وإذا كان يسهل محاجّة أصحاب الفكر العلماني من المسلمين، بحكم المفارقات بين المنظومتين الفكريتين العلمانية والإسلامية، فإنّ الفكر المتشدد داخل الصف الإسلامي من شأنه أن «يشوّش، بل يضرّ بالإسلام وأهله، ويجهض عقوداً من الجهود التي بذلها مسلمون مخلصون داخل العالم الإسلامي، وفي البلاد الغربية من أجل توضيح خصائص الإسلام القائمة على الاعتدال والواقعية بما يتماشى والفطرة الإنسانية، بالإضافة إلى إجهاض جهود التواصل والحوار مع العديد من رجال الفكر والسياسة الغربيين الذين يوجد من بينهم المنصفون في حكمهم على الإسلام وسلوك المسلمين، من خلال معايشتهم للحضور الإسلامي في الغرب».
وتزداد خطورة المسألة «عندما يتعلق الأمر بالشريحة الأساس في بناء المجتمعات ألا وهي الشباب، ذلك أن حاملي هذا الفكر المتشدد أغلبهم من الشباب الذين وجدوا في هذا الفكر ملجأ للتعبير عن رفضهم للمادية السائدة، وعن سخطهم على سلسلة الإهانات التي تعيشها الأمة الإسلامية على كل المستويات، واعتمدوا على اجتهادات ينقصها العمق في فهم النصوص والواقع، وتبنّوا منهجاً في التغيير يقوم على التشددّ، بَلْ يصل أحياناً إلى العنف. ويرتبط بتداعيات هذا الفكر المتشدد محاولة تقديم الإسلام من منظور أحادي في الفهم والتصوّر، والتشكيك بل تكفير مبدأ التعددية والمعارضة وحرية الفكر من داخل المنظومة الإسلامية»([5]).
ولكل هذه الأسباب، يتعيّن على الكفاءات الإسلامية الواعية أن ترشّد فكر الأجيال الصاعدة، وتجتهد في إقناعهم بوسطية الإسلام، وذلك باعتماد خطاب يفهمه هؤلاء الشباب، ويتماشى مع عقليتهم، ويأخذ بالاعتبار مؤثرات البيئة التي يعيشون فيها. ويتطلّب هذا الأمر من المتصدّي لهذه المهمّة معرفة دقيقة بلغة البلد الأوروبي- الغربي وثقافته، وبنفسية الشاب أو الفتاة، بالإضافة إلى فهم مقاصد الإسلام وطبيعته ومنهجه في التعامل مع الآخر، من أجل كسب ثقة من سيقوم على كاهلهم بناء مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب.
فقد أثبتت التجربة أنّ وجود خلل في أحد هذه الشروط يترتب عليه فشل العملية التربوية والتأهيلية عموماً. إذ لا يغني حثّ الشباب المسلم على الاهتمام بلغة القرآن - قراءة وحفظاً وكتابة- عن التحدث إليهم بلغة بلدهم الحاملين لجنسيته والمقيمين فيه بصفة دائمة، حيث يعسر عليهم في مراحل التكوين الأولى استيعاب معاني اللغة العربية الفصحى عندما يتعلّق الأمر بالمواضيع التي تتطلب شرحاً وتحليلاً ونقداً، ومن ثم يكون من الأفضل تبليغ هذه المعاني بلغة البلد التي تساعد على الفهم وسرعة الاستيعاب.
وليس في هذا الأمر -كما يرى بعضهم- خطراً على مستقبل لغة القرآن لدى الأقليات المسلمة في الغرب، حيث يُلاحظ إقبال الشباب المسلم على المساجد التي تقدّم خطبة الجمعة باللغتين العربية والمحلية. ولنا أن نقارن حجم الإفادة من هذا اللقاء الأسبوعي بين أن تكون الخطبة بالعربية فحسب وأن تكون باللغتين، خاصة إذا نجح الإمام الكفء في تبليغ رسالة الإسلام بمنهجه الوسطي.
ويدعو هذا الأمر إلى تأهيل كوادر الأئمة والدعاة، وتطوير العملية التربوية والتعليمية، من خلال تطوير مناهج تعليم العربية والقرآن والدين الإسلامي في المدارس الخاصة أو في الجمعيات الإسلامية المنتشرة، بعقلية منفتحة على المجتمع.
ولكي يكون البناء التربوي الديني صلباً، فإنّ المطلوب هو التفكير في عملية بناء تصاعدية للفرد في كل مراحل حياته، منذ أن يكون طفلاً إلى الشيخوخة؛ على عكس ما حصل في تاريخ وجود الجاليات المسلمة في الغرب، حيث تم الاهتمام بالحفاظ على هوية الجيل الأول ببناء المساجد، ثم التفكير في المدارس لتعليم العربية والإسلام للجيل الثاني من الشباب، الذين لم يسعفهم الحظ في تلقي تكوين إسلامي محْكم منذ الصغر، فكانت النتيجة أن تركت هذه الثغرة بصمات على سلوكهم وتصوراتهم. وبوجود الجيل الثالث والرابع، بدأ التفكير في الطفولة، مثل تكوين رياض إسلامية للأطفال، وقصص وبرامج على الكمبيوتر في مستوى الطفل.
والمطلوب أيضاً دمج التأهيل التربوي الديني بالتأهيل الثقافي الفكري السياسي، من أجل الحفاظ على التوازن في بناء الفرد والمجموعة. فتعليم الأجيال الصاعدة اللغة العربية ومبادئ الإسلام لا يكفي لذاته إذا لم تصحبه متابعة ملف موضوع بالغ الأهمية يتعلّق بتمثيل المسلمين لدى السلطات، والذي يحتاج إلى الكفاءات العارفة بمتطلبات هذا الملف.. وملفا التعليم والتمثيل لا يُغنيا بدورهما عن الدور السياسي.(/24)
وفي هذا الصدد، يوجد اتجاهان متناقضان لدى أبناء الاقليات المسلمة في التعامل مع الملف السياسي. فمن ناحية، يُلاحظ نوع من الزهد في ممارسة حقهم الانتخابي الذي يمرّ عبر الترسم في القوائم الانتخابية في البلديات من أجل الحصول على البطاقة الانتخابية. ويفسّر هذا الزهد بأسباب عديدة منها ما يعود إلى الفهم الخاطئ في تأويل مصادر التشريع الإسلامي بدون علم بفقه الواقع، وربط الانتخاب بمسألة الولاء الديني والحديث عن عدم جواز ترشيح أو اختيار غير المسلمين، إلى جانب ضعف الثقافة السياسية لدى الأجيال الأولى؛ ومنها ما يعود إلى ظاهرة عدم الاكتراث بالحياة السياسية لدى نسبة من الرأي العام الغربي.
ويتأكد دور المثقفين في مثل هذه المواقف في حث هؤلاء الشباب على عدم التساهل في هذا الحق، لما له من فوائد وإيجابيات على الوجود العربي الإسلامي في الغرب. وشهدت السنوات الأخيرة اهتمام المسؤولين السياسيين والحزبيين ورؤساء البلديات والمرشحين في القوائم الانتخابية بالعرب والمسلمين في البلاد الغربية، من أجل كسب تعاطفهم وأصواتهم، مع اقتراب كل موعد انتخابي، وذلك لأن الصّوت العربي المسلم أصبح يُحسب له ألف حساب. ويعتبر المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تقدماً في هذا الشأن مقارنة بالبلاد الأوروبية.
في المقابل، نلاحظ قيام تجمّعات شبابية مسلمة تسعى إلى الإسراع بتشكيل لوبي إسلامي«Lobbying» بخلفيات سياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. والفكرة جيّدة في حدّ ذاتها، ولكن هل تمت دراسة مقتضياتها ومآلاتها ومراحلها؟ أم هي مجرّد ردّ فعل على حالة التهميش التي يعيشها الشباب المسلم المقيم في الغرب عموماً وفي البلاد الأوروبية على وجه الخصوص؟ وهل ستكون ذات طابع شبابي أم ستتمّ الاستعانة بذوي الخبرة من الجيل الأول وإشراك\"أهل الحلّ والعقد\" كما يقال؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأمل وتفكير ودراسة عميقة وفقهٍ بمتطلبات الواقع، والدمج بين \"حماس الشباب وتجربة الكبار\". وهذه المسألة الأخيرة جدّ مهمّة في مسألة التأهيل عموماً، وفي اتخاذ المواقف الحساسة مثل النشاط السياسي، لأنّ واقع الأقليات يطغى عليه نوع من الانفصام بين الطرفين.
وترتبط عملية التأهيل أيضاً بترشيد عملية بناء المؤسسات الإسلامية، للقيام بمشاريع تربوية وثقافية وفكرية ودينية وسياسية وإعلامية واقتصادية. وقد اقترن الحضور الإسلامي في الغرب بقيام مؤسسات لتنظيم هذا الحضور ورعايته والارتقاء بدوره. وتكتسي هذه المؤسسات أهمية خاصة من حيث وظيفتها الإسلامية في الحفاظ على هوية الأقليات المسلمة بكلّ شرائحها، وفي كل القطاعات والمجالات، خاصة مع اتساع الحاجة من الاجتماعي التربوي إلى قضايا التوطين وما يرتبط بها من هموم المشاركة السياسية والانخراط في الحياة اليومية ومقتضياتها.
وبدون شك، فإنّ المؤسسات الإسلامية أصبحت المحضن الذي يستأنس به مسلمو الغرب في جميع أحوالهم، ومصدر مرجعيتهم الدينية والشرعية في التفاعل مع البيئة غير الإسلامية. ولكن العمل المؤسسي الإسلامي في حاجة إلى عملية تقويمية من حيث توفّر الإمكانات المادية والبشرية الضرورية، وذلك بعد تعثّر عدد من المؤسسات بسبب الانطلاقة غير المدروسة، ومن حيث ترتيب الأولويات، والحال أنّ جلّ الجهود تصبّ في إقامة المؤسسات الدينية مثل المساجد، والمؤسسات التعليمية مثل المدارس، على حساب مؤسسات أخرى ذات تأثير كبير مثل المؤسسات الإعلامية والبحثية والفقهية التأصيلية.
ومن الحلول التي توصّل إليها القائمون على مؤسسات إسلامية بالاستعانة بالخبراء المسلمين، إنشاء وقف خاص بها من أجل تجاوز العائق المالي الذي يعترض الكثير من المشاريع الإسلامية. كما لا تخفى أهمية عامل الاستثمار في النهوض بواقع الأقليات المسلمة. وتكفي المقارنة بين الوجود العربي الإسلامي في بريطانيا والواقع الاقتصادي. وهذا البعد لا يستهان به ولا يقل أهمية عن البعد الثقافي والفكري. فإقامة مشاريع تجارية ومؤسسات استثمارية مدخل مهمّ لاقتحام الدورة الاقتصادية الغربية وفهم آليات عملها والقوى المؤثرة فيها، وأهمّ من ذلك تكوين جماعة ضغط «لوبي» اقتصادي مالي ضروري لضمان حقوق الجاليات العربية المسلمة.
وبفضل قيام «كوادر» إسلامية متخصصة بتقديم دورات تدريبية في التسيير والاتصال، بدأ يشهد العمل المؤسسي الإسلامي عملية تطوير في وسائله وأهدافه، حيث ترسّخت القناعة بضرورة انفتاح المؤسسات الإسلامية على الواقع الغربي بخلفية رسالية دعوية، في إطار معادلة مدروسة بين التأثرّ والتأثير، خاصة أن الهدف المنشود هو الانتقال من «المواطنة» إلى التوطين.
التوجه الثالث: توجّه دعوي رسالي:(/25)
فإلى جانب التوجّهين الأولين، هناك توجّه آخر لا يقلّ أهميّة عنهما، ويتطلب من العقول الإسلامية جهوداً كبيرة في اتجاه دعوي رسالي منفتح على المجتمعات الغربية، وذلك من خلال المشاركة بأطروحاتهم وآرائهم في القضايا التي تهم العالم ومصير المجتمعات الغربية التي يقيم بها المسلمون، وتوضيح قدرة الإسلام على معالجة قضايا العصر.
ومن أهمّ القضايا: العلاقة بين العلم والإيمان، وربط هذا الأمر بالمسألة الخلقية «Ethic» بتصوّر يختلف عن الدعوة إلى «أخلاقية» بالمفهوم العلماني. ويمكن في هذا الصدد تقديم التصوّر الإسلامي ذي البعد الإنساني للمعرفة والعلم، من خلال مقاربات إسلامية للعلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، وتصحيح المسار الذي تسير فيه البشرية، وخاصة الغرب، في مجال سباق التسلّح، والتسيب الخلقي، وغياب الهدفية في الحياة، واختلال التوازن البيئي، وفرض نمط من السلوك والتفكير والتعامل باسم العولمة.
فبفضل ما يمتلك الباحثون ذوو الالتزام الديني من تصوّرات وثقافة ذات طابع ديني، يمكنهم المساهمة بأقدار كبيرة في قضايا حيوية مثل الحفاظ على البيئة، وهذه قضية جدّ خطيرة، يدل على ذلك بروز أحزاب في البلاد الغربية تسمى بالخُضْر، تزداد شعبيتها يوماً بعد يوم في ظلّ الأخطار التي أصبحت تحدق بحياة الإنسان ومحيطه جرّاء انتشار العقلية الربحية القائمة على الاحتكار والأنانية.
ويمكن للطرح الإسلامي -إذا حسن تقديمه- أن يساهم في دعم الوعي البيئي المتزايد لدى الرأي العام الغربي، بما يساهم في كبح جشع المؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف المحتكرة للثروات الطبيعية. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ)) (الروم:41)، بما يتماشى وفلسفة الإسلام للإنسان والكون والطبيعة، والتناغم بين الإنسان ومحيطه، بالنظر إلى وحدة الخَلق وتسخير الكون للإنسان، ذي المهمّة الاستخلافية في هذه الأرض التي عليه تعميرها وليس تخريبها.
أما على المستوى الاقتصادي، فيمكن الانطلاق مما توصل إليه الناقدون الغربيون أنفسهم من نقد للأبعاد الاقتصادية لكل من الاشتراكية والليبرالية، والنتائج المترتّبة على تطبيق مثل هذه المبادئ في الواقع. ومن بين السلبيات التي تم التركيز عليها انتشار العقلية الاحتكارية الربحية الجشعة التي تكون تارة سمة السلطة المركزية ومؤسساتها في الاشتراكية، وأخرى سمة الشركات الرأسمالية الكبرى في الأنظمة الليبرالية. ولعل مرض \"جنون البقر\" صورة من هذه الصور البشعة لهذه العقلية، حيث ثبت علمياً أن السبب الرئيس لهذا المرض يعود إلى تقديم دقيق الحيوانات الميتة المطحون كطعام للبقر الذي يصاب فيما بعد بالجنون.
ويكفي هذا المثال للدلالة على أنّ النجاح الاقتصادي لا يتوقف على حسن التخطيط والتسيير والإمكانات المادية والبشرية فحسب، وإنما هو مرهون أيضاً بالمنظومة الخلقية التي تُبنى عليها العملية الاقتصادية.
وعلى الكفاءات الإسلامية المتخصصة في المجال الاقتصادي أن تبرهن على سموّ التصوّر الاقتصادي في الإسلام، الذي يأمر بالقسط والعدل دون أن يكون ذلك على حساب الملكية الفردية، اعتماداً على مبدأ «كل حسب جهده وبلائه وحاجته»، والتأكيد على قيمة العمل وكراهية العبد البطال، وعلى الروح التضامنية، من خلال اعتبار المال أمانة في أيدينا، للفقير والمحتاج حق فيها عن طريق الزكاة والصدقة، وهذا ما يقودنا إلى البعد الاجتماعي المهم.
وعلى المستوى الاجتماعي، ينتظرُ المثقفين المسلمين دورٌ كبير فيما يتعلقّ بموضوع الأسرة، والتعامل بين مختلف الأجيال، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موضوع بالغ الأهمية لما له من تأثير في بقاء المجتمع وسلامته. وليس خافياً على أحد ما وصلت إليه هذه العلاقات من انسداد وتأزّم بسبب غياب المرجعية الدينية أو فتورها، وطغيان المادية والفردية، وأزمة القيم، إلى حدّ أن الإنسان في الغرب لم يعد يشعر بالسعادة رغم ما يمتلك من أموال وثروات ووسائل ترفيهية وتقدّم عمراني، الأمر الذي يفسّر ارتفاع نسبة الجريمة ولجوء عدد من الشباب في ريعان العمر إما إلى الإدمان على المخدرات والخمر هروباً من الواقع، أو إلى الانتحار لوضع حدّ لحياتهم التي لم يعد لها أي هدف، وهو ما يعدّ خسارة كبرى لطاقات وموارد بشرية تمثلّ عدّة الغد للمجتمعات الغربية.
وانطلاقاً من أن الدين الإسلامي رحمة للعالمين، فإنّ الواجب الديني-الإنساني يقتضي المساهمة، قدر المستطاع، في إرجاع الثقة والأمل إلى نفوس الناس، وخاصة إلى الشريحة الشبابية التي يتأثر بها أبناء المسلمين. ذلك أنّ الخلفية التي يجب أن تصاحب المسلم الداعية وهو يرشد الناس إلى الخير، تُبنى على النظرة المشفقة على البشر وليس على رغبة في الانتقام والتشفّي.(/26)
وبهذه النفسية، يكون الدخول من الباب نفسه الذي ينفذون منه عادة للتهجم على الإسلام، وهو موضوع المرأة، وذلك عبر شرح وتحليل وتفكيك وضع المرأة الغربية الذي لا تحسد عليه، بهدف إجلاء حقيقة الفخّ الذي نُصب لها بتخطيط محكم حتى تتحوّل إلى بضاعة للإغراء، وإعادة الاعتبار للمرأة الإنسان التي كرّمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وهي بنت وزوجة وأمّ وعجوز.
وإذا نجحت الكفاءات الإسلامية في توجيه الرأي العام الغربي نحو هذا الهدف الأخير فحسب، تكون قد قدمت خدمة حضارية عظيمة للبشرية وللفكرة الإسلامية، ذلك أنّ تصحيح وضع المرأة يعني إنقاذ المجتمع بأسره، لأنه كما هو معلوم، تمثّل المرأة نصف كلّ مجتمع، ويتربّى النصف الآخر على يديها. وهذه المسألة من التحديات الكبرى التي تطرحها العولمة الثقافية ذات النمط الغربي (الأوروبي-الأمريكي) السائد، أمام العقول الإسلامية.
ويرتبط بموضوع المرأة قضية التفكك الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، وتقلّص قيمة قدسيّة الحياة الزوجية. وبدون شكّ فإنّ الطرح الإسلامي الذي يؤمن بقدسية الحياة الزوجية المبنية على عنصري المودّة والرحمة، وما يعني ذلك من غرس قيم الحبّ والتواصل والاحترام في نفوس الأجيال الصاعدة، يمكنه أن يعالج أزمة القيم فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وتقديم حلول لقضايا المجتمع المرتبطة أساساً بالمفهوم الشائع الخاطئ للحرية. ويبرز ذلك في معضلتين تعاني منهما المجتمعات الغربية والمجتمعات المقلّدة لنمط الحياة الغربية:
المعضلة الأولى: ظاهرة تزايد الجريمة والعنف. وبحجة عدم التعدّي على حرّية الفرد ومراعاة الظروف القصوى النفسية وغيرها للمجرم، أصبح بإمكان هذا الأخير التعدي على حقوق المجتمع، لأنه يعلم أنّ العقاب الذي ينتظره لا يتجاوز السجن ولو لفترة طويلة. فانشرت ظاهرة المجرمين الذين اعتادوا على الجريمة، لأنّهم اعتادوا على السجن. بل إنّ من المعضلات الاجتماعية في الغرب اليوم، قضية الاعتداء الجنسي على الفتيات والأطفال، المصحوب أحياناً بالقتل العمد الذي لا يمكن وضع حدّ له إلا بالحزم. وقد ارتفعت أصوات عديدة تطالب بإعدام مرتكبي هذه الجرائم، والجدل قائم حول مفهوم القصاص وعلاقته بحرية الفرد.
والتصوّر الإسلامي واضح في هذه المسألة: (( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ)) (البقرة:179)، واعتبار ذلك شرطاً لاستقرار المجتمع وأمنه: (( الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ)) (قريش:4). والمسلمون بإمكانهم المساهمة في معالجة الانحراف الذي شاب مفهوم القصاص، عن طريق تصحيح مبدأ الحرية، المرتبط في جوهره بالمسألة العقائدية الإيمانية واستشعار الرقابة الدائمة من القوّة المتصرّفة في هذا الكون.
المعضلة الثانية: تتمثل في انتشار ظاهرة الإباحية والفوضى الجنسية، وفي الوقت نفسه العمل على تطبيع المجتمعات الغربية مع الشذوذ والزواج بين الشواذ، حيث لم يكتف هؤلاء بالمطالبة بحقوقهم والاعتراف بهم مثل المتزوجين العاديين، بل إنّهم ينظمون المظاهرات الاحتجاجية على محاكمة الشواذ في البلاد العربية - الإسلامية مثلما حصل في مصر. ويبدو من خلال العديد من المؤشرات أنّ التيار المحافظ السائد لدى الرأي العام الغربي مستاء من ظاهرة الشذوذ.
ويمكن للمسلمين المقيمين في الغرب التحالف مع هذا التيار بهدف غرس القيم التي تتفق والفطرة البشرية، والإقناع أنّ ظاهرة الشذوذ مرتبطة بالانحراف في فهم مبدأ الحرية وحدودها. ذلك أنّ التعريف المتداول هو أنّ حدود الحرية شعارها: «حريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين». وهذا الشعار يتضمّن معنى مطاطياً قابلاً للتأويل، كلّ حسب هواه.
وبناء عليه، ظهر في هذه المجتمعات من يدعو إلى الإباحية باسم الحرّية، فيقول : «أنا حرّ في بدني أتصرّف فيه كيف أشاء». فانتشرت الفوضى الجنسية، وظهرت أمراض جديدة مثل (السيدا بالفرنسية/ الأيدز بالإنجليزية)، الأمر الذي يتطلّب تصحيحاً مفهومياً لمبدأ الحرية، وضبطاً للحقوق والواجبات والحدود، علماً بأنّ القوانين الوضعية نفسها تعطي الحق للدولة أو السلطة التي تمثلها للتدخّل من أجل منع الفرد من التصرّف بالشكل الذي يكون خطراً على نفسه وعلى المجموعة.
والمسلمون قادرون - من خلال مفكريهم وباحثيهم ومؤسساتهم- أن يدعموا ما يتماشى من القوانين الصادرة عن البرلمانات الغربية مع فلسفة الإسلام في احترام كيان الفرد وحفظ المجتمع وبثّ قيم الخير والعدل. ويسجل في حالات عديدة مصادقة نواب برلمان هذا البلد الغربي أو ذاك على قانون مثل منع شرب الخمر عند السياقة، أو منع ضرب النساء من طرف أزواجهن، والتحرّش الجنسي في العمل، أو احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات... وغيرها من القوانين والإجراءات التي تخدم الفكرة الإسلامية بصورة غير مباشرة، وتلتقي مع التصوّر الإسلامي للكون والإنسان والحياة.(/27)
ومما ييسّر هذا التفاعل طبيعة هذا الدين وخصائصه، والتي من بينها الواقعية والشمولية والإنسانية.
وفي المقابل، يمكن أن يشكل المسلمون عنصر ضغط لمنع الإجراءات والقوانين الوضعية عندما تكون خاضعة للأهواء ولموازين قوى سياسية وأيديولوجية، والتي تستهدف القيم الإنسانية، بالتعاون مع الأطراف الجادّة الدينية والمثقفة.
وعلى المستوى الثقافي، فإن المجتمعات الغربية تعطي أهمية كبيرة للناحية الفنية الجمالية والتعبير عنها بأساليب وفنون عدّة مثل المسرح والسينما والموسيقى والأدب..وفي غياب وضوح الرؤية والمرجعية الفكرية المحدّدة، اتسمت بعض المحتويات المقدّمة بسطحية في الموضوع وفي منهجية تقديمه عبر إثارة الغرائز الحيوانية أو العدوانية لدى الإنسان، مثل النعرات العرقية- العنصرية، وكراهية (الآخر)، واستعمال وسائل الصخب والتهريج للتعويض عن الخواء الروحي، وتفشت ظاهرة «النجومية» التي تتعلّق بها الأجيال الصاعدة إلى حدّ التقديس، خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى.
والباب مفتوح أمام المسلمين لتقديم بدائل في المجال الفنّي تساهم في الارتقاء بوعي الإنسان، وترسيخ قيم الخير والاستقامة لدى الفرد والمجتمع. وليس بالضرورة أن تحمل كل هذه البدائل لافتة إسلامية، والأهمّ هو التعبير عن الفكرة الإسلامية والقيم الإنسانية التي تتضمّنها، والخروج من النّظرة الضيقة التي تحصر المجال الفني الجمالي في دائرة الحرام والحلال.
فقد بقي الخلاف قائماً إلى يومنا بين المسلمين حول هذا الموضوع، واستغلت التيارات العلمانية الحاقدة على مشروع النهوض الإسلامي هذا الفراغ، فقامت بتسريب سمومها إلى الشباب، ووجدت الدعم من جهات غربية حريصة على انتشار هذا الصنف من الفنّ في صفوف أبناء المهاجرين، بل إن صداها وصل إلى البلاد الإسلامية.
و ما تزال المحاولات الفنية الإسلامية في حاجة إلى تطوير بترشيد فقهي تأصيلي، حتى تكون في مستوى تطلّعات الأجيال الجديدة التي تهوى الفنون بجميع أشكالها ( القصة، الرواية، السينما، المسرح، الموسيقى..).
وبفضل ما يملك المسلمون من تراث فني عريق (خاصة في المجال المعماري كما تشهد على ذلك الأندلس، والخط العربي الذي يجد اهتماماً عالمياً)، يمكن أن تطوّر الكفاءات المسلمة العطاء الفني الإسلامي ذي البعد الإنساني العالمي، من خلال استراتيجية واضحة تقوم على نظافة الغاية ونظافة الوسيلة.
أما على المستوى السياسي، فإن الكثير من المحللين يتّفق على أنّ الديمقراطية على الطريقة الغربية ليست النظام السياسي المثالي لكل البشر. فقد تكون صالحة للمجتمعات الغربية ولكنّها ليست بالضرورة صالحة لمجتمعات أخرى؛ لأنّها ثمرة تفاعلات وصراعات وفلسفات من رحم المجتمع الغربي بخصوصياته. ثمّ إنّ الواقع أثبت وجود العديد من الثغرات والسلبيات في تطبيق هذا النظام في البيئة التي نشأ فيها، خاصة في المسائل المتعلّقة بالتمثيل النسبي واحترام حقوق الإنسان والأقليات، والأخلاقية السياسية والنظام الحزبي.
وبناء عليه، فإنّ الطرح الإسلامي يقدّم تصوّرات بإمكانها أن تُخرج الديمقراطية على الطريقة الغربية من السلبيات التي تتسبّب في إعاقة النشاط السياسي، وزهد نسبة من الرأي العام الغربي في الحياة السياسية. «فإنّ علاقة الحاكم بالرعية يحكمها في الإسلام مبدأ الشورى، ولا تخضع لأية علاقة بالمعنى الثيوقراطي، أي أن الحاكم ظل الله في الأرض، وغيرها من التصورات التي لا يقرّ بها الإسلام. والشورى ليست شعاراً يُرفع، وإنما مبدأ للتطبيق على أرض الواقع، بما يعنيه من حق الاختلاف في الرأي والمعارضة وواجب الالتزام برأي الجماعة أو الأغلبية، دون أن تُنتهك حقوق الأقلية. أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس فيه نص واضح، ومتروك للاجتهاد لترجيح ما يلائم كل عصر»([6]). ويحتاج مبدأ الشورى إلى مزيد من التوضيح والتعميق والتأصيل ليكون مقبولاً من المجتمعات الغربية.
ثمّ إنّه يلاحظ تزايد دور المجتمع المدني في المجتمعات الغربية من جمعيات ومنظمات ونقابات تهتمّ بالشأن العام خارج المؤسسة السياسية الرسمية. والتراث السياسي الإسلامي يزخر بهذا الدور نفسه فيما يسمّى بـ\"المجتمع الأهلي\".
كما أنّ العلاقات الدولية تحتكم في التصوّر الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعددّ الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها: (( يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات:13).
من خلال ما تقدّم، يتأكّد ما قاله بعض الملاحظين الغربيين: إنَّ الإسلام من حظه أن يتفاعل مع الفضاء الغربي، ومن حظّ الغرب أن يوجد فيه الإسلام لكي يكون باباً للخير، بما يوفّره من قيم ورسالة حضارية؛ وإن الكفاءات المسلمة هي كالغيث النافع، حيث يمكنها أن تكون مفتاحاً للخير حيثما كانت.(/28)
ثانياً: فوائد الهجرة في الفضاء الإسلامي
فكل هذه التصوّرات المستقبلية للعطاء الحضاري الإسلامي في مجالات شتى، التي تساهم في بلورتها وتقديمها كفاءات إسلامية مهاجرة، من شأنها أن تكون باباً للدعوة لرسالة الإسلام في كل مناطق العالم التي توجد بها أقليات مسلمة، وإضافة نوعية لمجهودات العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي من أجل تحقيق مشروع النهضة الإسلامية.
ومعلوم أن هذا المشروع يحتاج إلى اجتهاد وفهم دقيق للواقع الذي يتنزّل فيه. وحتى يكون هذا الفهم دقيقاً وشاملاً، فإنّ الكفاءات المسلمة المهاجرة يمكنها أن تساهم في تجديد الفكر الإسلامي، وفي تقديم قراءة عميقة للتراث الإسلامي، وفي النهضة العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، بفضل ما استفادت من خلاصة التجربة الغربية الحديثة القائمة على ثقافة التعددية، التي تختلف عن ثقافة الأحادية السائدة في كثير من البلاد الإسلامية، وبفضل ما تمتلكه من قدرة على دمج الأدوات المنهجية الإسلامية والغربية في البحث بعد تمحيصها ونقدها.
من جانب آخر، إذا علمنا أنّ تحقيق التقارب الثقافي والحوار الحضاري بين العالمين الإسلامي والغربي يعتبر من مقومات النهضة الحضارية العالمية حالياً وفي المستقبل، فإنّ الطليعة المسلمة المثقفة تمثّل جسر علاقة العالم العربي الإسلامي بالعالم الغربي، والمحرّك الأوّل الدافع إلى التصالح بين الثقافتين والحضارتين، والعامل الأساس في نزع فتيل الصراع الحضاري، الذي تتمناه العديد من الدوائر السياسية والفكرية، وتسعى إلى تحقّقه بكل ما أوتيت من جهد. ويكون ذلك بالاجتهاد في مساعدة الأقليات المسلمة في الغرب على أن تكون في مستوى رسالة الإسلام الإنسانية العالمية، وتقليص أسباب التوتّر وسوء التفاهم بين العالمين الإسلامي والغربي.
ولا يشك أحد في أنّ عملية تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين لدى الغرب ستكون لها انعكاسات جدّ إيجابية على العالم الإسلامي، من حيث المساهمة في كسر جدار الخوف من \"الغول الإسلامي\"، ودفع الغرب نحو التعامل بندّية مع سدس سكان المعمورة.
وبقدر ما تُلقى المسؤولية على الكفاءات المسلمة في الغرب من أجل تصحيح صورة الإسلام والمسلمين هناك، بقدر ما تكون مهمّتها ومسؤوليتها كبيرة في تحسيس الطرف الإسلامي بضرورة مراجعة موقفه من الغرب عبر تقديم فهم أعمق للفكر والواقع الغربيين. فالنظرة السائدة في العالم الإسلامي أن الغرب شرّ كلّه، والخطاب يسوده التهجّم والعقلية الصدامية، والحال أنّ المسلمين جزء من هذا الغرب الذي يلعنه مسلمون آخرون صباح مساء، والمواطنة تقتضي وحدة الهموم والمصير.
ولا يمكن تحقيق تقارب بين العالمَين في ظل خطاب مزدوج من طرف المسلمين بين لاعن ومادح، وبين قادح للغرب والغربيين جملة وتفصيلاً داخل العالم الإسلامي وداع إلى التوطين والمواطنة في الغرب. فهذا الموضوع الدقيق يحتاج إلى معالجة حكيمة وإلى مراجعات عميقة بهدف التوصّل إلى تقارب بين المسلمين في النظرة للغرب، وتجنّب التعميم، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه؛ لأنّ ديننا الحنيف يدعونا إلى القسط: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (المائدة:8) وذلك من خلال التفريق بين مواقف أصحاب القرار ومواقف الشعوب، والتمييز بين المعادي والمنصف، وبين من يكنّ العداء الدفين للمسلمين وبين من هو ضحية حملات تشويهية لصورة الإسلام والمسلمين.
فليس كل الغربيين مورّطين في استعمار الشعوب، ونهب ثرواتها، واستغلال طاقاتها، وفرض أنظمة متسلطة على بعضها.. وليس كل الغربيين مشاركين في إقامة دولة إسرائيلية على أرض فلسطين، وفي دعم هذا الكيان بكل الوسائل لكسر شوكة الانتفاضة، وليس كل الغربيين عنصريين.. الخ.
وبهذه الرؤية العادلة، تتمّ محاصرة الدعاة إلى حتمية الصراع الحضاري بين الطرفين.
ويجدر التنبيه إلى أن الدور الحضاري المنشود للعقول المسلمة المهاجرة يحتاج -إلى جانب الكفاءات البشرية- إلى آليات ووسائل في مستوى التحديات المطروحة، ومن بينها الوسائل الإعلامية التقليدية (مثل الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزيون) والمعاصرة (مثل الإنترنت والفضائيات) ومراكز البحوث والدراسات، ودُور النشر. وإلى جانب قيامها بالأدوار المشار إليها أعلاه، يمكن أن تكون هذه المؤسسات محضناً لهذه الكفاءات، بتجميعها وتشجيعها على الانخراط في النهوض الحضاري، الذي تستفيد منه البشرية جمعاء.
--------------------------------------------------------------------------------(/29)
([1]) جاء في وثيقة عمل بعنوان\"عرض إحصائي لأوضاع التعليم العالي في العالم: 1980-1995 \" (ص10) نوقشت في المؤتمر العالمي للتعليم العالي بمنظمة اليونسكو بباريس 5-9 أكتوبر /تشرين الأول 1998م حول \"التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين، الرؤية والعمل\"، أنّ مستوى المشاركة في التعليم العالي في المناطق \"النامية\" التي تشمل حسب الوثيقة الدول العربية ومعها أمريكا اللاتينية والكاراييب يبلغ 1000 طالب لكل 100.000 من السكان، مقارنة بـ\"بلدان المرحلة الانتقالية \" التي تتألف من بلدان أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق (2602 من الطلبة لكل 100.000 من السكان )، والمناطق الأكثر تقدماً –أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق أسيا، حيث يبلغ المتوسط العام فيها 4110 طلبة لكل 100.000 من السكان.
([2]) المرجع نفسه، ص 28.
([3]) حسام شاكر: \"متطلبات أساسية للنهضة الحضارية\"، سلسلة رسائل الأمة 1، آفاق، الطبعة الأولى 1998م، ص 24.
([4]) مداخلة د. زكي بدوي في ندوة بعنوان \"الإسلام والإسلاموفوبيا\"، نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مكتب فرنسا، يوم 11 /5/2001م بباريس.
([5]) د. محمد الغمقي: \"مصداقية الدعوة الغربية إلى النقد الذاتي داخل المسلمين\"، مجلّة رؤى، العدد13، خريف 2001م، ص43-44.
([6]) نفس المصدر.
الخطاب المستقبلي للهجرة الإسلامية
د. محمد المستيري
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
(( لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) (النساء:95-100).
في فلسفة الهجرة القرآنية والتاريخية:
لم ترد الهجرة في الاستعمال القرآني بمعان سلبية إلا فيما كان يحملها محمل اجتناب الباطل ونبذ الفرقة، أو كان ينسبها إلى جحود الكفار ونكرانهم للقرآن، وذلك في موضع واحد فقط في قوله: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً )) (الفرقان:30)، فالهجرة هي خروج في سبيل الله وسعي لتحقيق رسالته في وحدة العبودية ورفعة قيم الدين. من هنا يصبح المهاجر مرادفاً للمجاهد، والمعنى العكسي للقاعد والمتخاذل في أداء الرسالة، تصديقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ .. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ (أي جرح) يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ»([1]).
إن وصل الهجرة بالجهاد يتنزل ضمن فلسفة الإسلام لمسؤولية الإنسان الكونية في الشهادة على الناس جميعاً وحمل أمانة القيمة وخلافة النبوة في الأرض. فالهجرة أصل في تحقيق غائية وجود الإنسان وتنزيل الدين. وقد يهاجر المرء مستضعفاً، ولكن لا يهاجر ضعيفاً؛ لأن قرار الهجرة من سنن الله العظيمة التي تشترط قوة في الإرادة وثباتاً في المبدأ. لقد مثلت الهجرة دائماً نقطة تحول في تاريخ البشرية، ولحظة حاسمة في رقي الحضارات أو سقوطها.(/30)
فهجرة الأنبياء كانت السبيل لنشر رسالتهم وإنقاذ أتباعها من قهر المتجبرين، وتأسيس قوائمها على أسس من العمران الآمن، بمثل ما آلت إليه هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل من بناء مجتمع مكة، الذي أصبح له شأن كبير في تاريخ الإسلام لاحقاً، أو هجرة العصبة من مستضعفي المسلمين الأوائل بمكة القهرية للحبشة، التي قادت إلى كسب أول نصرة خارجية رسمية لرسالة الإسلام، أو كذلك هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة، التي أرّخت لأول دولة ومجتمع إسلاميين، ولأصول العلاقات ضمنهما.
وليست أشكال الفتح الإسلامي المتعددة، التي رسخت انتشار الإسلام في أرجاء الأرض كلها سوى نمط من الهجرة الإسلامية، التي اقتضتها بداية نشر الدعوة ومرجعية الخاتمية لرسالتها ولزوم العموم في نشرها، حتى لا تنحصر في قومية وإثنية معينة.
لقد كان الخطاب الإسلامي يفيض دوافع وحوافز في اتجاه تعلم لغات الشعوب والاستفادة من علومها وحكمتها وتجربتها، ولَّد ذلك أنماطاً من الهجرة الثقافية والفكرية ساهمت في تأسيس المدارس الإسلامية في الفلسفة والكلام والتربية والعمران والطب والرياضيات وغيرها، وجعلت من هذا التاريخ منارة للبشرية على مدار الأزمنة التي تلته، وخاصة منذ أن دخل الإفرنج في الاستفادة من معارف المسلمين، من العصر الوسيط نحو عصر الأنوار وإلى زماننا المعاصر.
إن اكتشاف الرجل الأوروبي لأمريكا، وقبلها اكتشافه لعلوم وفلسفات وفنون العالم الإسلامي في الفترة الوسيطة، شكَّل بداية الهيمنة الغربية على مقدرات العالم. فالمجتمع الأمريكي المعاصر هو أنموذج حي للهجرة، لا يأبه كثيراً بالأصول بقدر ما يقوم الانتماء إليه على أساس الإنتاج. إنه انتصار لهجرة الأوروبيين الأولى، وإن كانت المنافسة السياسية والاقتصادية، هي التي تطبع العلاقة اليوم بين الأمريكيين والأوروبيين ضمن رغبة « الرجل الأبيض» في تقاسم النفوذ على العالم.
ولئن رافق تهجير السود نحو أوروبا، وخاصة أمريكا، جميع أشكال الاستعباد والقهر، إلا أنه تحول إلى هجرة إيجابية بعد كفاح طويل ومستمر من أجل إلغاء قوانين العبودية وفرض مبدأ المساواة العرقي، والنجاح في الارتقاء بصورة الرجل الأسود من القابلية للعبودية إلى القدرة الكاملة على الإنتاج الحر والمنافسة.
في هجرة الغرب الحديثة:
تأسست أنماط الاكتساح الغربي على مقدرات الجنوب عامة والعالم الإسلامي خاصة، على فكرة الهجرة من خلال فرض استراتيجيات الاستعمار والتبعية وسلطة الصهيونية ونمطية العولمة. فاستوطن الغرب في العالم الإسلامي عبر مؤسساته الاستثمارية، وآلته العسكرية والمخابراتية، وأجهزته الإعلامية، ومراكز مراقبته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونجح بذلك في فرض نمط من الهجرة القهرية على العالم الإسلامي، وسيكون التحدي المستقبلي له مواجهة مطلب الشعوب في التحرر وفي حق الاعتراف بهويتها الجماعية، بكل ما يميزها من خصوصيات ثقافية ودينية. لقد هاجرت إلى العالم الإسلامي قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان وتحرير المرأة، ولكن هاجرت معها بنيتها الأساسية القائمة على تحرير المجتمع من قيمه الأصيلة، وتحرير السياسة من وحدة قرارها، وتحرير الاقتصاد من موازين الرقابة والعدل، وتجذير نسق العلمانية القطائعي في علاقة سلطة الدين بسلطة السياسة.
لقد مثلت فلسفة التغريب الثقافي والفكري منذ القرن التاسع عشر أساس هجرة النفوذ الغربي إلى العالم الإسلامي، وحاولت ترويج قيم التحضر الغربي المعاصر ضمن وهم صورة التعددية، غير أنه منذ بداية التسعينيات بدأت مقولة العولمة في وجهها الثقافي تكشف عن حقيقة نمطية «التعددية» الغربية. وبدت العولمة تستعيض عن التغريب، لتتجاوز فكرة ضرورة إلحاق العالم الإسلامي بالغرب، نحو الفكرة القائلة بحتمية وحدة النمط الذي يسود العالم، وحتمية أن تذاب جميع الخصوصيات الثقافية فيه، وهو منطق العولمة.
وليس هذا المنطق وليد التسعينيات، وإن كان مصطلح العولمة يؤرخ له بهذه الفترة، فهو المسكوت عنه في رؤية الغرب للعالم منذ أن بدأ هجرته الأولى نحو أمريكا سنة 1492م.
إن نمطية الهجرة الغربية إلى العالم الإسلامي من خلال فرض توجه أحادي في فهم الحداثة والتحضر يتأسس على مبدأي العلمانية والليبرالية، رغم تعارضهما مع كثير من مقومات المجتمع الإسلامي، إنما فشلت في تصدير قيم التعددية والحرية والتسامح وفرضت على نماذجها التي أقامتها في أنحاء من العالم الإسلامي مشروطية التبعية الكاملة، فحولت أنساقها وأنظمتها إلى نماذج من العنف المقنن. فليس العنف نتيجة لغياب الديموقراطية، كما يتوهم كثيرون، وإنما نتيجة عنف نمطية الديموقراطية التي حاولت الهجرة الغربية إخضاع العالم الإسلامي لها.(/31)
إن قيمة التعددية المشروطة بفلسفة تحرير الإنسان من سلطة الغيب والأخلاق إنما أنتجتها الحداثة الغربية لمجتمعاتها، ونجحت إلى حد كبير في ترويض هيئاتها المدنية الثقافية والأخلاقية وحتى الدينية على وتيرتها. إنه الدين المدني الجديد بتعبير «روسو» الذي حلَّ محل الدين السماوي، ولكنه دين استعصى إدماجه ضمن ثقافة مجتمعاتنا؛ لأنه كان مصادماً لهويتها، حيث لا انفصال بين الروحي والعقلاني، وبين السماوي والأرضي، فالقيمة وحدة مقدسة، ومن حرمات الوجود البشري.
إن مشروع التعددية الذي استهلكته مجتمعات الحداثة الغربية داخل مؤسساتها الديموقراطية هو غير مشروع التعددية الذي هاجر إلى العالم الإسلامي. فالتعددية الغربية المصدرة «لإنتاج» العالم الإسلامي تقصي عن ديموقراطيتها سلفاً أعداء الديموقراطية الغربية، أي من لا يخضع كلياً لمشروطية الحداثة مرجعاً ومنهجاً في التفكير ومن يتخذ من الهوية الإسلامية منطلقاً في الوجود أو التعبير.
لقد مثلت هجرة المسلمين إلى الأندلس العصر الذهبي للفكر الصوفي اليهودي والفلسفة اليهودية التي من أبرز أعلامها «ابن ميمون»، كما عرفت الفلسفة المسيحية أوجها من خلال مثال «توما الأكويني». واستطاع العصر الذهبي للإسلام أن يشع بعلومه ومعارفه على تاريخ التقدم البشري من خلال الأنوار والنهضة الصناعية والعلوم الحديثة. لم تكن قطبية الإبداع الإسلامي مهيمنة وقاهرة ونافية للاختلاف بمثل ما آلت إليه قطبية الحضارة الغربية المعاصرة. فبين هجرة «الفتح» المحررة للطاقات من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهجرة «التغريب» المكرِّسة لهيمنة الفكر المادي وسلطة الرجل الأبيض، يكمن الفارق المعياري الكبير بين حضارة الإسلام والغرب في تصور إنسانية الإنسان واحترام وجوده المختلف.
ففي حين يستند التصور الإسلامي إلى مبدأ أن الاختلاف أصل في الوجود: (( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ)) (الحجرات:13)، بل وحكمةٌ في علم الغيب: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)) (هود:118 )، ثم وفضلٌ في الارتقاء بالحياة الإنسانية: ((وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) (المطففين:26)، ينتهي أرقى التصور الغربي في إدارة الاختلاف إلى مبدأ التسامح، الذي لا يعني في جوهره إيماناً بوحدة الاختلاف، إنما تساهلاً ظرفياً ونسبياً في قبول وجود الطرف المخالف، على أساس قابلية هذا الطرف للانصهار ضمن الأنموذج الغربي الواحدي. فهو مبدأ هلامي وزئبقي يصعب تعيين حدوده، لا يرتقي إلى الاعتراف بهوية المخالف الفرد فضلاً عن الاعتراف بهوية الجماعة المخالفة.
إن هجرة الهيمنة والاكتساح، التي رسخها الغرب في علاقته بالحضارات والأمم التي رافقت نهضته الحديثة، صنعت فاصلاً وبوناً شاسعاً بين العالم الأوروأمريكي، الذي لا يتجاوز سكنياً عشرين بالمائة وينفرد بأكثر من ثمانين بالمائة من مدخرات العالم، وبين عالم الجنوب الذي يرزح تحت ويلات الفقر والظلم والمديونية.
لقد استهلكت أمريكا لوحدها من مدخرات الأرض خلال القرن الذي مضى ما يعادل ما استهلكته البشرية طيلة تاريخها الطويل. لقد قوض الغرب من إيجابية ماهية هجرة القوي نحو الضعيف، وأقام نسقاً من العلاقة احتكارياً شاملاً تحت نظام العولمة، بسط فيه نفوذه على جميع سلط القرار التي تضمن له الانفراد بالقوة. فلم تعد الهيمنة الاقتصادية ولا السياسية ولا الثقافية بكافية لضمان شمولية هذا النفوذ، بل تدخل المُعْطى المعلوماتي والإعلامي، الذي بوساطته يُصنع الرأي العام المحدد في توجيه الشعوب كما في اتخاذ القرارات. فأوروبا وأمريكا تنفردان لوحدهما بحوالي 85 % من مدخرات البنوك المعلوماتية الدولية، في حين لا يملك العالم الثالث بأكمله أكثر من 1 %. ثم إن «جايت» «وموردوش» و«تورنر» «وكونراد» و«لجارديار»، من أقطاب رؤوس الأموال الغربية في الاتصال، يحتكرون مجمل دور النشر الكبرى ودور الإذاعة والتلفزيون العالمية. ومن يملك المعلومات وسبل الاتصال السريع إنما يملك مفاتيح تغيير العقول وتوجيه الأذواق بل وتربية الأجيال.
في النمط الجديد للهجرة نحو الغرب:
إن الاختلال الكامل في التوازن بين عالم الجنوب والشمال أعطى لهجرة الجنوب نحو الشمال صورة دونية، دافعها الأساس ليس البحث عن الحقيقة بقدر ما هو البحث عن خلاص معيشي من خطر البطالة والفقر والجوع الذي يتهدد أهلها.(/32)
إن صورة الهجرة الإسلامية لدى الإعلام والرأي العام الدولي يغلب عليها معنى هجرة الهامش من اليد العاملة غير المتخصصة، والكوادر العاطلة، والعقول الحرة المهجرة اليائسة. وهي صورة تقترب من حقيقة الحال ولكنها تندرج ضمن خطة الغرب في التحجيم من القيمة المستقبلية للهجرة الإسلامية، وتحويل وجهتها الاستراتيجية البنائية والتوطينية نحو إدارة أزمات الوجود اليومي في الغرب، داخل دوامة الاعتراف وضمان الشغل والسكن والأمن تجاه أخطار الاتجاهات النازية الحديثة المتنامية. إن الغرب وهو يعمق مصاعب إمكانات الوجود الاستراتيجي الفاعل للمسلمين في دياره، رغم شعاراته التمويهية عن الاندماج والمواطنة المتعددة الثقافات، التي يخدم بها غاياته الانتخابية المؤقتة وغاياته الاقتصادية الدائمة، إنما يزيد في ترسيخ سياسات هجرته العولمية المهيمنة على أوطاننا.
إن الغرب يدرك القيمة الحضارية للهجرة، وحتمية أن تنهض أمة الإسلام من جديد بطريق الهجرة، من خلال دراستها ونقدها لتجربته وتهيئتها للمخزون الروحي والثقافي والحضاري لعالم الإسلام، وهو منهج الاستيعاب والتجاوز الإسلامي، الذي لا يتبنى الثورة ولا المسايرة، وإنما الإصلاح البناء المتوكل على الله في كل أمره: ((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ)) (هود:88).
وكثيراً ما ترفع عناوين الحوار الحضاري والتقارب بين الشعوب وعولمة الثقافة ليست لغايات تحرير الأمم المغلوبة من قبضة الغرب الغالب، إنما لتعميق صهر إراداتها ضمن نمطية الغرب، وشل قواها عن الإبداع. فهو منهج يقوم على امتصاص طاقات المقاومة لتيار التغريب داخل الأمم المغلوبة وإفراغ مخيلتها ومخزونها الثقافي من الإيمان بذاتها والاعتزاز بهويتها ومقوماتها الحضارية.
إن ظاهرة تنامي مجتمعات الهجرة والتعدد العرقي والديني تسير ضد تيار نمطية العولمة، التي عملت على طمس الهويات الجمعية وإذابتها ضمن الهوية الغربية الواحدة ادعاءً بنهاية زمن الأمم وبداية وحدة الهوية العالمية تحت خيمة رأس المال وسلطة اقتصاد السوق. ليست هذه الظاهرة إذاً نتيجة إرادية ومدروسة، لا من قبل الغرب ولا من قبل باقي الأمم والثقافات المعاصرة. ولا تعبر هذه الظاهرة عن وحدة مجتمعية أو أنموذج في التعددية الثقافية، إنما هي عبارة عن تداخل وتراكم عرقي وثقافي فرضه تطور الحاجة إلى التبادل بين الأمم، حاجة إلى التوسع وبسط النفوذ من جهة الغرب، وحاجة إلى اللجوء إلى الأمن والكفاف من جهة باقي شعوب العالم.
إن غياب الفكرة الموجهة أو القادرة على استيعاب هذه الظاهرة وتحويلها إلى أنموذج في الاعتراف بالهويات الجماعية الأقلية، أمام مصادمة الغرب لهذا المطلب الجديد الذي يعم أرجاء العالم وليس عالمه فحسب، يجعل منها ظاهرة حساسة قابلة للاستعمال المصلحي من الغرب أو التصدع في مواجهة أبسط الاختبارات في تقنين التعايش بين الجماعات المختلفة.
فعلى الرغم من أن تطور الهجرة الفردية إلى الغرب نحو تشكل وحدات جماعية عرقية وثقافية بل وحتى دينية، يمثل إكراهاً جديداً وتحدياً خطيراً على الحداثة الغربية الأحادية، غير أن طبيعتها القهرية غير الإرادية تجعلها سهلة الاستعمال من الغرب ذاته، لحجب نمطيته وتنميق صورته التعددية في العالم، التي باسمها وباسم وحدة شعوب العالم يستزيد ويضاعف من إمكاناته على التحكم في مقدرات العالم. كما أنه ليس من قبيل المفارقة أن يرافق هذا التنامي لمطلب الاعتراف بالهجرة الجماعية تنامي في ظاهرة التطهير العرقي والديني، أو نزعات الاستعلاء العنصري سواء داخل الغرب أو خارجه.
فتعدد الهويات الجماعية ليس وليد تطور فكري، وبلوغ نضج إنساني، وقد يكون أحياناً من مصلحة الغرب ذاته تغذية انحرافاته وتفجراته لتيسير ترويج أسلحته وتجربة نجاعتها، أو للبرهنة على ضرورة الالتفاف حوله لإنقاذ مصير العالم من الدمار. ثم إن الفراغ الكبير في التداول الفكري لقضية الاعتراف بالهوية الجماعية للهجرة بين المؤمنين بها لا يساعد في بلورة المناهج والنظريات المستقبلية البديلة عن نظم الحداثة المعرفية والمؤسسية الغربية العاجزة عن استيعاب مثل هذا التطور في نمط الهجرة.
«إن نمط التعايش السلمي في أزمة»([2])، هكذا عبر الفيلسوف الأمريكي «فالزير» عن مخاوف المفكر الغربي تجاه مستقبل مبدأ التسامح بين الشعوب الذي تعتبره الحداثة الغربية «الإطار الأنسب لنمو التعددية الدينية والعرقية»([3]).. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة سيكون – كما يرى الفيلسوف الإنجليزي لوك - مجتمع الاعتراف بالفرد فقط، فما هو فردي هو إنساني. والعالم سيكون تجمعاً للغرباء، حيث لا هوية حتى للفرد، حسب استشراف الفيلسوف وعالم السياسة الكندي «تايلور»([4]).(/33)
لا نتصور في واقع الأمر أن هناك أزمة في التعايش بين الشعوب ومؤسسات مجتمعاتها المدنية، فموجات مناهضة تغول أجهزة عولمة السوق من أجل كبح جماح أولوية الرأسمال الاقتصادي على الرأسمال البشري، تحمل إجماعاً داخل الشعوب يتخطى جميع الفوارق المرجعية الثقافية والدينية. إن أنظمة الربح التي تقود مصير العالم اليوم هي التي تواجه مأزقاً حقيقياً في قبول تطور المجتمعات الإنسانية من مجتمعات الهوية القومية الواحدة إلى مجتمعات الهوية المتعددة الثقافات، هوية مجتمعات الهجرة المتنامية داخل الغرب وفي أرجاء كثيرة أخرى من العالم.
إن غاية أنظمة العولمة من وراء خرق الحدود والتحجيم من المسافات والتسهيل في الاتصال لم تكن وحدة الشعوب والتقريب بين مطالبها والاتساق في طموحاتها، إنما عكس ذلك تماماً. فالرأسمال البشري كان وما يزال أداة لتحقيق الربح المادي وليس غاية ولا معيارية في تصور القيمة.. وتسهيل التواصل داخل الرأسمال البشري غاياته سهولة تناقل السلع وليس القيم.
لقد شكلت المثل الإنسانية في الديموقراطية وحقوق الإنسان التي نصبها الغرب على مدخل مدينته للمهاجرين من أطراف العالم المتعددة، مجرد آليات تضمن نمطية النموذج الغربي في تحرير القيم والاقتصاد، بهدف فرض هذا الأنموذج على العالم كله. فكلما ارتفع صوت معارض أو مشكك في صلاحية الأنموذج الغربي إلا وقوبل بالإقصاء باسم «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية»، و«مقاومة الإرهاب»، و«معركة العالم المتحضر ضد العالم الهمجي».
وتحت هذه اللافتات قامت «أنوار» الثورة الفرنسية على الإبادة الجماعية لرجال الدين؛ ومن وراء حجاب التسامح خطت الحملات الصليبية مآثر مجازرها في العالم الإسلامي؛ ومن تحت مظلة الغفران تمرر المشروع الصهيوني في القدس الشريف؛ وباسم التقدم واللحاق بركب الحضارة فرضت مناهج التغريب على الوافدين من بلدان الجنوب والمتطلعين إلى دراسة الحضارة الغربية، وأحكمت قبضة التبعية على أنساق مجتمعاتهم الأصلية.
فحضارة الغرب المعاصرة غير مهيأة فكرياً واستراتيجياً لاستقبال ظاهرة مجتمعات الهجرة الخارجية داخلها، فهي حضارة قامت أساساً في وجهيها الأمريكي والأوروبي على الهجرة الداخلية الغربية/الغربية، وفرضت على الهجرة من خارجها، الإسلامية والإفريقية والآسيوية، ضوابط مرجعيتها من خلال آليات قوانينها ومؤسساتها «الديموقراطية».. ولكنها الديموقراطية التي لا تكفل سوى حقوق الفرد داخل نمط المجتمع الواحد، وليس من مشمولاتها ضمان حق الجماعات التي تستند إلى مرجعيات مختلفة وربما متناقضة حيال مرجعية الغرب في فهم التعدد والحرية.
من ثم فإن مشكلة التعايش بين الجماعات المهاجرة داخل الغرب، وحتى خارجه - إذا اعتبرنا العالم قرية صغيرة بمنظور العولمة الغربية، يسودها نظام عالمي غربي واحد - ليست مشكلة تواصل بين الشعوب يمكن أن تعالج بوضع آليات للحوار بين الأديان أو بين الثقافات، بل هي مشكلة عجز عن إنتاج فكر إنساني تعددي جديد يجيب عن تحديات مجتمعات ما بعد الحداثة، المتعددة الثقافات.
فالحوار ليس مجرد آلية في التواصل، بل هو ذهنية حضارية شاملة تعبر عن وعي وحس وتقاليد مشتركة بين أطراف الحوار. ولا تكفي في إنجازه العزائم الصادقة، أو يتوقف على اتخاذ القرار الحاسم، فهو مرحلة من الوعي الجمعي بقيمة اختلاف الهويات الثقافية في كينونة الحضارة وصيرورتها، بلغها الإنسان مع أوج الحضارة الإسلامية، في حين يقف الغرب اليوم وهو يتخذ منعرجاً خطيراً في تاريخ حداثته، مرتعش اليدين، مذهولاً أمام سؤال موت الإنسان ونهاية التاريخ.
فلا معنى لحوار حضاري دون مضمون لهذا الحوار، ودون أطراف متوازنة داخله، وإلا تحول إلى مسرحية تكرر زمن وهم القيمة الغربية الواحدة وعلو حضارتها. ولا وجود فعلي ضمن هذه الصورة لا لحالة حوار، ولا لحالة صراع بين عالم الغرب وعالم الهجرة إليه، للانفصال الكامل في طبيعة عالميهما رغم انتسابهما لوهم القرية الكونية؛ ولأن الغرب ما يزال مصراً على الهيمنة الكاملة التي تقضي على أي هامش للاختلاف الذي هو قاعدة الحوار أو الصراع.
في هجرة العقول الإسلامية:
يسود الخطاب الإسلامي في تقييم الهجرة عامة وهجرة العقول الإسلامية خاصة نزعة رثائية، تحوم حول فكرة ضياع هذه الطاقات عن خدمة المسلمين، والتساؤل عن تدارك هذه الخسارة من خلال مد الجسور بينها وبين العالم الإسلامي. وهو خطاب يحمل الهجرة محملاً ضعيفاً ولا ينظر إلى أبعادها الحضارية، فضلاً عن كونه لا يستند إلى مرجعية إسلامية واضحة في تحديد مفهوم الانتساب للأمة الإسلامية، الذي يتجاوز حسب منطوق هذا الخطاب، الحدود التي وضعها الفكر السياسي الغربي لمصطلح العالم الإسلامي الجغراسياسي.(/34)
إن عالم الإسلام لا تضيقه الحدود المصطنعة، فـ ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ))، و«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (حديث قدسي). ومقتضى التكليف الإنساني هو عمارة الأرض كلها، شهادة على الناس وخلافة لله. وأمة الإسلام هي أمة دين الفطرة، أي أمة الإنسانية جمعاء. ومن ثم كانت خيريتها مشروطة بخروجها للناس ودعوتها فيهم، قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) (آل عمران:110).فهي أمة خارجة، أي تحمل الخصائص الإنسانية الجامعة، وليست أمة قومية محدودة جغرافياً وسياسياً، ولا حتى فكرياً، بالمعنى المتداول في الفكر الغربي. إن رابطة الأمة في المرجعية الإسلامية هي العقيدة، إيماناً بعلوية القيم الإلهية وبمسؤولية الإنسان الكونية، فهي رابطة واعية لا تخشى الذوبان أو التصدع، ولا تلجأ إلى التحوط بنصرة العامل القومي والمصلحي.
