك الترابط الاجتماعي أثره التربوي الفاعل، فالأسرة المترابطة تمارس قدرا من الضبط الاجتماعي لأفرادها، واحتمالات الانحراف لدى الفرد الذي ينتمي إلى أسرة مفككة أكثر منها لدى الذي ينتمي إلى أسرة مستقرة.
إن تدعيم الروابط الاجتماعية وتعزيزها، والسعي إلى إقامة برامج وأنشط تسهم في تعزيز هذه الروابط يعد من أهم مطالب المرحلة القادمة.
فلابد من إحياء هذه الفكرة ونشرها بين الشباب اليوم، والدعوة إلى تنظيم برامج عائلية وأسرية، وإعطاء الأسر والعوائل جزءاً من الوقت والاهتمام.
والأنشطة الاجتماعية والعائلية المطلوبة اليوم لاينبغي أن تقتصر على مجرد الأنشطة الدعوية وتنظيم المواعظ والمحاضرات، بل لابد أن يكون إحياء الترابط والتماسك الاجتماعي مطلبا في حد ذاته.
تقديم الخدمات الإستشارية في الجانب النفسي والاجتماعي :
ستواجه الآباء والأمهات وسائر المربين مشكلات جديدة لم يألفوها ويعهدوها، وهذا يبرز الحاجة لأن يبادر المختصون والمهتمون من الصالحين بتقديم خدمات استشارية لهؤلاء.
وزيادة الحاجة مع فراغ الساحة ستؤدي إلى أن سيتصدى للميدان فئة غير منضبطة ولا محافظة، فئة تقول إن التربية الصحيحة لابنتك أن تتركها تصادق الشباب وتذهب مع من شاءت وتختار صديقها بنفسها.
والتربية الصحيحة للشاب المراهق أن تتركه ولا تواجه غرائزه، ولا تكبته، سيجد الآباء والمربون من يقدم لهم هذه النصيحة وهذا الإرشاد، وسيجد الشباب والفتيات من يعطي هذه الغرائز المشروعية ويزيل عنهم التحرج والتأثم.
فما لم يبادر الغيورون الصالحون لتقديم خدمات استشارية للأسر والآباء والأمهات والمعلمين، سيسبق إليها هؤلاء الذين ربما تكون كثير من خدماتهم ونصائحهم تدعم الانحراف، دون أن تقضي عليه .
كما أن بروز هذه المشكلات، والحاجة للاستشارت سميثل منطلقا دعويا مهما يمكن أن يستمثر في إصلاح واقع الناس.
تفعيل دور التعليم الأهلي :
يمتلك التعليم الأهلي قدراً أكبر من المرونة وقدرا أكبر من الإمكانات، ويتفوق في ذلك على التعليم النظامي الذي يتسم ببطء التطوير، وتعقد الإجراءات.
وهذا يجعل منه ميدانا ومنطلقا لتطوير برامج تربوية ودعوية يمكن أن تسهم في بناء الجيل وتختصر خطوات عدة تبذل خارج إطار التعليم.
وهذا يتطلب الاعتناء بالجانب التربوي والدعوي في التعليم الأهلي، والسعي لاستثمار مايمكن استثماره منه، بدلا من أن يكون الوجه البارز هو الوجه المادي الاستمثاري.
تطوير التعليم الشرعي :
والتطوير الذي نسعى إليه وننشده في التعليم الشرعي يتمثل في مسارين:
المسار الأول: تهيئة فرص جديدة:
وهذا الأمر تدعو إليه اعتبارات عدة، منها:
1- نقص الطلب على التعليم الشرعي النظامي، فقد كانت فرص العمل لخريجي هذا النوع فيما سبق تدفع بكثير من الخيرين للاتحاق به، والآن بدأت كثير من هذه الفرص في التراجع، والاتجاه في المستقبل القريب نحو مزيد من التراجع، ومن ثم فنحن أمام مطلب ملح لتهيئة البديل والفرص الأخرى لسد هذا النقص، والمسؤولية تقع بالدرحة الأولى على التربويين والدعاة إلى الله عز وجل.
ويمكن أن يتم هذا الأمر من خلال افتتاح معاهد ومراكز مسائية تسعى إلى تقديم التعليم الشرعي وفق برامج تتناسب مع كافة الناس من الجنسين، ومن خلال تهيئة برامج للتعلم الذاتي كبرامج الحاسب الآلي وأفلام الفيديو وشبكة الإنترنت والاستفادة من التقنيات الحديثة في تفريد التعليم.
2- كثرة المؤثرات على الناس فهي تدعو إلى الاعتناء بنشر العلم الشرعي وإحيائه؛ لأن العلم الشرعي يعطي الناس القدرة على التميز بين الحق والباطل، وبين المفسد والمبطل، والناس إنما يؤتون من الجهل فيقعوا في الحرام أو يتركوا الواجب جاهلين بحكمه، أو أن تضعف إرادتهم فيتبعون شهوتهم مع علمهم بالحكم الشرعي، وقد تحدثنا فيما سبق عن الجوانب التي تقوي الإرادة.
والعلم الشرعي الذي يحتاجه الناس يشمل فروض الأعيان، وهو العلم الذي يجب على عامة الناس تعلمه، ويتمثل في مبادئ العلم الشرعي التي لا يسع أحد جهلها وهذه يجب أن تقدم لكافة الناس.
كما يشمل إعداد طلبة علم يعلمون الناس ويقدمون لهم مايحتاجونه في دينهم.
المسار الثاني: التطوير النوعي للتعليم الشرعي :
لأجل أن تكون مخرجات التعليم الشرعي قادرة على مواجهة المؤثرات الجديدة التي تواجهنا فلابد من أن نعيد النظر في التعليم الشرعي القائم اليوم، فالجيل أمام تحديات عدة لابد أن يهيأ لها.
وحملة العلم الشرعي الذين يعدون للدعوة لابد أن بكونوا قادرين على التأثير في مجتمعاتهم، وقادرين على تربية الجيل الجديد، وقادرين على استيعاب المشكلات الجديدة وكيفية التعامل معها.
وأحسب أنه حين يستمر التعليم الشرعي بنمطه اليوم فإنه سيعجز عن مواجهة المتغيرات التي تمر بالمجتمعات اليوم.(/6)
هذه بعض الخواطر والآراء والأفكار العاجلة التي سمح بها الوقت في هذا المقام والأمر كما قلت يحتاج إلى نقاش أوسع ويحتاج إلى بحوث ويحتاج إلى تكاتف جهود المختصين، لكن حسبي أن أثير التفكير في مثل هذه القضايا.
والله المستعان وعليه التكلان.(/7)
التربية من خلال الحوار ... ... ...
من الواضح أن العولمة تقوم بعملية تهميش واسعة النطاق لكثير من السلطات التقليدية الموروثة، إنها تهمش سلطة الدولة وسلطة المدرسة وسلطة الأسرة والمجتمع والقبيلة، وتوسع في الوقت نفسه من مدى الحرية الشخصية على حساب الرقابة الاجتماعية.
وليس من المهم السؤال: لماذا يحدث هذا، وكيف يحدث، إنما المهم أن نبحث عن الصيغة الملائمة لمواجهة هذه الوضعية الجديدة.
لا يخفى إلى جانب هذا أننا ورثنا من عصور الانحطاط عادات وتقاليد تربوية لا تتفق مع الرؤية الإسلامية في بناء الفرد والنهوض به، فقد كان يسود في الأسرة في كثير من البيئات الإسلامية نظام شبه عسكري، حيث يُسكت الرجل المرأة، والأخ الأكبر الإخوة الصغار، ويُسكت الصبيان البنات... أضف إلى هذا اللجوء العام إلى الصمت ما لم تحدث مشكلة، فينتبه الأبوان إلى ضرورة الكلام من أجل العلاج! أما في الكتاتيب والمدارس، فقد ساد التلقين وقل البحث والتنظير، كما ساد الكبت والضرب، وكان من المألوف في العديد من البيئات الإسلامية، أن يقول الأهل لشيخ الكتَّاب إذا دفعوا إليه الصبي:"لك اللحم ولنا العظم"، أي لك أن تضرب حتى لو أدى ذلك إلى تمزق اللحم، أما العظم فليس من حقك كسره. وكأن الوالد هو الذي سيقوم بتلك المهمة، لتكتمل دائرة العنف على الطفل المسكين!
وساد كذلك لدى بعض التيارات والتوجهات الإسلامية المهتمة بتربية النفوس الاستسلام للشيوخ والتماس الأعذار والتأويلات لما يقومون به، ولو كان ينطوي على مخالفة شرعية ظاهرة. ومن العبارات المشهورة في هذا قولهم:"من قال لشيخه: لم لم يفلح أبداً"! وكانت نتيجة تلك التربية تخريج أجيال يسيطر عليها اليأس والخوف والاتكالية وانتظار المساعدة عوضاً عن تقديمها. أجيال لا تحسن التعبير عن أفكارها وحاجاتها وآرائها. ولا تشعر بذواتها وإمكاناتها. وكانت عاقبة كل ذلك انحدار مكانة الأمة بين الأمم وطمع الأعداء فيها وانتشار التعانف والتقاتل في ديارها عوضاً عن التراحم والتعاون والتناصح والتدافع بالتي هي أحسن وأرفق.
لدينا مصطلح (الحوار) ومصطلح (الجدال) ولهما دلالة مشتركة على دوران الكلام بين طرفين وترجيعه بين شخصين أو فريقين. لكن نلمح في العديد من النصوص والأدبيات أن الجدال كثيراً ما يميل إلى الخصومة في الكلام، كما ينطوي على حرص كل واحد من المتجادلين على غلبة خصمه وإفحامه وإلزامه الحجة وبيان خطئه. ونتيجة لهذا فإن من المألوف أن يقع خلال الجدل بعض الظلم والادعاء والكذب والتطاول واستخفاف أحد المتجادلين بالآخر. وقد قال الله –جل وعلا-:"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج:8]، ومن هنا وجهنا –سبحانه- إلى أن نجادل المجادلة المقيدة بالأدب الإسلامي الرفيع، والمجادلة بالحق الساعية إليه؛ حيث قال:"وجادلهم بالتي هي أحسن" [النحل:125]، وقال:"وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، أما الحوار فمع دلالته على تردد الحديث بين اثنين إلا أنه لا يحمل صفة الخصومة وإنما يحمل صفة الحرص على العلم والفهم والاطلاع. إن الدافع الأساسي للمحاور الجيد ليس إقناع من يحاوره بوجهة نظره وجعله يقف إلى جانبه، وإنما دافعه الأساسي أن يُري محاوره ما لا يراه، وأن يظفر من محاوره أيضاً بأن يكشف له غموض أمور لا يراها ولا يعرفها، إن كلاً من المتحاورين يطلب الوضوح ومعرفة الحق والحقيقة. ولا شك في أن بعض الحوار قد ينقلب عند الانفعال وتوفر اعتبارات معينة إلى جدل عقيم ومقيت. كما أن بعض الجدل قد يتسم بالرفق والحكمة.
إن الحوار لا ينبغي أن يكون أسلوباً نستخدمه داخل الأسر والمدارس من أجل تربية الصغار وتعليمهم فحسب، وإنما ينبغي أن يكون أسلوب حياة، يسود في الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام وفي الشركة والمؤسسة والدائرة الحكومية.. إن الحوار الحيوي للجميع، وإن غيابه عن حياتنا سوف يؤذي الجميع؛ وذلك لأن البديل سيئ جداً، وهو كثيراً ما يكون القهر والكبت والانعزال والأنانية، واتباع الهوى وتصلب الذهن ومحدودية الرؤية، وإعجاب كل ذي رأي برأيه!
يمكن القول إنه لا يكاد يخلو بيت أو مؤسسة أو مدرسة من شيء من الحوار، لكن السؤال هو: هل كل حوار يؤدي إلى تربية جيدة؟ وهل أي حوار -مهما كان- يعد كافياً لزرع المفاهيم والقيم والعادات الجيدة في شخصيات الصغار والكبار؟ طبعاً لا.
إن الحوار الذي يربي فعلاً هو الحوار الجيد والعلمي والموضوعي والقائم على أسس أخلاقية جيدة. حين يتوفر الحوار الجيد والمديد والمستمر فإنه يولد، ويقتضي بطريقة غير مباشرة عدداً ممتازاً من الأفكار والمفاهيم والرؤى والمبادئ والعادات والسلوكات الصحيحة والرائدة.
وإذا تساءلنا عن الشروط التي يجب توفرها من أجل حوار ناجح ومثمر أمكننا أن نعثر على الآتي:(/1)
1- الإيمان العميق بأن لكل إنسان أن يعبر عن ذاته، وأن يدافع عن قناعاته في إطار المبادئ الكبرى المجمع عليها، وإتاحة الفرصة للمرء كي يعبر عن قناعاته ومزاجه... شرط جوهري لنمو الحياة العقلية والروحية، كما أنه مشروط لشعور الطفل بكرامته وإنسانيته.
2- حتى يصبح الحوار أسلوب حياة يجب أن نؤمن بأن الواحد منا مهما بلغ من التحصيل العلمي، ومهما كانت عقليته ممتازة فإنه في نهاية الأمر لا يستطيع أن يصدر إلا عن رؤية جانبية محدودة. وذكاء الجماعة أكبر من ذكاء الفرد. ومن خلال الحوار نستطيع معرفة رأي الجماعات والمجموعات، والاستفادة من أكبر قدر ممكن من الآراء.
3- من المهم -حتى يصبح الحوار أسلوب حياة- أن نوطن أنفسنا لقبول النقد. فقد يوجه التلميذ في المدرسة أثناء الحوار انتقاداً لأسلوب التدريس، أو ينتقد عدم كفاية استخدام المدرس لوسائل الإيضاح. وكذلك يتعرض الأبوان في الأسرة إلى شيء من الاعتراض والمراجعة حول مجمل قراراتهما في إدارة شؤون الأسرة ومعالجة مشكلاتها. وحين نفقد روح التسامح والمرونة الذهنية المطلوبة لذلك فإننا سننظر إلى الحوار على أنه باب لإساءة الأدب من قبل الصغير مع الكبير، وسيكون البديل آنذاك هو التعسف والاستبداد.
حين نحاور الأطفال في البيوت والمدارس، وحين نعتمد أسلوب الحوار في مجالسنا وإداراتنا ومؤسساتنا نحرز عدداً لا بأس به من النجاحات التربوية على الصعيد الفكري وعلى الصعيد العقلي، وأيضاً على الصعيد الاجتماعي.
من خلال الحوار الناجح والموضوعي والمستمر نتمكن من تنمية الحس النقدي لدى الأطفال في البيوت والمدارس. والحقيقة أن ما يتم من مراجعات ومجادلات بين المتحاورين يعد وسيلة مثالية للوصول إلى هذا الغرض.
لا يعني النقد اكتشاف السلبيات فحسب، بل يعني اكتشاف السلبيات واكتشاف مساحات الخير والحق والجمال في الأقوال والمواقف والعلاقات والأشياء.
حين يسمع الأطفال وجهات نظر متباينة ومتعددة في الموضوعات والقضايا المطروحة للنقاش، فإنه تنمو لديهم القدرة على المقارنة، والمقارنة –كما يقولون- هي أم العلوم. ومن خلال نمو المقارنة تتشكل رحابة عقلية جديدة لا يمكن بلوغها عن غير هذه السبيل.
حين ندير حوارتنا على نحو جيد فإننا من خلال الحلول الوسطى والآراء المعدَّلة والملقحة نشيع في حياتنا الرؤى المتدرجة، كما نشيع القابلية العقلية لإدراك ما في الأشياء من نسبية. وأعتقد أن تخفيف الاحتقان والتوتر الاجتماعي وكذلك تخفيف التوتر السائد في علاقاتنا مع المنافسين والخصوم على المستوى الدولي –يتطلب أن نؤسس في نفوس وعقول الصغار والكبار أن الخير في الناس، وكذلك الشر ليس مطلقاً؛ حيث لم يجعل الله –جل ثناؤه- الفضائل حكراً على أمة أو جيل أو مجتمع، كما أنه لم يجعل الرذائل كذلك. ويتطلب كذلك أن نؤسس في الأذهان أن هناك واجباً دون واجب وحراماً دون حرام وأذى دون أذى ونجاحاً دون نجاح وإخفاقاً دون إخفاق... وأعتقد أنه في زمان شديد التعقيد وكثير الغموض بات الأطفال –على نحو أخص- بحاجة إلى تربية تنمي لديهم فقه الموازنات، وهذا الفقه يقوم على عدد من المبادئ المهمة، منها:
- لكل شيء ثمن، وهذا الثمن قد يكون وقتاً، وقد يكون جهداً، وقد يكون مالاً، وقد يكون سحباً مما لدى المرء من رصيد الالتزام أو الكرامة أو السمعة...
- من تلك المبادئ أيضاً ضرورة العمل على تحقيق خير الخيرين، ودفع شر الشرين، فقد نفوِّت خيراً أصغر من أجل الحصول على خير أكبر. وقد ندفع شراً أكبر بالوقوع في شر أصغر. وقد نحتمل الضرر الأصغر من أجل تحاشي الوقوع في ضرر أكبر.
من خلال الحوار بوصفه صبغة عامة للاتصال والمعايشة نتبادل رسالة عظيمة قائمة على نفسية الرخاء وعقلية السعة، حيث يوقن الجميع أن في إمكان المرء تحقيق ذاته، والوصول إلى أهدافه وبلورة آرائه على الرغم من إتاحته الفرصة للآخرين بأن ينقدوه ويجادلوه، ويعترضوا على بعض ما يقول. وعلى العكس من هذا فإنه حين ينعدم أو يضعف الحوار في مؤسسة أو أسرة أو مدرسة... فإن كل واحد من الذين يعيشون في تلك المحاضن يشعر بالعوز والضيق وقلة الفرص، ويسود اعتقاد بأن تقدُّم فلان ونجاحه لا يتم إلا على حساب الآخرين، كما أن نجاح أي واحد من الأقران والزملاء لا يتم إلا إذا تضرر وتراجع! وهذا بسبب سيطرة فلسفة خفية توحي للناس بأنه ليس في الأرض من الخير ما يكفي لإسعاد الجميع، فتسيطر عقلية الشح حتى في الأفكار والآراء، فالأمور محسومة، فإما أن يكون الحق معي أو معك. وإما أن أكون أنا على الطريق الصحيح، وإما أن تكون أنت، حيث لا يتوفر لدينا طريق ثالث!
أما حين يسود الحوار فسيدرك الناس -ولو بطريقة غير واضحة- أن هناك دائماً طريقاً ثالثاً وفكرة معدلة، حيث إنه ما احتك مفهوم بمفهوم مناقض إلا أمكن أن يتولد عن هذين المفهومين مفهوم ثالث، هو أرقى منهما لأنه ثمرة لرؤية مشتركة، ونتيجة لتلاقح العقول الفذة.(/2)
ولنتأمل في قول الله –جل وعلا-:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم".
إننا من خلال الحوار نكتشف القواسم المشتركة، ونجد أن الذي يقف في أقصى اليمين يتواصل على نحو ما مع الذي يقف في أقصى اليسار؛ لأن الحوار يتطلب بطبيعته بلورة قواعد جديدة واكتشاف أرضيات لم يسبق لنا عهد بها. إن الحوار بالنسبة إلى الكبار أشبه باللعب بالنسبة إلى الصغار، ولو أنك أعطيت مجموعة من الأطفال دراجة –مثلاً- ليلعبوا عليها فإنك ستجد أنهم خلال دقائق توصلوا إلى بلورة قاعدة لتداولها والاستمتاع بها، وهكذا نحن الكبار فإننا في حوارنا المتواصل مع بعضنا ومع أسرنا وأطفالنا نستطيع بلورة العديد من المبادئ والأدبيات والرمزيات التي تجمع بيننا، وتقربنا من بعضنا.
إن الحوار يحجم الخلاف في العديد من الأمور، ويزيل سوء الفهم وسوء التقدير وسوء الظن الذي يسود في حالات التدابر والتجافي. وهذا يمهد الطريق للتعاون والتعاضد والعمل معاً وكأننا فريق واحد.
ولا بد هنا أن أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن الحوار يُنعش فيمن نربيهم ونعلمهم الشهية لطرح الأسئلة، حيث إنه بطبيعته يتضمن ما لا يحصى من الأسئلة، إن المحاور يستفهم من محاوره عن بعض الغوامض، ويطلب منه الدليل على بعض ما يورده من أقوال وآراء ومسائل، كما أنه كذلك يعترض من خلال الأسئلة على بعض ما يقوله محاوره... وهذا كله يمرن الأطفال والناشئة والشباب والكبار على أن يفضوا بما في أنفسهم، وأن يسألوا عن الأشياء غير المنطقية وغير المستساغة مما يرون ويسمعون. والحقيقة أن كثيراً من ينابيع الحكمة يتفجر، وكثيراً من شرارات الإبداع والابتكار ينقدح ويتوهج من خلال الأسئلة التي يطرحها النابهون والسائرون في دروب النجاح والتفوق.
إن طريق الحوار هو طريق المستقبل وهو طريق النهوض وطريق الفهم العميق والرؤية الثاقبة، كما أنه طريق التآخي والتعاون، وإذا لم نسلك هذا الطريق، فقد يكون الطريق الذي نسلكه هو طريق التباغض والتجافي والتعانف والانغلاق وسوء الفهم، وهذا ما لا يتناسب مع الرؤية الإسلامية للمستقبل، كما لا يتناسب مع الأدبيات الإسلامية في العلاقات الاجتماعية.
والله من وراء القصد.
كاتب المقال: د. عبد الكريم بكار
المصدر: موقع الدكتور عبد الكريم بكار
...(/3)
التربية والحضارة عند مالك بن نبي ..كتاب جديد
مفكرة الإسلام: صدر حديثا عن منشورات عالم الأفكار كتاب التربية والحضارة للباحث محمد بغداد بأي، وهو كتاب يبحث في مفهوم التربية وطبيعة علاقتها بالحضارة في تصور مالك بن نبي.
ويعد كتاب التربية والحضارة هو أول عمل فكري يقدم للنشر، حيث يوحي عنوانه بإشكاليات أساسية تضمنتها جميع مشاريع النهضة الفكرية والحضارية .
كما يوحي الكتاب منذ البداية بالجدل المتبادل بين الحضارة كبناء شامل والتربية باعتبارها أداة تعيد إنتاج النمط الحضاري وتجديده كلما دب الخمول في أوصاله.
فالحضارة متى اشتدت قوتها وإشعاعها كانت تسري قوتها في مختلف مظاهرها، والتربية متي كانت فعالة ومستلهمة لأدوات الحضارة المنتسبة لها كانت هي الروح المجددة للفعل الحضاري. وإذا كانت التربية، كما يبيّن لنا الكتاب والتي يتطابق معناها مع معني الثقافة، آلية لإنتاج النمط الحضاري في المراحل التاريخية الأولي لميلاد المجتمع، فإنها أيضا آلية لبعثه من جديد وللمحافظة عليه في المراحل اللاحقة من تطوره. والآلية هذه يتحدد مداها بصورة عامة في إطار المنتوج القيمي للمجتمع. وهي إذ تنصب علي ذلك المنتوج، فإنها تضع في الحسبان شيئا أساسيا هو تجديد ذلك المنتوج القيمي، والبحث عن أساليب تفعيله بما يخدم الفرد المعاصر المنتمي لذلك التراث القيمي والنمط الحضاري، بهدف تحقيق تواصل حضاري بين أفراد وأجيال الأمة الواحدة.
وقد جاء في كلمة الناشر أن الكتاب تناول جملة من المفاهيم الأساسية التي تهم الفعل الحضاري والتربوي في محاولة لتحديد مضامين هذه المفاهيم وتفعيلها في سياق رؤية حضارية وتربوية توحّد بين البعد الثقافي المحلي والبعد الإنساني.
أما المسائل التي عالجها المؤلف في كتابه فهي ثلاث مسائل وهي الظاهرة الحضارية في تصور مالك بن نبي، أسبابها ومكوناتها، مجتمع ما بعد الحضارة وسماته ومسألة التغيير والتربية من منظور مالك بن نبي.
للإشارة فان المؤلف محمد بغداد بأي باحث مختص في علوم التربية وهو أستاذ للفلسفة بالمدرسة الدولية الجزائرية بباريس(/1)
الترغيب في الحج والعمرة
المصدر/المؤلف: موقع الحج والعمرة ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 1866
قد يعد كافياً في الترغيب في فعل هذه العبادة سرد ما يلي من الأحاديث النبوية:
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قوله: { أفضل الأعمال: إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور }.
وورد فيما أخرجه ابن ماجة في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي : { الحج جهاد كل ضعيف }.
وثبت عن أبي هريرة مرفوعاً: { جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة }.
وورد: { من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه }.
وجاء فيما أخرجه البزّار عنه : { إن الله يغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج }.
وورد أن النبي سمع رجلاً يقول في الطواف: اللهم اغفر لفلان بن فلان، فقال: { من هذا؟ } قال رجل حملني أن أدعو له بين الركن والمقام. فقال: { قد غفر الله لصاحبك }.
وبعد هذا، فأي مؤمن يطرق سمعه مثل هذه البشارات النبوية ولا يهتز طرباً، ويتمايل فرحاً، وهي تبلغه في صدق ووضوح أن الحج من أفضل الأعمال، وأن الحج في ثوابه كالجهاد في أجره، وأن الحاج كالمجاهد في المنزلة، وأن للحاج كرامة عند الله بها يستجاب دعاؤه ويغفر ذنبه وذنب من يريد له ذلك ما استغفر له.
القيود المفروضة على تزكية عبادة الحج للنفس إن قوله : { من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه } نجده قد قيد الحصول على نتيجة هذه العبادة من غفران الذنوب غفراناً كاملاً حتى لم يبق على النفس من أثر للتدسية فتطهر بعد ذلك وتصبح أهلاً لرضى الله تعالى والقرب منه، قيده بقيدين اثنين:
أولهما: عدم الرفث وهو اسم جامع لجنس الجماع وسائر مقدماته القولية كلحن الكلام والغناء والألفاظ الدالة على الغريزة الجنسية تصريحاً أو تلويحاً، أو الفعلية كالجس باليد واللمس، والغمز بالجفن والحاجب، والنظر المريب بالعين، والفكر الفاسد بالقلب، وما إلى ذلك.
وثانيهما: عدم الفسوق، وهو لفظ يندرج تحته سائر المعاصي والمخالفات الشرعية من الكفر والشرك إلى أدنى مخالفة، فمع السلامة من هذين القيدين الثقيلين يحصل صلاح النفس وزكاؤها وتصبح النفس طاهرة نقية قريبة من الله مرضية، ومع عدم السلامة منهما فإن الطهارة للنفس لا تتحقق، لأن طهارة النفس عبارة عن محو آثار الذنب عنها، فإذا لم يمح أثر الذنب فمن أين يأتي لها الصفاء والطهر؟
واعلم أن سر هذا الحرمان منشؤه أن المحرم بدخوله أرض الحمى، وبقوله: لبيك اللهم لبيك، قد أصبح وافدا لله ذي الجلال والإكرام، وأن وافدا لا يحترم نفسه ولا وفادته على ربه فيلوث نفسه بالذنب ويطمس نوره بمعصية من وفد إليه، ويذهب كرامته بالخروج عن حدود آداب الزيارة، وبانتهاكه لحرمات الوفادة لحري بأن لا يجد عند ربه أقل ما يسمى إكراماً أو حس وفادة.
ومن هنا كان عدد الناجحين في هذه العبادة دائماً قليلاً، ولو كان المقبلون عليها كثيرين، وقد قيل يوماً لعبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما أكثر الحجاج!! فقال للمستكثر: ما أقلهم!
وكأن الشاعر كان معه لما قال:
خليلي قطاع الفيافي إلى الحمى *** كثير (وجمع) الواصلين قليل
ومن القيود لهذه العبادة: البرور فقد صح عنه قوله: { الحج البرور ليس له جزاء إلا الجنة } فنراه قد خصص مطلق الحج بصفة البرور فلا يعظم أجر الحاج ولا يجزل ثوابه إلا إذا اتصف حجه بالبرور المشار إليه في الحديث.
ومن هنا لزم أن نعرف معنى البرور الذي هو قوام الحج وملاك أمره. البرور: مصدر فعل بر يبر بالفتح بروراً في قوله: صدق، وبر خالقه: أطاعه، وبرّت الصلاة: قُبِلَت، وبرّ الله العبادة قبلها، فعلى هذا يكون من معاني البرور: القبول، ولنا أن نقول: الحج المبرور هو المقبول، لكن قبوله مبني على صدق الحاج في نياته، وأقواله، وأعماله على طاعته لربه. وهذه هي شروط قبول الحج قطعاً: الإخلاص فيه لله تعالى وحده، وطاعة الله باجتناب ما حرم من الفسق والرفث والجدال وغيرها، وصحة الأداء بحيث يكون أداؤه كاملا على ما حدد الشارع من هيئات وما وضع له من صفات.
هذا ولنذكر ما ورد عن السلف في معنى البرور، وهو وإن اختلف مع ما ذكرنا لفظاً فإنه يتحد معه معنى. سئل النبي عن البر في الحج فقال: { إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وطيب الكلام }. وسئل ابن عمر فقال: ( إن البر شيء هين: وجه طليق، وكلام ليّن )، والمعروف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سئل عن أفضل الأعمال يجيب السائل بما يتفق وإصلاح حاله، فكثيراً ما كانت تختلف إجاباته ، والسؤال واحد، فكان يعالج بذلك نفوس السائلين، فيصف لكل سائل دواءه الخاص.(/1)
هذا والملاحظ في جوابه : أنه كان يهدف إلى حمل الحاج على أن لا يقف بحجه عند الاقتصار على فعل الواجب وترك المحرم فقط، بل عليه أن يسارع في الفضائل وينافس في الكمالات حتى يصل بحجه إلى أعلى درجات القبول بعد أن وصل به إلى أكمل صفات البرور، وبهذا يتضح أن ما عرفنا به البرور لا يختلف أبدا مع ما عرفه به الرسول ، ولا مع ما عرفه به صاحبه رضي الله عنه.
وخلاصة القول، إن الحج المبرور هو الحج الذي استكمل سائر مؤهلات القبول من الإخلاص، وحسن الأداء والابتعاد به عن كل ما يخدش في قيمته كحج صادق ملؤه الخير والإحسان، وأن الحاج البار هو ذلك الحاج المطيع الذي لا يعصي، والمحسن الذي لا يسيء في خدمة سيده، والذي جمع إلى الطاعة الكاملة والإحسان العام فعل الخير وإسداء المعروف لوافدي بيت الله فأطعمهم طعامه، وألان لهم كلامه.
وإن حاجاً كهذا قد ارتقى بحسن طاعته، وسما بطيب نفسه، لم يصبح جزاؤه حسنات، ولا محوا لسيئات فقط، لأن ذلك لا يعادل ما أهله الله له من سامي المنزلة، وعظيم الدرجة، فلم يكن له إذا من جزاء يعادل ثوابه إلا الجنة منزل الأبرار، ومقر الأصفياء الأخيار.
الترهيب لمن يترك الحج تهاوناً
روي عن علي بن أبي طالب قوله: ( من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً )، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
وروي عن عمر بن الخطاب قوله: ( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ).
وورد عن الرسول : { من لم تحبسه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، ومنع من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً }.
وجاء فيما يرويه الرسول عن ربه عز وجل قوله: { إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه المعيشة يمضي خمسة أعوام لا يفد إليّ إنه لمحروم }.
فهذه الأحاديث وتلك الآثار تدل على مدى ذنب المتهاون بأداء هذه الفريضة، وأنه بتهاونه وتسويفه قد وقف على شفا هاوية من الجحيم، لأنه لا يؤمن عليه أن ينقلب ذلك التهاون والتسويف إلى استباحة ترك هذه الفريضة، أو احتقارها وعدم المبالاة بها -والله يحول بين المرء وقلبه- فيصبح - والعياذ بالله تعالى- من الكافرين، ولا غرابة فإن هذا ظاهر من قول الرسول وقول صاحبه المتقدم: { فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً }.(/2)
الترغيب في الزواج
السؤال :
أنا فتاةٌ عازفةٌٌٌ عن الزواج رغم إصرار وليّ أمري على تزويجي باعتبار الزواج نصفَ الدين ، فما حكم الشرع في الزواج ، هل هو واجب أم أنّه مباح ؟ و بوسع العبد أن لا يتزوّج طوال حياته ؟ أفيدونا أفادكم الله .
الجواب :
لا شك أن النكاح أمرٌ مشروع رغّبَ فيه الكتاب و السنّة ، قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَ ثُلاثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) [ النساء : 3 ] .
و قال سبحانه ( وَ أَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ النور : 32 ] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : ( هَذَا أَمْر بِالتَّزْوِيجِ ، وَ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى وُجُوبه عَلَى كُلّ مَنْ قَدرَ عَلَيْهِ ... و الأيَامَى جَمْع أَيِّم وَ يُقَال ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لا زَوْج لَهَا وَ لِلرَّجُلِ الَّذِي لا زَوْجَة لَهُ وَ سَوَاء كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ ثُمَّ فَارَقَ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّج وَاحِد مِنْهُمَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ عَنْ أَهْل اللُّغَة ) .
و روى الشيخان و أصحاب السنن و أحمد عن عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال : كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَبَاباً لاَ نَجِدُ شَيْئاً ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم : « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ ، وَ أَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ » .
و روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَ أَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَ أُفْطِرُ ، وَ أُصَلِّي وَ أَرْقُدُ وَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » .
أمّا الحديث المذكور في السؤال فلا أعرفه صحيحاً بهذا اللفظ ، و لكن روى نحوه الحاكم و غيره بلفظ ( من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه ، فليتق الله في الشطر الثاني ) ، و ليس فيه ترغيبٌ مطلقٌ في النكاح ، و لكنّه يدل على وجوب تحرّي ذات الدين و الصلاح عند البحث عن زوجة .
و نصيحتنا للشباب المسلم في العصر الحاضر أن لا يدّخروا وسعاً في السعي إلى الزواج ، و الاقتران بذوي الدين و الخلُق الحسن ، عملاً بوصيّة النبيّ صلى الله عليه و سلّم في الحديث المتقدّم ، و فراراً من الفتن ، و إصلاحاً للفرد و المجتمع .
و أخصّ الفتيات نُصحاً بأن لا يردُدنَ متقدّماً لخطبتهنّ إذا كان مرضيّاً في دينه و خُلُقه ، لأنّ في ردّ الأخيار فتحٌ لباب الفتنة على مصراعيه ، و ذريعة لشيوع الفساد و تفشي الرذائل و الفواحش ، فقد أخرج أحمد و ابن ماجة و الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ » .
و ليس معنى هذا أنَّ الزواج فرض عينٍ على كلّ مسلم ، بل حكمه يختلف باختلاف حال من عَرَض له ، فقد يكون واجباً على من خشي على نفسه الفتنة ، و قد يكون حراماً على المرأة في عدّتها ، و قد يكون بين هذا و ذاك بحسب حال المُقدِم عليه .
قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في المغني : ( من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح ، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ، لأنه يلزمه إعفاف نفسه ، و صونها عن الحرام ، و طريقُهُ النكاح ... و يستحب لمن له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور ، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة ، و هو قول أصحاب الرأي . و هو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم ، و فعلهم … وساق بعض الآثار التي أوردنا طرفاً منها ) .
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : ( المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه و دينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه ) .
و قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( إن احتاج الإنسان إلى النكاح و خشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب و إن لم يخف قدم الحج ) .
و قال ابن رشد : ( فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه و مندوب إليه ... و أما من احتاج إلى النكاح و لم يقدر على الصبر دون النساء ، و لا كان عنده مايتسرى به و خشي على نفسه العَنَت إن لم يتزوج ، فالنكاح عليه واجب ) .(/1)
قلتُ : و الذي يظهر لي ممّا سبق هو أنّ الأصل في النكاح الاستحباب ، و هذا الحكم للرجل و المرأة على حدٍ سواء ، هذا ما لم يُخشَ مع العزوبة من الوقوع في الحرام ، فإن خُشيَ ذلك تعيّن الزواج على المقتدر ، لأنّ سدّ الذرائع المفضية إلى ما حرّم الله واجب .
و الله تعالى أعلم و أحكم .(/2)
الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه
رئيسي :تربية :الأربعاء 26 محرم 1425هـ - 17 مارس 2004م
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،،،
قال تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[16]}[سورة هود] . وقال:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...[18]}[سورة الإسراء].
قال سعيد بن جبير:' يؤتون ثواب ما عملوا في الدنيا وليس لهم في الآخرة من شيء' . وقال قتادة:' من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته وحاجته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة ليس له فيها حسنة، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة' .
وقال ابن جريج:' يعجل لهم فيها كل طيبة، فلم يظلمهم لأنهم لم يعلموا إلا الدنيا.
وههنا خطورة قضية ' النِّعَم ' فإنَّ المرء قد يعطيه الله، ويسبغ عليه من النعم ما يكون سبب هلاكه، فهي عوض عن أعماله الصالحة في الدنيا حتى يأتي الله ولا حسنة له، فأي مصيبة تعدل ذلك !!
ويرى الناس ذاك المترف، فيتمنون ما عنده ليتمتعوا بهذه النعم كما يتمتع ويتنعم هو بها، ولا يدرون حقيقتها، فإذا تبين لهم قالوا كما قال قوم قارون:{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[82]}[سورة القصص] .
ومن هنا دعونا نتأمل هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا والتي أودت بكثير من شبابنا، ألا وهي:' الترف' وفق منظور إسلامي صحيح؛ لنبصر خطورة جعل ' الرخاء والرفاهية ' مقصدًا للشعوب كما يدندن من لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وكيف ضاع كثير من شباب الأمة ورجالها تحت بريق هذا الهدف المنشود، ودعونا نفهم عن الله قضية ' الفقر والغنى '، ونتعلم كيف نعيش كما يريد الله لا كما نريد نحن، أو يُراد لنا، ونتعلم كيف نستثمر أموالنا، وكيف ننفقها .
ما المقصود بالترف وما حده؟
الترَفُ: هو التَّنَعُّمُ، و المُتْرَفٌ من كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلاً، وهو: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، وهو: المُتَنَعِّمُ المُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها. وهم الموصوفون بقوله سبحانه:{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي[15]وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي[16]كَلَّا...[17]}[سورة الفجر].
فالمترف من توسع في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها، ومن شأن ذلك أن يؤثر في شخصيته، فتراه مدللًا، يفارق الرجال في القوة والاحتمال، مخنث العزم، مائع الإرادة، نهم في طلب شهوات الدنيا، يعيش لنفسه، شعاره:'عش الحياة اليوم فتمتع بكل ما فيها، ووقت الله يدبرها الله' .
وهذا الوصف تراه يغلب على شباب الأمة اليوم، الذين ضاعوا أمام تيارات التغريب والغزو الثقافي، الذين نشأوا وسط عالم مادي بحت، فالدين مغيَّب، والدين أفيون الشعوب، والدين مجموعة من الشعائر يؤديها المرء ـ إن شاء ـ في بيت العبادة، فلا علاقة للدين بالحياة، والإنسان مخلوق حر، والحرية مكفولة لكل أحد، فلا غضاضة ولا حرج إنْ سارت النساء كاسيات عاريات، ولا شيء في أن يتشبه الرجال بالنساء، ولا مانع من الاختلاط، والزنا بالتراضي لا يدخل في حكم القاضي، ومقصود الإنسان في هذه الحياة هو ' الرخاء والرفاهية ' ومن أجلها توضع الخطط الحكومية، فهي ضمان السعادة، والمال هو السلاح الأقوى، وقيمة المرء بما في جيبه لا ما يتقنه .
ولعلك تسمع كل يوم هذه الشعارات، ويدندون حولها في جميع وسائل الإعلام، حتى صدقها الناس وصارت كالحقائق التي لا تقبل النقاش، وكل من يخرج عن هذا الإطار فهو متخلف، رجعي، أصولي، متطرف، إرهابي، يريد لنا أن نعيش بالطريقة التي لم نخترها، يريد لنا أن نعيش في الكهوف، ونعود للعصور الوسطى … إلخ هذه الطنطنات التي يرددها من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، من صارت الحياة همَّه وشغله، ونسي أنَّ الحياة دار ابتلاء لا دار إخلاد.
فهؤلاء هم الذين لم يفكروا فيما بعد الحياة، لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها، ولسان حالهم:{...رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[200]}[سورة البقرة] . يريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة.
من مظاهر الترف في عصرنا الحالي:(/1)
إلى هؤلاء المترفين أقول: قال الله:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[32]}[سورة الأنعام]. فالترف مفسد؛ إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف فإنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا دخيلاً علينا .
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض الأشياء، فتجده لا يجد إلا قوته الضروري، ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله، ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك، والقائمة طويلة.
إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى، ولا والله فما الزيادة في الدنيا إلا زيادة في الخسران .
فالغني البطر ماله نقمة عليه في الآخرة، فيصرخ يوم القيامة:{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ[28]هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[29]خُذُوهُ فَغُلُّوهُ[30]ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ[31]ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[32]إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ[33]وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[34]فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ[35]وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ[36]لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ[37]}[سورة الحاقة] .
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد، ناهيك عمَّن يتكبر وهو معوز، فيدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ] رواه مسلم.
فهذا عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر، فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف، لكن فقير يتكبر، فلماذا؟! وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه الله تعالى .
الترف وإفساد الأبناء
ولا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر ويقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا، فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته . وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك، فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده؛ سيسرق، ويزنى، ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
إن الجيل المنشود نحتاج فيه إلى صفات ' الرجولة ' والرجل الحق لا يعرف الترف، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: [إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ] رواه أحمد .
وهذا محمول على المبالغة في التنعم، والمداومة على قصده؛ وذلك لأنَّ التنعم بالمباح يُخشى من تجاوزه إلى مكروه، ولأنه يورث المرء ارتياحًا إلى الدنيا، وركونًا إليها، ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ] رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد . و [الْبَذَاذَةُ] رثاثة الهيئة، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس؛ إيثاراً للخمول بين الناس .وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر، لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال. وكان عمر بن الخطاب يقول: ' اخشوشنوا' . وإنَّما كان يأمرهم بالتخشن في عيشهم لئلا يتنعموا، فيركنوا إلى خفض العيش، ويميلوا إلى الدعة، فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم .
ولعل هذا هو حال الأمة وهي تواجه أعداءها المتربصين بها، فكثير يؤثر الذل باسم ' السلام ' لأنَّه ألف حياة الترف والرفاهية، وعاد من اليسير على أمثال هؤلاء التفريط في كل شيء من أجل ضمان أن يعيش كما هو .
والشدة هي التي تصنع الرجال، وترويض النفوس يحتاج إلى زجرها وترغيبها على حد سواء، أمَّا أن تعطيها كل شيء، أو تلبي لولدك جميع طلباته، فقد وكلته لنفسه. وإنَّه من المهم أن تتربى أجيالنا على تحمل المشاق، وبذل الوسع في طلب الآخرة، وقد قالت العرب قديما:'وعند الصباح يحمد القوم السُّري'.
ومما تقدم نخلص إلى أنَّ ترك الترفه مأمور به شرعًا، وذلك لأنه أنفى للكبر، وأبعد من العجب والخيلاء وهي أمور ذمها الشرع.
قضية الغنى والفقر من منظور سلفي(/2)
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن الله تعالى قضية ' الفقر والغنى ' ونتساءل عن المطلوب من أهل الإيمان في عصرنا، فهل معنى ما ذكرنا أنَّ الغنى شر كله، وأن الفقر أصلح، وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا !
بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك، بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر ؛ وقد أعطى الله نبييه داود وسليمان الملك والغنى، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المبشرين العشرة بالجنة، ناهيك عن ابن المبارك، وغيره من سلفنا الصالح .
وقد كتب ابن القيم جزءًا كبيراً في كتابه:'عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين' ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة، وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، بأنَّه ليس لأحدهما على الأخرى فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، فإن استويا فى ذلك؛ استويا فى الفضيلة؛ لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى، وقد قال تعالى:{...إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا...[135]}[سورة النساء] . وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا، وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع .
وقد صح أن الفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير؛ كانت درجته في الجنة فوقه- وإن تأخر في الدخول .
نخلص من هذا أنَّ العبرة ليست بالفقر ولا بالغنى، فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى، فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين، فالمهم هو ' الرضا ' عن الله، وعدم التسخط عند المنع، وعدم البطر عند العطية .
وإذا وجدت الله يرزق هذا، ويمنع عن ذلك؛ فتذكر قول الله:{...أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ[53]}[سورة الأنعام] . وتذكر قوله تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] . واعلم أن خزائن الله لا تنفد، وهو المعطي المانع، فليتعلق قلبك به، ودع عنك زخرف الحياة الدنيا، فإنما هي أوهام، والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
فإذا كان الأمر كذلك: فعليك بالرضا، فإنه ملاك الأمر، وعليك أن تحسن النظر إلى الأمور فتقيسها بمقياس أهل الإيمان، ولا تعر اهتمامًا لما دون ذلك:
فالفقير يفرح بأنَّه أخف الناس حسابًا، وأنَّ الله اختار ذلك الحال لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة، فلا يقنط ولا ييأس، ويعلم أنَّ الأمر صبر ساعة، ولا ينظر بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا؛ لأنه فهم عن الله أنَّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية العيش.. لا بل العلو بالتقوى، وكثرة الطاعات، والقرب من الله، فهؤلاء هم أهل غبطته .
أمَّا الغني فيخشى أنْ تكون زيادة النعم استدراجًا، فَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ] ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[44]}[سورة الأنعام] . رواه أحمد .
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفِّ شكر النعم التي بمحض فضل الله تعالى رزقها:{...لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[7]}[سورة إبراهيم] . فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه، فيعطي حق المال من زكاة، وصدقة، ونفقة في سبيل الله، فلا يعرف الترف بابه، وإن ملك الملايين؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه ؟!!
ولعل كثيرًا منكم يقول: إنَّ هذا لا يدري عن واقع الناس اليوم شيئًا، وإنَّه يحدثنا بما يصلح لعصور السلف، فكيف بالله في ظل كل هذه المغريات، والفتن المتلاحقات أن يسير الأمر هكذا .
وإني ناصحك نصيحة حريص مشفق عليك، فإنَّي لأعلم مدى الخطر الذي يداهم المسلمين الآن، ومدى الفتن التي يواجهونها، وحجم المغريات التي توضع في طريقهم، فتتخطف السواد الأعظم منهم ولكن ..(/3)
القضية أولاً قضية يقين بالله تعالى، قضية إيمان واعتقاد، فأي محك آخر نحتكم إليه فهو خداع، وأنت حين تنظر إلى الأمور بهذه الطريقة لن تقول مثلما تقول الآن، حين تفرغ قلبك من حب الدنيا، وتخرج قليلًا خارج أسوارها، فترى بعين الإيمان الأمور؛ فستذكر ما أقول لك، ومن هنا يبدأ العلاج.
العلاج
أولاً: التوحيد، وصحة الاعتقاد؛ ليصح اليقين والإيمان .
ثانيًا: إشغال القلب بالآخرة: بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك، وقراءة الكتب، والاتعاظ بحال من كنت تعرف وداهمهم الموت، وعيادة المرضى والمحتضرين، وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة .
ثالثًا: تخليص القلب من حب الدنيا: الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه الأيام، وهذا يحصل عندما تعاين حقارتها، وقد ضرب الله الأمثلة الكثيرة للدنيا ومدى خستها، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وارجع إن شئت لكتاب ' عدة الصابرين ' في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلاً تحت اسم: في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلاً فبها اعتبر .
رابعًا: عدم الاختلاط بأهل الدنيا فإنَّ خلطتهم كالداء العضال: قال تعالى:{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[131]}[سورة طه] .
خامسًا: الأخوة الإيمانية: فإنَّها نعم المعين، فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم، وحبهم ومنافستهم في الطاعة {... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]}[سورة المطففين] .
سادسًا: التقيد بمنهج تربوي:فلابد لك من مربٍ يتابعك، ويكشف لك عيوبك، ويبصرك بالطريق، وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلاء، ولكن اجتهد، وأخلص النية، ولسوف يعطيك ربك فترضى .
أخيرًا.. كيف تنفق مالك؟
وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى لكيفية انفاق المال قال تعالى:{...وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[219]}[سورة البقرة] . قال ابن عباس:' ما يفضل عن أهلك' .
فابذل الفضل من مالك ولا تمسكه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : [يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى] . هذه هي القضية أن الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، فاللهم أعطنا ما يكفينا، وعافنا مما يطغينا .
من محاضرة:' الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه' للشيخ / محمد بن حسين يعقوب(/4)
التزكية ما بعد رمضان
إسماعيل رفندي ـ إسلاميات
كل ما قيل وكتب ونشر في المواقع الإسلامية وفي وسائل الإعلام عن الشهر المبارك حق لا ريب فيه .
فشهر رمضان شهر الخير والبركة والصفاء والارتقاء الروحي .
ولكن هناك عدة دروس كانت متميزة في هذا الشهر وهذه الدروس تعتبر محاور رئيسية في توجيهات المربين ، لذا يجب أن نقتدي بهذه الدروس والمحاور بعد رمضان وننمي شخصيتنا روحياً ونفسياً وعقلياً وبدنياً بهذه القواعد الربانية :
1. الاستمرارية على الورد القرآني مع التذكر الدائم بشهر القران .
2. قيام الليل إقتداء بصلاة التراويح .
3. صيام ستة من شوال إقتداء بشهر الخير والاستمرارية على بركة الصيام والصيام النافل .
4. الصدقات .. إقتداء بشهر الجود ولو كان بشق التمرة ، ولكن الاستمرارية يؤدي إلى البركة
5. الاستعداد الأكثر لمواجهة الشيطان لأنه أكثر نشاطاً بعد رمضان .
6. الالتزامات الأخلاقية والسلوكية إقتداء بـ ( وإن سابك أحد فقل أنى صائم ) .
7. صلاة الجماعة إقتداء بالظاهرة الإيجابية في رمضان ..
وهكذا تكن ربانياً وليس رمضانياً فقط .(/1)
التزييف الحتمي للتاريخ
استحالة الموضوعية في التاريخ
يرجع إلى كتاب " فكرة التقدم ، و" فلسفة التقدم
أزمة الإنسان الحديث لشارلز فرانكل
من كتاب " فلسفة التقدم : فلسفة جيمس . بيرد . ديوي وفكرة التقدم الأمريكية " تأليف : دافيد ومارسيل ، ترجمة خالد المنصوري ، نشر الأنجلو المصرية عام 1978
نقل مؤلفا الكتاب من كتاب تشارلز بيرد " ( 1874 – 1948 ) حوار حول الشئون البشرية " : وتشارلز بيرد يقول عنه مؤلف الكتاب في ترجمة حياته " أصبح في اواخر حياته أقوى المؤرخين الأمريكيين نفوذا في القرن العشرين " ص 179 ، ورئيسا لرابطة التاريخ الأمريكي ص 182 يقول تشارلز بيرد : ( يكمن داخل النسيج المفكك للتاريخ كواقع فعلي التاريخ كفكر ، …. والتاريخ كفكر هو ببساطة الفكر عن التاريخ " كواقع فعلي " ، ولكن مثل هذا الفكر كان دائما فكرا انتقائيا وجزئيا وتقريبيا ، ولا يمكن أن يطابق على أي نحو ذلك التعقيد اللانهائي للنسيج المفكك .
إن التاريخ كفكر هو ما انتقاه المؤرخون هادفين من الواقع الفعلي للخبرة البشرية الماضية ، إنه إذا كان المؤرخون قادرين على المكابدة من أجل الوصول إلى الكمال والموضوعية في دراستهم لأدق قطاعات الماضي ، إلا أنه لا يزال عليهم أن يختاروا ويمايزوا ، كما أن اختيارهم يصطبغ حتما بأهدافهم الخاصة وتحيزاتهم ومعارفهم السابقة ، ولا يستطيع المؤرخون أن يعرفوا أو يكتبوا عن الماضي كما كان في الواقع فعلا ، وقد قال بيرد في وضوح " إن التاريخ كواقع فعلي غير معروف ولا يمكن معرفته " وكل جهود المؤرخين العلميين من اجل الوصول إلى تفسير كامل وموضوعي للتاريخ ليست سوى " حلم جميل " يشير إلى فشلهم في إدراك الفارق الحاسم بين التاريخ كفكر وبين التاريخ كواقع عملي ) ص 203
ومع ذلك فهو قد حاول – أي بيرد –( أن يكون بمنأى عن هوة النسبية التاريخية الكاملة على عكس صديقه وزميله المفكر النسبي كارل بيكر { صاحب كتاب المدينة الفاضلة الذي ترجمه الأستاذ الدكتور محمد شفيق غربال ) فإذا كانت الحتمية التاريخية المطلقة إمكانية غير مقبولة فإن بيرد لم يستسغ أيضا الحجة القائلة بأن من المستحيل معرفة أي شيء عن الماضي وهي الحجة التي أشار إليها تحت اسم " النسبية غيرالمحدودة " وحاول بيرد مثلما حاول جيمس أن يهتدي إلى سبيل وسط بين الطرفين النقيضين : الحتمية التاريخية والعدمية التاريخية ، وحدد نزعته تلك بطريقتين : الأولى أن المؤرخين وإن كانوا لا يمكنهم سوى تقديم تفسيرات جزئية ومختارة .. فإنهم مع هذا ملتزمون بأن يكونوا صادقين مع الدليل كما يتكشف لهم .. إن الحاجة إلى التمييز بين المعطيات الوثيقة الصلة بالموضوع وإلى تنظيم ما تم اختياره في تتابعات معينة تتضمن دائما العامل البشري ، ولكن يمكن استخدام المنهج التجريبي إلى أقصى حدوده لضمان أعلى قدر من الوضوح والموضوعية ) 204 ومن الواضح أننا قد وقعنا في حلقة مفرغة لأن تعليق شيء من الموضوعية على مدى صدق المؤرخ بالتزامه ، مسألة أخلاقية بحتة ، فضلا عن أن الخلل الذي يقع فيه المؤرخ من جهة الموضوعية يرجع جانب كبير منه إلى ضرورات : نفسية وعقائدية وبيئية . ولذلك يقول بيرد : ( إن التاريخ المكتوب هو دائما تاريخ مؤقت وقابل للتعديل في ضوء اكتشافات المستقبل ، ولكن المؤرخ حين يكتب التاريخ فإنه يفرض فلسفته على المواد المتاحة بين يديه ، وتكون النتيجة أساسا محاولة للتنبؤ بالماضي ) 204 ويقول : ( ليس بالإمكان وصف الواقع بدون مضامين فلسفية ، ولهذا فإن المؤرخ في واقع الأمر " فيلسوف يعمل مع الزمن " وكل ما يقدمه المؤرخ من اختيارات إنما تنبع من قناعاته الأخلاقية عن حركة التاريخ " ويتضح بهذا – كما يقول مؤلفا الكتاب – أن العلاقة بين التاريخ والمؤرخ – وفقا لبيرد – هي في غيرها علاقة أخلاقية ودينامية في بنيانها ن فالمؤرخ يتفاعل مع بيئته التاريخية بنفس الطريقة التي يتفاعل بها المرء مع المجتمع ص 205
ويقول مؤلفا الكتاب : ( تقضي النزعة النسبية الجديدة كما عبر عنها علماء بارزون من أمثال وليام ب . مونرو بجامعة هارفارد الذي خلف بيرد في رئاسة رابطة العلوم السياسية الأمريكية عام 1927 وجيمس روبنسون صديق بيرد الحميم وزميله ، والمؤرخ هاري المر بارنيز بأن التاريخ والسياسة يعكسان الميول الذاتية للباحث ، وبهذا لا سبيل إلى الوصول إلى قوانين مطلقة تحكم الأحداث التاريخية والسياسية فحيثما وجد الباحث حدثا تاريخيا لدراسته فإن المنظور الخاص بالباحث يفسد الدراسة دائما
وذهب هنري أوزيورن تايلور إلى أن مزاج العصر يؤثر النسبية ، وان التاريخ المكتوب يعكس حتما الظروف الفكرية التي سادت في وقت كتابته .
وأفاض كارل بيكر في هذا الاتجاه حين تحدث أمام الجمعية التاريخية الأمريكية قائلا : إن كل إنسان هو مؤرخ نفسه(/1)
وتحدث إدوارد . م . هولم في العام التالي أمام فرع الجمعية الذي يحمل اسم فرع ساحل المحيط الهادي فقال : إن الموضوعية في كتابة التاريخ أسطورة مفضوحة ، وقال : لقد اعترف علماء الفيزياء بالجانب الذاتي في أعمالهم ويجب أن يحذو المؤرخون حذوهم فالحقيقة التاريخية نسبية وذاتية وليست مطلقة ولا موضوعية .
ولم يكن الأمريكيون وحدهم الذين يرددون هذا الرأي ، فقد تأثر بيرد تأثرا عميقا قبيل وبعد 1930 بقراءته لكل من كروسي ، وهوسي ، وفايهينجر ، وكورت ريزلر ، وتأثر بعد ذلك بأعوام قليلة بفكر كارل مانهايم ، وفردريك مينيك ، ومن المعروف أن هؤلاء جميعا تساءلوا بصورة أو بأخرى حول النزعة الوضعية العلمية ، وابدوا ارتيابهم فيها كوسيلة للمعرفة التاريخية وأثاروا تساؤلات هامة بشأن علاقة المؤرخ بموضوع دراسته ) ص192
ويقول مؤلفا الكتاب: ( إن كلا من بيرد وجيمس هارفي روبنسون أصبحا علمين من أعلام مدرسة الكتابة التاريخية المعروفة باسم التاريخ الجديد ، وكان كلاهما يؤمنان بأن الماضي ينبغي أن يكون تابعا للحاضر ، ولهذا دعيا إلى نزعة تاريخية أداتية ، ترى المعرفة التاريخية أداة لفهم وتوضيح المشكلات الاجتماعية الراهنة . وأن الاحتياجات والمشكلات السائدة ينبغي أن تحول دراسة الماضي من تمجيد بطولي لأبقار الثقافة المقدسة إلى أداة صالحة للإصلاح الاجتماعي والتجديد السياسي ) ص 187(/2)
التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا (1/3)
26-8-2006
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"...فإنَّ مما بليت به أمتنا في هذا العصر إشغالها بعدد من المُصَدَّرين أو المتصدِّرين للإعلام بصفة ظاهرة مستمرّة ، وإشغالها بتقلّبات بعض المنتسبين للعلم واضطرابات بعض المنسوبين له إعلاميا في أحايين منتقاة أو عفوية..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله أما بعد :
فقبل بضع سنوات ، تفتقت عبقرية ! الحاخام اليهودي الكبير / موشيه فيشر رئيس مدرسة هيكل التوارة في القدس وقاضي محكمة الحاخامية عن فتوى ! عنونتها صحيفة معاريف بـ : "الخنازير لحماية الباصات" ! وافق على إصدارها هذا الحاخام ، وهي فتوى يسمح خلالها لليهود باستخدام أكياس نايلون مليئة بدهن الخنزير يجري ، تعليقها في الحافلات والمتاجر والقاعات ، وذلك لردع أي استشهادي من الوصول للجنة !! . وقال هذا الحاخام : "إنَّ الله لن يسمح لهؤلاء الاستشهاديين بدخول باب الجنة ؛ لأنهم تدنَّسوا بدهن الخنزير" !!
هذه الفتوى الساذجة - وإن أردت دِقّة في التعبير فقُل : الاقتراح السخيف ! - لأحد كبار الحاخامات اليهود من ذوي المناصب الكبيرة في الكيان الصهيوني ! ، عرضت على عدد من الفلسطينيين ، فعلّق عليها أحدهم بقوله بعد ضحك كاد أن لا يتوقف : "إنَّ كل خنازير الأرض لن تنجي الصهاينة من غضبنا" .. وعلّق عليها مجاهد فلسطيني آخر بعد شروعه في الضحك ، إثر طرح أحد المراسلين للسؤال عليه حول رأيه فيها : "إسمع ، حتى لو وضع اليهود جلد شارون في الباصات ، فإنَّ هذا لن يردعنا عن مواصلة نضالنا" !!
تذكرت هذا الطرح الحاخامي الساذج اليائس ، بعد أن بدأتُ في استعراض بعض المقالات المستميتة في إيقاف مسيرة الصحوة الإسلامية التي يقودها علماء الأمة وقادتها المسلمون ، والتي تعاضد في تنميتها ، ولاة أمرنا من الأمراء والعلماء المخلصين ، على بصيرة من نور الوحي الذي أبى الله عز وجل إلا أن يتمه ولو كره من كره ! وكفى تأكيدا لذلك النص على ضمان المسيرة الإسلامية في حكم الكتاب والسنة في (النظام الأساسي للحكم) ، ثم في معاهدة خادم الحرمين الشريفين اللهَ عزّ وجل على أن يجعل القرآن الكريم دستوره .. وفي ضوء هذا التقدم الذي لن يقهر إن شاء الله تعالى ، أحببت أن أقدم بالمقترح الصهيوني البليد ؛ لما فيه من دلالات لا تخفى على ذي لبّ ، سنرى منها - إن شاء الله تعالى - في حلقات هذا المقال ما يُبكِي الفَرِح ويضحِك الحزين !
1) فإنَّ مما بليت به أمتنا في هذا العصر إشغالها بعدد من المُصَدَّرين أو المتصدِّرين للإعلام بصفة ظاهرة مستمرّة ، وإشغالها بتقلّبات بعض المنتسبين للعلم واضطرابات بعض المنسوبين له إعلاميا في أحايين منتقاة أو عفوية ، أو على ما جرت به الرياح وإن لم تشته السفن ! واللهم {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} .. ولقد كنت - كغيري من طلبة العلم - أتابع بعض ما يلفت الانتباه من المقالات ، والطرح الإعلامي المضمَّن نصوصاً شرعية ونقولاً إسلامية ! يريبك فيه - أوّل ما يريبك - أنَّه طرح حاسر الرأس ، صادر من غير مختص ! بل هو صادر من عوامّ في عرف علماء الأصول ؛ وتجد فيها ما يزيدك ريبة في دراية كاتبها أو طارحها بما يطرح ، وتزداد ريبة فوق الريبة حين تجد الكاتب قد وضع على رأسه عمامة العالِم ، وحاول أن يضع فوقها قبعة الإفرنجي ! فتحدّث في مسائل أكبر مما تحتهما ، ومهما حاول القوم الخداع فلحن القول يُعرِّفهم للعالمين ، بل حتى لو حاول بعضهم الظهور الإعلامي بلحية إرشيفية أو نحوها !
وما عليك للتأكّد ، إلا أن تقرأ لأحدهم تعالماً ، ثم تشاهد له حوارا مباشراً ، وحينها ستردد : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) . كنت أتابع ذلك ، وربما كتبت مقالا حين لا يسع الصبر على حجم الاستغفال ، وخطورة المآل .. ولكن السير مستمرٌّ في ذات الاتجاه على نحو مريبٍ ، وقد كفانا مؤنة الحديث عن خطورته أبو عبد الله ، فضيلة الشيخ /د. سعد البريك - حفظه الله - في مقولاته ومقالاته .. والحقّ أنَّ هذه المسيرة التنظيرية الحثيثة المتناغمة من جمعٍ غير مختصٍ ، تدعو للتوقّف والتأمّل !!(/1)
2) وبعد استعادةٍ لبعض المقالات من بداياتها ، والنظر فيها بعد وضعها في سلّة واحدة ، وجدت أمامي عملية يمكن وصفها بمحاولة تسلل مشبوهة - ومكشوفة أحياناً - إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا !! في سبيل الانتقال إلى المرحلة التي وصفها الله عز وجل بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} . تلك المرحلة التي لا زالت محاولاتها الفاشلة تتالى بين رسالة نابليون بونابرت وتفاعلات تقرير راند 22م ؛ وقد تحدثت عن شيء من ذلك في مقال نشر في موقع القلم ، بعنوان : (مسلسل الخَوَر اللعين : ومحالة النيل من الدِّين) . وهاهي الفكرة مستمرّة في فرض نفسها بأنفاسٍ من غير أهلها ، أُرجِّح أنَّ بعضهم لا يعرف عن الأمر أكثر مما تعرفه العامّة عنه ؛ فمن محاولات إقناع الأمّة بفصل الدين عن الدولة في الإسلام ! إلى محاولةِ إقناعنا بإعادة تشكيل العقل العربي . ومنها إلى محاولة استغفالنا بتأويل النص الشرعي تأويلاً يعود على معناه بالبطلان ، ثم المحاولات التي لا تكلّ في طرْق موضوع الحريّة التي يراد منها الانطلاق لنقد الدِّين (الإسلام) ذاته عند بعضهم ، بل وعدم التثريب على من شاء التحوّل عنه والعياذ بالله! بزعم الحرية الدينية! كما صرح بعضهم بذلك في بعض المنتديات التي تولت إغلاقها الجهات المسؤولة بحمد الله .