إن مأزق الغرب في الاعتراف بالهويات الجماعية مرجعه حدود رابطته الضيقة وغير الواعية. فهي تقوم على الانتساب إلى الأرض ونظم تحقيق المصلحة التي تعبر عنها المؤسسات والقوانين والأعراف. من هنا كان تقسيمه للعالم ولخارطة الحلفاء والأعداء، وعلى هذه الخلفية الفلسفية ظهرت مصطلحات الدولة القومية، ودولة القانون، إلى بروز دولة العولمة التي لا تترجم عن مشروع عالمي منفتح بل تكرس خضوع رابطة الدولة لرغبات السوق. فهي دولة الانفتاح على السوق لا على الشعوب.
إن المعادلة الصعبة في تضمين الهجرة الإسلامية أصولها وفلسفتها المتميزة هي في تحويل هجرة السوق التي صممها الغرب الحديث إلى هجرة الرسالة المستنبطة من التصور الإسلامي لمستلزمات الرابطة الإنسانية، وفي الانتقال من هجرة/تهجير الفقر والظلم إلى هجرة الإرادة والدعوة، دون أن يمس هذا التحول من مشروعية الهجرة الحديثة ويفضي إلى قطيعة مع الغرب وثقافته، أو يجنح بالتصور الإسلامي إلى عالم المثل الذي لا قابلية له بالتحقق.
إن تحرير السؤال عن كيفية استفادة العالم الإسلامي من عقوله المهاجرة، من خلفيات ضيق الانتماء لهذا العالم وهيمنته، إلى سعة الانتساب لأمة الدعوة والرسالة، يقود إلى الوعي بأن ديار الغرب بالمفهوم الجغراسياسي هي نقطة مركزية في توجيه مستقبل للنهوض لأمة الإسلام، بالنظر إلى احتكارها لأدوات التحكم، وبالنظر كذلك لتنامي الوجود الإسلامي، كماً وكيفاً، في هذه الديار.
لقد نجح الغرب في استقطاب الطاقات الفكرية للعالم كله. فهو يشرف بعلومه ومناهجه ومؤسساته على تكوين وتأطير وتوجيه أغلب طاقات دول الجنوب، داخل فضاء البلدان الأكثر تصنيعاً. فحوالي90% من العقول المهاجرة في العالم تختار الغرب وجهة للاستقرار.
وتمثل هجرة العقول الإسلامية أضخم هجرة متأتية من دول الجنوب. فعلى صعيد العالم، تأتي هجرة الطلبة من المغرب في المرتبة الثانية بعد الصين، وفي فرنسا مثلا يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب. وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد كتلة الغرب الليبرالي بالموارد البشرية النوعية في العالم([5]).
وضمن اقتسام مناطق النفوذ، تتجه أمريكا إلى استيعاب الطلبة والباحثين القادمين من آسيا والشرق الأوسط، في حين تواجه فرنسا بدرجة أكبر خصوصيات القادمين من العالم العربي وخاصة بلدان المغرب العربي وسوريا ولبنان، وتكاد تنفرد ألمانيا بالتعامل مع العقول الإسلامية التركية إضافة إلى مناطق عديدة من أوروبا الشرقية.
وقد يتوقع أن يكون في المستقبل أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب من أصل مناطق الجنوب، على الرغم من أنه مع دخول أوروبا تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وفتح حدودها الجمركية بينها، بدأ الاهتمام يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بينها، ومعادلة الشهادات والتنسيق في المقررات بين جامعاتها ومؤسساتها التعليمية العليا.(/35)
قد تحمل العقول الإسلامية المهاجرة معها خلفية حضارية شاملة ولكنها تتكبد ثقل مسؤوليتين، الأولى تجاه أوطانها الأصلية وتجاه مستقبل نهضة أمتها الإسلامية، والثانية تجاه الوجود الإسلامي في الغرب. تضاف إلى ذلك عوائق الاندماج في المؤسسات الغربية، التي تعود في معظمها إلى إرادة هذه المؤسسات في فرض مشروطية من جنس ثقافي تصادم بها الهوية الإسلامية، وربما تصادر بعض تجلياتها التي يمكن أن تربك مبادئ العلمانية الغربية من مثل أداء الصلاة وارتداء الحجاب وصوم رمضان. إن توزع معركة المثقف المسلم في الغرب بين هذه الجبهات الثلاث: تخلف عالم الإسلام، وهامشية الوجود الإسلامي في الغرب، والضغوطات التي يواجهها من قبل مؤسسات الغرب، يفرض عليه عدم التوقف عند امتلاك الخلفية الإسلامية فحسب، فهي تستلزم مشروعاً حضارياً شاملاً ورؤية استراتيجية عميقة لأولويات النهوض الحضاري للأمة، ولدور الوجود الإسلامي في هذا النهوض، وإسهام المثقف فيه.
ولعل نمو سرعة وسائل الاتصال ودقتها، مع زمن العولمة المعلوماتية سيمهد السبيل أكثر أمام العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدور الناقل الوسيط لأوطانها، ولفرض توجهات حقوقية وتنموية أكثر قسطاً ونجاعة في العالم الإسلامي. كما سيسمح لها باتساع أفق أكبر في الاستفادة من التجربة الغربية وفي تعميق منهج المقارنة في تصور مدارس الغرب ومحصولاته.
إن وزن أمة ما إنما يقاس بصفاء عقيدتها، وعمق عقلانيتها، وشمول مشروعها في الوجود. وإن المخزون البشري العلمي هو منطلق التجلي الحضاري لهذا الوزن، فمن غير الوعي بقيمة دوره الريادي لن يتحقق للهجرة تقدم نوعي.
إن وتيرة جفاء مستمرة تحكم علاقة نخبة الوجود الإسلامي في الغرب بقاعدته، شبيهة بصورة الفراق والتوتر السلبي الذي يقود مجمل علاقة هذه النخبة بأنظمة أوطانها الأصلية وأنساقها. ولئن بدا لنا الميل إلى تفسير ذلك بضعف في الوعي العام بأهمية الاستفادة من العقول المهاجرة وضعف في وعي هذه النخبة بجدوى الإفادة من معارفها وتجربتها، فإن المستفيد الوحيد من هذه العلاقة المرضية هو الغرب ومؤسساته التغريبية التي من مهامها الأساسية ملاحقة ضعف حس الانتماء للهوية لدى العقول المهاجرة الإسلامية، قصد التأثير على إرادتها في الانخراط في قضايا الأمة وعلى مناهج تفكيرها وتصورها للقيمة.
إن المسؤولية كبيرة في تحويل الزخم الهائل من الطاقات العلمية والفكرية الإسلامية في الغرب إلى مؤسسات متخصصة، بالمعنى الجديد للتخصص المتعدد المقاربات، وفي إيجاد المؤسسات البحثية الوسيطة لخدمة المؤسسات التنموية الإسلامية العامة، سواء داخل ديار الغرب أو في أوطاننا الإسلامية الأصلية.
لقد تطورت رؤية الغرب لدور المثقف، من موقع الفيلسوف المنظِّر من وحي صورة فلاسفة الأنوار، والعالم المخبري من وحي نماذج النهضة العلمية والتقنية مثل «باستور» و«اينشتاين»، إلى المثقف العضوي «لغرامشي» من خلال دور جماعات الضغط ومراكز التفكير (Think Tanks). ولعلها المفارقة أن يتواصل السؤال داخل المجتمع الإسلامي حول مشروعية دور المثقف، ونحن ننتمي لأمة العلم، عقيدة وتاريخاً، وكان لنا شأن كبير في ترسيخ تقاليد السفر والترحال العلمي بين شعوب العالم، بكل أديانه وطوائفه، في ظل القرون الطويلة من إشراقة نهضة المسلمين على العالم.
لقد اعتاد الخطاب الإسلامي مناشدة نهضة عامة المسلمين، دون الالتفات الكبير إلى خاصتهم، على اعتبار أنها المعنية بريادة هذه النهضة والأكثر تأهلاً لها، ولكن هذا الفهم هو عكس منطق الأشياء؛ لأن مشكلات تشتت طاقات الأمة تعود بالأساس إلى طبيعة عقولها المفكرة، التي يفترض أن تقود تربية الأجيال وتغيير نمط التفكير ونسق الحياة الباليين. إن الوعي بخطورة وحساسية العقول الإسلامية المهاجرة في ترشيد الساحة الفكرية الإسلامية، هو بداية إسهام حضاري فعلي للمفكر المسلم في معركة التغيير.
من الهجرة إلى المواطنة:
انتقال هجرة المسلمين نحو الغرب إلى مواطنة، وعلاقة هذه المواطنة الجديدة بمشاعر الوطنية تجاه العالم الإسلامي، وعلاقتها بالهوية، وتداخل وضع المواطنتين، كل هذه زوبعة من نماذج لأسئلة حساسة تمر بها تجربة توطين الهجرة الإسلامية في الغرب، وتطبع خطابها وخياراتها. هناك إجماع لدى المحللين والدارسين حول تصاعد الخط البياني للمهاجرين المسلمين الحاصلين على الجنسيات الأوروأمريكية. ففي فرنسا مثلاً حوالي 40 % من الجالية المغاربية يحصلون على الجنسية سنوياً، في حين يفوق الذين هم دون سن الرابع عشر من هذه الجالية 40 %، وذلك يعني أن مستقبل المواطنة الفرنسية من أصول إسلامية واعد، رغم ما يمكن أن يوحي به تصاعد النزعات العنصرية من ضعف الوجود الإسلامي وتراجع ميزان قواه.(/36)
لقد تطورت هجرة المسلمين إلى الغرب من هجرة مؤقتة إلى هجرة دائمة، ثم إلى مواطنة، ولا يمكن أن نعزو ذلك إلى إرادة ذاتية فحسب، فتهاوي نسبة النمو السكاني من الغربيين الأصليين دفعت نحو سياسة تسهيل عملية التوطين. كما لا يمكن أن تحجب معاينة هذا الاتجاه التوطيني عمق الهواجس النفسية والفكرية التي تعتمل جوارح المسلمين بالغرب، والتي تدور في فلك السؤال عن التعايش بين هويتي المواطنة الأصلية والغربية. فليس مبعث الحرج الذي أخر الكثيرين عن التوطين هو خيال المجازر الدامية التي صمم لها الحضور الغربي الاستعماري ونفذها في ديار الإسلام فحسب، بل هي مشكلة فكرية حضارية شاملة تتصل بمفهوم الانتماء والمواطنة والوطنية، التي ساهمت كثيراً في غياب تصور استراتيجي لتوطين الإسلام في الغرب.
لقد واجه التصور الإسلامي المعاصر إشكالية المعادلة بين الانتماء لعالمية الإسلام والولاء المطلق له، وبين العصبية أو الحمية القومية التي نطلق عليها وطنية، بالمصطلح المعاصر. فحين عرف أبو الأعلى المودودي مهمة المسلمين المعاصرة بأنها «مهمة عالمية، خلاصتها العمل بكافة الطاقات الأخلاقية والذهنية والمادية لتنفيذ قانون الفكر والعمل، الذي أسنده الله إلى محمد عليه الصلاة والسلام»([6])، كان لسيد قطب فهماً إطلاقياً لها، فهدف الإسلام في تصوره «لم يكن تحقيق القومية العربية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، ولو كان الأمر كذلك لحققه الله في طرفة عين، ولكن الهدف هو إقامة مجتمع الإسلام الذي تطبق فيه أحكام القرآن تطبيقاً حرفياً، وأول هذه الأحكام أن يكون الحكم نفسه لله»([7]).
إن مثل هذه المنطلقات المثالية في تصور الولاء لله ورسوله، التي تصادر في مدلولها ضمناً الولاء لعشيرة وأهل وموطن، إنما صنعت منهجاً صدامياً بين الانتساب للأمة والانتساب للوطن، أدخل تجربة الإصلاح الإسلامي المعاصر في معارك وهمية وجدل عقيم أخرجها من سنن التاريخ لفترات طويلة. فلقد فهمت المعركة الحضارية الإسلامية المعاصرة منذ فكر النهضة فهماً شمولياً، إذ تحرير الأمة من تخلفها يقتضي تحرير أوطانها من هيمنة المستعمر وقبضة تبعيته.
غير أن تنامي مقولات القومية العربية بالمعنى الشعوبي، والقوميات \\\"القطرية\\\" و\\\"الإقليمية\\\"، وحتى العرقية الضيقة التي تعتمد في معظمها العلمانية الغربية مرجعية وإطاراً للتفكير، والتي يفترض مصادمتها لثوابت الدين في وجوه مختلفة، كل ذلك أدخل مجالاً متمدداً في الفكر الإسلامي في جدل «العالمي» و«الوطني» ألهاه كثيراً عن إدراك تطور وتعقد مهمة التغيير الحضاري في أرجاء أوطاننا أمام تغول العالمية الفعلية للغرب. فمن قبيل المفارقة مواجهة عالمية التحكم الغربي بعالمية الأماني التي سادت الخطاب الإسلامي.
إن بسط النفوذ العالمي للغرب هو مرحلة متقدمة بعد مرحلة البناء الداخلي الوطني الذي رسخه من خلال إقامة أنظمته الديموقراطية وإنجاز تجاربه العلمية والتكنولوجية وتهيئة اقتصادياته المحلية للاضطلاع بدور دولي. لقد أدرك جمال الدين الأفغاني قيمة المعادلة الوطنية لمواجهة التغريب، «فلا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم. وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسطه الوطن، وغايته الوطن»([8]).
إن الفهم الإسلامي للوطنية يقوم على رابطة روحية عميقة، عنوانها العقيدة، وفلسفتها الاستخلاف، فتطبيقاته سواء ضمن جغرافية الغرب أو جغرافية العالم الإسلامي تتنزل ضمن مرجعية واحدة للجغرافية، وهي أن الأرض كلها لله. من هذا المنطلق تحرر تيار «الوطنية الإسلامية» الذي ساد فكر النهضة من عقدة الخوف من الروابط القومية «فواجب أن يعمل الإنسان لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.. وواجب أن نعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها..باعتبارها الثانية في النهوض..وواجب أن نعمل للجامعة الإسلامية، باعتبارها السيادة للوطن الإسلامي العام..ولا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، كل منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها»([9]).
حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أن «يا رسول الله : أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟، أجاب: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم»([10]). فليست العصبية منبوذة بذاتها، وإنما هي مشروطة بصلاحها وعدلها وخيريتها الإسلامية، بل وقد تصبح بهذه المعيارية من صفات الأفاضل الأخيار استناداً إلى الحديث الشريف : «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم»([11]). إن ارتباط المسلم المهاجر بالمواطنة الغربية قد تحركه دوافع الغيرة على حقوق جماعته المسلمة، ولكنه لن يكون له وزن وتأثير ما لم يرتكز على البعد الإنساني للهوية الإسلامية: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب.....»([12]).(/37)
فخلفية رباط الأخوة الإنسانية هي التي يجب أن تقود الرغبة في تقديم الأنموذج الإسلامي الرائد في أخلاق المواطنة، فهي خلفية الدعوة إلى الإسلام، دين الفطرة وخطاب التوحيد الذي أجمعت عليه دعوات الرسل: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ )) (النحل:36).
إن رسالة مواطنة المسلم في الغرب هي رسالة عالمية الإسلام وإنسانيته. ففي عقد المواطنة الذي يصله بالغرب صورة حية وعميقة لعالمية رسالة الإسلام، التي لا تؤمن بغير حدود الله وضوابطه في التعامل مع الحدود العرقية والثقافية والجغرافية المصطنعة، التي وضعها الإنسان.
ولا تعارض بين أن يذود المسلم عن حرمات موطنه الأصلي ووطنه الجديد طالما في فعله نية في الصلاح وفكرة في الإصلاح الإنساني، تنبني على فهم حضاري إنساني للانتماء الوطني. إن حالة التمزق التي يمكن أن تعتري الهجرة الإسلامية في الغرب بين الالتزام بمشكلات العالم الإسلامي، والإسهام بالأنموذج الإسلامي، والنهوض والارتقاء بمكانة الإسلام في الحياة الغربية، يعود إلى خلل في تصور وحدة الانتماء لحضارة الإسلام.
فالانتماء لدائرة الإسلام في لحظة تاريخية معينة، ليس هو انتماءً بسيطاً وسطحياً لدائرة جماعة فرقية أو قومية شعوبية وعرقية، أو حتى جزء جغرافي من العالم اصطلح عليه الغرب بعالم الإسلام أو العالم الإسلامي، إنما هو انتماء لدائرة الأمة المركبة، أمة الرسالة، أي أمة المسلمين، وأمة الدعوة، أي باقي الإنسانية التي ندعوها إلى الإسلام، والتي نعتقد في سلامة فطرتها وجبلتها الإسلامية. فالهجرة هي مرحلة ضرورية في الدعوة من أجل أن يتسع أفق أمة المسلمين نحو أمة الإسلام، أمة البشرية جمعاء.
نحو خطاب حضاري بديل : ملاحظات ختامية
لم تكن دوافع الهجرة الإسلامية نحو الغرب ومنطلقاتها اختيارية في عمومها ، فهي وليدة إكراهات عدة محلية ودولية، بحثاً عن الرزق والأمن والرفاهية، وتلبية لحاجات الغرب في دعم موارده البشرية وتغطية عجز نموه السكاني. أما الوجه الاختياري في هذه الهجرة فمدخله الأساس ومقتضاه هو السنة التاريخية، التي أشار إليها «ابن خلدون» في مقدمته حول ولع المغلوب في الاقتداء بالغالب، وهو ولع يتنزل في عالمنا اليوم ضمن حضارة الغرب، طلباً للمعرفة والعلم، أو استفادة من التجربة التقنية والمؤسسية، أو انبهاراً بالتجليات الشكلية في العادات والذوق.
والوجه الإرادي في مشهد الاختيار هذا ضعيف، لكونه يفتقر إلى رؤية ذاتية في تصور الهجرة تحصنه من مزالق الذوبان والانصياع لإرادة الغالب. فبمثل ما هاجر إلينا الغرب «مستشرقاً»، دارساً لحكمة تراثنا الإسلامي، فإن عالم الإسلام اليوم يمتلك الطاقات البشرية الكاملة للهجرة العلمية الدراسية للغرب، ضمن مناهج يستنبطها في نقد العلوم الاجتماعية، أو النقد التاريخي، أو الأدبي، أو الأديان المقارنة، أو ضمن إطار ما يعرف «بالاستغراب» في مقابل «الاستشراق».
قد لا يكون مجدياً مقابلة استغراب \\\"إسلامي\\\" باستشراق \\\"غربي\\\"، لاختلاف المنطلقات الفلسفية والأخلاقية الإسلامية عن الغربية، وإلا فسنحدث نمطاً تغريبياً جديداً في دراسة الغرب. ولن تكون محاولاتنا في نقد الغرب سوى إنتاجاً لنسق تقليدي جديد، فضلاً عن أن منهج الاستشراق، المزيج بين التاريخي والإنثروبولوجي والثيولوجي، لم يعد يفي بحاجة مناهج البحث الحديثة التي تعتمد الدقة في المقاربة، وتتبنى مناهج العلوم الاجتماعية في دراسة تراث الإسلام، وهو ما يفسر تنامي علماء الاجتماعيات المتخصصين في دراسة الإسلام، من مثل «بورجا» و«آتيان» و«سيزاري» وغيرهم.
وليس الغرب كوماً من الأيديولوجيات والمواقف يسهل دحضها بتصورات فكرية بديلة، فهو معنى حضاري يحوي فلسفات وعلوم وأنساق من التفكير مركبة، لا يمكن أن يُواجَه إلا بمشروع حضاري متكامل ومركب كذلك، ينظر إلى الأبعاد المختلفة في تأسيس الحضارة، النفسية والعقلية والروحية، ويجعل الهدف الأسمى له بناء الأجيال قبل بناء الأبطال، وبناء المدنية في أوسع وأدق مؤسساتها قبل النماذج المثالية التجريبية المصغرة، التي برعت الحركات الإصلاحية المعاصرة في الترجمة لها.(/38)
إن البشرية وهي تمر بمنعرج مقولات \\\"موت الإنسان\\\" و\\\"نهاية التاريخ\\\" لفي أمس الحاجة إلى بديل حضاري قابل للدراسة بلغة العصر، وقابل للفهم بمناهجه وأدواته، يستطيع أن يوازن بين حاجات الروح وإبداع العقل ومتطلبات الواقع. وإن الفكر الإسلامي بما يمتلكه من ميراث ومحصول حضاريين هائلين قادر أن يتطور من فكر جماعي ومذهبي وفرقي ضيق نحو فكر يخاطب الإنسانية جمعاء، يتجاوز عقد الخوف من الغرب ومن حداثته، أو عقد التعالي عليه والتحقير من شأنه، نحو إدماج قضاياه ضمن القضايا الرئيسة التي تستلزم ردوداً عميقة. فالخطاب الإسلامي لا يزال يتكبد وقع الصدمة الحضارية التي خلفها الاكتساح الغربي الشامل، التي ألزمته مراوحة ذاته طيلة القرون الثلاث الأخيرة لنهضة الغرب الحديثة.
ثم لا بد أن ندرك أن لا سبيل لخطاب دعوي معاصر فاعل داخل الحدود الجغرافية للغرب أو خارجها لا يستطيع أن يكون حجاجياً ومجادلاً بالتي هي أحسن، بالمعنى القرآني، إن هو لم يجب عن تحديات الحداثة ولم ينخرط في تساؤلات ما بعد الحداثة. فالجمهور الإسلامي والغربي على حد السواء لا يمكن أن يقنع مستقبلاً بخطاب الطمأنة المتداول بكون الإسلام يمتلك الحل، كل الحل، وأن الحضارة الغربية هي حضارة \\\"المسيح الدجال\\\"، وهي تنذر بعلامات اقتراب الساعة واقتراب أفولها. لقد تأسست جميع مدارس الفكر الأصولي والكلامي والفلسفي والتربوي والعمراني على مناهج المحاججة، التي تفترض صلاحية الفكر الإسلامي للجميع، ولزوم أن يكون خطابه عالمياً مقنعاً، لدى المسلم وغير المسلم، فيكون حينئذ تعبيراً عن فكر ناقد لمذاهب ونحل العصر، ومقارن لها، ومنافح عن الدين ضد أخطارها.
إن زمن العولمة يفرض أكثر من أي زمن غربي مضى تحديات خطيرة على وحدة هوية الخطاب الإسلامي. فالغرب يدرك أن هوية الخطاب الإسلامي الحضاري المتوازن والإنساني قادر على إحراج مقولات حضارته المنهكة قيمياً. ولم تكن نظرية «هنتنغتون» في ترشيح الإسلام لمواجهة مستقبلية مع الغرب ضمن مستقبل التوازنات الحضارية الدولية، مجرد زلة لسان أو افتراض مجنون، بل هو يعبر به عن مخاوف الغرب الحقيقية في أن يحل «شرق» عالم الإسلام محل «شرق» عالم الشيوعية لإحداث مستقبل المعادلة معه، رغم ما يبدو على عالم المسلمين اليوم من وهن تاريخي كامل.
إن زمن العولمة وهو يبسط نفوذه الكامل على جميع أنظمة وشعوب العالم المستهلك والأقل إنتاجاً، ويشل تدريجياً من وحدة مرجعياته الثقافية والدينية، إنما يستهدف أساساً الإسلام؛ لأنه الأقدر على الثبات في وجه تحديات ومحاولات الإذابة والانصهار، وعلى الاستفادة من الضربات، حتى في أقسى تعبيراتها.
فقد يكون الفكر الإسلامي هو المستفيد الأكبر من تحول نمط المجتمع القومي الواحد إلى نمط المجتمع المتعدد الثقافات، باعتبار أن هذا النمط الجديد يتسق تماماً مع فلسفة الاجتماع الإنساني في الإسلام، وييسر مهمة الدعوة ونشر الرسالة، كما أنه الإطار الأمثل لبلورة التصور الإسلامي الحضاري. ولئن كانت غاية عولمة الاتصال هي تسهيل تنقل الرأسمال المادي وتبادله، فإن نتائجه من جهة الشعوب أفضت إلى مزيد من التقارب وتبادل المعلومات والمعارف بينها. فالرأسمال البشري ينافس الرأسمال المادي في احتكار المعلومة، وهذا يمثل خطراً كبيراً على أنظمة العولمة لما نعلمه عن القيمة الاستراتيجية لبنوك المعلومات الدولية التي تحتكرها.
إن فكرة المواجهة بين عولمة الشعوب وعولمة رأس المال إنما تؤكد كذلك مصداقية المقاربة الإسلامية في الإيمان بأولوية أمانة الإنسان الأخلاقية على اعتبار المصلحة المادية ومراعاة مستحقيها والمستفيدين منها. فالقسط بين الناس هو ميزان أخلاقي سماوي، لا غنى عنه في ضبط الحقوق المالية بين الناس.
وكلما اتسع أمام الخطاب الإسلامي المستقبلي أفق الدراسة المقارنة للغرب، اتسع فضاء الثقة بالذات ومستوى القدرة على التعامل مع التراث وإمكانات استشراف غد رائد لأمة الإسلام. فإذا كانت الهجرة الإسلامية المعاصرة قد سبقت الوعي بقيمة «خطاب الهجرة» الضابط لفلسفتها وحكمتها، فإن معركة المواطنة التي تخوضها داخل الغرب تفرض عليها التسلح بالفكر وبعد النظر لانتزاع الحقوق وشرح الأنموذج الإسلامي الجديد، الذي قد تشرق شمسه على العالم كله وعلى عالم الشرق الإسلامي من داخل ديار الغرب.
--------------------------------------------------------------------------------
([1])أخرجه مسلم.
(1) . Michael Walzer, Traité sur la tolérance, Ed. Gallimard, 1998,p.240
(2)Taylor Charles, Multicultiralisme: Différence et démocratie, Ed Flammarion , 1997, p. 130.
(3) المصدر نفسه، 16.
([5]) انظر كتاب \\\"مهجري المعرفة\\\"
Les exilés du savoir, Charles Halary, Ed. L’Harmattan, Paris, 1994
([6]) أبو الأعلى المودودي، الحكومة الإسلامية، ديوان المطبوعات، الجزائر،1986م، ص311.(/39)
([7]) سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، 1982م، ص188.
([8]) جمال الدين الأفغاني، العربية لسان الإسلام والمسلمين، مجلة الحوار،ع2، فيينا، ص187.
([9]) حسن البنا، مجموعة الرسائل، القاهرة، دار الشهاب، بدون تاريخ، ص88.
([10]) أخرجه ابن ماجه وأحمد.
([11]) أخرجه أبو داود.
([12]) أخرجه الترمذي.(/40)
البعد الزمني الغائب
المحتويات
توطئة
مظاهر لغياب البعد الزمني في تفكيرنا
في حياتنا الاجتماعية
وفي مشاريعنا الشخصية
في علاج المشكلات
في المشروعات الإصلاحية
العوامل التي أدت إلى غياب البعد الزمني
العامل الأول: العجلة من طبيعة الإنسان
العامل الثاني: ضغط الواقع
العامل الثالث: التربية
لما ذا نحتاج إلى البعد الزمني؟
نصوص القرآن الكريم
نصوص السيرة النبوية
سير الأنبياء
هكذا سنة الله في المجتمعات
البعد الزمني يتيح لنا التعامل مع متغيرات عدة
الواقع المعاصر لم يكن وليد لحظة
آثار غياب البعد الزمني
أولاً: الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر
ثانياً: غياب الرؤية البعيدة والنظر العميق للواقع
ثالثاً:غياب الأولويات
رابعاً: الاتجاه لأعمال غير منتجة
خامساً: التسرع في التقييم
توطئة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, أما بعد:
في صحراء مكة, التي كانت تلفح بالحر الشديد، كان هناك شابٌ لا يزال دون العشرين من عمره, آمن بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم واستجاب لها، وحينها لاقى ما لاقاه إخوانه من التعذيب والأذى الذي بلغ حداً لا يطاق, فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً له من سيِّده الذي كان يتفنن في تعذيبه وإيذائه, يروي لنا القصة صاحبها رضي الله عنه وهو خبّاب بن الأرت, حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة, فقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال: فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمرّ وجهه ثم قال: "لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"( أخرجه البخاري رقم(6943)).
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يخاطب هذا الشاب الذي ربما كان الاستعجال لديه شعوراً نفسياً، فهو لم يكن طائشاً أو متهوراً رضي الله عنه, وإنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يدعو ربه أن ينصرهم ويكشف عنهم الضر، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لمس من نفس خبّاب رضي الله عنه استبطاء النصر, ولمس منه قدراً من الاستعجال، فوجه له هذا الخطاب, ولو عرفنا ما لقيه خبّاب لشعرنا أنه معذور في هذا الموقف, فإنه حين أسلم كان قيِّناً للعاص بن وائل, وكان العاص جباراً متسلطاً, فكان يعذبه أشد العذاب, حتى إن كتب السيرة تروي لنا أنه كان يشعل الجمر فيرميه على ظهره حتى لا يطفئ الجمر إلا ودك ظهره رضي الله عنه, وكان لا يزال شابا يانعاً (رواه أبو نعيم في الحلية"1/143-144"، وابن سعد في الطبقات "3/165").
دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فقال له عمر: "اجلس فما أحق بهذا المجلس منك إلا عمار", وذلك لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر إسلامه فكان يعتقد أن ما لقيه خبّاب أقل مما لقيه عمار رضي الله عنهم جميعا, فكشف له خبّاب رضي الله عنه ظهره فأراه آثار التعذيب التي لا زالت باقيةً على جسده إلى وقت خلافة عمر رضي الله عنه (رواه ابن ماجه"153").
وحين مرَّ عليٌّ رضي الله عنه بقبر خبّاب، بكى وقال: رحم الله خباباً أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتليَ في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجره (الإصابة"1/416") .
إن من يتأمل ذلك الموقف الذي كان يعيشه خبّاب بن الأرت رضي الله عنه يدرك أن هناك ثمة مبرر حين يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يسأل الله النصر وهذا الأمر ليس فيه- فيما يبدو لنا - استعجال, لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفس صاحبه أراد أن يربي عنده هذا المعنى.
إننا حين نريد الحديث عن الاستعجال فإنه قد يطول بنا الحديث، لكننا سنتناول جانباً من جوانب الاستعجال, ألا وهو غياب البعد الزمني.
وغياب البعد الزمني مشكلة في التفكير قبل أن تكون في المواقف والعمل؛ فالمواقف والعمل نتيجة لقرار وتصور يرسمه الإنسان.
إننا نعاني من فقدان هذا البعد في تفكيرنا حيث إننا أسرى اللحظة الحاضرة, ننظر دائماً إلى ما تحت قدمينا, ولا ننظر النظرة البعيدة, وتظهر آثار هذه النظرة ونتائجها في أقوالنا, ومواقفنا, وأعمالنا.
إنك لو أردت أن تزرع بقلة من البقول فسوف تنتظر ثمرتها عن قريب, لكنك حين تزرع شجرة زيتون فلا يمكن أن تنتظر ثمرتها قريباً, لأنك تعرف أنها تحتاج إلى مدة زمنية حتى تكبُر ثم تثمر, وهكذا سنة الله في الحياة.
إذا كان هذا الأمر في عالمنا المادي القريب فما بالك بما هو أبعد؟
مظاهر لغياب البعد الزمني في تفكيرنا
يغيب البعد الزمني في تفكيرنا ومن مظاهر ذلك:(/1)
في حياتنا الاجتماعية
لو قابلت إنساناً تتمنى أن تكرمه, فدعوته إلى منزلك ثم قال لك: لا أستطيع اليوم, ليكن بعد غد, أو قال: لا أستطيع أن آتيك إلا بعد أسبوع أو أسبوعين, فإنك ستستبطئ الموعد, فكيف إذا قال لك: لا أستطيع أن آتيك إلا بعد شهر أو شهرين.
وفي مشاريعنا الشخصية
في مشاريعنا الشخصية كثيراً ما نخطط ونتطلع إلى مدىً زمنيٍّ محدود قريب، قد يحتاج الإنسان إلى أن يفكر إلى ما بعد عشر سنوات أو عشرين سنة -إن أحياه الله عز وجل- فيرسم له صورة وهدفاً يريد أن يصل إليه, ويبدأ الآن وأمامه هذه المدة, لكن هذا الأمر يغيب كثيراً عما نخططه لأنفسنا.
في علاج المشكلات
كلنا نعاني من مشكلات في أنفسنا, فقد أعاني من مشكلة تتمثل في سيطرة عادة سيئة عليّ - أياً كانت هذه العادة -, أو هب أني إنسان سريع الغضب, أو لا أجيد التعامل مع الآخرين أو أني قليل الصبر أو عجل أو كسول, أي صفة سيئة أعاني منها, ثم اكتشفت هذه المشكلة في نفسي, فكيف أعالجها ؟
إن القضية ليست قضية معرفية وليست مجرد أن أعرف أن هذا السلوك غير صحيح حتى أتجنبه, وإنما أحتاج إلى جهد حتى أعود وأروض نفسي على أن أتجاوز هذه السلبيات.
بالأمس القريب (البارحة) كانت تحدثني فتاة تعاني من مشكلة مع والدتها, تقول: إنها تسئ التعامل مع والدتها، حيث تنفعل وتسئ لوالدتها ثم تتضايق كثيراً حتى إنها تستيقظ في الليل ثم تبكي عند والدتها وتعتذر منها, وتلح عليها بالسؤال أنها إذا سئلت يوم القيامة هل كانت ابنتها بارة بها أم عاقة؟ فما ذا تجيب؟ لكنها لا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه.
وكانت تقول: إنني لا يمكن أن أغيِّر ما أنا عليه أبداً!! فحاولت إقناعها فعجزت.
فقلت لها: أليس لك رغبة في التغيير؟
قالت: ليس عندي رغبة في التغيير.
قلت: لماذا اتصلت عليَّ إذن، وما هو السبب, فترددت قليلاً.
فقلت لها: دعيني أجيب عنكِ, إنك تعتقدين أنني قد أساعدك على حل هذه المشكلة فلذا اتصلت تعرضين عليَّ وتتحدثين عن قضية خاصة في حياتك الشخصية وتستشيريني فيها، وأنت تؤملين أن تجدي مني حلاً يمكن أن يساعدك على تجاوز هذه المشكلة.
أليس هذا هو دافع الاتصال؟
قالت: نعم.
قلت: إذاً هناك شعور ورغبة في التغيير.
قالت: إنني حاولت لسنوات طويلة ولم أتخلص من هذه العادة.
فسألت سؤالاً - وأتمنى أن يكون هذا السؤال قاعدة لنا في التعامل مع مشكلاتنا- هل الإنسان خرج من بطن أمه بهذه السلوكيات أم أنه اكتسبها؟
فأجابت: لا شك أنه اكتسبها، ولكن قد يكون وراثة.
قلت: ما يتعلق بوراثة السلوك جزء كبير منها نتاج تربية أكثر من أن تكون قضية وراثية فحسب، فليست القضية متعلقة بالجينات وأن هذا السلوك صار جزءاً من دم الإنسان, ولكن هب أنني ولدت مثلاً من أب يتصف بصفة من الصفات, فتربيت في أحضانه وعشت في هذا الجو، فمن الطبيعي أن أرث هذه الصفة، وإنما ورثتها تربية وتأثراً وليس بالضرورة أنني ورثتها يوم أن ولدت.
فالسلوك الذي نملكه أمر اكتسبناه, وما دمنا اكتسبناه وتعودنا عليه فيمكننا منطقياً أن نتعود على خلافه, لكننا نريد أن نحل مشكلاتنا في وقت قصير لا يمكن أن تحل فيه.
في المشروعات الإصلاحية
حينما نفكر في مشروعات إصلاحية على مستوى مجتمعاتنا إلى أي مدى تقف نظرتنا؟!
إننا دوما ندور في إطار محدود وقريب، لا نفكر في مشروعات على مدى عشر سنين أو عشرين سنة، فضلا عن أن نفكر فيما بعد جيلنا, إننا إذا كنا نعرف سنة الله في المجتمعات، وكيف تتغير، فالمفترض أن تكون مشروعاتنا الإصلاحية تهيئ للجيل اللاحق.
إننا نريد أن تصلح هذه المجتمعات التي نعيش فيها ما بين عشية وضحاها؛ ولهذا يسيطر علينا دوماً الخطاب العاطفي والحماسي, و هو الذي يستهوينا كثيراً ونطرب لسماعه، وهو الذي نشعر أنه يسهم في إصلاح مجتمعاتنا.
إن الخطاب العاطفي المتزن مطلوب ولابد منه، وقد يحل مشكلات معينة؛ لكن لا يمكن أن يغير في المجتمعات, فمشروع إعادة بناء الأمة لا يكفي فيه خطاب يطالب الناس بالتوبة والرجوع إلى الله، وإن كان مطلوباً ولابد منه ويسد ثغرة.
ومن خلاله وحده لا يمكن أن نغير قيم الناس وطريقة تفكيرهم، ولا يمكن أن نواجه التيار الوافد الذي يهاجم الناس, ولا يمكن أن نربي الناس تربية متكاملة.
فالبعد الزمني نفقده كثيراً في تفكيرنا, وفي حياتنا الاجتماعية, ومشاريعنا الشخصية وكذا الإصلاحية التي نسعى إليها في مجتمعاتنا.
العوامل التي أدت إلى غياب البعد الزمني
هذه الطريقة في التفكير تولدت من خلال عوامل عدة لن أستطرد فيها - لأن ما بعدها من نقاط أولى بالحديث - لكني أشير إليها باختصار شديد.
العامل الأول: العجلة من طبيعة الإنسان(/2)
أن من طبيعة الإنسان العجلة كما جاء في كلام الله عز وجل (خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَل) [الأنبياء:37]. والله تعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، لكن هذا لا يعني الاستسلام وعدم التخلص من العجلة؛ فقول الله عز وجل: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج:19] لا يعني الإقرار لأن نتصف بالهلع.
العامل الثاني: ضغط الواقع
لواقع السيئ يشكل ضغطاً قوياً، فالإنسان الذي يحمل الغيرة في قلبه ويريد التغيير، يتضايق من هذا الواقع وما يراه فيه، وكل يوم يجد أمامه متغيرات وأوضاع سيئة جديدة, فلا يطيق ولا يصبر.
ويزيد من حدة ذلك الخطاب العاطفي السائد، فيبحث الإنسان حينئذ عن حلول قريبة، فإذا حدثته عن مشاريع لها بعدٌ زمني يراها الجيل الذي بعده، فلن يستوعب هذا الكلام بل لا يتلاءم مع الشعور الذي يحترق في داخله.
العامل الثالث: التربية
إن طريقة التربية التي تعودنا عليها وطريقة تفكيرنا هي التي غرست عندنا هذا النمط من النظرة القريبة المتعجلة، فتفكيرنا دائماً بسيط محدود، والعمق في تفكيرنا غائب سواء على مستوى العمق في الأفكار أو على مستوى العمق في المدى الزمني, ولأجل ذلك ولَّد عندنا هذه النظرة.
يستحيل أن يتخلص الإنسان من العجلة نهائياً, لكن المؤمل من الناس الذين يتطلعون للإصلاح في المجتمعات أن يعيدوا النظر في مدى تلاؤم نظرتهم للمدى الزمني مع الواقع, وهل هم يعطون مشروعاتهم الإصلاحية المدى الزمني الذي يتلاءم معها أم لا ؟!
لما ذا نحتاج إلى البعد الزمني؟
حين نطالب بأن يأخذ البعد الزمني مداه المناسب في تفكيرنا فإن الذي يدفعنا لذلك أمور عدة، منها:
نصوص القرآن الكريم
يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأنبياء: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ)[الأنبياء:36] يخبر الله في هذه الآية عن الكفار أنهم كانوا إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم استهزءوا به وسخروا منه.
ثم يقول الله عز وجل في الآية التي تليها: (خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)[الأنبياء:37] .
فكأن الإنسان يتساءل ما دام أن الكفار يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسخرون به فلماذا لم يعذبوا؟ ولماذا لم ينزل عليهم العذاب؟
وقال تعالى: (ألم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الروم:1-5] .
فكأن اللحظة قريبة، فاليوم ينتصر الفرس على الروم، وسيغلب الروم فيما بعد، ثم هذه أمارة بنصر المسلمين.
ثم يقول الله عز وجل (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:7،6]
نصوص السيرة النبوية
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً, بل يبدو في الموطن التي تبعث على اليأس, لقد لقي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة من العذاب ما لا يطاق؛ حتى ذهب يبحث عن موطن لدعوته، فرحل إلى الطائف, وحين رحل إلى الطائف لقي الصدود والإعراض من أهل الطائف ولم يستجيبوا له - وكان يوم الطائف من أشد ما لقي صلى الله عليه وسلم, كما أجاب بذلك عائشة حين سألته. فخرج مهموماً ولم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب - مكان بين مكة والطائف- فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد سمع ما قال قومك لك, وهذا ملك الجبال فمره بما شئت, فقال: لو شئتَ لأطبقتُ عليهم الأخشبين - جبلين في مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا, لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل" (أخرجه البخاري "3231" ومسلم "1795").
إن نظرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تقف متفائلة مع هذا الجيل فحسب؛ بل إنه ينتظر أن يخرج من أصلاب هؤلاء من يعبد الله عز وجل, وبعبارة أخرى كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الجيل القادم, مع أنه في موقف يبعث على اليأس.
وفي هجرته صلى الله عليه وسلم - وأخبارها لا تخفى - وكيف خرج صلى الله عليه وسلم واختفى في الغار، فجعل المشركون جائزة عظيمة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حياً أو ميتاً, فلحقه سراقة بن مالك ثم كان ما كان بينه والنبي صلى الله عليه وسلم من حوار حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ (الإصابة"2/19"، الاستيعاب "2/120") .(/3)
وفي غزوة الأحزاب وكان المسلمون محاصرين لا يستطيع أحدهم أن يذهب لقضاء حاجته منفرداً من الخوف، يعدهم صلى الله عليه وسلم بقصور الشام وفارس واليمن؛ عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قال وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال:"بسم الله" فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال:"الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا" ثم قال:"بسم الله" وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال:"الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا" ثم قال:"بسم الله" وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال:"الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا" (رواه أحمد "18219")
وجاء عدي بن حاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل تعلم مكان الحيرة؟" قال قلت: قد سمعت بها ولم آتها، قال:"لتوشكن الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف" (رواه أحمد18888).
سير الأنبياء
يقول الله عز وجل مخبراً عن النصر وتنزله على رسله: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ )[يوسف:110].
ولنقرأ شيئاً من العبر في قصص الأنبياء.
حين دعا نوح عليه السلام على قومه قال في دعائه: (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) [نوح:27]، لقد كان يؤمل في أولادهم أن يستجيبوا، فكان نظره يتجاوز جيله الذي يعيش فبه، ولم يدع على قومه إلا حين علم أن الأمل قد انقطع من أولادهم.
وفي قصة موسى عليه السلام يقول الله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:4-6].
هنا يتحدث القرآن عن بطش فرعون وعلوه ثم يقول الله عز وجل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص:5] فيولد موسى, وينشأ في بيت فرعون ويشب, ثم يخرج إلى مدين ويبقى فيها يرعى الغنم عشر حجج أو ثمان, حتى يبلغ بعد ذلك أشده، ثم يأتيه الوحي، ويعود بعد ذلك إلى فرعون, وكل هذا إتماماً لهذا الوعد.
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص:5].
ويبدأ تقدير الله من هنا منذ أن ولد موسى عليه السلام وهو طفل رضيع إلى أن ذهب وتربى هناك وبقي يرعى الغنم, وفرعون لا يزال يبطش ويتجبر ويذبح الأبناء حتى مضى جيل بعد ذلك ثم أتى موسى, وأتم الله عز وجل لبني إسرائيل ما وعدهم .
ويوسف عليه السلام رأى رؤياً وهو لا يزال صغيراً (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[يوسف:5،4].
ثم طال الوقت وكاد به إخوانه, ورموه في الجب, وذهب إلى بيت العزيز, وبقي فيه وقتاً, ثم سجن, ثم بقي على خزائن الأرض سبعاً وسبعاً, ثم جاءه بعد ذلك يعقوب وأهله وخروا له سجداً فقال: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً)[يوسف:100].
وتبقى هذه الأمور في عمر الزمن أمراً محدوداً لا يساوي شيئاً.
هكذا سنة الله في المجتمعات
لو رأيت رجلاً مكتمل الرجولة, يمتلئ حيوية ونشاطاً، فأنت تعرف أنه كان يوماً من الأيام رضيعاً لا يستطيع أن يأكل الطعام بنفسه, ولا يستطيع أن يقوم أو يعبر عما في نفسه, لا يعرف لغة إلا البكاء, فينمو وينمو من خلال وقت طويل وزمن؛ حتى يصبح كما تراه أمامك رجلاً جلداً قوياً.
إذا كان هذا في عمر الأفراد فكيف في عمر المجتمعات؟
عمر الأفراد لا يقاس بعمر المجتمعات أبداً, وإذا كنت ترى التغير في عمر الفرد فما تراه في المجتمع يحتاج إلى أضعاف ذلك الوقت بكثير.
لكننا حين نريد أن نغير في المجتمعات، فإننا في الواقع لا نتعامل معها بأعمار الأفراد فضلاً عن أعمار المجتمعات.
البعد الزمني يتيح لنا التعامل مع متغيرات عدة(/4)
إن طول المدى الزمني يتيح لنا أن نتعامل مع متغيرات عديدة لا تتيحها لنا النظرة القريبة, فحينما نريد أن نقيم مشروعاً دعوياً, سنجد أنه يحتاج إلى جهود إصلاحية ومشاريع إعلامية متميزة, ويحتاج إلى مدارس متميزة وعلماء, فإذا كنا سنعمل على مدىً زمني بعيد فبإمكاننا حينئذ أن تدخل كل هذه المتغيرات.
حين نحتاج إلى إعلام إسلامي ولانملك مختصين يمكن أن نوجه عدداً من الخريجين فيتخصصوا تخصصات إعلامية ، وبعد سنوات سنملك عدداً يمكن ان يُدرّبوا غيرهم ، وهكذا في سائر التخصصات .
المؤسسة التجارية التي تستهدف تحقيق ربح, وحضور في السوق التجاري, لا يمكن أن تربح بين يوم وليلة, فهذه المؤسسة وإن كانت تملك عاملين لهم ولاء خاص للمؤسسة؛ لكن ضعف المهارة في التسويق وضعف الخبرة الإدارية سيؤثر على إنتاجهم، وسيؤثر على موقع هذه الشركة في ظل هذا السوق الذي هو تسود فيه حمى التنافس.
فإذا كان صاحب الشركة يفكر على مدى بعيد فإنه سيدرب هؤلاء كل على حسب حاجته فمن كان يحتاج إلى لغة أُعطي دورات في اللغة، ومن كان يحتاج أن يتدرب على الحاسب الآلي دُرِّب عليه، أو مهارات علاقات عامة أو تسويق أو استقطاب أفراد عملاء, إنه حين يفكر على مدى عشر سنوات أو أكثر فإنه سيستطيع أن يوجد طاقات، وتكون أمامه متغيرات عديدة يستطيع أن يتحرك من خلالها، خلافا لما لو كان ينظر إلى اللحظة الحاضرة.
الواقع المعاصر لم يكن وليد لحظة
إن الواقع الذي نعيشه اليوم وهو واقع غير مرضٍ, ويحتاج إلى إصلاح وتغيير، ليس هو نتاج حدث عابر أو عامل واحد.
إنك لو سألت طائفة من الناس: ما سبب تخلف المسلمين؟ فسوف تجد إجابات متعددة، وكل إجابة لها ما يؤيدها من الواقع، لقد اجتمع هذا العامل والثاني والثالث مع العامل الزمني فأدى إلى تخلف المسلمين, فالتغير إنما حصل من خلال عوامل وأثر تراكمي, ومن خلال فترة زمنية طويلة.
وحين نريد إصلاح هذا التغير الذي تم خلال عقود متطاولة، ونتاج عوامل عدة، فلا يمكن أن يتحقق ذلك في فترة محدودة، وليس حتما أن نعطي مشروع الإصلاح المدى الزمني الذي استغرقه مشروع الفساد والتغيير، ولكن على الأقل أن يتناسب معه.
فالمفاهيم والقيم المنحرفة السائدة لدى المسلمين لم تأت مرة واحدة، ولم تكن نتاج فيلم شاهده الناس فغير حياتهم, أو موقفا رأوه في السوق والشارع.
دعوني أضرب لكم مثالاً:
من القيم السائدة اليوم في مجتمعات المسلمين بين الشباب المراهقين والفتيات المراهقات أن الشاب أو الفتاة حينما يصل إلى مرحلة المراهقة لا بد أن يخوض تجربة يسميها "تجربة الحب" مع طرف آخر، وتبدأ هذه القصة ثم تمتد على علاقات عاطفية، وفي النهاية تكون هي نواة مشروع الزواج.
شعور الإنسان بالحب في قلبه أمر لا يلام عليه ، لكن الملامة أن تصبح مشروعاً من مشاريع الإنسان حينما يصل إلى هذه السن، فيظن أنه لا بد أن يحب فتاةً ثم يبني علاقة معها, وقطعاً سيقعون في أمور محرمة لما يحصل بينهم خلوة وغيرها.
هذا السلوك اليوم أصبح سلوكاً طبيعياً عند الشباب والفتيات لا يشعرون تجاه بأي تأنيب للضمير.
هذه القيم السائدة في أوساط شباب وفتيات المسلمين لم تنشأ من خلال قراءة لرواية أو رؤية فيلم, بل من خلال أثر تراكمي طويل، بمجموعة أفلام يشاهدها في الإعلام، أو روايات وقصص يقرأها, أو أحاديث لزملائه وزميلاته, فلما اجتمعت هذه الأمور ولدت هذا التأثير التراكمي الذي استقر وشكل هذه القيمة.
فهل يمكن أن تتغير هذه القيم من خلال جمع مجموعة من الشباب وإخبارهم أن هذا السلوك خطأ ويجب تركه ؟
فإذا كنا نريد أن نصلح ونغير، فلا يشترط أن نعطي نفس المدى الزمني ونفس الزخم والمؤثرات, لكن على الأقل نحتاج إلى تنويع وسائل التأثير ونحتاج إلى مدى زمني يتناسب مع زخم هذه العوامل التي أدت إلى هذا الواقع.
آثار غياب البعد الزمني
حينما يغيب البعد الزمني في تفكيرنا, ولا ننظر إلا إلى اللحظة القريبة فإننا سنجني نتائج مرة وسيئة، نلحظها اليوم في الأنشطة الدعوية والمشروعات الإصلاحية القائمة في الأمة.
أولاً: الابتعاد عن الأعمال المنتجة العميقة الأثر
وذلك بالابتعاد والانصراف عن الأعمال تلك التي تحتاج إلى وقت وجهد في القيام بها, ولا تظهر آثارها في الزمن القريب، والاتجاه للاعتناء بالأعمال سريعة الأثر وقريبة النتائج.
فلو قيَّمت المشاريع الدعوية القائمة اليوم, لوجدت أن المشاريع التي تستهوي الشباب والناس عامة هي غالباً المشاريع التي يظهر أثرها قريباً.
فحينما تذهب إلى شباب يجلسون على الشاطئ أو على الأرصفة وتناصحهم ويستجيب لك واحد أو اثنان, أو حينما تذهب إلى مجموعة من الجاليات غير المسلمة وتدعوهم ويسلم واحد أو اثنان.., أو حينما تتحدث مع الناس حديثاً وعظياً مؤثراً ويستجيب لك الناس, هذه الأعمال - التي يكون أثرها سريعاً - هي التي تستهوينا كثيراً وتلقى رواجاً.(/5)
ونحن لا نعترض عليها بل لابد منها, وغيابها غير صحيح, لكنا نعترض على غياب المشروعات البعيدة الأثر في الأمة .
الأمة اليوم تحتاج إلى عمل إعلامي يتناسب مع الزخم الذي تواجهه.
المنتج الإعلامي - الدعوي - لا يزال محدوداً وضعيفاً وهشاً رغم العمر الطويل للصحوة الإسلامية، ومصدر ذلك ليس غياب الداعية الغيور، ولكن طريقة التفكير التي تريد العمل القريب الذي تلمس آثاره قريباً، والعمل الإعلامي يحتاج إلى أوقات ومتخصصين وخبرات لا تتاح في الزمن القريب.
مثال آخر: حين تصلي في أحد المساجد في رمضان يغلب أن تجد من يقف عند الأبواب لجمع التبرعات للمشاريع الدعوية, وهذه ظاهرة جيدة وصحية، لكن إلى متى يقتصر تمويل مشاريعنا الدعوية والإصلاحية على تبرعات الناس؟ لماذا لا يكون هناك تفكير في مشروعات استثمارية قوية تخدم الدعوة؟ وهذا لا شك أنه لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، لأنه يحتاج إلى تدريب أناس متخصصين، وبذل جهود كبيرة، ووقت يطول على المتعجلين.
أين نحن من المشاريع الاجتماعية التي تستهدف تغييراً وإصلاحاً اجتماعياً؟ بل أين نحن من المشروعات التربوية حيث نعاني اليوم من مستوى تعليم ضعيف متخلف, وكذا نعاني من تربية هشة, وضعف في بناء الأسرة؟ إن ذلك كله لا يمكن أن يتم في زمن يتفق مع مدى تفكيرنا.
ثانياً: غياب الرؤية البعيدة والنظر العميق للواقع
من نتائج غياب البعد الزمني فقد الرؤية البعيدة، وغياب النظر العميق للواقع، وعدم دراسة المتغيرات التي تحكمه، وهذا يجعلنا دائماً نقع أمام مفاجآت ولا نتنبأ بالمشكلات التي تحصل في مجتمعاتنا، فضلا عن أن نفكر في الإعداد لها ومواجهتها بطريقة صحيحة.
حينما تدرس ظاهرة السفور, فهل ترى أنها بدأت حين ألقت النسوة المتمردات على شرع الله حجابهن في ميدان التحرير؟ أم أنه تلك الخطوة كانت تتويجا لتغير بدأ ينخر في المجتمع منذ عقود؟
إن هناك تغييرات هائلة تحصل في داخل المجتمع لا نبصرها بنظرتنا القاصرة, وإنما نصطدم أمام المفاجأة فحسب.
كاتب ينشر مقالاً يتهجم فيه على الحجاب, يولد لدينا ردة فعل جامحة، لكن أين نحن من التأثر والتغير البطيء ، ولماذا لا نلتفت إليه؟
وحتى حينما نحلل مشكلة من المشكلات, فإننا ننسبها إلى عوامل قريبة ومحدودة، وننسى الخلفية والأرضية التي هيأت لها.
وحين ننتقل إلى مستوى أعلى من ذلك فإنه يغيب كثيرا عن حديثنا أن ندرس العوامل التي تؤثر في المجتمع، وحركة التغيير فيه.
ومن باب أولى لا يمكن أن نتنبأ بما سيحصل في المستقبل.
ثالثاً:غياب الأولويات
ثمة مشكلة في رعاية الأولويات في حياتنا, فالأمور الملحة تفرض نفسها علينا, فالطالب يشغله البحث حين يقترب موعد تسليمه، ويقل أن يبذل جهدا في وقت مبكر في مادة تصعب عليه.
وصاحب العمل التجاري يقدم الأمور المستعجلة, ويتناسى الأمور البعيدة وإن كانت أعظم أثراً، فيقدم إنجاز الصفقات العاجلة والعقود لأنها هي التي تلح عليه, أما تدريب العاملين والارتقاء بهم فلا تأخذ إلا حيزا محدودا من اهتمامه، مع أنه قد يكون أكثر أولوية من إنجاز هذه الصفقة أو هذا المشروع.
وقل مثل ذلك في شأن الدعاة والمصلحين، فكثيرا ما تشغلهم الأعمال الطارئة العاجلة عن الأعمال الأكثر تأثيراً.
فعند غياب الأولويات تصبح الأولوية للأعمال السريعة, خصوصاً أن الأعمال البنائية والإصلاحية لا تظهر آثارها قريباً, ولا تشكل ضغطاً مباشراً على صاحبها بخلاف الحدث الذي يزعجنا ونراه في لحظتنا، ولأجل ذلك تختلط عندنا معايير الأولويات.
رابعاً: الاتجاه لأعمال غير منتجة
لو أن إنساناً يطهو طعاماً يحتاج إلى ساعة كاملة، واستعجل إخراجه قبل أوان نضجه، فلن يهنأ بأكله ناضجاً، وقد لا يستطيع أن يعيده إلى قدره.
وهكذا الأعمال المتسرعة لا تحقق لصاحبها النتيجة، ولو عاد إلى الطريق الصحيح فسيرى أن تسرعه أفسد عليه الكثير.
حين يكتشف الأب لدى ولده مشكلة ما وهذه المشكلة ليست نتاج لحظة حاضرة بل هي نتاج عوامل عديدة، فإن العقوبة القاسية التي يسلكها لحلها قد لا تقف ثمرتها عند فشله في حل المشكلة، بل قد تتجاوز ذلك إلى تزيد المشكلة تعقيداً.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك اتجاه بعض الشباب الغيورين إلى أعمال العنف، إنه لا يطيق الواقع الذي يراه, فيقول: كيف نصبر والأمة تحكم بالباطل؟ كيف نصبر والمسلمون يهانون ويذلون؟
لا بد أن نغير هذا الواقع, والحل أن نحمل السلاح وسينصرنا الله عز وجل.
ولا شك أن الله ينصر عباده ولكن بأخذ أسباب النصر ومنها عدم الاستعجال كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (ولكنكم تستعجلون).
وهاهي أعمال العنف تجني على الأمة آثاراً وخيمة، بل لا تقف عند ذلك فتؤخر كثيراً من مشروعات الإصلاح وبرامج التغيير.
خامساً: التسرع في التقييم(/6)
حينما تكون نظرتنا قريبة, وأفقنا الزمني محدود, فإن هذا بلا شك سيؤثر على تقويمنا للأعمال, وسنقول: هذه الأعمال غير منتجة, وهذه الأعمال آثارها محدودة, نظراً لأننا نبحث عن الآثار القريبة التي تتناسب مع طريقة تفكيرنا المحدود, أما حينما ننظر إلى مدىً زمنيٍ أبعد فسوف نقيس هذه الأعمال ونقيمها بمعيار آخر.
هذه خواطر عاجلة خلاصتها أننا نعاني من غياب البعد الزمني في التفكير, وأننا دائماً ننظر إلى اللحظة الحاضرة ولا ننظر إلى المدى البعيد, وهذا يوقعنا في أخطاءٍ كثيرة، ويفوت علينا فرصاً عديدة وهو مصداق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولكنكم تستعجلون) وهو خطاب ليس خاصاً لخبّاب رضي الله عنه بل للأمة كلها أجمع.
لا أريد أن أطيل عليكم وأثقل عليكم فأكتفي بهذا القدر وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون هذا اللقاء لقاءاً طيباً ومباركاً وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/7)
البعرة تدل على البعير.. والأثر يدل على المسير
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
ما يقوم به الشيعة في العراق اليوم، ما هو إلا بعرة بعير هائج يعد العدة لاستئصال أهل السنة في البلدان الإسلامية المجاورة للعراق بعد سيطرتها عليه، وبخاصة دول الخليج الفارسي!!!!" الذي تثور ثائرة زعماء إيران إذا سمي فندق في إحدى الدول العربية الخليجية باسم "فندق الخليج العربي!" هذا الخليج الذي يطمح الشيعة إلى سيطرتهم عليه ورفع راية الحضارة الفارسية عليه وعلى كل شعوبه.
فما يجري في العراق من قبل الشيعة ليس هو ناتجا عن شيعة العراق وحدها، بل هو مخطط شامل من كل البلدان المجاورة وغير المجاورة للعراق بتنسيق وتعاون كامل بين جماعة هذه الطائفة الحاقدة على أهل السنة، وليس الهدف من مخططهم هذا هو العراق وحده، بل كل الدول العربية الخليجية وغيرها كذلك.
تقود هذه الجماعة دولة أرادت وأريد لها أن تتحالف مع بعض الدول المعادية للإسلام والمسلمين من اليهود والصليبيين، مع الإعلان الإعلامي المخادع الذي تظهره الأطراف الثلاثة، من الخصومة، فالقادة الأمريكيون ترتفع أصواتهم بالشكوى من التدخل الإيراني بالأسلحة والرجال، ولكنهم – في نفس الوقت – يقودون جحافل الشيعة من العراق وإيران لقتل أهل السنة في محافظاتهم ومدنهم وقراهم.
وهل سمع أحد في العالم أن رصاصة واحدة أطلقها الأمريكان في الحدود الشرقية للعراق التي يشكون من تدخل الإيرانيين منها؟!
وهل هذا التدخل الإيراني الذي يشكو منه الأمريكان يأتي من الحدود الغربية بدلا من الشرقية؟!، ألا إنها مخطط إيراني أمريكي يهودي، يجب أن يعيه أهل السنة دولا وشعوبا، فما يجري في العراق، ما هو إلا علامة يعبر عنها المثل العربي القائل: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير"
وأقول لكم يا أهل السنة في المنطقة كلها: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله}(/1)
البقاء بين ظهراني الكفار
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/الولاء والبراء
التاريخ ... 15/12/1423هـ
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
نحن جماعة من الإخوة كتب الله - عز وجل - لنا أن نتغرب عن أوطاننا الإسلامية لنعيش في ديار الكفر. وقد اختلفت أسباب مجيئ كل واحد منا, فمنا المضطر ومنا غير ذلك. فهل تجوز لنا الإقامة والبقاء في هذه الديار بحجة حرية التدين وإقامة الشعائر والدعوة إلى الله؟ -مع العلم أن غالبية الإخوة لا هم لهم إلا الدنيا -، عكس ما يقابل ذلك في أوطاننا من قهر واستبداد وتضييق على الدعوة وكلمة الحق. وكثرة الفساد والفجور وضيق المعيشة (السكن ومصادر تحصيل الرزق)؟؟ وهل إظهار الشعائر في ديار الكفر معناه إظهار العداوة والبغضاء لهم؟ كما جاء في القرآن: "قد بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا..." أم أن له معنى آخر ؟؟
البعض من الإخوة هنا يعتمدون في مصدر رزقهم على منحة حكومية (الضمان الاجتماعي) مصدرها الضرائب المختلفة، على جميع الأنشطة الاقتصادية الحلال منها والحرام، هذه المنحة تقدم للعاطلين عن العمل حتى يجدوا مصدر رزق. فهل يجوز لمن يتقاضاها أن يشتغل في الخفاء دون أن يصرح للسلطات للحفاظ عليها ويكتب مع الإمضاء في وثيقة طلب المنحة أنه لا عمل له ولا دخل مادي وهذا يتكرر كل مرة يطلبها؟؟ أو أن يصرح بدخل غير صحيح للحصول على جزء منها؟؟ أو أن يصرح ويملأ وثائق بذلك مع وجود شاهدين يشهدان أنه وزوجته يعيشان منفصلين عن بعضهما (ليس بمعنى الطلاق) من أجل حصول الزوجة والأولاد على المنحة لأنهم يفقدونها في حال حصوله على عمل وهو يعيلهم؟؟ ما حكم الاشتغال كسائق لسيارة الأجرة (التاكسي) ونقل الناس من مكان لآخر ولو كان محرما (مخمرة, لهو, قمار...) وركوب النساء معه دون محرم....أفتونا مأجورين بشيء من التوسعة وبارك الله فيكم وسدد خطاكم.
الجواب
من ضيق عليه في معيشته أو دينه في بلده ولم يجد بلدة من بلاد المسلمين تأويه فرحل إلى بلاد الكفار فأقام بها طلباً للعيش والأمان فلا شيء عليه إن شاء الله في إقامته بين ظهراني الكفار، ما دام يقيم شعائر دينه، نتيجة حرية التدين في تلك البلاد، إن كان يستطيع فيها أن يظهر شعائر دينه الاعتقادية والتعبدية – دون منع أو اضطهاد - وشعائر الدين هي: أركان الإسلام وأركان الإيمان، وإظهار المسلم لشعائره التعبدية والعقدية في بلاد الكفار هو إظهار للعداوة والبغضاء والكفر بهم وبما يعبدون من دونه كما في قوله – تعالى -: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" الآية، [الممتحنة:4] وهؤلاء الصنف من الكفار هم الذين أعلنوا الحرب على المؤمنين دون غيرهم من المعاهدين المسالمين الذين أباح الله للمؤمنين أن يبروا بهم ويعدلوا فيهم"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8] وعداوة المسلم للكافر وبغضه لا تستلزم ظلمه، ولا إنكار المنكر الذي هو عليه باليد أو القوة، لأن ذلك ليس إليه، وقد تترتب عليه، مفسدة عظمى.
وما تصرفه الدولة (الكافرة) منحة للعاطلين عن العمل حتى يجدوا مصدر رزق يدر عليهم ما يسد حاجتهم أخذه حلال للآخذ، ولو كان غالب مصدره الحرام، وقبول المسلم منحة وهدية الكافر جائزة إذا كانت غير مشروطة بحرام.
ولا يجوز لمن يتقاضى هذه المنحة أن يخفي على الدولة ما وجده من عمل – إذا كان هذا العمل يدر عليه ما يكفيه، أما إذا كان هذا العمل لا يدر عليه ما يكفيه فلا بأس عليه حينئذ ولا يجوز له أن يدلي بمعلومات ناقصة أو مغلوطة أو وثائق مكذوبة، أنه وزوجته يعيشان منفصلين من أجل حصول الزوجة والأولاد على هذه المنحة، لأن هذا من الحيل المحرمة والكذب الحرام، فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، كما جاء في الحديث الصحيح أما اشتغال المسلم في ديار الغرب كسائق سيارة أجرة ينقل الناس من مكان لآخر، وقد تكون هذه الأمكنة محرمة يزاول فيها الحرام، فلا ينبغي للمسلم الاشتغال بهذه المهنة إذا كان له مندوحة عنها، وإن كان مضطرا ًلذلك فلا بأس عليه – إن شاء الله – بشرط أن ينكر ذلك بقلبه على الأقل.(/1)
أما ركوب النساء مع السائق دون محرم داخل البلد أو خارجه فحرام إذا كانت بمفردها مع السائق الأجنبي أما إذا كانت النساء اثنتان فأكثر فجائز لعدم تحقق الخلوة كما في الحديث المتفق عليه "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" البخاري (5233) ومسلم
(1341) وفي الحديث الآخر "لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" أحمد (114) والترمذي (2165) والنسائي في الكبرى (9175). وفقنا الله وإياكم للخير آمين.(/2)
البكاء من خشية الله.. تربية للقلب
خالد روشه
يتسارع وقع خطى الأيام، وتتسابق لحظات المرء، نحو ساعات يشبه بعضها بعضا، وتشتد غفلة الإنسان مع متطلبات شئونه الحياتية، فلا يفيق إلا بعد ما طويت مراحل من عمره مهمة، فيندم عندئذ ندما كبيرا، ويتمنى أن لو أيقظه موقظ أو صرخ في وجهه ناصح.
وهذا في الواقع يحصل لكل أحد، فلا أحد ينجو من الغفلة، ولا أحد يهرب من التأثر بدوامة الحياة، ولكن ثمة لحظات صدق تائبة، ونوبات خشوع صادقة تتلمس شغاف القلب المنيب إلى ربه، يحاسب فيها نفسه، ويجدد فيها العهد، وعندها تثور ثائرة مشاعره الصادقة التائبة، وتغرورق عيناه بدموع إيمان، فيكون بكاؤه عندئذ أشبه ما يكون بغيث السماء الذي يرسله الله سبحانه على جدباء الأرض فيحييها وينبت فيها الحياة من جديد.
القرآن والسنة
قال الله تعالى: "وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا" (الإسراء :109). وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى" (أخرجه الترمذي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" (أخرجه الترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله..."، وذكر منهم "ورجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: (متفق عليه).
سمت الصالحين
عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة سالت منها العيون ووجلت منها القلوب..." (أخرجه أحمد والترمذي).
وكان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى فيقال له ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ماذا صعد اليوم من عملي!.
وقال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.
وقال قتادة: كان العلاء بن زياد إذا أراد أن يقرأ القرآن ليعظ الناس بكى وإذا أوصى أجهش بالبكاء.
وقال الذهبي: كان ابن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعا مسته الدموع.
وعن يحيى بن بكير، قال: سألت الحسن بن صالح أن يصف لنا غسل الميت فما قدرت عليه من البكاء.
وعن محمد بن المبارك، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
وقال معاوية بن قرة: من يدلني على رجل بكاء بالليل بسام بالنهار؟
وقال بكر بن عبد الله المزني: "من مثلك يا ابن آدم خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت وتناجي ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان، إنما طيب المؤمن الماء المالح هذه الدموع فأين من يتطيبون بها؟.
مثيرات البكاء
1- الخلوة الصالحة في أوقات إجابة الدعاء: فالخلوة الصالحة هي خليلة الصالحين والعبّاد وكل قلب يفتقر إلى خلوة، وأنا هنا أنعتها بالصالحة وهي الخلوة التي يقصدها المرء بنية التعبد لله والخلوص له سبحانه وتعالى قال الله سبحانه: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً".. وهذه الخلوة الصالحة يكون فيها التدبر في شأن الإنسان وحاله مع ربه، ويكون فيها محاسبة المرء لنفسه، ويكون فيها استدعاء تاريخ حياة كل واحد مع نفسه وفقط، وتكون فيها المصارحة والمكاشفة بين كل امرئ وقلبه، فيعرف مقامه وتقصيره وكم هو مذنب مقصر خطاء.. وعندها يسارع إلى الاستغفار والبكاء من خشيته سبحانه.
2- الإنصات والتدبر للتذكرة والموعظة: فكم من كلمة طيبة كانت سببا في تغيير حياة إنسان من الغفلة إلى الاستقامة، وقد حذر العلماء من إغفال التذكرة وعدم التأثر بها، فقال إبراهيم بن أدهم: علامة سواد القلوب ثلاث.. ذكر منها: ألا يجد المرء في التذكرة مألما!.. وكان الحسن إذا سمع القرآن قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل وإلا نصب وإلا ذاب وإلا تعب، وقال ذر لأبيه عمر بن ذر الهمداني: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت يا أبت سمعت البكاء من ههنا وههنا؟ فقال: يا ولدي ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.(/1)
3- محاسبة الجوارح ومخاطبتها: فعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله!، فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه، والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟.. ويذكر قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...} الآيات "فصلت".
البكاء والإخلاص
تساؤل يثار كثيرا حول الموقف من البكاء أمام الناس وفي حضرتهم رغم ما يمكن أن يكتنف هذا من التماس ببعض شبهات المراءاة للناس وتصوير النفس بالخشوع والتقوى، فكثير من الناس يمتنعون عن ذلك البكاء ولا يبدونه مهما كانت الأحوال مخافة الاتهام بالرياء أو مخافة مداخلة النفس العجب، وعلى جانب آخر يرى البعض أن البكاء في المجالس وفى المواعظ شيء طبيعي لأصحاب القلوب الرقيقة لا يمكن إنكاره أو اتهام صاحبه بسوء نية، فما هو الموقف الصائب إذن؟.
الناظر إلى أحوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم ونهج نهجهم من علماء الأمة ليرى بوضوح أن البكاء كان سمة مميزة لهم -كما سبق أن بينا فيما سبق من آثار- بل أكثر من ذلك.. إن بعضهم كان ربما يظل طوال درس العلم الذي يلقيه يظل يبكي حتى ينتهي، فيروي الإمام الذهبي عن أبي هارون قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع، وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أنه وجه ثكلى.. إلى غير ذلك من الآثار المتكاثرة.
ولكن هناك أيضا من الآثار ما حض على إخفاء ذلك البكاء وجعله في الخلوة ومنفردا فقط: فعن محمد بن زيد قال: "رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك"، وقال سفيان بن عيينة: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك"، بل نقل الذهبي عن عمران بن خالد قال سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.. إلى غير ذلك من الآثار.
وخلاصة القول في ذلك أن يعلم الإنسان نفسه البكاء من خشية الله وعند سماع الموعظة والذكر والتذكرة وعند محاسبته لنفسه أو غير ذلك، والأصل في البكاء أن يكون في الوحدة ومنفردا وفي الخلوات، ولكن إذا كان المرء بين الناس وغلبه البكاء فلا شيء في ذلك أبدا إذا اطمأن من نفسه الصدق والإخلاص بل إن ذلك كان حال الصالحين.
نصائح تربوية
1- تهيئة البيئة التربوية الإيمانية مهمة في تربية المرء على رقة القلب واستشعار الخشوع واعتياد العين على البكاء، فلم يكن الصالحون يصلون إلى هذه الدرجة العالية من البكاء من خشية الله لولا أن هناك بيئة إيمانية تربوا عليها وفيها أعانتهم على ذلك وتلك البيئة لها أكبر الأثر في التشجيع على الأعمال الصالحة والتربي عليها، والمربون الذين يهملون تهيئة تلك البيئة أو يتناسون أثرها هم مخطئون ولا شك، يروي ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بكى ذات ليلة، فبكت فاطمة زوجته، فبكى أهل الدار لا يدري أولئك ما أبكى هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة سألوه ما أبكاك؟ فقال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، فما زالوا يبكون!.
2- أثر القدوة مهم جدا في التربية على تلك العبادة الصالحة فقد كان البكاؤون السابقون يجدون القدوة الصالحة في ذلك من معلميهم ومربيهم فكانوا يتشبهون بهم إلى أن يصير العمل الصالح عندهم أساسا وأصلا، أما أن يبح صوت خطيب أو معلم يعظ الناس في البكاء والناس لم يروا عليه أبدا أثرا للبكاء فلا أثر لنصحه أبدا.
3- يجب ألا يكون بكاء المرء على شيء من الدنيا فات أو صاحب فقد أو مصيبة حدثت فذلك بكاء الدنيا وإنما مقصودنا هو بكاء الخشية من الله، وهو أن يكون باعث البكاء دائما هو خشية الله سبحانه وتوقيره والتقصير في حقه تعالى وكثرة ذنوب العبد وخوف العاقبة، وقد كانت أسباب بكاء الصالحين السابقين تدور حول: تذكر ذنبهم وسيئاتهم وآثار ذلك، أو التفكر في تقصيرهم تجاه ربهم سبحانه وما وراء ذلك، أو الخوف من عذاب الله سبحانه وسوء الخاتمة أو الخوف من ألا تقبل أعمالهم الصالحة، أو الخوف من الموت قبل الاستعداد له أو الشوق إلى الله سبحانه ومحبته، أو خوف الفتن ورجاء الثبات على دينهم أو رجاء قبول الدعاء.(/2)
البكاء يغسل أدران القلوب
المصدر: الشبكة الإسلامية
إنها حقيقة لا مراء فيها، فالبكاء من خشية الله تعالى يلين القلب ،ويذهب عنه أدرانه، قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : (البكاء من سبعة أشياء : البكاء من الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ، والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منه أمثال البحور من النار)
وقد مدح الله تعالى البكائين من خشيته، وأشاد بهم في كتابه الكريم: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [الإسراء 107-109]
البكاء شيء غريزي: نعم هذه هي الفطرة فالإنسان لا يملك دفع البكاء عن نفسه ، يقول الله تعالى: (وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم / 43] قال القرطبي في تفسيرها : أي : قضى أسباب الضحك والبكاء ، وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني : أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء...
أنواع البكاء
لقد ذكر العلماء أن للبكاء أنواعا ومن هؤلاء الإمام ابن القيم رحمه تعالى إذ ذكر عشرة أنواع هي:
بكاء الخوف والخشية
بكاء الرحمة والرقة
بكاء المحبة والشوق
بكاء الفرح والسرور
بكاء الجزع من ورود الألم وعدم احتماله
بكاء الحزن .... وفرقه عن بكاء الخوف : أن الأول – (الحزن) - يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف : يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن : حارة والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يُفرح به هو (قرة عين) وأقرّ به عينه ، ولما يُحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله به عينه
بكاء الخور والضعف
بكاء النفاق وهو : أن تدمع العين والقلب قاس
البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها
بكاء الموافقة : فهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون
فضل البكاء من خشية الله
إن للبكاء من خشية الله فضلا عظيما ، فقد ذكر الله تعالى بعض أنبيائه وأثنى عليهم ثم عقب بقوله عنهم: ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [مريم58]
وقال تعالى عن أهل الجنة : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور 25 – 28]
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)
وقالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ...) وفي آخره: (ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)
وقال (عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله ، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله). وكان السلف يعرفون قيمة البكاء من خشية الله تعالى،فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول : (لأن أدمع من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار)
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهباً
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم
عَن ابن مَسعودٍ - رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : (اقْرَأْ علي القُرآنَ) قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : (إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً) [ النساء / 40 ] قال " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتُّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يحفرون قبرا لدفن أحد المسلمين وقف على القبر وبكى ثم قال : (أي إخواني، لمثل هذا فأعدوا)
أما عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير - رضي اللَّه عنه – فيقول : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ
وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله... الحديث
وقام ليلة يصلي فم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ
قالت عائشة : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته(/1)
قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها ! (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ …) الآية
بكاء الصحابة رضي الله عنهم
لقد رأينا شيئا من بكائه صلى الله عليه وسلم وقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم من نبيهم البكاء فعن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً) ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين ، وفي رواية : بلغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : (عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً) فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين " . والخنين : هو البكاء مع غنّة
و كان عثمان إذا وقف على قبر ؛ بكى حتى يبل لحيته ! فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ؛ فما بعده أشد منه) قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما رأيت منظراً قط إلاّ القبر أفظع منه)
وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : (أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي)
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ؟ قال : لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون
وبكى الحسن فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي
وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) [الجاثية / 21] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي
وكان حذيفة رضي الله عنه يبكي بكاءً شديداً ، فقيل له : ما بكاؤك ؟ فقال : لا أدري على ما أقدم ، أعلى رضا أم على سخط ؟ .
وأُتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوما بطعامه فقال : قتل مصعب بن عمير وكان خيراً مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة – أو رجل آخر – خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي
وكان ابن مسعود يمشي فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إلى الحديد المذاب ويبكي . وكأنه رضي الله عنه تذكر النار وعذاب أهلها حين رأى هذا المشهد
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مرة الناس بالبصرة : فذكر في خطبته النار ، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً
وعن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) [الحديد / 16] بكى حتى يغلبه البكاء
وقال مسروق رحمه الله : قرأت على عائشة هذه الآية : ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) [الطور / 27] فبكت ، وقالت: (ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم)
وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عز وجل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) [مريم / 71] فلا أدري أأنجو منه أم لا
وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب : (إن الله أمرني أن أقرئك القرآن) قال أالله سماني لك ؟ قال : (نعم) ، قال : وقد ذُكرت عند رب العالمين ؟ قال : "نعم" ، فذرفت عيناه - وفي رواية : فجعل أبيٌّ يبكي
وقد تربى السلف الصالح على هذه المعاني العظيمة فرأينا منهم عجبا
فهذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بن محمد - وكان جارا له – يقول : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه ، فأتيت أهله ، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى ، ويبكي إذا أصبح ؟! قال : فقالت لي : يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح و إذا أصبح أن لا يمسي
وحين سئل عطاء السليمي : ما هذا الحزن قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي
وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء ، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه ؟ قالت : زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد(/2)
وقرأ رجل عند عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) [الفرقان : 13] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس
وأخيرا فقد قال أبو سليمان رحمه الله : عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر.
من فوائد البكاء من خشية الله
• أنه يورث القلب رقة ولينا
• أنه سمة من سمات الصالحين
• أنه صفة من صفات الخاشعين الوجلين أهل الجنة
• أنه طريق للفوز برضوان الله ومحبته
وبعد فهذه مجرد إشارات لفضيلة البكاء ، و لما كان عليه القوم الصالحون الأوائل من خشية الله والبكاء من أثر هذه الخشية فهل لنا فيهم أسوة؟(/3)
البناء العقدي في العهد المكي (1-2)
المصدر: اختيار الموقع
التاريخ: 22/07/1427
تقييم:
أولاً: فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن
إن بناء الدول وتربية الأمم, والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان, وهي كثيرة جدًا, والذي يهمنا منها في هذا الدرس ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا.
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى, التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها, والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله, والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض, فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا, والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين, لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه.
والسنن التي تحكم الحياة واعدة، فما وقع منها من زمان مضى، وسيقع في كل زمان.
والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربهم, المبرزة لهم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا ولا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط عشواء، بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة .
«إن من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهًا شاملاً رشيدًا هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ«فقه السنن» ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية, والمعادلات الحضارية
يقول الشيخ البنا في منهجية التعامل مع السنن:
«لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها, واستخدموها, وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد».
ونلاحظ عدة أمور مهمة:
1- عدم المصادمة.
2- المغالبة
3- الاستخدام.
4- التحويل.
5- الاستعانة ببعضها على بعض.
6- ترقب ساعة النصر.
إن ما وصل إليه الشيخ البنا يدل على دراسته العميقة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وتجارب الشعوب، والأمم, ومعرفة صحيحة للواقع الذي يعيشه وتوصيف سليم للداء والدواء.
إن حركة الإسلام الأولى التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين قد ذكرت بعضها بنوع من الإيجاز، كأهمية القيادة في صناعة الحضارات، وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل، وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات منهج يجب أن يتصف بالصفاء في الفهم وربانية التنزيل فكتاب الله وسنة رسوله هما المنهج النقي الذي يجب أن ترده الحركة الإسلامية، ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنة التدرج وهي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله.
ومنطلق هذه السنة إدراك أن الطريق طويل، لا سيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه أهواء الجاهلية, وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج مع حكمة ورحمة.
فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى متدرجة، تسير بالناس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز, وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدة منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك.
واعتبار هذه السنة في غاية الأهمية «ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون النظر في العواقب, ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل»(/1)
«إننا إذا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف، وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى الله عليه وسلم... فلقد كانت الأمور تسير رويدًا رويدًا حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين..».
«وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقًا، فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس, أو ملك, أو من مجلس قيادي أو برلماني، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أي بالإعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والاجتماعية.
وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن, الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين».
ثانيًا: سنة التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي
من السنن الهامة على طريق النهضة: السنة التي يقررها قول الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ ) [الرعد: 11] وارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره.
إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية, وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة.
لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم - بمنهجه القرآني- بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه, فتغير ما حوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة، ثم مكة، ثم الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم, في حركة عالمية تسبّح وتذكر خالقها بالغدو والآصال.
كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتى الأساليب, فغمرت قلوبهم معاني الإيمان, وحدث لهم تحول عظيم. قال تعالى موضحا ذلك الارتقاء العظيم: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 122].
ثالثًا: تصحيح الجانب العقدي لدى الصحابة
كان تصور الصحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة تصورًا فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأعراف: 180] فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة, وتثبيتها في قلوب المؤمنين, وإيضاحها للناس أجمعين, ذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به من الملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره, واليوم الآخر وإثبات الرسالة للرسل عليهم السلام، والإيمان بكل ما أخبروا به.
وتربى الرعيل الأول رضوان الله عليهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى, وعبدوه بمقتضاها فَعَظُم الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غاية مقصدهم وسعيهم, واستشعروا مراقبته لهم في كل الأوقات .
إن التربية النبوية الرشيدة للأفراد على التوحيد هي الأساس الذي قام عليه البناء الإسلامي وهي المنهجية الصحيحة التي سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل.(/2)
وقد آتت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ثمارها المباركة, فتطهر الصحابة في الجملة مما يضاد توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله، ولم يتبعوا أحدًا على غير مرضاة الله, ولم يحبوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله, ولم يتوكلوا إلا على الله, ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يذبحوا إلا لله, ولم ينذروا إلا لله, ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا- فيما لا يقدر عليه إلا الله- إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبدوا إلا لله وحده، ولم يشبهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزهوه غاية التنزيه .
وكما رسَّخ القرآن المكي في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة,
حول التوحيد بأنواع, وحول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة, صحح عقيدتهم حول سائر أركان الإيمان الأخرى.
رابعًا: وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره على الصحابة
ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز, فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين، وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم وحتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين.
1- الجنة لا مثيل لها
وقد جاءت الآيات الكريمة مبينة وواصفة للجنة، بما لا يمكن أن يكون له مثيل في الكون، فأثر ذلك في نفوس الصحابة أيما تأثير.
إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين, نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عز وجل شيئًا من نعيمها, إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار قال تعالى: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [السجدة: 16-17].
2- أفضل ما يعطاه أهل الجنة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيرفع الحجاب، فينظرون إلى وجه الله, فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» وجاء في رواية أخرى: ثم تلا هذه الآية: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [يونس: 26].
إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم بها مهم في نهضة أمتنا، فعندما تحيا صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة, يندفعون لمرضات الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت, وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار, ومثابرة على إعزاز دين الله.
خامسًا: وصف النار في القرآن الكريم وأثره في نفوس الصحابة
كان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه، وكانت لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم عظيم، وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة؛ لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة ومعالمها, من قبض الأرض ودكها، وطي السماء، ونسف الجبال، وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها, وتكوير الشمس, وخسوف القمر, وتناثر النجوم، وصَّور القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين( ) وكان لهذا الحديث أثره العظيم في نفوس الصحابة، وصور القرآن الكريم ألوان العذاب في النار فأصبح الرعيل الأول يراها رأي العين.
سادسًا: مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصحابة رضي الله عنهم
اهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر، قال تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [القمر: 49]، وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر.
فكان للفهم الصحيح, والاعتقاد الراسخ في قلوب الصحابة لحقيقة القضاء والقدر, ثمار نافعة ومفيدة, عادت عليهم بخيرات الدنيا والآخرة, فمن تلك الثمرات:
1- أداء عبادة الله عز وجل.
2- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك؛ لأن المؤمن يعتقد أن النافع والضار، والمعز والمذل، والرافع والخافض هو الله وحده سبحانه وتعالى.
3- الشجاعة والإقدام، فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون أن الآجال بيد الله تعالى وأن لكل نفس كتابًا.
4- الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب.
5- سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال.
6- عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين.
إن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة وهذه من باب الإشارة.(/3)
ولم تقتصر تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان الستة المتقدمة، بل صحح عندهم كثيرًا من المفاهيم والتصورات والاعتقادات, عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما, ليسير المسلم على نور من الله, يدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقق ما أراد الله منه غاية التحقيق، ويتحرر من الوهم والخرافات.
سابعًا: معرفة الصحابة لحقيقة الإنسان
إن القرآن الكريم عرَّف الإنسان بنفسه بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر، ويجيب على تساؤلات الفطرة، من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كل إنسان سوي، وتلح في طلب الجواب( ).
وبين القرآن الكريم للصحابة الكرام حقيقة نشأة الإنسانية وأصولهم التي يرجعون إليها، وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟ وما هو مصيرهم بعد الموت؟
ثامنًا: تصور الصحابة لقصة الشيطان مع آدم عليه السلام
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنهج القرآني، يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم ويشرح لهم حقيقة الصراع بين الإنسان مع عدوه اللدود, الذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [الأعراف: 27].
كانت الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة آدم وصراعه مع الشيطان, قد علمت الرعيل الأول قضايا مهمة في مجال التصور والاعتقاد والأخلاق فمنها:
1- أن آدم هو أصل البشر.
2- جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله.
3- قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة.
4- خطيئة آدم تعلم المسلم ضرورة التوكل على ربه.
5- ضرورة التوبة والاستغفار.
6- الاحتراز من الحسد والكبر.
7- إبليس هو العدو الأول لآدم وزوجه وذريتهما.
من الوسائل التي استخدمها الصحابة الكرام لمحاربة الشيطان، التخاطب بأحسن الكلام امتثالاً لقول الله تعالى: ( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ) [الإسراء: 53].
هذه صورة موجزة عن حقيقة إبليس وتصور الصحابة رضي الله عنهم لهذا العدو اللعين.
تاسعًا: نظرة الصحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات
ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كتاب الله تعالى ويربيهم على التصور الصحيح, في قضايا العقائد, والنظر السليم للكون والحياة من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فبين بدء الكون ومصيره. وقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان، لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي قررها في كل جوانب الكون والحياة.
وهكذا نظم القرآن الكريم أفكار وتصورات الرعيل الأول عن الكون وما فيه من مخلوقات وعجائب, وعن حقيقة هذه الحياة الفانية، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في غرس حقيقة المصير, وسبيل النجاة في نفوس أصحابه, موقنًا أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز, سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك السبيل، حتى يظفر غدًا بهذه النجاة وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على جانب مهم هو:
أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير.
إن كثيرا من العاملين في مجال الدعوة بهتت في نفوسهم حقيقة أن الدنيا لهو ولعب وغرور، لأنهم انغمسوا في هذه الحياة الدنيا ومتاعها, وشغفتهم حبا، فهم يلهثون وراءها، وكلما حصل على شيء من متاعها طلب المزيد, فهو لا يشبع ولا يقنع، بسبب التصاقه بالدنيا وإنها لكارثة عظيمة على الدعوة والنهوض بالأمة، أما التمتع بهذه الحياة في حدود ما رسمه الشرع واتخاذها مطية للآخرة، فذلك فعل محمود
البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي (2-2)
المصدر: اختيار الموقع
التاريخ: 29/07/1427
تقييم:
أولاً : تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات
رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها:
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى.
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة.
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده.
والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها.
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة( ).(/4)
إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن, وذكر الله تعالى, والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به.
إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم, ولعل من أبرز آثارها التي أصابت الرعيل الأول :
1- الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه: وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين استجابوا لأمره، فقال عز وجل: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [الشورى: 38].
وكان الرعيل الأول يرى أن لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة وتأثيرا في النفس وتزكية للروح.
2- مناجاة العبد ربه: وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد هذه المناجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين: قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين, قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» ( ).
3- طمأنينة النفس وراحتها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى,( ) وقد جُعلت قرة عينه في الصلاة( ), وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كثيرًا من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم, وتصبح الصلاة سلاحًا مهما لحل همومهم ومشاكلهم.
4- الصلاة حاجز عن المعاصي:قال تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [العنكبوت: 45].
كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يؤدون صلاتهم تستريح بها نفوسهم، وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، فكانت لهم سياجًا منيعًا حماهم من الوقوع في المعاصي( ).
ثانيًا: التربية العقلية
كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه شاملة؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان ككل, يتكون من الروح، والجسد، والعقل، فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ لأن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا مطلب قرآني.
ولذلك وضع القرآن الكريم منهجًا لتربية العقل, سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج:
1- تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد.
2- إلزام العقل بالتحري والتثبت.
3- دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون.
4- دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله.
5- دعوة العقل إلى النظر إلى سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر
في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول.
ثالثًا: التربية الجسدية
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديًّا، واستمد أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى.
لذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشري على النحو التالي:
1- ضبط حاجته إلى الطعام والشراب.
2- وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس ما يستر العورة، ويحفظ الجسم من عاديات الحر والبرد، وندب إلى ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد.
3- وضبط الحاجة إلى المأوى.
4- وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط.
5- وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال والعقار وفق ضوابط شرعية.
6- وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي.
7- وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعًا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله سبحانه.
8- وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة.
هذه بعض الأسس التي قامت عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة وصعوبة الحياة.
رابعًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل(/5)
إن الأخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء».
وسئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق» وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج».
إن الأخلاق ليست شيئًا ثانويًا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب، إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي, أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك؟
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطًا قويًا والأمثلة على ذلك كثيرة.
لقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم, وكلها من مكارم الأخلاق، فكانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته.
إن الأخلاق في التربية النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق، هي: الخشوع، والكلام له أخلاق, هي: الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق, هي: الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق, هي: التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق, هي: أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق, هي: العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق, هي: الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة.
إن الله سبحانه وتعالى، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته آيات سورة الإسراء [38:23] مدحًا وذمًا؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورًا وأنفة، أو الولوع بالمراء, والجدل بالباطل مغالبة وتطالعًا للظهور، أو تقليدًا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.
خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني
إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف -عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة، قال علماء الأخلاق والحكماء: «لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل».
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [يوسف: 24].
2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه ( قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) [يوسف: 77].(/6)
3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ) [يوسف: 59، 60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة.
4- ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) [يوسف: 55].
5- قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) [يوسف: 58].
6- جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) [يوسف: 4].
7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [يوسف:38] ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ ) [يوسف:101].
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: ( يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [يوسف: 39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ) [يوسف: 37] والثاني بقوله: ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [يوسف:37] وشهدا له بقولهما:( نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف:36].
9- العفو مع المقدرة: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
[يوسف: 92].
10- إكرام العشيرة: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) [يوسف: 93].
11- قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ) [يوسف: 54].
12- حسن التدبير ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) [يوسف: 47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم.
لا شك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب.
لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
أ- التشريع:
الذي وضع لحماية القيم الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بالقتل أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة المجتمع:
التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 71].(/7)
بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110].
وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية.
ج- سلطة الدولة:
التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته.
وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج الرباني.
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن.
لقد أتيح للرعيل الأول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية.. على يد مربي البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة .
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره، ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه(/8)
البهائية
رفعت عائلة بهائية مصرية قضية لدى محكمة القضاء الإداري اشتكت من إجبار ضباط مصلحة الأحوال الشخصية أفرادها على تسجيل ديانتهم كمسلمين في هوية الأحوال المدنية ورفض تسجيلهم كبهائيين. وقد حكمت المحكمة في جلسة يوم الثلاثاء 4-4-2006، برئاسة القاضي فاروق عبد القادر بحق العائلة بتسجيل ديانتها كما تشاء، وبحق البهائيين في تسجيل ديانتهم في أوراقهم الرسمية ومنع إجبارهم تسجيل أنفسهم مسلمين. والطلب من وزارة الداخلية تثبيت ذلك في أوراقهم الرسمية. ويترتب على هذا إثبات صفة «بهائي» في خانة الديانة بالوثائق الرسمية، والسماح بعودة المحافل البهائية التي أغلقها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1960.
وأشادت المنظمة المصرية بالقرار ووصفته بـ"انتصار حقيقي لحرية الدين والمعتقد التي يكفلها الدستور واتفاقيات حقوق الإنسان". وكانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوقية قد طالبت الحكومة المصرية مرات عديدة بإلغاء التمييز ضد البهائيين، باعتباره انتهاكا للعهود الدولية لحقوق الإنسان.
وقد رفض علماء أزهريون القرارَ، وأكدوا أنه يمثل انتكاسةً قضائيةً يجب التراجع عنها فورًا؛ لأن الإسلام لا يعترف بالبهائية، وهي ديانةٌ وضعيةٌ أَلصقت نفسها بالإسلام. كما أن الحكم يخالف الدستور المصري، الذي ينص على أن الدين الرسمي للدولة المصرية هو الإسلام. كما انتقد الدكتور عبد المعطي بيومي- عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر- هذا الحكم أيضًا، وقال: إن ما أقدمت عليه محكمة القضاء الإداري يخالف قواعد الدين الإسلامي ومبادئ الشريعة، وأضاف أنه رغم أن الإسلام أتاحَ الحريةَ في اعتناق الديانات، فمن شاء أن يؤمن فليؤمن، ومن شاء أن يكفر فليكفر.. إلا أن هذا لا يُبيح لمحكمة أن تُصدر قرارًا يَعترف بديانةٍ ليست موجودةً من الأصل ولم تنزل بها رسالةٌ من السماء.
تعريف البهائية:
ديانة منحرفة أسستها طائفة خرجت في إيران، جعلت لها كتاباً بدل القرآن سموه: البيان , وكتابا آخر اسمه: الأقدس , وهم يعتقدون أن البيان والأقدس أفضل من القرآن، وانهما ناسخان له, وأن قول الله: خَلَقَ الأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:3-4]، أي: علَّمه كتاب الميرزا البهائي الذي ألفه, ومقرهم في عكا ، ولهم انتشار في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
وقد اتفق علماء المسلمين على تكفيرهم, وكذلك كفرهم علماء الروافض في عصرهم.
* وقد انشقت البهائية عن البابية الضالة المنحرفة لتصبح دينا مستقلا.
تعريف بالبابية:
تأسست البابية في إيران على يد الميرزا "علي بن محمد رضا الشيرازي"، الذي ظهر حوالي سنة 1817م بكربلاء في العراق. وهو رجل مجهول الأصل والمولد والمنشأ. ويذكر بعض الباحثين أن الذي أظهر البابية هو قسيس نصراني - ادعى أن اسمه كاظم الرشتي - ورشت قرية من قرى إيران بالرغم من أن أهل رشت لا يعرفون عنه شيئًا. وقد استغل من مبادئ الشيعة الإثني عشرية فكرة الغائب بالسرداب المنتظر فعمل على إيجاد شخص يضفي عليه هذا اللقب؛ ليصل بواسطة هذا الباب إلى كل ما يريد. وقد ادّعى أن الشخص الجديد هو باب الله، وروّج له الروس على أنه هو المهدي المنتظر، ثم وصل به الحال إلى ادعاء النبوة والرسالة مستغلا هو وأصدقاؤه من الروس جهل الناس بأحكام الإسلام.
واتخذ الرشتي لنفسه مجلسًا، واستطاع أن يستميل إليه بعض ذوي النفوس المنحرفة والقلوب المريضة وجعلهم تلاميذ له. وكان من أخبث هؤلاء رجل يقال له : حسين البشروئي - من بشرويه إحدى قرى خراسان أضفى عليه المدعو كاظم الرشتي لقب كبير التلاميذ واختاره ليكون المنفذ الحقيقي لهذه المؤامرة البشعة ولقبه باب الباب.(/1)
ومن أخطر هؤلاء التلاميذ امرأة أصلها من الشيعة الإثني عشرية كانت تسمى فاطمة بنت صالح القزويني، كانت بارعة الجمال فلقبها أبوها بلقب زرين تاج؛ لأنها كانت ذات شعر ذهبي . زوجها أبوها وهي صغيرة من ابن عم لها، فنفرت منه وانفصلت عنه واتصلت بكاظم الرشتي بالمراسلة، ونشط هو في مكاتبتها؛ إذ وجد فيها ضالة منشودة له. ولقبها في رسائله لها بأنها : قرة العين: ودعاها إلى ترك قزوين والحضور إلى كربلاء غير أنه هلك قبل وصولها إليه. وما أن وصلت إلى كربلاء حتى تلقفها حسين البشروئي وبقية تلاميذ الرشتي. وقد صارت أجرأ هؤلاء التلاميذ على إعلان الخروج على الإسلام والدعوة إلى الشيوعية في النساء، ولما أخذت تطبق هذا الأمر علنًا مع بعض تلاميذ الرشتي أطلقوا عليها لقب الطاهرة. وكان من بين تلاميذ الرشتي شاب يقال له علي محمد الشيرازي، المولود بشيراز عام 1819م، وقد توفي والده وهو صغير فكفله خاله علي الشيرازي، ثم رحل به خاله إلى ثغر (بوشهر) على ساحل الخليج في مقابلة الكويت وافتتح له متجرًا هناك وقد لاحظ خاله أنه بدأ ينحرف عن مذهب الإثني عشرية وقد أصابته لوثة عقلية كانت تعتريه في بعض الأحيان فرأى خاله أن يبعثه إلى كربلاء وسنه إذ ذاك عشرون عامًا فبصر به بعض تلامذة الرشتي وحملوه إلى أستاذهم الذي أخذ يوصي إليه بقرب ظهور المهدي ويدس له من يملأ نفسه بأنه الباب.
ولما مات الرشتي توجه إلى شيراز فأقام حسين البشروئي (قرة العين) مقام الرشتي في التدريس لتلاميذ الرشتي بكربلاء وكانت قد اصطفت لنفسها من بينهم رجلاً قوياً يقال له محمد علي البارفروشي ولقبوه القدوس.
وقد توجه البشروئي إلى شيراز ولحق بعلي محمد الشيرازي وأخذ يستغل سذاجة هذا الشاب وغروره فواصل الاجتماع به وأوهمه أنه يوشك أن يكون له شأن وأنه علم من شيخه الرشتي الإشارة إلى أن علي محمد الشيرازي يمكن أن يكون هو الباب وأن البشروئي هو باب الباب ولم يزل به حتى أعلن هذا الشاب المغرور في شيراز أنه باب المهدي. وسارع حسين البشروئي؛ ليبشر بقية التلاميذ بظهور الباب وأعلن أنه هو باب الباب.
وقد ظهر أن وراء هذه العصابة الجاسوس الروسي " كنياز دالكوركي"، الذي كانت وظيفته الظاهرة مترجماً بالسفارة الروسية في طهران، تظاهر أنه اعتنق الإسلام وأخذ يلازم مجلس كاظم "الرشتي " ويغرس هذه الشجرة الملعونة في أرض الأمة الإسلامية وقد لعب دورًا خطيرًا في ضم مجموعة من الرجال إلى هذه العصابة؛ إذ جلب لها رجلاً يقال له : حسين علي المازندراني والمولود بطهران عام 1233هـ، وقد أوصى إليه هذا الجاسوس بعد ذلك بدعوى الألوهية والتلقب بالبهاء. واستعمله مخلب القط لكل ما يريد. كما ضم إلى هذه العصابة يحيى المازندراني الأخ غير الشقيق لحسين علي ولقبه بعد ذلك بصبح الأزل.
رغم انضمام "حسين علي" لدعوة "الباب الشيرازي". فإن الأخير لم يعتبره من "حروف حي" وهم الأشخاص الذين يشكلون صفوة الزعامة لدعوة البابية الضالة؛ ما دفع "حسين علي" إلى الحقد على "الباب" وتحين الفرص للانشقاق وهو ما حدث بالفعل.
ويقول هذا الجاسوس الروسي في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق "السوفيتية" سنة 1925م: "والخلاصة أني خرجت حسب الأمر في أواخر سبتمبر إلى العتبات العاليات وفي لباس الروحانية باسم "الشيخ عيسى اللنكراني". ووردت كربلاء المقدسة.
ويقول: وكان بقرب منزلي طالب علم يسمى السيد علي محمد من أهل شيراز صادقته بحرارة ، وكان يضيفني وكنا نشرب الحشيش. ثم يستمر هذا الجاسوس في مذكراته فيقول: سأل طالب تبريزي يوماً السيد كاظم الرشتي في مجلس تدريسه فقال : أيها السيد: أين صاحب الأمر الآن؟ فقال السند: أنا ما أدري ولعله هنا ولكني لا أعرفه.
ثم يشرح الجاسوس كيف حاول باستمرار الإيحاء إلى علي محمد رضا هذا أنه هو المنتظر إلى أن أقنعه بذلك بواسطة حسين البشروئي فأعلن أنه الباب.
ويصف الجاسوس نصائحه إلى هذا الباب فيقول له: إن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحملون عنك كل شيء حتى ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ فكان السيد يصغي ويستمع ، فطفق كل من الميرزا حسين علي- البهاء- وأخوه الميرزا يحيى - صبح الأزل - والميرزا رضا علي - الباب - ونفر من رفقتهم يأتونني مجدداً ولكن مجيئهم كان من باب غير معتاد للسفارة.(/2)
أعلن علي محمد الشيرازي بتشجيع حسين البشروئي وتدبير الجاسوس الروسي أنه الباب إلى الغائب الذي بالسرداب، ثم توجه من شيراز إلى بوشهر مختفياً. وأخذ البشروئي يذيع أنه رأى الباب بعينه وأخذ يدعو الناس إلى متابعته وأطلق على من تبعه اسم (البابية) ثم لم يلبث البشروئي أن حوله من باب المهدي إلى المهدي نفسه وأطلق عليه "قائم الزمان" وانضم إليه في ذلك رجل يقال له محمد علي البارفروشي وآخرون بلغ عددهم سبعة عشر رجلا ًوامرأة وهي الملقبة لديهم بقرة العين وتوجهوا إلى بوشهر واجتمعوا بزعيمهم الجديد ( الباب ) وصاروا معه تسعة عشر شخصاً. فلذلك قرر أن يجعل عدة الشهور تسعة عشر شهراً والشهر تسعة عشر يوماً واعتبر اليوم الذي أعلن فيه دعوته يوم 5 من جمادى الأولى سنة 1260 هـ هو بدء التاريخ ثم جمع جملاً متناقضة مملوءة بالسفسطات والأكاذيب وجعلها أساس دينه الجديد وسماها البيان.
ثم ادعى أنه الممثل الحقيقي لجميع الأنبياء والمرسلين فهو نوح يوم بعث نوح وهو موسى يوم بعث موسى وهو عيسى يوم بعث عيسى وهو محمد يوم بعث محمد عليهم الصلاة والسلام. ثم زعم أنه يجمع بين اليهودية والنصرانية والإسلام وأنه لا فرق بينها. ثم أنكر أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحرّم قراءة القرآن ثم زعم أن الله تعالى حلّ فيه وادعى أنه أكمل هيكل بشرى ظهرت فيه الحقيقة الإلهية. وأنه هو الذي خلق كل شيء بكلمته. وألغى الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة إلا في الجنازة وقرر أن الطهر من الجنابة غير واجب، وأن القبلة هي البيت الذي ولد به في شيراز أو البيوت التي يعيش فيها هو وأتباعه، وجعل الحج هو زيارة هذه البيوت. أما الصوم فيكون من شروق الشمس إلى غروبها لمدة شهر بابي أي تسعة عشر يوماً وينتهي بعيد النيروز المجوسي. وأباح لأتباعه خمسة أيام قبل الصيام يرتكبون فيها ما شاءوا من الشهوات وأوجب أن يؤخذ في الزكاة خمس المال، وأوجب الزواج على من بلغ الحادية عشرة من الذكور والإناث ولا يحتاج الزواج لأكثر من رضا الذكر والأنثى ويجوز إيقاع الطلاق تسع عشرة مرة وعدة المطلقة تسعة عشر يوماً، ولا يجوز الزواج بأرملة إلا بعد دفع دية وبعد انقضاء عدتها ومقداره خمسة وتسعون يوماً، وحرم على المرأة الحجاب، وقرر أنه لا وجود للنجاسة، وأوجب دفن الميت في قبر من البلور أو المرمر المصقول، مع وضع خاتم في يمناه منقوش عليه فقرة من كتابه البيان. وأوجب استقبال قرص الشمس ساعة عند شروقها.
وقد ثار علماء شيراز على دعاة البابية فقبض واليها حسين خان عليهم ، ثم أمر بإحضار الباب من بوشهر فأحضر وأحيل إلى مجلس الحاكم فخر على الأرض ترتعد فرائصه فلطمه الحاكم وبصق في وجهه ثم رمي به في السجن سنة 1847م. ثم رأى الحاكم أن يختبره بنفسه فأرسل إليه وأحضره من السجن، وأظهر له أنه تأسف على ما بدر منه فانطلق الباب المغرور يمنيه بأنه سيجعل منه سلطاناً فيما بعد على الدولة العثمانية حينما تدين الدنيا كلها له ولأتباعه. ثم فوجئ الباب بحشد من العلماء في قصر الحاكم ففزع فأوهمه الحاكم بأنه جمعهم للتمكين لدعوته وإعلانها فاغتر الباب وحضر مجلس العلماء ثابت الجنان ثم بدأ يخاطب العلماء بقوله إن نبيكم لم يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتاب البيان فاتلوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن، ولما اطلع العلماء عليه وجدوه كفراً بواحاً وأخطاء فاحشة في اللغة فلما نبهوه إلى هذه الأخطاء ألقى اللوم على الوحي الذي جاء بها هكذا.
وهنا أمر الحاكم رجاله فعلقوه من رجليه ثم انهالوا عليه ضرباً فأعلن أنه كفر بدعوته ورضي أن يطاف به في الأسواق على دابة شوهاء ثم أعيد إلى سجن شيراز.
بيد أن الجاسوس الروسي بواسطة جاسوس روسي آخر هو منوجهر خان الأرمني الذي دفعته الحكومة الروسية لإعلان إسلامه فغمره الشاه بالفضل وأولاه ثقته وعينه معتمداً للدولة في أصفهان استطاع ر هذا أن يخلص الباب من السجن ويهربه إلى أصفهان. ولما مات منوجهر عثر بالباب يمرح في قصره فقررت الحكومة نفيه إلى قلعة ماكو بأذربيجان.
*مؤتمر بدشت سنة 1264هـ
اجتمع الدعاة المرتدون الثمانية عشر وقرروا أن يحضروا معهم كل الذين استمالوهم وأن يعقدوا منهم مؤتمراً في صحراء بدشت بين خراسان ومازندران وعلى رأسهم باب الباب (حسين البشروئي) وقرة العين وحسين علي المازندراني الذي تلقب فيما بعد بالبهاء وجعلوا الدعوة الظاهرة لهذا المؤتمر هي التفكير في الوسائل الممكنة لإخراج الباب من السجن، أما المقصود لهذا المؤتمر فهو إعلان نسخ دين الإسلام. وما أن انعقد المؤتمر حتى اندفعت قرة العين تلهب حماسهم وتقرر حقيقة نحلتهم الجديدة فقالت:(/3)
اسمعوا أيها الأحباب والأغيار إن أحكام الشريعة المحمدية قد نسخت الآن بظهور الباب وأن أحكام الشريعة الجديدة البابية لم تصل إلينا، وإن اشتغالكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل، ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل. إن مولانا الباب سيفتح البلاد ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم المسكونة وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة حتى لا يبقى إلا دين واحد وذلك الدين الحق هو دينه الجديد. وبناء على ذلك أقول لكم وقولي هو الحق: لا أمر اليوم ولا تكليف، ولا نهي ولا تعنيف فاخرجوا من الوحدة إلى الكثرة ومزقوا هذا الحجاب الحاجز بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال، واصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن من الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وأن الزهرة لا بد من قطفها وشمها؛ لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف والكم، فالزهرة تجني وتقطف، وللأحباب تهدي وتتحف. وأما ادخار المال عند أحدكم وحرمان غيركم من التمتع به فهو أصل كل وزر وأساس كل وبال ، لا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم إذ لا ردع الآن ولا حد ، ولا منع ولا تكليف ولا صد ، فخذوا حظكم من هذه الحياة فلا شيء بعد الممات.
وبعد انفضاض المؤتمر وتسرب أنبائه ثارت ثائرة رجال الدين والدولة في إيران فطلب الشاه من ولي عهده ناصر الدين وهو في تبريز أن يحضر الباب من سجنه فأقر الباب أمام العلماء بأنه جاء بدين جديد فوجه إليه العلماء هذا السؤال : ما النقص الذي رأيته في دين الإسلام وما الذي كملت به هذا النقص لو كان؟ فارتج الدعي ولم يجد شيئاً، فاستقر الرأي على وجوب قتله مرتداً بعد أن أطبق العلماء على كفره وردته.
ولما جاء وقت التنفيذ حمل الباب من سجنه ومعه أحد أتباعه لإعدامهما في أحد ميادين تبريز الذي كان مكتظاً بفئات كثيرة من الناس حضروا ليشاهدوا مصرع هذا الضال بيد أن القنصل الروسي استطاع أن يتصل بقائد الفرقة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام وأن يغريه برشوة كبرى ليحاول إنقاذ الباب. وشد هذا الباب إلى عمود طويل ومعه تابعه والناس يلعنونه ويستعجلون الفتك به، وأطلق الجنود ثمانمائة رصاصة استقرت كلها في جسد تابعه المغرور غير واحدة من هذه الرصاصات فقد قطعت الحبل الذي ربط به الباب وحينما إنجاب الدخان الكثيف رأى الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود، أما الباب فقد فر، غير أن بعض الجند الذين كانوا يعرفونه ويجهلون قصد قائدهم مزقوا جسده بالرصاص فانهار قنصل الروس وبكى من هول ما أصيب به. وقد تركت جثته في خندق طعاماً للوحوش بعد أن صور قنصل الروس الجثة وبعث بالصورة إلى حكومته
ثم نكلت الحكومة بأتباعه وأعدمت الكثير منهم ومن بينهم قرة العين.
من البابية إلى البهائية:
بعد أن قُتل الباب حاول الروس اختيار شخص آخر من أتباعه ليكون خليفة له، ويقول الجاسوس الروسي كنيازد الكوركي في مذكراته: قلت لميرزا حسين علي - البهاء - ونفر آخرين أن يثيروا الغوغاء بالضجيج والنظاهر، ففعلوا وأطلقوا الرصاص على الشاه ناصر الدين. فقُبض على كثيرين، منهم حسين علي المازندراني وبعض آخر من أصحاب السر، فتوسطت لهم وشهدت ومعي عمال السفارة وموظفوها أن هؤلاء ليسوا بابيين، فنجيناهم من الموت وسيرناهم إلى بغداد. وقلت لميرزا حسين علي: اجعل أنت أخاك الميرزا يحيى وراء الستر وادعوه (من يظهره الله)، وأعطيتهم مبلغاً كبيراً فألحقت به في بغداد زوجته وأولاده وأقرباءه. فشكلوا في بغداد تشكيلات وجعلوا له كاتب وحي. وواصلت السفارة الروسية في طهران دعمها لكل من اعتنق البهائية، بل لم يكن لهم البتة مأوى سوانا.
دب الخلاف بين البابيين فتبعت جماعة حسين المازندراني وتبعت أخرى أخاه يحيى ورفضت جماعة أن تنصاع لأحد الرجلين. وبدأ النزاع بين هذه الفرق الثلاث. وتأكد لشاه إيران أن البابية رغم مقامهم في بغداد بعيدا عن حدوده ما زالوا يمثلون خطراً داهما على دولته فطلب من الحكومة العثمانية إخراجهم من العراق، فأصدرت أمرا بنفي حسين المازندراني وأخيه وأتباعهما إلى الآستانة سنة 1281هـ.
وتجمع هؤلاء في حديقة نجيب باشا والي بغداد استعداداً للرحيل فاستغل حسين المازندراني اجتماع هؤلاء وأعلن أنه الموعود الذي جاء الباب ليبشر به وأنه بهاء الله، وان الغاية من ظهور الباب أنها كانت لإعداد الناس لقدوم بهاء الله. وما أن وصل هؤلاء إلى الآستانة حتى طلب السفير الإيراني نقلهم إلى مكان بعيد عن العاصمة فنقلوا إلى أدرنة وفيها احتدم النزاع بين الأخوين فعرف أتباع يحيى بالأزليين؛ إذ صار يحيى يلقب صبح الأزل وعُرف أتباع حسين بالبهائيين إذ أطلق على نفسه لقب بهاء الله.
وحاول حسين القضاء على أخيه بدس السم له كما حاول قتله غيلة مما حدا بالحكومة إلى نفي يحيى إلى قبرص ونفي حسين إلى عكا في فلسطين وقد عمدت الحكومة العثمانية إلى إقامة عيون على كل واحد من الأخوين من أتباع الآخر.(/4)
وما أن وصل حسين إلى عكا واستمر في سجنها حوالي أربعة أشهر حتى امتدت الأيدي الماسونية والصهيونية لإمداده بالمال الوفير وتهيئته للدعوة لدينه الجديد، وأطلق سراحه من السجن فاستقبل مع أتباعه استقبالا حافلا من قبل اليهود الذين دعموه بالمال وخالفوا فرمانات الباب العالي القاضية بفرض الإقامة الجبرية عليه وأسكنوه قصرا يعرف باسم "البهجة" وفي عكا ما لبث أن دبّر مؤامرة لأتباع أخيه فأبادهم ليلاً بالحراب والسواطير مما حمل الحكومة على اعتقال البهائيين في أحد معسكرات عكا. كما وضع أتباعه في منزل آخر وأذن لأتباعه ولغيرهم في زيارته والتحدث إليه.
بدأ حسين المازندراني بدعوى أنه وصي الباب ثم زعم أنه المسبح قد نزل ثم ادعى لنفسه النبوة ثم زاد في تبجحه وادعى إنه إله السماوات والأرض زاعماً أن الحقيقة الإلهية لم تنل كمالها الأعظم إلا بتجسدها فيه. وقد أمدته الصهيونية بلقب بهاء الله الموجود في المزامير إذ قد ردد فيها (أن السماوات تحكي عن بهاء الله) فزعم أو زعموا له أنه هو هذا البهاء وأنه مظهر الله الأكمل، وأنه موعود كل الأزمنة ومجيئه الساعة الكبرى وقيامه القيامة والانتماء إليه هو الجنة ومخالفته هي النار، حتى وصل به الحال إلى ادعاء الألوهية ووضع برقعا على وجهه؛ بزعم أنه لا يجوز لأحد أن يطلع على بهاء الله!!
وأخذ ينسخ من البابية ما لا يوافق هواه، وألف الإتقان والإشتراقات ومجموعة الألواح والأقدس المطبوع ببغداد لأول مرة عام 1349هـ، في 52 صفحة وهو أهم كتاب عندهم وهو في نظرهم أقدس من جميع الكتب المقدسة وقد حشاه بالآراء المضطربة والأقوال المتناقضة، ولم يخرج في جملته عن مثل ضلالات شيخه الباب.
*هلاك حسين المازندراني
استمر حسين المازندراني في نشر افتراءاته بدعم المؤسسات الماسونية والصهيونية، التي اتخذته مطية لتحقيق أهدافها. وفي أواخر حياته أصيب بالجنون فحبسه ابنه عباس حتى لا يراه الناس وتكلم باسمه، إلى أن أنهكته الحمى فهلك في مايو 1892. وقيل أنه قتل على يد بعض البابيين فتولى "عباس أفندي"، أكبر أولاده الذي كان قد سماه (عبد البهاء) زعامة البهائيين. وكان قبل هلاكه قد جمع وصف الألوهية له ولولده هذا؛ إذ كتب له يقول: من الله العزيز الحكيم إلى الله اللطيف الخبير"، كما كان يلقبه بالفرع العظيم المتشعب من الأصل القديم. وقد ترك وراءه من زوجتيه أربعة أبناء وثلاث بنات.
*تنازع الإخوة على الرئاسة
عندما أعلن عباس (عبد البهاء) أنه وصي أبيه نازعه أخوه محمد علي وانضم إليه بقية إخوانه غير أنه استطاع أن يستأثر بالأمر دونهم. وقد كان عباس هذا أشد مكراً من أبيه وأعرق في الخبث والدهاء. انتقل إلى حيفا حيث أخذ يضم إلى ضلالات أبيه ضلالات أخرى وأخذ يتزلف إلى كل أعداء الإسلام في الأرض، فحضر الصلوات في المساجد والكنائس، وأعلن أن عيسى عليه السلام هو ابن الله، وأعلن إيمانه بألوهية المسيح وصلبه، فقال: ولما أشرقت كلمة الله من أوج الجلال بحكمة الحق المتعال وقعت في أيدي اليهود أسيرة لكل ظلوم وجهول وانتهى الأمر بالصلب.
وادعى أن البهائي يجمع بين جميع الديانات فهو يقول في " خطابات عبد البهاء ص99: اعلم أن الملكوت ليس خاصاً بجمعية مخصوصة فإنك يمكن أن تكون بهائياً مسيحياً وبهائياً ماسونياً وبهائياً يهودياً وبهائياً مسلماً. ودعا إلى التجمع الصهيوني والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بقوله: وفي هذا الزمان وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة وتتجمع أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال، فالآن تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة ويمتلكون الأراضي والقرى ويسكنون فيها ويزدادون تدريجياً إلى أن تصير فلسطين كلها وطناً لهم.
استمر هذا الأفاك في نشر ضلالاته وضلالات أبيه حتى أهلكه الله في يوم الاثنين السادس من ربيع الأول سنة 1340 هـ عن ثمان وسبعين سنة بعد أن عهد إلى المدعو شوقي ابن بنته ضيائية نكاية في أخيه محمد علي الذي استمر مناوئاً له إلى آخر رمق.
*عقيدتهم وعباداتهم
استمر البهائيون حتى يومنا هذا بإظهار عقيدة وسلوكيات غير ما يبطنون فلهم من المعتقدات ما لا يظهر حتى في كتبهم المتداولة عملا بمبدأ "التقية". واخترع هؤلاء المجرمون لأنفسهم تاريخاً جعلوا مبدأه يوم إعلان دعوة الباب وهو 5 من جمادى الأول سنة 1260هـ وجعلوا أشهر السنة تسعة عشر شهراً واخترعوا لهذه الشهور أسماء من وحي خيالهم وهي:
البهاء - الجمال - العظمة - النور - الرحمة - الكلمات - الأسماء - الكمال - العزة - المشيئة - العلم - القدر - القول - المسائل - الشرف - السلطان - الملك - العلا.
* الإيمان بحلول الله في بعض خلقه، وأن الله قد حلَّ في "الباب" و"البهاء".
* جحدوا كل أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، ويعتبرون كل ما يضاف إلى الله عز وجل إنما هم رموز لأشخاص امتازوا من بين البشر، فهم مظاهر أمر الله ومهابط وحيه(/5)
* الإيمان بتناسخ الكائنات، وأن الثواب والعقاب يقع على الأرواح فقط.
* الاعتقاد بأن جميع الأديان صحيحة، وأن التوراة والإنجيل غير محرَّفين، ويرون ضرورة توحيد جميع الأديان في دين واحد هو البهائية.