ومحاولة الولوج إلى ذلك من بوابة نقد التكفير بإطلاق ، والحديث عن (المكفّراتية) [وهو مصطلح سبق إليه بعض الإسلاميين في نقد الفكر التكفيري المنحرف] ، و استقطاب كتّاب يخدمون الفكرة عن جهل ، وأخيراً إلى الولوج في نقد العلماء الشرعيين ، حملة العلوم الشرعيّة المؤهلين تأهيلاً شرعيّاً والتنقّص منهم مع سبق الإصرار ، والردّ عليهم بجهل وسوء أدب ، والتعالم عليهم أحياناً بأساليب ممجوجة تستجلب الرِّقّة لحال المسيء لنفسه بالتعالم ، إلى درجةٍ ينسب فيها بعضُهم - في صحف سيّارة - بعضَ آيات القرآن الكريم التي يحفظها عامّة المسلمين ، إلى غير مواضعها من كتاب الله عز وجل !!
وفي خضم هذا المكر الكبّار الذي لا يماري عاقل في أنَّه وراء الكثير من ذلك ، ولا سيما مع وجود تقارير إفرنجية تتحدث عن هذا الطرح وعن (شركاء)! سواء علم بعض هؤلاء الكتّاب العرب أو لم يعلموا - تذكّرتُ رسالةً بُعِثَت إلى أهل مصر ، وتذكرت منها الجملة التالية : "يا أيها المصريون : قد يقولون لكم إنني ما نزلت في هذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح ! فلا تصدقوه ، وقولوا للمفترين ! : إنني ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلِّص دِيْنَكُم وحقَّكم من يد الظالمين ، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه و تعالى ! وأحترم نبيه محمد ! والقرآن العظيم !". (من نص الرسالة في : مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ، للجبرتي [ت1241هـ ] اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف :61 ، دار الأندلس الخضراء) .
أما صاحب الرسالة فهو المجرم الحقود السفاح الفرنسي نابليون بونابرت عليه من الله ما يستحق !! إنها رسالة دجل كاذبة لجأ فيها نابليون إلى النفاق عندما وجد المجتمع المصري متحصناً بعقيدة الولاء والبراء .. وعُدْ - إن رمت تفنيدها - للكتاب المحال إليه ولا تنس مقدمة محققه التي تستحق أن تفرد . ومن هنا ، رأيت أن أتحدّث عن عدد من المسائل المطروحة - إن شاء الله تعالى - بأسلوب علميّ ، أُبيِّن فيه بعض مغالطات التسلل إلى نقد الشرعية الإسلامية العليا على نحو موجز ، يوضح الفكرة ، ويكشف المحاولة ، ويُبين طريقة الاستهداف ، ويصحح المغالطة .
13 تعليق حتى الآن ( اضف تعليقك على المادّة فوراً )
________________________________________
نعم هذا وقت ... | محمد جلال القصاص يقول...
بسم الله الرحمن الرحيم
دكتور سعد !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :ـ
نعم هذا وقتُ ( نقد الفكرة ، وكشف المحاولة ، وتصحيح المغالطة ) ، كي ينتبه الغافل ويُرد المستهزئ الصائل ، فما آراها إلا جرذان ظنت البيت خَلِيٌّ من أهله فخرجت تعبث هنا وهناك .
ولكن أيها الفاضل يبقى إشكالية في الرد عليهم . وهي السير تحت ردود الأفعال . . . أن نناقش ما يطرحه هؤلاء من قضايا ، ونسير ورائهم في دومات فكرية تستقطب جهدنا وقد تشغلنا عن التربية والبناء ، فالقوم يعملون على عدة محاور ... يتسللون من جهات عدة .. المرأة .. والسلطان ... والتعليم ( المناهج ) و ( المدارس الخاصة ) ، وترويض بعض ( الصحويين ) ولو جزئيا ، و ( الأدب .. الرواية .. والقصيدة ) . وأعرف أن بعضهم ساذج .. لا يفهم في المآلات شيء ، ولا يدري أين يسير ؟ ولكن هناك من ينسق الجهود ويفعِّل المحاور المختلفة .(/2)
فعلينا أن نبدأ ــ بجانب الرد ـ محور إيجابي ، هجومي إن صح التعبير ، يكشف القوم ونواياهم الخبيثة في هدم الدين ، وتسميتهم بما سماهم الله به ( المنافقون ) وبيان مآل ما يدعون إليه من خلال عرض التجربة المصرية والتونسية والتركية وغيرها .
وكذا تبصير الأمة بمكانة العلماء ومحاولة إلتفافهم حولهم ، فنحن بخير مادمنا خلف علمائنا .
لم يخطر ببالي أن ما كتبتُ يغيب عليك ، فقط أحببت المشاركة فكتب .
لله درّك ... | عبدالله الزامل يقول...
" والطرح الإعلامي المضمَّن نصوصاً شرعية ونقولاً إسلامية ! يريبك فيه - أوّل ما يريبك - أنَّه طرح حاسر الرأس ، صادر من غير مختص ! بل هو صادر من عوامّ في عرف علماء الأصول ؛ وتجد فيها ما يزيدك ريبة في دراية كاتبها أو طارحها بما يطرح ، وتزداد ريبة فوق الريبة حين تجد الكاتب قد وضع على رأسه عمامة العالِم "
"ومهما حاول القوم الخداع فلحن القول يُعرِّفهم للعالمين ، بل حتى لو حاول بعضهم الظهور الإعلامي بلحية إرشيفية أو نحوها !"
لله درّك ..
ضروري | محمد الاسمري يقول...
اتمنى من العلماء والدعاة المشاركة بكل قوة في الصحافة بصفة يوميه وباعمدة ثابته لرد شبهات اصحاب المذاهب الهدامة .
الشيخ الفوزان | سلمان يقول...
اخي بارك الله فيك والله ثم والله انه يتوجب علينا الدفاع عن والدنا وشيخنا فضيله الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان والتصدي لهذاء المافون المدعو حماد السالمي سبحان الله وصل بنا الحال التطاول على عالم جليل قضى حياته وعمرة في خدمه هذاء الدين فضلا عن مكانته العلميه ماذاءقدم هذاء المافون لهذاء الدين واهله عليه من الله مايستحق اللهم اشغله بنفسه انت ولي ذاك والقادر عليه
الله أطهر الحق وأدحر الباطل وأهله | أبو أنس يقول...
السلام عليكم وحمة الله وبركاته
أسأل الله العظيم باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى أن يمد في عمرك ويبارك لك فيه.ياشيخنا الفاضل دافع عن علمائنا فهم يستحقون من يدافع عنهم ولاتترك المجال لمن يتطاول عليهم من بعض الكتاب هداهم الله وسخر أقلامهم في الدفاع عن هذا الدين والدعوة إليه , أخ لك في الله
طرحكم أصبح مكشوف ... | شاب من نجد يقول...
السلام عليكم
احترام العلماء وتقديمهم ومعرفة منزلتهم ، مصطلحات استعملت للأسف ، لتكميم الأفواه ، وإسكات صوت كل مواطن لا يتفق في رؤاه واختياراته مع فئات المتشددين .
إذا كان من يختلف معكم إسلامياً ، رميتوه بتمييع دين الله والتساهل فيه ، كالشيخ القرضاوي مثلاً ، وإذا خالفكم شيخ معروف تضلعه في علم الحديث وتمسكه بالنص الشرعي كالشيخ الالباني ، قلتوا لا يجوز تتبع زلات العلماء .
إذا خالفكم ، مثقف أو أديب أو حتى مواطن عادي له رأي في قضايا مجتمعه تختلف عما تنادون به ، قلتم هذا علماني معلوم النفاق .
إذا ماذا تريدون ؟؟
تريدون مواطن مهجن سليب العقل ، يسلم لكم بكل ماتقولون ، ويعتقد أن الدين لا يتجاوز ما تطرحون .
عشرين سنة مارستوها دكتاتورية مع الجميع ، ألا تكفيكم .
مسألة خضوع المجتمع السعودي بأكمله لاراء أصغر متشدد منكم ، هي مسألة انتهت وولت إلى غير رجعة .
الان الميدان مفتوح للجميع ، ومن له رأي فليقله .
ثم لي سؤال : اسمعكم دائماً ترددون ، تقليداً لبعضكم البعض : أن الكتاب في صحافتنا يطعنون في ثوابتنا الدينية .
أريد أن أعرف : ماهي الثوابت الدينية التي طعن فيها كتاب الصحافة .
هل مناقشة الشيخ الفوزان في مايقول ، طعن في الثوابت ؟ .
هل رد الكتاب عن أنفسهم ، تهمة الشيخ البريك لهم بأنهم عملاء لأمريكا يتلقون مكآفات من سفارتها ، هو طعن في الثوابت .
وبالمناسبة ، ألا يؤكد ما طرحه البريك ، في مخيم دعوي من تهم مسفه ضد المثقفين والكتاب ، يؤكد ما يطرحه هؤلاء أن المخيمات تستعمل لتصفية حسابات مع الاخرين في مجتمعنا ، وأنها فرصة للبعض لإعادة شحن الشباب ، ضد مواطنين اخرين أخوة لهم في الدين ، بحجة أنهم علمانيين وعملاء لامريكا .
أليس رمي التهم بهذه الطريقة العنجهية الخالية من المنطق التي قام بها البريك ، هي باب شر وفتنة على مجتمعنا ، ماذا يريد البريك من شباب جاء ليسمع عن سيرة محمد عليه الصلاة والسلام حتى يسمعهم مثل هذه التهم الخطيرة ، والتي لا اعتقد أن أحداً يجادل أنها من بنيات افكاره .
الله يصلح الحال
محايدة ... | الجوزاء يقول...
" شاب من نجد"
أرجو أن لايختلف الأمر إن كنت من نجد أو الحجاز أو الجنوب أو الشمال ... فكلنا مجتمع واحد ... نطلب الرخاء والتحرر والانفتاح لمجتمعنا........
ولعلك " شاب " لم تحط بما تقول علمًا لذا تكلمت بما سبق ... أرد عليك وأنا شابة تخصصي إعلامي ...أرقب الوضع وأحلم بمجتمع ثقافي منفتح عادل يسع الآراء التي فيها خدمة مجتمعي وصلاحه ...
ولكن من خلال رصدي من واقع تخصصي رأيت ... وكل مطلع يعلم هذا ...(/3)
أن هناك فئات سيطرت على المنافذ الإعلامية وأعملت قلمها تأكيدًا لمبادئها التي ارتأتها ... وأعملت سبًّا ونقدًا وفي كثير من الأحيان افتراء على الفئات الأخرى ...
المشكلة أنهم مارسوا الإقصاء في أعلى درجاته وهم يشتكون منه ....
فلم تستغرب أن تتجه تلك الفئات إلى وسائل أخرى لتنشر رؤيتها وهذا أدنى العدل ... إن كان يصح تسميته عدلاً...
إنني أتألم لبني قومي هذا المستوى ... وأعلم من الكتاب من ينفذون بالحرف الواحد ما تقرره أعداء العروبة .... الغريب دراستي منصبة حول التقارير الغربية وأثرها في الثقافة العربية ... فتهولني الصدمة ...
أما الصحويون فهم فئات ومما أرصده للكثرة الكاثرة منهم ... لا أجد فيه ما نعته من استلاب العقول ... أو إقصاء الآخر....
لأن من قرر امرا وأتى عليه بدليل صحيح ..
فقد عرض عليك الامر ... ثم انت تختار لنفسك ..
وحقيقة لم أر استلاب للعقول كما أراه في اعلامنا اليوم من صحف .. وتلفاز ونحوه ...
إن كنا صادقين جادين في نشر الثقافة وطلب الانفتاح لننفتح على بعضنا ....
ولنطلب الحق ليس إلا..
إني أطلب لمجتمعي الصلاح لا غير ...
شكرًا لكم..........
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته | سعد بن مطر العتيبي يقول...
الأستاذ الكريم محمد جلال القصاص رعاه الله
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. الأمر كما ذكرت أخي الكريم من حيث جهل كثير من هؤلاء ، وتقاسم كثير منهم مهام النيل من الدين وأهله ، أو تنفيذ ما يطلب منهم من مهام وجهود سيئة كما هو ظاهر معلن في بعض منتدياتهم ..
ومن نعمة الله أن الله ينصر الإسلام بالتبليغ والدفاع ، وربما كان أثر الدفاع أحيانا أعظم من أثر التبليغ ، بحسب البيئات والأشخاص والظروف ..
ولا شك أن النفاق العملي ظاهر في كثير من هؤلاء بل منهم من يصرح بما يستوجب به وصف الكفر والزندقة والعياذ بالله ..
ولكن إطلاق وصف النفاق على مردود عليه معلوم العين قد يجريء بعض من لا يفرق بين أنواعه من عامة الناس فيقذف البريئين منه به ، وهو مسلك خطر من هذه الزاوية .. ولا يخفى عليكم تأصيل هذه القضية من الناحية الشرعية .
وأما إطلاقه على تصرفاتهم التي تحمل صفاتهم فأمر حسن ، وهو انطلاق من المنهج القرآني في كشف هذه الفئة المتخاذلة الخائنة ، في نحو : ومنهم .. ومنهم ..
وأشكر كثيرا على إضافتك المفيدة وإثارتك التي حاولت تفصيلها لتنبيه بعض قرائنا الكرام ..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته | سعد بن مطر العتيبي يقول...
الأخ الكريم / عبد الله الزامل
جزاك الله خيرا على مشاركتك ولفتك الانتباه إلى بعض صفات القوم .
الأخ الكريم / محمد الاسمري
ونحن نتمنى أن يفسح المجال لهم دون إقصاء .
الأخ الكريم / سلمان ..
وكتب الله لك بمثل ما دعوت لأخيك .
نعم حق علينا الدفاع عن المسلمين بما نستطيع من الوسائل المشروعة ، ويتأكد الحق في شأن علماء الإسلام ورثة النبي صلى الله عليه وسلم ..
ومن سنة الله : ابتلاء الصالحين بأهل الشر والفساد ، وبأهل النفاق كما في غزوة تبوك حين تجرّأ بعض أهل النفاق فوصفوا الصحابة الكرام بما برّأهم الله منه .
بل قبل ذلك : ابتلاء الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأهل الكفر والنفاق فكم قتلت يهود من الأنبياء ، وكم آذت من أولي العزم ، وكلنا نحفظ : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ...) ... وستجد من هذه المعاني ما تجده في الحلقة الثانية من هذا المقال إن شاء الله تعالى .
أخي الكريم / أبا أنس ..
أسأل الله عز وجل أن يكتب لك بمثل ما دعوت لأخيك .. وإنّه ليسرني دعاء الصالحين ولا سيما في ظهر الغيب .
والدفاع عن ديننا وجملته واجب على كل بحسبه .. وأقول لك كما قلت للأخ سلمان في التعقيب السابق ..
أشكرك وأشكر القائمين على الموقع .. | سعد بن مطر العتيبي يقول...
الأخ / شاب من نجد ..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أولاً : أشكرك على طرحك لرأيك دون مجاملة وأتقبل ذلك منك بروح إسلامية رياضية . كما آمل منك أن تتقبل تعقيبي بنفس الروح ..
وثانياً : أشكر الإخوة في موقع القلم الذين فتحوا هذه النافذة الحوارية النافعة إن شاء الله تعالى للجميع : موافقين ومخالفين في حدود الأدب والبحث عن الحقيقة ..
وثالثاً : سرني جداً أنك وصفت طرحنا بالمكشوف ، وهذه هي الشفافية التي نتمنى الوصول لها والطريقة الصحيحة التي نتمنى أن يسلكها الصادقون ، وهي من الفوارق بين أهل الحق وأهل النفاق .. وأنا أفيدك بأنَّه طرح معلن مكشوف من بدايته ، إذ ليس لدينا ما نخفيه كما لدى آخرين الله يعلمهم ، بل نمتثل في كشفه وبيانه للناس قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فاصدع بما تؤمر ) ! وقول الله عز وجل : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) .. ونسأل الله تعالى أن تكون براءة من النفاق .(/4)
وأما احترام العلماء وتقديمهم ومعرفة منزلتهم ، فليست مصطلحات مبتدعة ، بل هي مسميات لواجبات شرعية جاءت بها نصوص الكتاب والسنة ، ولكن الثقافة الوافدة ذات الخلفية الغربية المتصارعة مع الكنيسة ، هي التي أوجدت من يظن كما ظننت حمانا وإياك من اتباع سبيل المجرمين .
وهذه من الحقائق التي سترى بعض شواهدها في الحلقة التالية من هذا المقال إن شاء الله تعالى .
وأما تهمك التي أوردتها فأظنك قد تصورت أننا نمثل جميع التيارات وهذا ما لا أستطيع فهمه ، وحسبي أن القاريء الكريم يدرك ما فيه من الزلل والخطأ والتجاوز ..
وأنا أوافقك بعدم قبول تصرف من وصفتهم بقولك : إذا كان من يختلف معهم إسلامياً ، رموه بتمييع دين الله والتساهل فيه ، كالشيخ القرضاوي مثلاً ....
كما أوافقك في نقد من يصفون من يخالفهم من مثقف أو أديب أو حتى مواطن عادي له بأنه علماني معلوم النفاق [ دون حجة ] . فهذه أحكام لا يطلقها دون دليل إلا جاهل ، وأما من كانت له حجة فينظر في حجته ، فإن كانت شرعية قبلت وإلا فلا .
وسأعرض عما ذكرته من لغو في نظري على الأقل ، لأصل إلى سؤالك الذي قلت فيه :
" لي سؤال : اسمعكم دائماً ترددون ، تقليداً لبعضكم البعض : أن الكتاب في صحافتنا يطعنون في ثوابتنا الدينية . أريد أن أعرف : ماهي الثوابت الدينية التي طعن فيها كتاب الصحافة " .
وأجيبك بأننا نستقي من معين واحد هو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، ولذلك فاتفاقنا ننظر إليه على أنه منفبة و نأنس به لما له من دلالة على صحة الاستنباط من معين الشريعة .
وأما الثوابت التي طعن فيها بعض كتاب الصحافة فكثيرة ، منها : عقيدة الولاء والبراء التي جاءت منصوصة في الكتاب والسنة ، ومحاولة شرعنة الردّة عن الإسلام باسم حرية الدين ، ومساواة الكافر بالمسلم باسم الآخر ، ومحاولة إلغاء الأوصاف والمصطلحات الشرعية كمصطلح ( كافر ) .. والجرأة على الفتاوى والله تعالى يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ولم يقل : فاسألوا كتاب الصحف وأصحاب الزوايا المثبتة ورؤساء التحرير والمثقفين والأدباء مما لا يفقه شريعة الله إلخ ...
وسترى بعضا آخر في بقية حلقات المقال إن شاء الله تعالى على نحو لا يجعل طالب الحقيقة يتردد في صحة المقولة التي ذكرتها .
وأما قولك : " هل مناقشة الشيخ الفوزان في مايقول ، طعن في الثوابت ؟ "
فأقول : إن كان من جاهل فنعم ، لأن من ثوابت أهل الإسلام في التلقي أنهم لا يتلقون أحكام الشرع من غير أهل العلم الذين وصفهم الله تعالى بقوله ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر ) . وهم كذلك لا يتقبلون نقد العلماء من الجهلة ، وإنما من المؤهلين شرعا ، وللردود العلمية مقامها وأهلها وطريقتها .
ولو رجعت إلى شروط الكتابة العلمية في صحافة الغرب الكافر لوجدت لها شروطا لا يقبل فيها من تذكرهم ، وربما تعرضوا للمحاكمة لو تضرر أحد بامتثال آرائهم !
وأما قولك : " هل رد الكتاب عن أنفسهم ، تهمة الشيخ البريك لهم بأنهم عملاء لأمريكا يتلقون مكآفات من سفارتها ، هو طعن في الثوابت ... ألا يؤكد ما طرحه البريك ، في مخيم دعوي من تهم مسفه ضد المثقفين والكتاب ، يؤكد ما يطرحه هؤلاء أن المخيمات تستعمل لتصفية حسابات مع الاخرين في مجتمعنا ، وأنها فرصة للبعض لإعادة شحن الشباب ، ضد مواطنين اخرين أخوة لهم في الدين ، بحجة أنهم علمانيين وعملاء لامريكا .
أليس رمي التهم بهذه الطريقة العنجهية الخالية من المنطق التي قام بها البريك ، هي باب شر وفتنة على مجتمعنا ، ماذا يريد البريك من شباب جاء ليسمع عن سيرة محمد عليه الصلاة والسلام حتى يسمعهم مثل هذه التهم الخطيرة ، والتي لا اعتقد أن أحداً يجادل أنها من بنيات افكاره "
وعن كل هذا الكلام المطلق أجيبك بسؤال عقلاني يردده العامة : هل صرح الشيخ باسم أحد من هؤلاء الذين هبوا للدفاع حتى عن تقرير راند 2002 م وكأن بعضهم يؤدي مهمة محاماة !! قلنا : منهم الذين صرّح الشيخ الفاضل الدكتور سعد البريك حفظه الله بأسمائهم من هؤلاء الذين وصفتهم بأنهم يردون عن أنفسهم ؟!
اللهم إلا إذا أردنا أن نعمل بقاعدة : كاد المريب أن يقول خذوني .
ماذا يضر هؤلاء لو شدّوا على يد الشيخ حفظه الله في التحذير من أعداء الأمة والوطن ، أيا كانوا ، وماذا يضرهم لو قاموا بتوعية الأمة من كل خائن ومنافق كائنا من كان بدل التأليب على الشيخ ، والنيل من عالم في مقام العالم الجليل الذي هو محلّ ثقة الأمة وولاة أمرنا - حفظهم الله - الشيخ / د. صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله وعظّم مثوبته .
لقد ارتقى الشيخ العلامة الفوزان حفظه الله مرتقى تشهد له به الأمة على نصرته لها ولدعاتها ، لقد وقف موقف يشكر في نصرة الحق ، فلا غرابة أن ينال منه بعض السفهاء .
ثم إني أردد معك :
" الله يصلح الحال " .
وأخيرا أشكرك على إثارة هذه الإضافات التي أسأل الله عز وجل أن ينفع بها .(/5)
أخوك / سعد العتيبي
جزاك الله خيرا ونفع بك | د.ناصر الحنيني يقول...
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله اما بعد
اشكرك اخي الدكتور سعد على ماقدمت وما تقدم
وهذا المقال اعتبره حلقة ضمن سلسلة لابد منها لرفع مستوى الوعي ومقاومة الباطل بالحجة والبيان نسأل الله أن يوفقك ويلهمك السداد والرشد
والمكر كبير لكن (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )
والكيد متنوع ولكن (إن كيد الشيطان كان ضعفيفاً)
والله من وراء القصد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
نعم إقصاء لا مراء فيه | سعد بن مطر العتيبي يقول...
الأخت الجوزاء
جزاك الله خيرا على إضافتك المفيدة .
وأما الإقصاء فيكفي أن نعلم أن سماحة المفتي حفظه الله ، ربما يحذف جزء من مقاله مع سبق التعهد بنشره كاملا ، فكيف بغيره ؟!
وعدد من مقالتي هنا لم تتسع لها صدور محرري عدد من الصحف المحلية ، وأظن صفحاتها كانت ستتسع له لو كان هناك شيء روح إعلامية أرقى .
بارك الله فيك ونفع الأمة بعلمك .
وجزاك الله خيرا على جهودك المشكورة | سعد بن مطر العتيبي يقول...
أخي المفضال الشيخ الدكتور / ناصر الحنيني حفظه الله
شرفني مرورك وقراءتك لمقال من دونك .
كلماتك المضيئة بالنص القرآني العظيم !تشخص الداء وتبعث في النفوس اليائسة روح التفاؤل .. وتصف حقيقة كيد الكائدين ؛ لتبعث في القلوب الغافلة أو المتواكلة روح النفير بالمستطاع : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ...) ... ولو أن يساهم قاريء في نشر ما قرأ من حق في رسالة أو مقال في مجلس أو منتدى أو برنامج ما ..
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
بارك الله فيك ونفع بك ، وكتب لك أجر من استبصر بحوراتك ومناظراتك القيمة ..
أخوك الأصغر / سعد العتيبي .(/6)
التسول بين الحاجة والاحتيال مهند عبد الرحمن البلاع*
كثيراً ما تطالعنا هذه الأيام صور المتسولين وهم يفترشون الأرض على طول جانب المسجد الكبير، وتراهم يتشبثون بالمارة متوسلين وراجين العطية من ذوي القلوب الرحيمة والنفوس الكريمة، وما أن تطأ أقدامنا مسجدا ما حتى نجدهم محتشدين على بابه، يمارسون التسول بأبلغ العبارات وأشدها تأثيراً في النفس وإثارة لكوامن العاطفة، وتستمر رحلة الشجن الأليم وتبلغ ذروتها ونحن في صحن المسجد نسبح ونتلوا الباقيات الصالحات بعد فراغنا من الصلاة، فإذا برجل يحكي مأساته: (أُحلت إلى المعاش؛ ولا أملك من الدنيا سوى حنجرتي هذه التي أسأل بها)، ثم سادت برهة من الصمت الحزين اكتنفت المصلين والرجل يمسح دموعه قبل أن يستطرد قائلاً: (أنا أب لخمسة أطفال، أكبرهم حصل على الشهادة السودانية وفي طريقه للجامعة، ويعلم الله إني لا أملك رسوم دخول الجامعة؛ فأرجو من الله أن ييسر لي في هذه الجلسة من يتكفل بابني و...).
حالات من الأسى والأسف تكسو وجوه المصلين وأنا أجول ببصري عليهم؛ ذاك رجل دس يده في جيبه بغية مساعدة السائل فأحدثت دنانيره رنيناً تناغم مع همهمات حزينة صدرت من بعض المصلين ، وهذا شاب بقربي يهز رأسه حسرة.
لم يكد الرجل يجلس مطرقاً برأسه إلى الأرض حتى انتصب آخر يحمل كمًّا من الأوراق في يده وراح يتمتم ويقول: (الحاجة وحدها هي التي دفعتني إلى أن أقف هذه الوقفة المحزنة أمامكم؛ فلولاها لما طرقنا الأبواب ولا سألنا الناس، عافاكم الله وأغناكم عن السؤال، إخوتي! أنا مريض بمرض الكلى عافاكم الله منه، وأنتم تعلمون تكلفة العلاج الباهظة؛ فكيف الحال إذا كان المرض مزمناً؟!)، وفجأة انخرط الرجل في بكاء حار، تقطعت له الأفئدة، ثم ما لبث أن جلس حتى قام طفل صغير ليكمل بقية المهمة عارضاً تلك الأوراق التي كان يحملها أبوه.. شهادات طبية، روشتات، ونتائج تحاليل تثبت حقيقة المرض.
ولا شك أن ما رصدناه من مواقف هي في الحقيقة مشاهد تراجيدية معتادة في مسلسل حياتنا اليومية؛ حتى أصبح تكرار هذه المشاهد لا يحدث أثراً في النفوس، وإن تعددت العدسات، وأدى الممثلون دورهم بصورة بالغة الدقة؛ فبدلا من الانفعال، ومن ثم التفاعل أصبحت العيون والأفئدة تحفل بالشك والريبة.. فما هو سبب هذا النفور، وهذا الحذر؟!؛ أمات الوازع الديني؟!، أم نضب معين الأخلاق في مجتمعنا؟!، أم أصاب الشلل المشاعر الإنسانية؟..
أسئلة كثيرة دارت بخلدي وأنا أشاهد الآن عكس ما كان من مواقف صغتها بداية.. أين الخلل؟!؛ هل فقد الناس إنسانيتهم؟!، أم فقد السائل مصداقيته وتحول من ذي حاجة وعوز إلى محتال محترف؟!.
كلنا يعلم الأسباب التي تقود البعض إلى التسول؛ فعامل النزوح بسبب الحرب مثلاً يعتبر من أقوى أسباب التسول؛ إذ أن النازح يجد نفسه في وسط غير الوسط، ومجتمع قد يختلف من مجتمع النشأة؛ مما يحدث خللاً نفسياً؛ يفقد الفرد الاتزان؛ فيكون التسول سبيله؛ لسد الرمق؛ متعللاً بأنه غريب في المدينة.
أيضاً العامل الاقتصادي، وتدهور الأحوال المعيشية من العوامل المحورية في قضية التسول؛ فالتضخم الذي تشهده أسواقنا، والانخفاض في قيمة العملة الوطنية أدى في النهاية إلى عجز ميزان الأسرة في إشباع الحاجات الضرورية كالغذاء والسكن والصحة والتعليم وما إليها من حاجات ضرورية لحياة الإنسان؛ فيكون رد الفعل الطبيعي هنا طرق كل باب يمكن من خلاله إشباع هذه الحاجات.. والتسول هو إحدى هذه الأبواب المشرعة لدى البعض.
كذلك انتشار البطالة بين الشباب خاصة يمكن أن يكون من العوامل التي تشجع على التسول، لا سيما إذا عرفنا أن دراسة اقتصادية أكدت أن حجم البطالة في البلاد العربية يتراوح مابين 10 إلى 15 مليون نسمة حاليا، مع توقع ارتفاعها إلى 25 نسمة بحلول عام 2010م؛ إذاً لابد للحكومات أن تضع حلولاً جذرية لمشكلة البطالة؛ حتى لا تكون ذريعة يتمسك بها البعض عند امتهانه للتسول.
الانحلال الأسري، وانفصال الأبوين قد يكون سبباً قوياً في امتهان التسول؛ حيث قد يصاب الأبناء بحالة من الضياع؛ تدفعهم لسؤال الناس في غياب الأبوين.
من واقع مشاهدتنا نلحظ أن التسول ظاهرة تبرز في مختلف أنحاء العالم؛ إذ لا تكاد تخلو دولة أيا كانت من متسولين وأصحاب حاجة وعوز، ولا تخص مجتمعات بعينها دون غيرها. وبذا تحول التسول من ظاهرة إلى سلوك تختلف درجة ممارسته من مجتمع لآخر، والطبيعي أن تكون الحاجة وحدها هي الدافع لهذا السلوك إلا أنه في الآونة الأخيرة نبتت ظاهرة (الاحتيال) وسط بعض المتسولين، أو على الأصح الذين يدعون الحاجة وما هم بمحتاجين؛ فكيف نفسر إذاً موقف ذلك المدعي الذي وقف أمام جمع المصلين في أحد المساجد.. وقف مدعيا أنه عابر سبيل، ولا يملك ما يمكنه من العودة إلى ذويه، ثم يقف الرجل نفس الوقفة بعد عام بذات الادعاء!.. أوَليس هذا احتيال؟!، أيعقل أن يظل رجل عاما كاملاً يجمع ثمن عودته؟!.(/1)
ألوان وأشكال من فنون الخداع والاحتيال بات يمارسها بعض المحتالين ودعاة الحاجة؛ للاسترزاق والكسب الرخيص؛ مما جعل البعض يتخذ الشك والحذر مسلكاً في تعامله مع المحتاجين؛ خوفاً من النصب والاحتيال، وإن كان يبدو عليهم أنهم أهل حاجة صادقة؛ فدائرة الشك تشملهم.
فيا من احترفوا التسول من غير حاجة وعوز، هداكم الله ورفع عنكم هذا الابتلاء واعلموا أنه :(لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره ، خير له من أن يسأل أحدا، فيعطيه أو يمنعه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/2)
التصادم بين الثقافتين الغربيّة والإسلاميّة ...
أ. غازي التوية / الإسلام اليوم ...
إنّ نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنّ تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، ولكنّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى، فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص 'الإنجيل المقدس' ، والذي كانت تحتكر تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعدّدة تناقض النص 'المقدس' الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط حينئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، والعلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية خلال الفترة الماضية، فإنّ أبرز صور التصادم كانت بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الثقافة الإسلامية، وسأعرض لبعض صور التصادم في السطور التالية.
من أول صور التصادم ما أثاره طه حسين في كتاب 'في الشعر الجاهلي' عام 1926م، فقد تعرض لنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة تحدثت عن بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للكعبة، وتشكك في تلك الحقيقة، وحتى في وجودهما التاريخي، وفي هجرتهما، ورأى أنّ قريشاً اختلقت تلك القصة لأسباب سياسية واقتصادية، ورأى فيها نوعاً من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى.
ومن صور التصادم أيضاً حديث الدكتور حسين أحمد أمين في كتابه 'حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية' عن حد السرقة : (والسارقُ والسارقةُ فاقطعواIالذي ورد في نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في قوله أيدِيَهما جزاءً بما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ). [المائدة،38]، فقد ربط الدكتور بين ذلك الحدّ وبين الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية آنذاك، وبيّن أنّ العربي كان ينقل كل متاعه على راحلته، وإنّ سرقته تعني سلبه كل ما يملك من جهة، وتعني هلاكه من جهة ثانية، لذلك جاء الحكم بتلك الصورة لأنه مرتبط بالأموال المنقولة، والآن أصبحت الأموال غير المنقولة أثمن وأغلى من الأموال المنقولة لذلك فهو يقترح تغيّر الحكم انطلاقاً من تغيّر الوضع الاقتصادي.
أما الدكتور نصر حامد أبو زيد فقد تحدّث في كتابه 'نقد الخطاب الديني' عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في عدة مجالات منها: صفات الله وفي مجال آخر هو الحسد والسحر والجن والشياطين، وقد اعتبر أنّ الألفاظ الأخيرة مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها في ضوء واقعها الثقافي، وإنّ وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت الآن ذات دلالة تاريخية، والدكتور نصر حامد أبو زيد في كل أحكامه السابقة ينطلق من أنّ النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة، تم انتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة 'دي سوسير' في التفرقة بين اللغة والكلام، وينتهي الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية إلى المناهج اللغوية المشار إليها سابقاً.
أما الدكتور محمد شحرور في كتابه 'الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة' فقد اعتبر أنّ جميع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجال الحياة الاجتماعية: كالنكاح، والطعام، وفي مجال الحدود: كحد السرقة، والزنا، والحرابة، والقتل، العمد الخ ...، وفي مجال الأحكام: كتوزيع الميراث، وأخذ الربا الخ ... اعتبر جميع تلك النصوص خاضعة لاجتهاد رسم له حدين: أدنى وأعلى، وقد اعتبر أنّ سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي اجتهاد محمد -صلى الله عليه وسلم- لتطبيق حدود الإسلام ضمن بيئة الجزيرة العربية، وبالتالي فإنّ تطبيقه لها ليس ملزماً لنا في شيء.(/1)
لاشك أنّ نسبية الحقيقة هي الناظم الذي يشمل كل تلك الطروحات بدءاً من تشكيك طه حسين في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي واقعة بنائهما الكعبة، ومروراً بربط الدكتور حسين أحمد أمين لحد السرقة بظاهرة الأملاك المنقولة، وباعتبار الدكتور نصر حامد أبو زيد السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية، وانتهاء باعتبار الدكتور محمد شحرور جواز تأرجح الحدّ بين اجتهادين أعلى وأدنى ... ولا أريد أن أكرر الحديث عن الخصوصية التاريخية التي جعلت ثقافة الغرب تقوم على نسبية الحقيقة، ولا أريد أن أفصل مناقشة رأي كل كاتب فيما يتعلق بالنصوص القطعية الثبوت، القطعية الدلالة التي تعرّض لها؛ فقد فعلت ذلك في مواضع أخرى أو فعل غيري ذلك، ولكني أردّ موجزاً مختصراً فأتساءل: هل يجوز لطه حسين أن يرد نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شأن وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفي شأن بنائهما الكعبة من أجل وجود أساطير مشابهة قبلها الرومان عن بناء روما من قبل بإينياس بن بريام صاحب طروادة اليوناني؟ لماذا يربط الدكتور حسين أحمد أمين بين حدّ السرقة والأموال المنقولة، ولا يربط ذلك بفعل السرقة الشنيع وما يشتمل عليه من ترويع وتخويف واعتداء على المسروق وما يصوره من طمع السارق ودناءته وتطلّعه إلى ما في يد الغير بغير حق مشروع؟ لماذا يعتبر الدكتور نصر حامد أبو زيد الكلمات: السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات دلالات تاريخية؟ لماذا يُخضع الدكتور محمد شحرور كل الألفاظ القرآنية للتحليل اللغوي المعجمي مع أنّ الإسلام أخرج كثيراً من الألفاظ من معناها اللغوي وجعلها مصطلحات أعطاها معاني أخرى أمثال: الصلاة، الزكاة، الإيمان، الكفر، الحدّ الخ ...، وعليه أن يحترم هذه المصطلحات عند أيّ بحث علمي؟
والآن أعود إلى نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب والتي تختلف عن ظروفنا التاريخية وأتساءل: هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون؟
لقد جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يشير إلى ثبات بعض الحقائق من الفطرة الثابتة التي لا تتغيّر، قال : (فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عليها لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ). [الروم،30]، فطالما أنّ هناك فِطرة ثابتة لا تتغيّر فهناك حقائق ثابتة لا تتغيّر، وهذا ما قادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا. ...(/2)
التصرف بالمال الحرام
يقع التصرف بالمال الحرام على حالتين نبينها كالتالي :
الأول : الإنفاق له في وجوه الخير .
ويكون هذا التصرف في حالة عدم إمكان تمييز الجزء الحلال من هذا المال عن غيره ، بشرط جواز رد ذلك المال إلى صاحبه ، وشرط هذا الجواز أن لا يكون أخذ مقابل منفعة محرمة .
ومما يدل على ذلك:
1ـ ما رواه أبو داود بإسناده عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوك لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة فقالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها. فقال: أطعميه الأسارى"(1)، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها.
قال العلامة علي القاري: (فظهر أن شراءها غير صحيح؛ لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح) (2).
2ـ القياس :
حيث قاس بعض أهل العلم التخلص من المال بالتصدق به قاسوه على اللقطة إن تعذر ردها إلى مالكها فإن الملتقط يتصدق بها، وينبغي أن يعلم أن إخراج المال الحرام والتحلل منه ودفعه إلى الفقراء والمساكين يسمى هذا الدفع صدقة بالنظر إلى الفقير لا بالنظر إلى المعطي ذلك أن التائب من المال الحرام بإخراجه إلى الفقراء والمساكين لأجل أن تقبل توبته لا لأجل الأجر والثواب فهذا الإخراج من مكملات التوبة وشروطها ولا أجر لهذا الشخص في هذا التصرف.
العلماء الذين أفتوا بذلك :
1ـ الإمام الزهري :
سئل الزهري عن رجل يصيب المال الحرام قال إن سره أن يتبرأ منه فليخرج منه(3)، وعليه فينبغي على المسلم أن يتخلص من هذا المال الحرام بصرفه كله إلى الفقراء والمساكين أو صرفه في مصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو إصلاح طريق أو المرافق العامة ونحو ذلك، ولا يحل له أن ينتفع به هو وأهله وعياله، ولا يحل له أن يحتفظ بهذا المال؛ لأنه اكتسبه من طريق غير مشروع.
وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به، ومن هؤلاء العلماء الذين ذكروا ذلك:
2ـ الإمام القرطبي:
حيث قال عند تفسير قوله تعالى: ?فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ? [البقرة: 297]. ما نصه: (قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت ربًا فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضرًا فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك. وإن أخذ بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عُرف ممن ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين...)(4)
3ـ شيخ الإسلام ابن تيمية
حيث أفتى:
1ـ بأن البغي و الخمار إذا تابوا و كانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم فان كانوا يقدرون يتجروا أو يعملوا صنعة كالنسج و الغزل أعطوا ما يكون لهم رأس مال و إن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به و لم يردوا عوض القرض كان أحسن(5)
2ـ ويقول : المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين عند جماهير العلماء كمالك و أحمد و غيرهما فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو هون قد يئس من معرفة أصحابها فانه يتصدق بها عنهم أو يصرفها في مصالح المسلمين أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين المصالح الشرعية
و من الفقهاء من يقول توقف أبدا حتى يتبين أصحابها و الصواب الأول فان حبس المال دائما لمن لا يرجى لا فائدة فيه بل هو تعرض لهلاك المال و استيلاء الظلمة عليه و كان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية فدخل بيته ليأتي بالثمن فخرج فلم يجد البائع فجعل يطوف على المساكين و يتصدق عليهم بالثمن و يقول اللهم عن رب الجارية فان قبل فذاك و إن لم يقبل فهو لي و علي له مثله يوم القيامة و كذلك أفتى بعض التابعين من غل من الغنيمة و تاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم و رضي بهذه الفتيا الصحابة و التابعون الذين بلغتهم كمعاوية و غيره من أهل الشام (6)
ثم جاء العلماء المتأخرون موافقين لهم ، ومن هؤلاء :
4ـالشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان(/1)
حيث يقول عن التصرف في الفوائد الربوية: ( اعلم يا أخي إن إيداع النقود أو فتح حساب في البنك بنية أخذ ربا (فوائد) حرام لا يجوز ولو بنية صرف هذه الفوائد في سبيل الدعوة إلى الله؛ لأن الله حرم الربا بنص كتابه، وحرم رسوله – صلى الله عليه وسلم- كل وسيلة تعين عليه "لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"(7).
أما إذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا كحال عامة البنوك في الدول الغربية، والإيداع في مثل هذه البنوك ضرورة لا بد منها فهل تؤخذ هذه الفوائد الربوية أم لا؟ اختلف أهل العلم اليوم في هذا فمنهم من منع ذلك أخذاً بظاهر نصوص القرآن كقوله تعالى :? الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس ? [البقرة:275]، وقوله: ? ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[ البقرة:278]، وقوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.."(8)، وقال بعض العلماء بجواز أخذ هذه الفوائد الربوية من تلك البنوك وصرفها في مصارف الخير بنية التخلص منها لا بنية الصدقة لأنها مال خبيث، ولعل هذا القول هو الأرجح عندي –إن شاء الله-؛ لأن هذه الفوائد مع ضخامتها لو تركت عند البنوك الربوية في مثل هذه البلاد الكافرة لتقوى بها اقتصادها، وعاد ضررها على المسلمين، وإذا كان الأمر كذلك على هذا القول فالواجب عليك –أخي السائل- أن تجتهد في صرف هذا المال المسؤول عنه في أولويات أعمال المركز عندكم وأنشطته ما دامت في خدمة الدعوة إلى الله في بلاد الغربة، من دعوة غير المسلمين وتأليف قلوبهم ونشر الكتب والأشرطة التي تشرح العقيدة والأحكام الضرورية، وأنصح المسلمين بألا يأكلوا أو يشربوا مما صرف من هذه الفوائد على الطعام والشراب مما قد يوضع في المركز وهذا من باب قول الله ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?" [التغابن:16]
فالله الله في تدبر هذه الآية على وفق جوابي لسؤالك، وفقنا الله وإياك إلى كل خير(9).
4ـ الشيخ عبد الله بن منيع :
سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع: –حفظه الله- ما حكم أخذ الفوائد الربوية من الحساب البنكي الخاص بي، وذلك لصرفه للمركز الإسلامي الموجود في المدينة أو توزيعها على المحتاجين من المسلمين؟ علماً أنه يوجد حساب بنكي بدون فوائد ربوية.
فأجاب : الحمد لله، الفوائد البنكية ربا صريح، وإذا كان للمسلم حساب في بنك ربوي في مثل أمريكا، وليس هناك بنوك إسلامية يمكن فتح حسابات فيها، فهذا مسوغ للإيداع فيها؛ حفظاً للمال من عوارض الإضاعة والتسلط، وليس لغرض أخذ الفائدة، فإذا ظهر في الإيداع فائدة ربوية فيجب أخذها وصرفها في وجوه البر، تخلُّصاً منها، ومنعاً من أن تصرف إلى جهة غير إسلامية.
ولكن لا يجوز الإيداع في البنوك الربوية لغرض الاستثمار الربوي؛ لصرفه في وجوه الخير، حيث قد ينطبق على ذلك قول الشاعر فيمن تزني وتدفع أجرة زناها للأيتام:
أمطعمة الأيتام من كدِّ فرجها لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي والله أعلم (10) .
تنبيه مهم :
يشترط لهذه الفتيا عدم إمكان تمييز الجزء الحرام من المال من الحلال ،أو عدم معرفة صاحب المال الحرام الذي يجوز رد المال إليه ،مع كون مالك المال الحرام لا يستطيع أن يستغني عنه ، ويفهم هذا جلياً من تمام فتوى ابن تيمية.
حيث أفتى بأن البغي و الخمار إذا تابوا و كانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم فان كانوا يقدرون يتجروا أو يعملوا صنعة كالنسج و الغزل أعطوا ما يكون لهم رأس مال و إن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به و لم يردوا عوض القرض كان أحسن(11)
الثاني ـ أن يعرف المالك له الذي يحل له ملكه:
فهنا لابد من إرجاع المال لصاحبه، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام ؟ فأجاب : يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه و قدر الحلال له ، و إن لم يعرفه و تعذرت معرفته تصدق به عنه.
خلاصة لكيفية التصرف بالمال الحرام :
سئل شيخ الإسلام ابن القيم عن ذلك : فأجاب بقوله : هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي : ( أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه ، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته فإن تعذر ذلك تصدق به عنه فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة رضي اله عنهم ) (12)
ولابد هنا من التنويه على أن المال المحرم نوعان :
النوع الأول: المحرم لوصفه :(/2)
ويقصد بذلك المال الذي يكون أصله حلال لكن اتصف بصفة جعلته حراماً،ككونه أخذ بطريق رباً ،أو أجرة على فعلٍ محرم كغناءٍ ونحوه ،وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن امرأة كانت مغنية و اكتسبت في جهلها مالا كثيرا و قد تابت و حجت إلى بيت الله تعالى و هي محافظة على طاعة الله فهل المال الذي اكتسبته من حل و غيره إذا أكلت و تصدقت منه تؤجر عليه
فأجاب : المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة فى نفسها و إنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله(13)
النوع الثاني :المحرم لعينه:
ويقصد به ما كان محرماً لذاته ، فلا يحل في أي زمان ولا مكان ،ومن أمثلتها أجرة الزنا ، وقيمة الخمر ، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فقال : "و أما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي و ثمن الخمر فهنا لا يقضي له به قبل القبض، و لو أعطاه إياه لم يحكم برده فان هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض و المعوض، و لا يحل هذا المال للبغي و الخمار و نحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين.
و أما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل له أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك و أما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله لأن الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث كما قال النبي - صلى الله عليه و سلم- : " مهر البغي خبيث"(14)
2ـ وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنى أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به ولا يسوغ القول به وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن خبثه لخبث مكسبه لا لظلم من أخذ منه فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه.
تنبيه :يحرم رد المال الذي أخذ عوضاً على محرم إلى صاحبه.
ترد هاهنا شبة مفادها ، ولابد من الإجابة عليها:
الشبهة: أنه إذا جاز صرف هذه الأموال المحرمة إلى وجوه الخير فصرفها إلى أصحابها الأصليين جائز عند احتياجهم إليها من باب أولى؟
وذلك بأن يقال : الدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز له دفعه، بل حجر عليه الشارع في ذلك التصرف ، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء ،أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك، وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده إليه.
الرد على الشبهة:
هذا قياس فاسد لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض، لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به ،أو حق نفسه المقدمة على غيره.
وأما ما نحن فيه فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة ، وقد قبض عوضاً محرماً، وأقبض مالا محرماً، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله ،فالقابض قبض مالاً محرماً، والدافع استوفى عوضاً محرماً.
وقضية العدل تراد العوضين ،لكن قد تعذر رد أحدهما فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه ، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه أو دفع إليها المال ولم يفجر بها وجب رد المال في الصورتين قطعا كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض
فإن قيل : وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا فقابض المال قبضه بغير حق فعليه أن يرده إلى دافعه ؟
قيل : والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه وكلاهما عاص لله فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه ويفوت على الآخر العوض والمعوض
فإن قيل : هو فوت المنفعة على نفسه باختياره قيل : والآخر فوت العوض على نفسه باختياره فلا فرق بينهما وهذا واضح بحمد الله(/3)
وقد توقف شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله أو الصدقة به في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم وقال : الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم فاستوفوا العوض المحرم والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها ثم أورد على نفسه سؤالا فقال : فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها وأجاب عنه بأن قال : قيل : نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له : أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم فلا يقضى لك بالأجرة فإذا قبضها وقال الدافع هذا المال : اقضوا لي برده فإني أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له : دفعته معاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا محتمل قال : وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد انتهى
وقد نص أحمد في رواية أبى النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني : أكره أكل كرائه ولكن يقضى للحمال بالكراء وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق:
إحداها : إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني فإن فعل قضي له بالكراء وهل يطيب له أم لا ؟ على وجهين أوجههما : أنه لا يطيب له ويتصدق به وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال : إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه وهذه كراهة تحريم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء وإن كان محرما كإجارة الحجام انتهى فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح
الطريق الثانية : تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة وهي أن هذه الإجارة لا تصح وهذه طريقة القاضي في المجرد وهي طريقة ضعيفة وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة فإنه صنف المجرد قديما.
الطريقة الثالثة : تخريج هذه المسالة على روايتين إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة والثانية : لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل وهذا على قياس قوله في الخمر : لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها قال في رواية أبي طالب إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير وقد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس(/4)
فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها ولأنه قد نص في رواية ابن منصور : أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصراني لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر وهذه طريقة القاضي في تعليقه وعليها أكثر أصحابه والمنصور عندهم : الرواية المخرجة وهي عدم الصحة وأنه لا يستحق أجرة ولا يقضى له بها وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير أو مطلقا فأما إذا استأجره لحملها ليريقها أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها فإن الإجارة تجوز حينئذ لأنه عمل مباح لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه هذا قول شيخنا وهو مذهب مالك والظاهر : أنه مذهب الشافعي وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله : فمذهبه كالرواية الأولى أنه تصح الإجارة ويقضى له بالأجرة ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر فذكره وعدم ذكره سواء وله أن يحمل شيئا آخر غيره كخل وزيت وهكذا قال : فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة أو ليبيع فيها الخمر قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر : أن الإجارة تصح لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط ذلك لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ولا يتخذ الدار كنيسة ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو ليسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول : فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا : أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمله بدله عصيرا استحق الأجرة فهذا التقييد عندهم لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال : لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا : ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها في المستحقة فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد إجارة.
ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له استحق اللعنة.
قالوا : وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ويلعن فاعله فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة
قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن موسى يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة ولكن لا يطيب له أكلها قال : فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- " لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه"(15) فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضى له بعوضه كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطى بدلها فإن تحريم الإنتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشبة التأذي بها جاز ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.(/5)
قال شيخنا : ومثل هذه الإجارة والجعالة يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل يقال : هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه العوض وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الإنتفاع بالأجر ولهذا في الشريعة نظائر قال : ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ثم نقضي له بكرائه قال : ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه فإذا لم يعطوه شيئا ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم كان ذلك أعظم العون لهم وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال يعني كالزانية والمغني والنائحة فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة ولو قبضوا منهم المال فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به ؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده ولا يطيب لهم أكله والله الموفق للصواب.
إعداد وترتيب : فيصل الرازقي
راجعه وخرج أحاديثه : عادل العداني
(1) أخرجه الألباني ، ج2/263، برقم 3332 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل ج3،ص.196
(2) مرقاة المفاتيح 10/ 297
(3) مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 4 - صفحة 561).
(4) تفسير القرطبي 3/366.
(5) مجموع الفتاوى ( جزء 29 - صفحة 308 )
(6) مجموع الفتاوى ( جزء 29 - صفحة 322 )
(7) أخرجه مسلم/ج3،ص1218،رقم 1598.
(8) أخرجه مسلم،ج2،ص703، برقم1015.
(9) أنظر : موقع : الإسلام اليوم.
(10) أنظر : موقع : الإسلام اليوم.
(11) مجموع الفتاوى ( جزء 29 - صفحة 308 )
(12) زاد المعاد ( جزء 5 - صفحة 690 )
(13) مجموع الفتاوى ( جزء 29 - صفحة 309 )
(14) أخرجه مسلم،ج3،ص1199،برقم 1568.
(15) سنن أبى داوود،،ج2،،ص350،رقم 3674، وصححه الألباني في الإرواء ،ج1،ص474،برقم 2358.(/6)
التصرف في الممتلكات العامة في العراق بعد سقوط بغداد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الغصب والإتلاف
التاريخ ... 15/8/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد:
عرض علينا بعض إخواننا الأكراد سؤالاً عن حكم بيع الممتلكات التي أخذها الناس من الأموال العامة كالسيارات وغيرها بعد سقوط حكومة صدام، فهل يجوز لمن أخذها أن يتملَّكها أو يذهب بها؟ نريد جواباً مفصلاً حول هذه القضية من فضيلتكم وفي أسرع وقت، ولكم منا جزيل الشكر.
الجواب
لقد حرَّم الله أكل مال الغير بغير حق، قال تعالى: "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ" [البقرة: من الآية188]، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" انظر صحيح الجامع (7662) وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ..." الحديث رواه مسلم (2577) عن أبي ذر – رضي الله عنه-.
وعن السؤال أقول: إن كان يعرف عين من سرقت أو نهبت منه تلك السيارة وغيرها من الممتلكات وجب ردها إلى صاحبها أو ثمنها وقت الرد، وإن باعها أو تصرَّف فيها منتهبها فعليه ضمان ثمنها لمالكها الأصلي؛ لأن يد الغاصب (المنتهِب) لا تلم لحديث "وليس لعرقٍ ظالم حقٌ" رواه الترمذي (1378)، وأبو داود (3073) من حديث سعيد بن زيد –رضي الله عنه- أما إذا كان لا يعرف عين صاحب تلك الآلات المنتهَبة من سيارات ونحوها وجب على المنتهب التصدق بثمنها – وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن مثل هذه الحال، فأجاب بما نصه (الأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين فإنه [أي الناهب] يخرج زكاتها، فإنها إن كانت ملكاً لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكاً له ومالكها مجهول لا يعرف فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيراً من أن لا يتصدق بشيء منها، انظر مجموع الفتاوى
(30/325).
والذي يظهر من حال العراق والعراقيين بعد اختلال الأمن عند سقوط صدام ودخول الأمريكان وما حصل من النهب والسلب لعامة الممتلكات يشبه حال الأعراب الجاهلين في نهب بعضهم ممتلكات بعض، وقد اختلف العلماء في جواز شراء تلك الممتلكات المنهوبة إذا لم يعرف مالكها على قولين: الجواز والمنع، والأرجح جواز بيع وشراء السلع المنتهبة والمغصوبة من غاصبها إذا لم يعرف صاحبها والقائم عليها ونص الفقهاء - كابن قدامة في (المغنى) - على أن تصرفات الغاصب في السلعة التي يغصبها كتصرفات الفضولي، وفيه روايتان أصحها الجواز، وقد صحح ابن تيمية شراء السلعة التي أكره مالكها على بيعها، مع أن الإكراه سلب لشرط التراضي الذي هو أحد شروط عقد البيع، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما
يتناول الدرس الإجابة عن السبب الذي أدى بالمسلمين إلى هذه الحالة المزرية السيئة، والوضع المهين المخزي، والسر في وصولهم إلى هذا الدرك المنحط من الذل، كما يتناول العلاج والدواء- من وجهة نظر الشيخ- ؛ لنتمكن من النجاة من هذا الذل والشقاء .
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعد؛ فنحن اليوم في زمن وصل فيه المسلمون إلى حد ـ لا يمكن أن يصل إلى أسوأ منه مسلم يؤمن بالله ورسوله ـ من الذل والاستعباد من الآخرين؛ ولذلك، ولشعور كل منا بما نزل بنا من هذا الذل المخيم على جميع البلاد الإسلامية نتساءل دائمًا وأبدًا عن السبب الذي أدى بالمسلمين إلى هذه الحالة المزرية السيئة، والوضع المهين المخزي، والسر في وصولهم إلى هذا الدرك المنحط من الذل، كما نتساءل عن العلاج والدواء؛ لنتمكن من النجاة من هذا الذل والشقاء.. ثم تتنوع الآراء وتتعدد الملاحظات، وكل يأتي بمنهج أو سبيل يرتئيه لحل هذه المشكلة، ومعالجة هذه المعضلة.
وأنا أرى أن هذه المشكلة قد ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصفها في بعض أحاديثه الثابتة عنه، وبيّن علاجها، ومن هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] رواه أبوداود وأحمد . فنجد في هذا الحدث ذكر المرض الذي شاع حتى أحاط بالمسلمين، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعين من المرض على سبيل التمثيل لا التحديد.
من أمراض المسلمين:
النوع الأول: هو وقوع المسلمين في بعض المحرمات بالاحتيال عليها وهم على علم بها: وهذا كامن في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ] فالعينة: نوع من البيع يشير هذا الحديث إلى تحريمه، ولكن بعض الناس رأوا إباحة ذلك؛ لأنها وضعت في باب البيع والشراء، واستدلوا على ذلك بالعمومات التي تدل على جواز البيع؛ كمثل الآية المشهورة:} وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[275] {'سورة البقرة' فقالوا: هذا بيع وشراء، فلا بأس أن يزيد أو ينقص !
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولاً: مبين للناس؛ كما قال ربنا تبارك وتعالى:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [44] {'سورة النحل' وهو ثانيًا: كما وصفه ربنا تبارك وتعالى بقوله: }بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[128] {'سورة التوبة' فمن رأفته ورحمته بنا عليه الصلاة والسلام؛ أن نبهنا على مكامن احتيال الشيطان على بني الإنسان، وحذرنا أن نقع في أحابيله في أحاديث كثيرة جدًا، منها ما نحن الآن في صدده، فقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ] أي: إذا استحللتم ما حرم الله ورسوله بأدنى الحيل باسم أن هذا بيع، والحقيقة أنه ستار، وأنه استدانة مقابل زيادة، وهذا ربًا مكشوف، فحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من أن نقع في مثل هذا الاحتيال لاستحلال ما حرم الله، فذلك أخطر من أن يقع المسلم في الحرام وهو يعلم أنه حرام؛ لأنه يرجى له يومًا ما أن يعود إلى ربه ويتوب؛ لأنه على علم بأن ما يفعله حرام.
أما إذا كان قد زُيَّنَ له سوء عمله لسبب من الأسباب؛ إما بالتأويل الخطأ أو بالجهل البالغ، فظن أن عمله لا شيء فيه، فبدهي أن لا يخطر في باله يومًا ما أن يتوب إلى الله، فكان خطر المُحَرَّم المُسْتَحَلِّ فكريًا واعتقاديًا أشدّ بكثير من المُحَرَّم المكشوف، فالذي يأكل الربا، ويعلم أنه ربا، ويعتقد أنه ربا؛ هذا ـ مع أن يحارب الله رسوله كما في نص الآية ـ خطره في النتيجة أيسر من ذلك الذي يأكل الربا وهو يعتقد أنه إنما يأكل حلالاً، هذا كمثل الذي يشرب المسكر ويعتقد أنه حرام، فيرجى أن يتوب إلى الله، أما الذي يشرب المسكر، وهو يعتقد لسبب ما أنه شراب حلال؛ فهذا أخطر من ذاك؛ لأنه لا يتصور أن يتوب عنه أبدًا ما دام يسيء فهم حكم هذا الأمر.
والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر بيع العينة ـ كما ذكرنا في مطلع الكلام ـ على سبيل التمثيل لا على سبيل التحديد، فيشير إلى أن كل حرام يرتكبه المسلم مستحلاً له بطريقة ما من طرق التأويل؛ فهذا من نتائجه أن يذله الله عز وجل، ويذل بسببه المسلمين إذا فشا فيهم وشاع.(/1)
النوع الثاني: ثم ذكر النوع الثاني من الأشياء التي يشترك الناس كلهم في معرفة مخالفتها للشريعة، فقال: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ] أي: انشغلتم بالسعي وراء حطام الدنيا، تحصيل الرزق باسم أن الله أمرنا بالسعي وراء الرزق، فيبالغ المسلمون في ذلك، وينسون ما فرض الله عليهم من الفرائض، ويلتهون بالسعي وراء الزرع والضرع، وما شابه ذلك من المكاسب، فينسيهم ذلك ما فرض الله عليهم من الواجبات، وذكر على سبيل المثال الجهاد في سبيل الله؛ فقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ].
هذا الحديث من أعلام النبوة، فقد تحقق فينا هذا الذل؛ فيجب علينا أن نأخذ العلاج من هذا الحديث بعد أن وصف المرض، وما سيثمر هذا المرض من ذلك، فقد تمسكنا بالأدواء، وأدت بنا إلى المرض، ألا وهو الذل، فعلينا إذن أن نعود إلى تطبيق الدواء الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وصرح بأنه إذا رجعنا إليه رفع الله عنا هذا الذل.
والناس يقرأون هذا الحديث، ويسمعون كثيرًا قوله صلى الله عليه وسلم: [ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فيظنون أن الرجوع إلى الدين أمر سهل، أما أنا فأرى أن الرجوع إلى الدين يحتاج ـ كما يقال عندنا ـ إلى [هز أكتاف]، وذلك لأننا جميعًا نعلم أن هذا الدين قد أصيب بمحاولات كثيرة لتغيير حقائق كثيرة منه، وقد استطاع بعضهم أن يصل إلى مثل ذلك التغيير أو التحريف، فبعض هذا التغيير معروف لدى كثير من الناس، وبعضه ليس كذلك؛ بل على العكس من ذلك عند جماهير الناس فهناك مسائل ـ بعضها اعتقادية وبعضها فرعية فقهية ـ يظنون أنها من الدين، وهي ليست من الدين في شيء .
كيف يرجع المسلمون إلى دينهم؟
وهو العلاج الذي نص الرسول عليه الصلاة والسلام على أنهم إن أخذوه؛ رفع الذل عنهم؛ وإلا فلا: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] إذاً: العلاج الوحيد هو الرجوع إلى الدين؛ لذلك فأنا أرى أن أي إصلاح ـ يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام، والناشدون لإقامة دولة الإسلام بإخلاص ـ هو أن يعودوا إلى أن يفهموا أولاً أنفسهم، ويفهموا الأمة ثانيًا: الدين الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لا سبيل إليه ـ فيما أعتقد اتفاقًا بين جميع الفقهاء بأنه لا سبيل إلى الرجوع إلى فهم الدين على الحقيقة التي أنزلها الله عز وجل ـ إلا بدراسة الكتاب والسنة، ولا جرم أن الأئمة رحمهم الله حذروا أتباعهم الأولين الذين كانوا على علم من أن يتبعوهم، وأن يقلدوهم، ويجعلوهم الأصل في الرجوع، وينسوا بذلك أصل الشريعة: الكتاب والسنة.
ولستم بحاجة جميعًا إلى أن نسوق لكم أقوال الأئمة التي تدندن كلها حول الكلمة التي صحت عنهم جميعًا: [إذا صح الحديث فهو مذهبي]. فحسبنا هذا القول منهم الآن، فهذا دليل على أن كل إمام من أولئك الأئمة نصح نفسه، ونصح أمته وأتباعه حينما أمرهم بأن يرجعوا إلى الحديث إذا كان مخالفًا لاجتهاده ورأيه.. فهذا إذاً يفتح الطريق ـ حتى باسم تقليد الأئمة ـ للرجوع إلى الكتاب والسنة.
مسائل تخالف السنة الصحيحة:
فنذكر بعض الأمثلة ـ وهي لا تزال موجودة في كتبنا تدرس في كل المدارس الشرعية والكليات وما شابه ذلك ـ : في أحد المذاهب الإسلامية: أنّ المصلي إذا دخل في الصلاة يسدل يديه ولا يقبض. لماذا؟! هكذا المذهب! بينما جهد كل علماء الحديث بأن يأتوا بحديث واحد ولو ضعيف ـ بل ولو موضوع ـ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يقبض بيده اليمنى على اليسرى إذا وقف يصلي، هذا لا وجود له، فهل هذا هو الإسلام؟ أنا أعرف أن البعض سيقول: إن هذا من المسائل الفرعية. وقد يتساهل بعضهم في التعبير فيقول: هذا من التوافه. وأنا أعتقد أن كل شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالدين والعبادة؛ فليس من توافه الأمور.
نحن نعتقد أن كل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب أن نتبناه دينًا أولاً؛ مع وزنه بأدلة الشريعة؛ إن كان فرضًا ففرض؛ وإن كان سنة فسنة، أما أن نسميه أمرًا تافهًا أو قشورًا؛ لأنه مستحب! فهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء إطلاقًا؛ لاسيما وأن اللب لا يمكن أن نحافظ عليه إلا بالمحافظة على القشر، أقول هذا لو أردت أن أجادلهم باللفظ.(/2)
هذا المثال البسيط ـ وهو السدل في الصلاة ـ؛ لماذا يستمر المسلمون على العمل به، والأحاديث تترى في كل كتب السنة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبض؟! ليس هناك إلا التقليد والجمود على مخالفة الأئمة في قولهم: [إذا صح الحديث فهو مذهبي].