* يقولون بنبوة بوذا وكنفوشيوس وبراهما وزرادشت وأمثالهم من حكماء الهند والصين والفرس.
* ينكرون معجزات الأنبياء
* يحرمون الحجاب على المرأة، ويحللون المتعة، ويدعون إلى شيوعية النساء والأموال.
* يقولون إن دين الباب ناسخ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
* كتاب "الأقدس " الذي وضعه البهاء حسين وعن الكتب المقدسة لدى البهائيين فإنها تربو على مئة كتاب، أبرزها »الكتاب الأقدس« الذي يتضمن كل أفكار »بهاء الله«، ويعتقدون أنه ناسخ لجميع الكتب السماوية بما فيها القرآن الكريم.بالإضافة إلى كتاب »الاشراقات« و»البشارات« و»الإيقان«.
*يعتقدون بألوهية الفرد وبوحدة الوجود والحلول وأن لا انفصال بين اللاهوت والناسوت للبهاء ولهذا وضع برقعا على وجهه. وجاء في كتاب "الأقدس": "من عرفني فقد عرف المقصود، ومن توجه إلي فقد توجه إلى المعبود".
• يقولون إن الوحي لا يزال مستمرا وإن المقصود بكون محمد خاتم النبيين هو أنه زينة.
• يصفون المسلمين بأوصاف قبيحة، جاء في كتاب "الإيقان":"وجميع هؤلاء الهمج والرعاع يتلون الفرقان(القرآن الكريم) في كل صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود".
• يحرمون ذكر الله في الأماكن العامة ولو بصوت خافت، جاء في كتاب "الأقدس": "ليس لأحد أن يحرك لسانه ويلهج بذكر الله أمام الناس، حين يمشي في الطرقات والشوارع".
• يعتقدون بقدسية العدد 19 فالسنة 19شهرا والشهر 19 يوم. والتركيز على رقم 19 يعود الى أن البهائيين يؤمنون - فيما يؤمنون به من خرافات - بالقيمة العددية للحروف والتي تفتح الباب على مصراعيه للتأويلات والتفسيرات الأهوائية. والقاعدة في هذا المجال تقوم على أن عدد حروف البسملة هو 19، وكلمة (واحد) تساوي وفق القيمة العددية للحروف - 19 ؛ حيث و = 6؛ والألف = 1؛ وال ح = 8؛ وال د = 4)!.
• يعتقدون أن القيامة مجيء البهاء في مظهر الله تعالى.
• لا يؤمنون بالجنة أو النار.
*جرأت البهائية على التلاعب بالنصوص وأولتها على طريقتها الباطنية الملحدة، ومن ذلك:
1. القيامة في القرآن المقصود بها قيامة البهاء بدعوته وانتهاء الرسالة المحمدية.
2. النفخ في الصور دعوة الناس إلى إتباع البهاء.
3. البرزخ هي المدة بين الرسولين محمد صلى الله عليه وسلم والباب الشيرازي.
4. إذا الشمس كورت: أي انتهت الشريعة المحمدية وجاءت الشريعة البهائية.
5. إذا العشار عطلت: أي تركت الإبل واستبدل عنها بالقاطرات والسيارات والطائرات.
6. إذا الوحوش حشرت: أي جمعت في حدائق الحيوانات في المدن الكبيرة.
7. إذا البحار سجرت: أي اشتعلت فيها نيران البواخر التجارية.
8. إذا النفوس زوجت: أي اجتمعت اليهود والنصارى والمجوس على دين البهاء.
9. إذا الموءودة سئلت: أي أسقطت الأجنة من بطون الأمهات فيسأل عن ذاك من سن القوانين التي تمنع الإجهاض.
10. إذا الصحف نشرت: أي انتشرت الجرائد والمجلات وكثرت.
11. إذا السماء كشطت: أي انقشعت، أي أن الشريعة الإسلامية لم يعد يستظل بها أحد.
12. وإذا البحار فجرت: أي وصل بعضها ببعض عن طريق القنوات.
13. إذا الجحيم سعرت: لمن عارض البهاء
وإذا الجنة أزلفت الأولى: لأتباعه المؤمنين به.
14. إذا القبور بعثرت:أي استخرجت الأشياء والتحف ذات القيمة.
15. إذا الجبال سيرت: الجبال هنا هم الملوك والوزراء دونوا لهم دساتير يسيرون بموجبها، وهي الدساتير الحديثة.
16. هل ينظرون إلا تأويله: إلى آخر الآية الكريمة أي مجيء البهاء.
17. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة:الحياة الدنيا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والآخرة هي الإيمان بالبهاء.
18. فريقاً هدى: أي الذين آمنوا بالبهاء، وفريقاً حق عليهم الضلالة: الذين أبوا الإيمان به.
19. ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم: أي علم دين البهاء والإيمان به، لقد لبثتم في كتاب الله –الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم – أي لبثتم في إقامة كتاب الله وهو القرآن الكريم والعمل بشريعته إلى يوم البعث؛ أي إلى قيام بهاء الله وظهوره، فهو المراد بالبعث، أي خروج الناس من دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى دين البهاء.
20. إذا السماء انفطرت: أي سماء الأديان انشقت.
21. إذا الكواكب انتثرت: هم رجال الدين لم يبق لهم أثر على الناس.
22. وإذا القبور بعثرت:أي فتحت قبور الآشوريين والفراعنة والكلدانيين لأجل الدراسة.
23. والسموات مطويات بيمينه: الأديان السبعة البرهمية البوذية، والكونفوشستية، الزرادشتية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام، مطويات جميعاً بيمين البهاء.
• لا يؤمنون بالملائكة والجن.(/6)
• لا يؤمنون بالحياة البرزخية بعد الموت بل يقولون أنها المدة بين محمد والباب الشيرازي.
• يحرمون الجهاد والحرب تحريما قطعيا ومطلقا وهذا أحد أسرار علاقتهم بالقوى الاستعمارية. كما أنهم يحرمون الخوض بالسياسة، كما أن كتب البهاء تدعو للتجمع الصهيوني في فلسطين!
• يبيحون المتعة الحرام للنساء، والزنا بالإكراه له عقوبة مالية فقط.
• لا يعتقدون بالانتماء للوطن تحت دعوى وحدة الأوطان وكذلك يدعون إلى إلغاء اللغات والاجتماع على اللغة التي يقررها زعيمهم!
* يتبعون التقية في عقيدتهم فيظهرون خلاف ما يبطنون ولقد بين الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله ذلك وقال إن شعارهم:"احفظ مذهبك وذهبك وذهابك".
*أما عباداتهم فهي كعقيدتهم ضالة وغريبة عجيبة:-
1. الصلاة: لا يبيحون الصلاة في جماعة إلا على الميت والصلاة عندهم ثلاث مرات هي الصبح والظهر والمساء في كل مرة ثلاث ركعات دون تحديد لكيفية معينة.
2. أما قبلتهم فهي نحو قصر البهجة في عكا. والوضوء فقط للوجه واليدين بماء الورد وان لم يوجد فيقولون باسم الله الأطهر الأطهر خمس مرات !
3. لا يعتقدون بالنجاسة من الجنابة أو سواها لأن من اعتقد بالبهائية فقد طهر!
4. الصوم: تسعة عشر يوما في السنة وهي من 2-21 مارس الذي يعرف عندهم باسم شهر "العلاء" وهو آخر الشهور البهائية. وهو من سن 11-42 ويعفى منه الكسالى ومن يعملون أعمالا مرهقة وغيرهم! ، وفيه يجب الامتناع عن تناول الطعام من الشروق إلى الغروب، ويعقب شهر صومهم عيد النيروز.
5. الزكاة: 19% من رأس المال تدفع مرة واحدة!
6. الحج: لقبر البهاء بقصر البهجة في عكا! وهو للرجال دون النساء
7. العقوبات: ألغوها جميعا عدا الدية.
8. الزواج: لواحدة أو اثنتين على الأكثر، مع إباحة زواج الشاذين، كما يحرم زواج الأرامل إلا بعد دفع دية معينة والأرمل يتزوج بعد 90 يوما والأرملة بعد 95 يوما. وجعلوا المهر تسعة عشر مثقالاً.
**علاقتهم بالصهيونية
رأينا كيف اتصل البهاء باليهود في تركيا وكيف احتفى به اليهود في عكا وأعدوا له قصر البهجة. أما ابنه عباس أفندي "عبد البهاء" فقد استقبل الجنرال اللنبي بحرارة، عقب سقوط فلسطين، وحصل على لقب"سير"، ومنح عددا من الأوسمة الرفيعة، وحضر المؤتمرات الصهيونية ! وبعد عباس أفندي تولى زعامتهم صهيوني أمريكي يدعى "ميسون" ولقد عقدوا مؤتمرا لهم سنة 1968 في فلسطين المحتلة وجاءت قرارات ذلك المؤتمر موائمة للأفكار والرؤى الصهيونية.
* وللعلم فإن أبرز مكونات العقيدة اليهودية واضحة جدا في نظيرتها البهائية.
فمبدأ حلول الإله في مخلوقاته يشكل دعامة العقيدة اليهودية وأساس تفسيرها للوجود والإنسان والحياة. وأساسها فكرة توحد »شعب الله المختار في « جوهر الخالق »يهوه« ومفهوم النبوة في اليهودية هو نفسه في البهائية مع فارق سطحي هو أن الحاخامات هم الموحى إليهم كأنبياء ومبشرين«.
وعن فكرة المعاد، فإن اليهودية لا تؤمن بوجود عقاب وجزاء أخرويين، بل تذهب إلى أن محاسبة الروح يتم على الأرض، وأن روح اليهودي وحدها التي تنجو من العقاب »لماهيتها الإلهية«، أما أرواح الآخرين فمصيرها الشقاء الدائم. والبهائية تقتفي أثر اليهودية في نظرتها إلى علامات يوم الخلاص، حيث تعتبر أن قضية الخلاص مرتبطة بعودة اليهود إلى »أرض الأجداد« فلسطين.
وبهذا الخصوص كتبت لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة تقريراً أشارت إلى أن علاقة البهائيين باليهود في فلسطين هي أعمق من علاقة المسلمين بفلسطين، وأن البهائيين يدعمون تشكيل دولة صهيونية.
ويرى عباس أفندي أيضاً »إن النجاح الذي بدأ اليهود يحققونه في عهده دليل على عظمة بهاء الله وعلى عظمة دورته الإلهية«!!.
وفي 30 يونيه 1948 بعث الزعيم البهائي وقتذاك أشوجي أفندي رباني برسالة إلى بن جوريون »يعبر له عن أطيب تمنياته من أجل رفاهية الدولة الجديدة مشيراً إلى أهمية تجمع اليهود في مهد عقيدتهم. كما أن زيارات البهائيين إلى الكيان اليهودي الغاصب لم تعرف الانقطاع طيلة المراحل السابقة، وهي تأخذ بعداً دينياً عميقاً، يتمثل في كون أهم مركز ديني بهائي في العالم مُقام في مدينة حيفا على جبل الكرمل. وقد تم منذ حوالي عقدين إنشاء قصر ضخم في نفس المدينة ليستوعب عدد الزائرين سنوياً من بهائيي العالم.
**عددهم وأماكن وجودهم
أما عن عدد البهائيين في العالم فإنه طي الغموض، والمؤشرات المتوفرة تذهب إلى أن عددهم يفوق بأضعاف الرقم المعلن وهو مليونا بهائي. وهم يوجدون في أكثر من 230 بلداً وفقاً لمصادرهم الخاصة على شبكة الانترنت. وأكثر ما يتركز نشاطهم في أفريقيا والهند وفيتنام، وفي مناطق واسعة من أميركا اللاتينية، وعلى سبيل المثال، يوجد في البيرو وبوليفيا قرى تنتمي بكاملها إلى البهائية.(/7)
وفيما يختص الهيئة الإدارية للحركة البهائية، فإنها تنقسم الى هيئتين حاكمتين: »إحداها إدارية والأخرى تعليمية، أما الهيئة الإدارية، فهي تتكون من المجالس الروحية القومية، وأما المجالس المحلية فهي تتكون من تسعة أشخاص )والتي يمكن تأسيسها أينما وُجد تسعة بهائيين(وبيت العدل العمومي) وهو الهيئة العليا ولها سلطة تغيير كافة القوانين حينما تدعو إلى ذلك التغيرات الدنيوية. ثم هناك الهيئة التعليمية وهي مكونة من بناء هرمي من المجالس والقادة.
انحسر وجودهم في مصر التي كانوا قد افتتحوا بها محافل خاصة بهم وصدر قرار جمهوري سنة 1960 برقم 263 بإغلاق تلك المحافل والمراكز، ولم يعد لهم في مصر وجود يذكر، وفي العراق انحسر وجودهم وحتى الدار التي أقام بها البهاء حسين بعد نفيهم من العراق اشتراها مسلمون. ورغم أن البهائيين حاولوا شراءها بمبالغ مالية ضخمة إلا أن المسلمين رفضوا بيعها لهم. ومن حيث العدد فإن إيران أكبر تجمعاتهم، ولهم وجود بسيط في سوريا وفي فلسطين، إلا أن أهم وجود لهم هو في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ عددهم 2مليون ينتسبون إلى 600 جمعية منها حركة شبابية مقرها نيويورك تسمى " قافلة الشرق والغرب ". وأكبر معبد لهم في العالم موجود في شيكاغو ويدعى "مشرق الأذكار"، ورغم قلة عددهم إلا أن لهم ممثلا في الأمم المتحدة والهيئات الدولية المختلفة مثل اليونيسيف واليونسكو وغيرها.
وتتعمد الولايات المتحدة وأوروبا بين الفينة والأخرى إثارة قضيتهم تحت مسمى حقوق الإنسان وحرية المعتقد وهم يقولون إن الحكومة في طهران تضطهدهم
*نماذج من كلام البهاء
يقول البهاء " انتهت قيامة الإسلام بموت علي محمد الباب، وبدأت قيامة البيان ودين الباب بظهور من يظهره الله – يعني نفسه - فإذا مات انتهت قيامته، وقامت قيامة الأقدس ودين البهاء ببعثة النبي الجديد "كتاب الإيقان ص 71.
ويقول في كتاب البديع ص 113: " كان المشركون أنفسهم يرون أن يوم القيامة خمسون ألف سنة!! فانقضت في ساعة واحدة !!
ويقول في كتابه الأقدس ص 34 " ليس لأحد أن يحرك لسانه ويلهج بذكر الله أمام الناس حين يمشى في الطرقات والشوارع".
ويقول في ص 41 " كتب عليكم تجديد أثاث البيت في كل تسعة عشر عاماً ". ويقول: " أُحِلُ للرجل لبس الحرير لقد رفع الله حكم التحديد في اللباس واللحى".
ويقول:" قد منعتم من ارتقاء المنابر فمن أراد أن يتلو عليكم آيات ربه فليجلس على الكرسي" .
**خاتمة: رأي علماء المسلمين في البهائية
البهائية دين مستقل وليست فرقة أو مذهبا كما يروج البعض. وقد قررت المحكمة الشرعية العليا في مصر سنة 1925 أن الدين البهائي دين مستقل عن الدين الإسلامي. وأفتى علماء السنة والشيعة بكفرهم وبطلان عقائدهم. فعلماء السنة أمثال د.محمد سعيد رمضان البوطي ود.يوسف القرضاوي والشيخ محمد متولي شعراوي ومشيخة الأزهر الشريف وعلماء السعودية والعراق واليمن وفلسطين قرروا أن البهائيين كفرة لا يزوَّجون ولا يتزوج منهم ولا يحل أكل ذبيحتهم ولا يدفن موتاهم في مقابر المسلمين.
* نص فتوى دار الإفتاء بالأزهر :
" بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
فالبهائية فرقة مرتدة عن الإسلام، لا يجوز الإيمان بها، ولا الاشتراك فيها، ولا السماح لها بإنشاء جمعيات أو مؤسسات؛ لأنها تقوم على عقيدة الحلول، وتشريع غير ما أنزل الله، وادعاء النبوة، بل والألوهية، وهذا ما أفتى به مجمع البحوث الإسلامية في عهد الشيخ جاد الحق، وأقره المجمع الحالي .
يقول فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق – رحمه الله :
.. والبابية أو البهائية فكر خليط من فلسفات وأديان متعددة، ليس فيها جديد تحتاجه الأمة الإسلامية لإصلاح شأنها وجمع شملها، بل وضُح أنها تعمل لخدمة الصهيونية والاستعمار، فهي سليلة أفكار ونحل ابتليت بها الأمة الإسلامية حربا على الإسلام وباسم الدين " ا.هـ .
• فتوى الشيخ ابن باز مفتي المملكة السعودية، رحمه الله،: الذين اعتنقوا مذهب (بهاء الله) الذي ادعى النبوة، وادعى أيضا حلول الله فيه، هل يسوغ للمسلمين دفن هؤلاء الكفرة في مقابر المسلمين؟
فأجاب: إذا كانت عقيدة البهائية كما ذكرتم فلا شك في كفرهم وأنه لا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين؛ لأن من ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كاذب وكافر بالنص وإجماع المسلمين؛ لأن ذلك تكذيب لقوله تعالى:{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، ولما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وهكذا من ادعى أن الله سبحانه حال فيه، أو في أحد من الخلق فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الله سبحانه لا يحل في أحد من خلقه بل هو أجل وأعظم من ذلك، ومن قال ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين، مكذب للآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه فوق العرش، قد علا وارتفع فوق جميع خلقه.(/8)
وهذا الذي أوضحه لك، هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي درج عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ودرج عليها خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها
كما يقول الشيخ محمد السند أحد علماء الشيعة:"هم معدودون من الكفار؛ لأنهم كفروا بدين الإسلام...ومن كان على دين الإسلام فاعتنق البهائية فهو مرتد، ومثله من تشهد بالشهادتين ومع ذلك يعتنق البهائية فإنه مرتد أيضا"
أخيرا:
* من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن حفظ لها أصول دينها: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، والذكر يشمل القرآن والسنة، وأن هيأ لها العلماء الربانيين، والأحبار الراسخين، الذين ينفون عن الكتاب والسنة تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
* لقد ابتليت الأمة الإسلامية في هذا العصر بكم هائل من الحركات الهدامة، والأفكار المنحرفة، والعقائد الباطلة، ما لم تواجه به في عصورها المختلفة، ولولا أن الله عصمها من أن تجتمع على ضلالة لاندثرت معالمها وعفي أثرها، كيف لا؟ وقد تجمعت قوى الشر واتحدت، وعملت بخطى ثابتة، وخطط مدروسة، ونَفَس طويل على إزالة الإسلام من الساحة، بحيث لم يدر المصلحون من أين يبدأون ولا بم يهتمون.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
مما يجعل المرء يعجب لصمود هذا الدين، ويتساءل:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم
ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم
**الخلاصة
أولاً: البهائية من الحركات الباطنية الهدامة والعقائد الباطلة التي قامت على أنقاض الإسلام.
ثانياً: الدخول في هذه النحلة والإيمان بما جاءت به يعتبر كفراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: لا يحل لمؤمن أن يتعاون مع هذه النحلة أو أحد من أفرادها بأي نوع من أنواع التعاون، نحو تأجير المحال لهم أو العمل معهم.
رابعاً: ينبغي لولاة الأمر أن يقضوا على هذه النبتة الشيطانية في مهدها، وأن لا يسمحوا لها بالعمل تحت أي مظلة من المظلات.
خامساً: لا ينبغي لمسلم أن يتعاطى شيئاً من المساعدات من هذه النحلة المشبوهة، إذ لا يحل لأحد أن يبيع دينه بعرض من أعراض الدنيا مهما كانت حاجته.
سادساً: فضح مثل هذه الحركات وبيان مخالفتها للإسلام من أجل القربات.(/9)
البوسنة و الهرسك
دراسةٌ عامّةٌ
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله كما ينبغي لجلاله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمّد و آله ، و بعد
فمنذ قرنٍ من الزمان و الأقلّيات الإسلاميّة في أنحاء العالم تئن تحت وطأة جور أهل الصليب و عبّاد الأوثان ، بعد أن سقطت الخلافة و تداعت عليهم الأمم من كل جانب .
و من تلك الأقلّيات شعوب من المسلمين في الغرب الإسلامي يعيشون غرباء في منطقة البلقان ، و لا يكاد يعرفهم أو يسمع بهم أحد .
شعوب كانت أرض الإسلام في بلادهم خصبة ، و دعوة أهل السنة في حياتهم ريّانةً رطبة ، حيث العلم و العلماء ، و المعاهد و المدارس في مختلف الأنحاء .
عاشوا أعزّةً بالإسلام قروناً حتى غابت عنهم شمس الخلافة ، و عدت عليهم العوادي ، فقتلت عالمهم ، و مسخت هويتهم ، و أبعدتهم عن دينهم بالوعيد و التهديد ، و النار و الحديد ، حتى نشأ فيهم نشؤٌ لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ، و من القرآن إلا رسمه ، بل أصبح كثيرٌ منهم لا يعرف حتى ذلك الرسم المبارك .
و مع تقادم الزمن نسي المسلمون أن لهم إخواناً في العقيدة ، يعيشون تحت الحكم الشيوعي في دولة عنصرية تدعى ( يوغسلافيا ) و يصورها الإعلام العربي دولةً صديقةً ذات مواقف مشرفة من قضايا العرب و المسلمين في أنحاء العالم ، و خاصةً قضيّة فلسطين ، في إطار ما كان يعرف بحركة عدم الانحياز .
و صحا العالم كله بما فيه المسلمون في مشارق الأرض و مغاربها على صرخات الاستغاثة التي انبعثت من حناجر المسلمين البشانقة ( أهل البوسنة و الهرسك ) و قد أعمل فيهم الصرب و الكروات و من تبقى من الشيوعيين الذين يحمل بعضهم أسماء إسلامية القتل و التشريد ، في زمن تقاعس فيه المسلمون و تسلط فيه الحاقدون .
غير أن الله تعالى قيّض من أبناء هذه الأمة من يرفع لواء الجهاد في سبيله في كل عصر و مصر ، و من هؤلاء { رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلاً } [ الأحزاب : 23 ] .
و كان نصيب البوسنة من هؤلاء الرجال وافراً ، حيث تجمّع على أرضها آلاف الأنصار ، و عامّتهم من العرب ؛ منهم من يجاهد في الله بسلاحه ، و يجود بنفسه ، و منهم من يعمل في حقل الدعوة إلى الله ، ليبصر إخوانه المسلمين بحقيقة و أهداف المعركة التي يخوضونها مرغمين ، و يسعى لتعليمهم أمور دينهم و ردهم إليه رداً جميلا ، إلى جانب من هبَّ يجاهد بماله ، و يغيث إخوانه منفقاً من بعيد ، أو عاملاً في الميدان ؛ منفرداً أو تحت مظلة إحدى الهيئات الخيرية العاملة في البوسنة و الهرسك أثناء الحرب الأخيرة .
و قد أكرمني الله تعالى بشرف التعاون مع هؤلاء الأخيار ، حيث كنت ـ و الحرب في البوسنة على أشدها ـ أدير مؤسسةً إغاثيةً دعويَّة عريقة و أعمل أستاذاً للحديث النبوي و علومه ، و اللغة العربية للناطقين بغيرها في كلية الدراسات الإسلامية بسرايفو و الأكاديمية الإسلامية في زينتسا و { ذلك من فضل الله عليَّ ليبلوني أأشكر أم أكفر } [ النمل : 40 ] .
هذا إلى جانب اشتغالي في تلك الفترة و ما بعدها بإعداد رسالة الدكتوراة التي تناولت فيها مكانة السنّة النبوية و أثرها في حياة المسلمين البوشناق .
و نظراً لندرة ما أُلِّف في التعريف بالبوسنة باللغة العربية من قبل ، و حاجة القارئ العربي الماسّة إلى مرجعٍ في هذا الباب رأيتُ أن أشرع في إعداد دراسة خاصة حول تلك البلاد أعرّف بها و أدرس تاريخها و أديان أهلها و غير ذلك من المسائل ذات الأهمّية ، على نحوٍ يقدّم للباحثين و المهتمّين بقضيّة البوسنة الحد الأدنى ممّا ينبغي أن يعلموه عنها ، و للمكتبة الإسلامية ما يسدّ ثغرة افتقارها إلى مراجع باللغة العربيّة حول هذا الموضوع .
و قد اعترضت سبيلي ، أثناء جمع مادة هذا البحث معوقات عديدة ، و عانيت من صعوباتٍ شتى ، حاولت قدر المستطاع تخطيها بالتسديد و المقاربة ، و من تلك المعوٍّقات و الصعوبات :
قلّة المراجع العربيّة التي تتناول حال مسلمي البوسنة ، و صعوبة الاعتماد على المراجع المصنّفة باللغات الأوروبيّة ؛ السلافيّة و غيرها .
اندراس كثيرٍ من الآثار الإسلامية التي يعوّل عليها في توثيق بعض الدراسات ذات الصلة بموضوع البحث .
ضعف الخدمات التي تعين الباحثين في البوسنة ، حيث أن معظم مكتباتها العامّة أغلق أثناء الحرب الأخيرة ، و لا يزال بعضها مغلقاً حتى الساعة ، فضلاً على ما دمّره الصرب والكروات أثناء تلك الحرب ، و ما وقع منها تحت سلطة الصرب الذين لا يزالون يحتلون نصف بلاد البوسنة حتى اليوم .
بعد بلاد البوسنة عن ديار الإسلام الأخرى ، و خاصّة البلاد العربية التي كثيراً ما كنتُ أضطرُّ للسفر إلى بعضها في طلب مرجعٍ ، أو استشارة(/1)
مطَّلِع .
غير أن هذه المعوّقات و غيرها لم تحدّ من عزمي على إنجاز البحث فاستعنت بالله و لم أعجز ، و شرعت في الجمع و التدوين حتى ظهر على الحال التي أدفع به عليها إلى المكتبة الإسلاميّة اليوم مشتملاً على خمسة مباحث هي :
المبحث الأول : نبذة جغرافيَّة عن البوسنة و الهرسك
المبحث الثاني : التركيبة السكانية في البوسنة و الهرسك
المبحث الثالث : تاريخ البوسنة و الهرسك
المبحث الرابع : العقائد و الأديان في البوسنة و الهرسك
المبحث الخامس : معالم إسلاميّة في البوسنة و الهرسك
و ختمت بحثي بتعداد موجز لأهم ما يمكن المقتصد الخلوص إليه و الوقوف عليه ، و لا يغني من يبتغي التوسع عن الرجوع إليه ، و ما هو إلا جهد مقلّ إن أصبت فيه فمن الله ، و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان و أفوّض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد .
و إنني اليوم إذ أضعه بين يدي القارئ ، لأسأله أن يهديني عيوبي ، علّي أستدرك فيما بقي من عمري ، و أن لا ينساني من دعوة بظهر الغيب أدّخرها عند ربي ليوم لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم ، و ما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت و إليه أنيب .
إسطنبول
في غرّة شهر المحرّم عام 1422 للهجرة
الموافق للسادس و العشرين من آذار ( مارس ) عام 2001 للميلاد
المبحث الأول
نبذة جغرافية عن البوسنة و الهرسك
تتكوَّن بلاد البوسنة و الهرسك - كما يظهر من اسمها الثُنائي - من إقليمَي
( البوسنة ) في الشمال و ( الهرسك ) في الجنوب ، و هذان الإقليمان المتجاوِران المتكاملان ، كثيراً ما كانا يتَّحِدان و يتكاملان ، أو ينفصلان و يتناحران ، تَبعاً لأهواء السَّاسة المُتربِّعين على عرش كُلٍ منهما ، خلال الحُقَب المُتعاقبة .
و فيما يلي تعريفٌ موجز بكلا الإقليمين :
أوَّلاً : إقليم البوسنة : و هو عبارة عن بلاد واسعة تقع في الشمال الغربيِّ من شبه جزيرة البلقان (1) في أوروبَّا الشرقيَّة ، و يحدُّه من الشمال نهر صاوة (Sava) و من الشرق نهر درايينا ، ومن الغرب بلاد دلماسيا (Dalmacija) ، ومن الجنوب إقليم الهرسك (2) .
و قد اكتسبت البوسنة اسمها هذا - على الراجح - من اسم أشهر أنهارها ، و هو نهر البوسنة ( Bosna Rijeka ) ، الذي ينبع من سفح جبل إغْمِن ( Igman ) الواقع جنوب البوسنة على مقربةٍ من العاصمة و يمتد في أنحاء البلاد مروراً بثلاثةٍ من كبريات مدن البوسنة هي : سراييفو ( Sarajevo ) و زينتسا ( Zenica ) و دوبوي ( Doboj ) بطوله البالغ ( 303 ) كيلو متراً ، أي ( 188 ) ميلاً (3) و تتفرَّع منه فروعٌ كثيرة يبلغ طولها نحو (10480 ) كيلو متراً ، أي ( 6513 م ) تُغذِّي مُختلف أنحاء البوسنة و تصُبُّ في نهر صاوة في الشمال و ربّما كانت تسمية نهر البوسنة هذه مُقتبسةٌ من الكلمة الإيليريّة ( بوسينوس ) أو من كلمة ( بوس ) التي تعني الماء الجاري في تلك اللغة (4) .
و قد ذهب بعضُ المُؤرِّخين إلى أنَّ القبائل السلافية المهاجرة من القوقاز إلى البلقان ، جلبت هذا الاسم معها و أطلقته على الإقليم بعد أن استوطنته ، وبموجِب هذا الرأي يكون اسماً طارئاً على البوسنة ، ورد عليها من خارجها .
بينما يرى آخرون أنَّه مُشتقٌ من كلمة ( باساتي ) القديمة ، أو كلمة ( باز ) التي تعني المِلح ، إذ تشتهر به بعض مناطق البوسنة ، و منها توزلا (Tuzla) حتى إن عوائد الآبار المالحة فيها كانت إحدى الموارد الاقتصادية الهامة في البلاد ، و كان ينفق منها على المؤسسات التعليمية ( المدارس و الكتاتيب والمدارس ) بتوزلا العليا و الدنيا ، حتى سقوط البوسنة تحت الاحتلال النمساوي المجري سنة 1295هـ / 1878م (5) .
و استعمِل اسم البوسنة للدلالة على كيانٍ جُغرافي و سياسي مُستقِل منذ القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد ، حين كانت المنطقة – كسائر مناطق البلقان – مرتعاً خِصباً للإقطاع .
__________
(1) ... البلقان : Balkan : شبه جزيرة جبلية ، جنوبي شرق أوربا ، يدخل فيها ألبانيا ، اليونان ، جنوب شرق رومانيا ، بلغاريا ، تركيا الأوربية ، ومعظم يوغسلافيا سابقاً .
... انظر : الموسوعة العربية الميسرة لأشرف غربال ، ص : 399 – 400 .
(2) ... انظر : مُحمَّد بن مُحمَّد الخانجي : الجوهر الأسنى في تراجم علماء و شعراء بوسنة ، بتحقيق الدكتور عبد الفتاح مُحمَّد الحلو ، ص : 10 .
(3) ... انظر : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 143.
(4) ... انظر : الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة00 دراسةً ، ص : 11 .
(5) ... انظر : إدريس عبد الله الدريس : مُدُنٌ تقطر دماً ، ص : 143 .
و : الشيخ محمد الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 51 .
و : محمد صالح سباهيتش : توزلا بين الماضي و الحاضر ، ص : 250 .(/2)
و أقدم استعمال موثق لهذه التسمية ورد في كتاب بعنوان ( إدارة الإمبراطوريَّة ) تأليف الإمبراطورالبيزنطي (1) قسطنطين بورفيروجينيتس الذي كتبه عام 346 هـ / 958 م ، و قد أأطلق فيه اسم البوسنة على المنطقة الواقعة حول مجرَيَي نهر البوسنة الأعلى و الأوسط ، والتي لم تكن تشمل سوى مدينتين هما : كاتيرا ( Katera ) ، و ديسنيك (Destinikon ) .
إلا أنَّ حدود البوسنة توسعت مع الزمن لتشمل منطقة أوسع بكثير بعد أن أصبحت دولةً مُستقلَّة (2) ، و بلغت أوج اتساعها في ظل الفتح الإسلامي ، على حساب البلاد المجاورة ، مثل كرواتيا ( Hrvatska ) ، و دالماسيا ( Dalmacija ) ، حتى ارتقت من درجة سنجق ( لِواء ) إلى درجة باشا عام 987 هـ / 1580 م أيام واليها العثماني بكلربيك ، حيث أضيف إلى البوسنة في عهده ستة ألوية أخرى ، و في عام 991 هـ / 1583 م أصبح يحكم البوسنة باشوات أوَّلهم فرهد باشا صوقولوفيتش ، و هو من أصل صربي (3) .
و على الرغم من اتساع رقعة البوسنة في هذه الفترة لم تستقر حدودها على حال ، بسبب ما كانت تتعرض إليه من اعتداءات و حروب يشنُّها بين الفينة والفينة أعداء الدولة العثمانية في المنطقة ، و لاسيما المجر ، و النمسا ، والبندقيَّة ( Venecia ) ، علاوة على ما كان يجتاحها من الفتن و النزاعات الداخليَّة (4).
و تمتاز البوسنة بطبيعةٍ خلاَّبة ، أحسن وصفها الشيخ محمد الخانجي (5) رحمه الله - وهو أحدُ أبنائها الأوفياء - فقال : (( ...و أكثر بلادها جبلية ، و السهول فيها قليلة و أنهارها كثيرةٌ جداً ، تتفجر في كل جهة من جهاتها عيون الماء العذب، و زرعها يُسقى بالأمطار ، و فيها فواكه كثيرةٌ متنوعة ، و هواؤها حَسَنٌ جِداً للصحة صيفاً و شتاءً ، و إذا حضر الشتاء ... تتغطى الأرض بغطاءٍ من الثلج
الأبيض ...(( (6) .
ثانياً : إقليم الهرسك : إقليم يصغر إقليم البوسنة قليلاً ، و يتاخمه من الجنوب .
تبلغ مساحة الهرسك 3.529 ميلاً مُربَّعاً (7) ، و تحُدُّه شرقاً و غرباً جمهورية الجبل الأسود ( Crna Gora ) إحدى الجمهوريات الست التي كانت تكون متحدةً : جمهورية يوغسلافيا الاتحادية ، و من الغرب بلاد دالماسيا .
تعتبر مدينة موستار ( Mostar ) الشهيرة اليومَ حاضرة الهرسك و عاصمته (8) ، و قد كان أكثر سكانها مسلمين لولا ما تعرضوا له من حملات التهجير و المذابح و الإبادة الجماعيَّة المنظمة على أيدي الكروات ، الذين اتخذوها مركزاً و عاصمةً لجمهوريَّة الهرسك التي أعلنوها من جانبهم أثناء الحرب الأخيرة ، ثم تلاشت بعد دخولهم مع المسلمين في الاتحاد الحالي .
__________
(1) ... البيزنطي : نسبة إلى بيزنطة ، و هي معروفة في التاريخ ببلاد الروم ، تُطل على البحر المتوسط ، و منها استمدت الدولة البيزنطية اسمها ، و كانت الامبراطورية البيزنطية تمتد من البحر المتوسط ( و الذي كان يُعرف ببحر الروم ) إلى البحر الأسود و بحر إيجة ، و تضم أراضيها الشام و مصر و شمال إفريقية حتى شبه جزيرة إيبيريا ، و قد سقطت بيزنطة عقب فتح المسلمين لبلاد الشام في خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه0
انظر : محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا - الجزء 12 من القاموس الإسلامي للناشئين ص : 88-89 .
(2) ... انظر : Fine, J, V, A : The Early Medieval Balkans ( Ann Arbor, Michigan,1983 ) P, 159, 262 .
و : الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو ، ص : 156 .
... و : مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 442 .
و : زكريا علي أفسكي ، و ياسمين كانتاروفيتش : الأندلُس الثانية ، ص : 10 .
(3) ... حمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 77 .
(4) ... انظر : 1945g ) P : 105 Uzuncarsinli , I.H ; Osmanli ( Devltinin merkez ve
bahriye teskilati , Ankara , Sabanovi? , H; Bosanski pasaluk , Naucno drustvo BiH , Sarajevo , Djela . Knjiga XIV , 1959g ) P : 78-79
(5) ... الشيخ محمد الخانجي ، هو : مُحمَّد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن صالح بن مُحمَّد خانجيتش ( الخانجي ) البوسنويُّ ، الحنفي ، ولد في سراييفو سنة 1324 هـ / 1906 م ، رحل إلى مصر سنة 1345 هـ / 1926 م ، و تتلمذ على عُلَمائها ، و تخرَّج في الأزهر ، ثم رجع إلى بلاده ، و عملَ مُدرِّساً بمدرسة الغازي خسروبك ، و عُيِن مديراً لمكتبتها ، إلى أن توفي سنة 1363 هـ / 1944 م و هو دون الأربعين .من مؤلَّفاته : الحاوي للرسائل و الإجازات و المهمات و الفتاوى ، و تفسير آيات الأحكام من سورة النساء ، و الجوهر الأسنى في تراجم علماء و شعراء بوسنة ، و كثيرٌ غيرها .
(6) ... انظر : الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 11 .
(7) ... دائرة المعارف الإسلامية : 8 / 348 .
(8) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 10-11 .(/3)
و أصل تسمية إقليم الهرسك بهذا الاسم مأخوذ من لقب ملوكه في العصور الوسطى حيث كان الواحد منهم يسمَّى هرتزغ ( Hertzeg ) التي تعني : الدوق أو الأمير باللغة الألمانية ، و أول من حمل هذا اللقب من حكام الهرسك هو الملك ستيبان فوكتشيتش كوساتشا ( Stifan Vok?i? Kosa?a ) ، الذي حكم الهرسك بصفته أميراً ( دوقاً ) تابعاً لإمبراطورية النمسا عام 851 هـ /1448 م بعد أن استقلَّ ملك البوسنة ، و أعلن نفسه هرتزغ ( أميراً ) على إقليم القدِّيس صاوة ( St.Sava ) و من ذلك التاريخ عُرف الإقليم باسم الهرسك ( Hercegovina ) أي : أرض الدوق ، و ظل يُعرف بهذا الاسم حتى الفتح العثماني حيث أصبح يعرف بسنجق
( لواء ) الهرسك (1) .
و يشكل الإقليمان معاً ما يُعرف اليوم بجمهورية البوسنة و الهرسك ، إحدى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق ، و تبلغ مساحتهما الكلية 19768 ميلاً مربعاً ، و تدخل غالبية أراضيهما في حوض الدانوب و مُعظمها جبلية وعِرة ، تتخلَّلها أنهارٌ كثيرة ، أشهرها نهر صاوة في البوسنة ، و نهر نارتيفا في الهرسك ، و تُشكل جبال الألب النّاريَّة سلسلة الجبال الرئيسة فيها (2)، و هي إحدى عشرة سلسلة جبليَّة تمتد في البوسنة الغنيَّة بالثروات المعدنيَّة .
و للبوسنة ميناء صغير جداً يطل للغاية على ساحل البحر الأدرياتيكي لمسافة عِشرين ميلاً فقط (3) ، و قد مُنِحَ هذا الميناء – على الرغم من صِغَره – للكروات بموجب اتفاقيَّة دايتون للسلام سنة 1417 هـ / 1996 م التي أدَّت إلى إيقاف الحرب الأخيرة في البوسنة ، فأصبحت البوسنة بلداً مُحاصراً ليس له أيُّ منفذ بريٍّ أو بحريٍّ إلى العالم الخارجي إلا عن طريق الصرب أو الكروات المستغلّين .
و في البوسنة مُدُنٌ كثيرة أشهرها : سراييفو ( Sarajevo ) العاصمة ، وهي مدينة تاريخيَّة عريقة تحولت من قلعة حصينة كانت تُسمَّى فرهبوسنة (Vrhbosna) إلى مدينة عامرة ظلَّت حاضرة البوسنة و عاصمتها على مرِّ العصور(4) .
و قد أطلق عليها اسم سراييفو لأوَّل مرَّةٍ في رسالة لوالي البوسنة فيروزبيك يعود تاريخها إلى سنة 1166 هـ / 1507 م (5)، و كان (( يقال لها سراية ، و يسمِّيها الأتراك بوسنة سراي ، أو سراي بوسنة ، و هي مدينة متوسِّطة أسَّسها المسلمون في بداية دخولهم تلك البلاد على شاطئ نهر صغير … قال القرماني(6) : و هي قاعدة بلاد بوسنة ، ذات أنهار و أشجار و أهلُها أحسن الناس خَلقاً و خُلُقا ً))(7).
و تعتبر سراييفو إلى جانب توزلا ( Tuzla ) و زينيتسا ( Zenica ) وبيهاتش
( Biha? ) أهمَّ مراكز المسلمين بعد انتهاء الحرب الأخيرة .
أمَّا بنيالوكا ( Banja Luka ) – ثاني أكبر مُدُن البوسنة – فهي حاليَّاً عاصمة كيان صرب البوسنة المسمى ( جمهورية صربسكا ) أي ( الجمهوريّة الصربيّة ) ، وتليها مدينة دوبوي ( Doboj ) التي استولوا عليها أيضاً .
بينما نجد للكروات عِدَّة جُيُوبٍ ( قُرىً و مدن صغيرة ) مثل جِبتشة
( ?eb?a ) و فيتِز ( Vitez) إضافة إلى موستار عاصمة كيانهم حاليّاً .
و بلغ عدد سُكَّان البوسنة خمسة ملايين نسمة بموجب إحصاء السلطات المحلِّيَّة عام 1412 هـ / 1991 م منهم :
45 بالمئة مسلمون أي نحو 2250000 نسمة .
31 بالمئة صِرب أي نحو 1550000 نسمة .
17 بالمئة كروات أي نحو 850000 نسمة .
7 بالمئة قوميات متعددة أي نحو 350000 نسمة .
و لم تلبث هذه النسب أن تغيرت أثناء آخر الحروب الضروس التي دارت رحاها على مسلمي البوسنة و الهرسك ، على إثر استقلالها عن يوغسلافيا السابقة مباشرةً عام 1413 هـ / 1992 م ، إذ انخفضت نسبة المسلمين فيها إلى أقلَّ من 30 بالمئة من مجموع السكان ، بسبب ما تعرَّضوا له من إبادة و تهجير ، بينما ازدادت نسبة كلٍ من الصِرب و الكروات بسبب التوطين الذي انتهجوه في المناطق الإسلامية بعد إجلاء أهلها عنها قسراً .
__________
(1) ... انظر : د. الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 11 .
و : الدكتور وِسام عبد العزيز : البوسنة – الصرب – كرواتيا ، قراءةٌ في التاريخ الباكر ، ص : 50 .
(2) ... انظر : دائرة معارف إيفرمان ( Everman’s Encyclopeadia ) مادَّة : Bosnia
(3) ... انظر : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 139 و ما بعدها .
(4) ... انظر : الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 151 .
(5) ... انظر : المرجعٌ السابق ، ص : 172 .
(6) ... القرماني ، هو : أحمد بن يوسف ، و يقال له أيضاً : أحمد بن سنان الدمشقي ، أبو العباس ،كاتب و مؤرخ توفي سنة ( 1019 هـ / 1611 م ) ، من تصانيفه : أخبار الدول و آثار الأول ، و الدر اليتيم في مناقب السلطان إبراهيم بن أدهم .
انظر ترجمته في : خلاصة الأثر 1 / 209 – 210 ، كشف الظنون 1 / 26 ، معجم المؤلفين 2 / 208 .
(7) ... مُحمَّد الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 11 .(/4)
و من الجدول التالي يتضح لنا التغير الملحوظ في أعداد السكان ، و تركيبتهم العرقيَّة و الدينيَّة منذ العهد العثماني حتى يومنا هذا :
سنة الإحصاء ... عدد السكان ... عدد المسلمين ... النسبة المئويَّة للمسلمين
954هـ/1548م (1) ... 40 بالمئة
1296هـ/1879م (2) ... 1154489 ... 448613 ... 38.73 بالمئة
1312هـ/1895م (3) ... 1496000 ... 549000 ... 35 بالمئة
1328هـ/1910م (4) ... 1898044 ... 612000 ... 32.2 بالمئة
1336هـ/1918م (5) ... 38.7 بالمئة
1350هـ/1931م (6) ... 2290000 ... 717000 ... 30.9 بالمئة
1373هـ/1953م (7) ... 1847790 ... 920836 ... 32.3 بالمئة
1391هـ/1971م (8) ... 4250000 ... 1482430 ... 39.57 بالمئة
1401هـ/1981م (9) ... 4124000 ... 1630033 ... 39.5 بالمئة
1412هـ/1991م (10) ... 4500000 ... 43.7 بالمئة
و فيما يلي - بمشيئة الله تعالى و توفيقه - سأسلِّط مزيداً من الضوء على هؤلاء السكان ، و أتناول أصولهم و طبقاتهم و أحوالهم من جوانب عدة .
المبحث الثاني
التركيبة السُكَّانية في البوسنة
و الهرسك
المطلب الأول : سُكَّان البوسنة الأصليّون :
إنَّ سكان البوسنة المعروفين بالبشانقة اليوم – و إن كانوا يُشكِّلون القوميَّة الأولى و الأشهر في البوسنة و الهِرسِك – ليسوا أهل البلاد الأصليين ، و لكنَّها آلت إليهم بعد حروب ضروس بين أجدادهم الصقالبة ( السلاف ) ، و من سبقهم إلى هذه البلاد كالرومان ، و الدياستيين (11) و غيرهم .
و إذا كان الصقالبة ( و منهم البوشناق ) قد نزلوا في البوسنة في القرن الأول من الهجرة / السابع من الميلاد فإنَّهم آخر - و ليسوا أوَّل - من استوطنها ، حيثُ إنَّ البوسنة كانت مأهولةً منذ أقدم العصور ، حتى إنَّ بعض مناطقها ، كمدينة ترافنيك
( Travnik ) مثلاً كانت آهلةً بالسكان قبل الميلاد بآلاف السنين ، الأمر الذي يؤكده اكتشاف آثار بوتمير ( Butmir ) الواقعة في سراييفو (12) ، و التي تعتبر أقدم الشواهد الحضاريَّة التي خلَّفها سُكان البوسنة الأوائل منذ العصر الحجري (13) ، حيث وجدت فيها مناطق سكنية كانت مأهولةً قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد .
و حتى الحقبة الرومانية استوطن هذه المنطقة الإيلير ، أو الإيليريُّون
(Ilirians ) (14)
__________
(1) ... انظر : Hand?i?, A : Tuzla I njena okolina u 16. Vijeku ( Sarajevo,1975g )
P: 132-142
(2) ... الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 185.
(3) ... مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 213 .
(4) ... محمود شاكر : المسلمون تحت السيطرة الشيوعيَّة ، ص : 127 .
(5) ... المرجعٌ و الصفحة السابقان .
(6) ... مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 213 .
و انظر : محمود شاكر : المسلمون تحت السيطرة الشيوعيَّة ، ص : 127 .
(7) ... دائرة المعارف الإسلاميَّة ، لمجموعة من المُستشرقين، النسخة العربيَّة ، إعداد و تحرير : إبراهيم زكي خورشيد و آخرين : 8/375 .
(8) ... الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 209 .
(9) ... حسين عبد القادر : انشطار يوغسلافيا ، ص : 38.
(10) ... عن صحيفة ( الأهرام ) القاهريَّة الصادرة بتاريخ 10/12/1412 هـ الموافق 10/6/1992 م .
(11) ... الديالستيُّون : قبيلة من المقاتلين الأشداء كانت مستقرَّةً في البوسنة الوسطى ، هزمهم الرومان في القرن الثالث للهجرة / التاسع للميلاد مما أدَّى إلى تلاشي وجودهم في تلك المنطقة 0
اُنظُر : نويل مالكوم : البوسنة BOSNIA : A SHORT HISTORY: Noel Malcom
ترجمه إلى العربيَّة : عبد العزيز توفيق جاويد ، ص : 23 .
(12) ... انظر : دائرة المعارف الإسلاميَّة : 8 / 349 .
و بوتمير منطقة سهليّة تقع بين إيليجة و دوبرينيا و فيها مطار سراييفو ، و مقر قيادة القوات الدوليّة المتمركزة في البوسنة منذ انتهاء الحرب الأخيرة .
(13) ... العصر الحجري : اصطلاح يُطلِقُه المؤرخون للدلالة على الحقبة الزمنيَّة التي كان الإنسان فيها يتخذ من الأحجار المصدر الأوَّل لتصنيع ما يحتاجه من آلات ، و قد كان ذلك قبل الميلاد بآلاف السنين و قبل اكتشاف الحديد و البرونز و غيرهما من المعادن ، حيث ظهر ( العصر الحديدي ) و ( العصر البرونزي ) فيما بعد .
انظر : المير إسماعيل علي : السلالات البشريَّة ، ص : 86 ، 95، 96 .
(14) ... الإيلير أو الإيليريون : مجموعة من القبائل الهند أوروبيَّة كانت تُغطِّي جُزءاً كبيراً من يوغسلافيا و ألبانيا ، معظمهم من الرعاة ، و هم من أقدم العناصر البشريَّة في أوروبا ، حيث استوطنت مناطق لم تُسكن من قبل على شواطئ البحر الأدرياتيكي ، و قد سميت تلك المناطق باسمهم في عصور ما قبل التاريخ .
اُنظُر : الدكتور رجب بويا : الألبانيون الأرناؤوط و علاقتهم بالإسلام ، ص : 7 .
و : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 32 – 33 .(/5)
الذين اختلطوا في عام ( 400 ) قبل الميلاد تقريباً بالكِلْت ، و شكلوا معهم السكان الأصليين لهذه المنطقة (1) .
عاش الإيليريون ملوكاً مُتسلِّطين في البلقان ، كثيراً ما كانوا يُغيرون على السواحل ، فينهبون و يُخرِّبون ، و يقطعون الطرق ، و يدكُّون الحصون ، في وحشيَّة ضارية ، حتَّى قيل عنهم : (( إنَّهم حشدٌ مُختلِط من الجند ، هو أعظم ما يكون منظراً ، و أجلف ما يكون عند الحِوار (( (2) .
و قد كان الصراع بينهم و بين الرومان متواصلاً ، لا يكاد يعرف هدوءاً أو مُهادنة ، حتى أفضى إلى انهيار مملكة الإيليريين أمام الغزو الروماني لبلادهم قبيل الميلاد سقوط حصونهم و ديارهم في قبضة الرومان الذين ضموا هذه المملكة الإيلير إلى إمبراطوريًّتهم .
ولا شكَّ في أنَّ القبائل الإيليريَّة قد تغيَّرت بعد خضوعها للرومان تغيُّراً كبيراً و أنَّ طبعها الهمجي قد تهذَّب مع الأيَّام بشكل لا يُستغرب معه وُجود بعض الآثار الحضاريَّة لهم في البوسنة كمناجم الفحم ، و شقِّ الطُرُق ، و غير ذلك من المعالم الحضاريَّة (3) .
و في القرن الميلاديّ الرابع تأثّر مُعظم سكان شمال غرب البلقان بعناصر الحضارة الرومانيَّة بما في ذلك اللغة اللاتينيَّة التي أصبحت لُغة العامَّة ، بينما استمرَّت اللغة الإيليريَّة في بعض المناطق الجبليَّة من شمال ألبانيا ، وإقليم قوصُوة
( Kosovo ) (4) ، و يُأكَّد هذا استمرار اللغة الألبانيَّة التي ترجع في أصولِها إلى اللغة الإيليريَّة إلى يومنا هذا في ألبانيا و قوصوة (5) .
و ما لبث الضعف أنَّ تسرَّب إلى بُنية الدولة الرومانيَّة ، فبدأت تؤول إلى الزوال بعد انتصار القوط الغربيين على الجيش الروماني في معركة أدرنة (6) عام 378 م فقد قضى القوط الغربيُّون على الجيوش الرومانيَّة المرابطة في البلقان ، و انهارت تبعاً لذلك خطوط دفاعها في حوض الدانوب ؛ ممَّا فتح الطريق أمام الوافدين الجدد إلى المنطقة (7) .
و في القرن السادس بعد الميلاد أطاح البربر (8) بالإمبراطوريَّة الرومانيَّة الغربيَّة ، فتمزَّق شملُ الإيليريين تبعاً لذلك ، حتى اضطُرُّوا إلى التفرُّق بين قِمم الجبال و بُطون الأودية ، إلى أن استوطنوا مناطق الجنوب الشرقيّ لقارَّة أوروبا ، غرب شبه جزيرة البلقان ، و شواطىء البحر الأدرياتيكي (9) .
المطلب الثاني : الصقالبة في البوسنة :
__________
(1) ... الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 113 – 114 .
(2) ... هذا وصف الإيليريين على لسان المؤرِّخ الروماني ديو كاسيوس ( Dio Cassius ) .
... انظر : Wilkes, J : The illyrians ( Ozford 1992g ) P : 160
(3) ... انظر: أشرف المهداوي : قصَّة البوسنة ، ص : 8 .
(4) ... قوصوة أو قُصوى ( سميت بذلك لأنها كانت أقصى بقعة وصلها الإسلام في عهد السلطان مراد الأول رحمه الله ) : إقليم يقع جنوب غرب يوغسلافيا ، و يعرف اليوم باسم كوسوفو ، عاصمته بريشتينا ، و عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة تقريباً ، 95 بالمئة منهم من المسلمين الألبان .
انظر : محمد شفيق غربال ، و زملاؤه : الموسوعة العربية الميسرة : 2 / 1504 .
(5) ... انظر : الدكتور وسام عبد العزيز ، ص : 23 .
(6) ... أدرنة : مدينة تركية تقع على مرتفع من الأرض عند ملتقى أنهار : مريج ، و آرادا ، و طونجة . على الجانب الأوروبي من بحر مرمرة ، كانت تعرف باسم أدرينانوبل ( Adriunople ) قبل أن يفتحها العثمانيُّون عام 763 هـ / 1362 م ، جعل منها السلطان مراد الأول بعد أن فتحها مقاماً لسلاطين آل عثمان في أوروبا عام 768 هـ / 1366 م ، و ظلَّت كذلك حتى فتح القسطنطينية .
اُنظُر : الدكتور عدنان علي رضا النحوي : ملحمة البوسنة و الهرسك ، ص : 48 .
و : محمد شفيق غربال ، و زملاؤه : الموسوعة العربية الميسرة : 1/98 .
و : محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 73 .
(7) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 17 .
(8) ... البربر : شعبٌ عظيم عريق يعمر المغرب العربي كله ، و يرى ابن خلدون : أن سبب تسميتهم بربراً هو أن الملك إفريقش بن قيس التُبَّعي ، سمع السكان الأصليين لشمال إفريقيا يتكلمون بلهجات مختلفة غير مفهومة له ، فأطلق لفظة البربرة على الكلام الذي يتكلمون به ، و من ثمَّ أخذ السكان أنفُسهم تسمية البربر ، و هم قبائل كثيرة =
= ... منها صنهاجة ، و مصمودة ، و زناتة ، و قد استعرب البربر مع انتشار الإسلام في المغرب ، و تكلَّموا اللغة العربية ، و كتبوا بها .
انظر : محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 87-88 .
(9) ... انظر : رجب بويا : الألبانيُّون الأرناؤوط و علاقتهم بالإسلام ، ص : 7 – 8 .(/6)
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية على يد البربر ذرَّ قرنُ الصقالبة المهاجرين من أعماق آسيا ، و بدؤوا عملية استيطان واسعة ، مهَّدت لاستقرارهم في أنحاء متفرقة من شبه جزيرة البلقان ، وما لبِثوا أن استولوا على معظم المناطق التي عُرفت فيما بعد باسم يوغسلافيا ( أي بلاد الصقالبة الجنوبيين ) بينما ظلَّ صقالبة الشمال في موطنهم الأصلي روسيا حتى يومنا هذا .
فمن هم الصقالبة ؟ و ما الذي جاء بهم إلى البوسنة ؟
المقصد الأول : أصل الصقالبة :
عرف التاريخ منذ القدم قبائل هند أوروبية ، تنسب إلى يافث بن نوح عليه السلام ، وتستوطن المنطقة الممتدة من سواحل بحر البلطيق شمالاً إلى ضفاف الأنهار التي تصب في البحر الأسود مثل ( الدون ) و ( الدنيبر ) و ( الدينسبر ) قِبَل جبال الكربات و حوض الفستولا جنوباً ، حيث الملتقى البري بين قارتي آسيا وأوروبا (1) .
قال الشيخ محمد الخانجي رحمه الله : (( أما مساكن الصقالبة الأصليَّة ، فمؤرخو العربِ يخْتلِفُون فيها اختلافاً كثيراً ، وذلك لقلَّة الأخبارِ الواردةِ إليهم عنهم واخْتلافِها ، ويُستخرَج من مجموعِ أَقوالِهم ، أنَّهم كانوا يسكنون في آسيا على مقربةٍ من بحر الخَزَرِ ، ثم لمَّا هجمت عليهم القبائلُ المختلِفة من الجهةِ الشَّرقيَّةِ من بِلادهم تحرَّكوا إلى الغربِ ، وفي النّهاية استقرَّ بعض قبائلهم في القرن الأول للهجرة / السابع للميلاد في بلاد بوسنة و ما حولها من البلاد ، وهؤلاء هم المعروفون بصقالبة الجنوب ، وتضم الآن شتاتهم دولة تعرف باسم يوغسلافيا ، ومعناه دولة صقالبة الجنوب )) (2) .
وتمثل هذه الشعوب جرثومة الشعوب السلافية ( Slavs ) المعروفة عند مؤرخي أوروبا بهذا الاسم ، اشتقاقاً من الأصل البيزنطي للتسمية ، وهو : أسكلافينوي (Asklavinoi ) (3) ، بينما تعرف عند مؤرخي العرب باسم الصَقَالِبَة جمع صَقْلَب بفتح فسكون ففتح .
قال الأزهري : الصقالبة جيل حمر الألوان ، صهب الشعور ، يتاخمون الخزر وبعض جبال الروم ، و قيل للرجل الأحمر صِقلاب تشبيهاً بهم (4) .
و في القاموس المُحيط : (( الصقالبة جيلٌ بلادهم تتاخم بلاد الخزر بين بُلْغَر وقسطنطينيَّة )) (5) .
و قال الإصطَخَري(6) : الصقالبة أو الصقلبيَّة هم السلاف أو السكلاف ، كان العرب يجلبون من بلادهم الرقيق (7) .
قلتُ : و ما ذكره الإصطخري من جلب العرب الرقيق من بلاد الصقالبة يؤيِّد الرأي القائل : إن الصقالبة كانوا أحد أهمِّ مصادر الرقيق في العالم (8) حتى اشتقت كلمة عبد ( Slave ) في كثيرٍ من اللغات الأوروبيَّة من اسم الصقالبة (السلاف) .
ولعل العرب اشتقوا هذه التسمية للصقالبة من لون بشرتهم المُشَرَّبة بالحمرة ، حيث
__________
(1) ... انظر : أشرف المهداوي : قصَّة البوسنة ، ص : 85 .
(2) ... الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 13 .
(3) ... انظر : الدكتور وسام عبد العزيز ، ص : 25 .
(4) ... اُنظُر : لسان العرب ، لابن منظور الإفريقي : 1/526 .
و : ياقوت الحموي : مُعجم البلدان ( ليبسك 1283 هـ / 1866 م ) : 3 / 405 .
و : عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي : مراصد الاطلاع ، بتحقيق و تعليق علي محمد البجاوي : 2/ 847 .
(5) ... مجد الدين مُحمَّد بن يعقوب الفيروز آبادي : القاموس المحيط : 1 / 96 .
(6) ... الإصطخري ، هو : إبراهيم بن محمد الفارسي ، المعروف بالكرخي ، أبو إسحاق ، جغرافي ، توفي سنة 346 هـ / 957 م . ...
انظر ترجمته في : إيضاح المكنون 2 / 473 ، و معجم المؤلفين 1 / 104 .
2 ... الإصطخري : مسالك الممالك ، ص : 134 .
(7) و للاستزادة اُنظُر : مر وج الذهب للمسعودي : 2 / 32 و ما بعدها .
و أبو عبيد البكري : جغرافية الأندلُس و أوروبا ، ص : 154 و ما بعدها .
... و الدكتور سيد عبد الفتاح عاشور : أوروبا في العصور الوُسطى : 1/631 و ما بعدها 0
(8) ... قال المؤرخ الفرنسيُّ الشهير ( موريس لومبارد ) : كانت بلاد الإيلير التي تشمل يوغسلافيا و ألبانيا حالياً تُشكِّل المصدر الثاني للرقيق في العالم بعد البلغار . اهـ .
انظر : موريس لومبارد : الجغرافيا التاريخيَّة للعالم الإسلامي ، ترجمة الدكتور عبد الرحمن حميدة ، ص : 13 .
و قال الأستاذ محمد عنان : كانت الصقالبة تُطلق في الأصل على الأسرى الذين يأسرهم الألمان و البيزنطيون و الفرنج من الأمم السلافية ، و يبيعونهم للعرب … و كان معظم هؤلاء الصقالبة يؤتى بهم أطفالاً بواسطة اليهود ، الذين كانوا أقطاب تجارة الرقيق في العصور الوسطى ، ليخدموا في بلاد الخليفة ، و من ثمَّ كانوا يعتنقون الإسلام و يتعلَّمون العربية بسهولة . اهـ .
اُنظر : محمد عبد الله عنان : مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ، ص : 234 .(/7)
استعمل لفظ الصَقْلاب مقترناً بما يدل على ذلك في أشعار العرب ، كما في قول الأخطل (1) ، يمدح بشر بن مروان (2) :
عَوَادِلُ عوجا عن أناسٍ كأنما ترى بهم جمع الصقالبة الصُّهبِ (3)
والصُّهبة ، و الصُّهوبة : الحمرة أوالشقرة في شعر الرأس ، و يُقال : رجلٌ
أصهب (4) .
وقد أورد ابن قتيبة(5) في (عيون الأخبار)(6) في مدح بشرٍ أيضاً قول الشاعر :
ولو شاء بشر كان من دون بابه طماطم سود أو صقالبةٌ حمر
و كثيراً ما يرد ذكر الصقالبة في أشعار العرب كما في قول جرير (7) :
حكمتَ بحُكم أمِّك حيث تلقى خليطاً من صقالبةٍ و رومِ
و قد أنشد الجندل :
بين مَقَذَّى رأسِهِ الصقلابُ (8)
أما عن نسب الصقالبة فيرجعه معظم من ذكرهم من مؤرخي العرب ونسَّابتهم إلى يافث بن نوح ، كما قال الشيخ الخانجي في الجوهر الأسنى (9) .
وقال الحافظ أبو سعد السمعاني (10) في كتابه ( الأنساب ) : الصَقْلَبيُّ بفتح الصاد المهملة والقاف الساكنة واللام المفتوحة وفي آخرها الباء الموحدة : هذه النسبة إلى الصقالبة ، وهي منسوبة إلى صقلب بن لَنْطي بن يافث ، ويقال : صقلب بن يافث والمشهور بهذه النسبة جماعة كثيرة (11) .
ونقل ياقوت الحموي (12)
__________
(1) ... الأخطل ، هو : غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو التغلبي ، أبو مالك ، شاعر نصرانيٌّ ، نشأ بأطراف الحيرة و اشتهر بالشام في عهد بني أميَّة ، و أكثَرَ من مدحهم ، له ديوان شعر مطبوع ، توفي 90 هـ /
708 م .
انظر : الشعر و الشعراء لابن قتيبة 393 ، و الأعلام للزركلي 5 / 318 ، و خزانة الأدب ، لعبد القادر البغدادي 1 / 219 و ما بعدها ، و دائرة المعارف الإسلاميَّة 1 / 515 .
(2) ... بشر بن مروان ، هو بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص القُرَشي ، العبشمي ، الأموي ، ولِيَ إمرة العِراقين
( البصرة و الكوفة ) في خلافة أخيه عبد الملك ، توفي 75 هـ / 694 م بالبصرة ، و له من العمر بضعٌ و أربعون سنة .
اُنظُر : المعارف لابن قتيبة 355 ، البداية و النهاية 9 / 7 ، خزانة الأدب للبغدادي 4 / 117 .
(3) ... ديوان الأخطل لأنطوان صالحاني ، ص : 18 .
(4) ... انظر: معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس ، بتحقيق عبد السلام هارون : 3 / 316 . و الصحاح في اللغة لاسماعيل بن حماد الجوهري : 1 / 166 .
(5) ... ابن قتيبة ، هو : عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، الدينوري ، و قيل : المروزي ، الكاتب ، ولد سنة 213 هـ /
828 م ، ولي قضاء الدينور مدة ، ثم نزل بغداد ، و مات بها ، صاحب التصانيف المفيدة ، كان رأسا في اللغة و الأدب و الأخبار و أيام الناس ، قال عنه الخطيب البغدادي : ( كان ثقة دينا فاضلا ) ، مات سنة 276 هـ /
889 م .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 10 / 170 ، وفيات الأعيان 3 / 42 ، بغية الوعاة 2 / 63 .
(6) ... عيون الأخبار 1 / 88 .
(7) ... جرير ، هو : ابن عطية بن الخطمي ، التميمي ، البصري ، الشاعر المشهور ، كان من فحول شعراء الإسلام مدح يزيد بن معاوية ، و خلفاء بني أمية ، كانت بينه و بين الفرزدق مهاجاة و نقائض ، و هو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم ، و كان عفيفاً منيباً ، توفي 110 هـ / 728 م باليمامة ، عن نيفٍ و ثمانين سنة .
انظر ترجمته في : الشعر و الشعراء 374 ، وفيات الأعيان 1 / 321 ، البداية و النهاية 9 / 260 ، سير أعلام النبلاء 4 / 590 .
(8) ... لسان العرب ، لابن منظور : 1 / 526 .
(9) ... الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 11 .
(10) ... أبو سعد السمعاني ، هو : عبد الكريم بن محمد بن منصور ، التميمي ، المروزي ، ولد 506 هـ / 1110م وبيته من بيوتات العلم ، وهو إمام ، حافظ ، ثقة ، محدث خراسان ، صاحب التصانيف المفيدة ، رحل في طلب العلم صغيرا ، و عاد إلى بلاده بعدما دوخ الأرض سفرا للتحديث و التدريس و التصنيف ، مات سنة 562 هـ / 1166 م .
انظر ترجمته في : المستفاد من ذيل تاريخ بغداد 172 ـ 173 ، تذكرة الحفاظ 4 / 1316 ـ 1318 ، البداية و النهاية 12 / 175 ، سير أعلام النبلاء 20 / 456 .
(11) ... عبد الكريم بن محمد السمعاني : الأنساب : 3 / 549 .
(12) ... ياقوت ، هو : ابن عبد الله الرومي جنساً ، البغداديُّ منزلاً ، الحمَويُّ شُهرةً ، أديب شاعر ، لُغويٌّ نحويٌّ عالم بتقويم البلدان ، وُلد ببلاد الروم سنة 574 هـ / 1178 م ، و كان رقيقاً فأعتقه مولاه عسكر الحموي اشتغل بالتجارة بعد وفاة سيِّده ، ارتحل كثيراً ثمَّ نزل حلب ، و أقام بظاهرها في الخان حتى توفي بها سنة 626 هـ / 1228 م .
اُنظر ترجمته في : وفيات الأعيان 2 / 210 ، سير أعلام النبلاء 22 / 312 - 313 ، ديوان الإسلام لابن الغزِّي 4 / 387 - 388 ، شذرات الذهب 7 / 184 ، الأعلام للزركلي 8 / 131 ، معجم المؤلِّفين 13 / 178 .(/8)
عن ابن الكلبي (1) أنه قال : (( من أبناء يافث بن نوح عليه السلام : يونان ، و الصقلب ، و العبدر ، و برجان ، و جرزان . و فارسُ ، و الروم فيما بين هؤلاء )) .
و قال ياقوت أيضاً : (( و قال ابن الكلبي في موضع آخر : أخبرني أبي(2) قال : (( روميٌّ ، و صَقلَب ، و أرمينٌّي ، و إفرنجيٌّ ، إخوة ، وهم بنو لَنْطِيِّ بن كَسْلُوخِيم بن يونان بن يافث ، سكَنَ كل واحدٍ منهم بُقعةً من الأرض فسمِّيَت به )) (3) .
و ذكر الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله أنَّه جاء في التوراة أنَّ يأجوج و مأجوج و الصقالبة ، و الإفرنج ، و البُلغَر من أولاد يافث بن نوح (4) .
وهذه الأخبار تفتقر إلى الصحة والتوثيق ، ولذلك أحسن الخانجي حينما سردها وغيرها ثم علّق عليها مُجتمعةً بقوله : (( ويكفي من هذه الأقوال سماعها )) (5) .
بيد أنَّه جاء نحوٌ من هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث رُوي من حَديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( وَلَدَ نوحٌ : سام و حام و يافث ، فوَلَد سامُ العربَ و فارس و الروم ، و الخيرُ فيهم ، و ولد يافِثُ يأجوج و مأجوج و التُرْكَ والصقالبة و لا خير فيهم ، و ولد حام القِبْطَ و البَرْبَر و السودان )) .
و هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (6) ، فضلاً على كونه مُخالفاً لما رُوي
عن سمُرة بن جندب (7)
__________
(1) ... ابن الكلبي ، هو : هشام بن مُحمَّد بن السائب ، يُكنَّى أبا المُنذر ، كان علاَّمةً في الأنساب و التاريخ ؛ لكنه مضعّف في الحديث ، قال عنه أحمد بن حنبل : ( إنما كان صاحب سمر و نسب ، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه ) . و قال ابن عساكر : ( رافضي ليس بثقة ). توفي سنة 204 هـ /819 م ، و قيل : 206 هـ / 821 م.
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 14 / 45 ، معجم الأدباء 19 / 287 ، و فِيَّات الأعيان 6 / 82 ، سير أعلام النبلاء 10 / 101 ، ميزان الاعتدال 4 / 304 .- رضي الله عنه -
(2) ... الكلبي ، هو : محمد بن السائب ، أبو النصر ، نسّابة و راوية ، كوفي المولد و الوفاة ، كان سبئيَّا على رأي عبد الله بن سبأ الذي كان يقول بعدم وفاة عليٍ - رضي الله عنه - ، و أنه سيرجع فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، قال أبو حاتم الرازي : ( الناس مجمعون على ترك حديثه ) . له كتاب ( الأصنام ) ، توفي سنة 146 هـ / 763 م .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 6 / 249 ، الجرح و التعديل لابن أبي حاتم 7 / 270 ، و فيات الأعيان
4 / 309 ، ميزان الاعتدال 3 / 556 .
(3) ... ياقوت الحمويّ : مُعجم البلدان 3 / 405 .
(4) ... ابن حزم : جمهرة أنساب العرب بتحقيق عبد السلام هارون 2 / 463 .
و انظر : قاموس الكتاب المقدس ، ص : 1047 .
3 ... الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 12.
(6) خرجه البزار في مسنده ( 1/ رقم 218 ـ كشف ) ، و ابن حبان في المجروحين 3 / 107 ، و ابن عدي في " الضعفاء " 7 / 271 ، و الخطيب في " تالي التلخيص " ( 43 ) ، و السمعاني في " الأنساب " 1 / 29 ، و ابن عساكر في " تاريخه " 62 / 277 من طرق عن : محمد بن يزيد بن سنان ، حدثنا أبي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به .
وأشار البزار ، و ابن عدي إلى تفرد يزيد بن سنان بهذا الإسناد ، و تفرد ابنه عنه .
... و محمد بن يزيد بن سنان ، قال فيه أبو حاتم : ( ليس بالمتين ، هو أشد غفلة من أبيه مع أنه كان رجلاً صالحاً ) . و قال النسائي : ( ليس بالقوي ) . انظر : ميزان الاعتدال 4 / 69 ( 8330 ) .
... وأبوه : يزيد بن سنان : قال البخاري : ( مقارب الحديث ، إلا أن ابنه محمداً يروي عنه مناكير ) . وقال الآجري : ( ليس بشيء ، وابنه ليس بشيء ) . انظر : تهذيب الكمال 27 / 21 . =
= و قال البزار : ( و رواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلاً ، و لم يسنده ، و إنما جعله من قول سعيد ) .
... قلت : و مرسل سعيد هذا ؛ أخرجه ابن وهب في " الجامع " ( 25 ) ، و ابن سعد 1 / 42 – 43 ، و الحاكم
4 / 463 ، و ابن جرير في " تاريخه " 1 / 210 ، و أبو عمر بن عبد البر ـ كما قال ابن كثير في " قصص الأنبياء " ص 86 ـ من طريق : إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب موقوفاً .
و قال ابن كثير أيضاً : ( وهذا الذي ذكره أبو عمر هو المحفوظ عن سعيد من قوله ، وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله و الله أعلم ، و يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي : ضعيف بمرّة ولا يعتمد عليه ) .
(7) ... سمرة بن جُندب - رضي الله عنه - ، هو : ابن هلال الفزاري ، من علُماء الصحابة ، كان زياد بن أبيه يستخلفه على البصرة إذا سار إلى الكوفة ، ويستخلفه على الكوفة إذا سار إلى البصرة ، كان شديداً على الخوارج ، قتل منهم جماعةً ، قال الذهبي : ( له أحاديث صالحة ، حدَّثَ عنه الحسن البصري ، و ابن سيرين ، و جماعة ) تُوُفَي سنة 58 هـ / 677 م ، و قيل : 59 هـ / 678 م .
... انظر ترجمته في : أسد الغابة 2 / 354 ، تهذيب الأسماء و اللغات 1 / 235 ، سير أعلام النبلاء 3 / 183 الإصابة 2 / 78.(/9)
- رضي الله عنه - من أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( سامُ أبو العرب ، ويافثُ أبو الروم ، وحامُ أبو الحبش )) ، وهو حديث ضعيفٌ أيضاً (1) .
و التعارض بين الحديثين في نسبة الروم واضح ، حيث وَرَدَ في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ أباهم سام ، بينما وَرَدَ في حديث سَمُرة - رضي الله عنه - أنهم من أبناء يافث .
ومثل هذه الأخبار يكثر ذكرها في كتب الأمم السابقة ، وأخبار بني إسرائيل .
و إذا كان أصل الصقالبة واحداً ، فإنَّ فروعهم متعدِّدة ، حيث تدخل تحت مُسمَّى الصقالبة اليوم مجموعاتٌ بشريَّة كبرى أشهرها :
الصقالبة الشرقيون : و منهم الروس و الأُكرانيُّون .
الصقالبة الغربيُّون : و منهم البولنديُّون و السلوفاك و التشيكيون .
الصقالبة الجنوبيُّون : و منهم الصرب و الكروات و السلوفينيُّون و البلغار والمقدونيُّون و البوشناق ( أو البّشانقة ، و هم غالبيَّة سُكَّان البوسنة اليوم ) .
فكيف وصل الصقالبة إلى البلقان ، و ما الذي وطَّد لهم الُمقام في
البوسنة ، و جعل البشانقة غالبيّة سكان البوسنة ؟
المقصد الثاني : هجرة الصقالبة إلى البلقان :
من البدهي أن إحدى مميزات الحياة القبلية للشعوب كثرة التنقل والترحال طلباً للأمن والاستقرار تارةً ، وسعياً وراء مصادر العيش وتتبع مواطن القطر والأرزاق تارةً أخرى .
وإذا عرفنا أن قبائل الصقالبة ( الشعوب السلافية ) مكونة من عناصر غير منتظمة لم تجمعها أية وحدة سياسية ، بل كانت كل قبيلة منها – على صِغَرها – تعمل كوحدة مستقلة عن غيرها ، وتتحرك بأفرادها المزارعين والرعاة المتطلعين إلى أرض زراعية للاستقرار فيها وإعمارها (2) ، عرفنا أن للزحف الصقلبي باتجاه شبه جزيرة البلقان دافعين اثنين هما :
أولاً : البحث عن أرض خصبة تؤمن القوت للصقالبة والكلأ لمواشيهم ، حيث إن القوم – كما أسلفنا – رعاة و مزارعون .
ثانياً : التطلُّع إلى الخلاص و التحرر من وطأة حكامهم المتسلطين ، و بخاصةٍ الهون الذين أخضعوا القبائل السلافية لسلطانهم في أواخر القرن الرَابع للميلاد ، مما جعل الصقالبة يسعون إلى التخلُّص من سيطرتهم بالهجرة ، حيث انطلقوا على نطاق واسع باتجاه الغرب و الشرق و الجنوب ، و انتشروا على مساحةٍ واسعة من شرق أوروبا تمتد من نهر الألب غرباً إلى نهر الدنيبر شرقاً ، ومن بحر البلطيق شمالاً إلى نهر الدانوب جنوباً (3) .
و قد استغرقت هذه الهجرة نحو قرنين من الزمان حتى استقر بهم المقام في البلقان ، و كانت بوادر وصول طلائع المهاجرين ظاهرةً عقِب الهزيمة التي مُنيَ بها الجيش الروماني في معركة أدرنة سنة 779 هـ / 1378 م حيث أصبح الطريق مفتوحاً أمام الوافدين الجدد الذين استمر تدفقهم على المنطقة منذ أواخر القرن الرابع و حتى أواخر القرن السادس للميلاد .
__________
(1) ... أخرجه الترمذي ( 3231 ) في التفسير ، باب : من سورة الصافات ، و (3931) في المناقب ، باب : مناقب في فضل العرب – وحسنه - ، وأحمد 5 / 9 و 9 – 10 و 10 – 11 ، والطبري في " تاريخه " 1 / 128-129 و الطبراني في " الكبير " 7 / رقم 6871 – 6873 ، و في " مسند الشاميين " (2644 و 2645 ) ، و ابن المقرئ في " معجمه " ( 947 ) ، و الخطيب في " المتفق والمفترق " 2 / 840 ( 500 ) و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 62/276 – 277 ؛ من طرق عن : قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة به .
... و علته عنعنة قتادة ، و الحسن البصري ، فكلاهما مدلس .
و له طريق أخرى لا تصلح للاعتبار : أخرجها الطبراني في " المعجم الكبير " ( 7033 ) من طريق مروان بن جعفر السمري ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جعفر بن سعد بن سمرة ، عن خبيب بن سليمان بن سمرة ، عن أبيه ، عن سمرة به .
... و إسناده مظلم ؛ مسلسل بالمجاهيل و الضعفاء :
مروان بن جعفر السمري ، قال فيه الذهبي في " الميزان " ( 4 / 89 ) : ( له نسخة عن قرابته محمد بن إبراهيم فيها ما ينكر ) .
2- محمد بن إبراهيم ، هو : ابن خبيب بن سليمان بن سمرة . قال فيه ابن حبان في " الثقات " 9 / 58 : ( لا يعتبر بما انفرد به من الإسناد ) . =
= ... 3- و جعفر بن سعد بن سمرة .
و ابن عمه : خبيب بن سليمان بن سمرة . قال فيهما ابن القطان : ( ما من هؤلاء من يعرف حاله ، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم ) . و قال الأزدي : ( خبيب ضعيف ، وليس جعفر ممن يعتمد عليه ) . انظر : الميزان 1 / 407 .
وعلى كل فهو إسناد لا ينهض به حكم كما قال الذهبي .
(2) ... انظر : R, Browning : Byzantium & Bulgaria Acomparative Study Across the Early Medieval Frotier ( London,1975g ) P : 36 – 37
(3) ... انظر : الدكتور وسام عبد العزيز : البوسنة - الصرب - الكروات ، ص : 24 .(/10)
و كانوا في البداية يتنقلون على الأقدام أو يبحرون في الأنهار بقوارب صغيرة مُتترِّسين بالدروع ، و مُسلَّحين بأدوات الرمي البدائية (1) ، و لكنَّهم ما لبثوا أن تحوَّلوا إلى غُزاةٍ أشداء يغيرون على شبه جزيرة البلقان منذ أواخر القرن الخامس للميلاد ، و بِشكلٍ مُتواصل إلى أن استتبَّت لهم الأمور ، فاستوطنوا المنطقة ، وعمِلوا على تغيير تركيبتها السُكانيَّة ، حتَّى صارت لهُم الغلبة ، و كوَّنوا السواد الأعظم بين الشعوب التي سبقتهم إليها كالإلبيريِّين و البلغار و غيرهم .
المقصد الثالث : قبائل الصقالبة التي استوطنت البلقان :
قبائل الصقالبة التي وصلت إلى البلقان كثيرةٌ ، من أشهرها : الصرب و الكروات و السلوفينيُّون و البلغار و المقدونيُّون ، و يُعرفُ هؤلاء باسم صقالبة الجنوب ، و إليهم ينتمي البشانقة (2) .
و اشتهر من بين القبائل الصقلبيَّة التي استقرَّت أواخر القرن الأوُّل للهجرة / السابع للميلاد في البوسنة و ما حولها ( من البلاد التي عُرفت فيما بعد
بيوغسلافيا ) قبيلتان جديدتان هما الكروات و الصرب ، ثمَّ ما لبث أن ظهر البوشناق بصفتهم كياناً صقلُبياً متميزاً عن سابِقيه و إن اتَّحدوا جميعاً في الأصل .
فمَنْ هم الصرب و مَنْ هم الكروات ؟ و ما علاقتهم بالبوشناق ؟
يرى المؤرِّخون أنَّ كلمة كروات ، أو هِرْفات ( Hrvat ) - كما تُكتب وتُنطق باللغة الصربوكرواتية - ليست كلمةً سلافية ، و يُرجعونها إلى الاسم الإيراني كُرواتوس (Choroatos ) الموجود على نُصُب القبور القريبة من مدينة تانايس
( Tanais ) جنوبيَّ روسيا ، حيث كان سكان تلك المنطقة في القرون الأولى للميلاد مؤلَّفين من الصقالبة و السرماتيين ذوي الأصول الإيرانية ، ممَّا يُرجِّح الرأيَ القائل : إنَّ بعض القبائل الصقلبيَّة – بما فيها الصرب و الكروات –عاشت تحت سُلطة صفوةٍ حاكمة من ذوي الأصول الإيرانية ، أو كانت - في الأصل - قبائل إيرانيَّة انحازت إليها رعايا صقلبيَّة ، و أنَّ الصرب و الكروات ومعهم البوشناق لهم تاريخ مشتركٌ منذ أقدم العصور ، إذ إنَّهم مُتَّصلون أوثق اتصال ، يعيشون و يُهاجرون في تلازم تام على الرُغم مما بينهم من التمايز ، إلى أن استوطن الصرب منطقة صربيا المعاصرة بحدودها الحاليَّة ، التي كانت تُعرف في القرون الوُسطى باسم راشكا ( Ra?ka ) أو راشيا
( Ra?ija ) ثم أخذوا يوسعون سلطانهم تدريجيَّاً إلى المناطق المجاورة كإقليم الهرسك ، أمَّا الكروات فقد كانوا يستوطنون منطقةً تُقاربُ في حدودها كرواتيا المعاصرة ، ورُبَّما كانت تضُم مُعظم أجزاء البوسنة بحدودها الأصليَّة (3) .
و يتفق المؤرِّخون على أنَّ لفظة كروات ظهرت لأوَّل مرة في عهد تيربومير، الذي حكم منطقة كرواتوروم بين عامي 230 هـ / 845 م و 249 هـ / 864 م ، و أعلنت المملكة الكرواتيَّة استقلالها في عام 312 هـ / 925 م ، و لكنها لم تتمتع بالاستقلال طويلاً و ما لبثت أن خضعت للعرش الهنغاري في القرن السادس للهجرة / الثاني عشر للميلاد (4) .
و في المقابل أنشأ الصرب إمبراطوريَّتهم التي شهدت قمَّة ازدهارها في عهد إيتيان دوشان ، و كان مركزها في إقليم قوصوة ( كوسوفو ) الذي يقطنه الألبان حالياً ، وكانت هذه الإمبراطورية من القوَّة بمكان ، حتى إن دوشان كان يتطلّع إلى الاستيلاء على القسطنطينية لولا أنَّ الأجل عاجله فمات ، و بموته تمزَّقت الدولة الصربيَّة .
و اغتنم العثمانيُّون هذه الفرصة فسحقوا أوَّل دولة صربيَّة في المهد بعد معركة كوسوفو الشهيرة عام 791هـ/1389م (5) .
و على الرُغم من انتماء كلٍ من الصرب و الكروات إلى القوميَّة الصقلبيَّة واتحاد لُغتهما التي عرفت فيما بعد باللغة الصربوكرواتية ( نسبةً إليهما ) باعتبارها لغةً مُشتركةً للجميع ، فإنَّ الفوارق بين القبيلتين لم تذب تماماً ، بل عاد الانقسام والتشرد لأسبابٍ مختلفة – و إن كانت دينيَّة في الغالب – أدَّت إلى حروبٍ طاحنة و مُواجهاتٍ عنيفة بين الطرفين ، ازدادت حِدّةً بعد أن اعتنق الصرب النصرانيّة الأُرثوذكسية (6)
__________
(1) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 24 – 25 .
(2) ... انظر : أشرف المهداوي : قصَّة البوسنة ، ص : 89 .
(3) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 28 – 29 .
(4) ... حسين عبد القادر : انشطار يوغسلافيا ، ص : 15 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 15 – 16 .
(6) ... الكنيسة الأرثوذكسيَّة : إحدى الكنائس الثلاث الرئيسية في النصرانية ، و قد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية تماماً بحلول عام 445هـ / 1054م ، و تمثَّلت في عدة كنائس مُستقلة ، لا تعترف بسيادة بابا روما عليها ، و تختلف عقيدة الأرثوذكس عن عقيدة الكاثوليك في طبيعة المسيح عليه السلام ، و تدعى هذه الكنيسة : الكنيسةَ الشرقية ، و يُمثلها في الشرق الكنيسة القبطية المصرية ، و كنيسة القسطنطينية 0
انظر : الموسوعة المُيسرة في الأديان و المذاهب و الأحزاب المعاصرة ، إعداد وحدة الدراسات و البحوث ، بالندوة العالمية للشباب الإسلامي ، ص : 593-609 .(/11)
و دانوا بالتبعيَّة للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ، و انتحل الكروات العقيدة الكاثوليكيَّة (1) ، تبعاً للبابوية الرومانيَّة .
أمَّا بقية صقالبة الجنوب ، فقد استقرَّوا بين الصرب و الكروات متمركزةً حول نهر البوسنة ، و انتشر أفرادها في المنطقة الواقعة بين نهر درينا شرقاً و نهر فرباس غربا ً، و هؤلاء هم البوسنويُّون ( البشانقة ) الذين يثور الخلاف كثيراً حول نسبتهم و أصولهم العِرقيَّة .
المقصد الرابع :البوشناق وعلاقتهم بالصقالبة :
البوشناق كلمة مُحوَّرة عن الكلمة البوسنوية ( Bo?njaci ) التي تُستعمل للدلالة على النسبة إلى البوسنة في اللغة البوسنوية ، فالبوشناقي و البوسني ( أو البوسنوي ) بمعنى واحد (2) ، غير أنَّ الاسم الأوّل حمله البشانقة المهاجرون إلى البلاد العربية و تركيا و عُرِفوا به ، حتى صارت كلمة ( بوشناق ) علماً في الدلالة على الأُسر المستعربة من أصلٍ بوسنويّ ، تماماً كما هو الحال بالنسبة لكلمة (أرناؤوط) التي تُطلق على مُستعربة ألبانيا .
إنَّ التاريخ قد قال كلمته مثبتاً أن البوشناق ( سُكان البوسنة ) يُصنَّفون ضمن الصقالبة على الرغم من بعض التميُّز عنهم قاطِعاً بذلك الشكَّ عند المؤرِّخين والعلماء في أصول الشعب البوسنويّ (3) .
وبينما تؤكد طائفةٌ كبيرةٌ من المؤرّخين إلى أنَّ البوشناق هم ( البُجناك ) الذين كانوا يسيطرون على منطقة نهر الفولغا ثُمَّ حاصروا القسطنطينية ، و وصلوا إلى حدود إيطاليا ، و أنَّه تم تحريف كلمة ( بجناك ) بقلب الجيم الفارسيَّة المثلثة التحتية إلى شين (4) ، قاطعةً بذلك الطريق أمام من يُشكِّك في عراقة هذا الشعب و صقلبيَّته ، تثور مزاعم مُضادَّةٌ طُرِحت بقوًّة في أثناء الحرب العالميَّة الثانية و جاء التأكيد عليها في مُذكرةٍ بعثت بها طائفةٌ من مسلمي البوسنة إلى هتلر في عام 1342 هـ / 1924 م تقول : (( نحنُ جِنساً و دماً لسنا من السلاف - الصقالبة - و إنما نحن من أصلٍ قوطي ، و قد جئنا إلى البلقان في القرن الثالث للميلاد بوصفنا قبيلةً جرمانيَّة )) (5) .
و بهذا الادعاء – الذي قد يكون الخوف من فتك النازية التي يقودها هتلر مُسوغا له – فتح البوسنويُّون على أنفسهم باب الرفض و اللفظ من قبل شعوب يوغسلافيا ، إذ طالبت هذه الشعوب بإجلائهم عن بلادهم ، لأنهم – و باعترافهم – دخلاء عليها ، سواء أكانوا جِرمانيين ( نسبة إلى ألمانيا ) أو أتراكاً ، و هذا سبب كافٍ لتأليب الناس ضِدَّهم .
و إذا كان بعضُ البوسنويين أنفسهم قد آثر الانتماء إلى الجرمانيين ، فإنَّ هذا الادعاء لم يُقنع خصومهم ، كما لم يكن هتلر نفسُه ليصدِّقه (6) ، و ظلَّ البشانقة في نظر صقالبة الجنوب دُخلاء ينظر إليهم على أنَّهم أتراك أو من غرس الأتراك ، و لا يزال الصرب حتى يومنا هذا يرددون في أناشيدهم الحماسيّة القديمة عبارة : (( تعالوا نذبح أبناء الأتراك )) (7) .
فهل كان البوشناق كذلك ؟
إنَّ نظرةً سريعة على الصراع بين البشانقة و الأتراك الذي أثبته المؤرخون الصقالبة أنفسهم كفيلة بنفي أيِّ صلةٍ تجمع بين الطرفين أو تُقرِّبُ بينهما ، اللهُمَّ إلا صلة الدين و عُروته الوُثقى التي لا انفصام لها ، و مما يؤكد هذا كثرة الثورات التي واجه بها الشعب البوسنويُّ الحُكم العثمانيِّ منذ أيَّامه الأولى و حتَّى جلائه عن البوسنة .
و قد اشتهرت في تاريخ المُقاومة البوسنيَّة للعُثمانيِّين ثورة عام 1245هـ/1830م التي قضى عليها العثمانيُّون بقيادة عمر باشا (8)
__________
(1) ... الكنيسة الكاثوليكية : أكبر الكنائس النصرانية في العالم ، و قد عُرفت بهذا الاسم منذ القرن الثانِي للميلاد ، و تدَّعي أنها أم الكنائس ، يُزعم أن مؤسسها هو بُطرس الرسول ( ت 62 م ) ، تتمثَّل في عدَة كنائس تتبع الكنيسة الرومانية ، و تخضع لسيادة بابا روما ، تُسمَّى أيضاً الكنيسة الغربية أو اللاتينية 0
انظر : الموسوعة المُيسرة في الأديان و المذاهب و الأحزاب المعاصرة ، ص : 610- 624 .
انظر : الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 11 .
(2) ... انظر : الجوهر الأسنى للخانجي ، ص : 173 .
(3) ... انظر : مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 442 .
(4) ... اُنظُر : نزار سمك : البوسنة و الميراث الدامي ، ص : 21 .
(5) Rad?i?, E : Muslimansko autonoma?tvo I 13. SS divizija : autonomija Bosne I Hercegovine I Hitlerovtre? I rajh ( Sarajevo, 1987g ) P : 72
(6) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 36 .
(7) ... بسَّام العسلي : المسلمون في البوسنة و الهرسك ، ص : 58 .
(8) عمر باشا : قائد عثماني شهير ، نمساوي الأصل ، ولد سنة 1246 هـ / 1830 م ، و مات سنة 1288 هـ / 1871 م ، خدم في الجيش النمساوي ، ثم اهتدى إلى الإسلام بعد أن هاجر إلى البوسنة ، و خدم في الجيش العثماني ، رقي تدريجيا حتى وصل رتبة عالية ، هزم الروس في عدة مواقع منها حرب القلزم .
انظر ترجمته في : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 77 .
و : المذكرات السياسية , للسلطان عبد الحميد الثاني ، ص : 179 .(/12)
قضاءً مُبرماً لجؤوا فيه إلى أعنف أساليب القمع وأشدِّها مما فاق شدَّة العمليَّات المماثلة للقضاء على ثورات الشعوب الأخرى ، لأنَّ ثورة البوسنة قام بها شعبٌ مسلم تربطه بالعثمانيين علاقاتٌ أقوى من تلك التي تربط الشعوب الأخرى بدولة الخلافة .
و (( قد أبرزت هذه الثورة تميز الشعب المسلم في البوسنة عن العثمانيين ، ودحضت كلَّ مقولةٍ ترمي إلى إزالة الحدود و الفواصل بين هذا الشعب المُسلم والأتراك ، و هي المقولة التي كان نصارى البلقان و أوروبا يرمون بها كلَّ المسلمين ، و يعنون بها أنَّ كلَّ مسلم تركيٌ بالضرورة )) (1) .
و كفى بهذا الحدث دليلاً على التباين الجذري بين البشانقة و الأتراك .
و يبقى القول الفصلُ في نسب البشانقة هو أنَّهم صقالبة ، لا يقلوُّن شأناً و لا نسباً عن صقالبة الجنوب الآخرين صرباً كانوا أو كرواتاً أو غير ذلك ، و هذا الرأي هو السائد عند مؤرِّخي المنطقة .
و لكن يبقى أن نتساءل : من أيِّ الصقالبة هم ؟
لقد دأب الكتَّاب المسلمون من أبناء البوسنة و غيرهم على تسمية البوسنويين بالبوشناق أو البشانقة ، و على هذا الاعتبار فإنهم يُصنَّفون في عِداد صقالبة الجنوب
( اليوغسلاف ) .
و إذا ثبت هذا فإنَّ من لا يعارضه أحياناً من متعصّبة الصرب و الكروات سيتنازعون البشانقة ، و سينسبهم كلٌ منهما إلى قوميَّته – و لو عن غير قناعة - لتبرير إبادتهم و ضمّ بلادهم ، و هذا هو الواقع المرير الذي يُعاني منه أبناء البوسنة منذ قرون ، و إن كانت مُعاناتُهم قد بلغت ذِروتها بعد سقوط الخلافة العثمانيَّة ، حيث يدَّعي الكروات أنَّ البشانقة من أبناء جِلدتهم في الأصل ، و أنهم أُجبروا على الدخول في الإسلام مما ميَّزهم عن أبناء قوميَّتهم الأصليَّة ، كما يذهب الصرب إلى نحوٍ من ذلك بادِّعائهم – و بدون انقطاع – أنَّ البشانقة صربيون أصلاً (2) !! وكفى بهذين الادعاءين مسوغاً لما تعرَّض و ما يتعرَّض له مسلمو البوسنة من النكبات و الحروب .
قُلتُ : قد أخذ منِّي العجب كُلَّ مأخذ ، و أنا أتأمَّل ما ذهب إليه بعضُ الكُتَّاب المعاصرين من إثبات أن الشعب البوسنويَّ صقلبي ، مع نفيه أن يكون بوشناقياً ، على الرغم من أنَّ الخلاف المعتبر حول نسَب البوسنويِّين هو : هل كانوا صقالبةً أم لا ؟ مع التسليم بأنَّهم من البوشناق !!
يقول الدكتور وسام عبد العزيز : (( يُخطئ من يعتقد أنَّ أهل البوسنة هم البشناق التُرك ( Patzinaks ) الذين هدَّدوا الدولة البيزنطيَّة في القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر للميلاد ، فأهل البوسنة هم السلاف الذين استقروا حول نهر البوسنة منذ مطلع القرن الأول للهجرة / السابع للميلاد و شكَّلوا دولةً حاجزة بين الكروات و الصرب قبل أوَّل ظهور للبشناق في وثائق التاريخ بثلاثة قرون على الأقل (( (3) .
و يبدو لي أن السبب الذي حدا بالدكتور وسام إلى نفي اسم البوشناق عن أهل البوسنة هو اقتران هذه التسمية بحدثٍ تاريخيٍ مُحدَّدٍ بِمَعلَمين :
أحدُهما : أن البوشناق المذكورين كانوا من الترك .
و ثانيهما : تهديدهم للدولة البيزنطية في القرن الخَامس للهجرة / الحادِي عشَر
للميلاد .
أمَّا كونهم من الترك ، فقد ذكر الدكتور بعد قليل أنَّ سكان البوسنة كانوا من السلاف ( الصقالبة ) و ليسوا أتراكاً ، ممَّا يدلُّ على أنَّ المعنيِّين بالحدث التاريخي الذي ساقه ليسوا بشانقة البوسنة ، و قد كان بِوُسعه أن ينفي الحدث بدون نفي التسمية ، إذ لا يغير من الواقع شيئاً قولُنا : إنَّ سكان البوسنة هم بشانقة صقالبة ، غير البشانقة التُرك أو أنهم غير أولئك الذين هدَّدوا الدولة البيزنطيَّة ذات يوم و الله أعلم .
و أخيراً ، أعود لأقرر أنَّ شعب البوسنة البوشناقيَّ ليس صربياً و لا كرواتياً كما أنه ليس تركياً و لا جرمانيَّاً ، و لكنَّه شعبٌ مُتميِّزٌ عن الجميع ، بِشهادةٍ عُمرها يناهز الثمانية قرون ، و قد أدلى بها الكاتب كيناموس ( Kinnamos ) أمين سر الإمبراطور مانويل كوفينوس قائلاً : (( إنَّ البوسنة لم تعد تُطيع أوامِر الزوبان الأعظم للصرب ، إنَّه شعبٌ مُجاورٌ له عاداته و سماته و حكومته الخاصَّة )) (4) .
المبحث الثالث
تاريخ البوسنة و الهرسك
شهدت البوسنة و الهرسك تاريخاً حافلاً بالأحداث و الصراعات والحروب ، و برزت فيها أنظمة و سُلُطات ، و مرّت بها أحداثٌ جِسام عبر حُقب التاريخ المُتتالية .
__________
(1) ... انظر : مُحمَّد خليفة : الإسلام والمسلمون في البلقان ، ص : 451 .
(2) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 29 .
(3) ... انظر : الدكتور وسام عبد العزيز : البوسنة - الصرب - الكروات ، ص : 43 .
(4) ... Cinnamus, Epitome rerome ab Ioanne et Alexio Comnenis gestarum
ed. A. Meinecke ( Bonn, 1836 ): 3/104(/13)
و تسهيلاً لدراسة تاريخ البوسنة ، سأسرد في المطالب الستة التالية - التي يمثل كلٌّ منها مرحلةً من مراحل تاريخ البوسنة - أهمّ الأحداث مرتّبةً حسب تاريخ حدوثها مع التركيز على ما أرى له أهميّة خاصّة كجوانب المُعاناة التي تعرَّض لها المسلمون ، باعتبارها أحد أبرز المعالم في تاريخ البوسنة على مرِّ العصور ، ملتزماً الإيجاز قدر الإمكان :
المطلب الأوَّل : البوسنة قبيل الفتح الإسلامي :
خضعت البوسنة لحكم إمارة راشكا ( صربيا ) في عهد الأمير تشاسلاف إلاَّ أنَّها استقلَّت بعد مقتله سنة 276 هـ / 960 م (1) .
أوَّل حاكم معروف للبوسنة المستقلَّة هو بوريس ( Boric ) ، و قد حكم البوسنة مُدَّة عشر سنين بين 549 هـ / 1154 م ، و 558 هـ /1163 م (2) .
حَكَم البانات (3) ( أمراء المقاطعات ) مناطق مُختلفة من البوسنة حتى
عام 779 هـ / 1377 م (4) .
توسَّعت البوسنة في عهد البان كولين الذي تولَّى عرشها حتى عام 641هـ / 1245 م ، و ازدهرت كثيراً حتَّى أصبحت دولةً منافسة للدول المجاورة (5) .
حُكمت البوسنة من قِبَل البانات القطرمانيين (6) بين عامي 815 هـ / 1314 م و 779 هـ/ 1377 م (7) ، و من أشهر الحكام المنتسبين لهذه الأسرة أصطفان قطرومانيتش الذي حكم البلاد مدة ثلاثين سنة انتهت بوفاته عام 754 هـ / 1353 م (8) .
في عام 721 هـ / 1322 م تولى حكم البوسنة البان قطرومانيتش و قاد نضالاً طويلاً انتزعت البوسنة استقلالها ثمرةً له ، ثم سارت على طريق الازدهار في عهده (9) .
في عام 753 هـ / 1353 م قام البان تفرتكو بتأسيس المملكة البوسنوية ، و تولى حُكمها بنفسه حتَّى عام 779 هـ/1377م ، و أطلق على نفسه لقب الملك و في عهده توسَّعت مملكة البوسنة و شملت أجزاء من صربيا ، ممَّا جعل تفرتكو أبرز شخصيَّة في تاريخ البوسنة قبل الفتح الإسلامي (10).
مع بداية القرن الهجريِّ التاسع / الميلادي الخامس عشر للميلاد آلت مقاليد الأمور في البوسنة والهرسك إلى رجلين ، أحدهما في الشمال ( البوسنة ) و الآخر في الجنوب ( الهرسك ) . أما الأول فهو هرفوجه دوق اسيلاتو ( توفي سنة 819 هـ / 1416 م ) ، وأما الثاني فهو سندلج هارانيش من الأسرة التي انحدر منها الأمراء المستقلون الحاكمون للهرسك في الجنوب ( توفي سنة 838 هـ / 1435 م ) (11) .
اتَّحدت مملكة البوسنة و دوقيَّة ( إمارة ) سان سافا عام 779 هـ / 1377 م ، و استمرَّتا مُتَّحِدتين حتَّى وُصول العثمانيين عام 867 هـ / 1463 م (12) ، و بذلك بدأت مرحلةٌ جديدة من مراحل التاريخ البوسنويّ .
قلتُ : لعلَّ أبرز معالم هذه المرحلة من مراحل التاريخ البوسنويّ هو قيام كيانٍٍ بوسنوي مستقل على هذه الرقعة من الأرض ، و أنَّ هذا الكيان قد استمرَّ منذ إعلان البوشناق استقلالهم و إقامة دولتهم في أواخر عام 525 هـ / 1137 م ، حيث توحَّدت بلادهم تحت سلطة البانات ، و ظلّت البوسنة موحدةً حتى دخولها تحت الحكم العثماني (13) .
و للتأكيد على استقلال البوسنة و وحدة أراضيها عبر العصور يُمكن الاستئناس بالوقائع التاريخيَّة التالية :
إنَّ البشانقة منذ وصولهم إلى البوسنة و استيطان جبالها الوعرة ، أيَّام هبوط صقالبة الجنوب شبه جزيرة البلقان ، و هم في حالة دفاعٍ عن النفس ، و تصدٍ لهجمات الصرب و الكروات التوسعية .
__________
(1) ... الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 156.
(2) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 208.
(3) ... البان : تعبير فارسي الأصل بمعنى الحامية أو الراعي ، و قد جاء مع الكروات إلى المنطقة ، و هو ما دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بوجود تواصل بينهم و بين كروات المنطقة في موطنهم الأصلي شمال آسيا الوسطى وبين الفرس .
انظر : الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 156 – 157 .
(4) ... الدكتور فِكرَت كارجيتش : تاريخ التشريع الإسلامي في البوسنة ، ص : 16 .
(5) ... الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 157 .
(6) ... القطرمانيُّون : نسبة إلى أسرة " قطرمان " البوسنوية الشهيرة التي ظهرت في البوسنة عام 713هـ/1314م.
انظر : دائرة المعارف الإسلامية : 4/396 .
(7) ... انظر : المرجع السابق : 4/396 .
(8) ... المرجع السابق : 4 / 269 .
(9) ... الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 157 .
و : فؤاد شاكر : البوسنة و الهرسك ، مأساة شعبٍ و هوانُ أمَّة ، ص : 20 .
(10) ... الدكتور كارجيتتش : تاريخ التشريع الإسلامي في البوسنة و الهرسك ، ص : 16 .
(11) ... دائرة المعارف الإسلاميَّة : 4 / 296 .
(12) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 219 .
(13) ... دائرة المعارف الإسلاميَّة : 4 / 269 .(/14)
إنَّ البشانقة قد جمعوا إضافةً إلى العنصر الصقلبي مجموعةً من العناصر المُمَيِّزة مثل استقلال الكنيسة البوسنويَّة ، و قيام زعامات وطنية مستقلة تسوسهم و تدير شؤون بلادهم ، و لو لم يكونوا مُستقلِّين لما كان لحكم البانات البوسنويين لهم معنى ، و لا لاستقلال كنيستهم و التفرُّد بعقائد لا يدين بها سواهم .
إنَّ العثمانيين وصلوا إلى البوسنة و هي دولةٌ مستقلَّة ليس للصرب و لا لسواهم فيها من الأمر شيء ، و لم يكن يربط البوسنة بجيرانها سوى معاهداتٌ و تحالفاتٌ ضعيفة .
المطلب الثاني : البوسنة في ظلِّ الحُكم العثماني :
بدأ دخول العثمانيِّين إلى البلقان بعد أن فتحوا مدينة غاليبولي (1) سنة 754 هـ / 1353 م (2) .
في عام 771 هـ / 1370 م ، أُلحقت مملكة بلغاريا بالدولة العثمانيَّة بعد جهاد طويل ، و خضعت بعض الشعوب الصربيَّة في البلقان للحكم العثماني ، حتى اعترف الملك ( استيفان ) بالسيادة الإسلاميَّة العثمانية على بلاده ، و تعهَّد بدفع الجزية للسلطنة سنويا (3) ، لكنَّ الدولة العثمانيَّة واجهت في البلقان نوعاً من الأعداء المعروفين بالغدر و الخيانة و هم الصرب ، حيث تحالف ملك الصرب مع ملك البلغار - الذي كان خاضعاً للدولة العثمانية - لمهاجمة قوَّات العثمانيين و التصدي لزحفهم في البلقان ، و لكن هذا التحالف باء بالفشل الذريع و سرعان ما آل إلى الانهيار ، ممَّا أعطى السلطان مراد الأول (4) تبريراً للتقدم بجيشه و التوغُّل في أعماق البلقان باتجاه بلاد الصرب (5) .
استولى العثمانيُّون على مقدونيا كاملةً عام 772 هـ / 1371 م ، وتوغَّلت قوات السلطان مراد الأول في البلقان ، و هزمت قوَّات الصرب التي قادها لازار في معركة قوصوة ( كوسوفو ) الشهيرة عام 791 هـ/ 1389 م ، و بذلك استتبت الأمور للعثمانيِّين في شبه جزيرة البلقان (6) و أعطى حُكامها الجزية
(( عن يدٍ و هم صاغرون )) ،? و في معركة قوصوة أسر ملك الصرب لازار ثمَّ قتل و في المقابل قُتل غيلةً السلطان مراد الأول بطعنةٍ من صربيٍ تقدَّم إليه زاعماً أنَّه سيُسلِّم عليه و يُعلن إسلامه بين يديه ، و بينما كان السلطان يجود بنفسه أخذ البيعة من الحاضرين لابنه الغازي بايزيد الأول (7) ، و أوصى بالأسرى خيراً ، ثمَّ تشهَّد و فاضت روحه إلى بارئها في منتصف شعبان 791 هـ الموافق للتاسع من أغسطس
( آب ) 1389 م رحمه الله رحمةً واسعة (8).
__________
(1) ... غاليبولي : مدينة ساحليَّة و ميناءٌ هام ، يُطلُّ على مضيق الدر دنيل ، قرب جزيرة غاليبولي الواقعة ضمن الحدود الحالية لتركيا ، و تسمى بالتركية (غليبولو) ، على بعد 140 ميلاً من مدينة أدرنة ، و يبلغ عدد سكانها 16496 نسمة تقريباً0
انظر : دائرة المعارف اليوغسلافيَّة : 8 / 214 Encilopedija Jugoslavije ( JLZ, Belgrad; 1965g )
(2) : الموسوعة العربية الميسرة : 1 / 596 .
... انظر : حامد عثمان : المسلمون في العالم ، قضايا و تحديات ، ص : 381 .
(3) ... انظر : الدكتورة سوسن سويلم : دراسة في حلقات ( ضمن مجلَّة المختار الإسلامي ، ع : 129 بتاريخ 2 / 3 / 1414 هـ الموافق 19 / 8/ 1993 م ) ، ص : 92 .
(4) ... مراد الأول ، هو : السلطان مراد بن أورخان الغازي ، ثالث الخلفاء العثمانيين ، بويع بالسلطنة بعد أبيه ، في سنة 761 هـ / 1359 م ، و استمرَّ حكمه إلى سنة 791 هـ / 1388 م حيث قتله غيلةً صربيٌ يدعى : ميلوش ، مات مراد الأول وهو في أوج انتصاره ، عرف بالكفاءة القيادية العالية ، قهر الأمبراطور البيزنطي يوحنا ، وهو الذي أحدث الراية العثمانية – علم تركيا الآن - .
انظر : طاشكبري زاده : الشقائق النعمانية ( مطبوعٌ على هامش وفيَّات الأعيان ، القاهرة 1310هـ ) : 1/ 77 ، شذرات الذهب 8/ 567 ، تاريخ الدولة العلية ، ص : 129 - 136 .
و إسماعيل سرهنك : حقائق الأخبار عن دُول البحار :1 / 491 .
(5) ... انظر : علي حسون : االعثمانيون و البلقان ( المكتب الإسلامي ، بيروت 1406هـ/1986م ) ، ص : 49 و ما بعدها 0
(6) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 26 و ما بعدها 0
(7) ... بايزيد الأول : سلطان عثماني ، وُلد سنة 747 هـ/1347م ، تولى حكم السلطنة عام 791هـ/1389م بعد وفاة أبيه السلطان مراد الأول ، يعتبر أبرز بُناة الدولة العثمانية لكثرة غزواته و إصلاحاته ، هزم الصليبيين في
( نيقوبوليس ) سنة 798هـ/1395م ، و لكن تيمورلنك ألحق به هزيمة نكراء عند أنقرة ، و اقتاده أسيراً عام 804 هـ / 1402 م ، و يقال إنه كان يحمله أينما ذهب في قفصٍ من حديد ، حتى مات كمداً سنة 799 هـ / 1403 م 0
انظر : الموسوعة العربية الميسرة 1 / 322 .
(8) ... انظر : أشرف المهداوي : قصَّة البوسنة ، ص : 154 - 155 .
... و : علي حسون : المسلمون في البلقان ، ص : 52 – 53 .(/15)
بدأ العثمانيون محاولاتهم دخول البوسنة في عهد ملكها استيفان الثاني(1) ، ووصلوا إلى مدينة بيليتسا ( Bileca ) عام 790 هـ / 1388 م ، إلاَّ أنَّ الجيش البوسنوي تصدَّى لهم و هزمهم .
في عام 820 هـ / 1418 م أُسِّس لواء البوسنة ، و كان مركزه مدينة سراي بوسنة ( سراييفو ) ، و عُيِّنَ أوَّل مُتصرِّف فيها و هو إسحاق بيك
( إسحاقوفيتش ) و هو من أهل البوسنة .
في عام 831 هـ /1428 م خضع ملك البوسنة لسيادة السلطان العثماني و بدأ بدفع الجزية ، بعد أن أبرم عهداً مع السلطان مراد الثاني (2) يحظى بموجبه بحماية العثمانيين (3) .
في عام 855 هـ / 1451 م بويع محمد بن مراد الثاني ( الفاتح ) (4) سلطاناً على الدولة العثمانيَّة ، و كان هذا إيذاناً بفتح القسطنطينيَّة ، مصداقاً لبشارة النبي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الله بن عمرو(5)- رضي الله عنه - ، قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب ما نسمع منه ، فقلنا : أي المدينتين تفتح قبل يا رسول الله قسطنطينية أم رومية ؟ قال : بل مدينة هرقل . يريد القسطنطينية (6)
__________
(1) ستيفان الثاني ، هو : استيفان دوشان بن استيفان أروش ، كان في عهد أبيه وليا للعهد ، ثم خلف والده بعد أن شنقه ، وحكم البلاد الصربية بقبضة من حديد لمدة جيل كامل ، كان بشع المنظر عملاقا ، سيطر على البوسنة و ألبانيا و مقدونيا ، و غيرها .
انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 64 .
(2) ... هو : السلطان مراد الثاني بن محمد الأول و خليفته ، استولى سنة 833 هـ / 1430 م على (سالونيك ) ، و غزا بلاد اليونان ، كان بلاطه مركزاً للثقافة العالية ، و كان هو نفسه محباً للشعر و الأدب ، توفي عام 854 هـ / 1451 م 0
انظر : الموسوعة العربية الميسرة 2 / 1677 .
(3) ... انظر : مُحمَّد فريد بك : تاريخ الدولة العليَّة ، ص : 135 .
(4) ... هو : السلطان أبو المعالي مُحمَّد خان الثاني بن مراد ، المعروف بالفاتح ، ولد سنة 832 هـ / 1428 م ، بويع بالسلطنة بعد وفاة أبيه في 855 هـ / 1451 م ، و الفاتح لم يفتح القسطنطينية فقط لكنه غيّر تاريخ أووربا أيضاً وثّمة اتفاق بين المؤرخين على أن العصر الحديث يبدأ بفتح القسطنطينية ، وكان مثقفا يعرف عددا من اللغات و هي : العربية ، و الفارسية ، و التركية ، وهو شاعر له ديوان بالتركية ، ومن صفاته الشجاعة و عدم التردد ، و حب الأدب ، استمرَّ حكمه إلى سنة 886 هـ / 1481 م .
... انظر ترجمته في : الضوء اللامع 10 / 47 ، شذرات الذهب 9 / 516 ، : الشقائق النعمانيَّة :
1 / 181 ، و المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية ، العددان : الاول و الثاني ، كانون الثاني
1990 م .
(5) ... عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ، هو : ابن العاص بن وائل ، السهمي القرشي ، أسلم قبل أبيه ، و كان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة سنة ، و كان عبد الله عالماً ، حافظاً ، عابداً ، و كتب الكثير من الحديث بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، مات بمصر بداره سنة 65 هـ/ 684 م .
... انظر ترجمته في : الحلية 1 / 283 ، أسد الغابة 3 / 349 – 351 ، تذكرة الحفاظ 1 / 49 ، سير أعلام النبلاء 3 / 89 - 94 ، العقد الثمين 5 / 223 .
(6) حديث صحيح :
أخرجه أحمد 2 / 176 ، و ابن أبي شيبة في " مصنفه " 5 / 329 ، و الدارمي في سننه ( 486 ) ، والطبراني في " الأوائل " ( 61 ) ، و في المعجم الكبير ( 13 / 68 رقم 166 – قطعة منه ) ، و أبو عمرو الداني في " السنن الواردة في الفتن " ( 5 / رقم 607 ) من طريق يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، عن أبي قبيل ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول ، و قد ذكروا فتح القسطنيطينة و رومية أيهما تفتح قبل ؟ فدعا عبد الله بصندوق ففتح ، فقال كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره .
... قلت : هذا إسناد حسن ؛ لأجل يحيى بن أيوب ، و هو الغافقي : صدوق ، كما قال البخاري ، انظر ترجمته في : تهذيب الكمال 31 / 233 ،. ثم إنه متابع كما سيأتي .
... أما يحيى بن إسحاق السيلحيني ، فهو : ثقة . و ثقة أحمد ، و ابن سعد ، و الذهبي ، و ابن حبان . وقال فيه ابن معين : صدوق . انظر : تهذيب الكمال 31 / 195 .
و قال الهيثمي في " المجمع " 6 / 219 : ( رواه أحمد ، و رجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل ، و هو ثقة ) .
و تابع يحيى بن إسحاق ، كلّ من :
1- عبد الله بن وهب : عند نعيم بن حماد في " الفتن " ( 1344 ) ، والحاكم في "المستدرك" (4 / 555 ، 598) ، و قال : صحيح الإسناد.
2- و سعيد بن أبي مريم : عند الطبراني في " الكبير " 13 / 166 .
و تابع يحيى بن أيوب : سعيد بن أبي أيوب بإسناد أخرجه الحاكم 4 / 422 من طريق هاشم بن مرشد ، عن سعيد بن عفير ، عنه .
قلت : وهذا إسناد حسن أيضاً ، به يصح الحديث ؛ و سعيد بن أبي أيوب هو : المصري ، ثقة ثبت ، كما في
" التقريب " ( 2274 ) .
و سعيد بن عفير ، هو : سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري المصري ، قال فيه ابن حجر في " التقريب "
( 2382 ) : ( صدوق عالم بالأنساب وغيرها ، و قال الحاكم : يقال : إن مصر لم تخرج أجمع للعلوم منه . و قد ردّ ابن عدي على السعدي في تضعيفه ) .
و هاشم بن مرشد ، هو : الطبراني ، و ثقة الخليلي ، و قال ابن حبان : ليس بشيء .
انظر : لسان الميزان 6 / 185 .
... و خالف ابن لهيعة ، فرواه عن أبي قبيل ، فزاد ( عمير بن مالك ) بينه وبين عبد الله بن عمرو ، و لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... أخرجه نعيم بن حماد في " الفتن " ( 1337 و 1354 ) ، و ابن عبد الحكم في " فتوح مصر " (ص257) . =
= ... لكن رواية يحيى بن أيوب ، و سعيد بن أبي أيوب أصح ، فابن لهيعة متكلم فيه و هما أحفظ منه .
و الحديث : صححه الحاكم كما تقدم ، و حسنه عبد الغني المقدسي في كتاب العلم – فيما عزاه الألباني - ، و صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " 10/131 ، و الألباني في " الصحيحة " (4) .
و جاء في البشارة بفتح القسطنطينية حديث آخر :
عن عبد الله بن بشر الغنوي : حدثني أبي ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
(( لتفتحنَّ القسطنطينية ، ولنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش )) . قال عبد الله بن بشر : فدعاني مسلمة بن عبد الملك ، فسألني عن هذا الحديث ، فحدثته ، فغزا القسطنطينية .
أخرجه عبد الله بن أحمد ، و أبوه في " المسند " 4 / 335 ، و البخاري في " التاريخ الكبير " ( 2/ 81 رقم 1760 ) ، و " التاريخ الصغير " ( 1/306 رقم 1483 ) ، و البزاز في " مسنده " ( 2 / رقم 1848 – زوائد ) و الطبراني في " المعجم الكبير " ( 2 / 38 رقم 1216 ) ، و ابن قانع في " المعجم " 1 / 81 ، و أبو سعيد بن يونس في " تاريخه " – كما في تاريخ دمشق 58 / 35 - ، و أبو نعيم في " معرفة الصحابة " ( 3 / رقم 1155 ) ، و الحاكم 4 / 422 ، و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " من طرق : عن زيد بن الحباب ، قال : حدثني الوليد بن المغيرة ، حدثني عبد الله بن بشر الغنوي ، عن أبيه به .
و رجاله ثقات سوى عبد الله بن بشر الغنوي ، وقيل : الخثعمي ، قال فيه علي بن المديني – كما في تاريخ
دمشق - : ( مجهول ) . ووثقه ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل .
و قد اختلف الرواة في اسمه و نسبه على وجوه ذكرها الحافظ في " تعجيل المنفعة " ص 213 ، و فرّق بينه و بين عبد الله بن بشر الخثعمي الكوفي الصدوق الذي روى له النسائي والترمذي .
أما توثيق الهيثمي في " المجمع " 6 / 219 ، و البوصيري في " إتحاف المهرة " ( 9943 ) لرجال إسناده فالظاهر أنّه لخلطهما بينهما .
و قال أبو سعيد بن يونس : ( ما حدث به إلا زيد بن الحباب . وعبد الله بن بشر الخثعمي يشبه أن يكون من ناقلة الشام ) .
و قال ابن عبد البر في " الاستيعاب " 1 / 170 : ( إسناده حسن ) .(/16)
.
تقدَّم السلطان محمد الفاتح - رحمه الله - بعد أن فتح الله على يديه القسطنطينيَّة بقوَّاته نحو بلاد الصرب ، و خاض حرباً ضروساً استبسل فيها المسلمون ضد الصرب و حلفائهم الذين دافعوا عن بلغراد (1) باستماتةٍ سنة 860هـ / 1456 م ، و قبل أن تُفتح المدينة عاد الفاتح إلى إسطنبول ، و أناب على الجيش الصدر الأعظم محمود باشا الذي أتمَّ فتح بلاد الصرب - عدا بلغراد - خلال عامَين ، و أعلنها ولايةً عثمانية عام 864 هـ /1460 م (2) ، بينما استعصت بلغراد على المسلمين فلم يدخلوها فاتحين إلا أيَّام سليمان القانوني (3) عام 927 هـ / 1521 م (4) ، و صادف فتحها يوم الجمعة الخامس و العشرين من رمضان ، فدخل السلطان إحدى الكنائس ، وأقام فيها صلاة الجمُعة ، و أمر بتحويلها إلى مسجد فكان ذلك أوَّل مسجدٍ في بلغراد (5).
ذكر بعض المؤرخين أنه بعد انتصار العثمانيِّين على الصرب و ضمِّ بلادهم إلى دولة الخلافة ، استغاث زعيما البوغوميل (6) في البوسنة ، و هما : فوكجيتش ، و بافلوف بالمسلمين لنصرتهم ، و دعوهم إلى بلادهم بعدما سمعوا و عرفوا من رُقِيِّهم و تسامحهم مع مخالفيهم (7) .