قد لا يرضى هذا المثال البسيط بعض الناس، فنذكر مثالاً آخر، وهو:
أن بعض كتب فقه المذاهب ما زالت تذكر بأن الخمر قسمان: قسم منبسط من العنب؛ فهذا قليله وكثيره حرام، وقسم آخر مستنبط من غير العنب: من الشعير، أو من الذرة، أو من التمر، أو غير ذلك مما تفنن اليوم الكفار في استنباط الخمر منه، فهذا النوع من الخمر ليس كله حرامًا؛ وإنما الذي يسكر منه فقط فهو حرام ! لماذا لا يزال هذا القول مسطورًا ؟! وقد يدافع عنه بعض الناس بألوان من الدفاع! لا لشيء؛ إلا أن إمامًا من أئمة المسلمين اجتهد فقال هذا القول! مع أننا جميعًا ـ على اختلاف مذاهبنا ومشاربنا ـ نقرأ في كتب السنة وبالأسانيد الصحيحة قوله عليه الصلاة والسلام: [مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ] رواه الترمذي وابن ماجه وأبوداود وأحمد. وقوله: [ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ] رواه مسلم .
لماذا يظل مثل هذا القول الخطير الذي يشجع الناس ـ الذين هم على شفا حفرة من الفسق، أو قد وقعوا فيها فعلاً ـ ويزين لهم شرب القليل من خمر غير العنب؛ بحجة أن الإمام الفلاني ـ وهو عالم فاضل ـ قال هذا ؟ يا للحجة! نحن نعتقد أنه عالم فاضل، ولكن الفرق أننا لا ننسى أنه غير معصوم عن الخطأ، وهم يتناسون هذه الحقيقة، فيظلون يدافعون عن هذه الكلمة، فبعضهم يستغل هذا القول ينشر المادة المسكرة بين المسلمين، وبعضهم يدافع عن الإمام لا عن القول.
لماذا يبقى مثل هذا القول في كتب الفقه مع مصادمته الأحاديث القاطعة الدلالة والثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إبطال مثل هذا القول ؟!! لماذا نجبن أن نقول: إن إمامًا من أئمة المسلمين أخطأ في مسألة، أو في اجتهاد، أو في رأي له، فيؤخر أجرًا واحدًا بدل أن يؤجر أجرين؟! لماذا لا تقول هذا أولاً كمبدأ، وثانيًا كتطبيق لبعض الفروع، ومنها هذا الفرع الذي نحن في صدده؟!
الجواب: لأنه قد ران علينا، وفي قلوبنا تقديس الأئمة واحترامهم أكثر مما أوجب الله علينا.
ونحن نؤمن بقول الرسول عليه الصلاة والسلام لنا: [لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمَ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفَ لِِعَالِمِنَا حَقَّهُ] صحيح الجامع [5443]. هذا مما حض عليه الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يعرفوا حق العالم، ولكن هل من حق العالم أن نرفعه إلى مستوى النبوة والرسالة، حتى نعطيه العصمة بلسان حالنا ؟! فلسان الحال أنطق من لسان المقال .
إذا كان علينا أن نحترم العالم ونقدره حق قدره، وأن نقلده حينما يبرز لنا الدليل؛ فليس لنا أن نرفع من قوله، ونضع من قول الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أن نؤثر قوله على قول الرسول عليه الصلاة والسلام!
مثال آخر: مثلاً في النكاح لا يزال هذا الحكم باقيًا على أنه رأي إسلامي محترم؛ فلا يزال يُقضي بأن البنت المسلمة البالعة الراشدة لها أن تزوج نفسها بنفسها دون إذن وليها؛ مع تصريح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: [أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد. فهذا الحديث غير معمول به، وذاك القول معمول به ومقضي به . وقد يقول بعض الناس: ألم يفهم الحديث أحدٌ إلا أنت ؟!
وأقول: هذا الحديث قد أخذ به أفهم الأئمة باللغة العربية وأساليبها؛ ألا وهو الإمام الشافعي، فليس هو رأيًا لإنسان يُعرف أصله أنه من ألبانيا؛ ولكن هذا الألباني وجد حديثًا، ووجد فهمًا لإمام وهو إمام قرشي مطلبي. ثم لماذا تُرك هذا الرأي الصحيح المقرون بهذا الحديث الصحيح لرأي إمام آخر من أئمة المسلمين ؟! إن اجتهاد الإمام على رءوسنا، ولكن الاجتهاد له قيمة حينما لا يتعارض مع النص المعصوم من الكتاب والسنة.
فكلنا يقرأ في كتب الأصول قولهم: [إذا ورد الأثر بطل النظر]، [لا اجتهاد في مورد النص]، كل هذه القواعد المعروفة علميًا، فلماذا لا نهتم بتطبيق هذه القواعد عمليًا، ونظل نتمسك ببعض الفروع المخالفة للسنة ؟!
فإذا أردنا أن نأخذ بالعلاج الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وصف المرض: [ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فهل الرجوع إلى الدين هو فقط باللسان؛ أم هو بالاعتقاد والعمل ؟!
إن كثيرًا من المسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهم لا يلتزمون لوازم هاتين الشهادتين، وهذا بحث طويل؛ فكثير من المسلمين اليوم لا يعطون [لا إله إلا الله] حقها من التفسير،(/3)
ولقد انتبه لهذا كثير من الشباب المسلم والكُتّاب المسلمين؛ وهو أن من حق هذه الشهادة أن الحكم لله، نعم، أريد أن أقولها صريحة: لقد انتبه الشباب المسلم والكتاب المسلمين اليوم إلى هذه الحقيقة؛ وهي أن الحكم لله عز وجل وحده، وأن تسليط القوانين الأرضية، واعتمادها لحل المشاكل القائمة اليوم؛ ينافي كون الحكم لله عز وجل، ولكنني أرى كثيرًا من هؤلاء الكتاب لا ينسجمون مع هذا الانتباه الخطير الذي انتبهوا له؛ وهو كون الحكم لله عز وجل، وحكم الله هو حكم الكتاب والسنة .
تُرى هل إذا جاء حكم مخالفٌ من فلان الكافر فهو مخالف لحكم الله؛ وإذا جاء من اجتهاد مجتهد مخطئ لا يكون مخالفًا لحكم الله ؟!
أنا أعتقد أنه لا فرق؛ إذ إنه يجب على المسلم أن لا يأخذ بأي قول مهما كان مصدره، ما دام أنه يخالف الكتاب والسنة، لكن هناك فرقًا بين ذاك الذي قال ذلك الكفر؛ فهو كافر مخلد في النار؛ وبين من قال ذلك خطأ من المسلمين؛ فهو مأجور على خطئه.
إذاً: يجب الرجوع إلى الدين بعد محاولة وسلوك طريق فهم هذا الدين، وذلك يكون بتطبيق الفقه الذي يسمى اليوم بالفقه المقارن، وهذا الفقه يجب أن يُدرّس، وأن يدرسه أهل الاختصاص من حملة الشهادات الشرعية الفقهية والحديثية.
الرجوع إلى الدين هو الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لأن ذلك هو الدين باتفاق الأئمة، وهو العصمة من الانحراف والوقوع في الضلال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيئَينِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابَ الله وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ] صحيح الجامع [2937] . وضربنا بعض الأمثلة التي توجب على أهل العلم اليوم أن يرجعوا إلى فهم الدين من أصليه المذكورين: الكتاب والسنة؛ لكيلا يقع المسلمون في استحلال ما حرم الله؛ متوهمين أنه مما أباحه الله .
كلمة أخيرة حول الرجوع إلى الدين:
إذا أردنا العزة من الله تبارك وتعالى، وأن يرفع عنا الذل، وينصرنا على العدو؛ فلا يكفي لذلك ما أشرنا إليه من وجوب تصحيح المفاهيم، ورفع الآراء التي أولت الأدلة الشرعية عند أهل العلم وعند أهل الفقه الاختصاصي.. وإنما هناك شيء آخر مهم جدًا ـ وهو بيت القصيد ـ لتصحيح المفاهيم؛ ألا وهو العمل؛ لأن العلم وسيلة للعمل، فإذا تعلم الإنسان، وكان عمله صافيًا مصفّى، ثم لم يعمل به؛ كان بدهيًا جدًا أن هذا العلم لا يثمر، فلابد من أن يقترن مع هذا العلم العمل .
ويجب على أهل العلم أن يتولوا تربية النشء المسلم الجديد على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، فلا يجوز أن ندع الناس على ما توارثوه من مفاهيم وأخطاء؛ بعضها باطل قطعًا باتفاق الأئمة، وبعضها مختلف فيه، ولو وجه من النظر والاجتهاد والرأي، وبعض هذا الاجتهاد والرأي مخالف للسنة .
فبعد تصفية هذه الأمور، وإيضاح ما يجب الانطلاق والسير فيه؛ لابد من تربية النشء الجديد على هذا العلم الصحيح.
وهذه التربية هي التي ستثمر لنا المجتمع الإسلامي الصافي، وبالتالي تقيم لنا دولة الإسلام.
وبدون هاتين المقدّمتين : [العلم الصحيح]، و[التربية الصحيحة على هذا العلم الصحيح] يستحيل ـ في اعتقادي ـ أن تقوم قائمة الإسلام، أو حكم الإسلام، أو دولة الإسلام.
وأضرب مثلاً لضرورة هذه التربية الصحيحة على العلم الصحيح :
تجد من هؤلاء الشباب الطيب من يستحلون الاستماع للأغاني وآلات الطرب ! وذلك لأنهم يجدون الإذاعات تملأ الأسماع، ولا يوجد هناك توجيه عام لهذا النشء المسلم الجديد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن آلات المعازف، وحذر من الاستماع إليها، وهدد الذين يمسون في لهو ولعب، ويستمعون إلى المعازف أن يمسخوا قردة وخنازير .
لم يُرَبَّ هذا النشء الجديد على معرفة ما يجوز وما لا يجوز، وذلك لأنه يجد أقوالاً كثيرة؛ يجد مثلاً ابن حزم الإمام له رسالة في إباحة الملاهي، وسرعان ما تطبع هذا الرسالة وتنتشر بين الناس، فتوافق منهم هوى.. وربما قال بعض الموجهين وبعض من يدعي الإصلاح: ما دام هذا إمامًا وله مثل هذا الرأي؛ إذاً نحن نتبعه أو نقلده في سماعنا للطرب؛ لا سيما وقد أصبحت بلوى عامة .
فأين السنة حينئذٍ ؟! إن السنة أصبحت نسيًا منسيًا !
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام جعل العلاج في رفع الذل المخيم علينا إنما هو بالرجوع إلى الدين؛ فيجب علينا إذاً أن نفهم الدين بواسطة أهل العلم فهمًا صحيحًا، موافقًا للكتاب والسنة، وأن نربي النشء الصالح الطيب على ذلك، وهذا هو الطريق لمعالجة المشكلة التي يشكو منها كل مسلم.
وقد أعجبتني كلمة ـ هي في الواقع كأنها خلاصة لما قلته أو بينته آنفًا ـ لبعض المصلحين في العصر الحاضر، وهي في رأيي كأنها من وحي السماء؛ يقول : [أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم] .
ولابد من أن نصلح نفوسنا على أساس من إسلامنا وديننا، وهذا ـ كما ذكرنا ـ لا يكون بالجهل؛ وإنما بالعلم؛ حتى تقوم دولة الإسلام على أرضنا هذه .(/4)
وفي الختام؛ أوصى كل من يستطيع أن يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم أن يتعاون هو وغيره ـ من ذوي الاختصاصات ـ على بيان الإٍسلام الذي جاء في الكتاب والسنة، وتربية النشء على ذلك، وهذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين .
من رسالة:'التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما'
للعلامة المحدث / محمد ناصر الدين الألباني.(/5)
التصور الإيماني لقضية فلسطين
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
تمهيد
من خلال هذه المقالات نعرض قضية فلسطين من خلال التصور الإيماني النابع من منهاج الله، وندرك أنَّ أهلها وأصحابها ومن لهم الحقّ فيها هم الأمة المسلمة الواحدة، وأنَّ فلسطين بكل قدسيتها وجلالها وبركتها جزء من دار الإسلام، وأمانة في عنق الأمة المسلمة، ملكاً تحميه أمة قوية عزيزة، هي خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله لا تشرك به شيئاً أبداً.
(الحلقة الأولى )
فلسطين
بين التاريخ والإيمان
1- لمحة من تاريخ فلسطين القديم :
أرض فلسطين أرض التاريخ العميق، وأرض النبوة الممتدة، وأرض الإسلام والمسلمين.
يروي لنا التاريخ أنها حملت أسماء مختلفة على مرّ العصور. فقد سمّى قدماء المصريين جنوب فلسطين " خارو "، وشمالها " رتينو ". كما سميت بأرض كنعان نسبة إلى الكنعانيين الذين كانوا من القبائل العربية التي استوطنت فلسطين منذ سنة (2500 ق. م ). أما اسم " فلسطين " فهي اللفظة المعرّبة لاسم " بالسْتين " الذي كان يطلق على البلاد، والمأخوذ من اسم الشعب الذي يسكن السهول الشمالية والجنوبية من فلسطين، و الذي يُسمى " الفلستينيون ". ومن أقدم الإشارات التاريخية لهذه التسمية لفظة " بلاستو " التي أطلقها الملك الآشوري ليشير إلى ساحل " فلستيا ". وقد أطلق الإمبراطور الروماني " فسباسيان " اسم " بالسْتين " على البلاد. ولعله نقله عن اليونان الذين أطلقوا هذه اللفظة أو ما يشبهها على هذه البقعة من الأرض.
لقد عرفت فلسطين عبر التاريخ القديم سلسلة من الهجرات العربية والسامية، وسلسلة طويلة من الحروب والغزوات، وسلسلة من الشعوب التي مرّت بها أو أقامت فيها أو حكمتها. فبالإضافة إلى الكنعانيين العرب، كما ذكرنا قبل قليل، فقد هاجر إليها وأقام بها عدد من القبائل السامية : كالآموريين، والجيوبون والغرغازيين والبرزيين واليبوسيين. وجاء كذلك الحثّيون، والفلسطينيون، والبابليون والآشوريون، والكلدانيون، وغزاها اليونانيون والفرس والرومان، حكمها الأنباط بحدود سنة (300 ق. م ) كذلك.
وكان اليهود من بين الشعوب التي دخلت فلسطين، إلا أنهم دخلوها أول مرة يحملون رسالة الإسلام، كما سنوضّح بعد قليل. وحين أتوا إلى فلسطين كانت فلسطين آهلة بسكانها، غنيّة برقيها المادي، قوية بعدتها. ونلمس هذه القوة المادية في إشارة القرآن الكريم إلى ذلك، حين طلب موسى عليه السلام من قومه أن يدخلوا فلسطين حاملين الإيمان والتوحيد ورسالة الإسلام أجابوه :
( قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبارين وإنَّا لن ندخلها حتّى يخْرجوا منها فإنْ يخرجوا منها فإنَّا داخلون )
[ المائدة : 22 ]
فكلمة " جبارين " تشير إلى القوة المادية لدى سكانها آنذاك، حتى حسب اليهود لهم هذا الحساب وجبنوا عن حمل الأمانة.
لقد كانت أرض فلسطين مفتاح الشرق لكل غاز منذ أقدم العصور. ذلك أن من يحتل فلسطين يستطيع أن يتحرك شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ويستطيع أن يقفز إلى ثلاث قارات، ويستطيع أن يتحرك برّاً وبحراً.
وهي تُكَوِّن مع سائر بلاد الشام موقعاً يزيد خطورة وأهمية. فهي تُكَوِّن مع بلاد الشام والجزيرة العربية موقعاً وسطاً، خرجت منه أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، ألا وهي أمة الإسلام.
( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إنّ الله بالنَّاس لرؤوف رحيم ).
[ البقرة : 143 ]
لذلك كانت أرض فلسطين ميدان الرسالة السماوية، وميدان النبوّات والرسل. والرسالة السماوية في جميع العصور هي رسالة واحدة، هي رسالة الإسلام التي جاء بها جميع النبيين والمرسلين، والتي خُتمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم، هي رسالة التوحيد والإيمان.
2- فلسطين والنبوة :
يكاد يكون لجميع الأنبياء والرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم صلة بفلسطين، فنبيّ يمرّ بها، ونبيّ يدعو فيها، ونبيّ يُدفن فيها. وعيسى عليه السلام رفعه الله إليه منها، ومحمد صلى الله عليه وسلّم أُسري به إليها، وأمَّ الأنبياء في المسجد الأقصى، وعُرج به إلى السماء منها.
ويروي الحافظ بن كثير في كتابه البداية والنهاية أن صلاح الدين الأيوبي زار قبر شعيب عليه السلام عند قرية " حطين "، قرب مدينة طبرية في فلسطين.
والنبي صالح عليه السلام بعثه الله إلى ثمود وكانت مساكنهم " بالحجر " في المكان الذي يعرف اليوم " بمدائن صالح " بين الشام في الجنوب الشرقي من أرض مدين.وفي بعض الروايات قيل إن صالحاً عليه السلام والذين نجوا معه ذهبوا إلى " الرملة " أو غيرها من أرض فلسطين. وقيل ذهبوا إلى حضرموت، وقيل إلى مكة المكرمة.
وعند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه قال :(/1)
( أُرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكّه فرجع إلى ربّه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال ارجع إليه فقل له يضع يديه على متن ثور فله بما غطّت يده بكل شعرة سنة. قال : أي ربّ ثم ماذا ؟! قال : ثم الموت. قال فالآن. قال فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال أبو هريرة رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه السلام : لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ).
لقد جاء إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين مسلماً ودخلها مع لوط عليه السلام مهاجرين بدينهما من العراق إلى أرض فلسطين، فأقام في مدينة الخليل، وأقام لوط عليه السلام في جنوبي البحر الميت في مدينة " سدوم ". امتدّت بهما الدعوة الإسلامية، فما كان إبراهيم، ولا كان لوطٌ، يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفاً مسلماً :
( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين. إنَّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله وليُّ المؤمنين )
[ آل عمران : 67 - 68 ]
ومضى هذا الأمر مع بنيه، وصيّة يوصيهم بها، ونبوة يكرمهم الله بها، وديناً يلتزمون به، ويدعون له، إنَّه الإسلام، وإنَّهم مسلمون :
( ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنّه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين. ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنَّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون)
[ البقرة : 130-132 ]
فما دخل إبراهيم فلسطين إلا مسلماً، وما كانت دعوته إلا الإسلام، وقد تبرّأ من الشرك كله. وكذلك كان يعقوب عليه السلام، وكذلك كان بنوه. وامتدت رسالة الإسلام في ذرية إبراهيم عليه السلام، رسالة ربانية بريئة من الشرك، طاهرة من عصبية العرق والجنس، قائمة على التوحيد، ولا تمتدّ إلى الظالمين ولا المفسدين ولا المعتدين :
( وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )
[ البقرة : 124 ]
ولوط عليه السلام كان مسلماً حنيفاً لله وما كان من المشركين :
( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين )
[ الذاريات : 35-36 ]
وقد كان نوح عليه السلام قبلهما من المسلمين. فقد خاطب نوح قومه بكلمة الإسلام وعهد الإسلام، الذي امتدّ إلى جميع الرسل والأنبياء بعده :
( فإن توليتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلا على الله وأُمرت أن أكون من المسلمين )
[ يونس : 72 ]
ويوسف عليه السلام وهو في مصر، وقد جاءه أبوه وإخوته، يبيّن رسالته ودينه وعقيدته وإيمانه : إنه الإسلام :
( ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولييّ في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين )
[ يوسف : 101 ]
لقد تطهر يوسف عليه السلام من الشرك، ومن عصبية الجاهلية ولوثة العرق، وأعلن إيمانه وإسلامه نقياً صافياً طاهراً : " … توفني مسلماً …". هي القضية التي كان يحرص عليها، يعيش لها ويموت عليها. إنها قضية الإسلام. إنها في دين يوسف عليه السلام أعلى من كل ملك، وأعظم من كلّ علم وفوق كلّ أمنية، وفوق كلّ عصبيّة.
وموسى عليه السلام لم يكن إلا مسلماً، والذين آمنوا معه لم يكونوا إلا مسلمين :
( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين )
[ يونس : 84 ]
وامتدّت الدعوة الإسلامية في أرض فلسطين، وارتبطت الدعوة الإسلامية بالأمة المسلمة، وارتبطت الأمة المسلمة مع إبراهيم عليه السلام بدعوة التوحيد ودين الإسلام. ارتبطت مع إبراهيم عليه السلام وهو يحمل الدعوة الإسلامية في فلسطين، لتظلّ دعوة ممتدة في الحياة، وفي الأرض كلها بعد ذلك :
( وجاهدوا في الله حقَّ جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير )
[ الحج : 78 ]
3-اليهود يتحركون إلى فلسطين :
وقام موسى عليه السلام يدعو للإسلام في مصر. ولما اشتدّ أذى فرعون أمر قومه بالتحرك إلى الأرض المقدسة، إلى أرض الإسلام، لينجوا من فرعون وقومه وأذاهم. أمرهم بالتحرّك إلى فلسطين، إلى أرض الإسلام، أرض الدعوة الإسلامية، ليجدوا هناك النجاة من فرعون، وليحملوا معهم دعوة الله، دعوة التوحيد، لا تحمل معها عرقاً ولا جنساً، ولا تحمل معها عصبية جاهلية، وليقاتلوا في سبيل الله :(/2)
( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )
[ المائدة : 21-23 ]
( يا قوم …!) يخاطب موسى بها قومه المسلمين، قومه الذين دعاهم إلى الإسلام فأعلنوا استجابتهم لهذا الدين، حتى أصبح هذا الدين هو الرابطة التي تربطهم فيما بينهم وتربطهم بموسى. وعلى أساس هذه الرابطة يناديهم موسى عليه السلام ويخاطبهم. فما كان لموسى أن يخاطب قومه بعصبية عرق أو روابط جنس وهو يبلّغهم رسالة الإسلام :
( …ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم … ) إنها الأرض المقدسة بأمر الله وبرسالة الإسلام. إنها مقدسة من قبل موسى عليه السلام، إنها أرض الإسلام كتبها الله للمسلمين. ومن هنا جاء التعبير الرباني : " … التي كتب الله لكم … " أي لكم أيها القوم المسلمون، " … لكم … " أي الأرض التي كتب الله أن تحملوا أنتم رسالة الإسلام إليها في تلك المرحلة من تاريخ الدعوة، نقية من الشرك طاهرة من عصبيات العرق وعصبيات الجاهلية، لا تحمل شهوة الدنيا ولا مصالح العبيد، مفصولة عن قوى الشر والفساد في الأرض. إنها أمانة عظيمة لا تحملها إلا القلوب المؤمنة الصادقة. ولكن اليهود ضعفوا عن حمل الأمانة وعجزوا عن النهوض إلى مسؤولياتها، وجادلوا موسى عليه السلام في أمرٍ هو من عند الله، فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الصحراء :
( قال ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين )
[ المائدة : 25-26 ]
فعاقبهم الله بالضياع في تيه الصحراء حتى ذهب الجيل الضعيف المتخاذل، ودفع لهيب الصحراء جيلاً جديداً شديداً، يحمل الدعوة والأمانة حمل جدٍّ وعزيمة. فأذن الله لهم حينئذٍ بدخول فلسطين مسلمين يقاتلون في سبيل الله، دعاة إلى الله، فوهبهم النصر، وهبه لعباده المسلمين، لا لعرق أو جنس.
ويؤكد لنا هذا المعنى ما جاء في الآيات من سورة المائدة عن الرجلين اللذين يخافان، اللذين يخافان الله، حين خاطبا قومهما، الذين نكلوا عن الجهاد في سبيل الله، فضعفوا وجبنوا :
( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )
[ المائدة : 23]
فهي إذن رسالة التوحيد، وقضية الإيمان، دين الإسلام، وجهاد في سبيل الله.
ولما قامت الفئة المؤمنة تصنعها رسالة التوحيد في لهيب الرمال وشدة الصحراء قادها النبي يوشع بن نون عليه السلام في طريق الدعوة والجهاد وتحركوا إلى فلسطين :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشمس لم تُحْبس على بشرٍ إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس ) [ رواه أحمد ] ومضت رسالة الإسلام إلى الأرض المقدسة وكتب الله النصر لعباده المؤمنين على الجبّارين الذين كانوا فيها.
4- امتداد الرسالة الإسلامية في فلسطين مع الزمن :
سلما دخل المسلمون من بني إسرائيل قوم موسى فلسطين باسم الإسلام يحملون الدعوة الإسلامية، منَّ الله عليهم بأن بعث فيهم أنبياء يدعون بدين الإسلام، وجعل فيهم ملوكاً يقيمون شرع الله، يقيمون دين الإسلام، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه :
( فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه )
[ النساء : 55 ]
فكان من أنبيائهم وملوكهم داود عليه السلام أنعم الله عليه بالقوة وشدّة ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب :
( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب. إنا سخّرنا معه الجبال يُسبحن بالعشيّ والإشراق. والطير محشورةً كلّ له أوّاب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب )
[ ص : 17-20 ]
وجاء بعد داود سليمان نبياً مرسلاً :
(وورث سليمان داود وقال يا أيّها الناس عُلمنا منطق الطير وأُوتينا من كلّ شيء إنَّ هذا لهو الفضل المبين )
[النمل :16]
وأسلمت بلقيس مع سليمان عليه السلام :
( إنَّهُ مِنْ سُليمان وإنَّه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تَعْلوا عليّ وأتوني مُسْلمين)
[ النمل : 30-31 ]
( فلمّا جاءتْ قيل أهكذا عَرْشكِ قالتْ كأنّه هُو وأُوتينا العِلْمَ مِنْ قَبْلِها وكنّا مُسْلمين )
[ النمل : 42 ]
وعيسى عليه السلام جاء برسالة الإسلام إلى اليهود كذلك، بعد أن انحرفوا وتاهوا. وقام معه الحواريون يحملون الدعوة الإسلامية الممتدة عبر التاريخ :
( فلما أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنّا بالله واشهد بأنا مسلمون )
[آل عمران : 52 ](/3)
ومن هذا العرض نرى مسيرة النبوة المسلمة في أرض فلسطين. ونرى أن موسى عليه السلام والمؤمنين معه تحركوا إلى فلسطين، إلى الأرض المقدسة إلى الأرض التي جال فيها الإسلام طويلاً، ودعا في كلّ ناحية منها دعوة خالصة لله، فأمرهم نبيّهم أن ينطلقوا باسم الإسلام، دين الله، لينجوا من ظلم فرعون، تنجيهم الدعوة التي يحملونها، لا تحمل جنساً ولا لوناً ولا طائفة، لا تحمل معها عصبية جاهلية، لا تحمل معها شهوات الدنيا ولا مصالح العبيد، مفصولة عن قوى الشرّ في الأرض، نقية من الشرك. ولكن اليهود ضعفوا عن حمل هذه الأمانة، وقعدوا عاجزين حتى عاقبهم الله بالضياع بالتيه في الصحراء.
ثم أذن الله أن تظهر الفئة المؤمنة المسلمة في لهيب الصحراء بعد أربعين سنة، لتحمل الدعوة والدين حمل جدّ وعزيمة، فأذن الله لهم حينئذ بدخول فلسطين.
وفي أرض فلسطين كانت العصبة المؤمنة المسلمة من قوم موسى تقاتل في سبيل الله، لا في سبيل أيّ شيء آخر :
( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلمّا كُتِب عليهم القتال تولّوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين )
[ البقرة : 246 ]
ولما تحرّك بهم طالوت كان التمحيص والابتلاء حتى برزت العصبة المؤمنة المسلمة التي تُقاتل في سبيل الله لا في سبيل أي شيء آخر. ودخلت العصبة المسلمة امتحاناً بعد امتحان حتى تخلّص من كل خبث وضعف :
( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنه منّي إلا من اغترف غُرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين )
[ البقرة : 249-2850]
فلقد كان النهر أول تمحيص تُنقّى فيه العصبة المؤمنة، حتى إذا جاوز طالوت النهر بقيت معه الفئة التي ثبتت ونجحت في الاختبار والتمحيص. ثم كان التمحيص الثاني حين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. وهنا برز الإيمان الأقوى والأثبت في المجموعة التي تظنّ وتوقن أنها ستلاقي الله على إيمان وتوحيد بريء من العصبية الجاهلية ووثنية الجنس.
وبرزت كذلك هنا قواعد الإيمان في ميدان الجهاد، قواعد الصمود والمضي والجهاد، بعيدة عن الهوان والاستسلام، بعيدة عن فلسفات الهزيمة وأعذار الوهن، مشرقة بالصدق والوضوح والجلاء :
( … كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )
[ البقرة : 249 ]
ولا بدّ هنا من وقفة وتدبّر. فإن هذه الآية الكريمة " … كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله … " هي آية غنية بالحق والصدق والوضوح، غنية بالدروس التي نحتاج إليها اليوم في واقعنا المعاصر حاجة ماسة، كما يحتاج إليها المؤمنون أبد الدهر.
فلقد أتت هذه القاعدة الإيمانية بعد شروط توافرت، هي أساس لسلامة ممارستها. وكان من أهمها : صفاء التوحيد وقوة الإيمان، وكذلك الإعداد المادي: من طاقة بشرية مدربة، وسلاح وعدة، ونهج وخطة.و كل كلمة في الآية الكريمة من مطلعها توحي بالقوة والإعداد والعزيمة " فلما فَصَل طالوت بالجنود " : إنهم جنود وقائد تحرّكوا لمعركة القتال. إنهم جنود تم تدريبهم وإعدادهم كما توحي ظلال كلمة " بالجنود ". وكلمة فَصَل تحمل من الإيحاءات شيئاً كثيراً. إنها تكاد تقول لهم إنهم تركوا مكانهم وانفصلوا عنه بعد أن أخذوا كل حاجتهم للمعركة منه، فلا مجال للعودة للبحث عن سلاح أو نفر أو غذاء. فَصَلوا بعد أن استكملوا الإعداد والاستعداد في حدود واقعهم الذي كانوا يعملون فيه آنذاك، وفي حدود مسؤوليتهم الشرعية، على أن يكون الاستعداد قد استكمل النواحي المادية والنواحي الإيمانية في بناء مرصوص. وكانت حكمة الله بعد ذلك أن هيّأ أسباب التمحيص والابتلاء حتى يُنقّى الصفّ المؤمن من الخبث والوهن، فكان التمحيص الأول، ثم تلاه تمحيص آخر، حتى بقيت الفئة المؤمنة التي أسلمت لله ربّ العالمين، الفئة التي تبرّأت من العرق والجنس وسائر العصبيات الجاهلية. جعلت قتالها جهاداً خالصاً صافياً صادقاً في سبيل الله، ولا يلوّثه شرك ولا هوى ولا انحراف، ولا تميل به فلسفة وسياسة وأعذار، وإنما يحكمه إسلام وإيمان وتوحيد. فهنا بعد استكمال هذا كله جاء السياق : " … قال الذين يظنّون أنّهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ".
ولعلنا نستطيع أن نوجز الشروط الرئيسة التي يمكن أن نستخلصها من الآيات الكريمة في سورة البقرة، ومن آيات أخرى في سور أخرى بشروط أربعة رئيسة :(/4)
1- الأمة المسلمة الواحدة في بنائها المرصوص.
2- ترابط الأمة جنوداً وقيادة على منهاج الله تدبراً وإيماناً وعلماً وممارسةً.
3- إعداد وقوة : طاقة بشرية مدرّبة، وعدة وسلاح.
4- نهج وخطة تضعها الطاقة البشرية على أساس من قاعدتين هما : منهاج الله والواقع الذي تعمل فيه الأمة.
وحين يتخلى اليهود عن الحقّ الذي بلّغَهُمْ به أنبياء الله ورسله، حين يتخلون عن عهدهم مع الله، لا يعود لهم حق من حقوق النبوة والرسالة وقد تركوها وأداروا ظهورهم لها.
وحين يدّعي اليهود أنهم " شعب الله المختار " فإنه ادعاء يمثّل تحريف الرسالة السماوية. فلقد فضّل الله اليهود في تلك المرحلة على غيرهم بأن حمّلهم رسالة الإسلام وبعث فيهم أنبياء وجعل فيهم ملوكاً، وذلك كله باسم الإسلام. فحين يتخلّون عن الإسلام فقد قطعوا السبل إلى خير كانوا فيه، ويفقدون بذلك أيّ حقّ في فضل، ويسقطون في هُوّة الضلال والشرك. ولو صدقوا الله، وصدقوا ما منّ به عليهم من دين وإسلام، لو فعلوا ذلك لاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلّم ونصروه، فهذا كان عهد الله إليهم وعهد أنبيائهم إليهم. ولكنه عهد أخفوه مع ما أخفوه من حقائق الإسلام.
ولم يدخل اليهود فلسطين إلا باسم الإسلام، ولا بُعث عيسى عليه السلام إلا بالإسلام، وما كان لنبيّ من الأنبياء دين إلا الإسلام.
وكان الإسراء والمعراج. وكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، امتداداً لرسالة الإسلام، وتوثيقاً لعرا النبوة. فتمتدّ الرسالة وتلتقي النبوة كلها، نبوة الإسلام، يؤمّهم محمد صلى الله عليه وسلّم في المسجد الأقصى إيذاناً بتسليم الأنبياء والمرسلين كلهم أمر الرسالة الإسلامية إليه، فهو خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين. وهو ميثاق النبيين مع الله أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويشهدوا له بذلك :
(وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )
[ آل عمران : 18 ]
5- انحراف اليهود عن الإسلام وملحمة فلسطين :
ولقد ظلّ اليهود يحاربون دين الله ويحاربون أنبياءه ورسله فيكذبون فريقاً ويقتلون فريقاً :
( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )
[ البقرة : 87 ]
ومضى اليهود في حرب الإسلام والصد عن سبيل الله في جميع عصور التاريخ. وكانوا أكثر المشركين غدراً برسول الله، وأكثرهم نقضاً للعهد، وأوسعهم تآمراً.
وستظل الحرب ماضية، جولة بعد جولة، حتى ينتصر المسلمون فيها على اليهود نصراً من عند الله، يهبه الله للمؤمنين الصادقين الذين تتوافر فيهم خصائص الإيمان وصفات الصدق. ولقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجولة العظيمة من جولات الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
(لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود. فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر. فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ! يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ).
[ رواه مسلم : 2239 ]
من هذا التصور نستطيع أن نفهم التاريخ والأحداث، ومنه نستطيع أن نأخذ الدرس والعبرة، ومنه نستطيع أن نرسم النهج والسياسة ونحدد المواقف ونعطي الرأي.
ونرى في هذا الحديث الشريف دروساً وعبراً، قواعد عقيدة وإيمان، ومعالم نهج وبيان، فالحديث ينصُّ على :" … حتى يقاتل المسلمون … فيقتلهم المسلمون … يا مسلم، يا عبد الله "، فالحديث لم يقل يا فلسطيني ولا يا سوري ولا يا مصري، بل قال : يا مسلم !
فمحور الحديث إذن عن المسلمين، عن أمّة الإسلام، عن الأمة التي تنزل الميدان وقد أسلمت لله، وتبرأت من الشرك، وتركت العصبية الجاهلية كلها، إنها ليست فئة في عجاج التناحر، ولا قوماً في سواد التمزّق إنها أُمّة متراصّة الصفوف حتى كأنهم صفّ واحد، وبنيان مرصوص.
ولا بدّ من أن نفهم الحديث على تناسقه وتكامله مع سائر الأحاديث ومع الآيات ومع منهاج الله. وتجلو لنا التعبيرات النبوية جمال الصورة وعظمة الإيمان، حين يأتي النصّ : " يا مسلم، يا عبد الله … " إنه عبد لله لا عبد للشيطان، ولا عبد للشهوات، ولا عبد لأصنام وأوثانٍ وأهواء. ويجلو لنا التعبير النبوي صورة رائعة من الإيمان حين ينصّ الحديث : " … فيقول الحجر أو الشجر …" إنها مكرمة يكرم الله بها هذه الأمة في ميدان الملحمة حتى ينطق الحجر والشجر. ولا تأتي هذه التكرمة إلا على مستوى من الإيمان عظيم، ودرجة من التوحيد عالية، وعزم من الثبات متين، وفي ملحمة يعمل فيها السلاح كلّ السلاح.(/5)
ويحدد الحديث هنا مهمة الحجر والشجر، ومهمة المسلم. فالحجر يشير وينطق، ولكنه لا يكون السلاح الوحيد في معركة المؤمنين. فالقتال مهمة الإنسان المؤمن وسلاحه القاطع وزحفه المدوي :" يا مسلم ! يا عبد الله ! … فتعال فاقتله، إنها مهمة الإنسان المسلم والسلاح كل السلاح، إنها مهمة الأمة المسلمة بعدّتها وعديدها، بإيمانها وتوحيدها، ببنائها المرصوص. ولا تأتي هذه الملحمة فجأة بعد خمود وهمود، ولكنها ملحمة ممتدة في التاريخ على أرض فلسطين. يعرض لنا الحديث الشريف جولة عظيمة من جولاتها، ووثبة من وثباتها. ولقد رأينا في الصفحات السابقة مثلاً من جولات الإسلام في فلسطين، وسنرى في الصفحات المقبلة جولات أخرى، حتى ندرك من ذلك عظمة امتداد هذه الملحمة في التاريخ، امتداداً لا يتوقف أبداً. وإذا هانت طائفة تخلت عن الساحة ، فإن الله هو ربّ العالمين، يدفع إلى الميدان جنوداً من عنده أسلموا وآمنوا وأخلصوا دينهم لله بريئين من عصبية الجنس والعرق وغيرها من العصبيات الجاهلية، صادقين في إيمانهم وتوحيدهم :
( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم )
[ محمد : 38 ]
وهذه الأمة المسلمة أمة ممتدة في التاريخ، ممتدة بجهادها، وإيمانها، وصبرها :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول، سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول :
( لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم تعال صلّ لنا فيقول : لا ! إنَّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة "
[ رواه مسلم ]
ففلسطين هي أرض الملاحم، ملاحم الإسلام، ملاحم الإيمان، تمضي بها الطائفة الظاهرة على الحق، ويقودهم في هذه أو تلك أئمة منهم وأنبياء في ملاحم ممتدة لا تتوقف.
6: فلسطين هي حقّ الإسلام وداره، وهي الأرض المباركة :
فلسطين هي الأرض المباركة التي بارك الله فيها وبارك حولها : ( سُبْحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنَّه هو السميع البصير )
[ الإسراء : 1 ]
ويعرض القرآن الكريم بركة هذه الأرض في سورة بعد سورة، وآية بعد آية :
( ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين )
[ الأنبياء : 71 ]
( وجعلنا بينهم وبين القُرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة وقدّرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين )
[ سبأ : 18 ]
وهي بركة ماضية في التاريخ ناشئة عن أنها أرض النبوّات، أرض محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أمّ الأنبياء كلهم في المسجد الأقصى، ثمّ عُرِج به إلى السماء، وقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير والبركة في عدد من ديار المسلمين، ولكنه خصّ بلاد الشام (وهي ما يعرف اليوم بسوريا وفلسطين ولبنان والأردن) من ناحية، وخصّ بيت المقدس من ناحية أخرى بأمور :
فعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
( بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا وإنَّ الإيمان حيث تقع الفتن بالشام )
[ أخرجه أحمد ]
وعن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الرحمن بن شماسة أخبره أن زيد بن ثابت قال :
( بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال طوبى لأهل الشام، قيل ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه )
[ أخرجه أحمد ]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :
( اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا مرتين. فقال رجل وفي مشرقنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هناك يطلع قرن الشيطان ).
[ رواه أحمد ]
وعن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال : " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس "
[ أخرجه أحمد ]
إنَّ هذا هو التصور الإيماني الذي نريد أن نحمله في قلوبنا، والذي نريد أن نعلنه للناس، والذي نريد أن نرسم منه النهج والموقف والسياسة.
7-امتداد ملحمة فلسطين :
لقد دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ أمير المؤمنين يومئذ ـ مدينة القدس يوم الخميس ( 20 ربيع الأول عام 15 هـ الموافق 2/5/636م ). ثم دخلت الجيوش الإسلامية لتمتدّ مسيرة الدعوة الإسلامية في الأرض المقدسة التي جعلها الله للإسلام والمسلمين ما قاموا بحق الله فيهم، وبحق الأرض المقدسة المباركة عليهم. دخلوها نوراً وعدلاً ورحمةً وسماحةً ما عرفها تاريخ الإنسان إلا في الإسلام.(/6)
وهكذا يظل الإسلام، ويظل المسلمون هم الذين يملكون حق فلسطين على صورة ثابتة مستمرة في تاريخ البشرية منذ أقدم الأزمنة إلى يومنا هذا، ويملك المسلمون هذا الحقّ لا عن عصبية جاهلية، ولا عن فساد وعدوان في الأرض، ولكن عن دعوة ربانية، ورسالة سماوية، ومهمة خير وبركة في الأرض كلها. وما عرفت فلسطين في جميع عصورها عدلاً مشرقاً، وخيراً وسماحةً، كما عرفته من الإسلام.
وعندما حرّك الطمع والحقد قلوب رؤساء الفساد في الأرض، حرّكوا عواطف الناس باسم الدين النصراني، وهم في حقيقة أمرهم يحاربونه في بلادهم، وأثاروا أحقاداً زرعوها في نفوس شعوبهم، فكانت الحروب الصليبية. فاحتلّ الصليبيون بيت المقدس يوم الجمعة (23 شعبان 492هـ ـ 15/7/1099م )، وارتكب الصليبيون مذبحة هائلة في المدينة، وفي داخل المسجد الأقصى حيث قُتل فيه وحده أكثر من سبعين ألف مسلم، جريمة مروّعة تهزّ ضمير البشرية كلها إلى يوم القيامة، ويمتدّ الفساد في الأرض ليتصل مع محاكم التفتيش وسائر مظاهر العدوان والظلم، ويهيب بأهل الحقّ أن ينهضوا لأماناتهم وعهدهم مع الله.
" ومحاكم التفتيش " التي نقصدها هنا، أو " ديوان التحقيق " كما تسميه بعض المراجع، هي تلك التي قامت في الأندلس لإبادة المسلمين واستئصال وجودهم في إسبانيا. وكانت هذه المحاكم تقوم بالاستقصاء والبحث عن مخالفي المذهب الكاثوليكي واتباع أشدّ الأساليب وحشية في التعذيب، والإجبار على التنصير، والسجن، وأحط وسائل التحقيق، وحرق المتهمين أحياء واغتصاب البنات والزوجات. وكان يتم ذلك كله بأمر من البابا وتوجيهه. ولكن هذا الأسلوب الوحشي كانت تتبعه الكنسية الكاثوليكية منذ أوائل القرن الثالث عشر في التحقيق في أمر العقائد في الكنيسة الرومانية.وبدأت هذه المحاكم في مملكة أرجوان سنة (1242م ). وصدر مرسوم بابوي لتطبيق ذلك في قشتالة سنة ( 1478م ). ثم أخذ يمتدّ إلى جميع أنحاء الأندلس، واشتدت الوحشية بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين سنة ( 898هـ 1492م ). وكان من أسوأ الأعمال التي قاموا بها كذلك ما قام به الكاردينال خمنيس وحاكم مدينة غرناطة بجمع ما يستطيع من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، ثمّ نُظّمت أكداساً هائلة في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، وفيها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم وأَضرمت النار فيها جميعاً. ويقدر " ي. دي روبلس " في كتابه عن خمنيس عدد الكتب بمليون وخمسة آلاف كتاب، وآخرون يقدرونها بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، وآخرون بثمانين ألفاً. ولعل ذلك كان بحدود عام ( 905هـ 1499م).
وهذه الجرائم الوحشية تجدها ممتدة مع حضارة الغرب منذ تلك العصور حتى يومنا هذا. ولم تستطع زخارف الحضارة الكاذبة ولا علومها ولا جامعاتها ولا منظمات حقوق الإنسان، ولا المؤسسات الدولية كلها، ولا النظام العالمي الجديد الكاذب أن يمنع امتداد هذه الجرائم.
وأعاد صلاح الدين الأيوبي عظمة الصورة الإيمانية من العدل والرحمة حين استردّ القدس يوم الجمعة في ( 27/رجب 583هـ 2/10/1187م ). وامتدت الدعوة الإسلامية في الأرض المباركة تستأنف مسيرتها.
ولكن أحقاد الشرّ الصليبي انضمّت إليها أحقاد الصهيونية، وظلت الأحقاد كلها تعمل في ظلام الليل، وفي عفن الزوايا والكواليس، حتى دخلت جيوش الحلفاء القدس في 9/12/1917م، ليمتدّ خط الإجرام والطمع والعدوان، فيزداد الشرّ نمواً وقوةً، ويغرق المسلمون في وهن الدنيا، حتى يخرجوا من فلسطين أفواجاً سنة 1948م.، يتلمسون مع سائر المسلمين في الأرض دروبهم في ظلام حالك. ثم سقطت القدس في يد الصهيونية في (7/6/1967م )، في يوم أسود حالك، تنكشف فيه أحوال المسلمين في الأرض على ضعف وهوان وشتات، وينكشف تعاون الكافرين في الأرض على شرّ عظيم.
التصور الإيماني
لقضية فلسطين
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
(الحلقة الثانية)
فلسطين
بين الحركة الصهيونية ومواليها
جرت العادة لدى كثير من الكتّاب والسياسيين أن يعتبروا "مؤتمر بال" سنة 1897م هو نقطة البداية للعمل الصهيوني. ولكن الحقيقة هي أن الحركة الصهيونية والنشاط اليهودي يعود إلى تاريخ قبل ذلك بسنين طويلة. وقد لا نعرف النقطة الحقيقية لولادة هذا النشاط في القرون الأخيرة، ولكننا نؤكد أنه بدأ في وقت مبكر.
والصورة العادلة التي يجب أن نحملها هي الصورة القرآنية لليهود، الصورة التي يعرضها كتاب الله لليهود وهم يسيرون في خط طويل في التاريخ البشري يفسدون في الأرض، في صورة سرية أو صورة علنية. لقد حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سراً وعلانية في المدينة المنورة. ثمّ امتدت حربهم مع امتداد التاريخ في حركات باطنية، أو حركات إلحادية، أو حركات عدوانية، تمتدّ وكأنّها تكاد لا تقف. فالحركة الصهيونية تمثّل التطور الواسع لهذا النشاط اليهودي التاريخي، تجمع فيه خبرة قرون طويلة في الإفساد والإجرام على مستوى عالمي.(/7)
وبسبب نشاطهم المفسد هذا لقوا في كلّ بلد أقاموا فيه كراهية ونفوراً. فاضطروا إلى أن يعتزلوا المجتمعات، وأن يتسللوا إلى جميع مراكز النشاط في هذه الدولة أو تلك، وأن يتآمروا على من عاهدوه ويخونوا من والوه. منذ أقدم العصور واليهود يتحالفون مع هذه الدولة أو تلك ثم يغدرون بها.
وقد نكثوا العهد مع موسى عليه السلام، وقتلوا بعض أنبيائهم وتآمروا على عيسى عليه السلام.
وما كانت ضربة " نبوخذ نصّر " لهم سنة 587 ق. م. إلا صدى خيانتهم له، ونكثهم العهد واليمين الذي أعطوه له، فكان من أثر ذلك السبي البابلي. وللأسباب ذاتها انتقم " طيطس " الروماني منهم سنة 70م، وكذلك فعل " هادريان" سنة 73م. وكيف ننسى خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة الأحزاب، وتآمرهم المستمرّ في المدينة المنورة، وقطعهم العهود وحبك المؤامرات في حالك الليل. حتى أنزل الله بهم عقوبته في غزوة بني قريظة، وأنزلها في بني النضير وفي سائر قبائل اليهود.
ولم يخرج تاريخ اليهود في العالم عن هذه الصورة المفزعة من الخيانة والغدر، فقد طُرد اليهود من إسبانيا سنة 1843م نتيجة لخيانتهم، وتآمرهم. واشتركوا في محاولة اغتيال قيصر روسيا الكسندر الثالث سنة 1881م، وأعمل الشعب الروسي فيهم المذابح سنة 1902م. وعمل اليهود في ألمانيا ضد مصلحة ألمانيا أثناء صراعها مع فرنسا حول " الألزاس واللورين " وطعنوا الجيش الألماني من الخلف، ولما اشتدت خيانة اليهود في ألمانيا وتوالت أفرغ الشعب الألماني حقده وانتقامه منهم أثناء الحكم النازي. كما أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية " بنجامين فرانكلين " خطر اليهود المقبل على أمريكا فقال في خطبته عند وضع دستور الولايات المتحدة :
" هناك خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك الخطر العظيم هو خطر اليهود.
أيها السادة : في كلّ أرض حلّ بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقي وأفسدوا الذمة التجارية فيها، ولم يزالوا منعزلين لا يندمجون بغيرهم، وقد أدى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً، كما هو الحال في البرتغال وإسبانيا.
منذ أكثر من 1700 عام وهم يندبون حظهم الأسيف، ويعنون بذلك أنهم قد طردوا من ديار آبائهم ولكنهم أيها السادة لن يلبثوا إذا ردت إليهم الدول فلسطين، أن يجدوا أسباباً تحملهم على ألا يعودوا إليها، لماذا ؟ لأنهم طفيليات لا يعيش بعضهم على بعض، ولا بد لهم من العيش بين المسيحيين وغيرهم ممن لا ينتمون إلى عرقهم.
إذا لم يبعد هؤلاء عن الولايات المتحدة " بنص دستورها " فإن سيلهم سيتدفق في غضون مائة سنة إلى حد يقدرون معه أن يحكموا شعبنا ويدمروه ويغيروا شكل الحكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا وضحينا له بأرواحنا وممتلكاتنا وحرياتنا الفردية.
ولن تمضي مئتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإطعام اليهود، على حين يظل اليهود في البيوتات المالية يفركون أيديهم مغتبطين.
وإنني أحذركم أيها السادة، إنكم إن لم تبعدوا اليهود نهائياً، فلسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم، إن اليهود لن يتخذوا مثلنا العليا ولو عاشوا بين ظهرانينا عشرة أجيال، فإن الفهد لا يستطيع إبدال جلده الأرقط.
إن اليهود خطر على هذه البلاد إذا ما سمح لهم بحرية الدخول، إنهم سيقضون على مؤسساتنا، وعلى ذلك لا بد من أن يستبعدوا بنص الدستور ".(1)
ولكن صوته غاب في هدير الزحف الصهيوني.
ويصف القرآن الكريم هذا الطبع اليهودي أدق وصف، ويفصّل فيه تفصيلاً واسعاً ليكون زاد البشريّة كلّها لتدفع خطر هذا الأخطبوط الممتدّ في الأرض والممتدّ في التاريخ. ولن تجد زاداً ولا سلاحاً مثل هذا الزاد والسلاح. ونأخذ قبسات من ذلك :
( أو كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون )
[ البقرة : 100 ]
( قل هل أُنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت أولئك شرُّ مكاناً وأضلُّ عن سواء السبيل. وإذا جاءوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون. وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون )
[ المائدة : 60-62 ]
أما أحلام العودة إلى فلسطين فهي قديمة لم تبتدئ في "مؤتمر بال". إنها لحن يحرّك به أصحاب المصالح والشهوات منهم عواطف الناس حين يصبغون هذه الدعوى الباطلة بطلاء من الدين. وظلّ اليهود على مرِّ السنين يعيدون هذه النجوى كلما اقتضت مصالح الإفساد والإجرام ذلك. ولا أدلّ على ذلك من أنَّ أهل هذه الدعوى لا يحسبون للدين حساباً في مناهج حياتهم، ولا يظهر الدين إلا في مثل هذه المناسبات من المصالح والتجارة.(/8)
ولعلنا نجد رائحة هذه الدعوى الباطلة في الكتاب الذي وضعه الكاتب الفرنسي " بونسون " عن تاريخ العالم، يجعل فيه " يهودا " مركز العالم ومحور الأحداث " بإرادة الربّ الوفيّ لأبناء يعقوب الذين يقع عليهم عبء قيادة البشرية "، وذلك في القرن السابع عشر الميلادي.
ووعد نابليون بونابرت اليهود في آسيا وأفريقيا بإعادتهم إلى القدس وإعادة بناء هيكلهم إذا ساعدوه على غزو فلسطين. وقد وجّه نداءه ذلك أثناء حملته على مصر سنة 1798م.
وازدادت هذه الدعوى قوة مع الأيام حين نظّم اليهود علاقاتهم مع كثير من الدول، ووزعوا أنفسهم هنا وهناك، في سبيل تسهيل مهمة عودتهم إلى فلسطين. وأصبح عدد من دول العالم تهتمّ بمصالح اليهود بعد أن أخذت المصالح الإجرامية تتلاقى.
فبريطانيا هي من أقدم الدول التي بدأت اهتماماً واضحاً في هذا الاتجاه في العصر الحديث. فنجد " بالمرستون " يبذل مساعيه لدى السلطان العثماني في أعقاب الانسحاب المصري من بلاد الشام سنة 1840م لإعادة اليهود إلى فلسطين. ولما فشل " بالمرستون " في ذلك أصدر تعليماته الصريحة لقناصل إنكلترا في الدولة العثمانية بمنح الحماية البريطانية لليهود الأجانب الذين يرفض قناصل دولهم الاعتراف بهم. ثمّ بدأت الدول المختلفة ترفع قيودها التي كانت تفرضها على اليهود دفعاً لخياناتهم وتآمرهم. فبسمارك رفع كافّة القيود عنهم سنة 1871م، وأمريكا رفعت القيود سنة 1787م، وفرنسا سنة 1790م، وإيطاليا سنة 1870م، وبريطانيا سنة 1890م.
من خلال هذا النجاح أخذت الحركة الصهيونية تحرز نجاحاً بعد آخر، وتنمو في وسائلها وامتدادها وأطماعها وإصرارها على عودة اليهود إلى فلسطين. فاليهودي " موسى منتفيوري " يعرض على " محمد علي باشا " وولده " إبراهيم باشا " سنة 1837م فكرة توطين اليهود في فلسطين. ولكن محمد علي يرفض ذلك ويطوي المشروع. ثمّ يحاول منتفيوري عرض مشروعه على السلطات العثمانية ولكنه يفشل كذلك. ولكن اليهود لم ييأسوا، فيعرض " لورنس أوليفانت " سنة 1879م على الباب العالي في الآستانة مشروعاً لإسكان اليهود في جوار القدس بحجة إعمار البلاد وخدمة الدولة.
لقد كان اليهود يتحركون في العالم على ثلاثة محاور رسمتها لهم خبرتهم الطويلة مع شعوب العالم، ورسمتها لهم الحركة الصهيونية الآخذة في النمو والتطور. هذه المحاور الثلاثة هي : المسألة اليهودية، حنين العودة إلى فلسطين، قيادة البشرية.
أما المسألة اليهودية : فهي صورة بشعة لقلب الحقائق. فلم يكن هناك ظلم على اليهود بقدر ما كان هناك غدر وخيانة وتآمر من اليهود كما عرضنا. فأثار اليهود الدنيا بإعلامهم ودعايتهم حول ما يزعمون من اضطهاد ينالهم في هذه البلاد أو تلك. ويستغلون هذا الادعاء المقلوب لجمع المال، واستدرار العطف، وإثارة الرأي العام.
وأما حنين العودة : فلم يكن أكثر من ادعاء اهتدى إليه أرباب المصالح منهم، فأدخلوه في فكرهم وأدبهم تجارة رابحة ومساومة ناجحة.
وأما قيادة البشرية : فهو وهم أقنعوا أنفسهم به، ليجدوا المبرر الدائم لعدوانهم وخيانتهم وتآمرهم.
وأسرع اليهود إلى بناء مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والفكرية هنا وهناك.
فقام الاتحاد الإسرائيلي العالمي في باريس سنة 1860م، والاتحاد اليهودي الإنكليزي في لندن سنة 1871م، وجمعية محبّي صهيون التي قررت استيطان فلسطين وإحياء اللغة العبرية سنة 1890م، وجمعية الاستعمار اليهودي في لندن سنة 1900م. ونشأت النوادي والجمعيات اليهودية تحت أسماء مختلفة كالماسونية والروتاري وغير ذلك.
وبعد مؤتمر بال نشط العمل الصهيوني، فنشأت الوكالة اليهودية سنة 1897م لتشرف على حركة الاستيطان في فلسطين، والصندوق القومي اليهودي " كارن كايمت " الذي سجّل في لندن سنة 1904م، والصندوق التأسيسي اليهودي " الكارن هايسود "، والمصرف اليهودي للمستعمرات، والشركة الإنكليزية الفلسطينية.
وبرز مع المؤسسات والشركات أفراد أغنياء وضعوا أموالهم في خدمة الحركة الصهيونية. وكان من أبرزهم " إدموند روتشيلد "اليهودي الفرنسي الذي أسس على نفقته سبع مستعمرات لليهود في فلسطين، وتخلّى عن إدارتها إلى جمعية الاستعمار اليهودي في لندن. وكذلك " موسى مونتفيوري " الذي سبق ذكره.
ولعلّ من بواكير هجرة اليهود إلى فلسطين ما حدث عندما طردتهم إسبانيا فآوى العالم الإسلامي عدداً منهم ورعتهم الدولة رعاية إحسان. فكان جزاء ذلك الإحسان غدراً وخيانةً وتآمراً.
ومن أقدم المستعمرات التي أُنشئت في فلسطين : مستعمرة " بتاح تكفا "سنة 1878م، ومستعمرة " مكفا إسرائيل " سنة 1870م، ومستعمرة " ريشون لزيون" سنة 1882م، مستعمرة " زكرون يعقوب "، مستعمرة " روشبينا " من يهود رومانيا، مستعمرة " رحبوت " سنة 1890م، وامتدت المستعمرات تنشأ وتقوم في فلسطين، وتنمو وتقوى، حتى أصبحت قلاعاً وحصوناً.
من هذا العرض تبرز لنا حقائق جلية هامة :(/9)
أولاً : إن الحركة الصهيونية أبعد في التاريخ مما يبدو لنا ظاهر الأمر. وهي تسمية لعمل مستمر ماض في التاريخ، على أساس من الغدر والخيانة والتآمر، وعلى أساس من مصالح عدوانية ظالمة تتلاقى في الأرض.
ثانياً : إن ادعاءات الحركة الصهيونية ادعاءات صنعتها للاستفادة منها في إثارة عواطف اليهود والسذّج من الناس في الأرض، واستغلال الظروف السياسية، والارتباط مع غيرها في ميدان الفساد والإجرام.
ثالثاً : إن لقاءهم مع دول الشرق والغرب يمثل لقاء مصالح في استغلال ثروات، واستعباد شعوب، وهي مصالح أساسية بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك. وهي مصالح ممتدة مع التاريخ منذ أقدم الأزمنة. فأهل الشرّ في الأرض يلتقون ويختلفون، ويتعاونون ويتنازعون. تجمعهم المصالح والتقاؤها، وتفرّقهم المصالح وتضاربها. لا تحكمهم قيم ولا مثل ولا مبادئ بعضهم أولياء بعض. ويوضح لنا القرآن الكريم هذه الحقائق توضيحاً ربّانياً عظيماً، نأخذ منه قبسات هنا :
( يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضُهم أولياء بعضٍ ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيُصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين )
[ المائدة : 51 – 52 ]
( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )
[ الأنفال : 73 ]
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )
[ المائدة : 57 ]
( لتجدنّ أشدّ النّاس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورُهْباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيضُ من الدِّمع مما عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين )
[ المائدة : 82-83 ]
ولا بدّ من وقفة مع هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة ( 51 – 57 )، ( 82 – 83 ). فربّما ظنّ بعضهم أن بين المجموعتين من الآيات تعارضاً في المعنى، والحقيقة ليست كذلك. فالآية الأولى (51 ) تنهى عن موالاة اليهود والنصارى، فبعضهم أولياء بعض، خاصة إذا تشابكت مصالحهم أو دارت الحرب بينهم وبين المؤمنين. والنهي حقٌّ من عند الله، نهيٌ ماض إلى يوم القيامة. ونهيٌ آخر ثابت في كتاب الله هو النهي عن موالاة الكافرين والمشركين. وآيات كثيرة في كتاب الله تؤكد هذا النهي وحسبك الآية ( 73 ) من سورة الأنفال التي عرضناها أعلاه.
فالآيتان : ( 51 – 52 ) تتحدثان عن موضوع هام وخطير وهو موضوع " الولاء ". والولاء فصّل فيه القرآن تفصيلاً واسعاً حتى لا يبقى لمؤمن عذر أبداً. فالولاء أولاً لله سبحانه وتعالى، ومن هذا الولاء ينشأ الولاء بين المؤمنين. ويرتبط هذا الولاء بعهد ثابت أخذه الله من المؤمنين، عهد ماض إلى يوم القيامة، لا مجال للتفلّت منه أبداً في حياة المؤمن. فلا مجال إذن لأن يقوم ولاء بين المؤمنين والكافرين، ولا بين المؤمنين وأهل الكتاب، سواء في ذلك اليهود أو النصارى. ولا يتضح موضوع الولاء وصدقه في موقف كما يتضح في حالة الحرب والقتال، والصراع الدائر. في هذا الموقف يكون الولاء أمراً ضرورياً حاسماً، ويكون هو العامل المؤثر في هذا الموقف أو ذاك، وتكشف الحرب خبيئة النفوس، وحقيقة الولاء، حيث يتعذّر إخفاء ذلك والموت متربّص والخطر محدق. وتكشف لنا الآية (52) أجواء الصراع وحمّى القتال :
( فترى الذين في قُلُوبِهم مرضٌ يُسَارعون فيهم يقولون نخشى أنْ تُصيبنا دائرةٌ فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيُصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين) فجميع الألفاظ الواردة مثل : يُسارعون فيهم، تصيبنا دائرة، الفتح، وغيرها. تُنشر ظلال المعركة والقتال، وأجواء الحرب والصراع. في هذا الجوّ تتحدث الآية عن الولاء وتحسم الأمر حسماً، فلا تدع فرصة لولاء بين مؤمن ويهودي أو مؤمن ونصراني، ولا بين مؤمن وكافر.(/10)
هذه قضيّة إذن تُعْرضُ في أكثر الأجواء مناسبة له، وأكثرها كشفاً لخصائصها. أما الآية (82 ) فإنها تتحدث عن قضية أخرى خلاف قضية الولاء. إنها تتحدث عن قضية المودة والعداء، وتُعْرضُ القضية في أكثر الأجواء أيضاً مناسبة لها. إنها تعرض قضية المودة والعداء في أجواء الدعوة والبلاغ . حيث لا تكون قضية الولاء بعدُ عاملة أو ظاهرة في الميدان. وفي أجواء الدعوة تتحرك مودة أو يثور عداء. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى لنا أن اليهود والمشركين هم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، يُبيّن لنا حقيقة ربّانيّة ماضية مع الزمن، حتى تجد أن عدد اليهود الذين آمنوا عدد قليل لا يكاد يؤثر في حقيقة الكراهية الثابتة والعداء الملازم لطبعهم المريض. وقد فرّقت الآية الكريمة بين اليهود والنصارى هنا، في ميدان الدعوة والبلاغ، في قضية الودِّ والعداء، ولكنّها لم تقرّر أن ( الذين قالوا إنّا نصارى ) هم أهل ودّ، ولكنّها قررت أنهم أقرب مودّة. فقد تجد بين النصارى قلوباً أسرع استجابة للإيمان إذا دُعِيَتْ، ذلك بأنَّ منهم قوماً انقطعوا للعبادة وإن لم يكونوا على هدى، فهي حالة قلوب أكثر خشية وأرق عاطفة، وأسرع استجابة للحقّ، فقد تلين مع الدعوة، وقد تخشع وتنيب. وتكشف لنا هذا الجوّ من الدعوة والبلاغ الآية ( 83) : ( وإذا سمعوا إلى ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ … ) فهذا جوّ دعوة وبلاغ وليس جوّ حرب وصراع.
وفي تفسير ابن عطية : قال القاضي أبو محمد ـ رحمه الله ـ في تفسير الآيتين ( 82، 83 ) : " وهذا خبر منسحب على الزمن كلّه، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنَوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم … فهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، كذلك المشركون … ". ثم يتحدث عن النصارى فيقول: " والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا، وأن هذه الملة " الإسلام " لم تنسخ شرعهم، ويُعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منهم صحة دين …، ويعين على هذا أنهم … ولهم الخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاص في صحيح مسلم ". ثم يتحدث القاضي أبو محمد عن قوله تعالى : ( ذلك بأنَّ منهم قسيسين ورُهْباناً وأنَّهم لا يستكبرون ) يقول : " ذلك بأنَّ منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هُدى فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية، وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا … فلذلك لا يُرى فيهم زاهد ". وفي كتب التفسير أقوال أخرى حول هاتين الآيتين الكريمتين.