في عام 867 هـ / 1463 م تمرّد ملك البوسنة على السلطة العُثمانيَّة ، و رفض إعطاء الجزية ، و سعى إلى عقد اتفاقٍ مع الصرب ضدَّ العُثمانيِّين ، و كان هذا السبب كافياً لدخول الجيش العُثماني إلى البوسنة و فتْحِها (8) .
في عام 868 هـ / 1463 م (9) توجهت جيوش العثمانيِّين إلى البوسنة ، و اجتاحتها من الشرق حيث دخلت مدينة سربرنيتسا ( Srebrnica ) (10)، و منها توجَّهت إلى بقيَّة أرجاء البوسنة فافتتحتها كلَّها ، و أحكمت سيطرتها عليها بينما
ظلّ إقليم الهرسك خارج سلطة العثمانيِّين حتى فتحه السلطان بايزيد الثاني (11) ، سنة 888 هـ / 1483 م (12) .
وحَّد العثمانيون إقليميْ البوسنة و الهرسك في ولاية واحدة سنة 988 هـ / 1580 م ، و ظلَّ الإقليمان كذلك حتى عام 1266 هـ / 1850 م (13) .
فتح العثمانيُّون بلاد الجبل الأسود عام 901 هـ /1496 م ، و لكنهم لم يلبثوا أن انسحبوا منها مؤثرين الاكتفاء بتبعيَّتها الاسميّة و دفع الجزية للسلطنة (14) ، و بعد ذلك تمَّ فتح كرواتيا في عهد سليمان القانوني عام 932 هـ / 1526 م (15) .
__________
(1) ... بلغراد أو بيوغراد : أي الأرض البيضاء ، عاصمة يوغسلافيا الاتحادية تقع على نهر الدانوب ، و تشرف عليها قلعة العرب المعروفة ، و هي الآن عاصمة صربيا ، تعرَّضت معالمها الإسلامية للخراب و الدمار إبَّان الحربين العالميَّتين ، و لم يبق منها سوى قلعتها و مسجدها الوحيد0
انظر : محمد الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا 75-76 .
(2) ... المسلمون في العالم ، ص : 381 .
(3) ... سليمان القانوني ، هو : عاشر سلاطين الدولة العثمانية ، يُعرف بسليمان الأول ، لُقِّب بالقانوني بسبب التشريعات الإصلاحية التي سنها و جعلها دستوراً للحكم ، وُلد عام 900 هـ / 1519 م ، و خلف أباه السلطان سليم الأول على الحكم بعد وفاته عام 926 هـ / 1519 م ، و استمر على عرش السلطنة نحو نصف قرن حتى توفي عام 974 هـ / 1566 م ، و خلفه ابنه الوحيد سليم الثاني 0
انظر : شذرات الذهب لابن العماد 10 / 549 .
و : محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 79 ، ترجمة : 73 .
(4) ... انظر : أشرف المهداوي : قصَّة البوسنة ، ص : 177 .
و علي حسُّون : العُثمانيَُون و البلقان ، ص : 114 – 116 .
(5) ... بسام العسلي : المسلمون في البوسنة ، ص : 25 .
(6) ... البوغوميل ، أو أحباب الله : مذهب الكنيسة البوسنويّة ، سيأتي التعريف به في المبحث الرابع ، من هذه الدراسة إن شاء الله .
6 ... علي المنتصر الكُتَّاني : المُسلِمون في أوروبا و أمريكا ، ص : 118.
(8) ... مُحمَّد الخانجي : الجوهر الأسنى ، ص : 13.
(9) ... انظر : فؤاد شاكر : البوسنة و الهرسك ، ص : 20 .
(10) ... سربرنيتسا : تقع على الحدود الشرقية للبوسنة ، ومعظم سكانها اليوم من المسلمين ، وقد تعرضت إلى مجزرة رهيبة أودت بحياة عدة آلاف من المسلمين قبل سقوطها في يد الصرب أثناء الحرب الأخيرة ( الباحث ) .
(11) ... بايزيد الثاني ، هو : السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح ، ولد سنة 850 هـ / 1447 م ، وتولى الحكم بعد وفاة أبيه سنة 885 هـ / 1481 م ، وظل متربعاً على عرش السلطنة إلى أن خلعه ابنه سليم الأول سنة 919 هـ / 1512 م ، ثم سمه وقضى عليه .
... انظر : الموسوعة العربية الميسرة 1 / 323 .
(12) ... انظر : يلماز أوزتونا : تاريخ الدولة العثمانية ، ترجمة عدنان محمود سلمان ، ص : 153 .
(13) ... انظر : الاندلس الثانية ، ص : 24 .
(14) ... انظر : بول كولز : العثمانيون في أوروبا ، ترجمة الدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ ، ص : 113 .
(15) ... انظر : البوسنة والهرسك أمة تذبح وشعب يباد ، إعداد قسم البحوث بدار الدعوة للطبع والنشر ، ص : 16 .(/17)
في ظل الحكم العثماني أصبح للبوسنة كيان يضمُّ إلى جانب البوسنة والهرسك أجزاء من سلوفينيا و كرواتيا و دالماسيا و صربيا ، وظلَّت وحدة ذاتية الحكم لمنطقة كبرى طوال الحكم العثماني (1) .
في ظلِّ الحكم العثماني تولَّى المسلمون البشانقة مقاليد الأمور في بلادهم و كان منهم قادةٌ و باشواتٌ يحكمون البلاد و يقودون الجيوش ، و كان من أشهر ولاة البوسنة و أحبهم إلى أهلها على الإطلاق الغازي خسروبك ، الذي حكم البوسنة لفترتين أولاهما بين عام 912 هـ / 1506 م و عام 918 هـ/1512م و الثانية بين عامَيْ 926 هـ / 1520 م و 949 هـ / 1542 م ، كما برزت شخصيَّاتٌ بوسنويَّة تولَّت أرفع المناصب في دولة الخلافة بما فيها منصب الصدارة العظمى ، الذي تولاَّه لفترة طويلة محمد صوقولي البوشناقي ( و كان من نصارى البوسنة قبل إسلامه ) (2) ، و سنان باشا البوشناقي وغيرهما (3) ، و اشتهر من بين أبناء البوسنة البارزين في دولة الخلافة تسعةٌ من الساسة من بينهم ثلاثةُ أخوة من أسرة صوقولوفيتش من أهالي بلدة فيشِغراد ( Vi?egrad ) البوسنوية .
ظلَّت البوسنة و الهرسك محطّ أنظار و أطماع الدُول المجاورة ، فما إن سنحت الفرصة لملك المجر متياس كورفينوس حتى أغار على شماليَّ البوسنة ، واستولى على بعض مناطقها مثل زفتشا ( Zve?a ) ، و ياييتسا ( Jajca ) سنة 867هـ/
1463م تقريباً (4) .
بقيت البوسنة و الهرسك مقسمةً بين النفوذ العثماني و النفوذ المجري حتى عام 934 هـ / 1528 م ، حيث انتصر العثمانيُّون في موقعة موهاك ( أو موهاكس ) على المجريِّين انتصاراً حاسماً أخضع المجر لسلطتهم (5) ، و بذلك أصبحت البوسنة ولايةً عثمانية بلا نزاع .
هُزمت الجيوش العثمانية أمام النمساويين في سِنتا ( Senta ) عام 1108هـ / 1697 م ، و قُتل الصدر الأعظم الماس محمود باشا و كثير من قُوَّاد جيشه فتقدَّم الجيش النمساوي عبر نهر صاوة ( سافا ) ، حتى وصل إلى ضواحي سراييفو في يوم الثُلاثاء السابع من ربيع الأول سنة 1109 هـ ، الموافق للثاني و العشرين من أكتوبر
( تشرين أوَّل ) سنة 1697 م ، و دعا المسلمين إلى الاستسلام ليحولوا دون تدمير كلِّ شيء بالحديد و النار ، فاستسلم عامّتهم و لكن استسلامهم لم يحُل دون تدمير المدينة و إحراقها ، و أسر من نجا من أهلها ، و يكفي للدلالة على حجم الدمار الذي لحق بسراييفو إثر هذه الكارثة ، أنَّ من بين مائة و أربعة مساجد كانت موجودة يومئذٍ لم يسلم من الحرق و التدمير سوى خمسة أو ستة مساجد (6) .
في عام 1130 هـ / 1718 م وقع إقليم الهرسك تحت حكم النمسا ،
و ظلَّ كذلك إلى أن حرَّره العثمانيُّون و أعادوه إلى البوسنة بحلول عام 718 هـ /1837 م (7) .
في عام 1149 هـ / 1737 م علم والي البوسنة أن دولة النمسا عازمة على الاعتداء عليهم و قد حشدت في سبيل ذلك جيشاً جرّاراً ، و لما كانت الدولة العثمانية آنذاك تخوض حرباً عنيفة ضدّ روسيا ، لم تستطع أن تمد للبوسنويين يد العون ، فاجتمعت كلمتهم على مقاومة النمسا ، و صد عدوانها ، و كذلك فعلوا بدون نصير . و دارت معارك دامية شاركت فيها نساء البوسنة إلى جانب رجالها ، فكان النصر حليفهم ، و كافأ السلطان زعماءهم و قادة الدفاع منهم بأعلى الرتب ، و منح محمد بيك الفدائي البوشناقي لقب الغازي الذي كان أشرف الألقاب و أندرها (8) .
دخل الصرب مدينة بلغراد يوم الخَميس التاسع و العشرين من شوَّال سنة 1221 هـ الموافق للثامن من يناير ( كانون الثاني ) 1807 م ، و أعملوا السيوف في رقاب المسلمين ، و هدموا المساجد و المدارس ، و سووا القبور ، و لم تشهد بلغراد مثل ذلك العنف في تاريخها الحافل بالمآسي من قبل (9) .
__________
(1) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 85 .
(2) ... انظر : بول كولز : العُثمانيَُون في أوروبا ، ص : 163 .
(3) ... أحصى بعضُهم أسماء من أسندت إليهم الصدارة العظمى ( أي رئاسة الوزراء باصطلاح اليوم ) في الدولة العثمانيَّة من البوشناق فبلغ عددهم عنده أربعة وعشرين .
انظر : الشيخ مُحمَّد أمين الحسيني : كلمة هامة عن البوسنة و الهرسك ( مقالة نشرت في مجلَّة فلسطين ، ع : 142 ذي الحجة 1392هـ ) .
(4) ... دائرة المعارف الإسلاميَّة : 8 / 355 .
و : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 77 .
(5) ... حول تفاصيل هذه المعركة انظر : فؤاد شاكر : البوسنة و الهرسك ، ص : 43 – 47 .
(6) ... انظر : الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 176 .
(7) ... فؤاد شاكر : البوسنة و الهرسك ، ص : 21 .
(8) ... انظر : أمين الحسيني : كلمة هامة عن البوسنة و الهرسك ( مقال منشور في مجلة فلسطين ، العدد : 142 السنة : 13 ، ذو الحجة 1392هـ /1973م ) ، ص : 11 .
(9) ... انظر : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 13 – 14 .(/18)
قامت في البوسنة عام 1246 هـ / 1831 م حركة تمرد بقيادة حسين قبطان غراشتشفيتش ضد الحكم العثماني ، و نجح حسين في بداية الأمر ، و لكن سرعان ما انهزم أمام الجيش العثماني عام 1247 هـ / 1832 م (1) .
في عام 1259 هـ / 1844 م أعلن الصرب برنامجهم القومي ، الذي قرَّروا فيه تهجير جميع المسلمين من السنجق و البوسنة و الهرسك و كوسوفو ، أو تنصيرهم و إخضاعهم للأرثوذكسيَّة (2) .
حصلت صربيا على حُكم ذاتي بموجب معاهدة باريس عام 1273 هـ/ 1856 م ، و واصلت الضغط و المقاومة للحكم العثماني ، بدعم من حلفائها الروس و غيرهم إلى أن جلت آخر القوات العثمانيَّة عنها عام 1284 هـ / 1867 م حيث بقي حاكمها تابعاً للدولة العثمانيَّة شكلياً فقط (3) .
في عام 1291 هـ / 1875 م نشبت في منطقة البلقان ثورة عارمة ضدَّ العثمانيين ، بدأت في الهرسك ، ثم امتدت إلى المناطق المجاورة في البوسنة و بلغاريا و تضامنت صربيا معها ، إلاَّ أن القوَّات العثمانيَّة تمكنت من إخمادها (4) .
في عام 1292 هـ / 1876 م أعلنت كلٌ من صربيا و الجبل الأسود الحرب على الدولة العثمانية (5) .
خلال ثلاثين سنة فقط تنتهي بانتهاء عام 1330 هـ / 1912 م ، كانت عمليات التطهير قد طالت ستة و ثلاثين ألف مسلم من البوسنة و السنجق ، بحسب ما تثبته وثائق الدولة المجرية النمساوية ، أما مصادر المسلمين فتؤكد أن عدد المهجرين الحقيقي يتراوح بين مئة و أربعين ألفاً ، و مئة و ستين ألف
مسلم (6).
جاءت حروب البلقان المعروفة بين عامَيْ 1330 هـ / 1912 م ، و 1331 هـ / 1913 م لكي تنهي ما تبقى من النفوذ العثماني في منطقة البلقان ، حيث رتسمت صورة طبيعيَّة للتكاتف النصراني ضد الدولة التي ترفع راية الإسلام ، و انعكست فيها مراحل التخلُّص من النفوذ العثماني باستخدام شتى الوسائل ، و قد تمخَّضت هذه الحروب - التي انتهت رسميَّاً بالتوقيع على معاهدة لندن عام 1331 هـ / 1913 م عن خسارة كبيرة للدولة العثمانيَّة حيث فقدت أكثر من 83 بالمئة من الأراضي التي كانت تحكمها في البلقان (7) ، منهية بذلك عدة قرون من الوجود العثماني في المنطقة بلغت 415 سنةً في البوسنة ، و 380 سنة في صربيا ، و 420 سنة في الجبل الأسود ، و 430 سنة في قوصوة ( كوسوفو ) ، و 547 سنة في مقدونيا (8) .
المطلب الثالث : الحكم النمساوي و الهنغاري للبوسنة :
في عام 1295 ه / 1878 م منحت البوسنة و الهرسك حكماً ذاتياً في ظل الحكم العثماني بموجب معاهدة سان ستيفانو (9) ، لكن هذا الحكم لم يدم طويلاً حيث وُضعت في العام نفسه تحت الإدارة النمساويَّة المجريَّة المشتركة ، مع الإقرار بسيادة السلطان العثماني عليها بموجب قرار مؤتمر برلين ، الذي ضمن (( أن لا تمسَّ حقوق السيادة للسلطان العثماني ، و أن يستمر تداول العملة العثمانية، و أن تستخدم إيرادات البوسنة محليَّاً ، و أن تستعمل الإدارة الجديدة موظفين بوسنويين أو أتراكاً ، و أن تُتاح للمسلمين حرية العبادة ، و أن يظل اسم الخليفة مردداً على المنابر في الجُمَع )) (10) إلا أن شيئاً من هذه الأمور لم يُطبق اللهم إلا الأخير منها .
قاوم الشعب البوسنوي الحكومة النمساوية المجرية ببسالة مدة ثلاثة أشهر ، و لكنه غُلب على أمره ، و لم يتمكن من الإفلات من الاستعمار الذي فرض عليه بموجب معاهدة برلين (11) .
__________
(1) ... الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 16 .
(2) ... انظر : البوسنة و الهرسك ( من إعداد دار الدعوة ) ، ص : 16 .
(3) ... انظر : الدكتور فهد بن عبد الله السماري : المسلمون في البوسنة و الهرسك من مآسي الماضي إلى معاناة اليوم ،
... ص : 13 .
(4) ... الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 16 .
(5) ... الدكتور رشدي عزيز مُحمَّد : المسلمون في البوسنة و الهرسك بين الماضي و الحاضر ، ص : 73 .
(6) انظر : محمد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 721 .
(7) ... الدكتور فهد بن عبد الله السماري : المسلمون في البوسنة ، ص : 14 .
(8) انظر : الدكتور رشدي عزيز محمد : المسلمون في البوسنة بين الماضي و الحاضر ، ص : 88 .
(9) انظر : عبد الله سماييتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 56 .
(10) Schmitt, B; The Annexation of Bosnia 1908 - 1909 ( Cambridge, 1937g ) P:2 و : الأرقم الزعبي : قضيَّة البوسنة و الهرسك ، دراسة تاريخيَّة و إنسانيَّة ، ص : 28 .
(11) ... أمين الحسيني : كلمة هامة عن البوسنة و الهرسك ( مقال منشور في مجلة فلسطين ، العدد 142 ، السنة : 13 ، ذو الحجة 1392ه /1973م ) ، ص : 10.(/19)
حرص المسلمون الواقعون تحت حكم النمسا و المجر على إيجاد تنظيم يجمعهم - و كان ذلك قاصراً على الأمور الدينية - فاقترحوا إنشاء مشيَخةٍ دينية مستقلة عن اسطنبول في البوسنة ، و كان لهم ما أرادوا في عام 1237 هـ/ 1882م حيث عيَّن السلطان العثماني رئيساً لعلماء البوسنة ، و أُسندت إليه رئاسة مجلس الطائفة الإسلامية المكوَّن من أربعة أعضاء و هيئة مستشارين (1) .
استمرت البوسنة تحت السيطرة الفعلية للنمسا و المجر ، مع تبعيَّتها الشكلية للسلطنة العثمانية إلى أن انتزعت تماماً من جسد الأمَّة الإسلاميَّة ، و فُصلت نهائيّاً عن الدولة العثمانيَّة عام 1326 هـ / 1908 م (2) ، حيثُ أعلنت النمسا ضمَّ إقليمي البوسنة و الهرسك ، و خَلعَ آخر الولاة المسلمين من قبل العثمانيِّين ، و هو أحمد مظهر باشا (3) ، فثارت أحقاد أبناء البوسنة ( المسلمين منهم ، و الصرب و الكروات على حدٍ سواء ) ضد النمساويِّين ، و ردّاً على قرار النمسا هذا أقدم صربيٌّ من أعضاء منظمة
( البوسنة الفتاة ) على اغتيال ولي عهد النمسا و زوجته في سراييفو ، الأمر الذي استنكره المسلمون البشانقة ، و أدَّى بمُضاعفاته إلى نشوب الحرب العالمية الأولى (4) .
في عام 1318 هـ / 1900 م ثار مسلمو البوسنة بزعامة علي فهمي جاويتش (5) ضدَّ الحكم النمساوي ، و أعلنوا الجهاد ضدَّ النمساويين طيلة تسع سنوات ، حتى أدى جهادهم إلى قيام حكم ذاتي محدود لهم عام 1327 هـ / 1909 م يُمكنهم من تسيير أمورهم الدينية باستقلال تام (6) ، ثُمَّ انتخب مجلس بوسنويٌ يمثِّل البوشناق دون أن تكون له سلطةٌ تشريعيَّة و لكنَّه مكَّن بالفعل المنظَّمات المحليَة مثل المنظمة الوطنيَّة الإسلاميَّة التي أُسِّسَت عام 1323 هـ / 1906 م من العمل (7) .
في سنة 1327 هـ / 1910 م أقرّ دستور جديد يجيز للبوسنة إنشاء مجلسٍ نيابي مكوَّن من اثنين وسبعين نائباً بالإضافة إلى عشرين عضواً يعيَّنون من أعضاء الهيئات الدينيَّة (8) .
اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1332 هـ / 1914 م ، و انتهت عام 1336 هـ / 1918 م مخلَّفةً وراءها مآسي مفجعة لمسلمي البوسنة و الهرسك ، حيث استبيحت مدنهم ، و أحرقت مساجدها ، و نهبت ثرواتها ، و غدر الأرثوذكس بالمسلمين ، فصادروا أراضيهم ، و قضوا على المدارس و الكتاتيب والمعالم الإسلامية في بلادهم (9) .
فضلاً عمَّا خلَّفته الحرب العالمية الأولى ، عانى المسلمون في ظلِّ الحكم النمساوي للبوسنة من الاضطهاد الديني و العِرقي الشيء الكثير ، و تعرَّضوا لحملات التنصير و التهجير ، ممَّا حمل الكثيرين منهم على الهجرة إلى أراضي الدولة العثمانيَّة ، حيث هاجر في هذه الفترة أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم بوشناقي ، فضلاً عن المهاجرين الآخرين من غير البشانقة (10) .
تحرَّرت البوسنة من حكم النمسا و المجر في عام 1336هـ/1918م ، أي بعد أربعين عاماً من الاحتلال ، و انتقلت السلطة فيها إلى المجلس الوطني البوسنوي و لكنها لم تنعم بالتحرر المنشود طويلاً ، فما لبثت أن وقعت عقِب الاستقلال فريسةً للأعداء ضمن ما عُرف باسم المملكة اليوغسلافيَّة .
المطلب الرابع : البوسنة في المملكة اليوغسلافيَّة :
__________
(1) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 187 .
(2) ... فؤاد شاكر : البوسنة و الهرسك ، ص : 21 .
و الدكتور رُشدي عزيز : المسلمون في البوسنة ، ص : 85 .
(3) ... انظر : الدكتور عبد الحيّ فرماوي : الصربيُّون خنازير أوروبا ، ص : 40 .
... و محمد الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 77 .
(4) ... انظر : حسين عبد القادر : انشطار يوغسلافيا ، ص : 17.
... و نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 199 .
(5) ... علي فهمي جاويتش : ولد سنة 1269 هـ / 1853 م ، كان مفتي موستار ، مُنع من العودة إلى البوسنة بعد أن غادرها إلى تركيا عام 1319 هـ / 1902 م ، عمل أستاذاً لل
غة العربيَّة في جامعة اسطنبول بين عامي 1320 هـ / 1903 م ، و 1325 هـ / 1908 م ، توفي منفيّاً عام 1336 هـ / 1918 م 0
انظر : الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 187 .
(6) ... المسلمون تحت السيطرة الشيوعية ، ص : 126 – 127 .
و انظر : الدكتور عدنان علي رضا النحوي : ملحمة البوسنة و الهرسك ، ص : 63 .
(7) انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 195 .
(8) الدكتور عدنان النحوي : ملحمة البوسنة ، ص : 65 .
(9) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 69 ، نقلاً عن مقالٍ لمحمود السيد الدغيم ، نشرته صحيفة الحياة ( ع : 10868 بتاريخ 17 جمادى الأولى 1413هـ الموافق 11/ 11/ 1992م ) .
(10) ... انظر : الدكتور عبد الحيّ فرماوي : الصربيُّون خنازير أوروبا ، ص : 40 .
و نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 182 .(/20)
ظهر بين الصقالبة على اختلاف أعراقهم شعور مُتنامٍ ضدَّ حكم النمسا و المجر للبوسنة ، و قد بلغ هذا الشعور ذروته بين عاميْ 1324 هـ / 1907 م ، و1327هـ/1910م ، حيث شهد تشكيل عدَّة تنظيمات تدعوا إلى إقامة دولةٍ يوغسلافيةً على أنقاض الحكم النمساوي المجري ، مثل حركة الشباب اليوغسلافيَّة ، و جمعيَّة البوسنة الفتاة (1) .
تكونت في عام 1333 هـ / 1915 م لجنة تمثل معظم مجموعات الصقالبة الجنوبيين عُرفت باسم ( اللجنة اليوغسلافية ) ، و في عام 1335هـ / 1917 م ، قامت صربيا بتوقيع معاهدة تحالف مع هذه اللجنة تمَّ بموجبها الإعلان عن السعي لإنشاء دولة واحدة ، تضم الغالبية العظمى للصقالبة الجنوبيين(2).
في عام 1335 هـ / 1917 م صدر إعلان ( مايو ) الداعي إلى توحيد الأراضي التي يسكنها السلوفينيون و الكروات و الصرب ، أمَّا المسلمون فلم يكن أمامهم خيار
إلاَّ الحصول على الحكم الذاتي تحت سلطة المجر ، أو الدخول في الدولة اليوغسلافيَّة المستقلة و قد آثر كثيرٌ منهم - بمن فيهم رئيس العلماء محمد جمال الدين تشاوشيفتش(3)
- الخيار الثاني (4) .
أُعلن عن قيام الدولة اليوغسلافيَّة لأوَّل مرة في الأول من ديسمبر ( كانون الأول ) عام 1918 م / 1336 هـ ، و حملت في البداية اسم مملكة الصرب والكروات و السلوفينيين ( SHS ) (5) ، و ضمَّت إلى جانب هذه القوميَّات الثلاث دالماسيا ، و جزءاً من مقدونيا ، و إقليمي البوسنة و الهرسك دون أن يكون لهما تمثيل يذكر في حكومتها ، بل على العكس من ذلك ، تمَّت مصادرة أراضي المسلمين و أُعطيت للصرب مما زاد في إفقار المسلمين (6) ، و قد أفصح الزعيم الصربي ستويان بروتينتش عن الهدف من هذا التصرُّف بقوله : (( لا تقتلوا المسلمين و لا تطردوهم ، و لكن اعملوا على إفقارهم و إضعافهم حتى يموتوا أو يضطروا إلى الهجرة من تلقاء أنفسهم )) (7) .
نصَّت مُعاهدة ( سان جرمان ) الموقعة بين الصرب و النمساويين عام 1337هـ/1919م على إلحاق البوسنة و الهرسك و دالماسيا بصربيا (8) .
نهجت حكوممة المملكة اليوغسلافية الجديدة نهجاً جديداً في التخلص من المسلمين بتهجيرهم عملاً بتوجيهات زعيمهم ستويان بروتشينتش ، و لكن تمسك المسلمين بأرضهم و ديارهم على الرغم من معاناتهم الشديدة دفع أعداءهم إلى العدول عن تهجيرهم إلى العمل على إبادتهم و الفتك بهم بأفظع الوسائل المعروفة في تلك الحقبة .
بلغت معاناة المسلمين أشدها حينما أطلق الملك كارل بيتر ملك يوغسلافيا في فترة ما بين الحربين العالميتين الإشارة للقضاء على المسلمين بأية وسيلة ، الأمر الذي أشار إليه المؤرخ الكرواتي ( برانكو هرفات ) في كتابه ( مسألة كوسوفو ) ، حيث ذكر أن الملك بيتر مر في طريقه من كوسوفو إلى مقدونيا بحشد من المسلمين المحتجزين تحت رقابة الجنود الصرب ، فسأل مساعديه : من هؤلاء ؟ فأجابوه : إنهم مسلمون . فقال : لا فائدة للمملكة اليوغسلافية منهم ، و يجب أن يبادوا جميعاً ، و لكن دون أن نخسر عليهم تكلفة الذخيرة و الرصاص . اقتلوهم بالعصي على حافة الطرقات . و نُفّذت أوامره على الفور (9) .
__________
(1) ... انظر : نويل مالكوم : المرجعٌ السابق ، ص : 197 .
(2) ... انظر : عبد الله سماييتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 22 .
(3) ... محمد جمال الدين أفندي تشاوشيفيتش : ولد سنة 1870م بقرية غرابوتشا قرب مدينة بوسانسكا كروبا ، عاش و درس في اسطنبول خمسة عشر سنة ، وهناك تخرج في كلية الحقوق ، ثم رجع إلى وطنه سنة 1903 م فعمل في التدريس إلى أن انتخب رئيسا للعلماء سنة 1913 م ، وتقاعد منها سنة 1930م ، وتوفي سنة 1938 م ، اشتهر بشجاعته و منعه الحكومة اليوغسلافية من التدخل في الشؤون الإسلامية ، له عدة مصنفات أبرزها ترجمة تفسير القرآن باللغة البوسنية .
انظر : عاكف إسكندروفتش : الدعوة و الدعاة في يوغسلافيا ، ص : 362 ، و الحافظ محمود ترالييتش : البسنويون البارزون ، ص : 157 ـ 161 .
(4) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 204 – 205 .
(5) ... من الملاحظ أنه لم يُذكر اسم البوسنويين أو المسلمين في اسم هذه الدولة الجديدة ، و قد كان هذا الأمر مُدبَّراً لأنَّ الشعوب الأساسيَّة المكونة للمملكة كانت تعتبر المسلمين البوشناق جزءا من الصرب أو الكروات ، و لم تكن تعترف بتميزهم الديني أو القومي .
انظر : الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 17 .
(6) المسلمون تحت السيطرة الشيوعية ، ص : 127 ، و عبد الله إسمايتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 23 – 24.
(7) ... انظر : ما كتبه أسعد طه حول البوسنة في صحيفة الشرق الأوسط ع : 4830 بتاريخ 15 / 8 / 1412هـ الموافق 18 / 2 / 1992م ، ص : 22 .
(8) ... الأرقم الزعبي : قضيَّة البوسنة ، ص : 29 .
(9) ... انظر : بسام العسلي : المسلمون في البوسنة و الهرسك ، ص : 57 نقلاً عن المؤرخ الكرواتي المذكور .(/21)
وقعت أشنع عمليًَّات الإبادة ضدَّ المسلمين البوشناق في مملكة يوغسلافيا مع بداية نوفمبر ( تشرين الثاني ) عام 1342هـ/1924م ، حيث أقدم صرب الجبل الأسود على قتل المئات من المسلمين ، و التمثيل بهم برسم الصلبان بالخناجر على جثثهم و غير ذلك ، بينما اضطر من نجا منهم إلى الهجرة إلى البوسنة و بلاد البلقان الأخرى إلى غير عودة (1) .
كان دور المسلمين في المملكة اليوغسلافية شبه معدوم ، و يمكن الاستشهاد على ذلك بحادثةٍ وقعت في الجمعية الوطنية اليوغسلافية عام 1343هـ/1925م ، عندما قام الوزير الكرواتي ستيبان راديتش بالرد على اعتراض قدمه وفد المنظمة الإسلامية اليوغسلافية ، حيث قال بحدة و صرامة : (( أنتم أيُّها الأتراك ارحلوا إلى
آسيا )) و تُعبِّر هذه الكلمات عن الوضع الحقيقي للمسلمين بين الصرب
و الكروات (2) .
نتيجةً لنزاعات وقعت و تفاقمت بين الصرب و الكروات ، أقدم الملك ألكسندر على إلغاء دستور المملكة اليوغسلافية عام 1339هـ/1921م ، ليستهل عصراً جديداً من عصور الاستبداد ، مما أثار حفيظة الناس و أدى إلى خروجهم عليه ، إلى أن لقى مصرعه على يد أحد الكروات عام 1352هـ/1934م (3) .
عانى مسلمو البوسنة و الهرسك في ظل المملكة اليوغسلافيَّة أنواع الاضطهاد و التضييق ، الذي كان من صُوَره إلغاء الحكومة الملكية في سنة 1349هـ/1930م اللقانون الذي تتمتع الهيئات الإسلاميَّة و الأوقاف بموجبه بالاستقلال ، كما ألغت وظيفة المفتي الأكبر لمسلمي يوغسلافيا (4) .
في عام 1357هـ/1938م وقعت الحكومة التركية و الحكومة اليوغسلافية اتفاقية رسمية لتهجير مئتي ألف مسلم من البوسنة و السنجق إلى تركيا ، و تم بالفعل تهجير عدد من المسلمين بموجب هذه الاتفاقية في عملية تهجير منظمة أوقفت فيما بعد بسبب اندلاع الحرب العالمية (5) .
ما إن استقرَّت الأمور في المملكة اليوغسلافيَّة ، و وافق المسلمون على التعايش مع المتسلِّطين عليهم فيها ، حتى اتفق الصرب و الكروات على اقتسام البوسنة و الهرسك فيما بينهم ، و تم التوقيع على اتفاقيَّة حول هذا الأمر في عام 1358هـ/1939م ، تسيطر كرواتيا بموجبها على كافة الأراضي التي يفوق فيها عدد الكروات عددَ الصرب ، سواء كانت في إقليم الهرسك الذي يعتبرونه أرضاً كرواتيّة أصلاً أو في البوسنة ذات الأكثريّة المسلمة ، مُتجاهلة الوجود الإسلامي في هذه المناطق (6) .
نتيجة لمعاناة المسلمين في يوغسلافيا أثناء هذه المرحلة ، اضطر كثيرٌ منهم إلى النزوح عن بلادهم ، فقد (( حدثت هجرة إسلاميَّة من يوغسلافيا إلى تركيا لأسبابٍ دينيَّة و سياسية ، و خاصة من منطقة البوسنة و الهرسك و سنجق و قوصوة ، و قد بلغ عدد المهاجرين حتى عام 1359هـ/1940م 250000 )) (7) أما مُجمل من هاجر قبل ذلك العام و بعده فأكثر من ذلك بكثير ، و يكفي للدلالة على ذلك وجود نحو أربعة ملايين مسلم بوشناقي الأصل في تركيا اليوم (8) .
في عام 1360هـ/1941م اندلعت الحرب العالمية الثانية و استمرَّت أربع سنوات وقعت يوغسلافيا خلالها تحت الحكم النازي ، و في بداية الحرب أعلن النازيون قيام دولة كرواتيا المستقلة ، التي تضمَّ البوسنة و الهرسك بالكامل (9) .
استغلَّ الصرب فرصة اضطراب الأوضاع أثناء الحرب العالمية الثانية للعمل على إقامة صربيا المتجانسة و النقيَّة من الأعراق غير الصربيَّة ، فقد جاء في كتاب للزعيم الصربي موليفيتش بعث به عام 1360هـ/1942م إلى فازيتش : (( إنَّ الأرض الصربية ينبغي أن تُبسط إلى دالماسيا ، و ينبغي تطهيرها من جميع العناصر غير الصربيَّة و لتحقبق ذلك يجب إرسال الكروات إلى كرواتيا و المسلمين إلى تركيا و ألبانيا )) (10) .
__________
(1) ... انظر : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 16 .
(2) ... عبد الله إسمايتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 25 .
(3) ... عبد الله إسمايتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 28 .
(4) ... انظر : ناشد إبراهيم مصطفى : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 48 .
(5) ... مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 723 .
(6) ... الدكتور علي حسون : محنة المسلمين في البلقان ، ص : 125 .
و : عبد الله إسمايتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 29 .
(7) ... انظر : الدكتور مُحمَّد حرب : الإسلام في آسيا الوسطى و البلقان ، ص : 217 ، نقلاً عن دائرة المعارف اليوغسلافية.
(8) الدكتور فهد بن حمود العصيمي : مأساة إخواننا في البوسنة و الهرسك ، ص : 10 .
و انظر : Safer Band?ovi? : Vrisci Muhad?ira ) Muslimanski Glas; Broj :
( 38; Datum : 03 / 01 / 1992g Sarajevo
(9) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 220 .
(10) ... المرجع السابق ، ص : 224 .(/22)
عانى المسلمون البوشناق أثناء الحرب العالميَّة الثانية أشد المعاناة ، حيث كانت تنتظرهم حملات القتل و التهجير و الإبادة الجماعية ، و قد اشتهرت من بينها ثلاث مجازر، راح ضحيَّتها مئات الآلاف منهم بين قتيلٍ و طريد (1) :
المجزرة الأولى : وقعت بين شهري يونيو من عام 1941م/1360هـ و فبراير ( شباط ) من عام 1942م/1361هـ معظم مناطق البوسنة الشرقية حين غدر الزعيم الصربي ميخائيلوفيتش بالمسلمين ، و أمر عصاباته بذبحهم عن بكرة أبيهم ، و خلال بضعة أيام ذُبح من المسلمين أكثر من مئة و خمسين ألفاً ، و من لم يمت ذبحاً مات حرقاً أو غَرَقاً أو تحت الأنقاض (2) .
المجزرة الثانية : وقعت في صيف عام 1361هـ/1942م و تركَّزت في منطقة فوتشا ( Fo?a ) ، حيث كان الرجال يخوضون القتال في أتون الحرب العالميَّة الثانية ، فأفاد الصرب من غياب رجال المسلمين و جمعوا الأطفال و النساء و الشيوخ من بعض المدن ، و اقتادوهم إلى سهل فوتشا ، و أبادوهم جميعاً ثم ألقوا جُثَثهم في نهر درينا ، و عادوا فكرروا المذبحة بعد عدَّة شهور حيث كانت درجة الحرارة دون العشرين تحت الصفر حينما فتك الصرب بأطفال المسلمين ، و بقروا بطون الحوامل ، و عاملوهم بوحشية تفوق وحشية التتار (3) عند اجتياح بغداد ، ثمّ قذفوا بهم إلى النهر المتجمد ، فتحوَّلوا إلى هياكل ثلجية تصبغها الدماء (4) ، و نتيجة لهذه المجزرة انخفض عدد مُسلمي فوتشا من 75? إلى 52 ? أي بمقدار الثُلُث (5) .
المجزرة الثالثة : وقعت في مطلع عام 1362هـ/1943م و هي أفظع ما تعرض له المسلمون في تلك الفترة حيث شملت مناطق واسعة من البوسنة مثل ليوبينيه ، و آوتوفاتس ، و بيليتشا ، و قورن وقف ، و كواري ، و فيشغراد و روغاتيتسا و غوراجدة ، و ياييتسا ، و فلاسنيتسا ، و فوتشا ، و أوستيكولينا ، و غيرها .
و قد كشفت الوثائق التي نشرت عن هذه المجزرة أن أعضاء عصابات الصرب المعروفة باسم جتنك (6) كانوا يُعرُّون المسلمين و يخرجونهم قسراً من منازلهم ، ثم يربطونهم بالحبال و يقتادونهم إلى حتفهم كالقطعان ثمَّ يقتلونهم بأفظع الوسائل ، و الطرق (7) .
أسفرت الحرب العالميَّة الثانية عن مقتل ما لا يقل عن خمسة و سبعين ألف مسلم في البوسنة ( أي 8.1 بالمئة منهم ) حتَّى قيل : إنَّ المسلمين قاتلوا إلى جانب الجميع ، و لاقوا حتفهم على أيدي الجميع (8) .
و بعد انتهاء الحرب مباشرة أبيد في يوغسلافيا أربعة و عشرون ألف مسلم منهم ثمانية عشر ألفاً في مدينتي توزلا و سراييفو ( البوسنويتين ) فقط ، و أُغلقت الكلية الإسلامية و جميع المدارس الإسلامية خلا واحدةً في سراييفو ثم صدر قرار بإلغاء المحاكم الشرعية في جميع أنحاء يوغسلافيا (9) .
المطلب الخامس : البوسنة تحت الحكم الشيوعي اليوغسلافي :
__________
(1) ... حول هذه المجازر انظر : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 21 .
(2) ... الدكتور علي حسون : محنة المسلمين في البلقان ، ص : 126 .
(3) ... التتار : قبائل كانت تسكن في بلاد الاستبس شمال شرقيَّ بلاد المغول ، و جنوبيَّ سهول سيبيريا الجليدية ، و قد انضمَّ كثيرٌ منهم إلى جنكيز خان ، ثمَّ بدؤوا زحفهم نحوا الغرب ، غارتهم على المسلمين و مجازرهم عند دخول بغداد معروفةٌ مشتهرة يُضرب بها المثل 0
انظر : محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 89-90 .
(4) ... بسام العسلي : المسلمون في البوسنة ، ص : 57 .
قلت : و الأدهى و الأمر من ذلك أن مدينة فوتشا اليوم واقعة تحت حكم صرب البوسنة ، و قد تعرّضت في بداية الحرب الأخيرة إلى عمليّات إبادة و مذابح جماعيّة و اغتصاب منظّم للنساء المسلمات ألجأت من نجا منها إلى الهجرة فراراً بنفسه ، حتى خلت المدينة تماماً من المسلمين ، و وُطن مكانهم عشرات الآلاف من الصرب الحاقدين و غيّر اسم فوتشا لتصبح ( صربينيا ) أي المدينة الصربيّة الخالصة . ( الباحث ) .
(5) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 189 .
(6) ... كان تعبير جتنيك ( ?etnik ) الذي يعني في اللغة الصربوكرواتية عضواً مسلحاً في وحدة عسكرية ، يطلق في يوغسلافيا الملكية ( 1918هـ / 1941م ) على منظمة سياسية شبه عسكرية موالية للحكومة ، أما خلال الحرب العالمية الثانية فقد أصبح يطلق على أفراد الحركة العسكرية الموالية للملك حصراً بزعامة الجنرال ميخائيلوفيتش .
انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو ، ص : 235 .
(7) ... انظر : الدكتور فهد السماري : المسلمون في البوسنة ، ص : 22 – 23 .
(8) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 238 – 239 .
و : وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 25 .
(9) ... محمود شاكر : المسلمون تحت السيطرة الشيوعيَّة ، ص : 126 .(/23)
في عام 1361هـ/1943م شكل شيوعيو يوغسلافيا حكومة مؤقتة في مدينة يايتسة البوسنوية ، مهَّدت لإنشاء الجمهورية اليوغسلافيَّة المكوَّنة من ست جمهوريَّات فيما بعد (1) .
أُعلن بشكلٍ رسمي عن تشكيل جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية ، في الرابع و العشرين من ذي الحجة عام 1364هـ الموافق للتاسع و العشرين من نوفمبر ( تشرين الثاني ) عام 1945م ، بعد أن رُسمت حدودها من جديد بموجب معاهدات عقدت مع دول الجوار بعد الحرب العالمية الثانية (2) .
تمَّ تشكيل أوَّل حكومة مستقلة للبوسنة و الهرسك في إطار يوغسلافيا الاتحادية عام 1364هـ/1945م (3) .
فور استتباب الأمور للشيوعيين الجدد في يوغسلافيا بدأت المضايقات و القرارات الجائرة تنهال على المسلمين ، حيث أُلغيت المحاكم الشرعية عام 1365هـ/1946م ، و مُنع الحجاب عام 1369هـ/1950م ، و في السنة نفسها أُغلق آخر كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم ، و في سنة 1371هـ/1952م أُغلقت جميع التكايا و حُظرت الطرق الصوفية ، كما لم يعد مسموحاً بالعمل للجمعيات الثقافية و التربوية للمسلمين مثل جايِرْت ، و نارودْنا ، و أُوزدانيتسا ، ولم تسمح السلطات الشيوعية لأي من المؤسسات الإسلاميّة بالبقاء عدا رئاسة الطائفة الإسلامية ( رئاسة العلماء ) التي وُضعت تحت السيطرة المباشرة للدولة منذ عام 1947م مع المدرسة الإسلامية التابعة لها (4) .
في محاولة لدفع العدو الصائل اضطر مسلمو البوسنة إلى عمل تنظيمات سرِّية للحفاظ على وجودهم ، و من تلك التنظيمات حركة ( بوغال ) ، لكن المخابرات اليوغسلافيَّة اكتشفتها عام 1366هـ/1947م ، و ألقي القبض على زعمائها ، فأعدم منهم من أعدم ، و حُبس محكوماً بالأعمال الشاقة مدى الحياة من حُبس (5) ، كما ظهر في البوسنة تنظيم للطلبة المسلمين يحمل اسم : جمعيَّة الشبَّان المسلمين (6) ، و قد كُشف ، و سُجن بعض أعضائه عام 1968هـ/1949م و 1969هـ/ 1950 م (7) .
لأوَّل مرة يشار إلى المسلمين كأمَّةٍ مستقلَّةٍ جاء في دستور يوغسلافيا لعام 1963م أنَّ (( الصرب و الكروات و المسلمين كانت تجمعهم حياةٌ مشتركة ))(8) ، و اعتبرت هذه الإشارة في حينها اعترافاً ضمنيّاً بأن للمسلمين البوسنويين قوميّة خاصّة تجمعهم ، و أنها متميزة عن القوميّتين السائدتين ( الصربية و الكرواتية ) .
في عام 1387هـ/1968 م صدر بيانٌ عن لجنة البوسنة المركزية ، جاء فيه : (( لقد أظهرت الأيَّام كما أكدت الممارسات الاشتراكيَّة الحالية أن المسلمين أمةٌ متميزة بذاتها )) ، و أعقب ذلك وصف المسلمين لأوَّل مرَّة في تعداد السكان عام 1390هـ/1971م بأنَّهم أمَّةٌ (9) .
اعترف النظام الشيوعي الحاكم ليوغسلافيا في دستور سنة 1974م بالقوميَّة الإسلاميَّة على قدم المساواة مع الصرب ، و الكروات (10) .
قُدِّم للمحاكمة في سراييفو عام 1403هـ/1983م ثلاثة عشر رجلاً تقدمهم
الرئيس المجاهد علي عزَّت بيكوفيتش (11) ، و ثلاثة من أعضاء حركة الشبَّان المسلمين ، اتُّهموا بأنهم ( قاموا بأعمال معادية للثورة ، و نابعة من القومية الإسلامية ) ، و قد حُكم على الرئيس آنذاك بالسجن أحد عشر عاماً (12) .
__________
(1) ... انظر : الدكتور عدنان النحوي : ملحمة البوسنة ، ص : 76 .
و : عبد الله سماييتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 59 .
(2) ... الأرقم الزعبي : قضية البوسنة ، ص : 33 .
(3) ... الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 18 .
(4) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 242 - 243 .
(5) ... الدكتور مُحمَّد حرب : الإسلام في آسيا الوسطى و البلقان ، ص : 217 .
(6) ... عرفتُ من المطلعين على سير الجمعيَّة و بعض أعضائها القدامى أنها تُعتبر امتداداً لحركة الإخوان المسلمين المصريَّة الأصل ، و قد قامت في البداية على أكتاف الطلاب و العلماء الذين تتلمذوا في مصر ، ثم انتسب إليها و برز بين صفوفها الرئيس المجاهد علي عزَّت بيكوفيتش .
... للاستزادة انظر : أحمد منصور : تحت وابل النيران في سراييفو ، ص : 215 – 216 .
(7) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 243 .
(8) ... المرجع السابق ، ص : 246 .
(9) ... المرجع السابق ، ص : 246 .
(10) ... الدكتور عدنان النحوي : ملحمة البوسنة ، ص : 76 .
و : علي المنتصر الكتاني : المسلمون في أوروبا و أمريكا ، ص : 122 .
(11) وُلد الرئيس علي عزت بيكوفيتش عام 1343هـ/1925م ، و درس القانون و الآداب و العلوم في مطلع حياته ثم عمل مستشاراً قانونيَّاً لربع قرن من الزمن ، حوكم و سُجن أكثر من مرة بسبب انتمائه و عمله الإسلاميين ، تولي رئاسة البوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي عام 1410هـ/1990م .
محمد علي الهمشري و زملاؤه : انتشار الإسلام في أوروبا ، ص : 84 .
(12) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 256 .(/24)
مارس الشيوعيون سياسةً قمعيَّة ضد المسلمين في البوسنة ، و كانت سياستهم تقوم على الآتي (1) :
إلغاء أي كيان مستقل للبوسنة ، و تقسيم أراضيها بين صربيا و كرواتيا .
عدم الاعتراف بوجود شعب بوسنوي متميز ، و تقسيم السكان المسلمين حسب السلالات و الأعراق السابقة لإسلامهم (2) .
سلب جميع أملاك المسلمين و البوسنويين حتى الأوقاف ، و تحويلهم إلى أجراء و عبيد عند الإقطاعيين و الملاَّك الصرب ، و الكروات .
العمل على تنصيرهم بالقوة .
إغلاق جميع المدارس ، و المؤسسات التي تعلِّم باللغة العربية ، أو التركية ، أو تعلم الدين الإسلامي حتى لو كان ذلك باللغة البوسنويّة .
تدمير جميع الرموز التاريخيَّة التي تظهر الطابع الإسلامي للبوسنة بما في ذلك المكتبات و المساجد (3) .
أخذت يوغسلافيا في التفكك بعد تنامي القومية الصربية في أعقاب هلاك رئيسها الكرواتي الأصل تيتو (4) ، و قد بلغت هذه القومية ذروة النمو و الانبعاث بفوز الحزب الاشتراكي الصربي في الانتخابات النيابية عام 1409هـ/1989م ، مما حدا بالجمهوريات المنافسة لصربيا إلى السير في طريق الاستقلال ، الذي نالته كرواتيا عام 1410هـ/1990م و بعدها جاء دور البوسنة و الهرسك .
المطلب السادس : استقلال البوسنة و الهرسك :
أُطلق سراح الرئيس المجاهد علي عزَّت بيكوفيتش بعد أن قضى أكثر من ثماني سنوات في سجون الشيوعية مُتَّهماً بالتخطيط لإقامة دولة إسلامية في بلاده كما تقدم .
أُعيد في سراييفو سنة 1410هـ/1990م طبع كتاب ( البيان الإسلامي ) الذي كتبه الرئيس المجاهد علي عزَّت بيكوفيتش مما يعني وجود بوادر صحوةٍ إسلامية قادمة في البوسنة .
أسس الرئيس المجاهد علي عزَّت بيكوفيتش مع بعض أعوانه حزب العمل الديمقراطي (5) ، و تولَّى زعامته منذ تأسيسه عام 1410هـ/1990م .
حصل أوَّل انشقاقٍ في صفوف المسلمين البشانقة في البوسنة في سبتمبر ( أيلول ) عام 1990م حيث خرج عادل ذو الفقار باشيتش على حزب العمل الديموقراطي ليؤسس حزباً إلحادياً سمَّاه ( المنظمة الإسلاميَّة البوسنوية ) (6) .
في أوَّل انتخابات حرَّة شهدتها البوسنة و الهرسك عام 1410هـ/1990م فاز حزب العمل الديمقراطي بأكبر عددٍ من الأصوات ، و انتُخِب الرئيس المجاهد علي عزت بيكوفيتش لمنصب الرئاسة ، و تم تقسيم النفوذ السياسي وفقاً لنسب التوزيع السكاني بين المسلمين ، و الصرب ، و الكروات .
بعد انهيار الشيوعية الأم في الاتحاد السوفييتي المنحل مع نهاية عام 1411هـ/1991م و ظهور الشعور القومي و الديني الكامن في نفوس شعوبه ، و ما تبعه من سقوط الشيوعية في يوغسلافيا ، تمهَّد طريق الاستقلال أمام البوسنة ، خاصَّة و أن دستور يوغسلافيا المُقر عام 1393هـ/1974م يضمن حق كلِّ جمهورية في تقرير مصيرها (7) .
حذَت البوسنة حذو الجمهوريات اليوغسلافية الأخرى ، فأعلنت استقلالها في الحادي عشر من رجب سنة 1412هـ ، الموافق للخامس عشر من يناير ( كانون
__________
(1) ... انظر : الدكتور فهد بن حمود العصيمي : مأساة إخواننا في البوسنة و الهرسك ، ص : 14 – 15 .
(2) ... تردَّد هذا المطلب الصربي في بداية الحرب الأخيرة التي شهدتها البوسنة ، و تحديداً في سنة 1991م حيث قال الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش : ( الحقيقة أنَّ مسلمي البوسنة صربٌ أجبروا على الدخول في الإسلام ) ثم وُجِّه إليه سؤال حول ما سيفعله الصرب إذا قاوم المسلمون إلغاء قوميَّتهم الإسلاميَّة ، فأجاب : ( في تلك الحالة سنركلهم خارج البوسنة ) . انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 275 – 276 .
(3) ... للاطلاع على بعض ما اقترفته يد الصرب تحقيقاً لهذا الهدف انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 30 .
(4) ... تيتو ، هو : جوزيف بروز تيتو ، كرواتي الأصل ، ولد عام 1309هـ/1892م ، أصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي اليوغسلافي ، ثم رئيساً للوزراء و وزيراً للدفاع و قائداً أعلى للجيش بعد تحرير يوغسلافيا عام 1364هـ/1945م ثم رئيساً للدولة عام 1372هـ/1953م حتى وفاته عام 1400هـ/1980م 0
انظر : عبد الله إسمايتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 30 .
(5) ... تأسس حزب العمل الديمقراطي (SDA ) بهدف تنظيم المسلمين و الدفاع عن حقوقهم في الاتحاد اليوغسلافي المنهار سياسياً ، في الفترة التي تلت الحكم الشيوعي ، و قد نصَّ برنامج الحزب على أن الديمقراطيَّة من أهم
مقوماته . و إذا ذُكر الحزب على أنه حزب إسلامي فالمقصود أنه حزب خاصٌ بالمسلمين و ليس المراد بذلك أنه حزبٌ إسلاميُّ المبادئ أو الأهداف المعلنة .
انظر : عبد الله إسمايتش ، ص : 37 .
(6) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 267 .
(7) ... الأرقم الزعبي : قضية البوسنة ، ص : 37 .(/25)
الثاني ) 1992م و أُقرَّ قرار الاستقلال في الاستفتاء الذي تمَّ في مطلع شهر مارس ( آذار) من العام نفسه ، حيثُ أسفر الاستفتاء الذي شارك فيه 63 بالمئة من مجموع الناخبين ، و قاطعه الصرب و نسبتهم لم تكن تتعدى إذ ذاك 31 بالمئة من مجموع السكان عن رغبة أكثر من 99 بالمائة من المدلين بأصواتهم في الاستقلال ، و بناءً على ذلك أعلن الرئيس البوسنوي علي عزت بيكوفيتش استقلال بلاده رسميّاً (1) .
وقع في ليلة الأحد السابع و العشرين من شعبان 1412هـ/الأول من مارس
( آذار ) 1992م إطلاق نارٍ من طرف ثلاثة شبان ( كرواتيين و مسلم ) على صربيٍ استفزهم بالتلويح بالعلم الصربي في حفل زواج ، مما أدى إلى قتل الصربي على الفور ، و اتخذ الصرب هذا الحادث ذريعة لإذكاء نار الحقد على المسلمين ، و شن حرب إبادة لا هوادة فيها ضدهم ، رغم شجب الرئيس علي عزت و عموم المسلمين و زعماءهم في البوسنة للحادث ، و تعهدهم بتعقب منفذيه (2) .
في صبيحة يوم الاثنين الثامن و العشرين من شعبان 1412هـ ، الموافق للثاني من مارس ( آذار ) 1992م الذي أعلنت فيه نتائج الاستفتاء نزل أعضاء القوات العسكرية الصربية إلى الميدان ليبدؤوا حربهم ضد مسلمي البوسنة و الهرسك متذرِّعين بحقِّهم في معارضة الاستقلال .
بدأت صربيا تنقل أعدادا كبيرة من الجيش اليوغسلافي إلى البوسنة لإجبارها على إلغاء قرار الاستقلال ، و عندما رفض البوسنويُّون التراجع بدأ الصرب هجوماً واسعاً على البوسنة بتاريخ 24/9/1412هـ ، الموافق 27 / 3 / 1992م (3) .
اعترفت منظمة الأمم المتحدة بالبوسنة و الهرسك جمهوريةً مستقلَّة عن يوغسلافيا في 21/11/1412هـ ، الموافق 22 مايو ( أيار ) 1992م .
في 30/11/1412هـ ، الموافق 31 / 5 / 1992م حظرت منظمة الأمم المتحدة برئاسة الأرثوذكسي القبطي بُطرُس غالي توريد السلاح إلى يوغسلافيا وكافَّة الدول المستقلَّة عنها ، لكنَّ هذا الحظر لم يسرِ فِعليَّاً إلاَّ على مسلمي البوسنة ممَّا أتاح المجال أمام مجرمي الصرب و الكروات لشنِّ حرب إبادة جديدة ضدَّ المسلمين .
دخل الصرب المساجد و الجوامع في مدينة زفورنيك و تعاطوا الخمور ، إلى جانب الغناء و الرقص بداخلها ، و رفعوا أعلامهم على مناراتها يوم 26 شوَّال 1412هـ ، الموافق 29/2/1992م (4) .
في 4 / 10 / 1412هـ ، الموافق 6 / 4 / 1992م تعرَّضت عدة مدن في البوسنة و الهرسك لمذابح رهيبة ، و شهدت مدينة بيليينا أكبر المذابح التي نفَّذها الصرب بحق المسلمين منذ الحرب العالمية الثانية (5) .
نفذت القوات الصربية مجزرة في مدينة فوتشا راح ضحيَّتها آلاف المسلمين يوم الاثنيْن 18 / 10 / 1412هـ ، الموافق 20/4/1992م (6) .
في التاسع من ذي القعدة 1412هـ ، الموافق 10/5/1992م دفن ألف مسلم في مقابر جماعيَّة بسراييفو ، بعد أن ظلَّت جثثهم في العراء ثلاثة أيام (7) .
في الثاني من شهر ذي الحجة عام 1412هـ ، الموافق 2/6/1992م قتل الصرب ستة وخمسين من أئمة المساجد و أبادوا أسر معظمهم بالكامل (8) .
بلغت محصلة الشهور الأربعة الأولى فقط من الحرب الصربية ضد المسلمين أكثر من أربعين ألف قتيل مسلم ، و نحو مليون و حكسمئة ألف مُهجَّر من المسلمين (9) .
و على هذه الوتيرة سارت الأحداث خلال الفترات التالية ، حتى وضعت الحرب أوزارها ، مُتمخِّضة عن سلام سلب المسلمين حقوقهم ، و أقرَّ الأعداء على ما في أيديهم من ديار المسلمين ، و لو أني تتبعت أحداث هذه الحرب ، و الأحداث المواكبة لها من مؤامرات و اتفاقات و غيرها لطال بنا البحث ، و أفلتت مني أزمته و لذلك آثرت الاقتصار على ما ذكر ، موقناً أن ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه .
استمرَّت الحرب الأخيرة في البوسنة زهاء أربع سنوات عجاف أتت خلالها على كلِّ رطب و يابس ، و غيَّرت التركيبة السكانيَّة ، و دمَّرت الموارد المعيشيَّة للمسلمين ، بينما كانت الجمهوريات المستقلة عن يوغسلافيا - عدا البوسنة - تزداد رخاءً و ازدهاراً .
لم تتوقف الحرب إلاَّ عقب توقيع الاتفاقيًّة المعروفة باتفاقيَّة دايتون ، التي أعطت المسلمين رُبُع مساحة بلادهم ، و منحت الصرب ثُلثَي المساحة المتبقية ، و ثلثها للكروات .
__________
(1) انظر : الدكتور علي حسون : محنة المسلمين في البلقان ، ص : 182 .
(2) ... انظر : أكرم رزق محمد نور : البوسنة و الهرسك بين الأمس و اليوم ، ص : 129 .
(3) ... عبد الله سماييتش : الصراع في يوغسلافيا ، ص : 62 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 39 .
(5) ... وكالة الأنباء الإسلاميَّة : البوسنة و الهرسك ، قصَّة شعب مسلم ، ص : 34 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 37 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 43 .
(8) المرجع السابق ، ص : 50 .
(9) المرجع السابق ، ص : 50 .(/26)
لقد كان السلام في البوسنة أمراً لا مفرَّ منه أمام الضغط الصليبي الأوروبي و الأمريكي بسبب تقدم المجاهدين في نهاية المطاف ، و ضرورةً مُلحَّة لحقن دماء البقية الباقية من مسلمي البوسنة و الهرسك ، و جمع شتاتهم في كيانٍ مُستقلٍ و لو كمفحص قطاة .
و لا شك عندي في أنَّ هذه الحرب قد أيقظت الهمم ، و ردَّت الكثيرين من المسلمين التائهين إلى دينهم ، و أحيت في النفوس الحميَّة للإسلام و الغيرة عليه ، وهذه بعض ظواهر الصحوة الإسلاميَّة الواعدة في البوسنة إن شاء الله .
المبحث الرابع
العقائد و الأديان في البوسنة و الهرسك
في البوسنة اليوم ثلاثُ عقائد دينية رئيسة هي : المذهبان النصرانيَّان ، الأرثوذكسيَّة ، و ينتمي إليها الصرب ، و الكاثوليكية ، و يتَّبعها الكروات ، إضافةً إلى الإسلام ، الذي يدين به عامَّة البشانقة و كثيرٌ من الأتراك و المقدونيين و أهل الجبل الأسود و الصرب و الكروات (1) ، كما توجد في البوسنة عدة آلاف من اليهود ، و أعداد كبيرة من المُلحدين الذين تربوا في أحضان الشيوعية خلال العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر للهجرة / العشرين للميلاد .
فما هي البدايات الأولى لهذه الأديان ؟ و كيف وصلَت إلى البوسنة ؟
المطلب الأول : العقائد و الأديان القديمة في البوسنة :
قبل سقوط البوسنة في قبضة الرومان ، وظهور الديانة النصرَانِيَّة على يدهم
فيها كان أبناؤها غارقين في وثنية يرى بعض الكُتَّاب أن لها صلة بأديان الشرق القديمة ، و خاصة ما كان منها ناشئا في بلاد فارس كالمثنوية ( Dualist ) (2) .
والمانوية ( Manichean ) (3) .
غير أن الربط بين الوثنية التي كانت سائدة في بلاد البلقان - و منها البوسنة - في القرون الوسطى و العقائد الوثنيّة في الشرق ، أمر تعوزه الحجة والبرهان ، ولكن القَدْر الذي يمكن التسليم به بهذا الخصوص هو أن سكان البلقان عُرفوا بوثنيتهم حقيقةً ، وكانوا ( يعبدون مجموعة متنوعة من الآلهة ، لا تزال أسماء بعضها باقية إلى اليوم وتطلق على بعض الأماكن اليوغسلافية مثل : آلهة الحيوانات المقرَّنة فيليس ( Veles) ، وإله الرعد بيرون ( Pirun ) أو ( Pir ) ، و أوجاني ( Ogani ) ، و تور
( Tur ) ، (4) و هذه الأسماء لا تزال باقية معروفة في الروايات المتواترة بين الناس إلى يومنا هذا .
و عرفت البوسنة أيضاً ديانة ميتريزام (Mitrizam ) (5) و لكنَّها لم تدُم طويلاً ، و لم تلبث أن تلاشت قبيل انتشار النصرانية بين البوشناق ، حيث أعرض الناس عنها لأسبابٍ منها أنَّها ديانةٌ رِجاليَّةٌ ليس للنساء مكان فيها ، و استبدلوها بالنصرانيَّة (6) .
و يذكر المُؤَرِّخون أنَّ الإيليريّين (( كانوا يعبدون آلهةً كثيرةً منها الشمس و القمر و المطر و الرعد و الماء و النار و النور ، و غيرها و كانوا يُؤْمِنون بالحياة بعدَ الموت )) (7) .
__________
(1) ... انظر : علي سالم النباهين : دراسة مقارنة للأوضاع التعليميَّة للأقلِّيَّات الإسلاميَّة في الهند و سريلانكا و يوغسلافيا ، ص : 240 .
(2) ... العقيدة المثنوية ، و تسمى الثُنائيَّة ، و الثنوية ، تقوم على النظريَّة القائلة : إن الكون خاضعٌ لسيطرة مبدأين مُتعارضين ، أحدهما خير و الآخر شرٌّ ، و هي النظرية التي تقوم عليها الديانة الزرادشتية ، و يُطلق هذا الاسم أيضاً على النظرية القائلة : إنَّ العالم عقلٌ و مادَّةٌ ، أو مادَّةٌ و روح 0
انظر : منير البعلبكي : موسوعة المورد : 3/225 .
و عامر عبد الله فالح : معجم ألفاظ العقيدة ، ص : 80 .
(3) ... المانويَّة : عقيدةٌ فارسيَّة قديمة تُنسب إلى ( ماني ) و هو رجلٌ اشتّقَّ من النصرانيَّة الأولى ديانة عُرفت باسمه و نُسبت إليه ، و هي عقيدةٌ قوامُها الصراع بين النور و الظلام ، و تقول بثُنائيَّة الخالق ، و يُقال : إنَّ اليزيدية ( ديانة عُبَّاد الشيطان ) المعروفة امتدادٌ للمانوية التي دعا إليها ماني .
انظر : نزار سَمَك : البوسنة و الميراث الدامي ، ص : 24 –25 .
و : عامر عبد الله فالح : معجم ألفاظ العقيدة ، ص : 356 .
و : المنجد في اللغة و الأعلام ، ص : 517 .
(4) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 39 – 40 .
(5) ... ميتريزام : ديانةٌ شرقية تُنسب إلى ميتريزام الإيراني ، الذي يُعتبر بموجب هذه الديانة إله الشمس ، و تقوم الميترازمية على أساس الإيمان بثُنائيَّة الآلهة ، فهناك إله للخير و إله للشر ، و من مبادئها : إعلان المُساواة بين جميع الناس حتى استقطبت الفقراء و المساكين و العبيد و غيرهم من الطبقات المستضعفة 0
انظر :عُمر ناكيجيفيتش : الشيخ حسن كافي الآقحصاري رائد العلوم العربيَّة و الإسلاميَّة في البوسنة و الهرسك ،
ص : 23 .
(6) ... انظر : المرجع و الصفحة السابِقَيْن 0
(7) ... رجب بويا : الألبانيُّون و الإسلام ، ص : 12 .(/27)
و قد امتدَّت بعض هذه العقائد إلى الصقالبة القدماء الذين عُرف عنهم التعلق بالظواهر الطبيعية وتفشي السحر والخرافات فيهم (1) ، الأمر الذي تجسده الروايات الخرافية التي لايزال الناس يتناقلونها حتى اليوم و ينسبونها إلى أجدادهم الصقالبة الأوائل (2) قبل تحولهم إلى النصرانية ثم الإسلام كما سيأتي بيانه إن شاء الله .
المطلب الثاني : النصرانية في البوسنة و الهرسك :
أثبتت الوقائع والأحداث التاريخية أن (( الناس على دين ملوكهم )) ، مصداقاً لما اشتهر على الألسنة أنَّه مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ليس كذلك في حقيقة الأمر (3) ، وهذه حقيقة كونية تبدو ماثلة للعيان ، ناصعة الوضوح و البيان في البوسنة والهرسك التي دأب أهلها على متابعة حكامهم فيما يحملونه إليهم أو يملونه عليهم من عقائد وأديان ، الأمر الذي يبدو أكثر وضشوحاً عند دراسة انتشار النصرانية في البوسنة وتزامنها مع الاحتلال الروماني لأرجائها ، و هو ما سأتناوله في المقاصد التالية :
المقصد الأوَّل : ظهور النصرانيَّة و انتشارها في البوسنة :
سبقت العقيدة النصرانية القومية الصقلبية في الوصول إلى البوسنة ، فما كاد الصقالبة يستقرون في البلقان حتى وجدوا النصرانية قد أرست دعائمها و بثَّت دعاتها بين السكان الأصليين ، وخاصة في ما يُعرف اليوم بسلوفينيا وكرواتيا ، و شقَّت النصرانية طريقها إلى البوسنة في وقت مُبكِّر جدَّا ، و لكنها وُئدت في مهدها ، ثمَّ عادت إلى الظهور من جديد .
فقد جاء أوَّل ذكرٍ للأساقفة في البوسنة أواخر القرن الميلاديِّ الأوَّل في مدينة سرميوم ( Sermium ) الواقعة شمال شرقيّ البوسنة و أسفرت عمليَّات التنقيب عن الآثار عن اكتشاف أكثر من عِشرِين كاتدرائيَّة رومانيَّة داخل الأراضي البوسنويَّة ، تقع إحداها قرب ستولاتس ( Stolac ) بمنطقة الهرسك و قد عُثِرَ عليها و هي عبارة عن طللٍ مُحترق و فيها نقودٌ من القرن الأول للهجرة / السابع للميلاد ، ممَّا يدُلُّ على أنَّ النصرانيَّة في البوسنة قد قُضيَ عليها قضاءً مُبرماً في ذلك الزمن (4) . لكنَّ الانبعاث الحقيقي و بداية الانتشار الواسع للنصرانيَّة في المنطقة كان بحدود القرن الأوَّل للهجرة / السَابع للميلاد ، و تحديداً بعد أن اعترف كلٌ من الصرب و الكروات بالسيادة الاسميَّة للإمبراطور البيزنطي ، حيث بدأت كنيسة روما إرسال بِعثاتٍ تبشيريَّة لتنصيرهم ، و على الرغم من أنَّ هذه البعثات تُعتبر باكورة النشاط التنصيري في المنطقة ، إلا أنَّ النشاط الفاعل في نشر النصرانيَّة جاء من القسطنطينيَّة فيما بعد (5) .
وتبعاً للصراع بين الإمبراطوريتين البيزنطية والرومانية نشأ تنافسٌ بين الأرثوذكس والكاثوليك في استقطاب الصقالبة وتنصيرهم ، وظهر ذلك جلياً حينما طلب راستيسلاف أمير مورافسكا ( Moravska ) سنة 248هـ/863م من الإمبراطورية البيزنطية إرسال مبشرين باللغة الصقلبية لبث النصرانية بين
مواطنيه ، وقد استجابت حكومة بيزنطة على الفور وبعثت الأخوين تسيريلو و ميتوييه الذَيْن ابتكرا طريقةً للكتابة عرفت باسم غلاغوليتسا ودوَّنا بها ما ترجماه من الكتب النصرانية إلى اللغة الصقلبية في منطقة سلانيك ، وأخذا ينشران عقيدتهما الأرثوذكسية ، ويوطِّدان للإمبراطورية البيزنطية في البوسنة ، وما جاورها .
__________
(1) ... و ممَّا يعرف عن الصقالبة أيضاً التأثُّر بعقائد الهند القديمة ، حيث كانوا يحرقون موتاهم و دوابَّهم ، و إذا مات فيهم الرجل أحرقوا معه زوجته حيّةً ، إلى غير ذلك ، إلاَّ أنَّ شيئاً من ذلك لم يُروَ عن صقالبة البوسنة 0
انظر : المسعودي : مروج الذهب 2 / 9 ، و أبو عبيد البكري : جغرافية الأندلُس و أوروبا
ص : 186 – 187 .
(2) ... انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 24 .
(3) ... قال السخاوي في " المقاصد " ، ص : 441 : " لا أعرفه حديثاً " .
قلت : لكن روي من الآثار ما يؤكد معناه :
أخرج البخاري (3834) في المناقب ، أن امرأة من أحمس ، يقال لها : زينب سألت أبا بكر الصديق في الحج ، فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ فقال - رضي الله عنه - : ( بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم ) .
قال الحافظ في " الفتح " 7 /151 : ( أي لأن الناس عل دين ملوكهم ، فمن حاد من الأئمة عن الحال ؛ مال وأمال ) .
وروى البيهقي في " السنن " 8/162 ، و " الشعب " 6/42 بسند صحيح : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عند موته : ( إن الناس لن يزالوا بخير ما استقامت لهم ولاتهم وهداتهم ) . =
= ... وقال الفضيل بن عياض : ( لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام ، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد ) . ذكره اللالكائي في " اعتقاد أهل السنة " 1/176 .
(4) انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 33 .
(5) انظر : الدكتور وسام عبد العزيز ، ص : 37 .(/28)
ولما استشعر الرومان ورجال الكنيسة الكاثوليكية البعد السياسي لدعوة هذين الأخوين حاولوا منعهما وإيقاف دعوتهما ، و وشوا بهما إلى البابا (1) في روما بدعوى أنهما يبشران بلغة غير معترف بها من قبل الكنيسة الرسمية وتفاقم الأمر كثيراً ، حتى أصبحت قضية هذه اللغة عامل تفريق ، على الرغم من حظرها في النصف الأول من القرن العاشر للميلاد / الرابع للهجرة حيث اتسعت الهُوَّة بين الكاثوليك الذين انحازوا إلى شمال غرب شبه جزيرة البلقان ، و مُنافسيهم الأرثوذكس الذين لجؤوا إلى المناطق الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة الواقعة تحت نفوذ الامبراطورية البيزنطية والكنيسة الأرثوذكسية (2) .
وقد مكنت الخلافات المستمرة والتنافس المرير بين الكنيستين المذكورتين لبروز عقيدة محليَّةٍ دان بها البشانقة ، و أخذت فيما بعد صِفة الكنيسة البوسنوية الرسمية المعروفة باسم الكنيسة البوغوميليًّة ( Bogu Milje ) التي سنتناولُها بالدراسة فيما يلي إن شاء الله .
المقصد الثاني : الكنيسة البوسنويَّة ( البوغوميلية )
ظلَّ عامة أهل البوسنة محافظين على تقاليدهم القبلية التي توارثوها ، ولم يتأثروا بشكل جماعي - على الأقل - في العقيدة بأيَّة مِلَّة سواء كانت أرثوذكسية أم كاثوليكية بل بقوا وثنيِّين في مُجملهم (3) إلى أواسط القرن السَادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد حيث انتشرت بينهم عقيدةٌ جديدة عرفت بالبُوغُومِيليَّة ( أي أحباب الله ) (4) ، نسبةً إلى مؤسسها بوغوميل ، ورسَّخت جذورها في البوسنة (5) .
و نظراً إلى أن البُوغُومِيليَّة تُمثِّل خروجاّ وتحدياً سافراً للنصرانية المُحرفَّة و الشائعة فقد نظرت إليها الكنائس النصرانية على أنها عقيدة مبتدعة ، خارجة عن النصرانية ، وعادةً ما يستعمل النصارى كلمة ( هرطقة ) للدلالة على ما يعتقدونه حركاتٍ مُنشقةً أو خارجةً عن ( أو على ) تعاليم الكنيسة (6) .
أما البوغوميل أنفسهم فيرونَ أنَّهم يُمثلون النصرانية الحقيقية في صفائها وبعدها عن الوثنية ، وهذا ما أكدته الوثائق التاريخية التي يُحفظ أكثرها اليومَ في دار المخطوطات بمدينة راكوزة ، ومنها وصية كوستارادين (7) التي كتبها سنة 867هـ/1463م و فيها يُسمي أتباعه بالنصارى صراحةً ويصفهم بأنهم نصارى حقيقيون يؤمنون بمذهب الحواريِّين ، و أنَّهم (( لا يأكلون اللحوم ، أما العوام الآخرون فكانوا يأكلون كل ما وقع في أيديهم ولابد لهم يوماً أن يرجعوا إلى النصرانية الحقيقيّة )) (8) .
كما وردت في إحدى الوثائق المكتوبة باللغة التركية سنة 993هـ/1585م عبارات تؤكد أن البُوغُوميل فرقة نصرانية محضة ، وتصف مذهبهم و مِلَّتهم بمذهب النصارى وملة حضرة المسيح ، وأنهم كانوا يعبدون المسيح - عليه السلام - و يقرؤون الأناجيل و يعتبرونها كتبهم المقدسة (9) .
وبهذا يتضح أن البوغوميلية فرقة نصرانية و إن كثرت نقاط الاختلاف بينها وبين الفرق النصرانية الأخرى ، و إذا كانت لها صلةٌ بديانة أخرى غير النصرانية ، فإنها أقرب ما تكون إلى المانوية التي كانت منتشرة في آسيا الوسطى وروسيا ثم عرفت في بلغاريا ، و غيرها من مناطق البلقان .
و من بُلغاريا – مهد البوغوميلية – و صلت عقيدة البوغوميل إلى البوسنة ، و أقدمُ إشارة إلى وصول هذه العقيدة إليها وردت في خطابٍ أرسله كبير أساقفة سبليت ( Split ) في عام 596هـ/1200م ، و ذَكَر فيه أنَّه عندما طرد الهراطقة الباتاريين من سبليت و تروغير ( Trogir ) لجؤوا إلى البوسنة حيث رحَّب بهم البان كولين (10) .
و لمعرفة البوغوميل على حقيقتهم يحسُن أن نتناول بالذكر أصول عقائدهم و مبادئهم الرئيسة التي أهمُّها :
__________
(1) ... البابا :كلمةٌ مشتقة من الكلمة القبطية بي أبا أي الأب ، و هو الرئيس الأول للكاثوليك ، أول ظهور هذا اللقب و المنصب كان في مصر ، ثم انتقل إلى روما .
انظر : الموسوعة الميسرة في الأديان و المذاهب ، ص : 991 .
(2) ... بتصرف عن : عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 25 – 26 .
(3) ... انظر : أشرف المهداوي ، ص : 99 .
(4) ... انظر : الدكتور الفاتح حسنين : الطريق إلى فوجا ( مقال منشور في مجلَّة الشاهدة الصادرة عن المجلس الإسلامي لشرق أوروبا ، فيِّنا، العدد الأوَّل، ربيع الأوَّل 1413هـ/ أيلول 1992م ) ، ص : 11 .
(5) ... انظر: عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 27 .
(6) ... انظر : بول كولز : العُثمانيَُون في أوروبا ، ص : 100 .
(7) ... أحد آباء الكنيسة البُوغُوميليَّة ، توفيَ في القرن التَاسع للهجرة / الخَامس عشَر للميلاد 0
انظر : عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 28 .
(8) انظر : المرجع السابق ، ص : 28
(9) انظر : Muhammed Hand?i?: Islamizacija Bosne I Hercegovine; S : 4
(10) انظر : Thouzellier, C; H?r?sie et h?r?tigues : Vaudois, CatharesMPatarins, Albigeois,Storia e letteratura: raccoltadi studi e testi, (rome, 1969g) p: 216(/29)
حسب اعتقادهم : فإنَّ الله هو خالق الروح وعالم الغيب والخير ، و الشيطان هو خالق المادة وعالم الظاهر والشر، و هنا يظهر مدى تأثُّر هذه العقيدة بالمانويَّة الفارسيَّة التي سبقت الإشارة إليها .
كانوا يقولون بالتثليث ويؤمنون بالحساب والجنة والنار .
ينظر البوغوميل إلى المسيح على أنه روح الله وينكرون عقيدة التجسُّد و يرفضون تبعاً لهذا الاعتقاد كثيراً ممَّا هو معروفٌ عند الطوائف النصرانيَّة الأخرى ، مِثل التعميد ، و الاستنطاق ، و الزواج المُقدَّس ، و يُقِرُّون الزواج خارج الكنيسة و لا يحرمون الطلاق .
كتابهم المقدس هو الإنجيل ( المعروف عند النصارى بالعهد الجديد ) وبعض الأجزاء اليسيرة من التوراة ( العهد القديم ) وهو مترجم إلى اللُّغة السلافية باعتبارها لغة الكنيسة البوسنوية .
كانوا ينفرون من بعض المظاهر الوثنية التي تغلغلت في طوائف النصرانية الأخرى كالاهتمام بتشييد الكنائس ، و المباني الفخمة ، و تزيينها ، و تعليق الأيقونات و الصلبان و الصور فيها .
تميَّز البوغوميل عن أتباع المذاهب النصرانيَّة المعروفة بقِلَّة تعلُّقِهِم بالقُسُس والرُهبان فقد كانوا يؤدون الصلاة - مثلاً - بشكلٍ جماعي في البيوت ، و الحقول ، والغابات بعيداً عن الكنائس و قُسُسِها ، و يعتقدون أن التوبة تكون مباشرةً بين العبد والرب ، بدون استنطاق من القسِّ ، أو طلب الغفران بواسطته.
في البوغوميلية طبقة عليا هي طبقة رجال الدين المعروفين باسم كريستاني
( Kristani ) أي : النصارى ، أو ستروينيتسي ( Strojnici ) ، و يوجدون في أماكن خاصة تشبه الأديِرة ، و يُسمَّى الواحد منها هِزَة ، ومن بينهم يتم اختيار رئيس الكنيسة البوسنوية المعروف بينهم بلَقَب ديد ( Did ) (1) ، و قد عرف عن رجال الدين هؤلاء الانصراف عن الزواج ، وملازمة الزهد والتقشف (2) ، إلا أن هذه الصفات ما لبثت أن تلاشت بعد أن انفتحت عليهم الدنيا بحلول القرن التاسع للهجرة / الخامس عشر للميلاد حيث ظهرت عليهم مظاهر النعيم و الترف واتصلوا بقصور النُبلاء وتقربوا إليهم وراعوا مصالحهم الخاصة ، حتى فقد العامة ثقتهم فيهم (3) .
و إذا تأملنا ما عرفناه من عقائد البوغوميل تأكد لدينا أنها عقيدة نصرانية في الأصل ، وإن كان فيها ما يوافق المانوية من حيث تعدد الآلهة ، وبعض ما يوافق الإسلام كالبعد عن مظاهر وثنية كثيرة من قبيل التعلق بالصلبان و النواقيس و غيرها غير أن هذا لا يسوغ بحال ما وقع فيه بعض الكتاب المسلمين ، حينما أدخل البوغوميل في دائرة التوحيد (كذا ) بلا دليل ولا برهان سوى أنهم لا يقولون بالتثليث(4) ، هذا إذا ثبت أنهم لا يقولون بالتثليث أصلاً ، وهي مسألة تجاذبتها الأدلة ولم نقف فيها على مرجح
مقبول .
و لا يخفى أن التوحيد الذي يعني إفراد الله بالألوهية و الربوبية ليس مجردَ نفيٍ للثالوث المزعوم عند النصارى فما أكثر من نفى الثالوث وأشرك مع الله مالا يكاد يحصى من الآلهة .
فضلاً على أن البوغوميل يشركون الشيطان مع الرحمن فيقولون : (( إنَّ الله خالق الروح وعالم الغيب والخير ، و الشيطان خالق المادة وعالم الظواهر
والشر )) (5) فأيُّ توحيد هذا ؟!
وقد أحسن الأستاذ الدكتور عمر ناكيجيفيتش حين ختم بحثه حول هذه المسألة بقوله : (( إلى جانب اعتقادهم بأن الإله واحد فإنهم يؤمنون بأن صانع العالم ليس
__________
(1) ... حاول بعض الكُتَّاب المتحمسون لإثبات وجود علاقةٍ ما بين البوغوميليَّة و الإسلام الاستدلال بأن كلمة (Did) مأخوذة من كلمة (جَدّ ) العربيَّة رغم ما بين الكلمتين من الفرق ، و لو سلَّمنا بوجود تقارب بين الكلمتين ، فليس في ذلك ما يمكن الاستدلال به على التقارب بين العقيدتين 0
انظر مثل هذا الاستدلال لدى :
زهدي بكر عادلوفيتش : المسلمون في يوغسلافيا ( مجلَّة الحرس الوطني السعوديَّة ، ع : 112 ) ، ص : 35.
و عنه أخذ أشرف المهداوي في كتابه : قصَّة البوسنة ، ص : 100 .
(2) ... هذا المظهر من مظاهر البوغوميليَّة ليس – كما يظنُّه البعض – علامةً على أنَّ ديانة البوغوميل قريبة من النصرانيَّة المنزلة على نبيِّ الله عيسى عليه السَّلام ، بل على العكس من ذلك ، هي علامةٌ على التحريف و التزييف ، لأنَّ الرهبانيَّة حالةٌ مُبتدعةٌ في النصرانيَّة . قال تعالى : { و رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حقَّ رعايتها } [الحديد : 27] .
(3) ... نياز شُكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 74 .
(4) ... قال الأستاذ أشرف المهداوي في كتابه: قصَّة البوسنة ، ص : 100 ما نصُّه : ( كما أنهم لا يقولون بالتثليث ، و بذلك يدخلون في دائرة التوحيد ) ، فتامَّل !!
(5) ... نياز شُكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 70 .(/30)
واحداً )) (1) ، و في هذا إشارة إلى أنَّهم لا يَسْلَمون من الشرك في الربوبيَّة ، فضلاً على الشرك في الأُلوهيَّة .
علاقة الكنيسة البوسنوية بالكنائس النصرانية الأخرى :
حرص كلٌ من الكاثوليك ( و منهم الكروات ) و الأرثوذكس ( و منهم الصرب ) على إخضاع الكنيسة البوسنوية لسلطتهم وجعل رعاياها من البوغوميل تحت سلطان كنيستهم حيث يزعم كل من الطرفين أن البوغوميل فرقة تابعةٌ له أصلاً ، وإنْ أظهرت بعض الطقوس الهرطقية ( المبتدعة ) ، أو أنهم مُرتدون عن الكاثوليكية أو الأرثوذكسية وعليهم العودة إليها ثانية .
موقف الأرثوذكس من الكنيسة البوسنوية :
تظهر بجلاءٍ في كتابات مؤرخي الصرب عموماً و المُعاصرين منهم على وجه الخصوص ، أحقادٌ مُتأصِّلة في نفوسهم على البشانقة المسلمين ، و أجدادهم البوغوميل من قبل ، و تجلَّت هذه الأحقاد بوضوح في الشعار الذي أعلنه الصرب في حروبهم ضدَّ البوغوميل و هو : (( عودوا إلى حظيرة الرب حتى لايسري عليكم الأمر المقدس )) والمراد بالأمر المقدّس هنا الإبادة بالحرق أو غيره ، و قد قام الصرب الأرثوذكس بترجمة هذا الشعار على أرض الواقع منذ أن رفعوه فجرَّدوا الحملات العسكرية الواحدة تِلوَ الأُخرى للقضاء على البوغوميل (2) .
و يسوغ الصرب حقدهم هذا بتبني نظرية تاريخية مفادها : أنَّ الكنيسة البوسنوية كانت تابعةً للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ، و قد تكونُ صربيةً انفصلت عن الكنائس الأرثوذكسيَّة الأُخرى واختارت بعض المعتقدات الهرطقية .
و يدافع الصرب بحماس عن هذا الرأي انطلاقاً من حرصهم على إظهار البوسنة تابعةً لصربيا ليس سياسيّاً و حسب ، بل دينيَّاً أيضاً ، و في جوانبها كافَّة و لا سيما
الجوهريَّة منها (3) ، الأمر الذي نجم عنه شنّ عدة حروبٍ على أهل البوسنة و الإغارة عليهم باستمرار على مرِّ التاريخ لأهدافٍ سياسية تارة ، و دينيةٍ ( تنصيرية ) تارةً أخرى .
و أمام هذا البطش الشديد ، و الفتك العنيف ، اضطُر الآلاف من البوغوميل إلى الانتقال إلى الأرثوذكسية ، وتأكيداً لذلك نجد في رسالة بطريرك إسطنبول غينادي الثاني سكولاريا ، التي بعث بها إلى رهبان سيناء عام 856هـ/1453م قوله :
(( إن رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في بلاد الهرسك أرجع الكثيرين إلى المذهب الأرثوذكسي حتى أن هرسك نفسه - أي أمير إقليم الهرسك - أرثوذكسي في
ذاته … )) (4) .
فالهرسك إذن ارتدَّ عن البوغوميلية وصار أرثوذكسياً ، وهذا ما يشهد له ما جاء في جواب البطريرك المذكور على إحدى رسائل الهرسك استفان حيث قال : (( إذا أرسل صدقةً فتقبلوها لأنه من صالحه البقاء في المذهب البوغوميلي و لا تذكروا اسمه في الكنيسة لأنه لا يعترف بها علناً ، بل ادعوا له بالخير و ليكن الدعاء في غرفة طعامكم )) (5) .
و على الرغم من عداء الأرثوذكس الشديد للبوغوميل ، فإنه لا يقارن بعداء الكاثوليك لهم ، حيث كانت الصدامات معهم عنيفةً ودموية إلى أبعد الحدود ، و بخاصةٍ في القرن التَاسع للهجرة / الخامس عشر للميلاد و يُرجَع هذا إلى عدم وجود أطماع سياسية من ناحية صربيا في البوسنة في تلك الفترة بخلاف ما هو عليه الحال من جهة الكروات .
ولذلك يحسن أن نسلط الضوء على علاقة الكنيسة البوسنوية بالبابا والكنيسة الكاثوليكية في القرن التاسع للهجرة / الخامس عشر .
موقف الكاثوليك من الكنيسة البوسنويَّة :
الكاثوليكية عقيدة راسخة في البلقان عموماً ، يمثلها في البوسنة وماحولها الكروات حيث ينتسب أكثر من تسعة أعشارهم إليها ، و يتمسكون بها و يدعون إليها بحماسٍ شديد .
وعلى الرغم من التعايش المسالم - سواء كان بدافع الرغبة أو الرهبة - الذي عرف عن البوغوميل تجاه الكروات فقد تبنى الكتَّاب الكاثوليك ( و يمثلهم الكروات في المقام الأول ) في مُقابل مزاعم الصرب المتقدِّمة نظريةً مفادها أن الكنيسة البوسنوية كانت في البداية فرعًا من الكنيسة الكاثوليكية و رُبَّما كانت هيئةً ديريَّةً آثرت الانفصال و تبنَّت بعض العقائد و الأفكار الهرطقية (6) .
__________
(1) ... عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 29 .
(2) ... انظر : الدكتور عدنان علي رضا النحوي : ملحمة البوسنة و الهرسك ، ص : 38 .
قلت : و قد عاد الصربُ لرفع هذا الشعار مُجدداً في حربهم الأخيرة ضدَّ المُسلِمين .
انظر : صحيفة المسلمون بتاريخ 14/11/1412هـ الموافق 15/5/1992م .
(3) ... انظر: نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 60 .
(4) ... عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 27 – 28 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 28 .
(6) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 61 .(/31)
و تذهب الكنيسة الكاثوليكيَّة أبعدَ من ذلك ، و لا تتوانى في السعي إلى القضاء على البوغوميل واستئصال شأفتهم حيث تنظر إليهم نظرة احتقار ، وتراهم زنادقةً ، بل تُسمِّيهم ( خدم الأبالسة ) و تصفهم بأنهم ( يذهبون في ظلام الليل كاللصوص لصدِّ النصارى عن دينهم الحقيقي ( (1) .
و من هنا كان موقف البابوية ( المرجعية الدينية لكاثوليك العالم ) سلبياً من البوغوميل كما يظهر من وثائق الفاتيكان و الوثائق الخاصة بالكنيسة البوسنوية التي يحفظ جلها في دار المخطوطات بمدينة راكوزة .
و من بين تلك الوثائق تبرز وثيقة منسوبة إلى البابا غورغو الكبير و ترجع إلى القرن العَاشر للهجرة / السادس عشر للميلاد ، و هي تعكس صورة البوغوميل في نظر الكنيسة الغربية ، حيث جاء فيها : (( أيتها الكنيسة البوسنوية التعيسة التي لا يهطل على أرضها غيثٌ ولا ندى ، من أين ستأتين بالمحصول الوفير ، و من أين ستطعمين هذا العدد الكبير من الزنادقة …) (2) .
فهم زنادقةٌ في نظر الكاثوليك ، وكفى بهذا مبرراً للعمل على استئصال شأفتهم ، فضلاً عن أن البوسنويِّين كثيراً ما كانوا يستثيرون خصومهم حينما يزعمون أن مذهب البوغوميل هو النصرانية الحقيقية التي كان عليها حواريو المسيح - عليه السلام - ، مما يؤلب الكاثوليك ( الكروات ) ضدهم ويوغر صدور الأعداء عليهم .
و أمام كثرة مطالبة كاثوليك المنطقة باباوات روما بالتدخل للحد من اتساع نفوذ الكنيسة البوسنوية ، بدأ التخطيط لحرب صليبية حاسمة ضد البوغوميل ، و ظهرت إرهاصاتها عندما بعث الأمير فوكان ابن الملك ستيفان ملك دالماسيا عام 595هـ/1199م رسالة إلى البابا انيوجينيتيه يشكو إليه فيها من (( انبعاث ديانة فاسدةٍ تنتشر في البوسنة بشكل فظيع )) و يضيف قائلاً (( إن كولين بان البوسنة وكثيرٌ من أقربائه قد انتسبوا إليها و عملوا على إضلال أكثر من عشرة آلاف نصراني )) (3) .
و عندها انطلقت الشرارة الأولى للمواجهة العنيفة بين البوغوميل والكنيسة الكاثوليكية ، حيث سمى البابا المذكور أهل البوسنة ( باتارين ) أي : ضالين (4) ، وطلب إلى ملك المجر (ميركو) إبادتهم جميعاً بدعوى أن خطرهم يهدد المجر ومذهبها الديني (5) .
و أمام هذا الضغط و التهديد اضطر زعماء البوسنة ( كولين و أقرباؤه ) إلى التخلي عن الديانة البوغوميلية و تعهدوا أمام مندوب البابا الرسولي إلى البوسنة سنة 1203م بإقامة الكنائس و دور العبادة في كل مكان ، ونصب الصلبان فيها ، و قراءة الكتب المقدسة ، كما أعطوا تنازلاً آخر أطلقوا بموجبه على أنفسهم اسم
( الأخوة ) بدلاً من النصارى كي لا يقلِّلوا من شأن النصارى الآخرين ، و للحد من استثارة خصومهم ، و لكن هذه الحال لم تدم طويلاً .
و أمام تمكن مذهب البوغوميل ورسوخه في البوسنة ، ازداد حرص الكنيسة الكاثوليكية على التصدي له ، مما سبب للبشانقة اضطهادًا و عنتاً شديدَيْن حيث أخذ باباوات روما يُؤَلِّبون الملوك ضدهم ، و من ذلك ما جاء في رسالة البابا جون الثاني و العشرين التي بعث بها إلى ملك البوسنة قائلاً : (( إلى ولدنا الحبيب الحسيب استيفن بان البوسنة ! لعلمنا بأنك ابنٌ مُخلصٌ للكنيسة نعهد إليك أن تستأصل شأفة الخوارج في ملكك ، و أن تبذل العون و المساعدة لقاضينا فابتيان ، لأن جمهوراً عظيماً من الخوارج تجمعوا من نواح كثيرة متعددة ، و تدفقوا جميعاً على إمارة البوسنة واثقين من أنَّهم سيُبرزون هناك خطاياهم الفاحشة ، و يعيشون في أمن و دَعَة ..)) (6) .
و أخذ باباوات روما يدعون إلى حرب صليبية ضد البوغوميل ، لاسيما هنوريوس الثالث 617هـ/1221م وجوريجبوري التاسع سنة 635هـ/1238م وإنوسنت الرابع في سنة 637هـ/1240م ، وتلا ذلك تأسيس ديوان التفتيش سنة 1291م ، ناهيك عمَّا جرى بعده من تعذيب كنسي قامت به الفئات الكاثوليكية الحاكمة للشعب البوغوميلي بدعم من البابويَّة في روما ، ممَّا حمل نحو أربعين ألفاً منهم على لهجرة إلى البلاد المجاورة ، أما الذين لم يستطيعوا الهرب ، فقد أُرسلوا إلى روما مُكبَّلين في الأصفاد (7) .
__________
(1) ... انظر : Corovi?, V : Bosna I Hercegovina; S : 46
(2) ... انظر : المرجع و الصفحة السابقين .
(3) انظر : Hand?i?, M; Islamizacija Bosne I Hercegovine. S : 6
(4) ... استعملت كلمة باتارين ، أو باتاريني ( Patarini ) لأول مرة في القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر للميلاد في وصف حركة إصلاحيَّة ظهرت في الكنيسة الكاثوليكية في روما ، ثمَّ أصبحت اسماً يُطلَق على جميع أصحاب الدعاوى الفكرية و الدينية المناوئة للكنيسة الرسمية .
انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 64 .
(5) ... انظر : عمر ناكيجيفيتش : الشيخ الآقحصاري ، ص : 27 .
(6) ... حتَّى لا تضيع البوسنة كما ضاعت الأندلُس ، ص : 19 .
(7) ... انظر : المسلمون تحت السيطرة الشيوعيَّة ، ص : 121 – 122 .(/32)
وهكذا نرى أن البوغوميل ظلُّوا يعانون من الاضطهاد و يُقاسون القمع بين حجري الرحى ( الصرب و الكروات ) حتى بزغت شمس الإسلام في بلادهم فكانت بداية التحرر والتمكين لهم .
المطلب الثالث : الإسلام في البوسنة و الهرسك :
كان الإسلام و لا يزال إحدى الديانات المعروفة في البوسنة منذ عشرة قرون أو يزيد و إن كان أتباعه متفاوتين في العَدد بين فترةٍ و أخرى ، أو بين جيلٍ و جيل قبل أن يبلغوا الصدارة في ظل الخلافة العثمانية حيث ازدادت نسبتهم أمام تراجع أعداد أتباع الديانات الأُخرى ، تحت تأثير الهجرة تارة ، و الدخول في الإسلام بأعداد كبيرة تارةً أخرى ، إضافة إلى التناسل الخصب بين المسلمين دون غيرهم .
و إذا استحضرنا هذه المعلومات و تلك التي أوردتها في آخر النبذة الجغرافية عن البوسنة و الهرسك قبلاً فإنَّنا سنلحظ بوضوح أنَّ نسبة المسلمين بين سكان البوسنة كانت في ارتفاع مستمر خلال حقب التاريخ المتتالية ، باستثناء الأزمنة التي كان المسلمون فيها عرضةً لحملات التهجير و القمع و الإبادة الجماعيَّة و الأوضاع المأساوية .
و هذه كلُّها مُسلَّمات لا مُنْكِر لها و لا خلاف حولها ، بَيْدَ أنَّ في الباب مسألتين طال حولهما الجدل :
أولاهُما : طريقة وُصول الإسلام إلى البوسنة و ضبطُ ذلك تاريخياً .
و ثانيتهما : أسباب الانتشار السريع و الاقبال منقطع النظير على اعتناق الإسلام لدى البشانِقة .
و نظراً إلى أهميَّة البحث في هاتين المسألتين ، فإني سأتناولُ ، أولاهما بالبحث التاريخي ، و أخراهما بالدراسة التحليلية مُلتمساً إصابة الحقيقة و مبرهناً عليها ما وجدت إلى ذلك سبيلاً من خلال البحث في المقاصد التالية :
المقصد الأوَّل : إسلام الصقالبة قبل الفتح العُثماني للبلقان :
دأب كثير من الباحثين على القول : إنَّ الصقالبة قد عَرفوا الإسلام منذ القدم و تفاعلوا معه حتَّى إنَّ بعضهم دخل في دين الله قبل وصول العثمانيين إلى البلقان بقرون ، بل ربما كان بعض الصقالبة قد أسلم و هو في موطنه الأصلي و مات على الإسلام أيام الدولة العباسية و قبل أن تقوم للعثمانيين قائمة أو تكون لهم دولة أصلاً (1) .
و كان أول ظهور الإسلام في البلقان عند وصول الفاتحين الأوائل إلى القسطنطينية في العامين الأخيرين من القرن الهجري الأوَّل / 717-718 م بقيادة مسلمة بن عبد الملك (2) الذي فتح مدينة غالاتا ، و بنى فيها أوَّل مسجد ، و هو المسجد الشهير المعروف بمسجد العرب ، الذي حوَّله البيزنطيون إلى كنيسة و ظل كذلك حتى دخل العثمانيون المدينة فأُعيد مسجداً من جديد ، و كان المسلمون قد وصلوا بقيادة مسلمة إلى أدرنه
( Edirne ) و سولون ( Solun ) فيما يعتبر أولَ حملة يقومون بها إلى شبه جزيرة البلقان (3) .
و يَرى بَعضُ مُؤَرِّخي المنطقة أنَّ النواة الأوَّلى لمسلمي البلقان كوَّنها أولئك المسلمون المهاجرون من آسيا أيام الملك البيزنطي توفيل ( توفي سنة 214هـ/842م ) الذين استقروا في منطقة سولون الواقعة ضمن حدود اليونان المعاصرة ، على ضفاف نهر وردار ، حيث نُسِبَ هؤلاء المسلمون إليه فيما بعد فعرفوا باسم المسلمين الوَرْدَارِيِّين ، و بالرُغمِ من أنَّ الكثيرين من الكتاب قد أغفلوا هذا الحدث فإنَّ معظمهم يشيرون إلى حدث أهم و أكثر وضوحاً في هجرة المسلمين من آسيا إلى البلقان و هو نبأ ساري ساتلوك المهاجر الصقلبي الذي غادر بلاط ملك التتار نوغاي مهاجراً إلى البلقان مع نحو أربعين قبيلة تركمانية استقرت في دوربرودا (Dorbruda ) وكان له دور كبير في نشر الإسلام بين البلقانيين (4) .
__________
(1) ... انظر : الدكتور عبد الحيّ فرماوي : الصربيُّون خنازير أوروبا يُحاولون إبادة الوُجود الإسلامي في البَلقان ،
ص 47 .
و : مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 143 .
و : نزار سمك : البوسنة و الميراث الدامي ، ص : 21 .
(2) ... مسلمة بن عبد الملك ، هو : ابن مروان بن الحكم ، الأموي ، الدمشقي ، أبو سعيد و أبو الأصبغ ، أمير فاتح ، غزا القسطنطينية ، و بنى فيها مسجداً حمل اسمه ، وهو أخو الخلفاء الأمويين : الوليد و سليمان و هشام و يزيد ، ولي العراق لأخيه يزيد ، ثم أرمينية ، قال الذهبي : ( كان أولى بالخلافة من سائر إخوته ). توفي سنة 120 هـ / 738م .
انظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء 5 / 241 ، تهذيب التهذيب 10 / 144 ، الأعلام ، للزركلي : 7/22.
(3) ... انظر : مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 53 .
(4) ... باختصار و تصرُّف يَسيرَين عن : زكريا علي أفسكي ، و ياسمين كانتاروفيتش : الأندلُس الثانية ، ص : 18-20 .
و : مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 53 .(/33)
و من جُملة الروايات التي تناولت هجرة الصقالبة إلى البلقان ، يظهر أنَّ كثيراً من البوشناق وصلوا إلى المنطقة ، و هُم يحملون معهم عقيدة الإسلام ، حيث اعتنقه بعضهم قبل الهجرة إلى المنطقة التي تُشكِّل البوسنة و الهرسك اليوم ، و إن لم تكُن تعاليمه قد رسخت تماماً في نفوسهم (1) .
و بغضِّ النظر عن كيفيَّة وصول المسلمين ، فإنَّ المهم أنَّهم كانوا موجودين فعلاً في المنطقة ، و خاصة على سواحل البحر الأدرياتيكي (( فقد حدث أن طلب لويس الثاني في المغرب المعونة من باسل المقدوني ضد المسلمين ، فأرسل الإمبراطور البيزنطي سنة 254هـ / 868م أسطوله الذي عمل على تطهير الأدرياتي من
المسلمين )) (2) ، ممَّا يؤكِّد وُجودهم في البوسنة و ما حولها قبل ذلك ، و أنَّه كان لهم كيانٌ لا يُستهان به .
أمَّا المراجع التاريخيَّة العربية فنادراً ما تشير إلى الصقالبة أو البلقان ، أو أحوال المسلمين في تلك الديار النائية ، و من هذا النادر أقتطف الأحداث الثلاثة التالية :
أولاً : رحلة ابن فضلان (3) إلى بلاد الصقالبة :
يذكر أصحاب التاريخ أن الخليفة العباسي المقتدر (4) أرسل بعثةً تضم عدداً من علماء المسلمين في الشؤون الدينية و الدنيوية إلى بلاد الصقالبة لنشر الإسلام و الدعوة إليه في أرجائها ، و تحصينها من هجمات يهود الخزر (5) الغادرين . و خير من يروي أخبار هذه البعثة أحمد بن فضلان العباسي الذي أوفده المقتدر معها فكتب عنها رسالة مستفيضة ، ذكر في مطلعها أنَّ ملك الصقالبة ألمش بن يلطوار (6) طلب إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله أن يرسل إليه من يفقهه في الدين و يعرفه الشرائع ، و يبني له مسجداً و ينصب له منبراً يقيم عليه الدعوة للخليفة في أنحاء مملكته ، و سأله أن يبني له حصناً يتحصن به من ملوك الخزر اليهود فأجاب الخليفة المقتدر طلبه ، و انتدب ثلاثة آلاف من المسلمين ما بين فقيه و عامل و طبيب و صانع ، ليفدوا عليه في بلاده بما أراد ، و أمَّر عليهم سوسن الرسِّي (7) ، و أردفه مترجماً من الترك ، و فقيهاً من العرب هو أحمد بن فضلان مؤرخ الرحلة .
انطلقت الرحلة من بغداد لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر الخير سنة 309هـ/ 21 حزيران عام 921م و سارت شهراً و بضعة أيام .
يقول ابن فضلان : (( فلما كنَّا من ملك الصقالبة - و هو الذي قصدنا - على مسيرة يوم و ليلة وجَّه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده ، و إخوته و أولاده ، فاستقبلونا و معهم الخبز و اللحم و الجاورس (8) ، و ساروا معنا ، فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو بنفسه ، فلما رآنا نزل فخرّ ساجداً شكراً لله جل و عزّ ، و كان في كمه دراهم فنثرها علينا ، و نصب لنا قباباً فنزلناها .
__________
(1) ... انظر : الدكتور علي حسُّون : محنة المسلمين في البلقان ، ص : 175 .
(2) ... الدكتور سعيد عبد الفتَّاح عاشور : أوروبا في العصور الوسطى ، ص : 127 .
(3) ... ابن فضلان , هو : أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان , البغدادي , فقيه . ذكره ياقوت الحموي في مواضع من معجم البلدان : 1 / 87 و 322 و 486 , 2 / 367 و 397 , 3/79. ناقلا أخبارا عن رحلته معتمدا إياها .
(4) ... المُقتدر بالله , هو : جعفر بن المعتضد بالله , أبو الفضل ، الهاشمي ، البغدادي ، ولي الخلافة سنة 259 هـ / 873 م و هو ابن ثلاث عشرة سنة , وما ولي أحد قبله أصغر منه , وخلعه الجند في أوائل دولته , ثم لم يتم ذلك . =
= ... قال التنوخي : كان جيد العقل , صحيح الرأي , و لكنه كان مؤثرا للشهوات . قتل سنة 320 هـ / 932 م ، و عمره ثمان و ثلاثون سنة .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 7 / 213 ـ 219 , المنتظم 6 / 243, الكامل 8 / 8 ، سير أعلام النبلاء 15 / 43 ـ 57 .
(5) ... الخزر : مملكة لليهود بمدينة تسمى : إتل ، يقطعها نهر ، تجاور بلاد الترك و بلغار ، و أهلها صنف من الترك و هم طوائف ، منهم : المسلمون و النصارى .
انظر : معجم البلدان 2 / 367 ، البدء و التاريخ 4 / 66 ، مراصد الاطلاع ص 465 .
(6) ... اختُلِف في اسم الملك المذكور اختلافاً شديداً فقيل : هو الحسن بن يلطوار ، و قيل : هو ألمش بن شلكي ، و قيل : هو ألمس بن شلكي يلطوار إلى غير ذلك من الأقوال التي لا مرجِّحَ مقبول لأيٍ منها 0
للاستزادة انظر : دائرة المعارف الإسلاميَّة ، مادة بلغار .
و انظر: تعليق الدكتور سامي الدهَّان على رسالة ابن فضلان ، ص : 67 .
(7) ... زاد في معجم البلدان : مولى نذير الحزمي . ولم أقف له على ترجمة مفردة .
(8) ... الجاورس أصلُه كاوَرس و هو : حبٌ معروف ٌ يُشبه الأرز ، يؤكل مثل الدهن ، من فوائده إمساك الطبيعة و إدرار البول . انظر : تاج العروس مادة : جرس .(/34)
و كان وصولنا يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة عشرة و ثلاثمائة من الهجرة / 22 أيار 922 للميلاد … فأقمنا في القباب التي ضُربت لنا حتى جمع الملوك و القُوَّاد و أهل بلده ليسمعوا قراءة الكتاب ... فأخرجت كتاب الخليفة فقرأته )) (1) .
و يذكر ابن فضلان أنَّ ملك الصقالبة سأله : ما اسم مولاي أمير المؤمنين ؟
قال : قلت : جعفر .
قال : فيجوز أن أتسمى باسمه ؟
قلت : نعم .
قال : قد جعلت اسمي جعفراً و اسم أبي عبدَ الله ، فتقدَّمْ إلى الخطيب بذلك ! فَفَعَلْتُ، فكان يدعو له : (( اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير البلغار مولى أمير المؤمنين … )) (2) .
... قال ابن فضلان : (( و كان يدعو له على منبره قبل قدومي : اللهم أصلح الملك يلطوار ملك البلغار )) (3)
قلت : و حسبنا من خبر ابن فضلان ما أوردناه ، و كفى بما فيه دلالة على أن الصقالبة عرفوا الإسلام قبل نهاية القرن الثالث للهجرة / العاشر للميلاد ، و أقبلوا عليه بشغف ، حتى تمكن من أفئدتهم و ديارهم ، و من تأمل كلام ملكهم يلطوار وقف على حقيقة رسوخ الإسلام في نفوس الصقالبة و تعلقهم به ، و توقيرهم كل ما جاء به ، و فتح ديارهم و بلادهم أمام دُعاته ، مما يؤكد الحقيقة التاريخية
القائلة : إنَّ كثيراً من مناطق الصقالبة قد دخلها الإسلام و انتشرت فيها المساجد و المكاتب الدائمة و العادات الإسلامية حتى في الزيّ و المقابر قُبيل القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد (4) .
ثانياً : ذِكر ياقوت الحمويّ للباشغرديَّة :
علاوةً على ما ذكره ياقوت الحموي في كتابه الشهير ( معجم البلدان ) من احتكاك التجار العرب و المسلمين بالصقالبة في البلاد التي وصلوا إليها ، حيث
(( إن تجار المسلمين كانوا يقصدون بلاد الصقالبة بأنواع التجارات )) (5) كان بعض الصقالبة المسلمين يفدون إلى بلدان العالم الإسلامي لأهداف عديدة ، فقد أورد ياقوت و صفاً دقيقاً لاجتماعه بنفرٍ من الصقالبة الذين وفدوا على بلاد الشام طلباً للعلم فقال :
(( وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم الباشغردية ، شقر الشعور و الوجوه جداً ، يتفقهون على مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - ، فسألتُ رجلاً استعقلته منهم عن بلادهم و حالهم فقال : أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية ، في مملكة أمة من الفرنج ، يقال لهم : الهنكر (6) ، و نحن مسلمون رعية لملكهم في طرف من بلاده نحو ثلاثين قرية ، كل واحدة تكاد أن تكون بليدة ، إلاّ أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سوراً خوفاً من أن نسعصي عليه ، و نحن في وسط بلاد النصرانية ، و لساننا لسان الإفرنج ، و زينا زيهم و نخدم معهم في الجندية ، و نغزو معهم كل طائفة ، لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي
الإسلام . فسألته عن سبب إسلامهم ، مع كونهم في وسط بلاد الكفر ، فقال : سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من بلاد البلغار ، وسكنوا بيننا ، وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال ، و أرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام ، فهدانا الله و الحمد لله فأسلمنا جميعاً ، و شرح الله صدورنا للإيمان ، و نحن نقدم إلى هذه البلاد ، و نتفقه ، فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها و ولونا أمور دينهم .
فسألته : لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج ؟ فقال : يحلقها منَّا المتجندون ، ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج ، أما غيرهم فلا . قلت : فكم مسافة ما بيننا و بين بلادكم ؟ فقال : من هاهنا إلى القسطنطينية نحو شهرين و نصف ، و من القسطنطينية إلى بلادنا مثل ذلك )) (7) .
ثالثاً : زيارة الرحالة المسلم أبي حامد الغرناطي (8) لمنطقة البلقان :
__________
(1) ... باختصار عن : رسالة ابن فضلان ، بتحقيق الدكتور سامي الدهان ، ص : 113 – 114 .
(2) ... رسالة ابن فضلان ، ص : 118 .
(3) ... المرجعُ السابِق ، ص : 117 .
(4) ... انظر : ابن رستة : الأعلاق النفيسة ، ص : 145 .
(5) ... معجم البلدان ، لياقوت الحموي : 1/69 .
(6) الهنكر : اسم يعرف به الشعب المجري القاطن في دولة المجر ، و المعروفة باسم هنكاريا حالياً .
(7) ياقوت الحموي مُعجم البلدان : 1 / 469 – 470 .
(8) ... أبو حامد الغرناطي ، هو : محمد بن عبد الرحيم بن سليمان ، المازني ، القيسي ، ولد سنة 473هـ/1081م ودخل الإسكندرية سنة 508 هـ / 1115 م ، و الشام سنة 556 هـ / 1161 م ، و رحل إلى خراسان و غيرها ، رأى عجائب في بلاد شتى ، و صنف في ذلك كتابا سماه : تحفة الألباب . قال المقري : ( كان حافظا عالما أديبا ) . و تكلم فيه الحافظ ابن عساكر و رماه بالكذب ، و قال ابن النجار : ( ما علمته إلا أمينا ) . مات سنة 565 هـ / 1170 م بحلب .
انظر ترجمته في : تاريخ دمشق 54 / 113 ـ 114 ، مختصر تاريخ ابن الدبيثي ، ص : 39 ، العبر للذهبي
4 / 199 ، نفح الطيب للمقري 2 / 712 .(/35)
يذكر بعض الباحثين أن عدداً من الدعاة المسلمين وصل إلى منطقة البلقان قبل تسعة قرون تقريباً ، و من هؤلاء الرحالة المسلم أبو حامد الغرناطي ( ت 565هـ/1169م ) حيث زار المجر و تولى مشيخة الإسلام فيها ، و كان له نشاط و جهدٌ عظيم بين أبنائها و قد توغل في تلك البلاد فوصل إلى ( بشغرديا ) (1) سنة 545هـ/1150م ، و زوّج ابنه من إحدى بنات أعيانها.
و تعتبر رسالة ابن فضلان المتقدِّمة الذكر ، و مقابلة ياقوت السالفة الذكر – على وجه الخصوص - وثيقتين واضحتي الدلالة على أنَّ الإسلام وصل إلى بلاد الصقالبة قبل الفتح العثماني بقرون طويلة و هذه الحقيقة بشواهدها التاريخية الثابتة ، و دلالتها الجلية على السبق الإسلامي في المنطقة تدفع دعاوى كتاب الغرب المتحاملين بما لا يسعهم ردُّه ، و ليس بمقدورهم أن يأتوا بمثله ، فإذا انكشف تلبيسهم ، و سقطت دعواهم التي مؤدَّاها أنَّ الإسلام قد انتشر في أوروبا بالسيف ، تقرر لزاماً أنَّ الإسلام قد انتشر بمبادئه لا بمعاوِله كما يُلبِّس الأعداء (2) .
فكيف وصلت هذه المبادئ إلى البلقان ، و كيف تلقَّاها الصقالبة و ارتضوها ؟
يذكر المؤرخون أنَّ الصقالبة القدماء احتكوا بالعرب و المسلمين المُشتغلين بالتجارة (3) و عمل بعضهم في بلاط السلاطين زمناً أتاح لهم الفرصة للتعرف على الإسلام و الوقوف عليه عن كثب ..
يقول الأستاذ رونسو : (( إن بعض المناطق اليوغسلافية عرفت الإسلام في وقت مبكر جداً ، و ذلك على إثر فتح المسلمين لجزيرة صقلية ، و بعض مناطق البحر المتوسط الأخرى ، فقد وصلوا إلى البحر الأدرياتيكي – المطل على
يوغسلافيا – و إذا أضفنا إلى ذلك مكوث عدد كبير من أهل هذه
المنطقة – يوغسلافيا – في بلاط الحكام الأندلسيين فإنه يمكن القول : إن جذور الإسلام قد زرعت مباشرة على يد العرب المسلمين ، و إن العديد من المناطق اليوغسلافية عرفت الإسلام منذ أكثر من اثني عشر قرناً )) (4) .
و قد يكون هؤلاء المسلمون الأوائل قد عملوا على بث الدعوة الإسلامية بجهودهم الذاتية ، و حببوا الإسلام إلى قلوب الناس بالحكمة و الموعظة الحسنة مكونين جماعات إسلامية على شكل واحات جميلة في شبه جزيرة البلقان سعدت بتعاليم الإسلام فذاع صيتها ، حتى زارها العلماء العرب المسلمون من مؤرخين و جغرافيين و اقتصاديين مما زاد من احتكاك مسلمي تلك الديار بالعرب و التمكين للإسلام في بلادهم (5) .
و لاريب في أن هذا الاحتكاك و التلاقي بين العرب و الصقالبة كانا مقترنين بالحركة التجارية تارةً ، و بالحملات الدعوية فرديةً و جماعيةً تارةً أخرى ، و رُبَّما أسهم في ذلك التقاء الطرفين في المعارك و الحروب سواءً كان لقاؤهم لقاء مواجهة أو لقاء مناصرة .
قال ياقوت : (( إنَّ تجار المسلمين كانوا يقصدون بلاد الصقالبة بأنواع
التجارات )) (6) و ربما كان من هذه الأنواع تجارة الرقيق و غيرها مما كان يربط دوبروفنيك (7) بالبلاد الإسلامية الواقعة على حوض البحر المتوسط .
و قد كان اسم الصقالبة يُطلق على الأسرى من الأمم السلافية في العصور الوسطى و كان معظمهم يؤتى بهم أطفالاً بواسطة أقطاب تجارة الرقيق من اليهود و يبيعونهم للعرب ، ليخدموا في بلاط الخُلفاء ، و من ثمَّ كانوا يعتنقون الإسلام ، و يتعلَّمون اللغة العربية (8) .
__________
(1) لعلها البلدة التي ينتسب إليها طلبة العلم الذين لقيهم ياقوت في حلب ، و ذكرهم في ( معجم البلدان ) كما تقدم .
(2) ... و تأكيداً لعدم قسر الناس على الدخول في الإسلام تحت الحكم العثماني انظر : بول كولز : العُثمانيَُون في أوروبا ، ص : 119 .
و قد أحسن الدكتور شوقي أبو خليل في تفنيد و دحض هذا الزعم في كتابه القيِّم : الإسلام في قفص الاتهام ، ص : 89-135 فليراجَع فإنَّه نفيس0
... و انظر : ما كتبه الدكتور جميل عبدالله محمد المصري حول هذا الموضوع في كتابه: دواعي الفتوح الإسلامية و دعاوي المستشرقين .
... و الدكتور : حسين مؤنس في : كتاب الإسلام الفاتح .
(3) ... انظر : أبو عبيد البكري : جغرافية الأندلُس و أوروبا ، ص : 161 .
(4) ... مجلًّة هُدى الإسلام ( ع : 4 ، ربيع الأوَّل 1403هـ ) ، ص : 60 .
(5) ... انظر : الهادي كودرة : المسلمون في يوغسلافيا ( ضمن مجلَّة الوعي الإسلامي ، ع : 6 ، جُمادى الآخر
1385هـ ) ، ص : 72 و ما بعدها 0
(6) ... ياقوت الحمويّ مُعجم البُلدان : 1 / 69 .
(7) ... دوبروفنيك : مدينة عريقة ، تمتعت بالاستقلال و السيادة لفترات طويلة ، و كانت تعرف باسم راجوسا
( Ragusa ) و هي اليوم ضمن حدود يوغسلافيا . الباحث .
(8) ... انظر : محمد عبد الله عنان : مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ، ص : 135 .(/36)
و ما دمنا قد ذكرنا الرقيق فمن المناسب أن نشير إلى سبب رئيسي في وجودهم هو الجهاد في سبيل الله الذي يعتبر المصدر الأوَّل بل الأوحد لحيازة الرقيق ابتداءً في الإسلام فقد اصطدم العرب بالصقالبة مراراً أثناء الحروب الإسلامية البيزنطية و نتج عن ذلك وقوع كثير من الصقالبة في الأسر ، و اتخاذ الرقيق منهم .
يقول الأستاذ أشرف المهداوي : (( في عهد الخلافة الراشدة قابل المسلمون جنود الصقالبة مكبَّلين بالسلاسل – على ما هو مبسوط في مواضعه من كتب التاريخ – فأسروا منهم الكثير ، ومن الأسرى من أسلم بعد ذلك وحرر وعاد إلى قومه .
و في أيام الدولة الأموية تأكدت الصلة بهروب مجموعة من مُقاتِلة الصقالبة ، و انضمامهم إلى قوات المسلمين ، التي كانت تخرج مرتين في السنة ، في الصيف و الشتاء … فيما يعرف بالصوائف و الشواتي بعد عام 43هـ/664م … و بعد ذلك - إبَّان اشتعال الحروب بين الأمويين و البيزنطيين – هربت مجموعة تقدر بعشرين ألف جندي من جيش جستنيان الثاني ، و انضمت إلى جيش المسلمين عام 73هـ/692م ، ثم رحل هؤلاء إلى الشام و اندمجوا مع العرب ديناً و جنساً و لغةً )) (1) .
و من الباحثين من يعزو نسب قبيلة ( الجبالية ) المقيمة في جبل موسى حول دير
( سانت كاترين ) بسيناء إلى الصقالبة ، و يقول إنهم قدموا بأمر القائد البيزنطي
( جستنيان ) مع أسرهم لحراسة الدير ، حتى إذا ما فتح المسلمون مصر ، أسلموا و عاشوا مع العرب ، و تعلموا لغتهم (2) ، فضلاً عمّن هرب منهم قبل ذلك ، حيث يذكر – كما تقدّم - أن عشرين ألف صقلبي فروا من جيش ( جستنيان ) ليلحقوا بصفوف المسلمين مؤازرين و مناصرين ، و لا شك أن أكثرهم قد أسلم بعد ذلك و أن منهم من استقر في الشام ، و منهم من خرج يجاهد في الطلعات الإسلاميّة ، و يرشد إلى مثالب البيزنطيين ، و ربما عاد من هؤلاء الصقالبة أقوام إلى مواطنهم في البلقان و آسيا الصغرى للتجارة ، أو الزيارة أو الدعوة إلى الإسلام في بلادهم الأصليًة ، و بلغات أقوامهم (3) .
بينما نال من بقي منهم الحظوة عند حكام المسلمين و القربى على بلاط السلاطين ، حيث كان جماعة كثيرة من الصقالبة يعملون في خدمة الخلفاء الأمويين بالأندلس (4) ، منهم الحاجب جعفر بن عثمان المُصْحَفِيّ الصقلبي(5) وزير المستنصر بالله(6) ، و غيره ، حتى كان الملوك يأخذون البيعة منهم أولاً ، و هؤلاء يأخذونها ممّن وراءهم .