ولكننا نحبُّ أن نبرز هنا الفرق الأساسي الذي نراه بين المجموعتين من الآيات، مما قد لا يتطرق له آخرون. ذلك أن للمجموعة الأولى موضوعاً محدداً وجوّاً يناسب ذلك الموضوع. أولاهما : موضوع الولاء وأجواء الصراع. وأما المجموعة الثانية فموضوعهما مختلف وأجواؤها مختلفة. ذلك أنها تدور حول الودّ والعداء في أجواء الدعوة والبلاغ. ويهمّنا هذا التصوّر لأنه يساعدنا في ممارسة الآيات الكريمة ومعرفة حدود العلاقات بيننا وبين الشعوب الأخرى من النصارى واليهود في واقعنا المعاصر. ولندرك أيضاً أن الدعوة والبلاغ واجب المسلمين الأول في الأرض، ويظلّ ولاء المؤمنين لله ربّ العالمين ولاءً ماضياً في الحرب والسلم، والدعوة والبلاغ، والمودة والعداء. ولنعلم أيضاً أن الدعوة قد تتطلب شيئاً من الودِّ مما لا يتطلبه الصراع، ولكن هذا الودّ لا يغيّر شيئاً من الولاء الصادق الراسخ لله ربّ العالمين، ولاءً يربط المؤمنين أمةً واحدة من دون النَّاس، ولاءً ينظم العلاقات ويحدد المواقف ويرسم الاتجاه، ولاءً يدفع الطاقات المؤمنة إلى الدعوة والبلاغ في المودّة أو العداء، في السلم أو الحرب. إن الولاء محور الإيمان وقاعدة عظيمة من قواعده. ففي الحرب يكون النصارى أولياء لليهود، وأما في الدعوة فقد تجد بينهم من يستجيب للحقّ، ويلين قلبه له، فيخشع وينيب.
ولا يغيب عن بالنا أن هذا الوصف القرآني ماضٍ ما دامت شروطه قائمة. فإذا تخلّى النصارى عن موادعتهم، وتخلّوا عن إيمانهم إلى جبهة الإلحاد وصفِّ الكافرين، فإن هذا الوصف لا ينطبق عليهم. ويصبح شأنهم في ذلك شأن الجهة التي يُوالونها.(/11)
وإذا كان اليهود قد استغلّوا العاطفة الدينية لإثارة الناس وجمعهم حول مصالح الطبقة المتنفّذة فيهم، فإن العالم الغربي لم يكن أقل استغلالاً منهم للدين. فبالرغم من أن معظم دول العالم الغربي تعتبر نفسها دولاً علمانيّة، وفصلت الدين عن الدولة في بلادها فقد مضت تستغلّ الدين خارج بلادها في حركات تنصيرية تساند العمل العدواني والاحتلال العسكري في بلاد الإسلام خاصة. لقد كانت أطماع هذه الدول في خيرات العالم الإسلامي محركاً قوياً وموجّهاً أساسياً لحركات التنصير. فمنذ زمن قديم والعالم الغربي قد تخلّى حقيقة عن الفكر الديني في بلاده، فلا هم بالنصارى الذين وصفهم القرآن، ولا هم بالذين لا يستكبرون، ولكن قسيسيهم ورهبانهم أصبحوا طاقة التنصير وقوة الفتنة في الأرض، وما عاد منهم من إذا سمع ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع، إلا القليل. وظلّ أصحاب المصالح والشهوات هم أهل السلطة وأرباب الحكم يدفعون أطماعهم مغلفة بالدين كلما استدعى الأمر ذلك. وانطلقت جيوشهم في أفريقيا وآسيا، وفي البرّ والبحر والجوّ، لتحمل العدوان والظلم والفساد في الأرض، ولتجرّ معها جيوش الرهبان يحمون بهم ظلمهم ويزيفون بواسطتهم دعواهم. ولا ننسى تصريح " جلادستون " في مجلس العموم البريطاني : " إنّنا لا نستطيع أن نحكم الشرق ما دام القرآن يحكمه ". ولا ننسى تصاريح " لويد جورج " البريطاني، و" بومبيدو " الفرنسي، ولا تصاريح " أيوجين روستو " الأمريكي، وقبل ذلك " غورو " الفرنسي، و " اللنبي " الإنجليزي، تصاريح كلّها تكشف بصورة جلية طمعاً شرساً في بلاد الإسلام، وحقداً عميقاً لهذا الدين الذي يقف أمام هذه الأطماع. وذاك الفساد والعدوان. ولقد كشفت الحروب الصليبية هذه الحقيقة كشفاً كبيراً، فالتقت على ذلك مطامع هذه الدول وأحلام اليهود، والتقت الصهيونية والدول الغربية على مصالح تَثْبتُ وتتغير بعد ذلك.
أما العالم الشرقي، فقد كان هنالك خط عام ثابت في السياسة الروسية، منذ أيام روسيا القيصرية، وهو محاولة الخروج من حدودها إلى المياه والبحار وإلى منافذ الأسواق الدولية، وكذلك إلى ثروات العالم الإسلامي. ولم تستطع الفلسفة الماديّة الجدليّة ولا الماديّة التاريخية أن تغيّر نظرة روسيا هذه إلى البحار والمنافذ والثروات. أمام هذه المصالح الحيوية تُسْحق الشعوب، وتموت المبادئ، وتنتحر الشعارات.
ولقد اصطلح العالم في مرحلة من مراحل التاريخ على تمثيل هذه الأطماع بأسماء يضعها من عند نفسه. فحيناً ظهرت التسمية : " المسألة الشرقية " لتخفي الحقيقة التي يريدونها ألا وهي العالم الإسلامي. وظهرت في أيامنا هذه تسمية جديدة وهي " قضيّة الشرق الأوسط ". ولن تُعجزهم التعابير الشيطانية. ولا تجد أدلّ على أطماع روسيا من الهجوم الساحق الصاعق على تشكوسلوفاكيا، ومن التدخل السافر في قضايا الشعوب المختلفة في أفريقيا وأوروبا وآسيا، ومن الهجوم الواسع على أفغانستان. وتحركت الأحزاب الشيوعية العربية صدىً وبوقاً لهذه المصالح، ولكن الحزب الشيوعي اليهودي يظل في الدرجة الأولى يهوديّاً يحمي دولة اليهود وأطماع اليهود، قبل أن يكون شيوعياً.
فوجد الاتحاد السوفيتي السابق في الحركة الصهيونية ميداناً رحباً للتعاون على نفس الأسس التي قام عليها تعاون الغرب.
وهكذا التقت مصالح قوى ثلاث في الأرض : اليهود وتمثلهم الحركة الصهيونية، والنصارى العلمانيون وتمثّلهم دول الغرب، والكفر الصريح ويمثّله الاتحاد السوفيتي، التقت المصالح كلّها على ديار المسلمين وثروات المسلمين ودين المسلمين. ولا يمنع هذا اللقاء الواضح المكشوف أن يقع خلاف في لحظة من اللحظات لا يعطّل مسيرة الخطة العامة. فقد تسحب روسيا سفيرها، وقد تختلف روسيا وأمريكا، فتدور المساومات، وتدور المفاوضات وتبرز المعاهدات مثل " سايكس بيكو " و وعد " بلفور "، ومعاهدة " لوزان " وغيرها من أنماط المساومات التي وزعت الغنائم وقسّمت العالم الإسلامي. وقد تدخل قوى وتنسحب قوى، وقد تترك قطعة وتبقى قطعة إلى حين.
والقرن التاسع عشر، وربما قبله كذلك، كان يمثّل مرحلة الاستيطان غير المنظم في فلسطين، ومرحلة تنظيم العلاقات اليهودية وتوزيع القوى، ومرحلة التسلل الخفيّ إلى مراكز القوى في مختلف أنحاء العالم. أما القرن العشرون فإنه يشهد مرحلة التنفيذ الخطير، والعمل المكشوف المنظم، والاستيطان المدعوم بالقوى الدولية، وثبات العلاقات الصهيونية ونموّها , مثّل هذا التطوّر الحقيقي مؤتمر بال في سويسرا سنة 1897م.
ومع هذا التلاقي الصريح لمصالح العدوان والظلم في الأرض بين هذه القوى الثلاث، تصبح تصريحات وزراء الخارجية في العالم الشرقيّ والغربي واضحة الدلالة : " إنَّ إسرائيل وجدت لتبقى ". وهذا يعني أن دولة اليهود قامت بتخطيط وتنسيق.(/12)
إن طرح فكرة استيطان اليهود في غير فلسطين مثل " العريش " و" صحراء سيناء " و" أوغندا " لم يكن أكثر من وهم ومرونة في التحرّك، أو رأي يدفعه من لم يكن يدرك بَعْدُ عُمق التصميم اليهودي والتصميم لدى عدد من الدول الغربية. لقد كانت فلسطين هي نفسها الهدف الذي التقت عليها المصالح. ولم يكن هذا التصميم عبثاً، ولا كان ثمرة عاطفة دينية باطلة فحسب، إلا لدى الجماهير اليهودية التي تدفعها القوى المتحكمة على مدار التاريخ، كما كانت تدفع الجماهير النصرانية في حركات التنصير. وكان محور التلاقي بين هذه القوى الثلاث، ومصدر تصميمها على فلسطين هو حقدها الكبير على الإسلام، وعملها الدائم على تمزيق العالم الإسلامي. وإذا كان مؤتمر بال نقطة تحول بالنسبة لليهود ومرحلة انتقال، فإن مؤتمر المستشرقين الذي دعا إليه "وايزمن" وعقد في جنيف سنة 1902م وحضره أكثر من ثلاثة آلاف مستشرق، كشف عن حقيقة المؤامرة الدولية على المسلمين بالقرارات التي اتخذها، وكانت من أهمها : فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية، فصل الدين عن الدولة،العمل على تشويه الإسلام. ووزّعت القرارات على نطاق واسع في المعاهد والجامعات بصورة تكشف سهولة تحرّك الصهيونية في العالم الغربي، وقوّة التعاون القائم.
إنَّ فلسطين هي مفتاح العالم الإسلامي، هي مفتاح بلاد الشام، إنها بوابة الشرق عبر التاريخ البشري. لذلك التقت المصالح لتمتد وتنتشر.
يَصُدُّ عن الرُّبوع المعتدينا
...
وَقَفْتِ على رُبُوع الشّرق باباً
بذلكِ دُونه حِصْناً حَصينا
...
حِمىً للحقِّ والإيمان تَبْني
لِتَفْتَح دُونَه فتْقاً مُهينا
...
تظَلُّ يد الشّعُوب تدُقُّ فيه
يُمزِّقُ شَمْلها مزِقاً وهُونا
...
وتَخْرقَ من سياجِ الحقِّ خرقاً
وهنا نحتاج إلى وقفة أمينة صادقة مع أنفسنا. ما بالنا نحصر اللوم في ما يصيبنا في عدوّنا، وكأننا نتوقع منه قيماً وعدالة ورحمة، ونطلب منه أكثر مما نطلب من أنفسنا ؟! ما بالنا نستجدي في وهن واستسلام وننبري لصبّ اللوم على العدوّ، ونبرّئ أنفسنا أو نسوّغ هواننا في شعارات عاطفية تخدّر الرؤوس والنفوس :
بي المصائبُ أو أرميه بالتّهّمِ
...
مالي ألومُ عدوّي كُلَّما نزلتْ
حملتُ في النّفسِ إلا سقطة اللمَمِ
...
وأدَّعي أبداً أنّي البريءُ وما
وليسَ يحملُهُ غيري من الأممِ
...
أنا الملومُ ! فعهد الله أحملُهُ
وبالرغم مما أصاب العالم الإسلامي من نكبات مروّعة على مدى واسع من التاريخ، فقد يسّر الله دائماً من يحمل الدعوة الإسلامية في الأرض، إلى مختلف الشعوب. وقد مضى الإسلام ينتشر في بلاد آسيا وأفريقيا، وعلى قلّة في أوروبا مع زحف الجيوش العثمانية.
ولقد تمزّق العالم الإسلامي أكثر من مرّة، ولكن كان يظلّ في نفوس الناس خليفة يلتفّون حوله مهما ضعف مركزه. ولم يكتف العدو بما بلغ من تمزيق للعالم الإسلامي، ولكنه كما يبدو كان مصرّاً على تقطيع كلّ آصرة، وإحياء الأوثان الجاهلية. ولقد بلغ الأعداء في تخطيطهم مبلغاً كبيراً في إضعاف العالم الإسلامي عسكريّاً، واقتصادياً، وأخطر من ذلك كلّه، إيمانيّاً. وهنا تقع مسؤوليتنا. لقد كان القرن التاسع عشر يتجه بالمسلمين إلى الجهل الكبير والضعف، حتى سميت الدولة العثمانية بالرجل المريض، وبدأت تظهر مع القرن العشرين شعارات يحملها نفر من أبناء المسلمين، شعارات بعيدة عن الإسلام يصفّق لها الناس المسلمون، وينظمونها أناشيد، وأغاني. ولا نستطيع أن نعدّد هنا جميع مظاهر الجهل والمرض في حياة المسلمين، ولكننا نريد أن نبرز أمرين خطرين في تقديرنا :
الأول : جهل واسع بين المسلمين بمنهاج الله قرآناً وسنّة، وجهل بأنَّ منهاج الله ينظم حياة الفرد والجماعة والأمة والإنسانية كلها، وجهل بأن منهاج الله هو الذي يحدد العلاقات بين المؤمنين وشعوب الأرض، وينظمها في السلم والحرب. وكان هذا الجهل ممتداً في جميع المستويات، لا يلغيه وجود أفراد قلائل، أو حركات جزئية.
الثاني : جهل واسع بين المسلمين على مختلف المستويات بالواقع الذي يعيشون فيه، والمؤامرات التي تدور، والواقع الدوليّ الذي يرسم الخطة ويتحفّز للوثوب.(/13)
وإذا كانت بعض العبادات تؤدَّى على صورة عفوية لا تبني فرداً ولا أمة بعد أن فقدت زاد العلم الذي يغذّيها.وربما كانت تقوم الاحتفالات بالأعياد والمواسم لتكشف الجهل الذي نعنيه، والخرافات التي تنتشر، والبدع التي تسود، في جوّ مزدحم بالعاطفة الهائجة، العاطفة المفرغة من العلم والنهج والبصيرة. وكان من أهم نتائج هذا الجهل هو وهن الدعوة الإسلامية في الأرض، وفقدان القدرة على النهج والتخطيط لأمة تحمل رسالة في الأرض، وفقدان الميزان القسط لإقامة الموازنة العادلة الأمينة. ولقد كان الضعف عامّاً ممتدّاً في العالم الإسلامي. فبدأ الانحلال الخُلقي يمتدّ، وأخذت الدعوة إلى الله ورسوله تنحسر وتتوقف، وأخذت الشعارات الجاهلية تثور وتنتشر. ومن خلال هذا الجهل وهذه الشعارات أخذت الأمة تنحر نفسها، وتصبُّ الخدر في عروقها، لتغيب في نشوة استقبال الجيوش البريطانية سنة 1917م، وصوت " اللنبي " يدوّي : " الآن انتهت الحروب الصليبية ". فيصحو من يصحو، ويهوي من يهوي.
وفي مفاوضات " لوزان " اشترطت بريطانيا على تركيا أنها لن تنسحب من أراضيها إلا إذا التزمت تركيا بالنقاط التالية : إلغاء الخلافة، وطرد الخليفة ومصادرة أمواله، وإخماد كلّ حركة يقوم بها أنصار الخليفة، قطع صلتها بالإسلام واختيار دستور مدني بدلاً من دستور تكون مواده من الإسلام.
لا ننكر أنه من خلال هذا الليل الحالك، كان هنالك قلوب واعية، وشهداء دافعوا عن دينهم، ورجال قاموا لله :
قِطعٌ تَحُوكُ من الظَّلام حِبَالا
...
دَار الخِلافةِ والمكائدُ حولَهَا
وتُمَزِّقُ الأعضاءَ والأوصالا
...
تَلْتَفُّ حَولَ ضُلُوعِها فَتشدّها
خَفَقتْ لتَحْشُدَ فِتْنةً وضلالا
...
وإذا شِعَارُ الجاهليّةِ راية
طَعْناً يُدَمّي الكفَّ والأنْصَالا
...
وإذا بِطائفةٍ تَشدُّ على المُدَى
هَاجتْ على نَحْرِ العُداة قتالا
...
نَظَرتْ على الظّلماء تَحْسَب أنَّها
بِقُلُوبِها ! ودمٌ هُنَالكَ سَالا
...
فإذا النصالُ جميعها بِنُحُورها
نَدْمَى ! ويَنْزِفُ جُرْحُنا الأهوالا (2)
...
أبَتَاهُ ! ما زِلْنَا على طَعَنَاتِهِم
نخرج من هذا الإيجاز السريع بعوامل خمسة رئيسة فتحت فلسطين إلى اليهود، وفتحت العالم الإسلامي لغزوات عنيفة وعدوان ظالم، ما زال يمتد حتى يومنا هذا، مع اختلاف الوسيلة والأسلوب :
أولاً : الحركة اليهودية الممتدة في التاريخ، والتي نمت وتطورت في القرون الأخيرة على شكل الحركة الصهيونية.
ثانياً : الأطماع والأحقاد الغريبة التي تغلّف نفسها بالدين وشعاراته، أو تنزع عن نفسها القناع أحياناً، وفي كلّ حال تمضي في حركات التنصير لتحقق أطماع العدوان.
ثالثاً : أطماع روسيا وأحقادها سواء في العهد القيصري والشيوعي، تغلّف نفسها بما يهيّئه الواقع من زخرف. وكذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
رابعاً : تلاقي المصالح والأطماع والأحقاد لقاءً اشتدت عُراه في القرون الأخيرة بين اليهودية والعالم الغربي والاتحاد السوفيتي، ويقوى أو يضعف على ضوء قوة تلاقي المصالح وتبدلها. وكذلك مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
خامساً : وضع العالم الإسلامي من ضعف وتخلف وجهل في مرحلة حاسمة من مراحل التاريخ البشري.
(1) مجلة أرض الإسراء العدد 87 ربيع الأول 1406هـ الموافق كانون الأول ديسمبر 1985م .
(2) من قصيدة : " أبتاه أين الفجر كم راقبته "، ديوان موكب النور، للدكتور عدنان النحوي .
التصور الإيماني
لقضية فلسطين
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
(الحلقة الثالثة)
ضرورة توحيد التصور الإيماني
لقضية فلسطين
1-مع جولات الجهاد :
منذ سنة ( 1920م ) عرفت فلسطين جهادها الأول ضد الإنكليز واليهود معاً. ومضى الجهاد بعد ذلك يتفجر في أرض فلسطين : ( 1921، 1929، 1935، 1936، 1937، 1948م )، وامتدّ حتى يومنا هذا، وما كانت تمثل الجولة الأخيرة التي انتفضت بحدود 15 ربيع الأول سنة 1408 هـ ديسمبر 1987م، إلا امتداداً لهذا التاريخ الطويل.
ولم تكن جولة (1920م) هي أوّل صدام مع اليهود في فلسطين. فلقد كان أذاهم معروفاً قبل قرن من الزمان تقريباً، حين اصطدم أهل مدينة صفد مع اليهود بحدود سنة 1832م، أثناء غزو إبراهيم باشا لفلسطين. ومنذ ذلك التاريخ انكشف تدخّل قناصل الدول الأجنبية لصالح اليهود بشكل جلي.
ومنذ تلك السنة كنت تجد أهل الجهاد هم رجال الإسلام وهم العلماء وهم الذين ينزلون الميدان. وفي كلّ وثبة كنت تجد مشاعلها جنود الإسلام، وتجد وقودها هم جنود الإسلام.
ففي فلسطين قاد العمل علماؤها منذ بدايته: الحاج محمد أمين الحسيني وإخوانه ورفاقه في الجهاد. ومن العالم العربي تدفق جنود الإسلام يقاتلون في سبيل الله، ويضربون أروع الأمثلة في الجهاد والاستشهاد. ومن العالم الإسلامي تحرّك جنود الإسلام كذلك يحنّون إلى فلسطين حنيناً شديداً، وكان المؤمنون صفّاً واحداً.(/14)
ربما يحاول بعضهم الإساءة إلى هذا الصف المؤمن بإثارة عصبيات جاهلية مؤذية، وإشاعة روح من فتنة. فيثيرون في حمّى العاطفة شقاقاً يدعونه بين مؤمن ومؤمن، ومجاهد ومجاهد، بعد أن قضى هؤلاء المؤمنون، ومضى جهادهم، وأصبح أمرهم بين يدي الله العزيز الغفّار. فتثور حماسة لهذا، وذاك لذاك، في فتنة لا تفيد جولة ولا تُغذّي إيماناً. مضى المجاهدون الأعلام وما اختلفوا، واختلف عليهم القاعدون اليوم.
لقد مضى الشيخ عز الدين القسام ـ رحمه الله ـ وهو مجاهد مع هذا الصف المؤمن الواحد، صفّ لم تطرقه فتنة، ولم يُفرّقه شقاق ولا خلاف. وما كان لهم أن يقعوا في ذلك، فإيمانهم وعلمهم يعصمهم من ذلك كله. وعسى أن يتعلَّم الناس دروساً من صدق النية وسلامة القصد في ميادين الجهاد خاصة من أولئك الرجال الأعلام.
وسيمضي الجهاد في فلسطين جهاد المؤمنين، جهاد الأمة المسلمة، مهما ظهرت فينا بوادر ضعف وهوان. فما زال في الأمة جذوة الخير، وعصارة الإيمان، ونواة البركة، وما زال فيها الصادقون، وسيمضي الصادقون يطرقون أبواب الجنّة في فلسطين، وفي أفغانستان والعراق والشيشان، وفي سائر ديار المسلمين. وسينتصر الإسلام، وستعود فلسطين إن شاء الله.
ولكنها دروس يتعلّم منها المؤمنون، فلو عدنا إلى سنة 1947م، عندما أُعلن التقسيم، هبّ أهل فلسطين، وأعلن الإنكليز إلغاء الانتداب. في ذلك الوقت كان أهل فلسطين يستطيعون مجابهة الأحداث، ومتابعة الجهاد في أرضهم وديارهم وهم فيها، لو مُدّوا بالسلاح والمال والتدريب، ولو حوربت الوسائل العلنية والخفيّة للتهجير والترحيل. في هذه المرحلة أصرّت معظم الدول العربية على أن تتولَّى هي قضيّة فلسطين. وكان اليهود آنذاك أضعف بكثير مما أصبحوا عليه بعد سنين. ولمَّا اشتدَّت قوة اليهود، ونمت دولتهم سنة بعد سنة، أصبحت مجابهتهم تحتاج إلى ميدان أوسع، وتلاحم أقوى، وخطة أوعى. وأصبح خطر اليهود أكثر وضوحاً، وأكثر اتساعاً، مما يستدعي قيام أمّة تبني قوتها وعدتها وخطتها لتفلح في مجابهة الموقف. ولكن الدول العربية جعلت القضية في هذه المرحلة الجديدة بأيدي فئة محددة من الشعب الفلسطيني الممزّق.
وقد ضرب لنا عدد غير قليل من رجال فلسطين المؤمنين، من رجال الجهاد العاملين، من المؤمنين الذين انطلقوا في ميادين السياسة والقتال والفكر، نماذج غنيّة في الوفاء والتجرّد، والزهد في تنافس الدنيا. ومنهم من دخل الميدان غنياً بالمال والإيمان، وغادر الدنيا وقد زاد إيمانه وجفّ ماله، وقضوا دون أن ينالوا زهوة الإعلام أو بحبوحة العيش، ولم يبحثوا عن غنيمة دنيا ولا زخرف حياة.
دروس من الإيمان رسمها الإسلام على أرض فلسطين، لتظلّ عبرة تتعلم منها الأجيال.
2-اضطراب التصور لقضية فلسطين :
من أصعب ما يتحدث عنه المسلم اليوم مع شدّة اضطراب الواقع هو قضية فلسطين، على وضوح الحقِّ فيها. ولكن الصعوبة لا تنشأ من الإنسان نفسه، الإنسان الذي وصفه القرآن الكريم فقال :
( قُتل الإنسان ما أكفره )
[ عبس :17]
الإنسان الذي جعل تاريخها المباشر كقضية سياسية يزيد على القرن من الزمن أو أكثر، حتى حملت في هذا التاريخ الطويل هرج السياسة الدولية واضطراب الحياة البشرية، وصراع الأطماع في معادلة معقدة متشابكة يزيدها الشيطان وجنوده من الإنس والجنّ بلاء وتعقيداً. وتنشأ الصعوبة كذلك من اضطراب التصور لها بين أبنائها وأهلها في العالم العربي والأمة المسلمة، حتى اختلف التصور بين فئة وفئة، وبلد وبلد، وشعب وآخر، وجيل وجيل، وزاد الاختلاف حتى بلغ حدَّ التناقض والصراع. وتنشأ الصعوبة كذلك من الظلام المفزع الدامس الذي يلفّ واقعنا اليوم، الواقع الذي يتلمس فُرْجة من ضياء، وبصيصاً من نور، في القلوب الصادقة مع ربّها، والعزائم المشدودة إلى عهدها، والخطى الثابتة على دربها.
ومع هذه الصعوبة فلا يزال للحديث عن قضية فلسطين سبيل وسعة. فهناك معالم لا بدّ من جلائها وتأكيدها، على الدرب الممتدّ إلى فلسطين.
وأوّل قضية نودُّ أن نؤكدها هي ضرورة توحيد التصور الإيماني، التصور الفكري لقضية فلسطين، ليكون تصوراً لا يقف عند الشعارات والرايات، ولكن يدخل إلى أعماق القلوب والنفوس والعقول، فيجمع طاقات الإنسان كلها فكراً وعاطفة، وإيماناً وموقفاً وعملاً، ثم نهجاً واضحاً يحدد أهدافاً واضحة، تصوراً يربط النهج بالأهداف، ليصبح تصوّر كلّ الشعوب المسلمة الممزّقة، وليربط النهج والأهداف بالواقع من خلال منهاج الله، وليحدّد المسؤوليات والواجبات والمواقف.(/15)
لقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة متناقضة متصارعة، في واقع العالم الإسلامي، وامتدّ التباين حتى برز في داخل الإطار الإسلامي، وتناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين حتى أصبح كمية هائلة تحتاج وحدها إلى بحث وتمحيص، لا تتسع له هذه الكلمة الموجزة، ونما التباين في التصور حتى تحول إلى صراع مكشوف، أو تنافس مدمّر. وامتدّ التباين في التصور مع الزمن حتى أضعف المواقف والخطوات، وحتى سهل عمليات التنازل وفتح أبواب المساومة، وسهل تطويع بعض النفوس وترويض قطاعات في الأمة.
لا بدّ من توحيد التصور الإيماني في قضية فلسطين ليكون هو التصور الذي يحمله الإعلام كله، ويصوغه الأدب كله، ونُغَذِّي به أطفالنا ونساءنا ورجالنا، ونمدُّ به التاريخ والأجيال، وليكون شاهداً لنا لا علينا، شاهداً على صدقنا بين يدي العزيز الجبار، يوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، قلب كانت سلامته في صدقه وإيمانه ووعيه، يحمل التصور الحقّ الأمين، سليم من الأهواء فاستقام تصوره وإيمانه ونهجه، وانجلت أهدافه.
ولقد تسللت القومية إلى قلب الواقع الإسلامي، وتسللت الاشتراكية، وتزاحمت الشعارات بين ديمقراطية وشيوعية ودكتاتورية وحداثية وعلمانيّة، تسللت هذه الأفكار كلها، وكثير غيرها إلى النفوس في مرحلة امتدّ فيها الجهل بمنهاج الله، واضطرب الإيمان والميزان، حتى اختلطت كلها في أعماق الوعي، وانعكست لتكشف نفسها في الكلمة والرأي والموقف. لقد كان ضغط هذا التسلل رهيباً حتى انزلقت بعض الأقلام فنادت بالاشتراكية والديمقراطية، وخلطتها وعجنتها مع الإقليمية والقومية، وصبغتها بصبغة إسلامية، وطرحتها في واقعنا السياسي وقضايانا الأساسية، وقضية فلسطين بصورة خاصة.
فمن حيث الشعارات قد يلتقي الكثيرون على أنَّ فلسطين أرض مسلمة، وأنَّ الحل الصادق هو الحل الإسلامي، وتهييج العواطف كلّها، وتثور النفوس تأييداً للحلّ الإسلامي ! وهذا حقّ، ولكن ما هو الحلّ الإسلامي، ما هو نهجه ؟ ما هي خطواته ومراحله ؟! وما هي المسؤوليات والواجبات التي تنشأ عنه والمواقف التي تتحدد بها ؟! وما هي حجتنا في ذلك ؟! وكيف يخاطبنا العالم بها؟! لقد كان من أوضح آثار تسلل المناهج الغربية والشرقية إلى عقولنا وأفئدتنا هو غياب الحسم والمفاصلة، حيث يفرض الإسلام الحسم والمفاصلة، والحسم المفاصلة لا تعني الحرب والقتال دائماً، ولا تعني الارتماء بالأحضان وتشابك الأيدي، ولكن تعني استقلال النهج والممارسة، ووضوح الأهداف، والتقاء الدرب مع الأهداف، التقاء تطمئن النفوس إليه، حتى ترى أنَّ الدرب يوصل إلى الأهداف حقّاً. وكان من أثر هذا أن اختلطت المواقف في تاريخ الأمة بين مواقف قومية وإقليمية، واشتراكية وديمقراطية تنسلّ في واقعنا تحت شعارات وطنية إسلامية.
من حيث الشعارات قد يلتقي الكثيرون على أنَّ فلسطين أرض مسلمة، ولكن ما هو إسلامها ؟! متى بدأ إسلامها ؟! كيف ارتبطت به ؟! وكيف تتحدد به المسؤوليات والمواقف، والنهج والأهداف ؟! ومدى التزام واقعنا اليوم بذلك كله؟! وإذا لم يصدق الالتزام في واقعنا اليوم بالنهج المفصل والأهداف، أو إذا لم يتوافر النهج المفصل فأين الخلل ؟! من نحن ؟! وعلى أيّ أساس نطالب بفلسطين؟! لا بدّ من الإجابة على هذه الأسئلة بوضوح، فعليها وعلى الإجابة تتحدد المواقف والمسؤوليات، وتلتقي الشعارات والنهج والأهداف في مسيرة مستقيمة واحدة
...(/16)
التضليل النصراني
بمناسبة العثور على نسخة من الإنجيل وصلت هدية من بعض المؤسسات التبشيرية في بيروت إلى أحد المواطنين في السعودية:
ما تزال الأيام تكشف لنا عن الحقد الذي وصلت إليه نفوس أعداء الإسلام من اليهودية والصليبية والذي ما هو إلا امتداد لذلك الحقد الذي بدرت ملامحه الأولى في فجر الإسلام حين حاول هؤلاء أن يقضوا عليه في مهده والتاريخ حافل بمكايدهم العديدة التي كان مآلها الخيبة والخسران على من يحيكها وينسج خيوطها ولين يغيب أبداً أمام المؤمن المعتز بدينه قول الله تعالى: ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ?[ البقرة: 120].
وإذا ما أردنا البراهين القريبة إلى عصرنا فلننظر نظرة فاحص متتبع للغايات البعيدة التي تكشف حقيقتها والتي هدف إليها أعداؤنا منذ نشبت الحروب الصليبية إلى أن رضخت كثير من البلدان الإسلامية تحت نير الاستعمار الصليبي بالمعنى الصحيح.
وعلماء الإسلام الذين عاصروا كوارث الاستعمار واستعباده والذين هيأهم الله تعالى للدفاع عن الإسلام وإظهار أباطيل وكيد المستعمرين وما كانوا ينوونه بخططهم اللئيمة من القضاء على الإسلام وتحويل المسلمين عن معتقداتهم بزخارف المادة والحضارة والطعن في الإسلام بالرجعية والتعفن وأن كل قديم منبوذ وكل جديد مقبول، وهؤلاء العلماء لم يألوا جهداً في إظهار الحق في صوره الناصعة وتزييف الباطل وهم على قلتهم قد أرشدوا الناس إلى ما فيه الكفاية إن كان هناك آذان صاغية تسمع وقلوب تعي.
وما أظن الكثير من شبابنا الإسلامي إلا أصبح على علم بأساطير المسيحيين التي يلصقونها بالمعتقدات ويجعلونها من لب الدين وما هي إلا خرافة وأوهام مدسوسة عليهم والإنسان بما كرمه الله من العقل الناضج الذي لا يؤمن بما لا يعقل ولا يمكن أن يقبل الإيمان بشيء لا يقبل الجدال ولا النقاش ولا التقبل بقاعة تامة فإنه عند الغربلة يعود سراباً وهو إلى الخرافة والوهم أحرى من أن يكون معتقداً يتعلق به مصير الإنسان في المحيا والممات، هذا العقل لا يمكن أن يكون ألعوبة لمثل هذه الأساطير التي أثقلت كاهل التافهين ممن يعتقد صحتها وهم الذين أهانوا كرامة العقل البشري وعظم مكانته بين المخلوقات فحولوه إلى آلة مسلوبة التفكير والنظر والتفريق بين ما هو حق وباطل، وحقيقة ووهم، فما عليهم إلا أن يقبل مالا يعرف ويعي ولا يعقل.
والرسالة المحمدية قد جعلت الآفاق أمامه مفتوحة، وطلبت منه أن يتفكر في مخلوقات الله تعالى وملكوته وصنعه وقدرته ودعته إلى الإيمان بالحق عن طمأنينة واقتناع قال تعالى:? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [البقرة: 256].
يا ترى إلى أين نذهب في حديثنا؟ وما الباعث على مثل هذا؟ ألم يكن هذا حديث قد أبدأ فيه وأعيد وسبقنا إلى خوضه ذوو الباع الواسع والإطلاع الشاسع وألجموا هذه الببغاوات التي لا تعي ما تقول بحجة المنطق وقوة الدليل ونصاعة البرهان هذا سؤال؟ والجواب عنه:
إن كاتب هذه الأسطر يقول بلسان حاله وهو يكتبها: اعط القوس باريها. والسهم راميها. ولكن هناك واجب وهناك الشعور باللامسئولية عن هذا الواجب، أما الواجب فهو الدفاع عن الإسلام، وقد جعل الإسلام كل مسلم على ثغرة من ثغرات هذا الدين وحذر أن يؤتى من قبله. ولكن الواجب ولا ريب هو في الدرجة الأولى على ذوي السلطان والعلم فإن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه حتى الرجل عن أهل بيته.(/1)
ولا نكاد الآن نرى اليقظة الكاملة لدى هذين الصنفين حتى لا يتركوا مجالاً لأي عامل من عوامل الهدم تتسرب إلى العجب فعجب تسرب كتب التبشير المسيحي إلى أرض القداسات ومهبط الوحي ومنبع الرسالة المحمدية. ولكن ألم يعلم هؤلاء العلماء المبشرون أن خاتم النبيين قال: " لقد أيس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض"، كما قلت سابقاً أن غفلة الحكام والعلماء هي التي تركت مجالاً لهؤلاء الحاقدين على ديننا ليقوموا بمحاولات المكر والدعوة إلى المسيحية التي أدخل عليها التحريف حتى أصبحت إلى الوثنية أقرب منها إلى الديانة السماوية، فهناك عامل آخر بما يجعل الشباب يميل بعض الميل وينحرف أو على الأقل يرمى في حمأة الريب والشك، هذا العام هو جهل هؤلاء الشباب بدينهم، لا يكاد يعرفهم الكثير منهم عن هذا الدين إلا أنه دين آبائهم الذي وجد وعاش بفطرته عليه وهذا النوع من الشباب لا يوجد لديه المنعة الكاملة لدفع الأباطيل والشبهات ورمي كل فرية تناقض هذا الدين في وجه صاحبها، ومجرد كلمات أو مقال نحاول فيه الرد على مزاعم المبشرين ونضيء به الطريق للشباب ليهتدوا به إلى الحق قد لا ينفع هؤلاء البعيدين عن الجو الإسلامي والروح الدينية السامية لذا فإني أهيب بشبابنا أن يكونوا أوعية صالحة تنهل من فيض التراث الإسلامي الخالد الذي ملأ آفاق الدنيا وأن لا يوجد في أفئدتهم مكان للكتب التي تدعو إلى محاربة الدين أو إلى المجون والخلاعة حتى ترتفع عقولهم وتسمو عقائدهم عن الشبهات وتصفو نفوسهم وضمائرهم بالحق.
والآن سوف ألقي ملامح يسيره عند الديانة المسيحية: لا شك أن الديانات السماوية كلها ديانة واحدة تدعو إلى شيء واحد هو عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له المنزه عن التجسيم والتعدد، والمسيح عليه السلام لم يدع الناس إلى غير هذا وإذا كان المسيحيون اليوم يضفون عليه صفة الأولوهية والنبوة لله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً ـ فهذه هي عين الوثنية والشرك التي جاء عيسى ومن قبله ومن بعده من الأنبياء لينقذوا الناس منها.
وانظر إلى ما يقوله أحد المسيحيين المعاصرين ممن عرف الحق ودافع عنه (لا يدع القرآن شائبة من ريب في مسألة وحدانية الله فجاء في سورة الإخلاص ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ٌاللَّهُ الصَّمَدُ مْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ? [الإخلاص: 1- 4]. وفي ذلك نقض لعقائد الشرك وتصحيح لعقائد أهل الكتاب أيضاً.
فقد صار أتباع المسيح إلى القول بألوهيته، وأنه ابن الله، وأن الإله الواحد جوهر واحد له ثلاثة أقانيم هي الله الأب، والله الابن –وهو المسيح-، وروح القدس، وشبهوا ذلك السر الإيماني المسيحي بالشمس، وكيف أنها حقيقة واحدة، تقع على الحواس قرصاً ونوراً وحرارة –جل ربنا عن التشبيه والتمثيل والتجسيم والتعدد وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- ولم يرد على لسان المسيح في أقواله الواردة في بشارات حوارييه (الأناجيل) إشارة إلى شيء من ذلك بل كان يدعو نفسه على الدوام بـ"ابن الإنسان" وأما البنوة لله عز وجل فما ورد لها ذكر إلا على سبيل المجاز المطلق، وبمعنى يشمل البشر كافة حين أوصى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقوله "يا أبانا الذي في السماء".
وحين طالب أتباعه وجميع الناس أن يسلكوا طريق البر كي يكونوا جديرين بنسبتهم إلى الله، فالمسيح رفع خصوصية البر عن اليهود الذين قالوا "إن أبناء إبراهيم وحدهم هن الناجون الظافرون برضوان الله".
لأن الناس كافة أبناء الله ما سلكوا طريق البر، وأحبوا الله وأحبوا إخوانهم في الله حتى أعداءهم.
بل إن المسيح وعظ الناس فضرب لهم المثل في رعاية الله وعنايته بما ينتجه من الرزق لطيور السماء ووحش الفلاة، وما ينتجه من الزينة لزنابق الحقل، فلا ينبغي أن يكون حرصهم كله على مال الدنيا وقوتها وجاهها وزخرفها.
وما أقرب هذا أن يجعل رعاية الأبوة مطلقة شاملة لجميع الكائنات، وما أبعد هذا أن يكون ذلك "السر" أو "اللغز" المعقد الذي اختلفت فيه أقوال المفسرين من أساطين اليهود وعلماء اللاهوت.
وقد أدى هذا اللبس إلى فتنة، بل فتنة بين صفوف أتباع المسيح والمنتسبين إليه، وجمعت المجامع، ووقعت المذابح، وصار الإيمان سبيلاً إلى اللدد والفرقة لا إلى الألفة والاجتماع على عقيدة يطمئن الجميع إليها. وناهيك بعقيدة لبابها المحبة حتى للأعداء.. تكون مثار ذلك كله.
وناهيك بعقول السواد ممن غيرت لهم في الوثنية جذور عقلية وحسية منذ ألوف السنين، كيف لا تنزلق إلى الشرق من باب هذا "السر" الذي يجعل الواحد الفرد ثلاثة أقانيم.
لابد من رد الناس إلى بساطة الاعتقاد، ولابد من نفي اللبس وشوائب الريب عن جوهر هذه العقيدة، وهو التوحيد مطلق التوحيد.(/2)
إذن تعني أن يأتي الدين الجديد بحسم هذا الاختلاف الوبيل "? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ٌاللَّهُ الصَّمَدُ مْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ? [الإخلاص: 1-4]. فأقرب إلى العقل أن من يلد أحرى بأن يولد.. وما كان سبحانه فرداً من جنس، ولا واحداً في سلالة من نوعه. حاشا! بل جل عن النظراء والأكفاء فمن ذا الكفء لله.
وأسطورة الصلب التي يقول عنها المسيحيون، أن عيسى عليه السلام صلب نفسه ليكفر عن بني البشر الخطيئة التي تحملوها من أبيهم آدم، تلك الخطيئة التي هي وزر أبيهم آدم حين نهاه الله عن الأكل من الشجرة فأكل منها، وهذه الأكذوبة ذات ثلاث جوانب:
أولها: الصلب.
وثانيها: جعل عيسى عليه السلام إلهاً ثم حكمهم عليه بالصلب وأي إهانة للألوهية حين يصلون بها إلى درجة الصلب.
وثالثها: تحمل بني البشر خطيئة لم يقترفوها وهذا ينافي العدل الإلهي وقد جاء الرد على هذه الأباطيل من شتى الطرق العقلية والنقلية:
يقول محمد نظمي لوقا:في كتابه (محمد الرسالة والرسول) : "أما الإنسان، فوقف بعد اليهودية والمسيحية موقفاً لا يحسد عليه كثيراً، بسبب ما التصق به من وزر أبيه الأول آدم، ذلك الوزر الذي اعتبر خطيئة أولى، وخطيئته باقية موروثة لابد لها من كفارة وفداء حتى لا يذهب بجريرتها أبناء الجنس البشري كافة".
(ويقول عن نفسه وهو مسيحي): وإن أنسى لا أنسى ما ركبني صغيراً من الفزع والهول من جراء تلك الخطيئة الأولى، وما سبقت فيه من سباق مروع يقترن بوصف جهنم ذلك الوصف المثير لمخيلة الأطفال، وكيف تتجدد فيها الجلود كلما أكلتها النيران، جزاء وفاقاً على خطيئة آدم، بإيعاز من حواء، وأنه لولا النجاة على يد المسيح الذي فدى البشر بدمه الطهور، لكان مصير البشرية كلها الهلاك المبين.
وإن أنسى لا أنسى القلق الذي ساورني وشغل خاطري عن ملايين البشر قبل المسيح أين هم وما دينهم؟ حتى يهلكوا بغير فرصة للنجاة.
فكان لابد عقيدة ترفع عن كاهل البشر هذه اللغة، وتطمئنهم إلى العدالة التي تأخذ البريء بالمجرم، أو تزر الولد بوزر الوالد، وتجعل للبشرية كرامة مضمونة ويحسم القرآن هذا الأمر، حين يتعرض لقصة آدم وما يروي فيها من أكل الثمرة المحرمة فيقول الله: ?وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى? [طه: 121، 122]. وفي سورة البقرة :? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? [البقرة: 37]. ويقول: إن المسئولية هي أساس الكرامة الإنسانية، وأساس كل حرية وكل أخلاق ممكنة وهذا ما قطع به الإسلام، ووضع به الحجر الأساسي لكرامة بني آدم، فيقول في سورة النجم: ?وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى?[ النجم: 39، 40].ويقول في أكثر من سورة على سبيل التأكيد: ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ?[فاطر: 18 ].
ويقول الكاتب: والحق أنه لا يمكن أن يقدر قيمة عقيدة خالية من أعباء الخطيئة الأولى الموروثة إلا من نشأ في ظل تلك الفكرة القائمة، التي تصبغ بصبغة الخجل والتأثم كل أفعال المرء، فيمضي في حياته مضي المتردد، ولا يقبل عليها إقبال الواثق، بسبب ما أنقض ظهره من الوزر الموروث.
إن تلك الفكرة القاسية تسمم ينابيع الحياة كلها، ورفعها عن كاهل الإنسان منة عظمى، بمثابة نفخ نسمة حياة حديثة فيه، بل هو ولادة جديدة حقاً، ورد اعتبار لا شك فيه، إنه تمزيق صحيفة السوابق، ووضع زمام كل إنسان بيد نفسه".
تأمل هذا الكلام الذي يعتبر كاتبه الإسلام منقذاً من تلك الأحمال الثقيلة التي أثقلت كاهل البشرية وسلبته كرامته ونفت عن الله عز وجل العدل الذي به لا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
وهناك عدة مسائل أدخلت في الديانة المسيحية افتراءاً وبهتاناً، وما هي إلا من صنع أعداء الديانة المسيحية الحقة، ولا يعرف ذلك حق المعرفة إلا من يتتبع تاريخ المرحلة التي مرت بعيسى عليه السلام، ثم بأتباعه الذين تمسكوا بما دعا إليه، ثم ماذا صنعه اليهود وحكام الروم آنذاك من محاربة دس في دين المسيح عليه السلام، وهناك إشارات يسيرة لتلفت نظر الذين لا يعرفون الحقيقة، ولتبعثهم إلى التوسع في معرفة النشأة والرجوع إلى الكتب التي لم تدع مجالاً للشك والريب في بطلان ما عليه المسيحيون اليوم.
راجعه : عبد الحميد أحمد مرشد.(/3)
- يشير إلى الحديث الصحيح عند مسلم وهو عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم). ج4 كتاب المنافقين 65-2812، وأورده الألباني في صحيح بن ماجه برقم 2479عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه. وقال عنه صحيح، وفي الإرواء 5/279. وفي صحيح أبي داؤود تحت الحديث 1700. وغيرهم.
- من كتاب محمد الرسالة والرسول :65 وما بعدها: لنظمي لوقا.
الرسالة والرسول، ص :75.(/4)
التطبيع مفهومه وآثاره
د. يحيى عبد الله*
مقدمة:
أبدأ بحمد الله الذي له الخلق والأمر، له الحكم وإليه مآل الخلق أجمعين، والمرشد لعباده بقوله: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون)، لأنّ الخلق يقتضي عبودية الناس لربِّ العالمين.
والذي أقسم في كتابه بأن مقتضى الإيمان المعتبر عنده أن يكون صاحبه مُذعناً بحاكميته المُطلقة، وأن يذعن طوعاً لأمره الشرعي بانشراح الصدر والثقة بأن ذلك قمين بإنالته لخير الدارين لكونه يعلم ويوقن بصفة العلم المحيط والعدل المطلق والغنى المطلق، (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)، (ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض).
لأن سننه علمتنا المسؤولية لكسبنا والقدرة عليه والإرادة التي نستطيع التوجه بها نحو الممكن وتركه (لا يكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً)، (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
الذي يجازي المسيء بما قدّمت يداه إن لم يعفُ عنه وكان ممن يقع عليهم عفوه وغفرانه (وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله)، ويضاعف لمن عمل الصالحات (والذين اهتدوا زادهم هدىً)، (ومن عمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً).
والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي أرشد من استعد أن يذعن لله في بعض الأمر بقوله: (إنّ هذا الدين لن ينصره إلاّ من حاطه من جميع جوانبه) [المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير محمد الغضبان: 1/ 143]، والذي أسلم في جميع حياته لله رب العالمين.
لأنّه متبع لمن اهتدى من قبله، الذين وصفهم الله بأنهم يوفون بعهد الله (وإبراهيم الذي وفّى)، (إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)، (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).
هنا يقف المرء متأملاً، ويظهر له سر نعت الأنبياء بأنّهم أسلموا، مع علمنا بأن رتبة النبوة أعلى من رتب من أسلم من أتباعهم، ودلالات اللغة تأبى مِن وصف المرء بصفاتِ مَن هو أدنى منه في مقام المدح، هنا نعلم بأن الرُّسل قد انقادوا لله عزّ وجلّ في المنشط والمكره فوصفهم بأنّهم أسلموا لله في قوله: (إنّا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربّانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
اقرأ الآية بتمامها، مراعياً سياقها، متأملاً في أنّ الحكم بمقتضى ما أنزل الله وصفٌ لازمٌ لمن أسلم وجهه لله.
وقف عند النهي بقوله: (فلا تخشوا الناس واخشوني.. ).
هنا يزول عنك الإشكال الذي يجده بعض الناس فيما ختمت به الآية وهو قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
ويتضح لك النعت للنبيين بأنهّم أسلموا لله أمرهم حتّى في مقام الخوف الذي يعتري الإنسان بمقتضى بشريّته.
وعلى آله وصحابته الذين لم يبدّلوا ولم يغيّروا، بل تحمّلوا الأمانة ورعوها حقّ رعايتها، فعبّر عنهم الصدّيق في أول وهلة من استلام الأمانة من الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "لأُقاتلنّ ولو وحدي" .
اللهم لك أسلمنا وبك آمنّا وعليك توكّلنا فاجعلنا لديك من المقرّبين، ثمّ أمّا بعد
فإنّ الحديث عن "مفهوم التطبيع وآثاره" على ما يقتضيه الظرف الذي نعيشه لعبء جلل ولكن ..
رغم الضعف وضآلة التجربة، اطمأنّ قلبي عندما علمتُ بمن يصوّب هذه الخواطر السريعة ويضعها في الجادّة؛ لأنّهم خبروا مسالك ما يدور في الساحة منذ زمن بعيد، ولأنّهم أساطين الدعوة، وربّابنة السفينة.
وسأطرح ما يفتح الله عليّ به في ثلاثة محاور، وهي مفهوم التطبيع، وآثاره، والبديل المنشود.
وأسأل الله الفتّاح العليم أن يمنّ على بالتسديد والتوفيق إنّه ولي ذلك والقادر عليه، إنّه نعم المولى ونعم النصير.
أولاً:
أكتفي في بيان مفهوم التطبيع بالدلالة اللغوية؛ لأنّها تطابقت -في نظري- مع ما هو واقع في الساحة وما يراد منّا بالتطبيع، ولذلك يظهر لي بأنّ من بادر بالتسمية بهذا الاسم لهذه العملية السياسيّة الكبرى العالمية الماكرة ضليع في مرامي اللغة، ويعرف العناوين التي تمكّنه من الضغط والإنفِلات. إنّها أعمال مؤسسات، لا مبادرات أفراد.
وهذا المسلك الذي نحوتُه مخالفٌ لمنحى من قال: "كلمة التطبيع من الكلمات المستحدثة سواء على اللغة العربية الفصحى، أو على الصراع مع اليهود في فلسطين المحتلّة" [التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني، غسان حمدان، ص: 23].
قال صاحب معجم مقاييس اللغة: الطاء والباء والعين أصل صحيح وهو مُثُلٌ ينتهي إليها الشيء حتّى يختم عندها. أهـ.(/1)
هذه العبارة تكشف لنا حقيقة اللعبة السياسية التي نحن بصدد دراسة كلِّ أبعادها، هل يتصوّر أحد بأن هذه العملية يراد منها أن ترسو نحو شاطئ قوله تعالى (وأنّ إلى ربّك المنتهى)؟!
هذا هو التطبيع في دلالته اللغوية الجامعة لتنتهي عكس ما يدل عليه قوله تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون).
إنّ صاحب المعجم بعد أن أعطانا المفهوم الكلي بدأ في ذكر بعض الجزئيّات التفصيليّة مبيناً أنها جميعاً تصبّ في خانة واحدة وأنّ الأصل هو ما مضى فقال:
ومن ذلك طبع الإنسان وسجيّته، وطبع الله على قلب الكافر،ومنه أيضاً طبْع السيف والدرهم، وتطبّع النهر إذا امتلأ، وكذلك إذا حملت الناقة حملها الوافي الكامل فهي مطبّعة قال الشاعر:
وفي اللسان: طبع الإناء والسقاء طبْعاً وطبّعه تطبيعاً فتطبّع: ملأه. وألقى الشبكة فطبعها سمكاً أي ملأها، وقربة مطبعة طعاماً: مملوءة، قال أبو ذؤيب:
ويقال: قذذت قفا الغلام: إذا ضربته بأطراف الأصابع، فإذا مكّنت اليد من القفا قلت: طبعت قفاه.
قال ابن فارس: ومما شذّ عن الأصل، وقد يمكن أن يقارب بينهما، إلاّ أن ذلك على استكراه، قولهم: للدنس طبع، والمطبع الذي نجِّس. والقياس واحد، لأنه قد تكامل وختم .[معجم مقاييس اللغة، مادة ط ب ع].
وبعد هذه الجولة اللغوية نستخلص منها الآتي مما هو مراد منّا من التطبيع:
1- التطبيع عبارة عن الوصول بالمنطقة والأمة إلى ما هو مراد منّا من قبل اليهود والأمريكان، وأنت تعلم مسلسل النهايات "نهاية التاريخ"، "نهاية الأيدلوجيات"، "نهاية الدول والحدود"، "نهاية الوطنية" التي تصب في جانب أحاديّة الطرح .[العولمة رؤية نقدية، د. بركات محمد مراد، ص: 115].
2- أن يجعل ما يراد منا طبعاً فينا وسجيّة بحيث يزول مفهوم الولاء والبراء القائم على أساس الدين، ويكون هذا الوضع ملازماً لنا كملازمة الطبع للدرهم.
3- أن لا يقبل منّا أنصاف الحلول؛ لأن التطبيع هو الامتلاء بما يوضع فيه كامتلاء القربة.
4- الإشعار بأنّ هذا حملنا ويجب أن نقوم به كما تحمل الناقة حملها، وهنا يظهر الضغط على السلطة الفلسطينية بأنها لم تقم بواجبها نحو كبح جماح الإرهابيين حتى يتطبعوا.
وقد عبّر عن هذا "شاؤول منشا" في إذاعة بي بي سي بقوله:
"أنا أستغرب رفض العرب لقتل الفلسطينيين الإرهابيين مع أنه مثل ما حدث للإرهابيين في مصر وسوريا وتونس وتركيا ويجري الآن في الجزائر"، هكذا عبّر عن الاستراتيجية التطبيعية.
5- عدم الاكتفاء بضرب القفا من غير تمكن بل لا بد من شدّ الوطأة علينا حتى نتطبع كما يقال: طبعت قفاه. وهذا ما يجري الآن في فلسطين، ولكن إرادة المؤمن تأبى ذلك فتفجّر الفتاة نفسها إرضاءً لله وإرغاماً للشيطان.
6- تطبيع المسلمين، بمعنى سلخهم عن هويتهم وتنجيسهم لأنّ النجاسة المعنوية أشدُّ من الحسّية، لذلك قال الله: (إنّما المشركون نَجَس)، وقال عزّ وجلَّ للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل الخطاب المؤمنين: (وثيابك فطهّر)، بالمعنى الشامل لكلمة الثياب، التي تدلّ على الثوب وعلى القلب في الاستعمال العربي كما قال عنترة:
ونكتفي حول مفهوم التطبيع بهذه الدلالات الكامنة في الكلمة.
ثانياً: آثار التطبيع
إنّ أي عمل يقوم به الإنسان بإرادته له آثاره الإيجابية والسلبية، ويندر أن يتمحّض أي عملية لأحد الأمرين كما قال علماء المقاصد: إنّ الآخرة هي التي تتضمّن النعيم المحضٌ والعذابٌ المحض. وأمّا الدنيا فأعمالها متضمنة للنفع والضر، والشرع يوجهنا بأنّ نفعل ما غلب عليه النفع وإن كان في طريقه ضرر، ونجتنب ما غلب عليه الضرر وإن كان فيه بعض المصالح كما قال تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)، وقال: (إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).
الجوانب الإيجابية للتطبيع:
1- وقف الدمار الشامل لفلسطين مؤقّتاً، وحقن إراقة بعض الدّماء.
2- إخراج حكّام المنطقة من الحرج العظيم الذي يواجهونه مع شعوبهم على صمتهم المريب الذي لم يسبق له مثيل حسب علمي.
المضار من التطبيع:
1- لابد من النظر في قضيّة التسليح المستمر لليهود وحظره على الآخرين.
2- ينتج من التطبيع اتّفاقيّات أمنية وتبادل المجرمين ومحاكمتهم مما يجعل دول المنطقة وأنظمتها شرطيّاً يقوم بكبح مَنْ سموْهم بالإرهابيين من أبناء المسلمين.
3- الذي ينطبق عليه اسم الإرهابي قد حددته أمريكا بوضوح بقول رئيسها: "من لم يتضامن معهم فهو إرهابي، وهم لا يريدون أقوالاً، بل يريدون أفعالاً"، وكلّهم يكررون أنّ الرئيس الفلسطيني يعلم ما يجب عليه من المهام.
4- القدس عاصمة مَن تكون؟ ولا كلام حول أنّ هذه الأرض إسلاميّة ونحو ذلك، فهذا مسلّم به على أنّ ذلك حقّ لليهود؛ لأنه لا يمكن قيام دولة تطبّع غيرها بما تريد ولا أرضَ لها، هذا غير وارد في مفهوم السياسة.(/2)
5- الرفض المطلق من اليهود لعودة اللاجئين الفلسطينيين، وهذا ينتج منه أنّهم لا يجدون ملجأً في المستقبل؛ لأنّه بعد أن تطبع العلاقات لا يرضى اليهود ببقاء الإرهابيين المعارضين لها في دولة طبّعت علاقاتها معهم وتطالب بتنفيذ الاتفاقيات الأمنية.
6- والأدهى والأمر من ذلك كلّه تحجيم الدعوة في المستقبل القريب، ووقف الأنشطة الدعوية والمؤسسات الخيرية بإصرار أمريكا على ضرورة تجفيف منابع الإرهاب.
7- تمكين الأخطبوط اليهودي من بلاد المسلمين بحجّة التبادل الثقافي والاقتصادي والسياحة وإدخال كلّ ما هو مضرّ في بلاد الإسلام بحجّة الحصانة الدبلوماسيّة.
8- غدر اليهود ونقضهم للعهود والالتواء والمكر، والدليل العملي ما حصل بعد خمس جولات من المُباحثات في أوسلو ثم التّوصّل إلى اتفاق "إعلان المبادئ" المتعلق بمنح الفلسطينيين حُكماً ذاتيّاً، وسمّاه ياسر عرفات "سلام الشجعان".
وكان "بيريز" متحمّساً للإسراع في إبرام ذلك الاتفاق، فقد كان يراه فرصة تاريخيّة مع ما يقتضيه من الاعتراف بالعدو الذي لم يعد عدواً "منظمة التحرير"؛ لأنّ البديل هو كابوس لا يمكن تصوره، ولذلك قال: "إنّ البديل الوحيد لمنظمة التحرير -إذا تجاوزناها- هو "حماس"، وحماس لن تعترف أبداً بإمكانية السلام معنا". هذا على مستوى القادة، أمّا مستوى الشعب فقد أزعجهم رؤية عرفات في أرض الميعاد، ولكن طمأنهم "رابين" وخاطبهم قائلاً: "إنّه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي ولكن إعادة انتشار، والسلطة للفلسطينيين سوف تكون تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية، وحتّى الأرض فليس هناك اتّفاق بشأنها ولكن بشأن البشر الذين يسكنون عليها، أمّا الأموال التي ستأتي لتلك السلطة فلن تصل إلى أيديها مباشرة، بل ستمر عبر قنوات دولية تضمن سلامة مصارفها" .[انظر مجلة البيان، العدد 117، ص: 73ـ74].
9- وأْد الانتفاضة التي تمثل أمل الأمة بعد توكلها على الله عزَّ وجل.
مما تقدم يعلم بأن المصالح التي تجنى من التطبيع مصالح جزئية بالنسبة للمضار المذكورة، وعلى جزئيتها تُعتبر مؤقتة وعليه فإنها ملغاة أمام هذا الضرر الهائل الذي يُراد منه اجتثاث الدين وطمسه.
فلو اعتبرت مثل هذه المصالح بإزاء ما يتوقع من المضار لما استقام فرض الجهاد في سبيل الله المؤدي إلى الموت في سبيل بقاء الحق كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
ثالثاً : البديل
من المعلوم في دين الله أنك إذا منعت من محظور فينبغي عليك أن توجِّه الناس إلى بديل مباح فمثال العالم الناصح مثال الطبيب يحمي العليل عمَّا يضره ويصف له ما ينفعه، وقد منع النبي صلى الله علي وسلم صحابياً أن يشتري صاعاً من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح فقال: (بع الجَمْع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً) . [الجمع هو التمر الردئ المختلط، وانظر إعلام الموقعين: 4/159، والحديث أخرجه الشيخان].
ومن هذا المنطلق أُجْمِل البديل عن تطبيع العلاقات مع اليهود في إصلاح بين حكام العالم الإسلامي وشعوبهم، وتوحيد الرؤية حول مصالحهم وما يفسدهم حتى لا يتعامل أعداء الإسلام مع كل طرف على حدة بأجندة مختلفة، وهذا المجمل أوضحه فيما يأتي:
1- تحديد الهدف من وجودنا في هذه الدنيا على أساس (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقوله تعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكُم أحسن عملا) وعلى هذا فإننا لا نلوم أعداءَنا على ما يقومون به تجاهنا لأنهم حددوا أهدافهم، وقال الرئيس الأمريكي بأن هذه حرب صليبية وبناءً عليه فإنهم عاملون وفق أهدافهم، فهل نحن عاملون بهدف؟
وهذا ما علَّمنا الله بقوله: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنَّا عاملون).
2- أن يعي حكام المسلمين بأن الله يمهل الظالمين ولا يهملهم وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وقد مرَّ في قوله تعالى (فكلاً أخذنا بذنبه... )ما يدل على العبرة.
3- المصالحة مع الشعوب وأخذ الشرعية منها على أساس المنهج القرآني الذي يحكم الجميع وتمثيلها تمثيلاً صحيحاً وإعطاء فرصة الحوار وتبادل الرأي والشورى.
4- وعي الشعوب المسلمة لواجب الرسالة، وإعادة النظر في العقلية المثالية التي لا تعرف إلا الرضى المطلق أو الرفض المطلق، بل عليهم أن يعلموا ويفرقوا بين ما هو مطلوب أن يكون وما هو ممكن، وبعبارة أُخرى بين ما هو مطلوب الشرع في الجملة وبين ما ممكن في الواقع، بين ما هو مأمول وما هو مستطاع.
5- نبذ الخلاف والتنابز بالألقاب فيما بينهم، والوعي والتفريق بين مرحلة الدفع العام والبناء الداخلي، وعلى الأقل أن يحترموا عبودية الناس لله رب العالمين.(/3)
6- التفريق بين الكفار المحاربين لنا جهاراً وبسطوا إلينا أيديهم وبين من لم يكن كذلك حتى لا نستعدي العالم علينا، وحتى نعمل بروح الدعوة وإيصال البلاغ المبين والرحمة للعالمين لا بروح الانتقام ورد الفعل، وآيات النسيء في مرحلة الضعف خير هادٍ لنا إلى الصراط المستقيم: (وقولوا للناس حُسنا)، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهّم فأولئك هم الظالمون).
7- وفي ذلك كله ننضبط بالمعايير الهادية لما هو ثابت وما هو متغير، وذلك أن كل مظاهر الحياة الطبيعية في الرؤية الإسلامية إنما انبثقت عن إرادة إلهية تخضع لها "حاكمية تكوينية" وأنها لذلك تختص بقيم إيجابية خاصة بها، فإذا سلمنا بذلك علمنا أن الغاية النهائية للخلق هي تجاوب المخلوقات مع إرادة الخالق لها (إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحُقت)، وبالنسبة للإنسان فإن هذا الخضوع يسمى "إسلاماً" كما سبق في التوطئة، وعليه فإنه يتطلّب بداهةً تكييف رغبات الإنسان وسلوكه تكييفاً واعياً مع قوانين الحياة التي وضعها الخالق، وهذا يحدو بنا القول بأن لمفاهيم الخير والشر مقاييس ومعانيَ ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال والأزمنة. وما توصل إليه الإنسان من معاني العدل أو الظلم من خلال تأملاته لا ترتقي إلى درجة الصحة المطلقة، لكون تفكيره عُرضَةً للتأثر بزمن المُفكر ومحيطه وظروفه الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية....الخ.
فعالم الشهادة في التصور الإسلامي هو أحد عوالم هذا الكون ولكن ليس العالم الوحيد فيه، والحواس التي يُدرك بها الإنسان معارف عالم الشهادة هي حواس إنسان مخلوق، فهي إذاً محدودة القدرات والآفاق (فلا أقسم بما تُبصرون ومالا تُبصرون).
ولقد منَّ الله على هذا الإنسان كمظهر من مظاهر تكريمه ورعايته لمكانته بين المخلوقات بأن يسَّر له مصادر للمعرفة وسُبلاً لتحصيلها تتيح له علم مالا تُعلِّمه إياه ظواهر المادة في عالم الشهادة المحسوس، وعليه فإنَّ من وظائف الوحي الوظيفة المعرفية والوظيفة المعيارية . [انظر منهاج الإسلام في الحكم ، محمد أسد، . والأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، ص: 155، هشام عوض جعفر].
وبعد فإننا نوجه دعاءنا وحثنا لإخواننا في فلسطين مهد الأنبياء والمرسلين ونقول لهم استمروا في مقاومتكم: (إن تكونوا تألمون فإنَّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)، (إنَّا لننصر رُسلنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، (إنَّ الذين يُحادُّون الله ورسوله أولئك في الأذلّين، كتب الله لأغلبنّ أنا ورُسُلي إنَّ الله لقويٌّ عزيز).
فنسأل الله القوي العزيز أن يُعز الإسلام وأهله، وأن يهدينا سواء السبيل.
فإن كنت قد هُديت إلى الرشاد فلله الحمد والشكر والمِنّة، وإن لم أكنه فحسبي أنني اجتهدت.
والسلام على من اتّبع الهدى.
==================
التعقيب على ورقة (التطبيع مفهومه وآثاره) د. إسماعيل محمد حنفي*
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأُسلِّم على إمام المتقين وقائد المجاهدين وقدوة العلماء العاملين سيدنا محمد وآله وصحابته أجمعين.
وبعد، فهذه الورقة ـ على قلة صفحاتها ـ جاءت مليئة بالخير والعلم الوفير. نسأل الله أن يتقبل من صاحبها وأن يزيده علماً.
أحاول بدءاً أن أمرّ بما علّقتُ فيه على ما جاء في الورقة، ومن ثَمَّ أتناول بعض النقاط الأخرى لهذا الموضوع.
هذا التطبيع الذي ذُكر هنا بهذا التأصيل الجميل البديع للربط بين المعاني اللغوية الواردة في معاجم اللغة وبين واقع التطبيع الموجود الآن التي خلاصتها أن التطبيع بمعانيه المتعددة التي ذُكرت وما فيه مما هو موجود الآن فالجمع بين هذا وذاك شيء من السلبيات التي يُراد للأمة أن تقع فيها.
وأجد أنهم يُريدون بالتطبيع بأن تكون العلاقات طبيعية، تكون العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أعدائهم المحاربين.
وهذه العولمة التي صكَّت آذاننا كثيرا هذه الأيام؛ إنما هي مسخ للهوية وإنشاء عالم اللادولة واللاحدود واللاتمييز، وبث ثقافة بعض الدول المهيمنة والقوية باعتبارها مسيّرة لكل الثقافة؛ والسعي إلى الوصول إلى مرحلة لا يكون فيها كوابح لشعوب الدول المسلمة.
وكما يقولون في المصطلح المعاصر (الأمركة) أي محاولة أن تسود الثقافة الأمريكية وما يُسمى بالثقافة اليهودية في بلاد المسلمين ليسهل بعد ذلك الحصول على كل شيء؛ فهذه العلاقة بين التطبيع والعولمة علاقة واضحة.
وأجد كذلك علاقة بين موضوع التطبيع وموضوع السلام إذ يُفعل السلام أولاً ثُم يُقاد الناس إلى التطبيع وهو أكثر خطورة.(/4)
والجوانب الإيجابية المذكورة في الورقة ـ كما يوهم دُعاة التطبيع الناس بها ـ يمكن أن يُضاف إليها المصالح المتوهّمة التي يريدون الحصول عليها من وراء التطبيع كالنواحي الاقتصادية.
ومن الأمور المهمة في النواحي السلبية للتطبيع ما ذُكر في الورقة من رفض اليهود لعودة اللاجئين؛ أريد الزيادة عليها بما ذكرته الآية الكريمة: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخْرِجنَّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملتنا) فلن يقبلوا إلا بما نصّ عليه القرآن هنا. وكذلك ما يتكرر عن أساليب المستكبرين الظالمين التي ذكرها القرآن (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وكل هذا يحدث الآن في فلسطين.
أيضاً ما أشارت إليه الورقة من وقف الأعمال الدعوية والمؤسسات الخيرية، وأقول كذلك المؤسسات التربوية والتعليمية كما وقع التنبيه على ذلك.
قد يُقال: إن ما تريدون منعه بمحاربة التطبيع حاصلٌ فعلاً؛ فالغزو الثقافي موجود بواسطة الفضائيات وشبكات المعلومات؛ ولكن نقول: فرق بين أن تأذن بالشيء وتعتبره طبيعياً وبين أن تُعلن محاربتك له، ونحن نخشى أن تنشأ من وراء التطبيع أجيال ممسوخة تتربى على هذه الأفكار والثقافات.
أما إذا أعلنتَ الحرب على هذا الأمر ونشرتَ الوعي بين الناس فإنّ ما يحدث رغماً عنك فإثمه مرفوع عنك؛ ثم إنه يكون في نطاق ضيق إن شاء الله تبارك وتعالى.
ومن هذه السلبيات كذلك انكشاف بلاد المسلمين وهتك أسرار الأمة؛ فلا أمن ولا استقرار مع فتح أبواب التطبيع فإنهم يتغلغلون في بلاد المسلمين ويكشفون أسرارهم ويعرفون مكامن القوة والضعف من المسلمين ومن ثم يسهل عليهم محاربة المسلمين.
ومن أعظم أضرار التطبيع إبعاد الجهاد عن شباب المسلمين لأنه متى كانت العلاقات طبيعية بيننا وبينهم فلا تفكير في جهادهم.
وبالإضافة إلى البدائل التي ذكرها الشيخ، ما نأخذه من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لغير المسلمين، وهو قائم على دعوة هؤلاء للإسلام بدلاً من التطبيع معهم. والمقصود من الدعوة معناها العام الذي يشمل حتى القدوة الحسنة وإبراز محاسن الإسلام.
ثم البديل الآخر لحكام المسلمين الأخذ بكل أسباب القوة فلا بد من إعداد القوة بجميع صورها القوة المادية والعلمية وغيرها.
ولا يتأتى هذا بغير يقين وثقة في أحكام الله وصلاحيتها وثقة في وعد الله.
والبديل الذي يقدمه أهل العلم والدعوة والمصلحون في بلاد المسلمين هو تربية الأُمّة على العزة ونشر مفهوم الجهاد والدعوة في كل قطاعات المجتمع وتصحيح المفاهيم الخاطئة وإبعاد الهزيمة النفسية التي غُرست في المسلمين. ثم الاستمرار في الدعوة وجمع العلماء في صعيد واحد، وما هذا المنتدى الأنموذج الذي نراه إلا مثال على إمكانية هذا الأمر، فالدعاة كلهم مجتمعون على منصة واحدة يقدمون شيئاً للأمة يفيدها، وكلهم على قلب رجل واحد ولا مجال للاختلاف.
وأختم بإيراد أمور زيادة على الورقة، فقد يزعم البعض أن التطبيع من باب التُّقية المشروعة ولكن ذكر أهل التفسير ما يدفع هذا كما قال البغوي في تفسير الآية (إلا أن تتقوا منهم تُقاة): "من غير أن يستحل حراماً أو مالاً حراماً أو يُظهر للكفار عورات المسلمين". وكل هذا حاصل بالتطبيع؛ وتجربة التطبيع التي اتبعها بعض الأقطار وقع فيها إراقة دماء المسلمين إرضاءً للكافر وسجنهم وربما تسليمهم للكافر وكشف أسرار المسلمين، كل هذا قد وقع.
فلا يجوز أن يدرأ الإنسان عن نفسه أو أن تدرأ فئة محصورة عن نفسها ضرراً لتقع الأمة كلها في ذلك الضرر؛ فلا مجال لإدّعاء الضرورة.
وإن في هذه الأمة قوة جبّارة يُمكن أن تُثار بإذن الله (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) هذه آيات القرآن تحدثنا عمّا مر به كثير من الأنبياء من الضيق والعنت ولكنهم ما ضعفوا وما استكانوا(والله يحب الصابرين).
وأيضاً القول بأننا محتاجون إلى هؤلاء لا نستطيع أن نتخلى عنهم قولٌ مردود؛ فالأُمّة فيها من الخير ما لو تكاتفت واتحدت لاستغنت عن هؤلاء.
أيضاً هذا التطبيع فيه مخالفة لعقيدة الولاء والبراء، وفيه فتحٌ لذرائع مسدودة أصلاً بمقاطعة هؤلاء؛ ذرائع الفساد والتغلغل في الأمّة وتدمير ثقافة المسلمين. وما في التطبيع من تعظيم الكافر والإعجاب به ومن ثَمَّ الانقياد له. وما فيه من المسارعة نحو الكفار؛ فهذا منهي عنه حتى ولو كانوا أُولوا قوة وبأس (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة) هذه هي حُجتهم التي فنّدها القرآن الكريم فلا تُقبل منهم.
وفي هذا التطبيع من تجاوز الأحكام الدينية الثابتة في التعامل مع غير المسلمين لا سيما المحاربين منهم. وما فيه من إظهار لما أخبر القرآن عنه من شدة بُغض اليهود للمسلمين (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر).(/5)
ومن ذلك أن تكون العلاقة بيننا وبينهم مفتوحة لا إشكال فيها ولا قيود مما يُخالف الهدي النبوي (خالفوا المشركين).
وفي نقطة أخرى هل تم تقويم تجربة التطبيع عملياً من قِبل المسلمين قبل التفكير في ذلك.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أننا قد نمجّد التطبيع دون أن نشعر؛ مثل الإعجاب بالأمريكان ونشر أفلامهم بين المسلمين.
وكذلك بث ثقافة غير المسلمين يُساهم في هذا التطبيع وكذلك تربية أبنائنا ونشر الفن الخليع والترويج له؛ بحيث تراه في كل مكان كالحافلات والكافتريات....كلّ هذا فيه مساعدة للتطبيع.
وكذلك إعلاء شأن من ليس له مساهمة في خِدْمة الأمة على حساب أهل العلم، والاستهزاء بالدين ومظاهر التديُّن كذلك يُساهم في هذا الأمر.
علينا أيُها الاخوة الكرام أن ننتبه حتى نعرف ما لنا وما علينا.
ومن ثَمّ فإن هذا المنتدى يُراد منه أن نعرف من خلاله ما ينبغي علينا أن نفعله وأن نعيد هذه المفاهيم الإسلامية.
ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
============
التعقيب على ورقة (التطبيع مفهومه وآثاره) الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد*
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، ثم أمّا بعد:
فإن ثلث مقدسات المسلمين ـ المسجد الأقصى ـ قضيته قضية كل مسلم، واجب على أهل العلم أن يبيِّنوا للناس تاريخه، وأن يذكّروا بفضائله، وأن يجلّوا في أذهان العامة أنها مسألة دين وعقيدة، لا مجرد أرض وسياسة، وثمرة هذا كله جواب على سؤال كثيراً ماطرحه المخلصون: كيف السبيل إلى استرداد الأقصى؟ وأن يصير إلى حكم الإسلام وأهله؟
هذه القضايا أجاب عنها هذا الكتاب الفذ الذي استفرغ فيه أخونا أبو عبدالله الشيخ محمد ابن عبدالكريم جهده ووسعه، وأودعه ثمرة بحثه واجتهاده. قرأته كلمة كلمة فألفيته نافعاً مفيداً، أسأل الله أن يجزي كاتبه خيراً وأن يوفقه لمزيد إنتاج وتوثيق، وبالله تعالى التوفيق، صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
كتبه:
أبوعمر عبدالحي يوسف
السادس من ربيع الأول/1422
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالخلق جميع مصنوعاته، سبحانه وبحمده، عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، والصلاة والسلام على محمدٍ عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه, أرسله الله رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين, وحجةً على الخلائق أجمعين. وبعد.
فإن للمسجد الأقصى المبارك في نفوس المسلمين أهميةً خاصةً ومكانةً عظيمةً، يُكنّون له الودّ الشديد, والحب العميق, وما ذلك إلا لتفضيل الله إياه، فيما خلق الله، ثم اصطفاه واجتباه (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخِيَرة)[1], والله جلّ وعلا طيّب؛ لا يختار من موجوداته تفضيلاً وتشريفاً إلا ما كان شريفاً طيباً مباركاً. خلق السموات سبعاً فاختار منها أعلاها فجعلها مستقراً لملائكته المكرّمين. ومحطًّاً لأرواح عباده الأبرار المقربين، واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه، (فتبارك الله أحسن الخالقين)[2], وخلق الملائكة فاصطفى منهم رسلاً وسادةً، كجبريل وميكائيل وإسرافيل, وخلق من الماء بَشَراً, فجعله نسباً وصهراً, فاختار منهم نبيين مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً جماً غفيراً, ثم اصطفى منهم رسلاً مبشّرين ومنذرين حجة منه عليهم وعدلاً, وخصّ منهم خمسةً من أولى العزم منّةً منه عليهم وفضلاً, ثم اجتبى من خيار الخيار عاقِبهم وخاتمهم الآخر السابق الذي أمّهم جميعاً بمسجد الأقصى ليلة الإسراء, صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه الأنبياء الأصفياء.
ومن ذلكم كذلك اختيار الله تعالى البقاع المباركة الثلاثة من سائر مناحي الأرض التي دحاها. كما قال عزّ وجلّ مُقْسِماً بها: (والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين)[3] ؛ لأنها استنارت بنزول أعظم المنح السماوية, وتباركت بتنزُّل أفضل الكتب الإلهية.
ومن لطف الله تعالى بعباده, ورحمته السابغة وجُودِه أنْ خصّ لنا من المساجد والأمكنة الأماجد ماتضاعف فيه الحسنات, وتكفّر بالخطا إليه السيئات، ومسجدنا الأقصى المبارك من تلكم الأصقاع, تشد إليه الرحال، وتضاعف فيه الأعمال, وتحط في ساحته الأوزار، ولكن! أوّاه.. أوّاه..!! على المسجد المسلوب, مسرى النبي صلى الله عليه وسلم المغصوب, حُرِمنا من وصاله والسفر إليه لمناجاة الله العظيم وعبادته في فنائه. حيل بيننا وبينه ووُتِرنا نحن – هذا الجيل – باليهود وإذنابهم فمنعونا خيره. أواه.. أواه..!! المسجد الأقصى, كَلْمٌ غائرٌ نازفٌ في قلوبنا, فراقه غصةٌ نتجرعها في حلوقنا, ودمعه تجري في عيوننا.
اليهود اليوم مع أمريكا يثيرون نقعاً وغباراً هنا وهناك، يوارون به سوأتهم القادمة من زعم هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم فوق ترابه، ودويلات العرب مشغولة باللهو واللعب، مهمومة بالمنافسات الكروية، والأولومبيات الرياضية العاليمة:(/6)
ولكن.. هيهات.. هيهات خاب ظن اليهود، وطاش فألهم، فإن الله جعل الجولة الأخيرة للمؤمنين اتباع المسجد الأقصى من الموحدين، وليس لليهود وأمريكا وأشياعها (ولتعلمن نبأه بعد حين).
ولكأني بطائفة الحق قد قامت مستندة إلى ولاية الله وحمايته ورعايته، وأعداؤهم مستندون إلى ولاية الشيطان وغوايته، يقفون على أرض صلبة، آوين ظهورهم إلى ركن شديد، واثقين بدفع الله عنهم، فهم يخوضون معركة لله ليس لأنفسهم ولا لقومهم أو جنس لهم فيه نصيب، يقاتلون اليهود تحت راية واضحة سوية غير جاهلية عمية، في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وتحكيم منهجه وشرعته السنية، أرضاءاً له سبحانه، وقياماً بواجب الأمر والنهي والجهاد، وثأراً للحرمات والأعراض، فمن بقي منهم حياً فحياة عزة وكرامة، ومن فاز بشهادة نال جنات الخلد وزيادة.
سيعود المسجد الأقصى، وسننتظم جميعاً –بإذن الله- صفوفاً طويلة، وندك بأقدامنا حصباءها المستنيرة، ونجلس سوياً نسمع صوت إمامنا مدوياً مردداً قول الله تعالى : (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً)[4].
وكتبه:
محمد بن عبدالكريم الشيخ
الخرطوم 19/شعبان/1421
مستقصى فضائل المسجد الأقصى
أولاً: فضل المسجد الأقصى وبيت المقدس في القرآن الكريم:
(1) وصف القرآن الكريم في كثير من آياته بيت المقدس ومسجده بالبركة وهي النماء والزيادة في الخيرات والمنح والهبات؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)[5].
وقال تعالى (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)[6]. وهذا حكاية عن الخليل إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام.
وقال تعالى : (وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)[7]. وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى: (ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها..)[8].
وقال تعالى على لسان موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم)[9].
وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرةً)[10] وهي قرى بيت المقدس كما روى العوفي عن ابن عباس[11].
(2) وصف القرآن أرضها بالرَّبوة ذات الخصوبة وهي أحسن ما يكون فيه النبات, وماءها بالمعين الجاري. قال تعالى : (وجلعنا ابنَ مريم وأمّه آيةً وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعينٍ)[12]. "قال الضحاك وقتادة: وهو بيت المقدس قال ابن كثير: وهو الأظهر"[13].
(3) أنه القبلة التي كان يتوجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبل تحويلها إلى الكعبة, حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلت، وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول)[14].
(4) أنه أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة كما قال سبحانه: (واستمع يوم يُنادي المُنادِ من مكانٍ قريبٍ)[15]. "قال قتادة وغيره: كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة, وهي أوسط الأرض"[16].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ودلّت الدلائل المذكورة على أن (ملك النبوة) بالشام والحشر إليها, فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام, كما أن مكة أفضل من بيت المقدس, فأول الأمة خيرٌ من آخرها، كما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام, كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى[17].
(5) نَعَت الله تعالى المانعين لإقامة الشعائر فيه بأنهم أظلم البشر, وتوعدهم بالخوف عند دخوله, وبحلول الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الأخرى كما قال سبحانه: (ومن أظلمُ ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين)[18]. ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في (بختنصّر) لأنه كان خرّب بيت المقدس, وروي عن ابن عباس وعن قتادة قال: "أولئك أعداء الله النصارى حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا (بختنصر) البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس"، ومعلوم أن هذا التخريب بقي إلى زمان عمر رضي الله عنه[19]. ولكن الآن يعمّ حكمها كل مسجد مُنِعَ الناس من إقامة شعائر الله فيه سواء بالتخريب الحسي كما فعل (بختنصر) بمعبد بيت المقدس أو بصدّ الناسكين عنه كما فعلت قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: السنة الصحيحة وفضل المسجد الأقصى:
(1) مشروعية السفر إلى المسجد الأقصى لقصد التعبد:(/7)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُشَدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى)[20]. فالشارع ينهي عن السفر إلى أي مكان مسجداً كان أو غيره لقصد العبادة ما عدا المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب الحصر, ومما يدل على تعميم كل الأماكن إلا المساجد المذكورة مارواه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجتَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تعمل المطي الاّ إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيليا أو بيت المقدس يشك)[21]. قال ابن تيمية: "وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرهما من الأمكنة"[22].
(2) أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بني في الأرض:
لما في حديث الصحيحين عن آبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال: المسجد الحرام. قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة. ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فان الفضل فيه)[23]. وسيأتينا مزيد بيان لهذا الحديث عند الكلام عن تاريخ بناء المسجد الأقصى[24].
(3) إتيان المسجد الأقصى بقصد الصلاة فيه يكفر الذنوب ويحط الخطايا:
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه, وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده, و ألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إثنتان فقد أعطيهما, وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)[25]. ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز, فيدخل فيصلي فيه, ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها, لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام[26].
وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه فحسن[27].
قال ابن تيمية: "والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلاّ المسجد الحرام, فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد الطواف بالكعبة, واستلام الركنين اليمانيين, وتقبيل الحجر الأسود, وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به, ولا فيها ما يتمسح به, ولا ما يقبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء.. بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة. ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شرٌ ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة.. فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلةً يصلى إليها فهو كافرٌ مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل, مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك, فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟!.. فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات"[28].
(4) مدح النبي صلى الله عليه وسلم لمصلاه، وأن ثواب الصلاة فيه مضاعف:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعا، قال: أو قال: خيرٌ له من الدنيا وما فيها[29].
وهذا حديث شريف مشتمل على فوائد جمة منها:
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بيت المقدس لأن هذا كان قبل الفتح العمري ببضع عشرة سنة، ومن مؤيدات هذه البشارة حديث عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس.. الحديث)[30].
الثانية: أن صلاةً في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاةً فيما سواه عدا مسجدي مكة والمدينة.
(5) ثبات أهل الإيمان فيه عند حلول الفتن.
لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي, فظننت أنه مذهوب به, فأتبعته بصري, فعمد به إلى الشام, ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام)[31].
(6) أنها حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان.(/8)
عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: (يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك)[32].
(7) أهلها المقاتلون في سبيل الله من الطائفة المنصورة نصّاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وماحوله وعلى أبواب بيت المقدس وماحوله لا يضرُّهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)[33].
المسجد الأقصى عبر القرون
المسجد الأقصى* هو الاسم الذي أطلقه القرآن على مُتعبَّد النبيين في أرض فلسطين، (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله), ذلك المسجد الذي أٍسس على التقوى من أول يوم بُدئ فيه البناء, تولى إمامته الأنبياء, وتنسك بساحته الأولياء, واتخذ منبره الداعون إلى الإسلام عبر الدهور منارة ترشد السائرين, ومعلماً يهدي الحائرين.
والمسجد الأقصى عند العلماء والمؤرخين أشمل من مجرد البناء الموجود الآن بهذا الاسم, إذ هو اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام, فكل ما هو داخل السور الكبير ذي الأبواب يعتبر مسجداً بالمعنى الشرعي, فيدخل فيه على ذلك مسجد الصخرة ذو القبة الذهبية المنصوبة على المبنى المثمّن, والذي تنصرف اليه الأذهان كلما ذكر اسم المسجد الأقصى: وان كان بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد.. وأمّا "الصخرة" فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة, بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبيرفبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف, ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس, ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيداً في شريعة موسى عليه السلام، ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة فليس للمسلمين أن يخصّوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى, وكذلك الصخرة التي يعظمها اليهود وبعض النصارى[34].
لقد مر بيت المقدس ومسجده العتيق بعهود تاريخية حافلة بالأحداث نوجزها في السرد التالي:
أولاً: سكن الكنعانيون ساحل بلاد الشام في الألف الثالث ق.م, وعرفوا في الساحل الشمالي باسم الفينيقيين, بينما عرف القسم الجنوبي بأرض كنعان, فابتنوا أهم المدن فيها: أريحا، وأسدوس، وبيرسبع، وعسقلان، وبيسان، ونابلس "شكيم"، والخليل "أربع"، والقدس "يبوس"، وكان اليبوسيون أهم بطون الكنعانيين فبنوا مدينة القدس, وأطلقوا عليها "أورسالم" أي: مدينة سالم, كما أطلقوا عليها أسم "يبوس"، وكانت لغتهم عربية قديمة, ولكنها تختلف عن لغة القرآن التي نتحدث بها اليوم.
ولما تعرضت بلاد اليونان وجزر إيجة لغارات البرابرة اليونان، هربت قبيلة "بلست" من جزيرة "كريت" وغزت أرض كنعان، واستقرت في السهل الساحلي الجنوبي الغربي من يافا إلى غزة, وسمي هذا الجزء باسم فلسطين, وبقي الاسم على جزء من أرض كنعان إلى أن شملها كلها في العصور الحديثة.
ثانياً: تجلت قدسية بيت المقدس وما حوله – تاريخياً- بهجرة الخليل إبراهيم عليه السلام حوالي الألف الثاني ق.م, انتقل إبراهيم عليه السلام من "أور" بالعراق إلى أرض الشام "أرض الكنعانيين" وفي صحبته ابن أخيه لوط, وزوجه سارة بعد أن اعتزل أباه وقومه كما حكى القرآن (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)[35] (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)[36]. قال ابن كثير: وأوحى الله إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمدّ بصره، وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصبروا بعدد تراب الأرض, وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة, بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).[37](/9)
فغدا بيت المقدس بلد (إبراهيم) الخليل وموطنه, ومكث بها مدة, ثم خرج منها إلى مصر, إثر قحط دبَّ في الشام, ثم عاد إليها, خوفاً على زوجته من فرعون مصر آنذاك, الذي حاول الظفر بها ولكن الله تعالى أنجاها منه ورد كيد الكافر, فأطلق سراحها وأخدمها (هاجر)، التي ولدت بعد ذلك إسماعيل, فلما غارت (سارة) من (هاجر) وولدها, أمر الله تعالى إبراهيم خليله, أن يرتحل بهاجر وإسماعيل إلى أرض مكة المكرمة, وكانت مكة حين ذاك وادياً لا زرع فيه ولا ضرع، فتركهما هناك بأمر ربه، وعاد إلى أرض التيمن وحفظ الله هاجر والغلام, وفجّر لهما في الوادي ماءً عذباً أبرك من غيث الغمام, فانجفل إلى مكة لسكناه الأنام, وفي إحدى زيارات الخليل إلى مكة من بلاد الشام, بني بمعاونة ابنه إسماعيل الكعبة البيت الحرام, أشرف المساجد في أشرف البقاع, ودعا لأهلها باليمن والبركات وأن يرزقوا من كل الثمرات مع قلة المياه, وعدم الأشجار والزروع والثمار, وهنا ذكر بعض العلماء أنه لما عاد إلى مهاجره بيت المقدس بنى المسجد الأقصى.
من أول من بنى المسجد الأقصى؟
اختلف العلماء من أهل التفسير والحديث والتاريخ في تعيين أول من وضع المسجد الأقصى, وبتتبع أقوالهم واستقرائها, بدا لي أنها لا تخرج عن ثلاثة آراء:
الأول: إن آدم عليه السلام هو الذي أسس كلا المسجدين, ذكر ذلك العلامة ابن الجوزي, ومال إلى ترجيح هذا الرأي الحافظ ابن حجر في الفتح, واستدلّ له بما ذكره ابن هشام في كتاب "التيجان" أنّ آدم لما بني الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه. وبناء آدم عليه السلام الكعبة مشهور وفيه عدة آثار:
1- روى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (لمّا كان زمن الطوفان رفع البيت, وكان الأنبياء يحجونه, ولا يعلمون مكانه حتى بوّأه الله لإبراهيم وأعلمه مكانه).
2- روى البيهقي في "الدلائل" من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : (بعث الله جبريل إلى آدم فأمر ببناء البيت فبناه آدم, ثم أمره بالطواف وقيل له أنت أول الناس, وهذا أول بيت وضع للناس).
3- روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء (أن آدم أول من بنى البيت).
وهذا القول أثبت كما قال الحافظ في الفتح وعليه فإنّ الذي أٍسس المسجد الأقصى هو آدم نفسه أو أحد أبنائه لأنّ المدة الفاصلة بين المسجدين أربعون سنة فقط[38].
الثاني: أن الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي أٍسس المسجد, لأنّ بناءه للمسجد الحرام مشهور بنص القرآن: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)[39] وقوله تعالى : (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت)[40]، وإذا ثبت بالنص أنه بني الكعبة، فإنّ بناءه لمسجد الأقصى محتمل راجح لقرب العهد بين المسجدين. وممن نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (والمسجد الأقصى, صلت فيه الانبياء من عهد الخليل), وفي موضع آخر قال: (فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام), ولكن يرد على هذا القول إشكالان: أحدهما: أنّ بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة لم يكن وضعاً وتأسيساً وإنما كان رفعاً وتجديداً, والثاني, أنّه لم ترد آثار في تأسيسه للمسجد الأقصى, سوى ما عند أهل الكتاب: (أنّه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك, فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة, وضرب قبته شرقي بيت المقدس)[41] ولكن هذا الذي بناه مذبح[42]وليس بمسجد, ثم ان هذا كان أول قدومه الشام أي قبل مولد إسماعيل وبناء الكعبة بمدة, وإنما بناء مسجد بيت المقدس كان بعد وضع الكعبة كما في حديث أبي ذر في الصحيحين.
القول الثالث: أن الذي بناه هو يعقوب عليه السلام, ورجّح هذا القول العلامة ابن القيم رحمه الله حيث قال: (والذي أسسه هو يعقوب بن اسحق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار – أي أربعين سنة-..)[43] وهذا الذي ذكره ابن القيم موجود عند أهل الكتاب كما قال ابن كثير: (ثم مرّ -أي يعقوب- على أورشليم قرية شخيم فنزل في القرية واشترى مزرعة شخيم بن جحور بمائة نعجة فضرب هنالك فسطاطاً، وابتنى ثم مذبحاً فسماه بيت إيل إله إسرائيل وأمر الله بناء المستعلن له فيه وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام)[44].(/10)
وأوجه الآراء الثلاثة, وأدناها إلى الرجحان قول من قال: إنّ الذي أسسه هو آدم عليه السلام أو أحد أبنائه، وأنّ الذي وقع من البناء بعد ذلك إنما هو تجديد لا تأسيس, والآثار المروية تسند هذا القول وتجعله أقرب إلى الصواب والله أعلم, وأمّا حديث أبي ذر: (أي مسجد وضع في الأرض أوّل؟.. ) فليس فيه تعيين الواضع الأول المؤسس، ولا يصلح أن يكون تفسيراً لقوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت), ولذلك فان البخاري رحمه الله أورد الحديث في موضعين من كتاب الأنبياء، الأول في فضائل الخليل إبراهيم عليه السلام، والثاني في فضائل سليمان عليه السلام, فيفهم من صنيعِهِ هذا أنه أراد فضل بناء المسجدين, لا تعيين أول من أسسهما. ولهذا قال القرطبي: (إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما, بل
ثالثاً: المسجد الأقصى وعهود بني إسرائيل:
1- في عهد يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام وهو المعروف باسم "إسرائيل"، أعيد بناء المعبد على مكان الصخرة، وقصة ذلك عند أهل الكتاب: (أن يعقوب عليه السلام لما خرج من عند أبيه "إسحق" وأخيه "عيسو" وآخر ذلك اليوم أدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام فرأى في نومه ذلك عراجاً منصوباً من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعإلى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثِّر ذريتك وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك. فلما هبَّ من نومه فرح بما رأي ونذرلله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنينّ في هذا الموضع معبداً لله عز وجل, وان جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره، ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً يتعرفه به وسمى ذلك الموضع بيت إيل أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم[45]. ثم إن يعقوب عليه السلام خرج بأبنائه من بيت المقدس, والتحق بابنه يوسف الذي كان عزيزاً في مصر, بعد أن اجتاح بلاد الشام وكثيراً من البلدان سنوات عجاف.
2- وفي عهد موسى بن عمران عليه السلام أعظم أنبياء بني إسرائيل, لما أنجاه الله ومن معه من فرعون وملائه, وجاوز بهم موسى البحر, حثَّ بني إسرائيل على قتال من كان في أرض بيت المقدس من المشركين الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين, لأنها أرض لا ينبغي أن تكون ألا لعباد الله الصالحين كما قال تعالى عن موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين)[46] فأبو ونكلو عن الجهاد، فسلط الله عليهم الخوف وألقاهم في التية في مفازة سيناء أربعين سنة, ولما شعر موسى عليه السلام بموته ولما يدخل الأرض المقدسة, سأل الله تعالى أن يكون مماته قريباً منها رمية بحجر فلبى الله طلبه كما هو ثابت في الصحيحين[47].
3- أول جهاد في التاريخ لفتح بيت المقدس: كان في عهد نبي الله تعالى يوشع من بنون الذي خلف موسى وهارون في بني إسرائيل, فخرج بالجيل الثاني وما بقي من جيل الجبن والهزيمة, فأجرى الله تعالى على يده الفتح المبين, بعد أن محَّص الله المؤمنين, وقد وقع قبيل الفتح آية باهرة, ومعجزة ظاهرة, كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن, ولا آخر قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفها, ولا آخر قد اشترى غنماً أو خَلِفات وهو منتظر ولادها" قال : فغزا، فأدنى للقرية حين صلاة العصر, أو قريباً من ذلك, فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور, اللهم احبسها عليَّ شيئاً, فحبست عليه حتى فتح الله عليه..)[48], وهذا كان في فتح بيت المقدس كما في رواية أخرى: (إنّ الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس)[49]، وهذه معجزة فريدة لهذا النبي في أول غزوة لفتح بيت المقدس كما قال الشافعي : (وقد صحَّ أنَّ الشمس حبست على يوشع ليالي قاتل الجباريين)[50].
ولما دخل بهم باب المدينة بيت المقدس، أُمروا أن يدخلوها سجداً أي ركعاً متواضعين شاكرين لله عزَّ وجل على ما منَّ به عليهم من الفتح العظيم الذي كان الله وعدهم إيّاه، وان يقولوا حال دخوله حطة، أي حطَّ عنَّا خطايانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدّم، ولكنهم خالفوا ما أُمروا به قولاً وفعلاً، دخلوا الباب يزحفون على استاههم يقولون حبّة في شعرة، وفي روايةٍ حنطة في شعرة، وحكى القرآن عن ذلك في سورة البقرة والأعراف، وفي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فدخلوا على استاههم فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة) [51]
4- عهد داود وسليمان وتوسعة المسجد وبناءه العظيم:(/11)
بعد وفاة النبي يوشع عليه السلام تلى عهد القضاة واستمر مدة 400سنة, ثم عصر الملوك, وكان القضاة في آخر عهودهم قد دبّ فيهم الضعف, فسلب الله منهم الأرض المقدسة, فلجأ بنو إسرائيل إلى نبي لهم أن يبعث عليهم ملكاً يقاتلون معه الكافرين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم , فكان طالوت عليهم ملكاً كما هي القصة في سورة البقرة، وأراد طالوت أن يمحِّص جيشه كما محَّص النبي يوشع من قبل جيشه, ولكن كان ذلك هنا بطريقة أخرى كما أخبر القرآن الكريم: (قال إنَّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده) فما صفا منهم إلا قلة مؤمنة صابرة على الجلاد والطعان[52], فهزموا المشركين بإذن الواحد الديان (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء)[53]. ثم أصبح داود النبي ملكاً على بني إسرائيل, وكان فتح المدينة المقدسة في نهاية القرن الألف ق. م. وعندها تجهز داود لتجديد بناء مسجد بيت المقدس ولكن الله تعالى كتب بناءه على يد ابنه سليمان عليه السلام كما هو عند الطبراني من حديث رافع بن عميرة: (أن داود عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس ثم أوحى الله إليه: إني لأقضى بناءه على يد سليمان[54]، فتولّى سليمان عليه السلام البناء من بعد والده, فبنى المسجد على هيئة ضخمة فخمة, حتى نسب المعبد بعد ذلك اليه, وراح الناس يدعونه "معبد سليمان" قال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الاقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان ثم داود وسليمان زادا فيه ووسعاه, فا ضيف اليهما بناؤه[55], قال ابن تيميه: المسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناءً عظيماً[56].
5- السبي البابلي وتدمير معبد سليمان:
ضعفت المملكة بعد عهدها الزاهر, عهد سليمان عليه السلام, وعم الفساد في بني اسرائيل وطم فالقي الله بينهم العداوة والبغضاء فأصبحوا بعد الوحدة والاتفاق, مملكتين إحداهما في الشمال (السامرة) إسرائيل وعاصمتها شكيم (نابلي) وتسلط عليها سرجون ملك الأثوريين فاستولى عليها, والشانير مملكة (يهودا) في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس), غزاها الفراعنة فاستولوا عليها وعلى مملكة الشمال التي ظهر عليها الأشوريون أول مرة, ثم زحف (بحتنصر)(*) ملك البابلين على فلسطين فدمّر المسجد وبيت المقدس عام 587 ق.م وحقت كلمة العذاب على بني إسرائيل بما ظلموا , قال تعالى : (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فاذا جاء وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً)[57].
فبقي بيت المقدس كذلك خراباً يباباً عقوداً من الزمان, بعد أن كانت كثيرة البنيان, وفيرة السكان, ولعل حكاية القرآن عن قصة ذلك الرجل في قوله تعالى : (أوكالذي مرّ على قرية وهي خاويةٌ على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها, فأماته الله مائة عام ثم بعثته)[58] فربما كان وقوعها في تلك الحقبة التي ظل بيت المقدس فيها أطلالاً, كما قال ابن جريج وغيره: بلغنا أن عزيراً خرج فوقف على بيت المقدس, وقد خرّبه بُخت نصر, فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقابلة والمال ما كان !! فحزن , وقال وهب بن منبه وغيره إنما هو آرميا مرّ على بيت المقدس, والأشهر الأول, والله اعلم [59].
6- إعادة بناء المسجد وعهد أنبياء الله زكريا ويحي وعيسى عليهم السلام:(/12)
تمكن كورش الفارسي الذي تزوج من يهودية اسمهما (أستير) من احتلال بلاد الشام وضمها إلى دولته –فارس- عام 538 ق.م وقدم له اليهود مساعادات في فتحه بابل والشام ومصر, فسمح لمن يريد العودة من اليهود إلى أرض كنعان, وانتهى حكم الفرس عام 332 ق. م , وبدأ حكم اليونان باستيلاء الاسكندر المقدوني على بلاد الشام , واستمرّ حكمهم لبلاد الشام حتى عام 63 ق. م إذ استطاع القائد الروماني بومبي أن ينهي احتلال اليونان وبقي الرومان يحكمونها إلى أن أنقذها الاسلام عام 636 ب. م, وما يهمنا من تلك الأحقاب عهد الرومان, حيث تمكن اليهود في عهد (هيردوس) الملك على بيت المقدس من قبل الرومان من إعادة بناء المعبد (الهيكل) عام 20ق. م. وكان من أئمة مسجد الأقصى آنذاك زكريا نبي الله وابنه السيد الحصور يحي عليهما السلام, وكانا قد اتخذا من محراب المسجد ومنبره مجالاً للدعوة إلى الاسلام, وتقويم اعوجاج بني إسرائيل, ولما ولدت مريم البتول (خالة يحي عليه السلام) المسيح عيسى ابن مريم سلك ذات النهج في الدعوة إلى الله, وكان عوناً لهما في ذلك , ومن ذلك ما حدّث به الحارث الأشعري أن رسول الله صلى ا لله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحي بن زكريا بخمس كلمات: يعمل بهنّ ويأمر بني إسرائيل يعملون بهن وإن عيسى بن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات تعمل بهن, وتأمر بهن بني إسرائيل يعملون بهن فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم قال: إنك أن تسبقني بهنّ, خشيت أن أُعذب أو يخسف بي) قال (فجمع النّاس في بيت المقدس حتى امتلأ, وقعد الناسُ في الشرفات قال: (فوعظهم...) الحديث[60].
ولكنّ بني إسرائيل كانوا في غفلة عن ذلك كله, قست قلوبهم, وأُشربوا فيها حبّ الدنيا, ونسوا الدار الآخرة فتردت أخلاقهم, وسفهت أحلامهم وانتهكوا حرمة المسجد الأقصى, فاتخذوه سوقاً للصيارفة, وملعباً للحمام, بل همّوا بأنبيائهم , فذبحوا السيد الحصور يحي, ونشروا بالمنشار زكريا, وأنذرهم عيسى بن مريم بأمر الله الذي لا يُردّ عن القوم الظالمين, وقال لهم فيما قال: (إن هذا المعبد سيهدم ولن يبقى فيه حجر على حجر), فما انتهوا عن غيهم, ولا ارعوَوا عن بغيهم, بل تماروا بالنذر حتى سدروا في طغيانهم , ودبّروا مكيدة للمسيح ابن مريم ليقتلوه ويصلبوه ولكن الله تعالى أنجاه منهم , وبعد انصرام أربعين سنة من رفعه عليه السلام حاق ببني إسرائيل بأس الله وتنكيله, ومكر بهم إذ أرادوا المكر بأنبيائه وأوليائه، حيث وقف اليهود ضد المسيحية مع الوثنية الرومانية. ثم حاولوا الثورة على الرومان عام 70م فقاد القائد الروماني (تيطس) حملة دخلت بيت المقدس, وأعمل فيها القتل والحرق والنهب, وشرد اليهود في أجزاء الأرض.
7- بناء معبد وثني مكان المسجد الأقصى:
حاول اليهود الانتفاضة مرة أخرى عام 135م زمن الامبراطور (هادريان), فقاد حملة بنفسه حتى قتل من اليهود 580 ألفاً وقضي على وجودهم نهائياً في فلسطين, ومنعهم من دخول بيت المقدس, ودعاها (إيليا كابيتولينا), وما أدق وصف القرآن لذلك التدمير الثاني: (ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً)[61], وبنوا حيث كان المسجد الأقصى معبداً وثنياً أسموه (جويبتار), حتى اعتنق الرومان النصرانية [62] المحرّفة في عهد الامبراطور (قسطنطين) فهدم المعبد الوثني وبقي مكان المسجد خالياً من بناء مقام فيه بقية عهد الرومان النصارى.
8- امتهان النصارى المسجد الأقصى واتخاذ مكانه كُناسة:
لم يكن للرومان النصارى اهتمام بالمسجد الأقصى, بل اتخذوا مكانه مزبلة, حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة, وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة, وهو المكان الذي صُلب فيه شبيه المسيح ابن مريم, فظنت اليهود والنصارى أنه المسيح عليه السلام (وما قتلوه وماصلبوه ولكن شُبِه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلاّ اتباع الظن وما قتلوه يقيناً) [63]. فاتخذ اليهود مكان الصلب قمامة حتى اذا ظهر النصارى الرومان اتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين, واتخذوا مكان قِبلة اليهود مزبلة, فلما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه, بيت المقدس, وتحقق موضع الصخرة, أمر بازالة ما عليها من الكناسة حتى قيل إنه كنسها بردائه[64].
وهكذا كان عام 135م نهاية للوجود اليهودي في أرض بيت المقدس, وانتهت علاقة اليهود بفلسطين سياسياً وسكانياً أي أنه كان الخروج الأخير, وبقيت محرمة على اليهود حتى الفتح الإسلامي أي خمسة قرون, إلاّ ما مُنحته أجيال اليهود من القدوم إلى آثارهم كي يقوموا بالبكاء والنواح على مجدهم الزائل عند حائط البراق (المبكى).
رابعاً: المسجد الأقصى في عهود الإسلام:(/13)
تجلت أهمية بيت ا لمقدس في الإسلام عندما أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وبذلك وصل ما بين المسجدين العظيمين. فكان ذلك إيذاناً بانتقال الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى ظل الدين الخاتم والرسالة الأخيرة, وقد كانت صلاته عليه الصلاة والسلام باخوته الأنبياء في تلك الليلة المباركة نحو البقعة المباركة برهاناً ساطعاً على تبعية الشرائع السابقة, وانقيادها طوعاً للإسلام كلمة الله الأخيرة إلى بني الإنسان والجان. وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في صلاتهم شطر بيت المقدس, قبلتهم الأولى قبل المسجد الحرام.
وقد بدأت غزوات وسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام بغزوة دومة الجندل عام 5هـ وسرية مؤته عام 7هـ, وغزوة تبوك آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم عام 9هـ, ثم أخيراً بعث أسامة الذي انقذه ابوبكر رضي الله عنه.
1- الفتح العمري وبناء مسجد الأقصى:
بعد المعارك الحاسمة – اجنادين وفحل واليرموك – والتي شهدتها أرض الشام المباركة قدم أبو عبيدة عامر بن الجراح على عمرو رضي الله عنهما وهو محاصر إيلياء (القدس). ثم طلب أهلها الأمان والصلح, على أن يكون الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي يتولى بنفسه تسلم بيت المقدس وعقد الصلح, فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها, وتسلم بيت المقدس بنفسه من صفرونيوس بطريرك القدس عام 16هـ. وصدرت العهدة العمرية ونص فيها على أن لا يسكن إيلياء أحد من اليهود[65].
ودخل عمر رضي الله عنه القدس عن طريق جبل المكبر[66] ثم أتى موضع المسجد الأقصى فصلى فيه تحية المسجد, ويٌروى أنه صلى في محراب داود, وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد فقرأ في الأولى بسورة ص وسجد فيها والمسلمون معه وفي الثانية ببني إسرائيل (الإسراء) وجعل المسجد في قبلة بيت المقدس.
روى الإمام أحمد عن طريق عبيد بن آدم قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: أين ترى أن أًصلي؟ فقال: إن أخذت عني, صليت خلف الصخرة, وكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر: ضاهيت اليهودية. لا, ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتقدم إلى القبلة فصلى, ثم جاء فبسط رداءه, فكنس الكناسة في ردائه, وكنس الناس)[67].
وبعد انقضاء عهد الخلفاء الأربعة الراشدين تلى عهد الأمويين ثم عهد العباسيين ثم الطولونيين والاخشيديين, وفي كل تلك العهود كان المسجد الأقصى وبيت المقدس مصاناً معظماً في أيدي المسلمين قروناً طويلة, قام الخلفاء خلالها بإصلاحات وتوسيعات عديدة في مسجد الأقصى.
2- مملكة نصرانية في بيت المقدس في القرن السادس الهجري:
رُزء المسلمون بالدولة العبيدية (297 – 567) والمسماة زوراً بالدولة الفاطمية, ظاهرهم الرفض** وحقيقتهم الكفر المحض, وقد وصف ابن كثير وغيره من المؤرخين ملوك الدولة العبيدية بأنهم من أنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة, وقد ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات, وكثر أهل الفساد, وقل عندهم الصالحون والعلماء، وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية, وتغلب الفرنج على الساحل, وفي فلسطين قربوا اليهود والنصارى, وتزاوجوا منهم وأبرموا المعاهدات مع الدولة البيزنطية النصرانية.
قال الذهبي: وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد, لما شهدوه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه)[68], وفي حوادث سنة (381)هـ ضرب رجل من أهل مصر وطيف به في المدينة لأنهم وجدوا عنده كتاب الموطأ للإمام مالك)[69].
وقعت القدس تحت طائلة الحكم العبيدي في عهد الحاكم الفاطمي المعز لدين الله, حيث احتل قائده جوهر الصقلي فلسطين 969م فكان حكمهم لبلاد المسلمين آنذاك من الأسباب الرئيسية في النكبة الصليبية, حيث أقام الأوروبيون بالقدس مملكة نصرانية، حيث سارت كتلة الجيش الصليبي نحو إنطاكية فسقطت سنة 1098م. وتقدم الصليبيون نحو الجنوب دون أن يجدوا مقاومة تذكر نحو بيت المقدس واقتحموا أسوارها في سنة 1099م وأنزلوا بأهلها مذبحة قتل فيها سبعون ألفاً من سكانها، وعاثوا فيها فساداً وخراباً دونما اكتراث لقدسيتها, وحولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة, ومكاناً لسكن خيولهم[70].(/14)
ولكن الله تعالى قيض صلاح الدين الأيوبي, الذي بدأ طريق فتح القدس بإسقاط الدولة العبيدية الباطنية أولا, ثم ارجع مصر إلى السنة , وأقام الخطبة للخليفة العباسي بعد أن انقطعت الخطبة للعباسيين بمصر (208) سنة , ووحّد مصر والشام, ومن ثم قاد حملات مركزة ضد قلاع الصليبيين القريبة حتى هزم الصليبيين في معارك عديدة كان أهمها معركة حطين (قرب بحيرة طبرية), في 25/ربيع الثاني 83هـ, وفي السابع والعشرين من شهر رجب من نفس السنة وفي يوم جمعة أظفره الله بالفتح الأعظم فتح بيت المقدس, وعاد الأذان إلى منابرها, وعاد المسجد الأقصى بعد غياب أحد وتسعين سنة, وأرسل إليه ملك الإنجليز يساومه في أمر سكنى النصارى بيت المقدس فأجابه السلطان صلاح الدين: (إن القدس ليس لكم من حديث سوى الزيارة)[71]. فانتهى بذلك دور الصليبيين، فكانوا من الغزوات العابرة, ولن يكون حظ اليهود اليوم بمساعدة الغرب الصليبي بأفضل من مصير الصليبيين في الماضي بإذن الله تعالى الغالب على أمره.
المسجد الأقصى في قبضة اليهود
حكم الأيوبيون القدس بعد خروج الصليبيين، ثم حكمها المماليك ثم العثمانيون, وفي آخر عهد بني عثمان, كانت بفلسطين جالية يهودية صغيرة جداً لا تتجاوز تسعة آلاف وسبعمائة نسمة موزعين بين القدس والجليل وصفد وطبريا وباسم الامتيازات الأجنبية التي فرضت على الدولة العثمانية الضعيفة من قبل الدول الأوربية, أ قامت بريطانيا أول قنصلية غربية في القدس عام 1255هـ / 1839م, وجهت معظم جهودها لحماية الجالية اليهودية , واستقدامهم من الخارج لاسباب ودوافع استعمارية.
وفي عام 1895م / 1313هـ أصدر اليهودي النمساوي هرتزل كتابه (الدولة اليهودية) قرر فيه (إن المسالة اليهودية ليست مسألة اجتماعية أو دينية, بل هي مسألة قومية لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق تحويلها إلى قضية سياسية عالمية يتم تسويتها على يد الدول الكبرى مجتمعة)[72], وتمكنت الصهيونية في هذه الأثناء من استمالة الأوربيين لأ فكارها: فالمتدين النصراني الأوربي دخلت إلى نفسه فكرة شعب الله المختار وأرض الميعاد وهو يؤمن كنصراني بالعهد القديم, وأما غير المتدين فرغب أن يتخلص من استغلال اليهود وجشعهم عن طريق تأييد الصهيونية في البحث عن أرض يتجمعون فيها, فتستريح أوروبا منهم كما قال وزير خارجية قيصر روسيا وهيرتزل يحدثه ويطلب منه تشجيع الهجرة: (إننا نعطي مثل هذا التشجيع على الهجرة بأن نركلهم بأقدامنا)[73].
قدمت جمعية (أحباء صهيون) طلباً للقنصل العثماني في أوديسا (روسيا) , يطلبون الإقامة في فلسطين فكان رد السلطان عن الحميد: (تحيط الحكومة العثمانية علماً جميع اليهود الراغبين في الهجرة إلى تركيا بأنه لا يسمح لهم بالاستقرار في فلسطين) ,فتوالت الضغوط الديبلوماسية عليه حتى تدخل السفير الأمريكي فقال السلطان: (إنني لن أسمح لليهود بالاستقرار في فلسطين ما دامت الإمبراطورية العثمانية قائمة) ,وقابل هيرتزل السلطان عبد الحميد سنة 1896م أي بعد إصداره كتاب (الدولة اليهودية) بسنة, فطلب السماح بإقامة مستعمرة واحدة في القدس, فقال السلطان: (إن الإمبراطورية العثمانية ملك العثمانيين الذين لا يمكن أن يوافقوا على هذا الأمر فاحفظوا أموالكم في جيوبكم) ,نجح هيرتزل بعد هذه المقابلة الفاشلة بسنة بعقد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897م، وضم 204 مندوباً يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة من العالم, وحدد المؤتمر أهداف الصهيونية بما يلي: (إن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام) مما دفع السلطان عبد الحميد أن يصدر قراره المشهور الذي بلّغ به جميع ممثلي دول العالم في استنبول سنة 1900م بمنع الحجاج اليهود من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة شهور وعليهم تسليم جوازات سفرهم عند دخولهم أرض فلسطين.. وكل من لا يغادر البلاد خلال هذه المدة سيطرد بالقوة) ثم اصدر قراراً ثانياً سنة 1901م يحرِم فيه اليهود شراء أي قطعة أرض في فلسطين ولكن اليهود لم ييأسوا إذ شكل هيرتزل وفداً مع (قرصو) سنة 1902م وتوجه إلى السلطات بعروض مغرية , وطلب مقابلة السلطان فرفض السلطان عبد الحميد المقابلة, فدفعوا العروض إلى رئيس وزرائه (تحسين باشا), ما هي هذه العروض ؟:
1- مائة وخمسون مليون ليرة إنجليزية لجيب السلطان الخاص.
2- وفاء جميع ديون الدولة العثمانية البالغة 23 مليون ليرة إنجليزية ذهبية.
3- بناء أسطول لحماية الإمبراطورية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي.
4- تقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة.
5- بناء جامعة عثمانية في القدس.(/15)
فكان جواب السلطان عبد الحميد كما جاء في مذكرات هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل بألاّ يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض فهي ليس ملك يميني بل ملك شعبي.. فليحتفظ اليهود بملايينهم عندهم، و إذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن..)[74]، فأرسل إليه (قرصو) برقية يقول فيها: (ستدفع ثمن هذه المقابلة من عرشك ونفسك) وقابل هيرتزل المستشار القانوني للحكومة المصرية بهدف الاعداد للتعاقد على استعمار سيناء والعريش لمدة 99سنة, ولكن المشروع فشل بجهود الدولة العثمانية فكان لا بدّ من إزالة هذه الدولة التي أصبحت حجر عثرة في طريق استيطان اليهود في فلسطين, فاتبعوا الأساليب التالية:
1- تشويه سمعة السلطان عبد الحميد واتهامه بالرجعية والاستبداد حتى أصبح ممقوتاً عند شعبه لما تملكه الصهيونية من شبكات وسائل الإعلام.
2- محاولة إثارة النعرات القومية, داخل الدولة الع?
====================(/16)
التطبيقات الدعوية والتربوية للقواعد الفقهية
د. عبد الرحمن بن أحمد الجرعي جامعة الملك خالد – كلية الشريعة 17/3/1424
18/05/2003
هناك اتجاه أصيل في الكتابة الدعوية مفاده ربط المباحث الدعوية والتربوية بالقواعد الفقهية والأصولية ، وهو تجاه أملته الحاجة إلى التأصيل الشرعي لكثير من قضايا الدعوة ، خاصة بعد ظهور اجتهادات غريبة عن الحس الإسلامي في بعض أوساط الدعاة ، فالاستنارة بهذه القواعد يسهم في ضبط الاجتهادات الدعوية ،كما أن هذه القواعد توفر مادة خصبة للدعاة ليفيدوا منها في الاستدلال والتقعيد والتنظير.
إن كتابة المباحث الدعوية في ظل هذه القواعد الفقهية أو الأصولية يسهم في ربط الاجتهادات الدعوية برباط شرعي متين منضبط ، ويعطي للدعاة مرجعية موثوق بها خاصة أن القواعد الفقهية الكبرى تحظى باتفاق الغالبية من الفقهاء ، كما أنها تبين عوار التصرفات الشاذة ، التي تمارس في غفلة من الوعي ، وغلبة الهوى أو الجهل .
وهذا الاتجاه في الكتابة –على حسب علمي – حديث نسبيا ، وإن لم يغفل بالكلية ، وأنا هنا أشير إلى كتابات المعاصرين ، أما السلف فإن حديثهم عن المباحث الدعوية يأتي ضمن فنون متعددة ، ولعل الحاجة إلى إفراد المباحث الدعوية في تصانيف مستقلة – كما هو الحال الآن - قد أملاه التوسع في التخصصات .
ومن الكتابات التي رأيتها في هذا المجال ما كتبه الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني في كتابه القيم (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي) ضمن سلسلة (كتاب الأمة) وكذلك ما كتبه الدكتور محمد القباطي ضمن كتابه (فقه الكسب/ نشر : دار الأندلس الخضراء) حيث ألمح إلى بعض التطبيقات الدعوية ، وما كتبه ناصر درويش في كتابه (قواعد فقهية لترشيد الصحوة الإسلامية)
وما أرجو أن تضيفه هذه الدراسة هو : ملامسة الواقع الدعوي كتطبيق حي لهذه القواعد ، وإن لم تخل الدراسات السابقة من هذا الأمر ، فلهم فضل التقدم والسبق
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... ...
بسعدى شفيت النفس قبل التقدم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... ...
بكاها فقلت الفضل للمتقدم*
وقبل الكلام عن هذه التطبيقات أشير إلى نقطتين:
الأولى : أن الدعوة إلى الله قربة وعبادة (1)، وهي ممارسة تنطلق من مشكاة الشريعة ، فلا بد من مراجعة الخطوات ليعلم هل ممارساتنا الدعوية منطلقة من قواعد الشريعة ، أم أننا وجدنا من قبلنا على سنن فنحن نتبعهم ، وما دامت الدعوة عبادة فيجب أن تكون على مقتضى ما يرضاه الشارع الحكيم .
الثانية: أن هذه التطبيقات اجتهادية ، خاضعة للمراجعة والتمحيص والإضافة والحذف ، وتخضع كذلك لمعرفة البيئة الدعوية وما يعتريها من ممارسات ، وما يكون فيها من قضايا تحتاج إلى اجتهاد في تلمس الحكم الشرعي من خلال هذه القواعد ، التي هي بمثابة المنارات الهادية في الطريق اللاحب .
معنى القاعدة : هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام الجزئيات التي تندرج تحتموضوعها وتنطبق عليها(الوجيز في القواعد الفقهية الكلية ، للبورنو ص16)
القاعدة الأولى : الأمور بمقاصدها:
ومن أدلة هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) أخرجه الستة.وهذا الحديث مهم حيث ذكر بعضهم أنه يدخل في سبعين بابا من أبواب العلم ، وبعضهم قال هو ثلث العلم(الأشباه والنظائر،للسيوطي ص8،9)
ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة :
1-الدعوة إلى الله عمل يتقرب به إلى الله فلا بد له من نية، فحضور الفعاليات الدعوية والمشاركة فيها ، ودعوة الغير إليها ، والحرص على ذلك كل ذلك مداره على النية والقصد .
2-الباعث على الانضمام لركب الدعاة ما هو: شهرة أم مكاسب مادية، أم قضاء وقت الفراغ وطرد الملل والسأم ، أم الاستزادة من الثقافة والمعرفة . أم هو القيام بالواجب الشرعي . ولكل نية حسابها ، والنية الحسنة درجات بحسب أثرها ، ونفعها لصاحبها ، وللمجتمع .
3-العناية بأصحاب المواهب والقدرات المتميزة ما دافعه ؟ أهو عاطفة شخصية ؟أم هو عراك أقران ؟ أم هو كحرص أبي حنيفة على أبي يوسف حين ظل ينفق عليه عشر سنين حتى شدا في العلم ، وأصبح من أعظم قضاة الأرض وفقهائها
4-قد يسئ لك الشخص وأنت الداعية إلى الله أو المربي وهو غير قاصد للإساءة ، ولم يظن أنها تبلغ ما بلغت ، فحكمه يختلف عن حكم من تقصد الإساءة ، وكان يعلم بمآلات الأمور ، فاعتبار القصد هنا لازم . وإن كان الأصل أن الداعية إلى الله يجعل الكلام الذي لا يعطل مسيرته دبر أذنيه ، ولا يشغل نفسه بتتبع مقولة فلان وفلان . ومن ألطف ما قيل في ذلك قول الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي :
وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... ...
تحية ذي الحسى فقد يرقع النقل
فإن دحسوا بالشر فاعف تكرما ... ...
وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... ...
وإن الذي قالوا وراءك لم يقل**(/1)
5- مما يجب الانتباه إليه الشهوة الخفية لدى الداعي بإظهار علمه وتنقص غيره بالجهل ، وهذا مسلك دقيق يجب التحرز منه وتعهد النفس دائما حتى تجتنبه . وقد نبه الغزالي – رحمه الله – إلى ذلك حيث قال :
"إن العالم –عند الدعوة – قد يرى عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل، فربما يقصد الإدلال وإظهار التميز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل "(الإحياء ج2ص358) ثم قال " هذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته ، فإن للاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة" (الإحياء ج2ص358) ثم بين الغزالي - رحمة الله المعيار الذي يعرف به هذا الأمر فقال " وله محك ومعيار ينبغي أن يمتحن المحتسب به نفسه ، وهو أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه ، فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه ، وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب ، فإن باعثه هو الدين "(الإحياء ج2ص358)
وهو على خير ، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع هوى نفسه ، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه ، وليدع نفسه أولا(أنظر: إحياء علوم الدين ج2ص358)
وقد عقب الشيخ صالح بن حميد على قول صاحب الإحياء" أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه" فقال"هذا عندي محل نظر ، وبخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم : "فوا الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (متفق عليه من حديث سهل بن سعد ) فالتنافس في هذا تنافس في الخير ، ومع قوله تعالى : " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا )(سورة فصلت ، الآية 33) ويتلمس الإخلاص وصلاح النية في غير المنافسة الشرعية"(معالم في منهج الدعوة ص 28، 29)
6-عقد الإمام النووي –رحمه الله –في كتابه (الأذكار) بابا بعنوان "الغيبة بالقلب" وفيه قال " اعلم أن سوء الظن حرام مثل القول فكما يحرم أن تحدّث غيرك بمساوئ إنسان ، يحرم أن تحدّث نفسك بذلك وتسيء الظن به "(الأذكار، ص464)(2) وقد ذكر الإمام الغزالى في إحيائه كلاما قريبا من هذا(3)وإذا وقع في قلبك ظن السوء فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق ، وقد قال تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )( الحجرات ، آية 7) فلا يجوز تصديق إبليس ، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمال خلافه ، فتنفر منه ، وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس ، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك ، وإن المؤمن ينظر بنور الله ، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته .... ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه ؛ فإن ذلك يغيض الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك مثله خيفة اشتغالك بالدعاء له(4).
وهذا معنى لطيف أتمنى أن يفطن إليه الدعاة والمربون ، وأن يغرسوه في نفوسهم ، وفي نفوس أبنائهم ، بدلا من طغيان نفسية الكراهية التي تجتاح بعض النفوس وتشعل حرائق البغضاء في أرجائها
7- النصيحة إحسان متمحض للمنصوح يصدر عن شفقة ورحمة ، ويجب أن يكون مراد الناصح بها وجه الله عز وجل ، ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر ، وشتان بين من قصده النصيحة ومن قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى(انظر: معالم في منهج الدعوة ص44، 45)
القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك
وهذه قاعدة مهمة تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه أو تزيد(5)ومن أدلة هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"(6).
قال الإمام النووي رحمه الله " وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ، ولا يضر الشك الطارئ عليها"(7).
ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة :
1.وجوب إشاعة منهجية التثبت عند الحكم على الأشخاص أو الهيئات أو المؤسسات عموما، ومما يؤسف له أن هذه المنهجية تتوارى عند التطبيق لدى بعض فئات الدعاة خاصة عندما تكثر الإشاعات ، ويعز المصدر الموثوق به ، لكن المسلم له منهجية تميزه عن غيره ، فهو لايتمضمض بأعراض البرءاء ، ولا ينقل من الأخبار إلا ما تيقن منه.(/2)
2.المسلم يأوي إلى جبل من اليقين بأن الأصل في المسلم البراءة ، والسلامة ، والعدالة ، وحسبك أن الله لم يكلفك –أخي المسلم – أن تنقب عن صدور الخلق فتعلم أن فلانا قال كذا أو فعل كذا ، فكل نفس بما كسبت رهينة ، لكنك تكون في أعظم الحرج إن نجح الشيطان بأن يجعلك مطية لقول الزور ، وخاصة حينما يكون القائل في مكانة مرموقة من محبيه وسامعيه .
يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... ...
ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
ومن الأسف أن كثيرا من الأخبار التي تلاك في أوساط أهل الخير هي في القائمة الضبابية بين اليقين والشك ، ومما يزهد الكثير من الناس في التثبت رغبته في السبق بنشر الخبر ، أو التمدح بسعة العلم ، والإحاطة بالأمور ،وسعة العلاقات التي تتيح أن يطلع على ما لم يطلع عليه غيره .
3.الانسياق وراء الظنون والشكوك له آثار مدمرة على العمل الإسلامي ومنها توهين الصف المسلم ، بنشر الإشاعات ، وأحيانا تكون هذه الإشاعات موجهة إلى رموز الخير ممن لهم في النفوس مكانة وتقدير ، فتحدث البلبلة ، والشقاق ، وعندها يرقص الشيطان فرحا على أشلاء وحدتنا .
،ومن الآثار كذلك إضعاف الثقة في أهل الدعوة وأهل الإصلاح والتوجيه .
يا رجال العلم يا ملح البلد ... ...
ما يصلح الملح إذا الملح فسد
ومما أذكره كتطبيق لما سبق أنه في ذات يوم قرأت في احد المنتديات في الانترنت أن أحد الأماكن العامة التي يحضرها النساء قد حصل فيه منكر عظيم يجب المسارعة إلى إنكاره ، وصاحب الخبر يهيب بالجميع التصدي لهذا المنكر فسألت إحدى قريباتي –ممن أعرف حرصها على إنكار المنكر- عن ذلك فأفادت بعدم صحة الخبر جملة وتفصيلا خاصة وأن مثل هذا الأمر لو حصل لعلم به الجميع ممن حضر .
ومن آثار الانسياق وراء الشكوك أن الباب يبقى مفتوحا لأعداء الدين ممن يسعدهم اشتغال أهل الحق ببعضهم البعض فيبقون في مأمن من تماسكهم ووحدتهم ، فيضعون الأحابيل ويروجون الإشاعات التي مهر فيها الأعداء من لدن ابن سبأ وحتى اليوم :
لا أنت قلت ولا سمعت أنا ... ...
هذا كلام لا يليق بنا
إن الكرام إذا صحبتهموا ... ...
ستروا القبيح وأظهروا الحسنا
اعتماد منهجية الحقائق الموثقة بالدلائل والإحصائيات والأرقام عند اتخاذ أي قرار أو تصرف ، بعيدا عن الانفعالات العاطفية ، وردود الأفعال التي لا تعني حل المشكلة بمقدار ما تعني الانفعال بالمشكلة وأثرها على النفس . وبعض الحلول التربوية للمشكلات –أو ما يتوهم حلا- تكرس المشكلة وتزيدها تفاقما
القاعدة الثالثة : المشقة تجلب التيسير
وهذه القاعدة أصل في بناء الشريعة على اليسر دون العسر ، وأن العسر إذا وجد ، فإن له تيسيرا في الشريعة ، بشرط أن يتحقق فيه معنى العسر دون توهم
ومن أدلة هذه القاعدة قوله تعالى(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(8)وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)(9) وقالت عائشة رضي الله عنها( ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما)(10)
ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة :
1.اليسر والبشارة أصل في أمور الدعوة ، وهذا يقتضي البعد عن التكلف والتنطع والإعنات ، وتحميل الناس ما يشق عليهم أو ينفرهم مما ليسوا ملزمين به شرعا . وهذا يقتضي مراجعة الأساليب الدعوية ، فإن بعضها فيه نوع إثقال يمكن التخفف منه ، وربما أورث نتيجة عكسية ، وأضرب مثالا واحدا لاحظته أثناء المشاركة في بعض البرامج التربوية للمدارس . فمن المعلوم أن القدرة الاستيعابية للشخص عند إلقاء المحاضرات تقل مع طول وقت المحاضرة ، وتكاد أن تصل للتلاشي إذا زاد وقت المحاضرة عن الساعة خاصة لدى صغار السن ، هذا إذا كان الإلقاء تقليديا لا تجديد فيه، ولا وسائل للإيضاح . وهذا يتطلب المراجعة لهذه الوسائل ، بعدا عن المشقة المتوقعة ، وطلبا لتجويد العمل .
2.عندما يجد العالم أو المربي عناصر أقل جودة لتحمل عنه العلم وأبجديات الدعوة ، فلا يزهد فيها بحجة عدم وجود العناصر الممتازة من طلاب العلم، فإن حاجة المجتمع ماسة لكل أبناءه ، ولو ذهبنا إلى هذا الاشتراط لخلت كثير من الثغور . ولكنه التسديد والمقاربة التي أمرنا بها شرعا .
3.حين يصطدم الداعية ببعض المعوقات التي لا يخلو منها طريق الدعوة اللاحب - كما قال تعالى (ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون .ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن .الكاذبين)(العنكبوت ، آية1-3) – ويترتب على هذه المعوقات عدم قدرة الداعي على إنجاز الواجب الشرعي المناط به ، أو القصور عن بلوغ المدى الذي اختطه لنفسه ، فإن واجبه أن يسعى لتذليل الصعاب على قدر الجهد والطاقة ، وبعد ذلك فما يعجز عنه هو معذور فيه ، وليس أهلا للّوم بعد ذلك(/3)
4.الداعية والمربي حين يواجه واقعا يحتاج إلى صبر ، وتدرج في الإصلاح فهذه الحالة هي من العسر الذي يجلب تيسيرا ، بل لابد من التدرج حينئذ ، باعتبار أن الدعوة واجبة ، ولا يتم القيام بها إلا بهذه الطريقة ، والقاعدة الشرعية تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(11)5.الدعوة إلى الله عز وجل واجبة على كل قادر ، وهي حمل عظيم لا يستطيع النهوض به فرد واحد ، فوجود هذا العبء العظيم يقتضي التعاون في أدائه ، وتوزيع المهام على كل قادر ، وألا نترك أهل الهمم العليا وحدهم في الطريق ، بل نتعاون تعاونا تكامليا ، دون أن ننظر إلى قلة إسهام البعض بعين الانتقاص ، بل نكون كما قال إقبال :
شرار الفأس دع من قال عنه ... ...
أمن فأس؟ أمن حجر يكون؟
القاعدة الرابعة : الضرر يزال
ومفاد هذه القاعدة : أن الضرر في الإسلام ممنوع بكل حال ، ولابد من إزالته بالكلية إن أمكن ، فإن لم يمكن وتعين ارتكاب أحد الضررين أو الأضرار فيرتكب أهون الضررين لدفع أعظمهما ، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، كما أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
ومن أدلة هذه القاعدة ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال " لا ضرر و لا ضرار"(12)
ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة :
1.إلحاق الأذية بالمسلم ممنوع بكل حال ومن ذلك : غيبته ، ويحسن هنا التحذير من تلبيسات إبليس في هذا المجال وتزيينه للبعض بأن هذه ليست غيبة وإنما هي من باب النصح للمسلمين ، والتحذير من مسلك فلان، ولكن هذا ليس على إطلاقه فهذا مسلك دقيق ، وللتحذير من أصحاب البدع والأهواء ضوابط نبه عليها أهل العلم – ليس هذا موضع بسطها - وليست أعراض المسلمين كلاء مباحا يسومه من شاء ، فيجب أن يحذر الداعية الهوى الدفين وحظوظ النفس ، وقد تقنع الخلق وتموه عليهم ، وقد تنطلى تلك الحيل عليهم ، ولكن هل راقبت من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
ومن صور إلحاق الضرر بالمسلم الوشاية به ، والإرجاف ، وإطلاق الشائعات الكاذبة ، والمساهمة في تعطيل مشروعه الدعوي ،وانتقاصه والتهوين من شأن عمله في الدعوة إلى الله عز وجل ، بحجة مخالفته لك في الاجتهاد ، أو سلوكه طريقا تراها أنت غير مجدية ، وقد قال الإمام مالك رحمه جوابا لمن أنكر عليه قعوده عن الخروج في سبيل الله مجاهدا (أرجو أن يكون كلانا على خير وبر(13)وقبل ذلك كان في الصحابة حسان بن ثابت للشعر وخالد للجهاد ، وزيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم ، وبلال للأذان ،ولم ير أحد منهم أن عمل الآخر عبث أو مضيعة للوقت ، وإن كانت الأعمال في نفسها تتفاضل
2.لا يتخذ المسلم من أذية غيره له ذريعة إلى أن يؤذي هذا الغير إلا من باب قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله)(سورة الشورى ،الآية 40)وقوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(سورة النحل الآية 126)وهذا هو الأصل بالنسبة للفرد المسلم ، لكن بالنسبة لعموم الدعاة وأهل الخير فقد يختلف الأمر فيما إذا كان المعتدي أو المضار قد ثلم عرض مجموع أهل الخير وشوّه سمعتهم بالزور والبهتان والطعن الكاذب ، فقد يندب رد عدوانه وإيقافه عند حدّ لا يجاوزه ، بل والمطالبة له بالاعتذار أو إكذاب نفسه لأن المصلحة هنا عامة ، والتساهل في هذا الأمر يفضي إلى مزيد من التطاول الذي لا يقف عند حد .وعند الرد لابد من مراعاة الضوابط اللازمة من تخصيص هذا الردع بالفاعل دون أسرته وأهله ، وأن يكون الردع على قدر فعله، ثم قبول إنابته والكف عنه حينئذ.
3.التصرفات التي تلحق الضرر بالفرد والمجتمع ممنوعة ، ويحكم على هذه التصرفات من خلال الموازنة بين المصالح والمفاسد للعمل الدعوي . وكذلك يجب التركيز على مآلات الأمور وعواقبها دون الاكتفاء بالنظرة الآنية القاصرة
4.الحاجة إلى إحياء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات ، وهناك كتابات ناضجة ، ولله الحمد ، من ناحية التأصيل ، لكن الناحية التطبيقية في حاجة إلى المزيد
القاعدة الخامسة : العادة محكمة
والعادة في اللغة: مأخوذة من العود أو المعاودة بمعنى التكرار ، ومادة العادة تقتضي تكرار الشيء وعوده تكررا كثيرا يخرج عن كونه وقع بطريق الاتفاق(المنثور في القواعد للزركشي 2/357،358)والعادة هي العرف:"عادة جمهور قوم في قول أو فعل(المدخل الفقهي العام،للزرقا 2/840)
وهذه قاعدة أصيلة تعني أن الأعراف معتبرة شرعا طالما أنها استوفت الشروط الشرعية . ومن أهمها : ألا تخالف -هذه العادة أو العرف- نصا شرعيا ، وان يكون هذا العرف مطّردا أو غالبا، وأن يكون العرف موجودا أو قائما عند إنشاء التصرف ، وألا يعارضه تصريح بخلافه، وأن يكون هذا العرف ملزما(القواعد الكبرى في الفقه الإسلامي ، د. عبد الله العجلان ص94)
ومن الأدلة على اعتبار هذه القاعدة:(/4)
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : قالت هند أم معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل على من جناح أن آخذ من ماله سرا؟ قال : خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)( أخرجه البخاري في صحيحه برقم(2211) 2/115)
قال الحافظ ابن حجر" فأحالها على العرف فيما ليس فيه تحديد شرعي"(فتح الباري 4/407)
وكذلك ما روي مرفوعا وموقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه ، والموقوف أصح (ما رواه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)(مسند أحمد 1/379)
قال ابن القيم في أعلام الموقعين (3/78 )" وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوى في طول الأيام ، فمهما تجد العرف فاعتبره ، مهما سقط فألغه ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به ، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك"(14)
ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة :
ما يوجد لدى الدعاة من المناشط الدعوية التي تحتاج الى ترتيب واستئذان وضبط للأمور التي لا يستقيم أي عمل إلا بها ، فلا تنكر هذه الأعراف ، وهي معتبرة ، طالما أنها لا تخالف نصا شرعيا أو إجماعا، وطالما كانت مشتملة على مصلحة تعود على الدعوة بالخير ، ومما نص عليه الفقهاء "أن المعروف بين التجار كالمشروط بينهم" ( المدخل الفقهي العام 2/1001)
فكذلك الدعاة ، فإن ما تعارفوا عليه مما استوفى الشروط السابق ذكرها يعد معتبرا ، ومحكما .
والله أعلم ، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
________________________________________
*(مقدمة مقامات الحريري ص6 والبيتان لعدي بن الرقاع وقيل لغيره)
**(شرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/3) والرسول المعلم لعبد الفتاح أبوغدة.، ص 76
1- المقصد بالعبادة هنا : العبادة بمعناها العام ، دون التعبد المحض
2- أشار الإمام الغزالي إلى أن المقصود بالمحرم هو عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضا معفو عنه ، ولكن المنهي عنه أن يظن ، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب ، فقد قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات. الآية 12) ( انظر: إحياء علوم الدين ، 3/159)
3 -إحياء علوم الدين ، 3/159)
4-الأذكار ، للنووي ،ص465،466، وانظر:إحياء علوم الدين،3/159، 160
5- انظر :الأشباه والنظائر ، للسيوطي ص 51، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية،للدكتور محمد صدقي البورنو،ص169
6 -صحيح مسلم، كتاب الحيض ، باب الليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك ، 1/276
7 -شرح النووي على صحيح مسلم 4/49
8- سورة البقرة الآية 185
9- صحيح البخاري ، باب الوضوء ، باب صب الماء على البول في المسجد، 1/91
10- صحيح البخاري ، كتاب المناقب،باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم،2/518
11 - لقواعد الفوائد الأصلية ، لابن اللحام ، ص130، المكتبة العصرية – بيروت .
12-أخرجه الدار قطني في سننه 3/77 ، الحاكم في مستدركه 2/57 ، 58 ، والبيهقي في السنن الكبرى 6/69 ، ومن طريق آخر رواه الإمام أحمد في المسند 1/313،5/327 ، ورواه الإمام مالك في الموطأ (2/745) مرسلا . والحديث قال عنه الإمام النووي: حسن .(الأربعين النووية مع شرحها ص 74) وانظر : إرواء الغليل للألباني 3/408.
13 -جاء في سير أعلام النبلاء " أن عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل ، فكتب إليه مالك : إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق ، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الجهاد . فنشر العلم من أفضل البر ، وقد رضيت بما فتح لي فيه ، ما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر" (السير 8/114)
14- موضوع هذه القاعدة يعد موضوعا غضا يستجيب لحل كثير من المسائل والحوادث الجديدة ، وذلك لأنه يتضمن كثيرا من المسائل التي تتمتع بسعة الشريعة ومرونتها ، ومن تأمل هذه القاعدة علم سعة الفقه الإسلامي وقدرته على إيجاد الحلول للنوازل الحوادث المستجدة ، مما يؤكد أن هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان (انظر : القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها ، د. صالح السدلان ص 326 ، 327)(/5)
التطرف الديني الأمريكي وتأثير اللوبي اليهودي
من مقال الدكتور ادوارد سعيد بمجلة " الكتب : وجهات نظر " عدد إبريل 2003 - ص 20
( والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبدي بشكل علني تمسكها بأهداب الدين ، فحياة الأمة مشبعة بالإحالات على الله من قطع النقد إلى المباني العامة إلى الشهادات اللغوية من مثل " بالله نؤمن " " إلى بلاد الله " " بارك الله أمريكا " إلخ ، والقاعدة التي يقوم عليها حكم بوش مؤلفة من حوالي 60 إلى 70 مليون رجل وامرأة ، يؤمنون مثله بأنهم التقوا يسوع المسيح وأنهم وجدوا على الأرض من أجل إتمام عمل الله في بلاد الله . …
إننا بإزاء ديانة نورانية نبوية ذات قناعة راسخة برسالتها الرؤيوية التي لا علاقة لها ألبتة بواقع الأمور وتعقيداتها ..)
ومن مقال الدكتور ديفيد بلانكس أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمجلة " الكتب وجهات نظر " بعدد إبريل 2003 ص
( قد يكون مستغربا بالنسبة لبعض غير الغربيين أن يكتشفوا أن الأمريكيين عموما شديدو التدين ، فالأمريكيون الذين يؤمنون بالله أكثر بكثير من نظرائهم الأوربيين والإسرائيليين ، وهم أكثر انتظاما في حضورهم الصلوات في أماكن العبادة ، ، وتبين دراسة أجريت أخيرا بعنوان " مسح التعرف على الهوية الدينية الأمريكية عام 2001 أن الأمريكيين اقل علمانية مما يفترضه كثير من غير الأمريكيين ، وقد تبين من الاستطلاع أن 75 % وصفوا موقفهم بأنه ديني أو ديني إلى حد ما )
ويقول ( لماذا يؤيد الإنجيليون إسرائيل ؟ هذا ليس نتيجة للإعلام أو الضغط اللوبي اليهودي أو أي عامل خارجي آخر ، ومع أن قيادتهم تتحدث بلغة الأمن فإن معظم المؤمنين يؤيدون إسرائيل لسباب دينية ، أي تلك الأسباب التي وردت في سفر الرؤيا ، آخر أسفار العهد الجديد الذي يتنبأ بهرمجدون ، وهي المعركة الأخيرة مع المسيخ الدجال التي سوف تنتهي بانتصار المسيح وبداية مملكته على الأرض ، وفي استطلاع أجرته معهم المقابلات أنهم يؤمنون بأن نبوءات الكتاب المقدس سوف تتحقق وقال 36% إنهم يؤيدون إسرائيل لماذا ؟ لأنهم يؤمنون بنبوءة الكتاب المقدس ن بضرورة أن تكون الغلبة إسرائيل قبل أن يعود المسيح إيذانا بقيام القيامة ، ونهاية العالم ، ويعتقد حوالي 25% ممن استطلعت آراؤهم أن الكتاب المقدس تنبأ بهجمات الحادي عشر من سبتمبر ، فماذا نفعل مع إحصاءات كهذه ؟ إنها في أوهن الظروف تبين أنه على من يشعرون أنه يمكن أن يكسبوا الدعم للقضية الفلسطسنية عن طريق الشكوى من اللوبي اليهودي أن يعيدوا النظر في موقفهم فليس من الممكن كسب اليمين المسيحي )
أقول : وإذن فعلى العرب أن يخططوا لمناقشة هذه العقيدة داخل الوسط الأمريكي عن طريق مجموعة من رجال الدين المسيحي الذين لا يؤمنون بهذا التفسير من رجال الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية . هذا هو الحوار الديني الذي تحتاج إليه البشرية اليوم تجنيبا لها من حروب لا يعلم خاتمتها إلا الله
ثم يقول الكاتب : ( تصور سلسلة من الروايات الجديدة عن سفر الرؤيا تحظى بشعبية كبيرة السكرتير العام للأمم المتحدة على أنه المسيخ الدجال ) !!
وبعد أن تحدث الكاتب عن مستوى الجهل السياسي الذي يتمتع به المواطن الأمريكي قائلا ( إن معظم الناس لا يقرءون حتى الصحف ناهيك عن الكتابة إليها وعموما تكشف رسائل القراء وجهة النظر المتطرفة سواء كانت في اتجاه اليمين أم ناحية اليسار ) ثم يقول : ( أما فيما يتعلق بالإسلام والعرب والشرق الأوسط على وجه الخصوص فهو لا يعرف شيئا ألبتة بل ولا يهتم كثيرا بذلك ) ثم يقول : ( وهناك الكثير الذي يمكن قوله فمعظم الأمريكيين لا يقرءون صحيفة واشنطن بوست ونيويورك تايمز بل إن شبكة سي إن إن الدولية التي يعتبرها المراقبون في الخارج مرجعا ليست متاحة داخل الولايات المتحدة ، ولا يشاهدها الأمريكيون بالمرة ، ) وعن مستوى الفقر يقول ( قد يدهش كثيرون في العالم النامي حين يعلمون على سبيل المثال أن اكثر من 34 مليون أمريكي [ 5, 12 ] يعيشون دون خط الفقر ، وأن أقل من 25 % حاصلون على شهادات جامعية )
ومن مقال محمد حسنين هيكل بنفس العدد يقول عن الولايات المتحدة الأمريكية ( تبين أنها مدينة للعالم بما يزيد على مجمل إنتاجها السنوي 5 تريليون دولار )(/1)
التطرّف
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
تداول المصطلحات الحادّة ينبئ عن ميل إلى التصنيف الإقصائي، وإذا تحدث العالم أو الفقيه أو الحكيم كان حرياً أن يتجاوزها، إلا إذا اقتضتها ضرورة أكاديمية.
والتطرّف يعني المثول في طرف، يعني مجانبة الاعتدال والوسطية.
وهذا يكون تطرّفًا في الشخصية؛ إذ يكون في المزاج النفسي لبعض الناس ميل إلى المواقف الحدّية حتى في حياته الأسرية أو الوظيفية أو غيرها.
ويكون تطرّفًا في الفكر باعتماد "النسخة المتشددة" من أي فكرة ينتمي إليها الإنسان.
وهو قد يكون تطرّفاً ذات اليمين، أو ذات الشمال.
عليك بأوساط الأمور فإنها خيار، ولا تركب ذلولاً ولا صعباً
وقال علي –رضي الله عنه-:
خير الأمور النمط الأوسط، إليه يرجع الغالي، وبه يلحق التالي.
وحين نحكم بالتطرّف على شخص أو موقف، فهنا يعني الأمر أن المحكوم عليه ينتمي ويُنسب للأصل العام، ولكنه لا يعتدل فيه.
وهذا يمنح معنى إيجابيًا تجب ملاحظته، وهو أن المتطرف حين يكون مسيحيًا مثلاً، فهو يعني الإقرار له بصحة الانتماء لمسيحيته، مع الحكم بأنه أخذها بغير توازن.
وحين نحكم على مسلم بهذا الحكم، فهو يعني الإقرار له بصفة الإسلام أولاً، ثم الحكم عليه ثانيًا بأنه غالٍ غير معتدل.
كان أعنف تطرّف في التاريخ تطرّف الخوارج، ومع هذا لم يكفّرهم الصحابة –رضي الله عنهم- وكان أكثر العلماء على عدم التكفير، وسيرة علي ومن معه في شأنهم ظاهرة معلومة، وهي أنه كان يعاملهم معاملة المسلمين، مع غلوّهم، وعدوانهم، حتى قال : إن لكم علينا ألاّ نقاتلكم ولا نمنعكم فيئكم، ما لم تخيفوا السبيل أو تستحلّوا الدم الحرام... الخ.
مع أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" رواه البخاري وغيره.
ولو تسرّع أحد وأخذ بهذا الظاهر لكفّرهم، ولكن حكمة الله تعالى واضحة هنا؛ إذ إن سرّ تطرّف الخوارج هو تسرّعهم في الأخذ بمثل هذا الظاهر، ومن هنا حكموا على غيرهم بالكفر واستحلوا الدماء، وهتكوا حرمتها. وقد يقع نوع من الغلوّ أو التشدّد عند بعض المسلمين كما وقع للخوارج، وجماعة التكفير والهجرة التي كانت تسمي نفسها "جماعة المسلمين" تسير على خطا الخوارج شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وهذا سببه الجهل والكبر وازدراء الناس، ولهذا يقول زعيمهم شكري مصطفى:
من قبل الطوفان اسمعني...
يا عبد الله
واخرج من أرضك واتبعني
في أرض فلاة
أرض في قلبي لم يُعبد فيها الشيطان
أرض في فكري أحمله
في كل مكان
فاحمل أزوادك واتبعني
يا عبد الله
يكفينا زادًا في الدنيا هذا القرآن...
في أرض الهجرة يا صحبي طهر وسلام
وفرار من سخف الدنيا ومن الآثام
وحكومة عدل وأمان...
صدّقني .. في الأرض الواسعة أمان
فهو هنا يقدم نفسه على أنه (النموذج) الذي يتبعه الآخرون، وهو القلب الطهور، والفكر الصادق المعبر عن رسالة الله، أما الدنيا فهي سخف وآثام، وإذا أطاعه الناس قامت حكومة العدل والأمان.
بيد أن الباب ليس كله واحدًا، فهناك من لا يقول بمبدأ الخوارج في التكفير بالمعصية، ولكن يتحايل على التكفير من باب الحاكمية والتشريع، فيكفّر الناس كلهم أو جلّهم لرضاهم بالحكم الوضعي، أو يقول بـ "التوقف" فلا يحكم لهم بإسلام ولا كفر.
وربما وُجد من لا يحكم بالتكفير العام، ولكنه سريع الخطو إلى تكفير الآحاد بغير تبصر ولا أناة، وكلما سمع قولاً أو ترامى لأذنه موقف غير مستوعب لديه، قفز إليه سؤال: ألا يُعدّ هذا كفرًا؟؟
ولقد جادلني أحدهم في أول المجلس بشأن تكفير عدد من الكتاب وانتهى بتكفير المفتين ورجال القضاء.
ومثل هذا لا يُعالج بردّ الكرة إلى المرمى، وقذفهم بمثل ما يُعاب عليهم، بل بالعدل والإنصاف معهم، وألاّ يُقَوّلوا ما لم يقولوا، فيعتني بضبط الحكم، ومن الخطأ أن تجور عليه لأنه جار عليك أو على غيرك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ...)[النساء: من الآية135] وفي الموضع الثاني (...كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...)[المائدة: من الآية8]، وفي الحديث "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".
فالعدل –كما يقول ابن تيمية- واجب لكل أحد، ومن كل أحد، وفي كل حال.
فليس ثمة حالة مشروعة نستقيل فيها من العدل، ونستجيب فيها لنزعات الغضب؛ فنقع في المشكلة نفسها التي نعيبها على الآخر.
إذا كان عيبهم عندي هو التسرع في التكفير –مثالاً- فمن العدل ألاّ أتسرّع في تكفيرهم ولا تكفير غيرهم، بل أُعطي المثل والقدوة في التأني والرويّة، واستصحاب الأصل الذي عليه الناس، وعدم التقحّم في الهلكات.(/1)
ولست أرى وجهًا للإطلاقات التي توهم التكفير من جنس أن يُقال: فلان ليس له في الإسلام نصيب، أو الدين بريء منه، أو هو لا يعرف الإسلام، .. حتى لو كان القائل متأوّلاً لا يقصد التكفير؛ لأن ضرورة المعالجة تقتضي عدم استعمال اللفظ الموهم الذي يحتمل أن يكون قائله أراد الحكم بالتكفير، وفي أوقات النزاع والتصارع تتعاظم الحاجة إلى إحكام العبارات وضبطها.
وهذه الألفاظ تجري على ألسنة الإعلاميين أو السياسيين أو بعض طلبة العلم بدافع الغضب والاستنكار لموقف فكري منحرف أو ممارسة ميدانية مرفوضة.
وإنما تبين قدرة الإنسان على التحكم في نفسه والتزام القيم التي يدعو إليها عند الانفعال والغضب والاختلاف.
وتكون المعالجة أيضًا بإشاعة معاني الاعتدال والهدوء في دوائر المجتمع الأسرية والإعلامية والتعليمية والسياسية.
والذين يسعون إلى توتير الأجواء في المجتمعات الإسلامية هم يعملون على صناعة مناخ يؤهل للتطرّف؛ لأن المرء المأزوم بمعاناة واقعية يصعب عليه أن يكون معتدلاً، وحتى لو كان مقتنعًا بضرورة الاعتدال، فإن معاناته وآلامه الشخصية أو العامة تؤثر على فكره وتصوره، وتجعله يفهم الاعتدال بطريقة مختلفة.
ولهذا صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما حسدَتْكم اليهود على شيء ما حسَدَتْكم على التأمين والسلام".
وهنا سرّ عجيب جدًا.
فالتأمين يعني قول (آمين) بعد الفاتحة، حيث الدعاء بالوسطيّة بين الإفراط والتفريط (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
فالمغضوب عليهم أهل تفريط وضياع، والضالّون أهل تشدّد وإفراط واعتساف، والطريق المستقيم بينهما.
فهم يحسدوننا إذًا على الاعتدال.
هذا معنى.
والمعنى الثاني أنهم يحسدوننا على السلام، والسلام التحية، لكن ليس حسدهم على اللفظ المجرد فحسب، بل على إشاعة معنى السلام والاستقرار النفسي والاجتماعي في المجتمع، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويعملون على زعزعة الأمن والاستقرار حيثما قدروا.
ولست أريد أن أقول هنا: إنهم هم المسؤولون بالضرورة عن أي فوضى تقع في مجتمع مسلم، بل قد يكون لهم يد ظاهرة أو خفيّة، وأفراد المجتمع وتشكيلاته الفكرية أو المذهبية أو القبلية هي الفاعل الأول.
إن نشر السلام بمعناه اللفظي، وممارسته سلوكًا بيننا داخل الأسرة الصغيرة (البيت)، أو الوسطى (المؤسسة)، أو الكبرى (الدولة)، هو أفضل ما يمكن أن نعمله لإيجاد المحضن الفطريّ للاعتدال، وإقصاء مفاهيم التطرف وممارساته.
والله أعلم.(/2)
التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة
يتناول الدرس مفهوم التطلع والصدارة وموقف الشرع من ذلك، وأسباب التطلع إلى الصدارة، ثم آثار هذا التطلع على العاملين في الدعوة ثم أثر ذلك على الدعوة نفسها، ثم تناول كيفية علاج هذا المرض وخطوات ذلك .
مفهوم التطلع إلى الصدارة , وطلب الريادة في الاصطلاح الشرعي والدعوي: هو تعلق القلب بالإمامة أو الريادة، وسؤال ذلك صراحة، أو القعود عن القيام بالواجب، وأداء الرسالة.
موقف الشرع منها:
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ:' إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ ' رواه البخاري ومسلم .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا' رواه البخاري ومسلم .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ:' يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا'رواه مسلم .
ويستثنى من ذلك حالة واحدة، وهي التي يتوفر فيها ثلاثة شروط :
1- خلو المكان ممن يقوم بهذا الأمر.
2- أن يجد الشخص نفسه أهلاً لذلك.
3- غلبة ظنه بتأثر المكانة بجهوده. وهذه الثلاثة متوفرة في قول الله على لسان يوسف:}اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[55]{ [سورة يوسف].
أسباب التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة:
1- الرغبة في التحرر من سيطرة وسلطات الآخرين:ذلك أن بعض الناس قد ينشأ دون أن يذوق طعم الطاعة لأحد، ولو مرة واحدة، ومثل هذا إذا وضع في محيط جماعي؛ فإنه يعز عليه بل يكبر في نفسه أن يكون فوقه أحد؛ لذلك تراه تتعلق نفسه تعلقًا شديدًا بالصدارة، ويسعى جاهدًا لسؤال الريادة، حتى يتحرر - بتصوّره - من سيطرة وسلطان الآخرين.
2- الرغبة في تحصيل عرض من أعراض الحياة الدنيا:ذلك أن بعض الناس قد يتعلق بالحياة الدنيا تعلقًا يحمله على إصابتها من أي باب تيسرّ له، حلالاً كان هذا الباب أو حرامًا، ومثل هذا الصنف يتصور أنه إذا كان صدرًا أو رائدًا فإن الكل سيكون في خدمته من أجل إصابة حظه من أعراض هذه الحياة الفانية، لذا تراه متعلق النفس بالصدارة، ساعيًا بجدية واهتمام لسؤال أو طلب الريادة.
3- الغفلة عن تبعات الصدارة والريادة: ذلك أن تبعات الصدارة والريادة ضخمة، فصاحبها يجوع حيث يشبع الآخرون، ويظمأ حيث يروى الآخرون، ويسهر حيث ينام الآخرون، ويتعب حيث يستريح الآخرون، وبالجملة: فإن تبعات هذا الأمر أن يفدي صاحبه الآخرين بنفسه في ساعات الشدة، ويقدمهم على هذه النفس في ساعات الرخاء على نحو ما كان يصنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه، ومن ذلك:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:' كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 'رواه مسلم.
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ:' لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا' ثُمَّ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَبَحْرٌ' رواه البخاري ومسلم .(/1)
وقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ أَبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ:' أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ:' يَا أَبَا هِرٍّ 'قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:' الْحَقْ'وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ:' مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ' قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ:' أَبَا هِرٍّ ' قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:' الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي' .
قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ:' يَا أَبَا هِرٍّ ' قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:'خُذْ فَأَعْطِهِمْ' فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ:' أَبَا هِرٍّ ' قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:' بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ' قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:' اقْعُدْ فَاشْرَبْ' فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ:' اشْرَبْ' فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ:' اشْرَبْ'حَتَّى قُلْتُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ:' فَأَرِنِي' فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ'. رواه البخاري .هذه تبعات وتكاليف الصدارة والريادة، ومن غفل عنها؛ فإنه تتعلق نفسه لا محالة بالصدارة، ويجتهد في طلب الريادة.
4- الغفلة عن عواقب التقصير في الصدارة والريادة: ذلك أن عواقب التقصير في هذا الأمر في الدنيا إنما هي إفساح المجال أمام الباطل وجنده، ليفسد في الأرض، ويهلك الحرب والنسل. وأما في الآخرة فهي التقييد بالأغلال والسلاسل، والحرمان من الجنة والإلقاء في النار، فعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزنِيَّ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:' مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ'رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 'مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ'رواه أحمد والدارمي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّار' رواه أبو داود .(/2)
5- الرغبة في التسلط وإذلال الآخرين:ذلك أن بعض الناس قد يلقى شدة وضغطًا في تربيته، أو تهوينًا وتسيبًا إلى حد حب التسلط والإذلال، ومثل هذا يرى الصدارة والريادة، بابًا يلج منه ليتشفّى، وليشبع غريزة أفرزتها التربية السيئة؛ لذا فإن نفسه تتوق إلى هذه الصدارة، ويجتهد في طلب تلك الريادة.
آثار التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة:
أ- آثارها على العاملين:
1- الحرمان من التوفيق والعدل الإلهي: ذلك أن التطلع إلى الصدارة، وطلب الريادة يعني الوثوق بالنفس، والاعتماد عليها وعلى ما لديها من طاقات، وإمكانات، دون الحاجة إلى عون وتأييد من الله، وقد جرت سنة الله مع خلقه، أن يتخلى عمن اعتمدوا على حولهم وقوتهم، غير عابئين بحوله سبحانه وقوته، وما ظنك بمن تخلى عنه ربه، أيكتب له توفيق، أو يحظى بأي عون أو تأييد؟ اللهم لا !! عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا' رواه البخاري ومسلم .
2- تعريض النفس للفتنة، وبالتالي للغضب الإلهي:وذلك أن من تطلع إلى الصدارة، وطلب الريادة، فقد جعل نفسه في مهب ريح الفتن، إذ ربما ينسى بهذا التطلع، وذلك الطلب: مراقبة الله، والحساب والمساءلة غدًا بين يديه سبحانه، فيركن إلى الدنيا، ويرضى بها، وينسى تبعات وتكاليف هذا الأمر، بل ربما جار وظلم، وهذا كله ينتهي به إلى استحقاق الغضب والسخط الإلهي، الذي يتمثل في العقاب، والعذاب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ' رواه البخاري .
3- تضاعف الأوزار: وذلك أن من يصل إلى الصدارة والريادة بعد التطلع والسؤال، قد يفتن، ويقتدي ويتأسى به من هم دونه، فيعرضون أنفسهم للفتنة مثله، وحينئذ تتضاعف عليه الأوزار، والأحمال، فيحمل وزره، ووزر من اقتدى وتأسى في الشر به، وصدق الله: }لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِن أَوْزَارِ الَّذِينُ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ[25]{ [سورة النحل]. عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ' رواه مسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' ...مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا' رواه مسلم.
4- القتل أو النفي أو التشريد في الأرض: وذلك أن التطلع إلى الصدارة، وطلب الريادة قد يؤدي إلى التشاجر والتناحر، وربما أسفر ذلك عن القتل، أو النفي والتشريد في الأرض، والتاريخ البشري حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة، وطلب الريادة، ولم تصل إلى مرادها، بل انتهت بها الحال إلى القتل، أو النفي والتشريد في الأرض.
ب- آثار التطلع إلى الصدارة على العمل الإسلامي:
كثرة التكاليف، وطول الطريق: ذلك أن صفاً يحوي في طياته متطلعين إلى الصدارة، وطالبين للريادة، لا يمكن أن يستقيم أبدًا، وأنّى لهذا الصف أن يستقيم، وفيه من أغرتهم الدنيا بزخرفها، وبزيفها، وزهرتها وزينتها، ممثلاً ذلك في التطلع إلى المنصب، والتعلق به؟!
وإذا انتهى الأمر بصف إلى الاعوجاج، فإن نصر الله منه بعيد، إلا أن يكون ذلك مكرًا، واستدراجًا، وصدق الله: } وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]{ [سورة الحج] }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]{ [سورة محمد]. وقد فطن إلى ذلك سلف هذه الأمة، فكانوا إذا تأخر عليهم النصر، يردّون هذا التأخير إلى حب الدنيا، والتعلق بها، ثم يبادرون بالتوبة والرجوع إلى الله، فينزل عليهم نصره، والقصة التالية تصوير بديع لما فطن إليه هؤلاء:(/3)
'لما أبطأ فتح مصر على عمرو بن العاص، كتب إلى عمر يستمده، فأمدّه بأربعة آلاف [تمام ثمانية آلاف] على كل ألف رجل منهم: رجل ، وكتب إليه: إني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل، رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقدام بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، واعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولا تغلب اثنا عشر ألفًا من قلة.ولما وصل هذا المدد، وتأخر الفتح على عمر، كتب إلى عمرو: أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي، فاخطب الناس، وحضهم على قتال عدوهم، ورغّبهم في الصبر، والنية، وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزّوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة فيها، ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم ...'
علاج التطلع إلى الصدارة وطلب الريادة:
1- دوام النظر في السنة النبوية: فإن فيها تحذيرًا شديدًا من سؤال الولاية، أو تعلق القلب بها،بل فيها تصوير بليغ لتبعات وعواقب التقصير في هذا الأمر على نحو ما ذكرنا من قبل .
2- دوام التذكير بتبعات هذا الأمر، وعواقبه الدنيوية والأخروية:فإن الإنسان بفطرته ينسى، ولا علاج لهذا النسيان إلا بالتذكير، والتذكير الدائم، نزولاً على منهج القرآن الكريم:} فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى[9]{ [سورة الأعلى] }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[55]{ [سورة الذاريات] .
3- التعويد على الطاعة، وهضم النفس منذ نعومة الأظفار:فإن ذلك له أثره فيما بعد، في خلع هذه الأمراض من القلب، والرضا بالحال التي يوضع فيها المسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ' رواه البخاري.
4- الرفق في المعاملة: فإنه ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه، وعليه فإن هذا الرفق سيعين على تخليص القلب من الصدارة، بل وحمد الله على المعافاة منها.
5- التذكير بسيرة السلف وموقفهم من الصدارة والريادة:فإن سيرتهم مليئة بكراهية هذا الأمر والنفور، والتحذير الشديد منه؛ تقديرًا لتبعاته وعواقبه:
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يخطب في المسلمين بعد قبوله الخلافة قائلاً:' يا أيها الناس: إن كنتم ظننتم أني أخذت خلافتكم رغبة فيها، أو إرادة استئثار عليكم، وعلى المسلمين، فلا والذي نفسي بيده، ما أخذتها رغبة فيها، ولا استئثارًا عليكم، ولا على أحد من المسلمين، ولا حرصت عليها يومًا ولا ليلة قط، ولا سألت الله سرًا، ولا علانية، ولقد تقلدت أمرًا عظيمًا لا طاقة لي به إلا أن يعين الله، ولوددت أنها لأيّ أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يعدل فيها، فهي إليكم ردّ، ولا بيعة لكم عندي، فادفعوا لمن أحببتم، فإنما أنا رجل منكم' .
ولما كان عمر في النّزع الأخير، جعل الأمر شورى في ستة من المسلمين، فأشار عليه المغيرة بن شعبة، بابنه عبد الله بن عمر، ليكون خليفة، فغضب عمر، ورد عليه قائلاً:' قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، لا أرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرًا؛ فقد أصبنا منه، وإن كان شرًا؛ فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافًا لا وزر، ولا أجر إني لسعيد'.
ولما ولي عمر بن العزيز الخلافة، جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة، على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر:' مالي ولك؟ تنحّ عني، إنما أنا رجل من المسلمين' ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقال:' أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم، ولأمركم من تريدون' فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لأنفسنا، ولأمرنا، ورضينا كلنا بك ... إلى غير ذلك من الأخبار المشحونة بها كتب التاريخ.(/4)
6- التذكير بمكانة ومنزلة الدنيا في الآخرة: }قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى[77]{ [سورة النساء]. }يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِي دَارُ الْقَرَارِ[39]{ [سورة غافر]. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ' رواه الترمذي وابن ماجه. وعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ ' رواه مسلم .فإن هذا التذكير قد يحمل العقلاء على أن يكونوا مغمورين بعيدًا عن أي صدارة أو ريادة، حتى يخرجوا من هذه الدنيا سالمين غانمين، فيظفروا غدًا برضوان الله سبحانه، والجنة.
من كتاب:آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح(/5)
التعامل مع الأبناءفن له أصول
الدكتور حسان شمسي باشا
معاملة الأبناء فن يستعصي على كثير من الآباء والأمهات في فترة من فترات الحياة . وكثيرا ما يتساءل الآباء عن أجدى السبل للتعامل مع أبنائهم .
والحقيقة أن إحساس الولد بنفسه يأتي من خلال معاملتك له ، فإن أنت أشعرته أنه " ولد طيب " ، وأحسسته بمحبتك ، فإنه سيكون عن نفسه فكرة أنه إنسان طيب مكرم ، وأنه ذو شأن في هذه الحياة . أما إذا كنت قليل الصبر معه ، تشعره أنه " ولد غير طيب " ، وتنهال عليه دوما باللوم والتوبيخ ، فإنه سينشأ على ذلك ، ويكون فكرة سلبية عن نفسه، وينتهي الأمر إما بالكآبة والإحباط ، أو بالتمرد والعصيان .
علمه أين العيب :
إذا رأيته يفعل أشياء لا تحبها ، أو أفعالا غير مقبولة ، فأفهمه أن العيب ليس فيه كشخص، بل إن الخطأ هو في سلوكه وليس فيه كإنسان .
قل له : " لقد فعلت شيئا غير حسن " بدلا من أن تقول له " إنك ولد غير حسن " . وقل له " لقد كان تصرفك مع أخيك قاسيا " بدلا من أن تخبره " إنك ولد شقي " .
تجنب المواجهات الحادة :
ومن الأهمية أن يعرف الوالدان كيف يتجاوبان برفق وحزم في آن واحد مع مشاعر الولد، فلا مواجهة حادة بالكلام أو الضرب ، ولا مشاجرة بين الأم وابنها ، إنما بإشعاره بحزم أن ما قاله شيء سيئ لا يمكن قبوله ، وأنه لن يرضى هو نفسه عن هذا الكلام .
ولا يعني ذلك أن يتساهل الوالدان بترك الولد يفعل ما يشاء ، بل لا بد من وجود ضوابط واضحة تحدد ما هو مقبول ، وما هو غير مقبول . فمن حق الطفل أن يعبر عن غضبه بالبكاء أو الكلام ، ولكن لا يسمح له أبدا بتكسير الأدوات في البيت ، أو ضرب إخوته ورفاقه .
أحبب أطفالك ولكن بحكمة :
ولا يمكن للتربية أن تتم بدون حب . فالأطفال الذين يجدون من مربيهم عاطفة واهتماما ينجذبون نحوه ، ويصغون إليه بسمعهم وقلبهم . ولهذا ينبغي على الأبوين أن يحرصا على حب الأطفال ، ولا يقوما بأعمال تبغضهم بهما ، كالإهانة والعقاب المتكرر والإهمال ، وحجز حرياتهم ، وعدم تلبية مطالبهم المشروعة . وعليها إذا اضطرا يوما إلى معاقبة الطفل أن يسعيا لاستمالته بالحكمة ، لئلا يزول الحب الذي لا تتم تربية بدونه . وليس معنى الحب أن يستولي الأطفال على الحكم في البيت أو المدرسة ، يقومون بما تهوى أنفسهم دون رادع أو نظام . فليس هذا حبا ، بل إنه هو الضعف والخراب . وإن حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لم يمنعه من تكليفهم بالواجبات ، وسوقهم إلى ميادين الجهاد ، وحتى إنزال العقوبة بمن أثم وخرج على حدود الدين . ولك ذلك لم يسبب فتورا في محبة الصحابة لنبيهم ، بل كانت تزيد من محبتهم وطاعتهم لنبيهم .
احترمي زوجك :
ويحتاج الأب لكي يظفر بصداقة أبنائه إلى عطف زوجته واحترامها له . فالزوجة الصالحة التي تشعر أبناءها في كل وقت بعظمة أبيهم ، وتقودهم إلى احترامه وحبه ، وتؤكد في أنفسهم الشعور بما يملك من جميل المناقب والخصال . وهي تقول للطفل تمسك بهذا الخلق، فإنه يرضي أباك ، وتجنب ذلك الخلق فإنه يغضب أباك ويغضب ربك .
هدية .. ولو درهم :
وإذا أردت أن تصادق طفلك ، فلا بد أن تعرف أن فمه أكثر يقظة من عقله ، وأن صندوق الحلوى أفضل إليه من الكتاب الجديد ، وأن الثوب المرقش أحب إليه من القول المزخرف . وأن الأب الذكي هو الذي يدخل البيت وفي يده هدية أو تحفة أو طرفة . وليذكر دوما أن في الدنيا أشياء هي عندنا أوهام ، وهي عند الأطفال حقائق . ولن نظفر بصداقتهم إلا إذا رأينا الدنيا بعيونهم .
استمع إلى ابنك :
إذا أتاك ابنك ليحدثك عما جرى معه في المدرسة ، فلا تضرب بما يقول عرض الحائط . فحديثه إليك في تلك اللحظة – بالنسبة له – أهم من كل ما يشغل بالك من أفكار . فهو يريد أن يقول لك ما يشعر به من أحاسيس ، بل وربما يريد أن يعبر لك عن سعادته وفرصة بشهادة التقدير التي نالها في ذلك اليوم .
أعطه اهتمامك إن هو أخبرك أنه نال درجة كاملة في ذلك اليوم في امتحان مادة ما . شجعه على المزيد ، بدلا من أن يشعر أنك غير مبال بذلك ، ولا مكترث لما يقول .
وإذا جاءك ابنك الصغير يوما يخبرك بما حدث في المدرسة قائلا : " لقد ضربني فلان في المدرسة " وأجبته أنت : " هل أنت واثق بأنك لم تكن البادئ بضربه ؟ " فتكون حقا قد أغلقت باب الحوار مع ابنك . حيث تتحول أنت في نظر ابنك من صديق يلجأ إليه إلى محقق أو قاض يملك الثواب والعقاب .
بل ربما اعتبرك ابنك أنه محقق ظالم وأنه يبحث عن اتهام الضحية ويصر على اكتشاف البراءة للمتعدي عليه .
فإذا تكلم الابن أولا إلى والديه ،فعلى الوالدين إبداء الانتباه ، وتواصل الحوار ، وينبغي مقاومة أي ميل إلى الانتقاد أو اللامبالاة بما يقوله الابن .
داعب أطفالك :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداعب الأطفال ويرأف بهم ، ومن ذلك مواقفه المعروفة مع أحفاده وأبناء الصحابة رضوان الله عليهم .(/1)
روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من والولد ما قبلت منهم أحدا . فنظر الرسول الكريم إليه ثم قال : " من لا يَرحم لا يُرحم " . متفق عليه .
وكان معاوية رضي الله عنه يقول : " من كان له صبي فليتصاب له " .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداعب الأطفال فيمسح رؤوسهم ، فيشعرون بالعطف والحنان . فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على رأسي وقال : اللهم اخلف جعفرا في ولده " رواه الحاكم .
كما كان يمسح خد الطفل كما ورد في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال :
صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان – أي صبيان – فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا .
وروى النسائي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ، ويمسح رؤوسهم " .
اترك لطفلك بعض الحرية :
وأسوأ شيء في دورنا ومدارسنا – كما قال أحد المربين – المراقبة المتصلة التي تضايق الطفل وتثقل عليه ، فاترك له شيئا من الحرية ، واجتهد في إقناعه بأن هذه الحرية ستسلب إذا أساء استعمالها . لا تراقبه ولا تحاصره ، حتى إذا خالف النظام فذكره بأن هناك رقيبا .
إن الطفل يشعر بدافع قوي للمحاربة من أجل حريته ، فهو يحارب من أجل أن يتركه الأب يستخدم القلب بالطريقة التي يهواها .. ويحارب من أجل ألا يستسلم لارتداء الجوارب بالأسلوب الصحيح .. والحقيقة الأساسية أن الابن يحتاج إلى أن تحبه وأن تحضنه لا أن تحاصره .. ويحتاج إلى الرعاية الممزوجة بالثقة . ويحتاج إلى أن تعلمه كل جديد من دون أن تكرهه عليه ..
وباختصار : لا تجعل أكتاف الطفل ملعبا تلهو به بكرة القلق الزائد .
أوامر حازمة .. لكن بحكمة :
ينبغي أن تكون الأوامر حازمة ، وأن تتضمن اللهجة أيضا استعداد الأب والأم لمساعدة الطفل . فإذا كان الطفل قد فرش أرض الغرفة بعلبه الكثيرة فيمكن للأم أن تقول له :
هيا نجمع اللعب معا . وهنا تبدأ الأم في جمع لعب الطفل ، وسيبدأ الطفل فورا في مساعدة الأم .
وكثيرا ما نجد الطفل يتلكأ ، بل قد يبكي ويصرخ عندما تطلب منه الأم بلهجة التهديد أن يذهب ليغسل يديه أو أن يدخل الحمام . ولكن الابن لو تلقى الأمر بلهجة هادئة فسيستجيب بمنتهى الهدوء . فكلما زاد على الطفل الإلحاح شعر بالرغبة في العناد ، وعدم الرغبة في القيام بما نطلب منه من أعمال .
بعض الآباء يتفاخر بأن أبناءهم لا يعصون لهم أمرا ، ولا يفعلون شيئا لم يؤمروا به !!
والبعض الآخر يتعامل مع أطفاله وكأنهم ممتلكات خاصة لا كيان لهم . وآخرون يكلفون أبناءهم فوق طاقتهم ، ويحملونهم من المسؤوليات ما لا يطيقون . في كل هذه الحالات مغالاة ، وبعد عن الأسلوب الحكيم في التربية وهو " خير الأمور أوسطها " .
قللوا من التوبيخ :
انتبهوا أيها الآباء والأمهات إلى ضرورة التقليل من التوبيخ الأوتوماتيكي وغير الضروري وإلى التقليل من الرقابة الصارمة على الأطفال . فالطفل ليس آلة نديرها حسبما نشاء . إن له إبداعه الخاص في إدارة أموره الخاصة ، فلماذا نحرمه من لذة الإبداع ؟
وكثيرا ما يواجه الطفل بالعديد من الأسئلة والأوامر : " لماذا تضحك هكذا ؟ لماذا تمشي هكذا ؟ .. انطق الكلمات نطقا سليما .. لا تلعب بشعرك .. اذهب ونظف أسنانك " .
وكل ذلك قد ينعكس في نفس الطفل فيولد حالة من عدم الاطمئنان ، أو فقدان الثقة بالنفس . وكثيرا ما ينال الطفل الأول الحظ الأوفر من الاهتمام الجشع والرقابة الصارمة من قبل الأبوين ثم ما يلبث الأبوان أن يشعرا بأنهما قد تعلما الكثير من طفلهم الأول ، فيشعران أنهما بحاجة لإعطاء وليدهما الثاني بعض الحرية ، فيتصرفان مع الطفل الثاني بمزيد من الثقة خلافا للطفل الأول .
وعلى الأم أن تنمي عادة الحوار الهادئ مع طفلها ، فتطرح عليه بعض الأسئلة لترى كيف يجيب عليها ، وتعوده على عدم رفع الصوت أثناء الحديث ، وعدم مقاطعة المتحدثين وهكذا ..
تسأله مثلا : " ماذا تفعل لو رأيت أخاك يضربه رفاقه ؟ وماذا تفعل لو رأيت طفلا مجروحا في الطريق ؟ " .
فالأطفال الذين لا يكلمهم آباؤهم إلا نادرا ينشئون أقل ثقة بالنفس من الذين يعودهم آباؤهم على الكلام والحوار الهادئ .
سلوك أبنائك من سلوكك :
عندما يصرخ الأب قائلا إنه يتعب كثيرا ، ولا ينال شيئا مقابل تعبه وهو المظلوم في هذه الحياة ، فإن ذلك ينقلب في ذهن طفله إلى أن الرجل هو ضحية المرأة ، وأنه من الأفضل عدم الزواج . وعندما تصرخ الأم بأن الرجل هو الكائن الوحيد الذي يستمتع بالحياة ، وهو الذي يستغل كل جهد للمرأة ، فإن هذا الصراخ ينقلب في وجدان الفتاة الصغيرة إلى كراهية الرجل وعدم تقديره . ولهذا تجدها تنفر من الزواج عندما تكبر .(/2)
والابن الذي يرى أباه يحتقر أمه يعتبر ذلك " الاحتقار " هو أسلوب التعامل المجدي مع المرأة . والبنت التي ترى أمها كثيرة التعالي على الأب وتسيء معاملته يستقر في ذهنها أن أساس التعامل مع الرجال التعالي عليه والإساءة إليه .
والخلاصة أنه ينبغي أن تكون معاملة الوالدين ثابتة على مبادئ معينة ، فلا تمدح اليوم ابنك على شيء زجرته بالأمس على فعله ، ولا تزجره إن عمل شيئا مدحته بالأمس على فعله . ولا ترتكب أبدا ما تنهى طفلك عن إتيانه .
للمزيد من التفاصيل : راجع كتابنا : " كيف تربي أبناءك في هذا الزمان ؟ " وهو من منشورات دار القلم بدمشق(/3)
التعامل مع البنوك الربوية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 28/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
أريد أن أعرف حكم التعامل مع البنوك، وإن كان فيه شبهة فما البديل الإسلامي؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
التعامل مع البنوك الربوية: إن كان التعامل معها بالربا المسمَّى بالفائدة تضليلاً على الناس، كالمساهمة في رأس مالها أو شراء أسهمها، أو التعامل بالربا (الفائدة) أخذًا أو إعطاءً، فهذه المعاملة حرام قطعًا وليست مجرد شبهة، أما التوظُّف فيه– وأنت تجد في غيره عملاً يدر عليك رزقًا- ففي هذا شبهة خيرٌ لك أن تبتعد عنها، كما في حديث النعمان بن بشير، رضي الله عنهما: "...فَمَن اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَع في الشُّبُهَاتِ وقَع في الحَرَامِ...". أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599).
أما إن كان التعامل مع البنك الربوي بفتح حساب جارٍ لا تأخذ عليه فائدة، أو كان شراء سلعة عن طريقه فهذا لا شيء فيه– إن شاء الله-؛ لأن معاملة الكافر بالبيع والشراء ووضع الوديعة عنده نقودًا كانت أو عينًا جائز شرعًا، فقد كان المسلمون والكفار في مكة والمدينة يتعاملون بالبيع والشراء من إجارة ووديعة وضمان– بلا نكير، وما زال عمل المسلمين عليه، مع أن الكافر يتعامل بالحرام ويستحله- وإذا كان هذا مع الكافر فإنه مع المسلم (البنك في بلد مسلم) من باب أولى، ومن باب الأحوط والأولى لك أن تبحث عن مصرف لا يتعامل بالفائدة مع أحد، وإن تعذر عليك شيء من هذا فخير لك أن تشغل ما لديك من نقود في شراء سلعة أو مشاركة في أرض ونحو ذلك، وتقوم ببيعها مباشرة أو بواسطة شريك لك ساهمت معه، وهذا باب واسع للحلال جعله الله بديلاً عن الحرام وليست فيه شبهة. وفقنا الله وإياك إلى كل خير، آمين.(/1)
التعامل مع التعاونية للتأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 10/11/1425هـ
السؤال
تذكر الشركة السعودية التعاونية للتأمين أن معاملاتها تتسم بالشرعية وعدم مخالفتها لأحكام الشرع، وأنها حاصلة على إجازة من أعضاء في اللجنة الدائمة للإفتاء، وأن في مجلس إدارتها أحد أعضاء هيئة كبار العلماء .. أود التفصيل منكم- حفظكم الله- في ذلك، وما حكم تأمين السيارة في هذه الشركة؟ وهناك ما يسمى بالتأمين ضد الغير، وهو عبارة عن تحمل الشركة الأعباء المالية المترتبة عن الحوادث المرتكبة من قبل المؤمن لديهم.
الجواب
ليس صحيحًا أن الشركة السعودية "التعاونية للتأمين" معاملاتها شرعية، وأنها حاصلة على إجازة من أعضاء في اللجنة الدائمة للإفتاء، بل هذا كذب على اللجنة الدائمة للإفتاء، وقد ردت اللجنة بتوقيع رئيسها آنذاك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله ورفع درجاته في الجنة- نشر ذلك في مجلة البحوث العلمية العدد (50) سنة 1418 هـ، ومما جاء فيه، بعد أن ذكرت اللجنة أن هيئة كبار العلماء في المملكة أصدروا قرارًا بحرمة التأمين التجاري وجواز التأمين التعاوني الذي يتكون من تبرعات المحسنين، ويقصد به مساعدة المحتاجين والمنكوبين: (ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيس على الناس وقلب للحقائق، حيث سموا التأمين التجاري المحرم تأمينًا تعاونيًّا، ونسبوا القول بإباحته إلى هيئة كبار العلماء من أجل التغرير بالناس والدعاية لشركاتهم، وهيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة؛ لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وتغير الاسم لا يغير الحقيقة) انتهى. وما ذكرته الشركة التعاونية للتأمين- على لسان السائل- بأن في مجلس إدارتها أحد أعضاء هيئة كبار العلماء لا أعلم عنه شيئًا، وأنا أشك في ذلك، وإن صح فالأمر فيه لبس يتعين استيضاحه.
ولا أرى جواز التأمين على السيارة عند شركة التأمين لقيامها على معاملة غير شرعية، حيث يشتمل العقد على الجهالة والضرر الفاحش، وعلى ربا الفضل والنسيئة، أما الجهالة فكلا الطرفين: المؤمن والمستأمن لا يدري كم سيدفع أو يأخذ من النقود، ومثله فاحش الغرر.
أما ربا الفضل فيظهر فيما إذا حصل حادث على السيارة فعطبت من بداية العقد، حيث لم يدفع للتأمين عليها غير قسط أو قسطين فتعوضه الشركة عن كامل قيمتها فيأخذ مالًا بغير حق، وربا النسيئة يظهر فيما إذا دفع المؤمن الأقساط كاملة للشركة ولم يحصل للسيارة حادث، أو حصل حادث خفيف عند آخر قسط فيكون صاحب السيارة قد دفع نقودًا على هيئة أقساط حالة أو مؤجلة مقابل نقود مؤجلة، وقد لا يحصل للسيارة حادث أصلًا فتأخذ الشركة الأقساط بغير حق.
ومثل التأمين على السيارة التأمين ضد الغير فلا يجوز. هذا كله إذا كان التأمين اختياريًّا، أما إذا كان إجباريًّا لا خيار للإنسان فيه فالحكم حينئذ جائز للضرورة، حيث القاعدة الشرعية: (الضرورات تبيح المحظورات). إذا كان التأمين إجباريًّا فيتعين على المسلم ألاَّ يأخذ من الشركة تعويضًا أكثر مما دفع حتى يبتعد عن الربا المحرم و أكل المال بغير حق. والله أعلم.(/1)
التعامل مع الجيش الأمريكي الغازي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 04/11/1425هـ
السؤال
هل التعاقد والتأجير مع الجيش الأمريكي بالكويت حاليًّا حلال أم حرام؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب
التعاقد بالبيع أو التأجير مع الكفار الذين يحاربون المسلمين لا يجوز، والعقد باطل لا يصح، لأن هذا من إعانة الكفار على المسلمين، والجيش الأمريكي الذي حارب ويحارب المسلمين في العراق وغيرها لا يجوز التعامل معه ببيع أو تأجير وخلافه، لأنه إعانة له على الإثم والعدوان وتقتيل المسلمين وسلب أموالهم وثرواتهم، والله يقول: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة:2]. فيجب قتال الكفار المعتدين من الصليبيين وغيرهم بكل ما تستطيع من أنواع القتال الحسي، بالسلاح إن أمكن، أو بسلاح الإعلام والاقتصاد عن طريق مقاطعة المصنوعات الأمريكية، وهذه المقاطعة أثرها عليهم لا يقل عن مقاتلتهم بالسلاح، بل هي عليهم أشد وأنكى، وقتال الكفار المعتدين ومنهم الأمريكان والإنجليز واجب متعين على كل مسلم، خاصة بمقاطعة بضائعهم، وقد أمرنا رسولنا محمدصلى الله عليه وسلم- بمثل هذا في قوله: "جَاهِدوا المُشركين بأموالِكم وأنفسِكم وألسنتِكم". رواه أبو داود (2504) والنسائي (3096)، من حديث أنس، رضي الله عنه، نقاتلهم بأموالنا لا أن ندعمهم بها. ومن لم يفعل واحدة منها، وهو قادر، فليس من الإسلام في شيء، فإن مقاطعتهم الاقتصادية وعدم إعانتهم على منكرهم ببيع أو تأجير هي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخلاف ذلك يصبح أمرًا بمنكر ونهيًا عن معروف، وهذا حرام قطعًا، ولا يجوز بحال. والله أعلم.(/1)
التعاهد والإلزام في الأعمال الإيمانيّة التعبديّة
د. علي بن عمر بادحدح 14/8/1425
28/09/2004
هناك مسألة مطروحة للنظر في مشروعيّتها، وخلاصة المسألة أن هذا العصر عظمت فيه الشُّبهات، وكثرت فيه الشّهوات، وتعدّدت الشواغل الدنيوية، وتنوّعت الارتباطات الاجتماعية، بما زاحم الأوقات المخصّصة للطاعات والاستكثار من الخيرات، والمواظبة على السنن والتطوعات، وصار كثير من عوام المسلمين- بل وخواصهم- لا يكادون يحافظون على أوراد الأذكار، وتلاوة القرآن، فضلاً عن رواتب السنن وصيام التطوع، إضافة إلى ندرة قيام الليل ودعاء الأسحار، وضعُف - من أثر ذلك - الإيمان، وقلّت آثاره: من صفاء القلب وزكاة النفس، وعظمت الشكوى من جفاف الروح، وضعف الهمة في الطاعات، وثقل التضحية في العاديات فضلاً عن الملمات، والأكثرية يشعرون بعدم القدرة الفردية على الأخذ بالحظ الأوفى من التطوعات، ونوافل العبادات بسبب ضعف الإرادة وغلبة البيئة المحيطة، ومع شعور الجميع بأهمية ذلك وُجد الاجتهاد بالأخذ بالوسائل المعينة لسد هذه الثّلمة، وسدّ ذلك النقص، ومن ذلك التواصي بين مجموعة المسلمين الحريصين على الخير على بعض البرامج الإيمانية التعبديّة، والتعاهد على الالتزام بها، والتشارط فيما بينهم على المراجعة والمحاسبة فيما بينهم، تذكيراً للغافل وتنشيطاً للخامل، ومنعاً لاستيلاء ضعف النفوس، وغلبة الأحوال المحيطة بهم، ومن هنا برز السؤال عن مشروعية مثل هذا التعاهد والمحاسبة عليه، وهذه خلاصة حول هذه المسألة:
وجوابها أنه بعد البحث يمكن القول: إن هذه المسألة بعينها ليس فيها نص قرآني أو نبوي يتناولها، وليس فيها من فعل الصحابة والتابعين ما ينطبق عليها، ومن هنا فإن ما سيرد عن هذه المسألة دائر في عمومات الأدلة والمقاصد الكبرى مع استشهادات ذات صلة قريبة يمكن من خلالها الوصول على قول فيها:
1- تزكية النفوس مطلب شرعي:
إن تزكية النفس وتنقيتها من أدران المعاصي أمر مطلوب شرعاً، لقول الله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) قال ابن عطية:" معناه: طهّر نفسه ونمّاها بالخير " [تفسير ابن عطية1970] وقال السعدي: " أي قد فاز وربح من طهّر نفسه ونقّاها من الشّرك والظلم ومساوئ الأخلاق " [تفسير السعدي ج1/ص921 ] ولقد كان من مهمات النبي صلى الله عليه وسلم تزكية المؤمنين، قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة:2].
2- فرائض العبادات والنوافل طريق لتزكية النفوس:
جعل الشارع الحكيم فرائض العبادات من أسباب تحقيق تزكية النفوس، ويدل على ذلك الحكم والغايات النفسية والخلقية التي ذكرت لها كما في قوله تعالى:(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وقال تعالى:(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وقال جل وعلا:(يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال تعالى:(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) ونحو ذلك، وكذلك فإن من ثمرات نوافل العبادة تزكية النفس وترقيتها، يقول الله في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذ ني لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته ) [صحيح البخاري (6137) ج5/ص2384 ]. قال ابن حجر: " وقال الفاكهاني معنى الحديث أنه إذا أدّى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام، وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى" [فتح الباري ج11/ص343 ].
فهذه الدرجة العالية لا يصل إليها العبد المؤمن إلا بالتزام الفرائض، والإكثار من نوافل العبادة والطاعات.
ولذلك سعى المربون من لدن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وحتى يومنا هذا إلى دعوة أتباعهم إلى الإكثار من الطاعات والنوافل حتى تزكو نفوسهم، وتصفو سرائرهم. وبالتالي يخوضون غمار الحياة محصّنين - بإذن الله تعالى - من الافتتان بزخرفها لما عندهم من رصيد إيماني يدفعهم إلى الزهد في الدنيا والتطلع للآخرة.
3- مشروعيّة المداومة على النوافل والالتزام بها:(/1)
عن أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( من صلّى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [صحيح مسلم (728) ج1/ص502 ]. فقوله صلى الله عليه وسلم من صلى...في يوم وليلة يدل على أن المداومة مطلوبة، وهذا ما فهمته أم المؤمنين إذ تقول في ختام الحديث: (فما تركتهن منذ سمعتهن) قال النووي فيه: "إنه يحسن من العالم ومن يقتدي به أن يقول مثل هذا، ولا يقصد به تزكية نفسه بل يريد حث السامعين على التخلق بخلقه في ذلك، وتحريضهم على المحافظة عليه، وتنشيطهم لفعله) [صحيح مسلم (728) ج1/ص502 ].
وعن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حُرّم على النار) [سنن أبي داود ج2/ص23، صحيح ابن خزيمة ج2/ص206، سنن الترمذي ج2/ص293قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب ]. ولفظ (حافظ) في الحديث يدل على طلب المداومة والاستمرار.
وقال صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أنواع أخرى من العبادات، فيقول في الحث على الاستغفار: ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) [سنن أبي داود ج2/ص85 ]. وكذلك لفظ (من لزم) يدل على الاستمرار وملازمة الاستغفار والإكثار في كل وقت وعلى كل حال، قال في عون المعبود: (قوله: (من لزم الاستغفار) أي عند صدور معصية، وظهور بليّة أو من داوم عليه فإنه في كل نفس يحتاج إليه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ) [ رواه بن ماجه بإسناد حسن صحيح، عون المعبود ج4/ص267 ].
في الأحاديث التي أوردناها نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو أصحابه، ويرغّبهم في القيام بشيء من النوافل والمداومة عليها، سواء كانت هذه النوافل في الصلاة أو في الأذكار، وبيّن الأجر الجزيل في ذلك، وما ذكرته من أمثلة ما هو إلا غيض من فيض.
وهكذا نجد أن في هذه الأحاديث ما يدل على طلب المداومة والاستمرار عليها، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: ( وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ ) [صحيح البخاري (5523) ج5/ص2201 ]. وتقول عائشة: " وكان أحبّ الدين إليه ما داوم عليه صاحبه" [ صحيح البخاري (46) ج1/ص24 ].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ ) [ صحيح مسلم ج2/ص811 ].
كما أن الالتزام بالنوافل وسيلة للوصول إلى محبة الله تعالى، كما في الحديث القدسي المذكور أعلاه في أولياء الله، وقد ثبت عن كثير من السلف الصالح إلزام أنفسهم بكثير من التطوعات بحيث يواظبون عليها ولا يتركونها، بل ويقضونها إذا فاتتهم في أوقاتها، بل ربما يعاقبون أنفسهم عند فواتها، فقد كان " لمحمد بن سيرين سبعة أوراد فإذا فاته شيء من الليل قرأه بالنهار" [ تهذيب السير 1/459]، " وعبدالله بن عون المزني كان له سُبُع يقرؤه كل ليلة، فإذا لم يقرأه أتمّه بالنهار " [ تهذيب السير 2/545]، " ونام تميم بن أوس الداري ليلة لم يقم للتهجد، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع " [ تهذيب السير 1/177].
4- مشروعيّة السؤال عن أداء النوافل والحثّ على التزامها:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه عن قيامهم ببعض النوافل، فقال لهم ذات يوم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا قال: فمن تبع منكم اليوم جِنازة؟ قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: -رضي الله عنه-: أنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) [صحيح مسلم ج2/ص713 ]. وفي سؤاله عن إيقاع الأعمال الصالحة والنوافل بيان لمشروعية السؤال على سبيل التفقد لأحوال أصحابه والاطمئنان على حرصهم ومبادرتهم لأعمال الخير، وفي بيانه صلى الله عليه وسلم لثواب هذه الأعمال حثّ على القيام بها، والمداومة عليها، وفي هذا الشأن يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله ) [سنن الترمذي ج4/ص638 وقال الترمذي هذا حديث حسن ]، قال الترمذي: ومعنى قوله (من دان نفسه) يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وتزيّنوا للعرض الأكبر؛ وإنما يخفّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا " [سنن الترمذي ج4/ص638 وقال الترمذي هذا حديث حسن].
5- كراهة ترك المواظبة على التطوعات بعد التزامها:(/2)
ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهيه عن ترك المسلم لما اعتاده من النوافل، فها هو صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: ( يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) [صحيح البخاري (1011) ج1/ص387، صحيح مسلم (1159)، ج2/ص814 ]، فكيف عرف صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبر عنه إلا من خلال متابعته لأصحابه، وقال ابن حجر:" قال ابن حيان: فيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط، ويُستنبط منه كراهة قطع العبادة، وإن لم تكن واجبة"، وقال النووي: المختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره "، والتوجيه النبوي يدل على الأخذ بالتوسط والقصد لئلا تؤدي الزيادة غير المقدور عليها إلى الانقطاع، وترك العمل بعد المواظبة عليه، وهو ما دل الحديث على كراهته.
6- الدعوة إلى تخصيص أوقات إيمانية للطاعات:
أورد البخاري في صحيحه تعليقاً عن معاذ بن جبل أنه قال: اجلس بنا نؤمن ساعة" وروى ابن أبي شيبة بسنده عن الأسود بن هلال المحاربي قال: قال لي معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني نذكر الله؛ فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه"، وقال العيني في العمدة:" أي اجلس حتى نكثر وجوه دلالات الأدلة الدالة على ما يجب الإيمان به"، وقال النووي:"معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة، وأمور الدين؛ فإن ذلك إيمان"، وقال ابن المرابط: "نتذاكر ما يصدق اليقين في قلوبنا؛ لأن الإيمان هو التصديق بما جاء من عند الله تعالى".
7- الأمر بالوفاء بالعهد في الأعمال المشروعة:
لما ألزم عبد الله بن عمرو بن العاص نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، لم يترك هذا الأمر حتى كبرت سنه، وشقّ عليه ذلك، وتمنى لو أنه قبل رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم له. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عبد الله " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟!"، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: " فلا تفعل. صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام؛ فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله ) فشددت فشدّد عليّ قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: ( فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزدْ عليه ) قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام ؟ قال : ( نصف الدهر ) فكان عبد الله يقول -بعد ما كبر-: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد كان يرى من نفسه التزاماً مع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يكن يدعه رغم مشقته عليه، قياماً بما ألزم نفسه به، وبما ضمنه قوله للنبي صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على ما عيّنه له.
وأما التعاهد على الالتزام بها فهذا حكمه حكم العهد في الإسلام، ويدخل في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقوله تعالى: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) قال ابن عطية: وأوفوا بالعهد: عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه أو بين المخلوقين في طاعة [ تفسير ابن عطية ص1142]، وقال: أصوب ما يُقال في تفسير هذه الآية أن تُعمّم ألفاظها بغاية ما تتناول... ويُعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع"[ تفسير ابن عطية، ص505]، وقال القرطبي في قوله: (وأوفوا بعهد الله): لفظ عام لجميع ما يُعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة"[ تفسير القرطبي 2/1797].
ولقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وبايعوه في العقبة، ولم تكن تلك البيعة منهم إلا عهداً على الإيمان والالتزام، ولم تكن إذ ذاك قد قامت دولة الإسلام حتى نقول: إنها بيعة كبيعة الأمراء. كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت أنه بايع بعض الصحابة على بعض أمور الإسلام من باب التأكيد عليها كما ثبت في حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه:" بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم " رواه البخاري، ونقل ابن حجر (1/139) قول القرطبي:" كانت مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد أو توكيد أمر"، فالوفاء بالعهد مطلوب شرعاً، وإن اختلف في حكمه بين الوجوب والندب وليس هذا مجال بحثه، قال ابن تيمية [ الفتاوى 11/101]:" الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن ".
8- الأمر بالتعاون على البر والتقوى:(/3)
وفي التعاهد على الطاعات التطوعية جانب تربوي آخر، وهو مطلوب شرعاً ألا وهو التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى} قال الطبري: " وليعن بعضكم -أيها المؤمنون- بعضاً على البر وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والتقوى: هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه" [تفسير الطبري ج6/ص66 ]. وهو من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، قال تعالى: ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). قال السعدي: " والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي يوصي بعضهم بعضاً بذلك، ويحثه عليه، ويرغّبه فيه، والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة؛ فبالأمرين الأولين يكمّل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمّل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم" [تفسير السعدي ج1/ص934 ]، ولا شك أن التعاون بالتعاهد والمذاكرة والمحاسبة يحصل به من فعل الخيرات وكثرة القربات ما لا يحصل بالانفراد عادة، وهو سبب لنفي الكسل، وطرد الغفلة، والبعد عن الركون إلى الدنيا، وغير ذلك من الأمور المقعدة عن فعل الخيرات والمبادرة إليها.
ومما سبق يمكن القول: إن المسألة المسؤول عنها مشروعة وجائزة بما ورد من عمومات الأدلة السابقة، فالتعاهد على فعل الطاعات، والسؤال عن فعلها معين على تزكية النفس وهو مطلب شرعي، ومحقق للحث النبوي على المحافظة على الأعمال الصالحة ونوافل العبادات، ويجانب ترك هذه النوافل الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، ومن جهة أخرى فيه تشبه بفعل الصحابة في تذاكرهم في إحياء إيمانهم.
ومع ما سبق ذكره ينبغي التنبه، إلا أن الإلزام لمثل هذا التعاهد ليس في مثل منزلة الواجبات الشرعية المنصوص على وجوبها بأدلة تخصها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما ينبغي التنبيه على أن الالتزام في هذا التعاهد لا يجعل تلك النوافل والقربات واجبة؛ فذلك لا يصح إذ لا وجوب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وغاية ما في هذا الإلزام هو اندراجه في عمومات الأدلة وخاصة عموم وجوب الوفاء بالعهد، وإنما هو وسيلة من الوسائل الموصلة إلى زيادة الإيمان وزكاة النفس، ومتى أمكن تحقيق ذلك بوسيلة أخرى فلا حرج، وأما بالنسبة للكيفيات والآليات التي يقع بمثلها هذا التعاهد فليس لها صورة معينة للمشروعية، ولكن ينبه على عدم المبالغة في التوثيق والتغليظ في مقتضى ومضمون التعاهد.
كما ينبغي البعد عن التفاصيل الدقيقة والآليات الحرفية فيما يتعلق بالمتابعة والسؤال، وذلك بعداً عن أمرين:
أولهما- الحرج الشرعي فيما قد يكون فيه شيء من ذلك كالقسم أو استخدام لفظ البيعة ونحو ذلك.
ثانيهما- الخلل التربوي من خلال التنفير الناشئ من المبالغة في الإلزام، أو حصول التصنع، والمرآة استجابة لتلك المبالغة.(/4)
التعبيرضوابط ومحاذير 10/7/1425
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الرؤى باب زلت فيه أقدام؛ فمن الناس من يكذب في رؤياه ليضحك الناس أو يجلب الأنظار، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل". رواه البخاري، فالذي يقول: رأيت في المنام ولم ير، جاداً أو مازحاً يكلف يوم القيامة بأن يعقد بين شعيرتين، بين حبل الشعرة، ومن يستطيعه؟ لن يستطيع أحد ذلك، فالكذب في الرؤى أمر خطير، متوعد صاحبه، فليتق الله أولئك الذين يعمدون إلى إضحاك الناس باختلاق رؤى لم يروها.
ومن المزالق في هذا الباب أيضاً عرض الرؤى على غير أهل التقى والصلاح، بل على الدجالين والمشعوذين الذي يستعينون بالشياطين في التأويل، فقد ثبت أن هناك من يستعين بالجن في هذا الأمر فيخدع الناس، وكما أنك في الفتوى لا تعرض ما لديك من مسائل العلم والشرع إلا على من عُرف بعلمه وفضله وتقواه، فكذلك الرؤيا، ربما ضر عرضها على من لا يحسن تأويلها من المبطلين.
وتعبير الرؤيا فتوى تصدر عن علم وإلهام. يقول الله _جل وعلا_: " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). وقال: " أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ"(يوسف: من الآية43). فهي علم وإلهام وفتوى " وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية6). "وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). ولا يجوز لأحد أن يعبر إذا لم يكن من أهل ذلك العلم، كما قال الإمام مالك: أيلعب بالنبوة؟ وذلك لأن الرؤيا الصالحة جزء من النبوة ففي حديث أبي هريرة ورد أنها جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة وفي حديث عبادة أنها جزء من ست وأربعين جزءاً، فهي جزء من النبوة.
وأقول هذا لأنني رأيت البعض يتعجل، فيقول للرائي: أنا أعبر رؤياك، وهو ليس من أهل التعبير!
ومن الوقفات المهمة التي زلت فيها أقوام، هو أن الرؤيا ليست من مصادر التشريع أو التلقي فلا تستحدث بها بدع فقد كمل الدين، ولا تشرع بها أحكام " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ "(المائدة: من الآية3)، فبعد وفاة محمد _صلى الله عليه وسلم_ وانقطاع الوحي، وقد رأينا من الناس من يقول صلوا في هذه الليلة، واقرؤوا بسورة الأنعام، كما حدث قبل ضرب العراق، استجابة لمنامات وأحلام، وهذا باب خطير فالرؤى لا يؤخذ منها تشريع، والرؤيا إما بشارة أو نذارة، وقد ثبت عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "أنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة". رواه البخاري. وقد اجتمعت البشارة والنذارة في تعبير يوسف لصاحبي السجن. عبر للأول أنه سيطلق سراحه ويخرج ويخدم الملك هذه بشارة، وعبر للثاني نذارة، عندما قال: "فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ" (يوسف: من الآية41)، أنذره من أجل أن يستعد للموت، فلا يتعدى بالرؤيا، ثم إن البشارة أو النذارة نرجوها ولانقطع بها.
ومن الأخطاء في باب الرؤى الخلط في تهيؤ رؤية النبي _صلى الله عليه وسلم_. إن رؤيا النبي _صلى الله عليه وسلم_ حق، فالمرء قد يرى النبي _صلى الله عليه وسلم_ في المنام، وتلك بشارة له،وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي". رواه مسلم. ولكن حتى نعلم أنها رؤيا صحيحة لابد من توافر صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_ الثابتة في المرئي، وإلا فليس هو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وليس كل من ادعى أنه رأى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يكون مصيباً وإن كان صادقاً فقد يغرر به الشيطان فيتمثل بغير صورة النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأنه لا يستطيع أن يتمثل بصورته _عليه الصلاة والسلام_ ثم يزعم أنه النبي، ومن لا يعرف صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_ تنطلي عليه الحيلة، ولذلك إذا جاء شخص للمعبر، وقال رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في المنام، فليسأله عن صفات من رأى، فإن رآها صفات النبي _صلى الله عليه وسلم_، كما هي ثابتة عن النبي _صلى الله عليه وسلم_، وكما نقلها الصحابة، فهو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، أما إن كان من رآه على غير صفته _صلى الله عليه وسلم_ فليس هو نبينا _صلى الله عليه وسلم_.
التعبير باب من أبواب الفتنة، فليحذر المعبرون من ذلك، وإياكم أن تستغلوا تعبير الرؤى للوصول إلى أسرار الناس دون الحاجة إلى ذلك
ثم هنا وقفات مع أخطاء يقع فيها بعض المعبرين:(/1)
الوقفة الأولى: كلمة لطلاب العلم أولاً، وأخص المعبرين منهم، لا تنشغلوا بتعبير الرؤيا إلا بمقدار، كما كان يفعل النبي _صلى الله عليه وسلم_، وهذه مسألة، الناس فيها بين إفراط وتفريط، فبعض الأشخاص يرفض أن يعبر الرؤى إطلاقاً، مع أن الله قد أعطاه ملكة التعبير، فأقول له: يا أخي الكريم، مادام أن الله أكرمك بملكة التعبير كما أكرم يوسف، وأكرم محمداً _صلى الله عليه وسلم_، وأكرم بعض المعبرين عبّر ولا تعتذر، وآخرون جعلوها هي حياتهم، عطلوا كثيراً من أمور الدعوة وانشغلوا بالتعبير، فهنا إفراط وتفريط والمنهج الحق، وما كان عليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ هو الاعتدال في هذا الباب، أن تعبر الرؤيا باعتدال دون أن تكون هي شغلك، وأن تكون كل حياتك، ولكن بحسب المقدار، وحسب الظروف الخاصة بك، واحرص على أن تستخدم تلك الموهبة التي منحك الله إياها في الدعوة إلى الله كما فعل يوسف _عليه السلام_، ولكن على ألا تشغل المجالس بها، فقد وجدت بعض المجالس من أولها إلى آخرها لا هم لأصحابها إلاّ الرؤى!
ثانياً: .من هذه الوقفات، على المعبر ألا يعبر للمسلم ما يحزنه إلا إذا كان فيه مصلحة، على أن يوجهه التوجيه المناسب دون أن يخبره بالعاقبة المتوقعة، إلا إذا كانت هناك مصلحة راجحة.
فإذا قال قائل: يوسف عبر للرجل ما يحزنه، فذكر له أنه سوف يصلب وتأكل الطير من رأسه، قيل: كان ذلك للمصلحة فقد ذكر بعض أهل العلم أن ذلك كان لأجل أن يتوب الرجل إلى الله _جل وعلا_ وأن يحسن إسلامه؛ لأنه يرى الموت أمامه.
وكذلك فعل الشافعي _رحمه الله_ رأى رؤيا في الإمام أحمد، أرسل له من مصر إلى العراق، وقال له: إنك ستبتلى فهيئ نفسك.
وقد رأيت بعض الناس عبر لهم بعض المعبرين رؤى وأفادوهم بتوقع ابتلاء فهيأوا أنفسهم لذلك.
ثالثاً: وقفة مهمة، هناك من بعض الرؤى ما يكون فيها كشف للأسرار وللمستور، فالمعبر إذا عبرها قد يصل إلى بعض الأسرار الخاصة للرائي أو لأهل بيته، فلا يجوز له أن يحدث بها أحداً، بل يتق الله في ذلك، فهو مما اؤتمن عليه، إلا إذا ظهرت في إخباره بذلك مصلحة راجحة.
رابعاً: من هذه الوقفات، هناك تلازم بين الرؤيا وتعبيرها وصاحبها، فبعض الناس يعبر الرؤيا من خلال الورق، يذكر أن ابن سيرين _رحمه الله_ جاءه رجل فقال: رأيت أني أؤذن. قال: تحج، فجاءه بعد قليل رجل آخر وهو في مجلسه، قال: رأيت إني أؤذن. قال: تسرق فتقطع يدك. فقال له أصحابه: الرؤيا واحدة والتعبير مختلف، قال: رأيت أن الأول رجل صالح فذكرت قوله _تعالى_: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ "(الحج: من الآية27). والثاني رجل سوء، فذكرت قوله _تعالى_: " ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ"(يوسف: من الآية70)، فهناك تلازم بين الرائي وبين الرؤيا، وهاتان الأولى: بشارة، والثانية: نذارة، ولذلك عبرها ابن سيرين.
خامساً: من هذه الوقفات، ومن خلال ما ورد في القرآن والسنة، نجد توافقاً ظاهرا بين الرؤيا وتعبيرها بعيداً، وأقول: توافقاً لا تطابقاً، فأغلب الرؤى الصالحة تكون واضحة قصيرة جلية. لماذا أقول هذا؟ لأنني أرى بعض المعبرين يصل إلى قضية وكأنه يحلل ألغازاً بعيدة جداً، وانظروا في الرؤى التي في سورة يوسف، نجد تقارباً بين الرؤيا وبين تعبيرها. رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، التعبير أحد عشر ابناً، والشمس والقمر أبوه وأمه، وهذا الذي حدث. وكذلك رؤيا صاحبي السجن، فيه توافق بين الرؤيا وتعبيرها، كذلك رؤيا الملك، سبع البقرات السمان وسبع البقرات الهزيلة، نرى فيه توافقاً بين السنوات السمان وبين اليسر، وهذا مما يلحظ في حديث عبد الله بن سلام _رضي الله تعالى عنه_، وغيرها من الرؤى التي وردت عن النبي _صلى الله عليه وسلم_، ورؤيا إبراهيم "إني أرى في المنام أني أذبحك"، أما أن تتحول الرؤى إلى ألغاز وأسرار، ففي النفس من ذلك شيء.
سادساً: التعبير باب من أبواب الفتنة، فليحذر المعبرون من ذلك، وإياكم أن تستغلوا تعبير الرؤى للوصول إلى أسرار الناس دون الحاجة إلى ذلك، فبعض المعبرين إذا جاءه من يقص عليه رؤيا بدأ يسأله أسئلة خاصة، والرائي يجيب على كل الأسئلة، يتصور أن لها علاقة بالرؤيا، والمعبر يعرف أن لا علاقة لها بالرؤيا، بل يريد أن يتوصل إلى أمور سولها له الشيطان، فلينتبه المعبرون لذلك وليتقوا الله _جل وعلا_.
سابعاً: من هذه الوقفات خطورة التعبير في الإذاعة والصحف والإنترنت وسائر وسائل الإعلام، لما في ذلك من مفاسد ظاهرة تجعل التعبير ظاهرة عامة، كما يحدث في بعض المجالس، والواجب أن يعتدل في هذا الجانب، وقد أصبح التعبير الآن باب دعاية لوسائل الإعلام، يحكى فيها ولا يعلم الصادق من الكاذب. وأنصح الناس ألا يلجؤوا إلى هؤلاء الذين يعبرون عبر الهاتف، وفي وسائل الإعلام ممن لا يعرفون بتقواهم ولا بورعهم ولا بعلمهم، بل يحذر من هؤلاء، فإن كثيراً منهم قد لا يكون على الحق.(/2)
ثامناً: وأخيراً أختم هذه الوقفات بما يتعلق بالرؤى في باب الفتن. الناس يتعلقون بالرؤى في أزمان الفتن، وقد تنزل في غير موضعها، فيجب أن نتعامل مع الرؤى وفق الكتاب والسنة، وأن نتعامل مع الرؤى بحذر، وألا نستعجل في تنزيل الرؤى على الواقع، أو أن نجزم بذلك، فهذا باب خطير، وكم جاءت من أحداث، وذكرت رؤى وعبرت على أنها في الحدث الفلاني، ثم يكون الأمر ليس كذلك.
ومن أخطر ما رأيت في هذا الباب، ما يتعلق بالمهدي. فالمهدي حق، وهو من علامات الساعة، وقد وردت فيه أحاديث صحيحة، ولكنه من أشراط الساعة الكبرى، ومنذ مئات السنين وهناك من يرى أن فلاناً هو المهدي، ثم يتضح أنه ليس هو المهدي، وحادثة الحرم التي وقعت عام أربعمائة وألف من أسبابها الرؤى التي رئيت، فكانت مزلة أقدام.
وختاماً الرؤى باب عظيم، قد تكون رحمة من الله _جل وعلا_ تسرّي عن المسلم، وتدله وتنبهه إلى بعض ما قد يقع فيه، وذلك إذا تعومل معها وفق المنهج الشرعي الصحيح، كما كان يفعل النبي _صلى الله عليه وسلم_، وكما كان يفعل الصحابة _رضوان الله تعالى عليهم_، فإن أخطئ في تعبيرها، أو في التعامل معها، كانت مزلة وفتنة وبلاء.. نسأل الله السلامة والعافية.(/3)
التعدد مباح ومشروع ولكن ...
شكوى زوجة:
قالت لي احدي الزوجات أن زوجها تركها ومعها ستة من الأولاد وتزوج غيرها ، وهو غير قادر على النفقة على أولاده ..وبالرغم من ذلك تركهم بلا نفقة وهجر هذا البيت وتزوج الثانية .
وقالت أخرى:
زوجي يرمي لنا القليل من المال كل شهر لا يكفي لمصاريف البيت والأولاد وتزوج بأخرى أبكي ليل نهار , وعندما أراه أطلب منه ما يكفينا ولكنه يرفض ويقول ليس معي أكثر من ذلك لأعطيكم إياه , وعندها أربعة من الأبناء فلماذا تزوج إذن ؟! سؤال يحيرها ويحيرنا نحن كذلك وفي الوقت نفسه يحزنها.
عزيزي القارئ:
تعدد الزوجات معروف في الشرائع السابقة , فلم يكن الإسلام أول من شرع تعدد الزوجات , ولكن الإسلام حدده بأربع أي أنه يحرم على الرجل أن يكون عنده أكثر من أربع زوجات في وقت واحد.
فعن عمير الأسدي قال: أسلمتُ وعندي ثمانون نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [[ اختر منهن أربعاًََ ]], وفي الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي رضي الله عنه وقد أسلم وتحته عشر نسوة: [[ اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن ]].
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: [ وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله عز وجل أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ].
وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالي ذلك في قوله تعالى: [[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ]].
وهذا رسولنا الكريم يقول لمن اتخذ عهدا على نفسه ألا يتزوج النساء: [[ وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ]].
وبالتالي لا يحق لأحد الاعتراض على مشروعية التعدد فإن ذلك يكون اعتراضاً على المشرع الخالق سبحانه وتعالى والمشكلة هنا ليست في شرع الله تعالى وإنما في الأخطاء الشخصية والفردية التي يفعلها الأفراد ، وبالتالي لا ننسب إلي شرع الله الخطأ والظلم وما يحدث من مآسي ومشاكل نسمع عنها بسبب التعدد إنما يرجع في المقام الأول إلى فشل الزوج في إحداث التوازن بين الأطراف وعدم تحقيق شروط التعدد.
وللتعدد شروط
والتعدد مع كونه مباحاً وسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم له شروط وهي:
1- العدل.
2- القدرة على الإنفاق.
العدل: لقد اشترط الإسلام لتعدد الزوجات العدل بينهن , قال تعالى: [[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ]] , فقد أفادت الآية الكريمة أن [العدل] شرط لإباحة التعدد, فإذا خاف الرجل من عدم العدل بين زوجاته إذا تزوج أكثر من واحدة كان محظوراً عليه الزواج بأكثر من واحدة.
وكلنا يعلم أن الله تعالى يحرم الظلم بشتى ألوانه ، ويحرم ظلم الزوجة , ويزداد تحريم الظلم فيمن عنده أكثر من زوجة ولذلك يقول المصطفي صلى الله عليه وسلم: [[ من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل ]], وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته في العطاء وفي المبيت في الليالي , وكان يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ]], لذلك [[ كان النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره وغزواته يقرع بين نسائه ]], رواه البخاري, يعني يضرب بينهن القرعة ليختار من تذهب معه تلك الأسفار والغزوات ، إنه العدل فيما يملك.
إذن ما يفعله بعض الرجال من ظلم لزوجاتهم وحزن الزوجات لذلك أمر لا يقره الشرع ويأثمون عليه , وإذا خاف الرجل عدم العدل بين نسائه لزمه الاقتصار على واحدة .
القدرة على الإنفاق:
قال تعالى: [[فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدني ألا تعولوا ]].
قال الشافعي رحمه الله: معنى [ ألا تعولوا ] أي ألاّ يكثر عيالكم, وعن عائشة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: [[ ألا تعولوا ]], أي [ لا تجوروا ].
وهذا القول الأول يدل على شرط الإنفاق , لأن الخوف من كثرة العيال هو بسبب ما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يعجز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة, والقدرة على الإنفاق عند إرادة التعدد شرط لإباحة التعدد .
فالإقدام على الزيجة الثانية مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولي عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير , بل من أنواع الظلم والظلم غير جائز, وقد قال الله تعالي: [[' وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله ]], ويقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: [[ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج , فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ]], فإذا لم يستطع علي مؤونة الزواج لم يجز مع أنه هو زواجه الأول , فمن باب أولي أن لا يجوز له الزواج بالثانية وعنده زوجة إذا لم يعجز عن الإنفاق عن الثانية مع إنفاقه على الأولى , أو يترك النفقة على الأولى وأولادها وينفق فقط على الثانية.
وخلاصة القول:(/1)
أن الإسلام أباح التعدد في ظروف لا يستقيم معها سوى التعدد , فضلاً عن شروط العدالة والإنصاف والإنفاق التي فرضها الإسلام على الرجل في هذه الحالة , فالتعدد تقتضيه الحياة لفئة من الرجال أعطاهم الله نعمة الدين والعقل والصحة والمال والعدل , ولقد كان الرجل في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام يتزوج من النساء ما شاء , فجاء الإسلام فحدد التعدد بأربع , واشترط العدل والنفقة فإن انتفيا فلا تعدد:
' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا '
أسأل الله تعالى هداية الرجال إلى العدل والإنفاق ...والسداد والتوفيق
انتظرونا في هذه السلسلة المتفردة من ملف ' تعدد الزوجات ' .(/2)
التعريف بالقرآن الكريم
فضله، مكانته، وكونه المصدر الأول للتشريع الإسلامي
"القرآن الكريم كلام الله منه بدا، بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله -تعالى- بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر…".
وصفه منزله بقوله -سبحانه-: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود :1].
حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر :9].
فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم :1].
فتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وضمن للمسلمين الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم تَلَوْه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بما شرع، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم. قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة : 121]. قال ابن عباس: "يتَّبعونه حق اتباعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". وقال قتادة: "هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا بكتاب الله فصدَّقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه.
نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن 1 - 3]. وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 30 - 31].
من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف : 4]. وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48].
قال علماء التفسير: "وعلُوُّ القرآن على سائر كتب الله -وإن كان الكل من عنده- بأمور، منها: أنه زاد عليها بسور كثيرة؛ فقد جاء في الحديث أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خُصَّ بسورة الحمد، وخواتيم سورة البقرة، وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن السبع الطوال مثل التوراة ، والمئين مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد هذا فضل" وأخرج الإمام أحمد والطبراني، عن واثلة بن الأسقع، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأُعطيت مكان الزبور المئين، وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل"
والسبع الطوال: من أول سورة البقرة إلى آخر سورة الأعراف، فهذه ست سور، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا؛ لعدم الفصل بينهما بالبسملة، بجعل الأنفال وبراءة بمنزلة سورة واحدة أم هي سورة يونس؟(/1)
والمئون: هي السور التي تزيد على مائة آية، أو تقاربها، والمثاني هي السور التي تلي المئين في عدد الآيات، أو هي السور التي يكون عدد آياتها أقل من مائة آية؛ لأنها تُثَنَّى أي تكرر أكثر مما تُثَنَّى الطوال والمئون.
وأما المفصل: فهو ما يلي المثاني من قصار السور. وقد اختلف في أوله فقيل: من أول سورة الصافات، وقيل: من أول سورة الفتح، وقيل: من أول سورة الحجرات، وقيل: من أول سورة ق -وهو الذي رجحه الحافظان: ابن كثير، وابن حجر- وقيل غير ذلك، واتفقوا على أن منتهى المفصل آخر القرآن الكريم.
ومنها: أن الله جعل أسلوبه معجزا، وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله -تعالى- من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام، ولكن ليس فيها الأسلوب الخارج عن المعهود، فكان القرآن أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف :4].
ومما يدل على هذا أيضا قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص 102، 103: "وإنما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم -القرآن- الذي شرفه الله -تعالى- على كل كتاب أنزله، وجعله مهيمنا عليه، وناسخا له وخاتما له؛ لأن كل الكتب المتقدمة نزلت إلى الأرض جملة واحدة، وهذا القرآن نزل منجما بحسب الوقائع لشدة الاعتناء به، وبمن أنزل عليه، فكل مرة كنزول كتاب من الكتب المتقدمة" انتهى.
وهذا الكتاب المبارك قرر كثيرا من الحقائق العلمية الكونية في معرض الاستدلال على وجود الله وقدرته ووحدانيته، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وحث على الانتفاع بكل ما يقع تحت أبصارنا في الحياة مما خلقه الله قال -سبحانه-: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وقال -جلت قدرته-: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
فعلى المسلمين أن يُعملِوا أفكارهم في علوم الكون، ولا يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه.
نعم إن الحديث عن القرآن الكريم لا يَنْضَب معينه، فهو الذي حَبَّب إلى المسلمين العدل والشورى، وكره إليهم الظلم والاستبداد، شعار متبعيه: قوة الإيمان، وإنكار الذات، والإيثار، والرحمة فيما بينهم.
فلنعش مع القرآن الكريم: تلاوة وفهما، وعملا وحفظا، فمعايشة القرآن من أجلِّ الأعمال التي يتصف بها المؤمنون، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
فالله -تبارك وتعالى- يشيد في هاتين الآيتين بالتالِينَ لكتابه، تلاوة مصحوبة بالتدبر الذي ينشأ عنه الإدراك والتأثر، ومما لا شك فيه أن التأثر يفضي بالقارئ -لا محالة- إلى العمل بمقتضى قراءته.
لذا أتبع الحق -تبارك وتعالى- القراءة بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سرا وعلانية من فضل الله، ثم برجاء القارئينَ بسبب ذلك تجارة لن تبور، فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة تؤدي إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله، إنه -سبحانه- غفور شكور، يغفر التقصير، ويشكر الأداء.
إذن فلا بد من قراءة القرآن، قراءة متدبرة واعية، تكون سببا في فهم الجمل القرآنية، فهما دقيقا، فإن عز على القارئ شيء في فهم المعنى سأل أهل الذكر، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والمُدارسة القرآنية مطلوبة دائما، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه "
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله " ليس البيت قيدا؛ بدلالة رواية مسلم الأخرى: "لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل- إلا حفَّتهم الملائكة…" فإذا اجتمعوا في مكان آخر غير المسجد كان لهم هذا الفضل أيضا، فالتقييد ببيت الله خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فالاجتماع للتلاوة، والمدارسة للتفقه في آيات الله، وما دلت عليه من أحكام وعبر في أي مكان يترتب عليه هذا الفضل، وإن كان الاجتماع للتلاوة والمدارسة في المسجد أفضل من الاجتماع في أي مكان آخر؛ لِما في المسجد من مزايا وخصائص ليست في غيره.(/2)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف "
وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وهذا يدل على بيان فضل تعليم القرآن والترغيب فيه، وقد سئل سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه"
ومكث الإمام أبو عبد الرحمن السلمي يعلِّم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة بسبب سماعه لهذا الحديث، وكان إذا روى هذا الحديث يقول: ذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.
قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: "والغرض أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل :88]. وكما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام : 26]. في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
وكما شملت رحمة الله -تعالى- التالِينَ لكتابه، المقيمين لحدوده شملت أيضا المستمعين له، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ عليَّ. قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا قال: حسبك. فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان
قال الإمام النووي "وفي هذا الحديث فوائد، منها: استحباب استماع القراءة، والإصغاء إليها والبكاء عندها، وتدبرها واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه". انتهى.
فيجب على كل مسلم أن يعرف للقرآن الكريم حقه، وأن يراعي حرمته، وأن يلتزم حدود الدِّين عند الاستماع لآيِ القرآن الكريم، وأن يقتفي آثار السلف الصالح في تلاوة القرآن الكريم والاستماع إليه، فقد كانوا شموسا مضيئة، يُحتذَى بهم في كمال الخشوع والتأثر، مؤمنين بقول الله -تعالى-: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195].(/3)
حقا، إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه كلام الله، وهو المنهج السماوي للبشر كافة، وللخلق عامة، وهو المرجع الأول في أمور دِين المسلمين، وهو الحكم الذي إليه يحتكمون، وفصل قضائه الذي إليه ينتهون، والأحكام التي وردت في القرآن الكريم لم تصدر دفعة واحدة، بل نزلت تدريجيا طوال مدة الرسالة، فبعضها لتثبيت فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقوية قلبه، وبعضها لتربية هذه الأمة الناشئة، علما وعملا، والبعض الآخر نزل بمناسبة حالات وقعت فعلا للمسلمين في حياتهم اليومية، في أوقات مختلفة، وأزمنة متفرقة، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن الكريم ما يناسبه ويوضح حكم الله فيه، من ذلك الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها، كتحريم الخمر.
فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219]. فقال الناس: ما حرَّمَ علينا إنما قال: ( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) كانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين، أَمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله فيها آية أغلظ منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]. وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مُفِيق، ثم أُنزلت آية أغلظ من ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90].
قالوا: انتهينا ربنا .فقال الناس: يا رسول الله: ناس قتلوا في سبيل الله، أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة : 93]. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو حُرِّمت عليهم لتركوها كما تركتم"
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت ساقيَ القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال: فجرَت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قُتلَ قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
مما تقدم نعلم أن: النهي عن الخمر وقع مدرجا ثلاث مرات: حين نزلت آية سورة البقرة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وقد تضمن ذلك نهيا غير جازم، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشد تقوى، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيًا"، ثم نزلت آية سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ فتجنب المسلمون شربها في الأوقات التي يظن بقاء السكر فيها إلى وقت الصلاة، فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بَيِّنْ لنا في الخمر بيانا شافيا". ثم نزلت آية سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
عند ذلك قال عمر -رضي الله عنه- عندما دُعِيَ وقُرِئَت عليه: "انتهينا".
وهكذا كان التدرج في التشريع؛ ليطهر الله -سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية من العادات المخالفة لمنهج الله، ويكملهم بالفضائل من الصفح والحلم، والإيثار والمحبة والأمانة، ورعاية الجوار والعدل، وغير ذلك من كريم الخصال.(/4)
فالله -تعالى- وحده هو المشرع لعباده، قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]. ولا يشرع للناس إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم، سواء أظهرت الحكمة من ذلك أم لم تظهر.
والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع.
وأما السنة النبوية فهي المصدر الثاني للتشريع، ولا خلاف بين الفقهاء على أنها حجة في التشريع بجانب القرآن الكريم، قال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. وقال -سبحانه-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].
وهاهو الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله يحدد في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) دور السنة بالنسبة للقرآن الكريم فيقول: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
والثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.
والثالث: أن تكون موجبة لحكمٍ سكتَ القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما".
لذا فالسنة قد تؤكد ما ورد في القرآن الكريم من أحكام، وقد تفسر نصوصه، أو تفصل ما أجمل من أحكامه، وقد تُنشئ حكما لحالات لم يرد بشأنها نص في الكتاب، ومع ذلك لا يلجأ إلى السنة دليلا للأحكام إلا عند خلو القرآن من نص يفي بالمطلوب، فالسنة هي التي وضحت لنا -نحن المسلمين- أن الصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، وهي التي بينت لنا عدد ركعاتها وأركانها، وهي التي بينت لنا حقيقة الزكاة، وعلى من تجب وأنصبتها، وكيفية الحج والعمرة، وأن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وبينت مواقيته، وعدد الطواف.
فعلى كل من يدعي أنه متمسك بالقرآن، ويهجر السنة أن يبادر إلى تجديد إيمانه، وبالرجوع إلى الله -تعالى- قال -سبحانه-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه : 82].
فالقرآن الكريم، والسنة المطهرة هما وحي الله إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهما مصدرا التشريع الإسلامي الذي رد الإنسان إلى فطرته، وجعل منه بشرا يعرف طريقه إلى الحياة، مرددا قول الله -تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/5)
التعصب الأوربي الصليبي!!
د. محمد مورو 19/2/1426
29/03/2005
منذ أن سطع نجم الحضارة الإسلامية ـ كحضارة عظيمة تحمل قيماً كريمة وتسعى لإسعاد البشر، وتحقيق مجتمع العدل والحرية والانحياز إلى المستضعفين- وهي في حالة صراع دائم ومستمر ضد القوى الشيطانيّة المتربصة بها, وعلى رأس تلك القوى الشيطانية كانت الحضارة الأوروبية التي لم تترك جريمة إلا وارتكبتها في حق البشرية. بدءاً من قهر الإنسان وقمعه، وانتهاء بنهبه وسلب ثرواته.
الحضارة الأوروبية حضارة إغريقية وثنية ذات قشرة مسيحية(1)، وقد أنتجت هذه الخلطة العجيبة بين الوثنية الإغريقية وبين القشرة المسيحيةـ أنتجت الروح الصليبية التي تتسم بها الحضارة الأوربية في مواجهة الأمة الإسلامية.
الحضارة الإسلامية بما تتسم به من عدل وتسامح وحرية ـ هي التي أنتجت أمثال عمر بن عبد العزيز الذي أمر بهدم جزء من المسجد ورده إلى الكنيسة.
وحتى في لحظات ضعف الحضارة الإسلاميةـ نجد أن رجلاً مثل الأمير عبد القادر الجزائري، وهو الذي عانى شخصياً، وعانت معه بلاده الجزائر من المذابح والمجازر والنهب والقمع الاستعماري الصليبي الفرنسي ـ نجده هو نفسه يحمي نصارى لبنان أثناء نفيه في دمشق سنة 1860 فيما عُرف بطوشة النصارى(2).
وهي الحضارة التي أنتجت أمثال الشيخ الباجوري شيخ الأزهر في عهد عباس باشا الأول ـ ذلك الشيخ الذي رفض الإفتاء بنفي بعض النصارى في السودان عندما طلب عباس الأول ذلك، وقد قال الشيخ الشجاع.
(إنه لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ، ولم يستول عليها خلل، وهم في ذمته إلى اليوم الآخر) (3).
أما الحضارة الأوروبية الصليبية فهي حضارة مجرمة. أليست هي التي أبادت الهنود الحمر في أمريكا؟ أليست هي التي مارست عمليات الخطف والاستعباد والاسترقاق لأهالي أفريقيا؟ وقتلت منهم (45) مليوناً يوم أن كان سكان إنجلترا مثلاً ثلاثة ملايين؟
أليست هي الحضارة التي ذبحت خمسة ملايين جزائري في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830 ـ 1962 (4).
أليست هي الحضارة التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين؟
الحضارة الأوروبية حضارة مجرمة بكل إفرازاتها السياسية والفكرية. الرأسمالية والاشتراكية. الملكية والجمهورية. الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية.
فعلى سبيل المثال عانى شعب الجزائر معاناة شديدة على يد الملكيين والجمهوريين على السواء، على يد المحافظين والليبراليين الفرنسيين على السواء.
بل كانت معاناته تصل إلى ذروتها في فترات الحكم الاشتراكي في فرنسا.
ففي سنة 1940 مثلاً نفذت السلطات الفرنسية مذبحة كبيرة في أهالي الجزائر، وقتلت منهم في يوم واحد أكثر من (45 ألفاً) ـ بل وقام الطيران الفرنسي بحرق قرى جزائرية كاملة. وكان يحكم فرنسا في ذلك الوقت الاشتراكيون الديمقراطيون، بل إن وزير الطيران الذي أمر بدكّ القرى الجزائرية وإحراقها كان وزيراً شيوعياً.
وهكذا فإن الحضارة الغربية الأوروبية الصليبية لم تفرز إلا كل ما هو حقير ومجرم. ألم تفرز الشيوعية والفاشية والنازية؟ بل إن كل هذه الإفرازات السياسية والمدارس الفكرية المختلفة تتناسى خلافاتها الأيدلوجية والسياسية والفكرية وتظهر على حقيقتهاـ تظهر روحها الصليبية عندما يكون الأمر خاصاً بالعالم الإسلامي أو أحد شعوبه.
وإذا كانت الرأسمالية والشيوعية قد أُصيبتا بالإفلاس، وأصبحت سمعتهما سيئة للغاية؛ فإن المثقفين المغتربين في بلادنا يحاولون الآن تحسين سمعة الحضارة الغربية، وترويج بضاعتها لدينا عن طريق التبشير بإحدى إفرازاتها وهي الاشتراكية الديمقراطية.
ووصل الأمر إلى عقد أحد مؤتمرات هذه الاشتراكية الديمقراطية في مصر 1990 ـ ويتناسى هؤلاء أن الأفعى لا تلد إلا ثعباناً. بل إن حقائق التاريخ القريب تؤكد أن بلادنا عانت أكثر المعاناة على يد هذه الاشتراكية الديمقراطية بالتحديد.
ألم تقم حكومة فرنسا الاشتراكية الديمقراطية بأبشع المذابح في الجزائر؟ بل ومارس هؤلاء المنتمون إلى الاشتراكية الديمقراطية الفرنسية أبشع أشكال التعذيب والاستنطاق في السجون الجزائريةـ بل وابتكروا أساليب شديدة الهمجية سجلت اختراعها باسمهم مثل الإقعاء على قارورة زجاجية مكسورة، وغيرها من وسائل التعذيب الوحشية.
ألم تتلق إسرائيل الدعم دائماً وأبداً من الاشتراكية الديمقراطية الدولية، بل إن حكومة إسرائيل في معظم الفترات تنتمي إلى حزب العمل الإسرائيلي، وهو العضو النشط في الاشتراكية الديمقراطية الدولية.
ألم تتعرض مصر سنة 1956 إلى عدوان ثلاثي شاركت فيه ثلاث حكومات اشتراكية هي حكومة العمال البريطانية، وحكومة الحزب الاشتراكي الفرنسي، وحكومة حزب العمل الإسرائيلي.
يخطئ من يظن أن الحروب الصليبية هي تلك الحروب التي شهدها الشرق العربي منذ 1098 م وحتى 1295 م، بل الحقيقة أن الصراع مع أوروبا الصليبية امتد في الزمان والمكان قبل ذلك وبعد ذلك.(/1)
ففي بلاد المغرب العربي امتد الصراع قبل ذلك، واستمر أكثر من ألف عام، ولا يزال مستمراً، بل إن الجزائريين يُطلقون عليها حرب الألف عام. وهي حرب استمرت بين أوروبا الصليبية ـ البرتغال ـ إسبانيا ـ إنجلترا ـ فرنساـ ألمانيا وبين بلاد المغربي وخاصة الجزائر بين كر وفر إلى أن انتهت باحتلال الجزائر سنة 1830.
وفي الشرق كانت تركيا تخوض حروب الإسلام ضد أوروبا الصليبية وفي قلب أوروبا ذاتها، واستطاعت أن تخضع معظم القارة الأوروبية للنفوذ الإسلامي التركي ـ إلى أن عادت أوروبا فاستطاعت أن تحيك المؤامرات ضد الخلافة العثمانية ونجحت في إسقاطها سنة 1924.
وقد استخدمت أوروبا الصليبية في صراعها مع الحضارة الإسلامية في المرحلة الأخيرة عدداً من التكتيكات والأساليب الشيطانية في سبيل السيطرة على الأمة الإسلامية وتدمير الحضارة الإسلامية، منها التطويق البحري عن طريق الكشوف الجغرافية، ومنها إرساليات التبشير المسيحية الأوروبية.
ومنها زرع مدارس الفكر الأوروبي والغربي في بلادنا عن طريق مؤسسات وأحزاب وصحف ومراكز إعلامية، ومنها الاحتلال العسكري، وهي ذات الخطة التي رسمها لويس التاسع أثناء سجنه في المنصورة إبان الحملات الصليبية، وفي الحقيقة فإن الهدف الأوروبي الصليبي في القضاء على الحضارة الإسلامية يتضمن أيضاً على كنائس الشرق باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية، وخاصة القضاء على الكنيسة القبطية المصرية باعتبارها جزءاً أصيلاً من التراث الحضاري والثقافي الإسلامي، وباعتبارها كنيسة متميزة ومستقلة عن الكنائس الأوروبية.
إذن عندما يتحدث المفكرون الإسلاميون في الوطن العربي عن التعصب الأوروبي الصليبي. فإن هؤلاء لا يعكسون تعصباً إسلامياً ـ بل هم يقرّرون واقعاً مرئياً لكل ذي عينين؛ بل هؤلاء الذين يتجاهلون الحقائق هم الذين يخفون تعصبهم ـ ولكن هؤلاء الذين يصفون الواقع كما هو ليسوا متعصبين ـ إذ لو كانوا متعصبين لحاولوا إخفاء تعصبهم.
نعم ـ عندما يتحدث الأفغاني أو النديم أو عرابي ـ أو مصطفى كامل أو محمد فريد أو حسن البنا أو أي زعيم وطني عن التعصب الأوربي الصليبي، وعندما يدعون إلى التمسك بالثقافة والحضارة الإسلامية، وعندما يحشدون الجماهير لمواجهة الغزوة الأوربية على بلادنا ـ، فإنهم في الحقيقة يدافعون عن الكنيسة القبطية أيضاًـ وعن التراث القبطي أيضاً، لأن الكنيسة القبطية تنتمي إلى الحضارة الإسلاميةـ ولأن التراث القبطي جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية. وإذا كانت إرساليات التبشير تستهدف تنصير المسلمين. أو زرع أنماط التفكير الغربي في بلادناـ أو العمل كطابور خامس لصالح الاستعمار، وإذا كانت إرساليات التبشير قد ارتبطت بالاستعمار أيّما ارتباط. فهي إما أن تكون طلائع له، أو تأتي في ركابه لتدعيم موقفه ونشر أهدافه والعمل على تهيئة الأجواء لصالح المشروع الاستعماري، فإنها أيضاً استهدفت تذويب الكنيسة القبطية في مصر وتبشير أبنائها، ومحاولة تحويلهم إلى الكنائس الأوروبية البروتستنتية والكاثوليكية، ومحاولة اختراق المجتمع عن طريق التلويح بالمشروع الحضاري الغربي للأقباط.
إلا أن تلك المحاولات وجدت من يتصدى لها من الأقباط وخاصة البابا كيرلس الخامس الذي أنشأ مطبعة خصيصاً للردّ على شبهات ومحاولات إرساليات التبشير بين الأقباط، بل دعا إلى مقاطعة المدارس التابعة لإرساليات التبشير، واعتبر كل من يدعم تلك المدارس خارجاً على الكنيسة القبطية(6).
________________________________________
1. من الأمور المثيرة للتأمل أن مراسم تنصيب بابا روما هي نفسها مراسم تنصيب كهنة المعابد الوثنية الإغريقية القديمة.
2. بسام العسلي ـ عبد القادر الجزائري ـ دار النفائس ـ بيروت
3. ميخائيل شاروبيم ـ الكافي.
4. محمد خليفة ـ أحمد بن بيلا ـ حوار معرفي شامل.
5. أسامة حميد ـ موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية.
6. طارق البشري ـ المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية(/2)
التعصّب (1)
د. عبد الكريم بكار 5/5/1427
01/06/2006
في الساحة الإسلامية العامة دعوة عريضة لتوحيد الأمة في كيان سياسي واحد، وفي ساحة الصحوة والدعوة هناك دعوة مماثلة لتوحيد العمل الإسلامي، أو على الأقل العمل على تقريب توجهاته ومناهجه، ولكن الواقع يشهد أن الاستجابة لكلتا الدعوتين تقترب من العدم، مع أن ولاء المسلمين قاطبة كان على مدار التاريخ للأمة، وليس للدولة القطرية، ومع أن لدى الإسلاميين الكثير من النصوص والمقولات التي تؤكد على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف والفرقة، فلماذا لم تتحقق هذه التطلّعات؟
في البداية لا بد من القول: إنني لا أحكم هنا على مدى واقعية الدعوة إلى توحيد الأمة تحت لواء سياسي واحد، ولا توحيد الجماعات الإسلامية في أي بلد من البلدان الإسلامية تحت إمرة قيادة واحدة، فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش معمَّق، لكن أود هنا أن أشير إلى مرض اجتماعي واسع الانتشار على صعيد الأمة بشكل عام، وعلى صعيد الجماعات الإسلامية على نحو خاص.
وهذا المرض والذي هو (التعصب) يشكّل عائقاً أساسياً أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات.. وذلك لأنه يكرِّس أسباب الفرقة، ويهدم ما هو موجود من أركان اللقاء والوحدة والتعاون. وهذه بعض الملاحظات الجوهرية في هذا الشأن:
للتعصّب علاقة لغوية بـ (العصبيّة)، ومعناها أن يدعو الرجل إلى نصرة (عُصبته) –أي قرابته من جهة أبيه الذين يتعصّبون له وينصرونه- والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.
إن المتعصّب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفة الشديدة والميل القوي، فهو في حالة التعصب لقومه أو جماعته أو وطنه أو أفكاره.. لا يرى فيما يتعصّب له إلا الإيجابيات والمحاسن، وفي حالة التعصّب ضد شيء مما ذكرناه، فإنه لا يرى المعايب والسلبيات، وهذا يعني أن المتعصّب مصاب بـ (عمى الألوان). والمتعصّب إنسان غارق في أهوائه وعواطفه، على مقدار ضعفه في استخدام عقله، ولا يعني ذلك أنه لا يفكر، إنه يفكر، ولكن الأفكار التي تتمحض تتمخض عن تشغيل عقله، يتم إنتاجها في إطار العواطف الجامحة التي لديه، وتكون مهمتها الأساسية ليس ترسيخ الاعتدال والإنصاف، وإنما التسويغ للميول والعواطف العمياء التي تغلي في صدر الإنسان المتعصّب!
لا يحبّ المتعصّب المناظرة؛ لأن التعصّب الذي لديه يوحي إليه بأنه على الحق الواضح الذي لا يقبل النقاش، لكن المتعصّب يحب الجدال بالباطل الذي يقوم على أسس غير موضوعية وغير عقلانية. والإنسان المتعصّب بعد هذا وذاك إنسان عجول، يُصدر الأحكام على الناس من غير فحص للأدلة والبراهين والأسس التي تقوم عليها تلك الأحكام، إنه مع قومه فيما يحبون ويكرهون، ومع جماعته فيما تقدم عليه، وفيما تحجم عنه، وهم في كل ذلك على صواب، ولا يحتاج ذلك إلى أدلة، على حد قول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم ... ...
في النائبات على ما قال برهانا
ومن لوازم التعصّب ومكوناته –بالإضافة إلى ما أشرنا إليه- الآتي:
الجمود؛ إذ إن المتعصّب يلازم الأفكار الموروثة حول ما يتعصّب له، فإذا كان يتعصّب لبلده، فإنه يحفظ كل ما قيل في فضائله بقطع النظر عن صحته، ولا يفتح عقله للتعامل مع المقولات الجديدة حول ذلك البلد؛ فهو بلد الصدق والأمانة والشهامة والكرم.. وإن كان الناس من حوله يلاحظون أن وجود هذه الفضائل نسبي، وأن بين أبناء بلده من ليس صادقاً ولا أميناً ولا كريماً...
من مكونات التعصّب ولوازمه التفكير غير المنطقي؛ إذ تنطمس الأسباب عند الحديث عن المشكلات، ويختل الربط بين المقدمات والنتائج، فإذا حدثت محنة عظيمة لجماعة المتعصّب فإن تلك المحنة ليست بسبب سوء تقديرها للأمور، أو بسبب أخطاء تربوية أو تنظيمية أو بسبب أخطاء إستراتيجية.
إن كل هذه الأخطاء لا يستطيع المتعصّب رؤيتها، ولهذا فالمحنة التي وقعت هي بسبب مؤامرة كبرى تعرّضت لها الجماعة أو بسبب وشاية من جماعة منافسة، أو بسبب عدم التزام بعض أبنائها بالتعليمات.. وحين يُنبَّه المتعصّب إلى أن السلوك الفلاني سيؤدي إلى كذا وكذا، فإن المتعصّب يفسر ذلك بالحسد والحقد والجهل؛ وذلك لأن في سلسلة المعقولات لديه حلقات مفقودة، لهذا فإنه لا يستطيع رؤية التداعيات المنطقية بين الأشياء.(/1)
التعميم المفرط داء وبيل يُبتلى به المتعصبون عادة، ونحن نقول دائماً: إن التعميم المفرط من أكثر أخطاء التفكير شيوعاً، وذلك بسبب عجز معظم الناس عن إصدار أحكام مبنية على رؤية تفصيلية منصفة، إن أي فضيلة تثبت لواحد من أفراد قبيلة المتعصّب، يعمّمها على باقي أبناء القبيلة، وإن أي رذيلة تثبت عن قبيلة منافسة يقوم بتعميمها على جميع أبناء كل تلك القبيلة، وفي هذا من الظلم ما لا يخفى. وهكذا فالمحاباة والتحامل صفتان أساسيتان لدى الإنسان المتعصّب، وهاتان الصفتان توجدان خللاً كبيراً في الشخصية، ولهذا فإن المتعصّب يكون في الغالب محروماً من التوازن العقلي والانفعالي الذي يتمتع به الأسوياء.
نتابع في هذا المقال الحديث عن التعصّب الذي بدأناه في المقال السابق.
2- التعصّب حين يطول أمده، فإنه يؤثر في الشخصية تأثيرًا بالغًا، إنه يصبح عبارة عن مصنع للنظارات التي يرى المتعصّب الأشياء من خلالها، فهو في كل موقف يتعلق بمن يوجه التعصّب ضدهم، يفكر، ويفهم، ويدرك، ويعي، ويشعر، ويسلك ويتصرف ويحكم وفقًا للصورة الذهنية التي شكّلها عنهم؛ وعلى سبيل المثال فإن المتعصّب حين يعتقد أن القبيلة الفلانية قبيلة منحطّة في نسبها أو سجلها التاريخي أو مكانتها الاجتماعية الحاضرة، فإن نظرته إلى تصرفات أفرادها وأحكامه عليهم ومشاعره نحوهم، تتجسد في الآتي:
o إذا رأى واحدًا من أفراد القبيلة، فإنه ينظر إليه نظرة دونية، فهو غير جدير بالتفوق الظاهر، وإذا احتل منصبًا كبيرًا نظر إليه على أنه أصغر من أن يحتل ذلك المنصب، وإذا طالب بحق ثابت له، رأى أنه يبالغ في طلب ذلك الحق.
o إذا حدثت سرقة أو جناية، أو وقعت فعلة شنيعة، ولم يُعرف مرتكبها فإن المتعصّب يتهم واحدًا من أبناء تلك القبيلة -لا على التعيين- بفعل ذلك، ويبعد التهمة عن أبناء القبائل الشريفة والرفيعة.
o حين يقع ظلم على رجل ينتمي إلى قبيلة وضيعة فإن المتعصّب لا يجد في نفسه الحماسة للدفاع عنه ومناصرته، ربما لأنه يعتقد أنه لا يُعقل أن يكون مظلومًا، أو يعتقد أن من المؤكد أنه هو الذي تسبّب في إيقاع الظلم على نفسه.
o يحاول المتعصّب الابتعاد في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية عن أفراد القبيلة المنحطة وذلك خوفًا من العار أو الأذى أو الخيانة.
o ينظر إلى ابن القبيلة المنحطة على أنه غير موثوق في كلامه، ويفسر الغامض منه تفسيرًا سيئًا.
إن كل ما ذكرناه يتم من خلال الرؤية الاجمالية، ومن غير أدلة وبراهين يمكن الاعتماد عليها. وأنت ترى أنما أشرنا إليه يشكل في الحقيقة نوعًا من التمييز الشبيه بالتمييز العنصري الذي مارسه البيض في جنوب إفريقية، ويمارسه اليهود اليوم في فلسطين السليبة. إن التعصّب والذي يعزز التمييز بالصورة التي رأيناها يقسِّم أبناء الملة الواحدة إلى طبقتين متمايزتين: طبقة القبائل النبيلة ذات الحسب والنسب والتفوق والشرف وطبقة القبائل الدنيئة الوضيعة التي لا تمت إلى المكرمات بأي صلة!
وفي هذا من الحيف والظلم والنجس الذي تمقته الشريعة الغرّاء، حيث يقول الله -تعالى-: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) [الأعراف: 85]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعظم الناس جرمًا إنسان يهجو القبيلة من أسرها، ورجل تنفَّى من أبيه" (رواه ابن ماجة). وقال: "لا يُؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه" (رواه النسائي).
3 – من الواضح من خلال ما ذكرناه عن التعصّب ضد (القبيلة المنحطة) أن المتعصّب يقوم بعملية (تنميط) لجميع أفراد القبيلة؛ فهم جميعًا لديه يتخلقون بأخلاق واحدة، ويفكرون بطريقة واحدة، ولهم تطلعات واحدة... وهذه العملية (التنميط) هي النتيجة الحتمية لعجزنا عن العيش في عالم واسع الأرجاء كثير التعقيدات، فنحن غير مهيئين للتعامل مع كل الأحداث الموجودة بشكل مباشر، ولهذا فإننا نعيد بناءها في نماذج بسيطة كي تصبح سهلة الإدراك. ومن المشاهَد أن (التنميط) يقوم على الاختصار والتعميم، فالجماعات الإسلامية –مثلاً- حين تحاول ملامح بعضها بعضًا، تعمد إلى (الاختصار): هذه الجماعة تشتغل بالدعوة، واهتمامها بالعلم الشرعي محدود، المثقفون فيها قليلون، وهي لا تشتغل بالسياسة، ولا تهتم بالجهاد (قتال الأعداء) ولديها بدع كثيرة. هذه السمات هي ما توصف به إحدى الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة والمنتشرة في شبه القارة الهندية على نطاق واسع. الصفات المذكورة هي كل ما تتصف به في نظر الجماعات المتعصّبة ضدها والمناوئة لها. ولا يُذكر في العادة ما لديها من أعمال عظيمة في الدعوة، ولا يذكر ذاك العدد الضخم من الناس الذين تغيّرت أحوالهم إيجابًا بسبب دعوتها لهم.(/2)
بعد الاختصار يأتي التعميم، فكل من ينتمي إلى تلك الجماعة وسواء أكان من أعمدتها وأركانها، أو كان يتحرك في هامشها –كل أولئك يتسمون بالسمات العامة لتلك الجماعة، وعند معاملته ومناظرته وتقويمه... يُعامل وكأنه فعلاً متمثل لكل صفات جماعته، ومتشرب على نحو كامل لكل مبادئها و أخلاقها، ويحمل كل عيوبها ونقائصها... وإذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن في أفراد تلك الجماعة، من يمضي معها، وهو لا يعرف إلاّ القليل عن إيجابياتها وسلبياتها، ومنهم من يمضي معها، وهو يناقشها في بعض ما يُؤخذ عليها، وهذا موجود في الحقيقة لدى كل التجمعات والجماعات والأحزاب، بل هو موجود بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث يظهر أبناء الأسرة أمام الناس، وكأنهم شيء واحد، مع أن بينهم الكثير من التباين والاختلاف. التعصّب يقوم على الاختصار المخلّ والتعميم المحجف، أي هو مولود لأبوين غير شرعيين، ولذا فإنه مذموم بمعايير الشرع والمنطق والإنسانية.
في هذا المقال من حديثنا عن التعصب سنتحدث بحول الله -تعالى- عن الأسباب التي تدفع الأشخاص والجماعات في اتجاه (التعصّب) على أمل تكوين ثقافة واضحة حول هذه العلة الأخلاقية والاجتماعية المنتشرة على نطاق واسع؛ ولعل من أهم تلك الأسباب الآتي:
1- الجهل سبب رئيس بين أسباب التعصب؛ إذ إن الشخص أو الجماعة أو القبيلة أو الحزب حين يجهل حقيقة ما عليه الآخرون فإنه يقع بسهولة فريسة لأحاديث المجالس غير الموثوقة والمتحاملة، كما يقع فريسة للدعاية المضادة، وتدل بعض الدراسات على أن الناس كلّما عرفوا أكثر وأكثر عن بعضهم خفّت حدة التعصب لديهم، وذلك لأن تلك المعرفة تظهر لهم زيف الشائعات المغرضة التي يتداولونها عن بعضهم من غير أي تثبّت؛ وفي هذا الإطار نفهم حكمة العديد من التشريعات والعبادات الإسلامية ذات الصبغة الاجتماعية، مثل: الحج وصلاة العيدين والجمعة والجماعة، ومثل الحثّ على التزاور وعيادة المريض، وصلة الأرحام، والتعاون على البر والتقوى.... والله –تعالى- يحثنا بطريقة واضحة على التعارف والتواصل حين يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). [الحجرات:13]. إن انتشار الذرية وتنوع الانتماء القبلي من الأمور التي تبعث على الفرقة والتناحر والتعصب، لكن القرآن الكريم يذكّرنا بثلاثة أمور أساسية:
أ – الناس مهما اختلفوا وتباعدوا، فإن عليهم أن يتذكّروا أنهم جميعًا من أب واحد وأم واحدة، فهناك دائمًا شيء مشترك.
ب- هذا التنوع قد يُستغلّ للعداء والتجافي، لكن الله –تعالى- يريد من عباده أن يتخذوا منه أداة للتواصل والتآلف والتعارف على قاعدة "نختلف لنأتلف".
جـ- لا ينبغي لهذا التنوع أن يُتّخذ طريقًا للكبر وهضم الحقوق والشقاق، فالإنسان يكون أفضل من غيره بشيء من واحد، هو (التقوى). ومن التقوى رحمةُ العباد والرفق بهم وجلب النفع لهم.
2- يجد العنصريون والأنانيون ومحدودو الأفق في التباين الفكري والثقافي والعرقي... مرتعًا خصبًا لإنعاش التعصب وزيادة حدة الاختلاف. إن هؤلاء يجعلون من أنفسهم ومن مجموعاتهم محورًا أوحد، فكل ما لديهم هو الأصل، وكل ما لدى الآخرين ينبغي أن يكون صورة، وإلاّ تعرضوا للنبذ والعدوان والاضطهاد، مع أن الواقع يشهد أنه ليس هناك قبيلة ذهبت بكل المكرمات، ولا جماعة ذهبت بكل النجاح، كما أنه ليس هناك تيار أو مذهب ذهب بكل الصواب، ونحن نعرف أن أحد فقهائنا القدامى أطلق قاعدة ذهبية في هذا الشأن حين قال: "مذهبنا صواب، يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ، يحتمل الصواب" لكن الذي كان يجري – ومازال في معظم الأحيان – هو أن مدرسي كل مذهب كانوا مشغولين باستمرار ببيان فضائل مذهبهم والدفاع عن أصوله وفروعه دون ممارسة شيء ذي قيمة من النقد والمراجعة والتمحيص. ووقع في مثل هذا الجماعات وأحزاب وتيارات عديدة. إن النقد الذاتي يخفف من حدة التعصب، ويقلل من إمكانية استغلال العواطف المتاجرة بها، لكنّ هذا يحتاج إلى قدر كبير من الإخلاص والشجاعة الأدبية والرؤية الموضوعية.
3- تشتد حدة التعصب في المجتمعات التي فيها قوانين غير منصفة، وذلك كأن تنال طبقة أو فئة أو مجموعة امتيازات خاصة، دون بقية الناس؛ هذه القوانين تعمل على توليد ثقافة التعصب من أجل إيجاد منطلق لإقناع المحظوظين باستحقاقهم للامتياز، وإقناع المظلومين بأن ما يجري لهم هو شيء طبيعي، ومن هنا فإن الشريعة شدّدت كثيرًا على مسألة العدل ومقاومة الظلم. والحقيقة أن الفئة التي تنال ما ليس لها تُصاب بنوع من التشوّه في أرواحها وعقولها وأخلاقها، وهذا من عدل الله –تعالى- بين عبادة!(/3)
4- المنافسة على طلب الرزق تذكي نار التعصب، فحين يجد السكان الأصليون أن الوافدين إلى بلادهم صاروا يزاحمونهم على الأعمال والوظائف، فإنهم يسعون إلى إيجاد آلية لكسر حدة منافستهم، ويجدون في التعصب وسيلة جيدة لذلك، والمفروض لحل مثل هذه المشكلات النظر بعين الإنصاف للإيجابيات والسلبيات التي تترتب على وجود أولئك المنافسين، والسعي إلى إيجاد نظم وقوانين عادلة ومريحة تحكم وتنظم العلاقات بين الجميع، ولاسيما أننا نعيش في عصر العولمة حيث كل شيء يتداخل ويتواصل بوتيرة متصاعدة.
5- أحيانًا تتعصب جماعة أو قبيلة ضد جماعة أو قبيلة أخرى من أجل تقوية نسيجها وتقوية صفوفها، وهذا ما يفعله اليهود في فلسطين المحتلة، فهم يحتقرون العرب والفلسطينين خاصة، ويشنون الحروب المتتابعة من أجل تقوية الروابط الاجتماعية والأيدلوجية القائمة بين اليهود، ولاشك أن اللجوء إلى التعصب بوصفة مورد تضامن ينطوي على انحطاط أخلاقي، ويدلّ على فساد الأسس التي قام عليها الكيان أو التجمّع بعد أن تحدثنا عن ظاهرة التعصّب وعن أسبابه، آن لنا أن نتحدث عن سبل مقاومة هذه الظاهرة السيئة والمنحطة، وذلك عبر المفردات الآتية:
(1) التعصّب ليس شيئاً وراثياً، لكنه يُكتسب، ويُتعلم من البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الإنسان كما يتعلم التعصّب، يمكنه أن يتعلم التساهل والتسامح. وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على أن الشعوب والجماعات تتغير اتجاهاتها عبر الأجيال، كما تتغير أنماط التفكير لديها، فالإنسان كائن يتعلم باستمرار، لكن الخلاص من العيوب لا يتم عن طريق المصادفة، وإنما عن طريق القصد والتخطيط والمجاهدة.
(2) للتخلص من أي ظاهرة نحتاج إلى تركيز الضوء عليها، بل نحتاج في الحقيقة إلى تشريحها. وظاهرة التعصّب من الظواهر الشديدة التعقيد؛ لأنها تقوم على عقائد وأفكار ومفاهيم راسخة ومترابطة، وذات مسحة منطقية أو نصف منطقية. ومن الواضح أن التعصّب يشكل نوعاً من حب الذات، ويشتمل على درجة كبيرة من الأنانية والتمحور حول النفس، وذلك لأن المرء يحب الذين يشبهونه، وينفر من الذين يتبين له أنهم مغايرون له، وهذا ينم عن غفلة شديدة أو وعي زائف، أو نفس مريضة!
(3) انتهت نظريات التفوّق العرقي والتي سادت فترة طويلة من الزمان، وعادت الأمم المتحضرة إلى المعيار الإسلامي في التفاضل، وهو الاستقامة والنفع العام والتفوّق في الأداء، وصار من الواجب علينا نشر هذا المعنى على أوسع نطاق.
(4) كثيراً ما يقوم التعصّب على التعميم الخاطئ، فنحن حين نحكم على شعب بأنه أحمق أو كسول أو غدّار أو غبيّ.. نقوم بتعميم ملاحظة أو معلومة جزئية عن أفراد قليلين لنجعلها شاملة لأعداد كبيرة قد تبلغ مئات الملايين من البشر، وفي هذا من الظلم والتجني ما لا يرضى الله تعالى به، وما لا يليق بالإنسان العاقل والموضوعي الحريص على وضع الأمور في نصابها، ولهذا فإن مقاومة التعصّب تحتاج إلى تقوية الوازع الديني، والذي يدعو إلى التوقي من ظلم الناس، وإلى تدعيم التفكير الموضوعي والمحاكمة العقلية العادلة لدى الناشئة، وهذا من مسؤوليات الأسر في البيوت، ومن مسؤوليات المدارس ووسائل الإعلام.
(5) يدفع التعصّب في اتجاه العداوة والعزلة، ولهذا فإن كثيراً من التعصّب سببه الجهل وضعف الاتصال، ومن هنا فإن علينا التفكير في الوسائل التي تساعد على الاتصال الفعال، والوسائل في الحقيقة كثيرة منها:
أ - الحوار وتبادل الأفكار، ومناقشة القضايا والمشكلات التي تثير التعصّب، وتلك القضايا كثيرة، فقد تكون المعتقدات والمفاهيم الخاطئة عن أولئك الذين يجري التعصّب ضدهم، وقد يكون التنافس على طلب الرزق، وقد يكون سيطرة فئة على بعض القطاعات أو بعض الموارد.. إن الحوار يكون أشبه بفتح جرح التأم على فساد، فتح الجرح مؤلم، ولكن حتى نطهّره لا بد من تحمل الألم.
ب - فِرَق اللعب تساعد في تعريف الشباب على بعضهم، وهذا واضح جداً في الألعاب ذات الصبغة العالمية؛ إذ يتم اختيار الأكفأ لتمثيل البلاد بقطع النظر عن لونه ودينه وعرقه، وكم رأينا من مشاعر الجماهير الإيجابية والحميمة تجاه لاعبين ينتمون إلى فئات لها مشكلة مع تلك الجماهير!!
ج - للتعليم دور أساسي في التخفيف من مشاعر التعصّب عن طريق الاتصال الفعّال، وقد قامت بعض الدول التي تعاني من العنصرية باتباع سياسات تعليمية بنّاءة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال فقد كُلّف الطلاب بإجراء بحوث متنوعة على أن يقوم بعض الطلاب السود بكتابة جزء من البحث، ويقوم الطلاب البيض بإكماله أي لا يكتمل البحث إلاّ من خلال تبادل المعلومات والتحدث حول منهج البحث بين الطرفين.(/4)
د - الاتصال الفعّال المؤثر، هو اتصال عفوي حر بعيد عن الرسميات، وهذا يتحقق خلال اللعب والبحث والتسوّق والاختلاط بين الجوار.. لكن لا بد مع هذا من شيء مهم جداً هو عدالة القوانين؛ إذ إنّ كثيراً من الفوقية والنرجسيّة والتميّز الأجوف يأتي من وراء القوانين الظالمة التي تمنح فئة أو فئات من الشعب امتيازات لا تستحقها، وقد ثبت أن للقوانين قدرة فائقة على توليد الثقافة التي تمنحها الشرعية، وتضفي عليها المنطقية والانسجام. العدل يدفع في اتجاه الإخاء، والظلم يدفع في اتجاه التعصّب والتنابذ والعدوان. هذه حقيقة راسخة، يجب أخذها بعين الاعتبار.
(6) تسليط وعي الناس على التناقضات الأخلاقية التي سبّبها لهم التعصّب؛ إذ إن كثيراً من الذين يتعصّبون ضد غيرهم يؤمنون بالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، ويحفظون الآيات والأحاديث والأقوال التي تدل على ذلك، لكنهم لا يستفيدون منها شيئاً، وهم من وجه آخر، يحبون من غيرهم أن يعاملهم على أنهم بشر أسوياء محترمون، لكنهم لا يفعلون ذلك مع الآخرين. إن توعية الناس بهذه المعاني على نحو مستمر، قد تساعد فعلاً في تخفيف غلواء التعصّب.
(7) نشر الروح الإيجابية والتفكير الإيجابي مهم أيضاً على هذا الصعيد؛ إذ إن على المسلم أن يركز على رؤية الإيجابيات، وعلى ما لدى الناس من فضل وخير، ويتعلم غضّ الطرف عن النقائص والهفوات، فذلك أسلم لقلبه وأفضل لدينه، وأعون له على مواجهة مشاق الحياة.
إن التعصّب مرض عُضال مزمن، عانت منه البشرية على امتداد تاريخها الطويل، وما زالت تعاني، وستظل تعاني، ولهذا فإن المطلوب ليس استئصال شأفة التعصّب وإنما التخفيف من لأوائه، وهذا يحتاج إلى علاجات مركبة وعلى النفس الطويل.
والله الموفق.(/5)
التعلق بالأشخاص
رئيسي :الدعوة :الأحد 8 جمادى الأخرة 1425هـ - 25 يوليو 2004
لقد صدم الصحابة وشدهوا، وخارت قواهم، وكادت أن تنقطع نياط قلوبهم - وحق لهم ذلك - حين أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل في معركة أحد، وجلس كثير منهم مهمومًا مبهوتًا مغمومًا وترك القتال.
وبعد المعركة نزلت الآيات العظيمة في دروس أحد ومواعظها، وكان من تلك الدروس: تنبيههم بأن هذا الدين تعلقه بالله جل وعلا، لا يتعلق بأي مخلوق كائنًا من كان، حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، وبلغه للعالمين: قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]}[سورة آل عمران].
ثم صدموا مرة أخرى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة: فاختلط على كثير من الصحابة الأمر، ونفى بعضهم وفاته، ووقف عمر رضي الله عنه يهدد من ينشر هذا النبأ. فجاء أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه ورفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أرق أصحابه بعده قلباً، وأعمقهم علماً، فتحقق من وفاته صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وجدد درس أحد مرة أخرى بصورة واضحة صريحة لا تقبل اللبس ولا التأويل: فَقَالَ:' أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]}[سورة آل عمران]'رواه البخاري.
من معالم ثبات الدعوة ارتباطها بالباقي لا بالفاني:
إنها دعوة لله ، وإلى الله ، فليست قومية، ولا عنصرية، ولا وطنية، وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]}[سورة آل عمران]. وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له- إن كان عمله خالصًا صوابًا- ومن تركها؛ فقد حرم نفسه الخير:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا...[46]}[سورة فصلت].
وبهذا يقضى على حظوظ النفس أولاً، وتسلم الدعوة وتبقى ولا تنتكس بموت فلان، أو كسل، وخور فلان.
وكثيرا ما تنازع النفسُ صاحبها في حب كثرة الأتباع والتلاميذ، وهذا من طبيعة النفس البشرية إذا أهملت، ولم تحاسب وتُذكّر، وتجاهد.
فينبغي لكل داعية حين تخالجه تلك الوساوس، وينتابه حب الظهور والذكر، أن يتذكر الأمور التالية ويضعها نصب عينيه، ويجاهد نفسه عليها:
1- أن الدعوة نعمة ومنة امتن الله بها عليك، واختارك لها من أقل الأقلين.
2- أنك تعمل لله تعالى، وقد التحقت بوظيفة الأنبياء والمرسلين، فيبغي أن تحذو حذوهم، وتخطو خطاهم، فإنك لا تدعو إلى شخصك، وبسط جاهك، ورفعة منزلتك، وظهور شهرتك. وانظر في سير الذين فازوا وسبقوا، فما حصل لهم ذلك إلا بدفن حظ النفس، والتشوق إلى ما عند الله الكريم المنان. وقد كان السلف يرسلون التلاميذ إلى الشيوخ يتفقهون منهم، ويتلقون عنهم، ولا يحبسونهم على أنفسهم.
3- أن ما عند الله تعالى خير وأبقى، خير بكل المقاييس، وأبقى مما عند غيره. وأن كثيراً ممن التحق بسلك الدعوة، وترك نفسه تتشبع من حظوظها، وملأ قلبه من حظوظه الشخصية تجد عاقبته في الدنيا التعب والعنت والأمراض النفسية؛ نظراً لأن كثيراً ممن كان يراهم أتباعاً له يطيعونه في كل أوامره ونواهيه قد قلَوْه وتركوه، وربما لم يزوره أو يحدثوه، وهذه سنة الحياة لا بد من الانشغال فيها: إما في أمر الدنيا، أو أمر الآخرة. فيضيق هذا الداعية ذرعاً بذلك، ويتصور أن التلاميذ لا يكبرون، ولا يتعلمون، ولا ينشغلون ولا يتفقهون، وهذه من العقوبات العاجلة.(/1)
4- أن الناس والأتباع لن يغنوا عنك من الله شيئًا:[اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ] قطعة من حديث:رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان. وتذكر أن من تعلق بك لشخصك لفرط إعجابه بك، أو عاطفة قادته إليك، فهو عرضة للتغيير نظراً لتبدل القناعات بين حين وآخر، ووجود نماذج قد تفوق تلك الصفات التي عندك، بل ربما انقلب الأمر على الضد فيتحول الحب إلى بغض، وفرط الإعجاب إلى ضده.
5- تذكر اطلاع الله عليك وعلى كل شيء: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[13]}[سورة الملك]. { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[61]}[سورة يونس].
فكلامك، وتحركاتك، وجميع عملك لا يخفى على الله منه شيء، فكيف تدعي الدعوة إليه، والنصرة لدينه، وقد اطلع على أسرار صدرك، وخلجات نفسك، وعلم أنك تريد المكاثرة في الأتباع والتلاميذ؟!
6- كثير من الخلافات والنزاعات والشقاق بين صفوف العاملين في الدعوة منشأه تعلق كل فريق برموز معينة، عليها يوالون ويعادون، بل تجدهم يتعلقون بأشخاص أكثر من تعلقهم بالدعوة ذاتها.
7- إن من أعرض عن طلب الذكر والظهور في الدنيا تعجَّلَ راحةَ نفسه، حيث إن النفس لا تقتنع بشيء أبداً، بل تسعى دائمًا إلى طلب الزيادة.
والنفس طامعة إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
من:'التعلق بالأشخاص' للشيخ/يحيى بن إبراهيم اليحيى(/2)
التعلق بالمال من صفات النفوس الدنيئة
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
* "النفوس العالية ترى التعلق بمال الدنيا وزينتها امتهاناً لها لا تقبله، والنفوس الدنيئة ترى جمع المال والحرص على الجاه علواً لا تتخلى عنه، وما أكثر من يدعون علو النفس وهم يتصفون بصفات الأدنياء!.."
مع الله..
* "من اعتز بغير الله ذل، ومن استعان بغيره خاب، ومن توكل على غيره افتقر، ومن أنس بسواه كان في عيشة موحشة ولو غمرته الأضواء وحفت به المواكب"
"مصطفى السباعي"
صدق الإخاء..
* "إني لا أعتقد إخاء الرجل في الرضا، ولكني أعتقد إخاءه في الغضب، إذا أغضبته".
أرزاق المتقين
* "أبى الله إلا أن يجعل أرزاق المتقين من حيث لا يحتسبون".
"الفضيل بن عياض"
من أراد التواضع
* "من أراد التواضع فليوجه نفسه إلى عظمة الله، فإنها تذوب وتصفو، ومن نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته".
قوة الصدق..
* "الصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلا قطعه".
"ذو النون المصري"
صولة الحمقى!.
* "يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حكيم، ويأتي عليهم زمان تكون الدولة فيه للحمقى على الأكياس".
متى يكون الكمال؟.
* "لا تكون كاملاً حتى يأمنك العدو، وكيف يكون فيك خير وأنت لا يأمنك صديقك؟".
أقوام وأقوام..
"بحسبك أن أقواماً موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم".
"بشر الحافي"
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 5 –العدد 10 –ذو الحجة 1384هـ -نيسان 1965م.(/1)
التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية
للدكتور صالح بن فوزان الفوزان
قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي -بمصر- رحمه الله:
(1)هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبدالله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد: فإن العقيدة هي أساس الدين، وهي مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والركن الأول من أركان الإسلام(1)، فيجب الاهتمام بها والعناية بها ومعرفتها، ومعرفة ما يخل بها، حتى يكون الإنسان على بصيرة، وعلى عقيدة صحيحة؛ لأنه إذا قام الدين على أساس صحيح صار ديناً قيماً مقبولاً عند الله، وإذا قام على عقيدة مهزوزة ومضطربة، أو عقيدة فاسدة، صار الدين غير صحيح، وعلى غير أساس، ومن ثم كان العلماء -رحمهم الله- يهتمون بأمر العقيدة ولا يفترون في بيانها في الدروس وفي المناسبات، ويرويها المتأخر عن المتقدم.
كان الصحابة -رضي الله عنهم- ليس عندهم أي شك فيما جاء به القرآن وما جاءت به سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكانت عقيدتهم مبنية على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يعتريهم في ذلك شك ولا توقف، فما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقدوه ودانوا به، ولم يحتاجوا إلى كتابة تأليف؛ لأن هذا مسلّم به عندهم ومقطوع به وكانت عقيدتهم الكتاب والسنة، ثم درج على ذلك تلاميذهم من التابعين الذين أخذوا عنهم، فلم يكن هناك أخذ وردّ في العقيدة، كانت قضية مسلمة، وكان مرجعهم الكتاب والسنة.
فلما ظهرت الفرق والاختلافات، ودخل في الدين من لم ترسخ العقيدة في قلبه، أو دخل في الإسلام وهو يحمل بعض الأفكار المنحرفة، ونشأ في الإسلام من لم يرجع إلى الكتاب ولا إلى السنة في العقيدة، وإنما يرجع إلى قواعد ومناهج أصلها أهل الضلال من عند أنفسهم، عند هذا احتاج أئمة الإسلام إلى بيان العقيدة الصحيحة وتحريرها وكتابتها وروايتها عن علماء الأمة، فدونوا كتب العقائد، واعتنوا بها، وصارت مرجعاً لمن يأتي بعدهم من الأمة إلى أن تقوم الساعة.
وهذا من حفظ الله تعالى لهذا الدين، وعنايته بهذا الدين، أن قيض له حملة أمناء يبلغونه كما جاء عن الله وعن رسوله، ويردون تأويل المبطلين وتشبيه المشبهين، وصاروا يتوارثون هذه العقيدة خلفاً عن السلف.
ومن جملة السلف الصالح الذين كانوا على الاعتقاد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، من جملتهم الأئمة الأربعة الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم من الأئمة الذين قاموا بالدفاع عن العقيدة وتحريرها، وبيانها وتعليمها للطلاب.
وكان أتباع الأئمة الأربعة يعتنون بهذه العقيدة، ويتدارسونها ويحفظونها لتلاميذهم، وكتبوا فيها الكتب الكثيرة على منهج الكتاب والسنة، وما كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون، وردوا العقائد الباطلة والمنحرفة، وبينوا زيفها وباطلها، وكذلك أئمة الحديث: كإسحاق بن راهويه، والبخاري، ومسلم والإمام ابن خزيمة، والإمام ابن قتيبة، ومن أئمة التفسير: كالإمام الطبري، والإمام ابن كثير، والإمام البغوي، وغيرهم من أئمة التفسير.
وألفوا في هذا مؤلفات يسمونها بكتب السنة، مثل كتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة للخلال، والشريعة للآجري، وغير ذلك.
ومن جملة هؤلاء الأئمة الذين كتبوا في عقيدة السلف: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي(2)، من علماء القرن الثالث بمصر، وسمي بالطحاوي نسبة لبلدة في مصر، فكتب هذه العقيدة المختصرة النافعة المفيدة.
وكتبت عليها شروح، حوالي سبعة شروح، ولكن لا تخلو من أخطاء؛ لأن الذين ألفوها كانوا على منهج المتأخرين، فلم تخل شروحهم من ملاحظات ومخالفة لما في عقيدة الطحاوي، إلا شرحاً واحداً فيما نعلم، وهو شرح العز بن أبي العز رحمه الله(3)، المشتهر بشرح الطحاوية، وهذا من تلاميذ ابن كثير فيما يظهر، وقد ضمن شرحه هذا منقولات من كتب شيح الإسلام ابن تيمية، ومن كتب ابن القيم، ومن كتب الأئمة، فهو شرح حافل، وكان العلماء يعتمدون عليه ويعتنون به؛ لنقاوته وصحة معلوماته، فهو مرجع عظيم من مراجع العقيدة، والمؤلف –كما ذكر- ألف هذه العقيدة على مذهب أهل السنة عموماً، ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، فهو أقدم الأئمة الأربعة وأدرك التابعين وروى عنهم .
وكذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد الشيباني، وأئمة المذهب الحنفي.(/1)
ذكر عقيدتهم، وأنها موافقة لمذهب أهل السنة والجماعة، وفي هذا ردٌ على المنتسبين إلى الحنفية في الوقت الحاضر أو في العصور المتأخرة، ينتسبون إلى الحنفية ويخالفون أبا حنيفة في العقيدة، فهم يمشون على مذهبه في الفقه فقط، ويخالفونه في العقيدة، فيأخذون عقيدة أهل الكلام والمنطق، وكذلك حدث في الشافعية المتأخرين منهم يخالفون الإمام الشافعي في العقيدة، وإنما ينتسبون إليه في الفقه، كذلك كثير من المالكية المتأخرين ليسوا على عقيدة الإمام مالك، لكنهم يأخذون من مذهب مالك في الفقه فقط، أما العقيدة فهم أصحاب طرق وأصحاب مذاهب متأخرة.
ففي هذه العقدية ردٌ على هؤلاء وأمثالهم ممن ينتسبون إلى الأئمة، ويتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة، ويخالفونهم في العقيدة، كالأشاعرة: ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في مذهبه الأول، ويتركون ما تقرر واستقر عليه أخيراً من مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا انتساب غير صحيح؛ لأنهم لو كانوا على مذهب الأئمة لكانوا على عقيدتهم .
---------------
( 1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" .
أخرجه البخاري رقم (8) ومسلم رقم (16) .
(2) الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، برز في علم الحديث والفقه وجمع وصنف، وكان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً لم يخلف مثله، ومن نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه، توفي سنة 321هـ رحمه الله تعالى. انظر: سير أعلام النبلاء (15/27-33).
(3) هو الإمام العلامة صدر الدين أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الأذرعي الصالحي نشأ رحمه الله في أسرة ذات نباهة وذكر وتتلمذ على الحافظ ابن كثير ونصر أقوال ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جمعياً.
2)نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له.
نقول، أي ؛ نعتقد في توحيد الله عز وجل.
والتوحيد لغة: مصدر وحّد: إذا جعل الشيء واحداً.
وشرعاً: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وترك عبادة ما سواه.
وأقسامه ثلاثة بالاستقراء من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تقرر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، فمن زاد قسماً رابعاً أو خامساً فهو زيادة من عنده؛ لأن الأئمة قسّموا التوحيد إلى أقسام ثلاثة من الكتاب والسنة.
فكل آيات القرآن والأحاديث في العقيدة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة.
الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله تعالى وإفراده بأفعاله: كالخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، وتدبير الكون، فليس هناك رب سواه سبحانه وتعالى، رب العالمين .
القسم الثاني: توحيد الألوهية أو توحيد العبادة؛ لأن الألوهية معناها عبادة الله عز وجل بمحبته وخوفه ورجائه، وطاعة أمره، وترك ما نهى عنه فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي شرعها لهم.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وتنزيهه عما نزّه عنه نفسه، ونزّهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من العيوب والنقائص.
فكل الآيات التي تتحدث عن أفعال الله فإنها في توحيد الربوبية، وكل الآيات التي تتحدث عن العبادة والأمر بها والدعوة إليها فإنها في توحيد الألوهية.
وكل الآيات التي تتحدث عن الأسماء والصفات لله عز وجل فإنها في توحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام الثلاثة المطلوب منها هو توحيد الألوهية؛ لأنه هو الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وقام من أجله الجهاد في سبيل الله، حتى يُعبد الله وحده، وتُترك عبادة ما سواه.
وأما توحيد الربوبية ومنه توحيد الأسماء والصفات فلم ينكره أحد من الخلق، وذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة، ذكر أن الكفار مُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، والمدبر، فهم لا يخالفون فيه. وهذا النوع إذا اقتصر عليه الإنسان لا يدخله ذلك في الإسلام؛ لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قاتل الناس وهم يقرون بتوحيد الربوبية، واستحل دمائهم وأموالهم.(/2)
ولو كان توحيد الربوبية كافياً لما قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ما كان هناك حاجة إلى بعثة الرسل، فدل على أن المقصود والمطلوب هو توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فإنه دليل عليه، وآية له، ولذلك إذا أمر الله بعبادته ذكر خلقه للسموات والأرض، وقيامه سبحانه بشؤون خلقه، برهاناً على توحيد الألوهية، وإلزاماً للكفار والمشركين، الذين يعترفون بالربوبية وينكرون الألوهية، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا: لا إله إلا الله" قالوا: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (1 ) [ص:5]، وقال سبحانه وتعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [الزمر: 45]، وقال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35:36]
فهم لا يريدون توحيد الألوهية، بل يريدون أن تكون الآلهة متعددة، وكلٌ يعبد ما يريد. فيجب أن يُعلم هذا، فإن كل أصحاب الفرق الضالة الحديثة والقديمة، يركزون على توحيد الربوبية، فإنه إذا أقر العبد عندهم بأن الله هو الخالق الرازق، قالوا: هذا مسلم، وكتبوا بذلك عقائدهم، فكل عقائد المتكلمين لا تخرج عن تحقيق توحيد الربوبية والأدلة عليه .
وهذا لا يكفي، بل لابد من الألوهية، قال تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36] يأمرون الناس بعبادة الله وهي توحيد الألوهية.
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء:25]،. (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) [النساء: 36].
كل الآيات تأمر بتوحيد الألوهية وتدعو إليه، وجميع الرسل دعوا إلى توحيد الألوهية وأمروا به أممهم، ونهوهم عن الشرك، هذا هو المطلوب والغاية والقصد من التوحيد، وأما توحيد الأسماء والصفات فأنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، على تفاوت بينهم في ذلك.
وقوله نقول: -أي يقول معشر أهل السنة والجماعة- في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له.
العقيدة والتوحيد بمعنى واحد. سواء سُميت عقيدة أو توحيداً أو إيماناً، فالمعنى واحد وإن اختلفت الأسماء.
وقوله: "بتوفيق الله" هذا تسليم لله عز وجل، وتضرّع إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوة، فالإنسان لا يزكي نفسه، وإنما يقول: بتوفيق الله، بمشيئة الله، بحول الله، هذا أدب العلماء رحمهم الله. "إن الله واحد لا شريك له" هذا هو التوحيد؛ واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وواحد في أسماءه وصفاته.
(3) ولا شيء مثله:
مأخوذ من قوله تعالى : (ليس كمثله شيءٌ) [الشورى:11]، وقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) [الإخلاص : 4]، وقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) [البقرة: 22]، أي شبهاء ونظراء .
وقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) [مريم: 65]، أي : مماثل يساميه سبحانه وتعالى، فالتمثيل والتشبيه منفيان عن الله عز وجل.
لا يشبهه أحد من خلقه، وهذا هو الواجب أن نثبت ما أثبته الله لنفسه ونعتقده ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا نمثّله بخلقه سبحانه وتعالى، وهذا فيه رد على المشبهة الذين يعتقدون أن الله مثل خلقه، ولا يُفرقون بين الخالق والمخلوق، وهو مذهب باطل.
وفي مقابله مذهب المعطلة؛ الذين غلوا في التنزيه حتى نفوا عن الله ما أثبته من الأسماء والصفات، فراراً من التشبيه بزعمهم.
فكلا الطائفتين غلت، المعطلة غلوا في التنزيه ونفي المماثلة، والمشبهة غلوا في الإثبات، وأهل السنة والجماعة توسّطوا؛ فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تعطيل على حد قوله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشوى:11] فقوله: (ليس كمثله شيء) نفي للتشبيه، وقوله: (وهو السميع البصير) نفي للتعطيل، وهذا المذهب الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة.
ولهذا يُقال: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً.
(4) ولا شيء يعجزه:
هذا إثبات لكمال قدرته:
قال تعالى : (وهو على كل شيء قدير) [المائدة : 120].
وقال تعالى: (وكان الله على كل شيء مقتدراً) [الكهف : 45].
وقال تعالى : (إنه كان عليماً قديراً) [فاطر: 44].
والقدير معناه: المبالغ في القدرة، فقدرته سبحانه وتعالى لا يعجزها شيء، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.
-فهذا فيه إثبات قدرة الله عز وجل، وإثبات شمولها، وعمومها لكل شيء.(/3)
-أما العبارة التي يقولها بعض المؤلفين : إنه على ما يشاء قدير. فهذه غلط؛ لأن الله لم يقيد قدرته بالمشيئة، بل قال: على كل شيء قدير، فقل ما قاله الله سبحانه وتعالى. إنما هذه وردت في قوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى: 29]؛ لأن الجمع له وقت محدد في المستقبل، وهو قادر على جمعهم في ذلك الوقت، أي أهل السماوات وأهل الأرض، قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى:29].
(5) ولا إله غيره :
هذا هو توحيد الألوهية. لا إله، أي : لا معبود بحق غيره .
أما إذا قلت : لا معبود إلا هو؛ أو لا معبود سواه، فهذا باطل؛ لأن المعبودات كثيرة من دون الله عز وجل، فإذا قلت: لا معبود إلا الله، فقد جعلت كل المعبودات هي الله، وهذا مذهب أهل وحدة الوجود، فإذا كان قائل ذلك يعتقد هذا فهو من أصحاب أهل وحدة الوجود، وأما إن كان لا يعتقد هذا، إنما يقوله تقليداً أو سمعه من أحد، فهذا غلط، ويجب عليه تصحيح ذلك. وبعض الناس يستفتح بهذا في الصلاة فيقول: ولا معبود غيرك، والله معبود بحق، وما سواه فإنه معبود بالباطل، قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) [الحج: 62].
(6) قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء :
كما دل عليه قوله تعالى: (هو الأول والآخر) [الحديد:3]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"(2).
لكن كلمة "قديم" لا تُطلق على الله عز وجل إلا من باب الخبر، أما من جهة التسمية فليس من أسمائه: القديم، وإنما من أسمائه: الأول. والأول ليس مثل القديم؛ لأن القديم قد يكون قبله شيء، أما الأول فليس قبله شيء، قال عليه الصلاة والسلام: "أنت الأول فليس قبلك شيء".
لكن المؤلف رحمه الله احتاط فقال: "قديم بلا ابتداء"، أما لو قال: "قديم" وسكت، فهذا ليس بصحيح في المعنى.
(7) لا يفنى ولا يبيد:
الفناء والبيد بمعنى واحد، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالحياة الباقية الدائمة، قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان: 58].
فالله لا يأتي عليه الفناء، قال سبحانه وتعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص:88]، وقال سبحانه وتعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) [الرحمن:26،27].
فله البقاء سبحانه وتعالى، والخلق يموتون ثم يبعثون، وكانوا في الأول عدماً ثم خلقهم الله، ثم يموتون ثم يبعثهم الله عز وجل.
فالله سبحانه وتعالى ليس له بداية وليس له نهاية.
(8) ولا يكون إلا ما يريد:
هذا فيه إثبات القدر وإثبات الإرادة، فلا يكون في ملكه ولا يحصل في خلقه من الحوادث والكائنات إلا ما أراده سبحانه وتعالى بالإرادة الكونية: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) [يس:82]، فكل خير وكل شر فهو بإرادة الله الكونية، فلا يخرج عن إرادته شيء، وهذا فيه رد على القدرية الذين ينفون القدر، ويزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه ويوجد فعل نفسه، تعالى الله عما يقولون، وهذا تعجيز لله، وأنه يكون في خلقه ما لا يريده سبحانه وتعالى، فهذا وصف له بالنقص، فجميع ما يكون في الكون من خير وشر فإنه بإرادته، فيخلق الخير لحكمة، ويخلق الشر لحكمة، فهو من جهة خلقه له ليس بشر؛ لأنه لحكمة عظيمة، ولغاية عظيمة، وهي الابتلاء والامتحان، وتمييز الخبيث من الطيب، والجزاء على الأعمال الصالحة، والجزاء على الأعمال السيئة، له الحكمة في ذلك سبحانه وتعالى، لم يخلق ذلك عبثاً.
(9) لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام:
فالله سبحانه وتعالى لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء سبحانه وتعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) [طه:110]، فالله سبحانه يُعلم ولكن لا يُحاط به، فالله أعظم من كل شيء ، فلا يتخيله الفكر، ولا يجوز لإنسان أن يقول في الله إلا ما قاله سبحانه عن نفسه، أو قاله عنه رسوله عليه الصلاة والسلام .
(10) ولا يشبه الأنام:
هذه مثل العبارة التي مضت، ولا شيء مثله، والأنام معناه: الخلق، فالله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة الخلق: (ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير) [الشورى:11]، (ولم يكن له كفواً أحداً) [الإخلاص:4] فهو سبحانه منزه عن مشابهة خلقه، وإن كان له أسماء وصفات تشترك مع أسماء وصفات الخلق في اللفظ والمعنى، لكن في الحقيقة والكيفية لا تشابه بينهما.
(11) حي لا يموت :
حياته كاملة لا يعتريها نقص ولا نوم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) [البقرة:255]، (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان:58] فنفي عن نفسه السِّنة، وهي النوم الخفيف والنوم المستغرق( 3)، ونفى عن نفسه الموت لكمال حياته سبحانه(4 ). والنوم والنعاس والموت نقص في الحياة، وهذه من صفة المخلوق، وحياة المخلوق ناقصة فهو ينام ويموت.(/4)
فالنوم كمال في حق المخلوق، نقص في حق الخالق؛ لأن المخلوق الذي لا ينام معتل الصحة، فهذا يدل على الفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، والحي والقيوم: هاتان الصفتان مأخوذتان من قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الحي الذي له الحياة الكاملة، والقيوم صيغة مبالغة. (12) قيوم لا ينام :
القيوم هو: القائم بنفسه والمقيم لغيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، وغني عن كل شيء، المقيم لغيره، كل شيء فقير إليه يحتاج إلى إقامته له سبحانه وتعالى، فلولا إقامة الله للسموات والأرض والمخلوقات لتدمرت وفنيت، ولكن الله يقيمها ويحفظها ويمدها بما يصلحها.
فجميع الخلق في حاجة إليه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر: 41].
(13) خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة:
هو الذي خلق الخلق وهو ليس بحاجة إليهم، إنما خلقهم لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]، فخلقهم لا لحاجة إليهم بأن ينصروه أو ليعينوه أو ليساعدوه -سبحانه- أو يحموه، إنما خلقهم لعبادته، وهم المحتاجون للعبادة؛ لتصلهم بالله وتربطهم بربهم، فالعبادة صلة بين العبد وربه، فتقربه من الله، ويحصل بها من الله على الثواب والجزاء، فالعبادة حاجة للخلق وليست بحاجة لله عز وجل (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد)[إبراهيم:8] (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) [الزمر:7]. وقوله : (رازق بلا مؤنة) أي هو القائم بأرزاق عباده ولا ينقص ذلك مما عنده.
(14) مميت بلا مخافة:
أي : يميت الأحياء إذا كملت آجالهم ، لا لأنه خائف منهم ولكن ذلك لحكمته سبحانه وتعالى؛ لأن الحياة في الدنيا لها نهاية، وأما الآخرة فليس للحياة فيها نهاية، فإماتتهم ليس خوفاً منهم أو ليستريح منهم، ولو كانوا يكفرون به فإنه لا يتضرر بكفرهم، وإنما يضرون أنفسهم، لكنه هو يفرح بتوبتهم ؛ لأنه يحب -ويريد- لهم الخير، فهو يفرح بتوبتهم وهو ليس في حاجة إليهم، إنما ذلك لطفه وإحسانه.
(15) باعث بلا مشقة:
هذا من عجائب قدرته، أنه يميت الخلق ويفنيهم حتى يتلاشوا ويصيروا تراباً ورفاتاً. حتى يقول الجاهل: لا يمكن أن يعودوا ولكن الله عز وجل يبعثهم من جديد ويعيد خلقهم من جديد، وليس عليه في ذلك مشقة، كما قال سبحانه وتعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان:28]. (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) [الروم:27].
فالمشركون أنكروا البعث استبعاداً منهم كما ذكر الله ذلك عنهم: (قال من يحي العظام وهي رميم) [يس:78]، قال سبحانه وتعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) [يس:79].
أول مرة، ليس لها وجود أصلاً، فأوجدها من العدم سبحانه وتعالى، فالذي خلقها من العدم: أليس بقادر على إعادتها من باب أولى؟ هذا في نظر العقول، وإلا فإن الله سبحانه لا يُقاس بخلقه، إنما ذلك لضرب المثل: (وله المثل الأعلى) [الروم:27].
فهذا ردٌ على هذا الجاحد، قال تعالى: (ونسي خلقه) [يس:78]، نسي أنه في الأول كان لا شيء ولا وجود له (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) [الإنسان:1]، نسي أن الله أوجده من عدم.
فهو يجمع هذه العظام المتفرقة، واللحوم الممزقة، والتراب الذي تحلل، وهذه الشعور المتبعثرة يعيدها كما كانت، (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا انتم تخرجون) [الروم:25] (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) [الزمر:68] وهي نفخة البعث.
فالأولى نفخة الصعق والموت، والثانية نفخة البعث.
(ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث) [يس:51] أي : القبور: (إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) [يس:51:52].
فالله قادر على كل شيء، وهذا رد على الكفار الذين يُعجزون الله عن إحياء الموتى وإعادتهم كما كانوا.
قال تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه) [القيامة:3،4]. (يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون) [المعارج:43].
هذه قدرة الله وإرادته ومشيئته، لا يعجزه شيء، لكن بعض المخلوقين يقيس الله بخلقه فيستبعد البعث؛ لأنه في نظره مستحيل، ولا ينظر إلى قدرة الله، ولم يقدر الله حق قدره، وهذا من الجهل بالله عز وجل.
(16) ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه:(/5)
تقدم قول المصنف: "قديم بلا ابتداء"، فهو سبحانه وتعالى ليس قبله شيء، ومعنى ذلك: أنه متصف بصفات الكمال، فصفاته تكون أزلاً وأبداً، فكما أنه أول بلا بداية، فكذلك صفاته، فإنها تكون تابعة له سبحانه، فهي أولية بأولية الله سبحانه وتعالى، فلم يكن أولاً بلا صفات ثم حدثت له الصفات بعد ذلك كما يقوله أهل الضلال، الذين يقولون: لم تكن له صفات في الأزل ثم كانت له صفات؛ لئلا يلزم على ذلك تعدد الآلهة -كما يزعمون- أو تعدد القدماء، وتكون الأسماء والصفات
شريكة لله في أوليته. فنقول: يا سبحان الله! هذا يلزم عليه أن يكون الله ناقصاً -تعالى الله- في فترة، ثم حدثت له الصفات وكمل بها، تعالى عما يقولون، ولا يلزم من قدم الصفات قدم الأرباب؛ لأن الصفات ليست شيئاً غير الموصوف في الخارج، إنما هي معان قائمة بالموصوف، ليست شيئاً مستقلاً عن الموصوف، فإذا قلت مثلاً: "فلان سميع بصير، عالم فقيه، لغوي نحوي" فهل معنى هذا أن الإنسان صار عدداً من الأشخاص، فلا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف، كما يقوله أصحاب الضلال.
فالله سبحانه وتعالى ليس لصفاته بداية كما أنه ليس لذاته بداية، فيوصف بأنه الخالق دائماً وأبداً.
وأما أفعاله سبحانه، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد.
فالله سبحانه وتعالى متكلم قبل أن يصدر منه الكلام، وخالق قبل أن يصدر منه الخلق. وأما أنه يتكلم ويخلق، فهذه أفعال متجددة وهكذا.
(17) لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته:
أي : خلق الخلق. ولا نقول: لم يصر خالقاً إلا بعد أن خلقهم، بل هو يسمى خالقاً من الأزل، لا بداية لذلك، أما خلقه إنما هو متجدد.
(18) وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً:
كما أنه موصوف بصفاته أزلياً، يعني : لا بداية لذلك، كذلك صفاته تلازمه -سبحانه- في المستقبل، فهو بصفاته أبدي لا نهاية له (أنت الآخر فلا بعدك شيء) باسمك وصفاتك، ولا يقال: إن هذه الصفات تنقطع عنه في المستقبل، بل هي ملازمة له سبحانه وتعالى.
(19) ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم (الخالق)
هذا توضيح وتكرار لما سبق.
(20) ولا بإحداث البرية استفاد اسم (الباري):
من أسماء الله عز وجل : الباري، يعني : الخالق، برى الخلق، يعني: خلقهم، فهو الباري، وهذا الاسم ملازم لذاته ليس له بداية.
(21) له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق:
كذلك هو رب قبل أن توجد المربوبات، والرب معناه: المالك والمتصرف والمصلح والسيد، وهذه الصفات لازمة لذاته، يوصف بالربوبية بلا بداية ولا نهاية، قبل وجود المربوبات وبعد فناء المربوبات.
(22) وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم :
كما أنه -سبحانه- يوصف بكونه محيي الموتى في الأزل، وبأنه يحيي ويميت، ولا يكون هذا الوصف معدوماً حتى يكون أحيا الموتى، وإنما هذا له من القديم والأزل، وأما إحياء الموتى فهذا متجدد، أحيا ويحيي سبحانه إذا شاء.
(23) ذلك بأنه على كل شيء قدير:
هذا وصف أزلي، لا يقال بأنه ما استفاد القدرة إلا بعد أن خلق وأوجد المخلوقات، بل القدرة صفة أزلية، وإنما كونه أوجد المخلوقات فهذا أثر ناتج من كونه على كل شيء قدير.
والله هو الذي وصف نفسه بأنه على كل شيء قدير من الموجودات ومن المعدومات، لم يقيد قدرته بشيء معين، لا يعجزه شيء، ولا يجوز التقييد بأنه قدير على كذا، ولا يقال: إنه على ما يشاء قدير، إنما هذا خاص بجمع الله سبحانه وتعالى لأهل السموات والأرض : (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) [الشورى:29] وهذه قضية معينة.
(24) وكل شيء إليه فقير :
لا شيء يمكن أن يستغني عن الله لا من الملائكة ولا السماوات والأرض ولا الجن ولا الإنس، ولا الجامدات من الجبال ولا البحار، كل شيء فقير إلى الله: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر:15].
فكل شيء إليه فقير، لا الأولياء ولا السماوات، ومن يقول: إن الأولياء لهم قدرة غير البشر وإنهم يتصرفون في الكون، وإنهم ينفعون ويضرون من دون الله، فذلك من قول الكفرة والمشركين، فليس للأولياء والرسل والملائكة غنى عن الله ولا تصرف من دونه .
وهذا مما يبطل عبادة غير الله من الأصنام ونحوها، كيف تعبد أشياء فقيرة وتنسى الذي بيده ملكوت كل شيء؟ ولهذا لما قال بعض علماء القبورية لعامي من أهل التوحيد: أنتم تقولون : إن الأولياء لا ينفعون ولا يضرون، قال: نقول: إنهم لا ينفعون ولا يضرون، قال: أليس الله تعالى يقول: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران:169]. قال : وهل الله قال: يُرزقون، أو يَرزقون؟ قال: بل قال: (يُرزقون) بضم الياء، قال: إذن أنا أسأل الذي يرزقهم ولا أسألهم. فانخصم ذلك العالم بحجة العامي الذي هو على الفطرة.
(25) وكل أمر عليه يسير:(/6)
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) [يس:82].
فهو يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويعطي ويمنع، ويحيي الموتى بعد فنائهم، وذلك يسير عليه سبحانه وتعالى، لا يكلفه شيئاً ولا يشق عليه، خلاف المخلوق، فإنه يتكلف بفعل الأشياء، أو يعجز عنها، أما الله فليس شيء عليه صعباً، (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان :28].
(26) لا يحتاج إلى شيء:
الله سبحانه غني عن كل شيء، فالله ليس بحاجة إلى الخلق؛ لأنه هو الغني، فهو الذي يعطي الخلق سبحانه .
(27) (ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير) :
هذا نفي للتشبيه عن الله سبحانه، والكاف لتأكيد النفي، مثل: (وكفى بالله عليماً) [النساء:70] الأصل : وكفى الله عليماً، ولكن جاءت الباء للتأكيد.
وليس يشبهه شيء من الأشياء، لا الملائكة ولا الأنبياء والرسل ولا الأولياء ولا أي مخلوق (وهو السميع البصير) [الشورى: 11] فسمى نفسه السميع البصير.
فالآية في أولها رد على المشبهة، وفي آخرها رد على المعطلة، ودلت على أنه لا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه بالمخلوقات، فسمع وبصر المخلوقات لا يشبه سمع ولا بصر الله عز وجل.
(28) خلق الخلق بعلمه:
قال سبحانه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [تبارك: 14]. فخلقه دليل على علمه سبحانه وتعالى وقدرته كما قال تعالى (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً)
(29) وقدر لهم أقداراً:
قدر الله جل وعلا المقادير، ولم يوجد هذه الأشياء بدون تقدير (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر:21] فكل شيء قدره الله بمقادير وكيفيات لا تختلف ولا تتغير، فالإنسان قدر الله جسمه وحواسه وأعضاءه وتركيبه وأوزانه، حتى صار إنساناً معتدلاً يمشي ويقف ولو اختل شيء من أعضاء هذا الإنسان أو من تراكيبه اختل الجسم، وكذلك سائر الكائنات (وكل شيء عنده بمقدار) [الرعد:8] فلكل شيء مقادير ينضبط بها، ولكل شيء مقادير تختلف عن مقادير الآخر.
(30) وضرب لهم آجالاً:
المخلوقات لها آجال ولها نهاية، قال سبحانه (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). [الرحمن:26:27]، وقال سبحانه: (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص:88].
كل شيء له عمر محدود، حدده الله -سبحانه- إما قصير وإما طويل، قال سبحانه، (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) [فاطر:11]، فالأعمار بيده سبحانه وتعالى، وهذا يدل على كمال ربوبيته وكمال قدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
(31) ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم:
بل هو عالم بالأشياء قبل أن توجد، لا أنه لا يعلمها إلا بعد أن وُجدت.
(32) وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم :
علم ما يعمل العباد قبل خلقهم، أن هذا من أهل الطاعة وهذا من أهل المعصية .
(33) وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته:
كما في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]، خلقهم أولاً، ثم أمرهم بعبادته سبحانه وتعالى، فهو سبحانه أمرهم بطاعته، مع أنه يعلم ما هم عاملون من قبل، ولكن الجزاء لا يترتب على العلم، وإنما الجزاء يترتب على العمل، فالله لا يعذب العبد بحسب العلم، إلا إذا وقع منه الذنب، ولا يكرم المحسن حتى يقع منه الفعل، فالجزاء مرتب على العمل، لا على العلم ولا على القدر، ففرق بين العلم وبين الجزاء، ولذلك أمرهم الله ونهاهم، فمن أطاع الأوامر وترك النواهي حصل على الثواب، ومن خالف الأوامر وارتكب النواهي حصل على العقاب بأفعاله هو لا بأفعال الله سبحانه، فالعبد هو المصلي والمزكي والحاج والمجاهد، فالأعمال تنسب إليه لا إلى الله، إلا من جهة الخلق والعلم والتقدير والتوفيق.
(34) وكل شيء يجري بتقديره:
لا شك أن كل شيء بتقديره لا يخرج عن تقدير الله من الخير والشر، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والعلم والجهل، كل شيء يجري بتقديره، وليس في ملكه شيء لم يقدره ولا يريده.
(35) ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن:(/7)
الله سبحانه وتعالى له مشيئة، والعباد لهم مشيئة، ولكن مشيئة العباد مرتبة على مشيئة الله، وليست مستقلة، ولهذا قال سبحانه: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) [الإنسان:30] وقال سبحانه : (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير:29] فجعل لنفسه مشيئة هي من صفاته، وجعل لعباده مشيئة هي من صفاتهم، وربط مشيئتهم بمشيئته سبحانه، وفي هذا رد على القدرية والجبرية: فالقدرية ينفون مشيئة الله لأفعال العباد، ويجعلون للعبد مشيئة مطلقة، وأن العبد مستقل بأفعاله وإرادته ومشيئته، هذا مذهب القدرية من المعتزلة وغيرهم. والجبرية يقولون: العبد ليس له مشيئة، وإنما المشيئة لله فقط، والعبد يتحرك بدون اختياره ولا إرادته، مثل ما تحرك الآلة. فطائفة غلت في إثبات مشيئة الله وطائفة غلت في إثبات مشيئة العبد.
وأما أهل السنة والجماعة: فأثبتوا المشيئتين، وجعلوا مشيئة العبد مربوطة بمشيئة الله، أخذاً من الآيتين السابقتين فقوله: (وما تشاءون) فيه إثبات مشيئة العباد، وقوله: (إلا أن يشاء الله) فيه إثبات مشيئة الله عز وجل، وفي الآية أن مشيئة العبد ليست مستقلة، وإنما هي مربوطة بمشيئة الله؛ لأنه خلق من خلق الله، خلقه وخلق مشيئته وخلق إرادته، ولهذا لما قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال عليه الصلاة والسلام: "أجعلتني لله نداً؟" أي : شريكاً في المشيئة "قل : ماشاء الله وحده"( 5) . ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، أنكر ذلك وقال: "قولوا؛ ما شاء الله ثم شاء محمد" ، فجعل مشيئته مرتبة على مشيئة الله "بثم" التي تفيد الترتيب والتراخي، لا بالواو؛ لأنها تقتضي التشريك.
(36) يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً:
الله سبحانه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهذا بقضاء الله وقدره، ولكنه يهدي من يعلم أنه يصلح للهداية، ويهدي من يحرص على طلب الهداية ويُقبل عليها، فإن الله ييسره لليسرى، ويضل من يشاء بسبب إعراضه عن طلب الهداية والخير، فيضله الله عقوبة له على إعراضه وعدم رغبته في الخير، يوضح ذلك قوله تعالى: (فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) [الليل:5-7] فصار السبب من العبد، والقدر من جهة الله سبحانه: (وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل:8-10] فصار السبب من العبد والقدر من الله عز وجل، ولكن قدره الله عقوبة له.
فقدر الله الهداية فضلاً من الله عز وجل، وتكرم على الشخص الذي يريد الخير ويريد الهداية، فييسره الله للخير ولفعله، وهذا لمصلحته، لا مصلحة لله عز وجل، وأما إضلال الضالين فعدل منه سبحانه وتعالى، جزاءً لهم على إعراضهم وعدم إقبالهم على الخير وعلى طاعة الله عز وجل، لم يظلمهم شيئاً، ولهذا نجد في الآيات (والله لا يهدي القوم الظالمين) [البقرة:258] (والله لا يهدي القوم الكافرين) [البقرة:264]، (والله لا يهدي القوم الفاسقين) [المائدة:108] فجعل الظلم، والكفر، والفسق، أسباب لعدم الهداية، وهذه من أفعال العباد جازاهم عليها، عدلاً منه سبحانه وتعالى لا ظلماً (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [النحل:33]، فلا يليق به سبحانه أن يكرم من هذا وصفه وأيضاً لا يليق به سبحانه وتعالى أن يُضيع عمل العاملين، قال سبحانه : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) [الجاثية:21] (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) [الجاثية:22]، (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) [القلم:35،36] هذا جور ينزه الله عنه، ويقول سبحانه وتعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ص:28].
فالله سبحانه وتعالى لا يُضيع أجر من عمل صالحاً، ولا يجازي أحداً بغير فعله، وبغير كسبه (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) [الصافات:39] فالعمل كله للعبد من الخير والشر، والمجازاة من الله فضلاً وعدلاً.
(37) وكلهم يتقلبون في مشيئة بين فضله وعدله:
وكل العباد لا يخرجون عن التقلب في مشيئة الله بين فضلة على أهل الطاعة وأهل الخير، وعدله مع أهل الكفر والشرك، وهذا هو اللائق بحكمته وعظمته سبحانه، فلا يجمع بين المتضادات والمختلفات، بل ينزل الأشياء في منازلها، ولهذا من أسمائه: الحكيم، ومن صفاته: الحكمة، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، فيضع الفضل في أهل الطاعة، ويضع العذاب في أهل الكفر والمعاصي، هذا فضله سبحانه وعدله.
(38) وهو متعال عن الأضداد والأنداد:(/8)
(متعال) أي : مرتفع بذاته وقدره وقهره عن الأضداد والأنداد، فالأنداد: هم الأمثال والشبهاء والنظراء، فالله سبحانه وتعالى ليس له نظير، وليس له مثيل ولا شبيه، فلا أحد يشارك الله ولا يشابهه ولا يساويه جل وعلا، وهذا من علو قدره وقهره وهو العلي بذاته فوق مخلوقاته. أما الأضداد: فهم المعارضون له، فالله ليس له معارض، ولا يضاده أحد من خلقه، فإنه إذا أراد أمراً فلا يمكن لأحد أن يعترض ويمنع أمره سبحانه وتعالى، وإذا أراد إعطاء فلا أحد يمنع، وإذا أراد منعاً لشيء فلا أحد يعطيه (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) (6 ).
قال تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) [فاطر:2].
فلا ند لله ولا ضد له فيما يأمر به وينهى عنه، خلاف المخلوقين فيوجد من ينازعهم ويقف ضد تنفيذ أوامرهم، فالمخلوقات كلها لها مشارك، فالخلق يتشابهون في العلم والاسم وفي كل شيء، في الأجساد والصفات، ويشتركون في الأفعال والأملاك والله سبحانه لا يشبهه أحد ولا يشاركه أحد.
(39) لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره:
فالله (إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) [مريم:35] (لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) [الرعد:41] فالله عز وجل إذا قضى أمراً فلا يستطيع أحد أن ينقضه أو يرده، بخلاف المخلوق فقد يعطل تنفيذ حكمه وقد يُنقض.
(ولا غالب لأمره): وإذا أمر بالشيء لا أحد يغلب أوامره الكونية، أما أوامره الشرعية فقد تُعطل وقد تُخالف، وهذه للابتلاء والامتحان. ليترتب على ذلك الثواب أو العقاب.
(40) آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده:
كل ما سبق ذكره من أول العقيدة إلى آخرها، ندين لله به، وليس مجرد كلام بألسنتنا، بل هو من قلوبنا.
------------
( 1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: "إني أريد منهم كلمة واحدة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية" قال: كلمة واحدة؟ قال: "كلمة واحدة" قال: "يا عم يقولوا: لا إله إلا الله" فقالوا: إلهاً واحداً، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن : (ص والقرآن ذي الذكر) إلى قوله: (إن هذا إلا اختلاق).
أخرجه في المسند 1/228 والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة ص (رقم 3232) وقال: حديث حسن صحيح. وكذا صححه الشيخ أحمد شاكر رقم (2008).
(2 ) أخرجه مسلم رقم (2713).
( 3) فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام….." إلخ الحديث .
أخرجه مسلم رقم (179).
(4 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون"
أخرجه مسلم رقم (2717)
( 5) أخرجه أحمد 1/214، 224،283، 347، والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وابن ماجه رقم (2117) والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (988) .
( 6) عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: أملى عليّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" .
أخرجه البخاري رقم (844) ومسلم رقم (593)
(41) وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله :
لما بين الشيخ –رحمه الله- في أول كلامه ما يجب من معرفة الله سبحانه، واعتقاد أنه الرب المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي هو متصف بها أزلاً وأبداً، لما بين هذا ووضحه، انتقل إلى ما يجب اعتقاده في الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: "وإن محمداً عبده المصطفى.." هذا عطف على أول الكلام: "نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له…." إلى آخره، ثم قال: "وإن محمداً…." إلى آخره، فلابد من اعتقاد هذا، كما نشهد لله بالألوهية، كذلك نشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولذلك فالشهادتان دائماً متلازمتان.(/9)
"وأن محمداً" هذا اسمه عليه الصلاة والسلام المشهور به، وقد جاء في القرآن: (ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) [الأحزاب:40]، وفي قوله: (وآمنوا بما نُزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) [محمد :2]، وفي قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه) [الفتح:29]، وجاء أحمد في القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [الصف:6].
وله أسماء جاءت في السنة، ذكرها ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام".
والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم من واجبات الدين ومن أصول الإسلام، وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "ثلاثة الأصول" : "الأصل الأول: معرفة الله، والثاني: معرفة نبيه، والثالث: معرفة دين الإسلام بالأدلة"، كما يجب عليك معرفة الله، كذلك يجب عليك معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. هذه أصول ثلاثة، وهي التي يسأل عنها الميت إذا وضع في قبره.
وقوله: (عبده) فهو عبدالله عز وجل، وليس له من الألوهية شيء، ولا من الربوبية شيء، وإنما هو عبد الله ورسوله، مؤتمر بأوامره، منتهٍ عن نواهيه، مبلغ عن الله عز وجل، وهذا فيه رد على الغلو فيه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هناك من يغلون في الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجعلون له شيئاً من الربوبية أو الألوهية، ويدعونه مع الله، وهذا غلو –والعياذ بالله- كما غلت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم، وقالوا إنه ابن الله أو الله أو ثالث ثلاثة. ففي قوله: (عبده المصطفى) فيه ردٌ للغلو، فهو عبد، وكل من في الأرض والسموات عبيد لله عز وجل، قال سبحانه (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) [مريم:93]، فالملائكة عبيد (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبيا:26،27]، والأنبياء والرسل عبيد كما قال سبحانه في نوح عليه السلام: (كان عبداً شكوراً) [الإسراء:3]، وقال عز وجل: (فكذبوا عبدنا) [القمر:9]، وقال في داود: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) [ص:17]، وقال في سليمان: (نعم العبد إنه أواب) [ص:30]، وقال في أيوب: (واذكر عبدنا أيوب) [ص:41]، وقال في عيسى : (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) [الزخرف: 59]، فإذا كان الأنبياء والرسل والملائكة عبيد لله، وهم أشرف الخلق، فغيرهم من الأولياء والصالحين من باب أولى.
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء، وسماه الله عبداً في قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة: 23] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) [الفرقان:1] (سبحان الذي أسرى بعبده) [الإسراء:1]، ومقام العبودية هو أعلى المقامات، ولا شيء أشرف من العبودية لله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"( ) .
ومعنى المصطفى : المختار، من الاصطفاء، وهو الاختيار، قال تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار*إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار*وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)[ص:45،47] المصطفين : جمع مصطفى، وهو المختار، أصله مصتفى، ثم أُبدلت التاء طاء فصارت مصطفى؛ ليسهل النطق بها.
فالمصطفى هو المختار؛ لأن الله سبحانه اختار محمداً عليه الصلاة والسلام للرسالة من بين قومه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار إلا من يعلم أنه يستحق الاختيار، وأنه يقوم بالمهمة؛ لأن هذه المهمة صعبة وعظيمة، فلا يختار الله إلا من هو لها أهل، قال سبحانه : (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام:124]. و (المجتبى) بمعنى المصطفى.
والنبي : من أوحى إليه الله بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أشهر ما قيل في الفرق بين النبي والرسول، ومعنى: أمر بتبليغه، أي : أمر بإلزام الناس وأن يقاتلهم على ما جاء به.
وكذلك النبي، يُوحى إليه ويدعو إلى الله عز وجل، ولكن يتبع من قبله من الأنبياء ويمشي على طريق من قبله، ولا ينفرد بشريعة خاصة، مثل أنبياء بني إسرائيل، جاءوا بالتوراة ودعوا إلى التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام.
و (المرتضى) بمعنى المجتبى والمصطفى، فالمرتضى بمعنى: أن الله ارتضاه.
(42) وأنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين:
هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام.(/10)
خاتم الأنبياء، ومعنى (خاتم) الذي لا يأتي بعده نبي، وختام الشيء هو: الذي يُجعل عليه حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فالله ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال جل في علاه: (ما كان محمداً أباً أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب:40]، فلا حاجة لمجيء نبي بعده؛ لأن القرآن موجود، والسنة النبوية موجودة، والعلماء الربانيون موجودون، يدعون إلى الله ويبصرون الناس؛ فدين محمد باقٍ إلى قيام الساعة لا يبدل ولا ينسخ ولا يغير ؛ لأن الله سبحانه جعله صالحاً لكل زمان ولكل مكان، أما شرائع الأنبياء السابقين فتكون مؤقتة لأممهم في فترة من الفترات، ثم ينسخ الله تلك الشريعة بشريعة أخرى تتناسب مع الأمة الأخرى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة:48]. كما قال تعالى: (لكل أجل كتاب) أي لكل كتاب أجل.
فدين الإسلام كامل لا يحتاج بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى رسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فمن اعتقد أنه يأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي فهو كافر بالله خارج من الملة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي كذبة يدعون النبوة من بعده، قال عليه الصلاة والسلام: "سيأتي بعدي كذابون ثلاثون، كلهم يدعي أنه نبي، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي"( ) .
فمن ادعى النبوة أو ادعيت له النبوة ومن اتبعهم، فكلهم كفرة، وقد قاتلهم المسلمون وكفّروهم، وآخر من ادعى النبوة في الوقت الحاضر: القادياني الباكستاني الذي ادّعى النبوة له أتباعه القاديانية، ويُسمون بالأحمدية نسبة إلى اسمه؛ لأن اسمه أحمد القادياني، وقد كفره العلماء وطردوه من البلاد الإسلامية، وكفَّروا أتباعه؛ لأن هذا تكذيب لله ولرسوله، وتكفيرهم بإجماع المسلمين، لم يخالف في هذا أحد.
فلابد للمسلم أن يعتقد أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأتقياء؛ يعني القدوة الوحيد للأتقياء الذين يتقون الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) [الأحزاب:21]
أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقتدى به إن كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما من خالف الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الاقتداء به: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) [آل عمران:31]، فلا طريق إلى الله إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والاقتداء به.
"وسيد المرسلين" هو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"( ) أخبر الأمة بذلك من باب الشكر لله عز وجل، ولتشكر الأمة ربها عز وجل على هذه النعمة: أن جعل رسولها سيد الرسل.
و"سيد" معناه: المقدم والإمام، فهو أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام، وإمامهم ومقدمهم .
و"حبيب رب العالمين" هذه العبارة فيها مؤاخذة؛ لأنه لا يكفي قوله: حبيب، بل هو خليل رب العالمين؛ والخلة أفضل من مطلق المحبة؛ فالمحبة درجات، أعلاها الخلة، وهي خالص المحبة، ولم تحصل هذه المرتبة إلا لاثنين من الخلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النسا:125]، ونبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر بذلك فقال: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"( ). فلا يقال: حبيب الله؛ لأن هذا يصلح لكل مؤمن، فلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا ميزة، أما الخلة فلا أحد يلحقه فيها .
(43) وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى:
هذا سبق في معنى أنه خاتم النبيين، فكل دعوى للنبوة بعده فباطله وكفر؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، وعيسى عليه الصلاة والسلام لما ينزل آخر الزمان فإنه لا يأتي على أنه نبي ورسول أو يأتي بشريعة جديدة، إنما يأتي على أنه مجدد لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم بالشريعة الإسلامية.
(44) وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء:(/11)
كذلك، هذا ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكفي أن نعتقد أنه رسول الله فقط، بل أنه رسول إلى الناس عامة، بل إلى الجن والإنس، قال سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، وقال له: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) [الأعراف: 158] فرسالته إلى الناس عامة، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فهو رسول للناس عامة، ووجبت طاعته على جميع الخلق، عربهم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، وإنسهم وجنهم، فكل من بلغته دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وجب أن يطيعه وأن يتبعه، فمن أقر أنه رسول الله للعرب خاصة، كما يقوله طائفة من النصارى، أنه رسول الله للعرب خاصة، وينكرون نبوته لغيرهم، فهذا كفر بالله عز وجل، وتكذيب لله عز وجل ولرسوله، فالله يقول: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، ويقول سبحانه : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) [الفرقان:1] فرسالته عالمية .
وقال عليه الصلاة والسلام: "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" ( ). وكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مرسل إلى أهل الأرض كلهم، وأمر بالجهاد حتى يدخل الناس في الإسلام، فدل على عموم رسالته عليه الصلاة والسلام، فيجب اعتقاد هذا.
فتجب في حقه هذه الاعتقادات:
أولاً: أنه عبد الله ورسوله.
ثانياً: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده .
ثالثاً: أن رسالته عامة للإنس والجن.
ودليل عمومها للإنس: كما سبق من الآيات ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما عمومها للجن: فلقوله تعالى : (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين*قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم*يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف:29،31] يعنون : محمداً عليه الصلاة والسلام.
وفي قوله تعالى : (قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءاناً عجباً*يهدي إلى الرشد فآمنا به) [الجن:1،2]، فدل على عموم رسالته للجن، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث لأهل الأرض كلهم، إنسهم وجنهم، فمن آمن به دخل الجنة، ومن لم يؤمن به دخل النار، من الإنس والجن. وقوله: (وبالنور والضياء) هما بمعنى واحد وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهما. قال تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً*وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) [الأحزاب: 45،46].
(45) وأن القرآن كلام الله :
بعد أن تؤمن بالله عز وجل، وتؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، تؤمن أن القرآن كلام الله؛ لأن هذا هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن، وهذا القرآن ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من كلام جبريل، إنما هو كلام الله عز وجل، تكلم الله به، وتلقاه جبريل من الله، وتلقاه النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل عليه السلام، وتلقته الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم .
فهو كلام الله، منه بدأ سبحانه، لم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما يقوله أهل الضلال، ولم يكن من كلام جبريل ولا محمد، إنما هو من كلام رب العالمين. وأما جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام فهما مبلغان عن الله عز وجل، فالكلام إنما يقال ويضاف لمن قاله مبتدأ، لا من قاله مبلغاً ومؤدياً.
فمن قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، أو : إن الله خلقه في شيء وأخذه جبريل من ذلك الشيء، فهو كافر بالله عز وجل كفراً مخرجاً من الملة، كما تقوله الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، فهو كلام الله، حروفه ومعانيه، تكلم الله به كيف شاء، فنحن نصف الله بأنه يتكلم، والكلام من صفاته الفعلية، والكيفية التي تكلم بها نقول: الله أعلم بها، هذه كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها، فالمعنى معروف، وأما الكيفية فهي مجهولة لنا.
(46) منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً:(/12)