أما في البلاط العبَّاسي فكفى للدلالة على حَظوة الصقالبة أن ( مُخَارق ) أمّ المستعين العباسي(7) كانت صقلبية (8) .
__________
(1) ... أشرف المهداوي : قصة البوسنة ، ص : 102 – 103 .
(2) ... انظر : مقال الأستاذ إبراهيم الفحام بعنوان : قبائل و عشائر عربية من أصول أوروبية ( مجلة العربي ، العدد 58 ، سنة 1383هـ ) ، ص : 42 .
(3) ... انظر : قصة البوسنة ، لأشرف المهداوي ، ص : 114 .
و : نزار سمك : البوسنة و الميراث الدامي ، ص : 20 ، 21 .
(4) ... يرى بعض المؤرِّخين أنَّ لَقب الصقالبة في الأندلس لم يكن مقصوراً على القوميَّة الصقلبيَّة المعروفة ، و لكنَّه يُطلق على عموم الأوروبيين المتواجدين في بلاط السلاطين و الجنود الأندلُسيين .
انظر : تعليق الدكتور عبد الرحمن الحجِّي على كتاب أبي عبيد البكري : جغرافية الأندلُس و أوروبا ، ص : 169 .
(5) جعفر بن عثمان : انظر ترجمته في : بغية الملتمس ص 257 ، الحلة السيراء 1 / 257 ، نفح الطيب
1 / 402 - 403 ، 2 / 196 ، جذوة المقتبس ، ص : 187 ـ 188 .
(6) ... المستنصر بالله ، هو : الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد ، الأموي ، الخليفة ، الأندلسي ، أبو العباس ، كان حسن السيرة ، جامعا للعلوم ، محبا لها ، مكرما لأهلها ، مواصلا لغزو الروم ، ولد سنة 302 هـ ، و مات سنة 366 هـ / 977 م .
انظر ترجمته في : جذوة المقتبس ، ص : 16 ، تاريخ علماء الأندلس ، ص : 7 .
(7) ... المستعين العباسي ، هو : الخليفة أحمد بن محمد بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد ، أبو العباس ، دعي ليبايع له بالخلافة ، فقال : أستعين الله و أفعل . فسمي المستعين . و ذلك سنة 248 هـ / 862 م ، و مات سنة 252 هـ / 866 م .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 5 / 84 ـ 86 ، المنتظم 12 / 6 ، تاريخ الخلفاء 1 / 358 .
(8) ... انظر : مروج الذهب للمسعودي : 4 / 60 . و النجوم الزاهرة 2 / 335 .(/37)
و بالنظر إلى هذه الشواهد ، إلى جانب الحملات الدعوية التي قام بها العرب المسلمون إلى البلقان كبعثة المقتدر و غيرها – تتضح لنا بجلاء حقيقة العلاقة بين العرب و الصقالبة ، التي أثرت و لا ريب في نشر الإسلام و إرساء دعائمه في المنطقة حيث البوسنة و الهرسك و ديار صقالبة الجنوب الأخرى ، و ما من شك في أنَّ التمكين للإسلام هناك قد أتاح السبيل أمام عدد لا بأس به من العرب التجار و الدعاة و غيرهم للاستقرار في المنطقة ، و الظهور فيها ، حتى إنهم بحسب ما يقرره مؤرخو الغرب قد حكموا بعض أقاليم البلقان حكماً مباشراً ، بما في ذلك بعض مناطق الهرسك و الجبل الأسود قبل عشرة قرون من الزمن على الأقل (1) .
و قبل أن أختم الحديث عن إسلام الصقالبة ، أودُّ أن أؤكِّد حقيقتين تاريخيتين هما :
الأوَّلى : أن إسلام الصقالبة الأوائل ( قبل الفتح الإسلامي لبلادهم ) لم يتجاوز الحدود الشخصية و الفردية ، حتى و إن كان بين أوائل الصقالبة المسلمين وجهاء ونبلاء وملوك ، كملك البلغار و بعض خاصته و حاشيته ، فإنه من غير المتصور أن يكون هؤلاء قد حولوا بلادهم إلى بلاد إسلامية أو تكون ديارهم ديار إسلام بالمعنى الشرعي لدار الإسلام (2) ، ذلك لأن اسم المملكة في القرون الوسطى كان يطلق تجاوزاً على أية مجموعة بشرية مستقلة و إن قلّ أفرادها أو انزوت في رقعة ضيقة من الأرض .
والثانية : أن مسلمي الصقالبة الأوائل اندثرت معالمهم و تلاشت آثارهم قبل وصول طلائع الفتح الإسلامي إلى بلادهم ، و هذا ما تؤكده الوثائق التاريخية ، حيث لم يبق في البلقان و جود يذكر للمسلمين عند وصول العثمانيين إلى البلقان ، ممَّا يجعل انتشار الإسلام في المنطقة يبدأ بعد الفتح من درجة الصفر تقريباً ، ثمّ ينطلقُ بقوَّة فلا يلبثُ أن ينتشر في كُلِّ مكان و يبلغ الصدارة في عدد أتباعه بين سكان البوسنة على وجه الخصوص .
المقصد الثاني : إسلام البشَانِقة بعد الفتح العثماني للبوسنة :
ثمة حقيقة أثبتها مؤرخو الغرب و الشرق جميعاً ، هي أن الإسلام انتشر في البوسنة انتشاراً واسعاً في ظل الحكم العثماني للمنطقة ، و لا يعني انتشاره الواسع النطاق أنه كان بشكل جماعي في فترة زمنية وجيزة كما يُردِّدُ بعض الكتَّاب
الغربيين (3) - مما قد يوحي بأنه تم قسراً و قهراً - بل على العكس من ذلك (( لم يكن العثمانيُّون يُشجِّعون أيَّ خِطَّة أو برنامج لتحويل الشعوب النصرانيَّة تحوُّلاً جماعيَّاً إلى الإسلام )) (4) فقد استمر المد الإسلامي في البوسنة قرنين من الزمن على الأقل ، حتى بدت ملامحه جليةً و ظهر أتباعه بوضوح كتجمع كبير إلى حدٍ ما .
و إذا أردنا الوقوف على حقيقة إقبال الناس على الإسلام أيام الحكم العثماني للبوسنة فإن أوثق مصدر يمكننا الرجوع إليه هو الوثائق المحفوظة في السجلات ( الدفاتر ) (5) العثمانية المتعلقة بالمنطقة ، و التي تحوي إحصاءات دقيقة ، و تفاصيل وافية حول أعداد السكان بحسب انتمائهم الديني في ظل الخلافة .
و نظراً إلى أنّ هذه السجلات تعد المرجع الأكثر دقّةً ، و تعطي الصورة التقريبيَّة (6) الأكثر وضوحاً لانتشار الإسلام المتدرج في البوسنة فقد عكف عدد من العلماء المعاصرين على دراستها و تحليلها ، و من مجموع تلك الدراسات يمكن أن نخلص إلى نتائج من أبرزها :
أن النصارى الكاثوليك كانوا أكثر من غيرهم إقبالاً على دخول الإسلام .
أن انتشار الإسلام في مدن البوسنة و الهرسك كان أوسع و أسرع من انتشاره في المناطق الريفية .
__________
(1) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 40 .
(2) لدار الإسلام تعريفات متقاربة عند الفقهاء ، فهي عند ابن القيم : الدار التي نزلها المسلمون و جرت عليها أحكام الإسلام 0
انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم ، بتحقيق الدكتور صبحي الصالح : 1/ 277 .
... و : الدكتور محمد رواس قلعجي : معجم لغة الفقهاء ، ص :182 .
... و قال التهانوي في كشَّافه : دار الإسلام عند الفقهاء ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من البلاد كما في الكافي و في الزاهدي : ما غلب فيه المسلمون و كانوا فيه آمنين 0
انظر : : محمد علي التهانوي : موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون ، بتحقيق الدكتور على دحروج ، و ترجمة الدكتور عبد الله الخالدي ، ص : 779 .
(3) ... انظر : بول كولز : العُثمانيَُون في أوروبا ، ص : 59 .
(4) ... المرجعُ السابِق ، ص : 72 .
(5) ... حول هذه الدفاتر انظر : الدكتور مُحمَّد قاروط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 163 و ما بعدها .
(6) ... إنَّ ما يمكن أخذه من إحصاءات هذه الدفاتر تقريبي ، لأنَّ الدفاتر تحصي عدد الأُسر و ليس الأفراد ، و لا شك أنَّ عدد أفراد الأُسر متفاوتٌ إلى حدِّ بعيد ، و ربما كان السبب في تركيز العُثمانيَُين على عدد الأسر هو أنَّ الهدف من تدوين تلك الدفاتر كان تسهيل استيفاء الجزية من الذِمِّيين و قد كانت الجزية تُضرب على الأسر لا على الأفراد 0
( الباحث ) 0(/38)
أن أعداد المسلمين في البوسنة في الغالب ظلّت تتراوح بين خمسٍ و عشرين ، و خمس و أربعين بالمائة من مجموع السكان منذ قيام كيانهم إلى يومنا هذا باستثناء السنوات الأوَّلى من الحكم العثماني للبوسنة حيث بدأ انتشار الإسلام بطيئاً و متعثراً في أول الأمر .
و فيما يلي خلاصة لبعض تلك الدفاتر من دلائل و إحصاءات ذات صلة بالانتشار التدريجي للإسلام في البوسنة .
الدفتر الأوَّل : هو أقدم الدفاتر المحفوظة حيث يعود تاريخه إلى ما بين عامي 872 و 873 هـ / 1468 و 1469 م ، و يُغَطِّي وسط البوسنة و شرقها ، و يظهر من خلاله أن انتشار الإسلام كان محدوداً في السنوات الأوَّلى من الفتح حيث كان للنصارى سبعٌ و ثلاثون ألفاً و سبعمئة و خمس و عشرون داراً ( أي
أسرة ) و تِسعة آلاف عازبٍ و أرمل بينما بلغ عدد دور المسلمين ثِنتين و ثلاثين و ثلاثمئة دار فقط ، أي أن عدد المسلمين لم يكن قد بلغ العشرة من الألف على الرغم من مرور سبعة أعوامٍ تقريباً على الفتح (1) .
الدفتر الثاني : يرجع تاريخه إلى عام 889هـ/1485م و يغطي منطقة البوسنة كامِلةً ، موضحاً ارتفاع نسبة المسلمين فيها إلى 12 بالمئة تقريباً حيث بلغ عدد دورهم (أسرهم ) واحداً و أربعين ألفاً و أربعةً و ثلاثين داراً ، إضافةً إلى ألفٍ و أربعمئة و ستين فرداً ( بين عازب و أرمل ) ، بينما انخفض عدد دور النصارى إلى ثلاثين ألفاً و ثلاثمئة و اثنتين و خمسين داراً ، و عدد أفرادهم إلى أربعةِ آلاف و مئتين و اثنين و تسعين فرداً (2) .
الدفتر الثالث : يرجع تاريخه إلى عام 894هـ/1489م أي بعد سابقه بأربع سنوات فقط ، و بحسب ما فيه تبلغ نسبة المسلمين (15.5 بالمئة ) بالنظر إلى عدد الدور ، وضِعفَ هذه النسبة بالنظر إلى عدد العازبين و الأرامل !! حيث كان للمسلمين أربعة آلاف و خمسمئة و خمسٌ و ثمانون داراً ، و عشرون ألفاً و ثلاثمئة و ثمانية و عشرون فرداً ، بينما بلغ عدد دور النصارى عشرين ألفاً و خمسمئة و تسعين داراً ، و خمسة آلافٍ و ثلاثمئة و ثمانية و خمسين فرداً ( بين عازب و أرمل ) (3) .
الدفتر الرابع : يشمل إحصاءاً تم تقييده عام 934هـ/1528م - أي بعد ستةٍ و ستين عاماً من الفتح – و جاء فيه أن عدد دور المسلمين تضاعف أربع مرات تقريباً عمَّا كان عليه عام 894هـ/1489م ليبلغ ستَّة عشر ألفاً و تسعمئة و خمساً و ثلاثين داراً مما يشير إلى ازدياد انتشار الإسلام مع ظهور الجيل الثاني من أجيال البوسنة الإسلامية (4) .
و هكذا نجد أن انتشار الإسلام في البوسنة كان تدريجياً ، بل بطيئاً نوعاً ما بالمقارنة مع سرعة انتشاره في مناطق أخرى فتحها المسلمون كالشام و العراق و المغرب و الأندلس و هذه حقيقة غفل عنها كثير من الباحثين و أعرض عنها آخرون ليسوغوا زعمهم بأن الإسلام انتشر قسراً بقوة السيف مما أدى إلى تحول البشَانِقة بشكل جماعي و فجائي من النصرانية إلى الإسلام بحسب زعمهم .
و يظهر من استقراء الدفاتر العثمانية ، و تاريخ الفتوح الإسلامية في البوسنة أن سرعة انتشار الإسلام فيها كانت متأثرة بشكل مباشر بحركة الفتح (( و بما أن هذه الفتوحات كانت تحدث بالتدريج و على مراحل فإن انتشار الإسلام كان يحدث على مراحل أيضاً )) (5) .
أضف إلى ذلك بعض العوامل الأخرى التي أثرت بدرجات متفاوتة في سرعة انتشار الإسلام ، و من أهمها :
التنوع الديني في البوسنة : حيث كان انتشار الإسلام بطيئاً في المناطق التي تنتشر فيها الخلافات الدينية ، بينما كان أسرع انتشاراً فيما عداها .
القرب و البعد من المراكز الإدارية و العسكرية للمسلمين العثمانيين .
انتشار المؤسسات الإسلامية و ازدياد عدد العلماء و الدعاة المسلمين .
إلى غير ذلك من العوامل ذات الأثر المباشر و غير المباشر في سرعة انتشار
الإسلام (6) .
و لاشك في أن هذه العوامل قد تفاعلت مع شغف البشَانِقة الذي دفع بهم نحو الإسلام بعد أن رأوا فيه ضالتهم المنشودة ، فأقبلوا عليه زرا فات و وحداناً تحدوهم في ذلك جملة من البواعث الذاتية و الأسباب الموضوعية و منها :
أوَّلاً : ملائمة الإسلام بعقائده و شرائعه الفطرة البشرية ، و الاقتناع الشخصي به كسبيل صلاح و إصلاح (( نتيجة للتفاعل العميق و الطويل الذي جرى بين المسلمين و النصارى في البلقان ، لاسيما أن النموذج العثماني في العصر الأوَّل كان يتمتع بخصائص و مواصفات كانت في غاية الروعة و القوة و المجد ، و كانت عامل جذب لعشرات الآلاف من نصارى البلقان و عموم أوروبا للتحول إلى الإسلام )) (7) .
__________
(1) انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 87 .
(2) ... انظر : المرجعُ السابِق ، ص : 88 .
(3) ... نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 119 .
(4) ... المرجعُ السابِق ، ص : 120 .
(5) ... المرجعُ السابِق ، ص : 118 .
(6) ... انظر : المرجعُ السابِق ، ص : 118 – 119 .
(7) ... مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 95.(/39)
ثانياً : انتشار عقيدة البُوغُومِيل بين نصارى البوسنة ، من خلال ما يسمى ( الكنيسة البوسنوية ) و قد مهد وجود هذه الكنيسة لانتشار الإسلام من جوانب عدة أبرزها (1) :
وجود بعض التشابه – على الرغم من كونه ضعيفاً و محدوداً – بين تعاليم البُوغُومِيل و المبادئ الإسلامية ، مثل :
البعد عن بعض مظاهر الوثنيَّة كالتعلق بالنُصُب و القبور و غيرها ، و هذا يُوافق ما جاء عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن اتخاذ القبور مساجد (2) .
البعد عن تزيين المعابد و الاهتمام الزائد بها (3) .
أداء الصلوات و سائر العبادات في أيِّ مكان ، و عدم اشتراط أدائها في الكنائس ، و هذا يوافق قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( و جُعِلت ليَ الأرض مسجداً و طهوراً )) (4) .
إباحة الطلاق و حَلِّ العلاقة الزوجية خلافاً لما عليه المذاهب النصرانيَّة الأخرى (5) .
إهمال رجال الدين البُوغُومِيل شؤون رعاياهم و ضعف الروابط الدينية فيما
بينهم .
حداثة تعاليم الكنيسة البوسنوية وعدم رسوخها في بلاد و نفوس أتباعها عند وصول الإسلام .
فلا غرو إذن أن ينتشر الإسلام على أنقاض الكنيسة البوسنوية التي تلاشت من الوجود في أعقاب الفتح .
ثالثاً : تطلع البشَانِقة إلى التحرر الذي كفله الإسلام لأتباعه بعد طول عناء و شدة ما لاقوه من صُنوف الاضطهاد و الاستعباد ، سواءً كان استعباداً مادِّياً أم دينياً ، و هو ما دفع بجُموعٍ غفيرة منهم إلى طلب حماية الفاتحين الجدد لإنقاذهم من سطوة الإقطاع ، و سلطة الكنيسة على حدٍّ سواء (6) ، حيث وجد البشانقة في قدوم الفاتحين المسلمين قُوَّةً تحميهم من الاضطهاد ، و تنهي عصور الطغيان و القهر الواقع عليهم و تمنحهم فُرصاً حقيقيَّة للتحرُّر و الإحساس بالعدل و الكرامة (7)
__________
(1) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 141 .
(2) ... وردت فيه أحاديث صحاح ، منها :
... ما أخرجه البخاري (1330 ) في الجنائز ، باب : ما يكر ه من اتخاذ المساجد على القبور ، و ( 1341 ) باب : بناء المسجد على القبور . =
= ... وانظر باقي أطرافه في : 1390 و 4441 ، 3453 و 443 و 25815 ، وأخرجه مسلم (529) في المساجد ، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ، من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
(( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) قالت عائشة رضي الله عنها : يحذر من ذلك .
(3) جاءت شريعة الإسلام بذلك ، فلقد كان المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنياً باللبن ، و سقفه الجريد ، و عمده خشب النخل . أخرجه البخاري 1/449 في المساجد ، باب : بنيان المسجد .
و جاءت نصوص بكراهة تزيين المساجد ، و اعتبار ذلك من أشراط الساعة . منها ما أخرجه أبو داود (448) في الصلاة ، باب : في بناء المسجد : بإسناد صحيح ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أمرت بتشيد المساجد )) . قال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود و النصارى .
و معنى قول ابن عباس : إن اليهود و النصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا و بدلوا أمر دينهم ، و أنتم تصيرون إلى مثل حالهم ، و سيصير أمركم إلى المراءات بالمساجد و المباهاة بتشييدها وتزيينها .
انظر : شرح السنة للبغوي : 2/350.
وأخرج أبو داود (449) أيضاً ، وابن ماجه (739) بإسناد صحيح ، عن أنس بن مالك ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )) .
(4) ... أخرجه البخاري (335) في التيمم ، باب : التيمم ، و (438) في الصلاة ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً . و (3122) في الجهاد ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحلت لي الغنائم . و مسلم (521) في المساجد في فاتحته ، والنسائي 1/109-211 في الغسل ، باب : التيمم بالصعيد ، و أحمد 3/403 وغيرهم ؛ من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .
و أخرجه مسلم (523) في أول كتاب المساجد ، و الترمذي 4/123 في السير ، باب : ما جاء في الغنيمة ، و ابن ماجة (567) في الطهارة ، باب : ما جاء في السبي . من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(5) إباحة الطلاق في شريعة الإسلام من الأمور القطعية ، التي جاء بها الكتاب الكريم ، و السنة التواترة ، و انعقد عليها إجماع المسلمين بمختلف مذاهبهم .
(6) ... مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 688 .
(7) ... للاستزادة حول هذه النقطة انظر : الهادي كودرة المسلمون في يوغسلافيا ( ضمن مجلَّة الوعي الإسلامي ، ع : 6 ، جُمادى الآخرة 1385هـ ) ، ص : 75 - 76 .
و نياز شكرتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 135 .
و الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 15 .
و دائرة المعارف الإسلاميَّة : 8 / 358 – 381 .
و مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 440 .
و الدكتور مُحمَّد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا ، ص : 158-159 .(/40)
، مِمَّا يُذكِّر بمقولة أحد سُكَّان القسطنطينيَّة الذين عاصروا الفتح الإسلامي لها : (( إنَّه لخيرٌ لنا أن نرى العمامة التركيَّة في بلادنا من أن نرى فيها تاج البابويَّة )) (1) .
رابعاً : العلاقات الاجتماعية بين البشانقة و المسلمين الأتراك ، و بخاصةٍ علاقة المصاهرة ، حيثُ كثُرت حالات زواج المسلمين من فتياتٍ نصرانيَّات ، كما جاء في كتاب القس بوسيدرسكي الذي بعث به إلى البابا سنة 926هـ/1520م و من الطبيعي أن تُسلم الفتيات المتزوّجات من مسلمين ثمَّ تؤثرن على بنات جنسهن و تدعوهنّ للزواج من المسلمين ، الأمر الذي نتج عنه ظهور أسلوبٍ جديدٍ في الدعوة إلى الإسلام بين أفراد الأسرة الواحدة ، و تكوين روابط جديدة من المودة و الرحمة إلى جانب الإيمان و الدعوة (2) .
خامساً :الحوافز المادِّية التي يحظى بها المسلمون ، بدءاً من وضع الجزية عنهم و انتهاءً بتأهُّلهم لتولي المناصب العُليا في دولة الخلافة ، علاوةً على رغبة عددٍ من أصحاب الثروات في حماية أملاكهم و ثرواتهم ، حيث (( كلُّ المسلم على المسلم حرام : دمه و ماله و عرضه )) (3) ، كما مهَّد الانتماء إلى الإسلام طريق التحرر و الانعتاق أمام الرقيق و الأسرى ، ممَّا يجعل لهذا الحافز أثراً كبيراً في إقبال البشانقة على الإسلام (4) .
قُلتُ : و قد دأب مُعظم الباحثين الغربيِّين ، و كثيرون غيرهم على التركيز على الدافع المادِّي و اعتباره السبب الرئيس - و رُبَّما الوحيد - لانتشار الإسلام في البوسنة .
يقول بول كولز : ( كان التحوُّل إلى الإسلام مرتبطاً بالرغبة في تحقيق وضعيَّة اجتماعيَّة أو مزايا اقتصاديَّة … و كانت تلك هي الدوافع الحقيقيَّة التي تؤتي أُكُلها أكثر من أيِّ دعوات مخلصة للتحول إلى الإسلام كان يقوم عليها العُثمانيَون ) (5) .
و جاء في دائرة المعارف الإسلاميَّة ما نصه : ( اعتنقت الطبقات الغنيَّة المثقفة من السكان و أغلب ملاَّك الأراضي الإسلام و أظهروا غيرةً عظيمةً على الدين الإسلامي ، و خاصَّةً لأنَّه حافظ على موروث حقوقهم ) (6) .
و اعتمدت الكنيسة الكاثوليكيَّة هذا الرأي ، و أكَّدته حتَّى شاع على ألسنة قساوستها ، و منهم أسْتَيفَان بوسَدُرسكي ، الذي بعث إلى البابا سنة 926هـ/1520م برسالةٍ يقول فيها : (( إنَّ العثمانيِّين خلال خمسين سنةً قد نجحوا في جذب سُكان هذه المنطقة ، حتَّى إنَّ كثيرين منهم يتركون دينهم و يدخلون الإسلام . إنَّهم يعيِّنون في الحصون المفتوحة القُواد الذين يجذبون السكان النصارى إلى جانبهم )) (7) .
و هذه بلا ريب مزاعم واهية تنقُضها الحقائق التاريخيَّة الماثلة للعيان ، و منها أنَّ حُكم الأتراك لم يكُن مُقتصراً على البوسنة ، و لكنَّه شمل بلداناً كثيرةً في منطقة البلقان و غيرها ، و لا شك في أنَّ العثمانيِّين قد حكموا بلاداً مجاورة للبوسنة مثل بلغاريا ، و كرواتيا و الجبل الأسود و صربيا ، و على الرغم من وحدة الحكم عقيدةً و منهجاً ، و احتمال كون المصلحة المزعومة قائمةً على قدم المُساواة ، نجدُ إقبال البشانقة على الإسلام يفوق إقبال الآخرين بمئات المرَّات .
{ فماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] . ...
و في نهاية هذا المطلب تحسن الإشارة إلى أنَّ وراء ارتفاع نسبة السكان المسلمين سببٌ بالغ الأهميَّة و هو نزوح الصقالبة المسلمين إلى البوسنة من البلاد المجاورة مثل صربيا و بُلغاريا و مقدونيا فراراً من الفتك الذي حاق بهم في فترات متعددة ، و قد حدثَ أعظم نزوح إلى البوسنة عند تقهقر العثمانيين و انحسار حُكمهم عن البلقان ، حيث كان المسلمون يلوذون بالمناطق المتبقية تحت الحكم العثماني ، ممَّا أضاف أعداداً كبيرةً من الصقالبة المسلمين إلى البوسنة (8) .
المطلب الرابع : عقيدة البوتور ( الدين المختلط ) في البوسنة :
__________
(1) ... مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 97 هامش : 6 .
(2) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 135 .
(3) ... أخرجه مسلم (2564) في البر والصلة ، باب : تحريم ظلم المسلم و خذله و احتقاره و دمه و عرضه و ماله ، و أبو داود (4882) في الأدب ، باب : في الغيبة ، و الترمذي (1927) في البر والصلة ، باب : ما جاء في شفقة المسلم على المسلم ، و ابن ماجة (3933) في الفتن ، باب : حرمة دم المؤمن وماله ، و أحمد 2/277 و0 36 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(4) ... انظر : مُحمَّد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 94 .
... و بول كولز : العُثمانيَُون في أوروبا ، ص : 118 .
و الدكتور جمال الدين سيِّد مُحمَّد : البوسنة ، ص : 15 .
و نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 103 .
(5) بول كولز : العثمانيُّون في أوروبا ، ص : 118 - 119
(6) دائرة المعارف الإسلاميَّة : 8/354
(7) ... نياز شُكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 133 .
(8) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 105 .(/41)
كثيراً ما يتهكم أعداء البوشناق بهم فينبذونهم بلقب بوتور ، أو بوتوريتسا (1) و هذا اللقب ليس وليد العصر الحاضر ، و لكنَّه يرمز إلى ديانة غريبة ظهرت في البوسنة قبل مئات السنين ، و كانت إحدى الظواهر التي واكبت انتشار الإسلام في أيَّامه
الأولى .
فما هو الدين المُختلط ؟ و ما هي عقيدة أتباعه البوتوريون ؟
إن ممَّا أُخذ على العثمانيين عموماً توسعهم في الفتوحات الإسلامية ، و القيام بلازم هذا الأمر من تحصين الثغور ، و حماية الديار و الذود عن بيضة الإسلام و أهله ، الأمر الذي استنفذ جُلَّ طاقاتهم و إمكاناتهم و نجم عنه قصور في الجوانب الأخرى مثل التعليم و الدعوة ، و تبصير المسلمين الجدد بأمور دينهم ، حتى انتشر الجهل ، و تفشَّت الأمية في مناطق كثيرة ، و خاصَّة تلك الواقعة على أطراف السلطنة المترامية .
و كأثر طبيعيٍّ لقلَّة العلم ، و تفشِّي الجهل ، ضعُف الوازع الديني في النفوس و انتشرت البدع و الخرافات ، و ذاعت الضلالات و الأساطير ، و تعدَّدت مظاهرها و آثارها .
و قد عرفت البوسنة ظاهرة غريبة من ظواهر ضعف الوازع الديني نتج عنها ظهور ديانة جديدة ، وُصفت بأنها ( الدين المختلط ) و أطلق على أتباعها اسم ( بوتوريُّون ) و ( بوتور ) و ( بولوتورك ) .
و من الصعب جداً تحديد معنى ( البوتور ) بدقة ، و هو اصطلاح يرد بكثرة في الكتابات العثمانية منذ عام 945هـ/1539م و يُطلق على البشانقة المسلمين خاصة و لا يحتمل أيَّ معنى آخر (2) .
و يتنازع أهل اللغة البوسنوية في معناه ، فيذهب بعضهم إلى أنَّه اختصار للكلمة التركية ( بوتورك ) أو ( بولوتورك ) و كلٌ منهما تعني نصف تركي (( أو نصف مسلم لأنَّ المسلمين كانوا يُسمَّون أتراكاً على ألسنة خصومهم خلال فترة القرون الوسطى )) (3) .
بينما يرى آخرون أن كلمة ( بوتور ) لها علاقة بعبارة ( بوتور جيتي سَه ) التي تعني في اللغة البوسنويَّة : أَسْلَمَ ، أو دَخل في الإسلام (4) ، و الحاصل (( أن هؤلاء كانو مُسلمين ضعيفي الإيمان ، مما جعلهم يُسمون بوتور ، أي أنصاف مسلمين )) (5) .
و بغضِّ النظر عن الأصل أو الجذر اللغوي للكلمة ، فإنَّها تطلق على
البشانقة - عموماً و القرويين منهم خاصَّة - الذين أسلموا ، و ظلُّوا بعد إسلامهم محتفظين ببعض الممارسات و العقائد النصرانية (6) ، و تلك التي ورثوها عن أجدادهم البوغوميل (7) و غيرهم .
و إذا تأمَّلنا عقائد البوتور و شعائرهم التعبُّديَّة ظهر لنا بجلاء أنهم كانوا يعيشون في ازدواجيَّة دينية ، و يدينون ديناً مختلطاً لا يختلف كثيراً عن النصرانيَّة المحرَّفة ، و لا يتفق تماماً مع عقيدة التوحيد السمحة ، و لمزيد بيان هذه المسألة أسوق بعض النماذج التي توضحها :
كان بعض المسلمين و النصارى في البوسنة يشتركون في اتخاذ الحروز و الحُجُب ( التمائم ) التي كان كثيرٌ من المسلمين يلجؤون إلى مباركتها من القسس ، و يُعلِّقونها على ملابس أطفالهم و طرابيشهم (8) ، كما أن بعض النصارى كانوا يستدعون الدراويش ( من جهلة المتصوِّفة ) المسلمين لقراءة القرآن على مرضاهم التماساً للشفاء و البرء من الأمراض (9) .
كان كثير من البوتور يقصدون الكنائس النصرانيَّة للدعاء و التبرك ، و تلاوة القداسات و التوسل بالعذراء ، و قد ذكر شيئاً من ذلك حارس دير أولوفو في كتابٍ له يرجع إلى عام 1004هـ/1596م ، و أكّد فيه أنَّ كنيسته كانت تحظى بالتبجيل و التقدير عند المسلمين بسبب كثرة المعجزات الباهرة (كذا) التي كانت تجري عندها بسبب شفاعة العذراء المقدَّسة (بحسب زعمه)(10).
__________
(1) ... الدكتور فهد السماري : المسلمون في البوسنة ، ص : 19 .
(2) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 96 .
(3) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 95 .
و : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 151 حاشية 52 .
(4) ... نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 151 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 151 ، حاشية 52 .
(6) ... نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 95 .
(7) ... نظراً لوجود بعض التشابه بين كلمة ( بوتور ) و كلمة ( باتارين ) التي تُطلق على البوغوميل ، ذهب بعض الكتَّاب إلى اعتبار البوتور امتداداً طبيعيَّاً للبوغوميل ( الباحث )0
(8) ... انظر : Bordeaux, A; La Bosnie populaire : paysages, moeurs et coutumes, l?gendes, chants populaires,mines ( Paris, 1904g ) p: 52
... و : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 143 .
(9) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 95 .
(10) ... انظر : نويل مالكوم : البوسنة ، ص : 25 .(/42)
و لا شك في أنَّ هذه الأخبار و ما شابهها يعوزها الضبط و التوثيق ، لأنَّها لا تعدو أن تكون روايات قُصَّاص ، و مذكرات رحَّالة ، ممَّا يجعلنا نعدل عنها إلى دليل مادِّيٍ محسوس ، لا تزال آثاره قائمة إلى يومنا هذا ، هو النقوش الباقية على قبور البوتور ، حيث إنَّ عدداً من القبور المكتشفة في مَنطقَتَيْ كنزينة ، و دوبرون الواقعتين شرقيَّ البوسنة نُقِشت عليها رموز تشير إلى الإسلام كالهلال و النجمة الثمانيَّة و غيرهما ، و نُقِشَت إلى جانبها رموز أخرى من قبيل صور الناس و الحيوانات و الصلبان (1) .
و كانت المقابر الأولى للمسلمين ، تقع بجوار مقابر النصارى ، الأمر الذي استدلَّ به بعض الكُتَّاب على أن أصحابها كانوا يُحبِّذون أن يكونوا قُربَ أقربائهم النصارى أحياءاً و أمواتاً (2) .
و قد تجسَّدت صورة الدين المُختلط في طريقة لبست لبوس الصوفيَّة ، و دعت إلى تهذيب النفوس و الرقيِّ بها إلى أن ظهرت على حقيقتها و بدت للعيان طريقةً ضالةً تجمع بين عقائد شتى في محاولةٍ للجمع بين المتناقضات .
تلك هي الطريقة القاضيزادية ، التي كان أتباعُها ((يخلطون خلطاً عجيباً بين
النصرانيَّة و الإسلام … و يقرؤون الإنجيل باللغة السلافية … كما يدرسون باهتمام القرآن باللغة العربيَّة … و في شهر الصوم يشربون النبيذ … و يُسمونه خردالي
زاعمين أنه حلال … كما يحسنون و يعطفون على النصارى … و مع ذلك فهم يعتقدون أنَّ محمَّد هو روح القدس الذي بشَّر به المسيح …كما يُفسِّرون
كلمة فارقليط (3) بأنها تعني نبيَّهم ))(4) .
و على الرغم من أن القاضيزادية انتهت تماماً ، و تلاشت من الوجود في البوسنة منذ بداية القرن الحادي عشر للهجرة / السابع عشر للميلاد فإنها قد تركت أثراً سلبيَّاً على انتشار الإسلام في البوسنة ، لأنَّها أساءت فهمه و شوَّهت تعاليمه ، بل ساعدت على بث الزندقة و إثراء الجهالة بين المسلمين الجدد .
و قد تمثَّل أثرها السلبي على انتشار الإسلام في :
أولاً : استقطاب النصارى المتعطِّشين إلى الحنيفية و قطع الطريق عليهم دون الإسلام بعرض مبادئ مختلطة يُمكن أن تُغرِّر بهم ، حيث توهمهم بأنَّهم قد بلغوا ما أرادوا دون التخلِّي عن كثيرٍ من عقائدهم الفاسدة .
ثانياً : إشغال الدعاة و العلماء بالتصدِّي لها و لأتباعها ، و كشف زيفها و ضلالها ، و إهدار جهودهم و طاقاتهم في هذا السبيل بدلاً من صرفها في بيان الحق للناس و الدعوة إليه (5) .
__________
(1) ... نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 142 .
(2) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 191 .
(3) ... الفارقليط : لفظٌ من ألفاظ الحَمد ، إمَّا أحمد ، أو محمد ، أو محمود ، أو نحو ذلك .
انظر : هداية الحيارى إلى أجوبة اليهود و النصارى ، لابن القيِّم ، ص :366 و ما بعدها 0
و هناك كلمة مُقاربةٌ لها بالإنجليزيَّة هي : Paracletus و معناها : المعزي ، أو روح القدس .
انظر : منير البعلبكي : قاموس المورد ص : 656 .
... و يرد هذا اللفظ في الأناجيل المتداولة اليوم في البشارة ببعثة نبي آخر الزمان ، كالقول المنسوب إلى المسيح عليه السلام في الإصحاح الرابع عشر ، من إنجيل يوحنَّا ( طبعة المَوْصِل 1876م ) : (( و أنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد ) ، و يرى علماء مقارنة الأديان أن في هذا إشارة إلى بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و قد كانت البشارة ببعثته الشريفة مثبتتة في نصوص الأسفار المقدَّسة قبل أن يحرِّفها المترجمون . فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رأى بنفسه في نُسَخ الزبور ما فيه تصريحٌ بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - باسمه .
انظر : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لابن تيمية : 2/27 .
(4) Rycaut, P : The Present State of the Ottoman Empire ( London, 1668g ) :
2 / 129 – 130
(5) ... انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة ، ص : 143 .(/43)
و مما يندى له الجبين ، أنَّ احتكاك المسلمين في البلقان بجيرانهم النصارى و المُلحدين قد أبعد المسلمين عن دينهم ، و أعادهم إلى بعض مظاهر الدين المختلط التي عمَّت و طمَّت في بعض مناطق البلقان ، و منها البوسنة ، و إن كانت أكثر ظهوراً في قرى المسلمين الواقعة جنوبيَّ ألبانيا بمحاذاة مناطق الصرب و اليونانيين الأرثوذكس ، حيث ضعُف الوازع الديني في نفوس المنتسبين للإسلام ، و تدنَّى إلى الحضيض ، حتى أصبح عامَّتهم (( يعتقدون أن المسلم هو الذي يذهب مرة أو مرتين في السنة إلى مكان مقدس مثل القبر أو الكنيسة أو المسجد ، فيضع فيه نقوداً و يُشعل شمعةً ، و يعود القهقرى حتى لا يستدبر الشمعة ، و هناك يطلبون من الرب أو من صاحب القبر أن يوفقهم في هذه الدنيا ، أما الآخرة فلم يسمعوا عنها أبداً )) (1) ، و بالإضافة إلى ذلك نجد (( أكثر مسلمي القرى يُحبون الإسلام ، لكنهم يعتقدون أن عيسى عليه السلام ابن الله ، و يظنون أن الإسلام يدعوا إلى ذلك أيضاً )) (2) .
فأيُّ توحيدٍ هذا الذي كانوا يدينون به ؟؟
الخاتمة
لا شك في أن البوسنة و الهرسك بصفتها إحدى ديار الإسلام على الرغم من كونها حديثة الظهور على خارطة العالم ، و قد تزامن ظهورها و علم جلّ المسلمين بها مع العلم بمعاناة أهلها التي استمرّت أربع سنواتٍ عجافٍ أتت على الأخضر و اليابس جديرة باهتمام المسلمين بها و إن نأت ديارهم عنها .
و حيث إن من مظاهر الاهتمام المنشود بهذا البلد المغلوب على أمره التعريف به و تسليط الضوء على ما ينبغي لمن يعنيه أمره أن يقف عليه من تاريخ و أخبار و أحوال فقد جاءت هذه الدراسة لبنة في جدار المعرفة أرجوا أن تكون وافية بالغرض المطلوب و لو بمقدار .
و حيث إن المقام مقام ختام فمن المناسب أن أشير فيه إلى ما انتهيت إليه في دراستي هذه من نتائج لا أرى للباحث و المهتم بشؤون الأقلّيات المسلمة في العالم ، و خاصّة منطقة البلقان غنى عن الوقوف عليها ، و هي على وجه الإيجاز :
أن البوسنة و الهرسك بلد أوروبي أكبر نسبة من أهله مسلمون .
أنّ سكّانها الأصليّين كانوا من الإيليريِّين ، و قد استوطنها الصقالبة قبل ألفي عامٍ تقريباً ، و من نسل الصقالبة جاء البوشناق .
عرض تاريخ البوسنة الحافل بالأحداث و الحروب منذ فجر التاريخ و حتى الاستقلال الذي لم يمض عليه عقد من الزمان بعد ، مع التركيز على وجوه المعاناة التي تعرّض لها أهل البوسنة عبر التاريخ.
أنَّ سكّان البوسنة كانوا يدينون بالوثنيّة ، و يتأثرون ببعض أديان الشرق القديمة ، قبل أن يتحوّلوا إلى النصرانيّة ، و يعتنقوا المذهب البوغوميلي الذي لم يعرف خارج البلقان ، و منه كان تحوّلهم إلى الإسلام الذي أقبلوا عليه طوعاً ، و ارتضوه ديناً يجبّ ما قبله .
و في هذا القدر كفاية و الله أعلم .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين
سبحانك اللهم و بحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك
__________
(1) ... قاسم حمادي : من مذكرات داعية في بلدٍ مسلم ( مقال منشور في مجلة الأسرة ، الصادرة عن مؤسسة الوقف الإسلامي بهولندا ، ع : 66 - رمضان 1419هـ ) ، ص : 60 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 61 .(/44)
البيان لخطر الأحزاب العلمانية والليبرالية على الدين الأخلاق وشريعة القرآن
بقلم : حامد عبدالله العلي
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
مُقَدِّمَة
الحمدُ لله العليّ الكَبِير ، أَشهَدُ أَن لاإِلهَ إلاّ هُو وَحدَه لاشَريكَ لَهُ الحكيمُ الخبير ، أَنزَلَ القُرآنَ ، وَأَمَرَ بالإِيمان ، وَجَعَلَ الإِسلامَ الدينَ الثابتَ الأَركان ، وَفَرَضَ الدخولَ فِيِه كافَّة ، على الكافَّةِ من الإنسِ والجان ، وحَكَم على كُّلِّ مَنهَجٍ يُعارِضُه ، أَنَّه ضَربُُ مِن الشِركِ والكُفران ، وتخليطُُ مِنَ الهَذَيان ، واتِّباعُُ للشَيطان ، وَسَبيلُُ إِلى الضلالِ والخُسران 0
وأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ علَيهِ وَعلى آلِه وَصحبِهِ وَسَلّم ، عبدُ الله ورسولُه ، أَرسَلَه بالمحجّة البيضاء ، والملِّة السَمحاء ، فَأَتي بأَوضِحِ البَراهِين لأَقوَم ديِن ، وَأَبان مَحَجّةَ السالِكِين ، وَحَكَمَ عَلى كلِّ مَن عَصاه وَخالفَ مَنهَجَهُ أَنَّه مِن الضّالِّين الخاسِرِين ، وَبَعد :
فِإِنَّه لَمَّا كَثُر في الآوِنِة الأَخيرةِ تَرديدُ كَلِمِةِ (اللِيبراليِّةِ) عَلى أَلسنِةِ النِّاس ، وَعَلى صَفحاتِ الصُّحُفِ اليَوميِّة وَغَيرِها مِنَ وَسائِل الإعلام ، بَعدَ أَن نَشَأَت أَحزابُُ في الكُويت تَنتَسِبُ إِلى هذِهِ العَقيدةِ الضالَّة ، وَغَدَت تَدعُو إِلى مَبادِئِها الهَدَّامةِ ، مِثل :
الدعوة إلى ترك الإحتكام إلى الشريعة الإلهيِّة بدعوى اللحاق بركب المستقبل0
وإلى السماح بنشر الدعوة إلى الكفر والإلحاد ، بدعوى التسامح والإنفتاح على الثقافات الأُخرى احترام حريِّة الرأي والنشر والتعبير0
وإلى الهبوط من سموِّ الأخلاق الإسلامية ، إلى حضيضِ الرذائل البهيميِّة ، تحت شعار الحريّة الشخصيّة0
وإلى محاربة الفضيلة وحجاب المرأة والعفاف والشيم الكريمة 0
وإلى الحضِّ على اختلاط الرجال بالنساء في كل موقع بصورة مشينة خارجة عن حدود الشريعة وضوابط الحشمة ، تحت ستار اتباع الحياة العصريّة 0
وغدت هذه الأحزاب تحضُّ الناس على اعتناق هذه العقيدة التي تُدعى (الليبراليَّة) ، وماهي سوى تخاريف شيطانيَّة ، ابتدعها فلاسفة من أوربا ، حقيقة أمرهم أنهم زنادقة لايؤمنون برب معبود ، ولابيوم مشهود ، ولايدينون بشريعة إلهيِّة يلتزمونها ، ولابرسول يطاع ويتبع ، وإنما غاية مرامهم ، تزين المنكرات ، واتباع الشهوات ، والكفر بخالق الأرض والسموات 0
و أما هذه الأحزاب الضاَّلة فغاية مقصدها هدم الشريعة الاسلاميَّة وإلغاؤها بالكليَّة ، أو عزلها من الحياة ، وحصرها في المسجد والعبادات الشخصيَّة ، ولهذا فهي تصف أحكام شريعة الله ـ تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ـ بالظلاميّة والرجعيّة ، يصفونها بذلك تارة بالتلويح خوفا من ردود الفعل لدى أهل الغيرة على الدين ، من عامة المجتمع الكويتي ، وتارة بالتصريح ، وذلك عندما يأمنون وينفردون بأمثالهم من الشياطين0
وهدف هذه الأحزاب هو إلحاق الأمة الإسلاميِّة ، بمناهج الغرب المتهتِّك الضالِّ الملحد الكافر ، وطمس معالم الأخلاق الإسلاميِّة ، وصد الناس عن التمسُّك بتعاليم الكتاب العزيز ، والسنة النبويِّة الشريفة ، بدعوى اللّحاق بركب الحضارة المعاصرة ، كأنَّ الحضارة لاتكون إلا بالكفر والإحاد ، أوالتهتك والإنحلال والفساد 0
لماّ كان الأمر كما وصفت آنفا ، رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموجزة ، فأبيّن فيها بعبارة قريبة من القاريء العادي ، حقيقة المذهب (الليبراليّ) ، وأنه ليس سوى وجه من وجوه العلمانيّة اللادينيّة الرافضةِ لمنهجِ الله تعالى المتمثِّل في دين الاسلام ،والمستنكفةِ عن اتباعِ رسولِهِ صلَّى الله عليه ِوسلَّم فيما جاء به من الحقّ والهدى المبين0
كما أبيِّن مواطنَ السمِّ الزعافِ في هذا المذهب الخطير ، وأكشف الخطر الماحق الذي يشتمل عليه هذا الفكر ، وأنه الكفر بالله والصد عن دين الإسلام لاشيء سوى ذلك ، واضعاً أمام القاريء ، ماالذي سيؤدي إليه إنجراف المسلمين وراء هذه الأحزاب العلمانيّة 0
وذلك كيما تستبين سبيل المجرمين ، وليأخذ المؤمنون حذرهم كما أمرهم الله تعالى ، وليأخذوا على أيدي المفسدين فيهم ، وليحذروا من اتباع هذه الأحزاب ، وليمنعوا رموز هذه الاحزاب ما استطاعوا من الوصول إلى المواقع التي تمكنهم من تطبيق أفكار حزبهم الخبيثة على المسلمين 0
وليهلك من هلك عن بيِّنة ، ويحيى من حيَّ عن بيِّنة ، ولإقامة الحجة ، وبيان المحجَّة ، وليقذف الله بإذنه بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولنصر الدين القويم ، والصراط المستقيم ، تقرباً إلى ربِّ العرش العظيم ، منزل القرآن الحكيم ، والحمد لله رب العالمين0
المؤلف
أولا: بيان معنى العلمانيّة التي هي أمّ الليبراليّة
تعريف العلمانيّة :
العلمانيّة تعرف في البلاد التي نشأت فيها ( أوربا ) بـ :(/1)
ألاّ يكون الإنسان ملزما بتنظيم أفكاره وأعماله وفق معايير مفروضة على أنها شريعة أو إرادة إلهيِّة 0
ويطلق على هذا الفكر في اللغة الانجليزية التي هي لغته الأصلية SECULARISM ، وهي تعني (اللاَّدينية ) ، غير أنها اشتهرت باسم ( العلمانيّة) ، ولعلَّ ذلك كان مقصوداً بغيةَ إلباسها لبوساً يجعلها مقبولة بين المسلمين0
وفي قاموس (أكسفورد) عرفت بما يلي :
( العلمانيَّة مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني ) 0
الأركان التي تقوم عليها العلمانية :
العلمانية تقوم على ثلاثة أركان هي :
الركن الاول : قصر الإهتمام الإنساني على الدنيا فقط ، وتأخير منزلة الدين في الحياة ، ليكون من ممارسات الإنسان الشخصيَّة ، فلايصح أن يتدخل في الحياة العامة ، وأما الدار الآخرة فهي لما كانت أمر وراء الطبيعة ، فينبغي ـ في دين العلمانية ـ أن يكون مفصولا تماما عن التأثير في الحياة المادية ، وقوانينها المحسوسة 0
الركن الثاني : فصل العلم والأخلاق والفكر والثقافة عن الإلتزام بتعاليم الدين ، أيِّ دين كان 0
الركن الثالث : إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية على أساس غير ديني0
كيف وصلت العلمانيّة إلى العالم الإسلاميِّ والكويت :
بيَّنا معنى العلمانية في أصل منشئها ، وقد نقلت كذلك بهذا المعنى إلى بلاد الإسلام ، مع الإستعمار الاوربيِّ الذي هيمن على البلاد الإسلاميّة إثر سقوط الدولة العثمانيّة ، وقد تحمّل الدعوة إلى العلمانيّة بعض المثقفين من العرب وغيرهم في بلاد الإسلام ، ودعوا إلى تطبيق نظريّاتها حرفيّا ، كما دعوا إلى تبنِّي نظرة العلمانيّة لدين الإسلام ، كما كانت تنظر للدين النصرانيِّ المحرف في أوربا سواء بسواء ، ذلك أن العلمانيّة لاتفرّق بين الأديان في أنه يتحتَّم فصل كلِّ منها عن شئون الحياة العامَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتشريعيَّة 00الخ 0
وذلك أنَّه ليس في الفكر العلمانيّ تمييز بين الأديان ، فلايفرّق بين دين أصله من إنزال الله تعالى ، وآخر من وضع البشر ، كما لا ترى العلمانيّة أي فرق في الأديان التي أنزلها الله ، فلافرق لديها بين دين محرف وآخر محفوظ ، بل الأديان كلها سواء ، يجب أن تعامل معاملة واحدة ، على أساس الأركان الثلاثة السابقة 0
وقد انتشرت العلمانية في بلادنا الاسلاميِّة ، حتى وصلت الجزيرة العربيِّة مهد الإسلام ، ومهبط الوحي ، ودخلت الكويت أول ما دخلت مع ابتعاث الطلبة في الخمسينات الميلاديِّة للدراسة في الخارج ، فرجع بعضهم مشبَّعا بالأفكار العلمانية ، فتبنَّتها شخصيَّات بارزة ، وأحزاب وصحف ومؤسسات كثيرة 0
العلمانية قد لاتنصب العداء للدين علانية ، بل تكيد له كيدًا خفيًا :
العلمانيّة ليست بالضرورة معادية للدين ، بل إنَّها أحيانا تفضل توظيف الدين والإستفادة منه ، ولكن مع ضرورة حصره في ناحية من نواحي الحياة ، ولهذا قد لاتجد العلمانيّ يطعن في الدين ، بل قد يمدحه ويمجده ، بل قد يقول إنه يجب المحافظة على الدين 0
ولكنك إذا سألته هل أنزل الله تعالى دين الإسلام ليكون هادياً لنا في كل أمور حياتنا ، فلايجوز لنا أن نرفض شيئاً منه ، فإن جوابه لايخرج عن ثلاثة احتمالات :
الاول : أن يفر من الجواب إذا خشي على نفسه من التصريح بمنهجه العلمانيّ خوفا من ردة فعل الناس ، كما يفعل السياسيّون عند خوفهم من خسارة الأصوات الإنتخابيّة0
الثاني : أن يقول بوضوح وصراحة أن الدين يجب أن نعزله عن السياسة والثقافة والفكر ، وعن حياتنا الإجتماعيّة ، كما أنه لايصح أن نجعل الدين هو الحكم على كل شيء في الحياة بالصواب أو الخطأ ، وهنا قد يقول العلمانيّ أن الدين له أن يحكم في أمور الروح ونحوها من الأمور الغيبيّة ، فكأنَّه ينزل الدين منزلة الكهانة 0
وقد يحاول هذا الصنف من العلمانيين أن يكون لطيفا في عبارته : فيقول : إن الدين علاقة بين الإنسان وربه ، ولايعدو أن يكون مسألة شخصية 0
وقد يحاول بعضهم أن يتحذلق قليلا فيقول : نحن لانريد أن نفسد الدين بإدخاله في السياسة أو الخلافات الحزبيّة والثقافيّة والفكريّة ، ويقول في صورة الناصح الأمين : دعوا الدين في المسجد فهناك حيث يُحترم ويُوقَّر ، ولاتلطّخوه بالدنيا الدنيئة ، فالدين للآخرة 0
وهذا القول حقيقته هدم لدين الإسلام وشتم قبيح له ، وطعن خبيث فيه ، لأنه في حقيقته رمي للدين بأنه قاصر لايصلح لتسيير حياة البشر ، وما مَثَل هذا القول الماكر إلاّ كمثل من يشير على ملك من الملوك ، بأن لايُقحم نفسه في التصرف في أمور مملكته بشيء 0(/2)
ويقول له في كيد خفي : إن تدخلك يفسد هيبتك وجلالك ، فدع أُمور المملكة لهؤلاء المتصارعين على الدنيا ، وارتفع أنت في عرشك عن نزاعاتهم فهي لاتليق بك ، فكأنه في حقيقة الأمر يقول للملك : تنح وتنازل عن سلطانك وأمرك ونهيك وملكك ، وكن كالصورة الجامدة التي لاحراك فيها، والتمثال الأصم الأبكم ، وإنما يقول ذلك لكي يُفسَح السبيل فيتسنَّى لغير الملك أن يستحوذ على قوِّة السلطان الحقيقيِّة ، قوة الأمر والنهي والحكم والفصل في شئون المُلك والسلطان ، ثم يصير أمر الملك إمّا إلى أن يكون اسما بلا حقيقة ، أو يسلب منه الملك سلبا تامّا، فلايبقى معه منه اسم ولارسم ، فيهوى إلى مرتبة العبيد والسوقة ، بعد الملك والعز والسلطان0
ومثل هذا الكيد الخبيث يريده هذا الصنف من العلمانيّين بالدين ، عندما يزعمون أنهم عليه مشفقون ، فيطالبون بتنحيته عن مجالات الحياة ، وهذا الأسلوب خطير جدا ، لانهم يلبسون به الحق بالباطل ، ولهذا يستعمله العلمانيّون كثيرا لإضلال الناس والتلبيس عليهم 0
الاحتمال الثالث : أن يقول العلمانيّ : إن الدين كله حق ، والاحتكام إليه واجب ، ولكن أين الذين يطبقونه كما أنزل ، ثم يأخذ بعد ذلك بالطعن في حملة الدين واتهامهم بأنهم يستغلون الدين لمآربهم الشخصية ، ويسميهم ( متأسلمون ) أو ( أهل الإسلام السياسي) أو ( المتاجرون بالدين ) 00الخ وهويقصد الطعن في الدين نفسه ، ولكن بطريقة ملتوية خبيثة ، لأنه يريد أن يقول : لانستطيع تطبيق دين الإسلام والعمل به في كل شئون الحياة ، لانه لايوثق بأحد يمكنه تطبيقه أبداً ، فإذاً النتيجة واحدة ، وهي أنه لايمكن للناس بحال من الأحوال تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون حياتهم !!!
وكأن هذا الصنف من العلمانيين يحاول القول عن دين الإسلام ، إنه دين فاشل غير واقعي ولاعملي ولايمكن تطبيقه أبداً ، فيجب أن ننحي الكلام على تطبيقه جانباً ، إذ لافائدة من تطبيقه في الحياة ، غير أنهم يعدلون عن التصريح بهذا القول الكافر ، إلى عبارات أخرى بطرق ملتوية خبيثة ، وقد تنطلي على السذج من الناس 0
وبهذا يتبين أن العلماني قد لايكون ذلك الشخص الذي يطعن في الدين جهاراً نهاراً ،أو يسب القرآن والسنة والأحكام الشرعية ، أويستهزأ بالشريعة الاسلامية ،وإن كان فيهم من قد تصل به الوقاحة الى هذا الحد ، يقلّون أو يكثرون بحسب قوة الإسلام في المجتمع 0
بل العلمانيّ هو كل من يعتقد أنه غير ملزم باتباع جميع ما جاء عن الرسول صلَّى الله عليه وسلم ، هو كل من يجعل نفسه مخيراً أن يرفض بعض أحكام دين الإسلام ، وهوكلُّ من يعتقد أن الدين ليس شاملا لكل الحياة ، وأن الإنسان يمكنه أن يختار من أحكام الدين ما يشاء ويدع ما يشاء ، متبعاً في ذلك عقله ، ومتخذاً إلهه هواه0
ثمَّ إنَّ هذا البعض من دين الإسلام والذي يرفضه الشخص العلمانيّ ، قد يعتقد أنه لايصلح للحياة المعاصرة ، لزعمه أن العقل يقضي بذلك ، فقد يقول لك ـ على سبيل المثال ـ إن المرأة غير ملزمة بالحجاب الشرعي لأنه لايصلح لهذا الزمان ، أو يزعم أن المرأة لها أن تكون قائدة ورئيسة لكل الأمّة ، لأنّ حديث ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة ) لم يعد صالحا للعمل به في هذا العصر 0
أو أن الحدود الشرعيّة لاتصلح للتطبيق في هذا الزمان لأنها وحشية لاتليق بالإنسان المتحضّر ، أو لأنّها تحط من كرامة الإنسان ، أو لأنّها تناقض ميثاق حقوق الإنسان العالمي الذي يجّرم قطع السارق أو جلد الزاني ، والقوانين الوضعيّة تصلح لأنها تناسب مستجدات العصر الحديث0
أو يقول إن النظام الاقتصاديّ لايمكن أن يقوم على تحريم الربا لأن ذلك أمر غير واقعي ، أويقول إن تعبير الملحد عن إلحاده والإباحيّ عن أباحيّته بنشر فكره في المجتمع ، هو من قبيل توفير الحريّة ، ولايجوز كبت الحريّات ، وإذا قلت له إن الإسلام يحرّم نشر الإلحاد والإباحيّة ، قال لك : إن العصر قد تغيّر ، والزمان قد تحوّل ، ونحن في عصر الحريّة والعولمة ، وغير ذلك من الهذيان والتخبيط الذي يقصد به محاربة الدين بأساليب ملتوية 0
والعلمانيُّ في كل ما سبق وأمثاله مما يرد به العلمانيُّون بعض أحكام الشريعة ، يزعم أنه ينطلق من عقله أو من اتباع زعماء حزبه الذين يقلدون مفكِّري الغرب الملحدين ، وأولئك قوم كفار نصبوا عقولهم آلهة يعبدونها من دون الله ، وذلك عندما اتخذوها أربابا تُشرّع لهم0
ذلك أنَّ العقل هو الحاكم عند العلمانيين على أحكام الشريعة الإسلامية ، وعلى هدى القرآن والسنة ، وليست الشريعة الإسلامية عندهم هي التي توجّه وترشد وتهدي العقل الإنسانيِّ ، بل وظيفة العقل عند العلمانيين هي الإعتراض على أحكام الله تعالى كلّما جاءت معارضة لعقولهم الضالّة التائهة ، وعمل العقل عندهم هو استبدال شريعة القرآن ، بأحكام أوأفكار أوقوانين أو مباديء توافق عقولهم 0(/3)
فهم إذن يعبدون عقولهم وأهواءهم كما قال تعالى ( أَرأَيت من اتخذ إلهه هواه ، أَفأَنت تكون عليه وكيلاً ، أَم تَحسب أنّ أَكثرَهُم يسمعُون أو يعقلُون إن هُم إِلاّ كالأَنعام بل هُم أَضلُّ سبيلاً ) الفرقان 43 ، 44
وقال سبحانه ( ومَن أَضلُّ ممَّن اتَّبعَ هواهُ بغيرِ هدى مِنَ الله ) القصص 50
وقال سبحانه ( وأنِ احكُم بينهَم بما أنزلَ اللهُ ولاتتَّبِع أهواءَهم واحذرهُم أن يفتِنوكَ عن بعضِ ما أنزَلَ اللهُ إليك ) المائدة 49 0
إلى آخر الآيات التي تذم اتباع الهوى ، وتحذر من معارضة الدين المنزل والشريعة المطهرة بالأهواء ، ذلك أن الإنسان لايستغني عن هداية الله تعالى له ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسيِّ ( يا عبادي كلُّكُم ضالُّ إلاَّ من هديتُه ، فاستهدوني أهدكم ) ، ومن ظنَّ أنه يستغني عن اتباع هدى الله تعالى بعقله ، فيرد أحكام الله تعالى اتباعا لهواه ، فهو كافر بالله تعالى ، كما قال سبحانه ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) المائدة 44 0
ثانيا بيانِ كفرِ من رفض حكم الله تعالى
واعتقد أنه غير ملزم باتباع كلِّ ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم
أقسام الناس بالنسبة إلى موقفهم من الشريعة الاسلاميِّة :
ينقسم الناس بالنسبة إلى موقفهم من أحكام الشريعة الإسلامية الى أربعة أقسام :
القسم الأوّل: يقبلونها ويعتقدون أنها كلها حق ، كما قال تعالى ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِن عِندِ رِبِّنا ) آل عمران 3، ويعملون بها قدر استطاعتهم ، وهم مع ذلك إن عَصَوا وخالفوا ما أمر الله تعالى به ، استغفروا وتابوا ، كما قال تعالى ( والذينَ إذا فَعلوا فاحشةً أو ظَلَموا أنفَسَهُم ذكرُوا اللهَ فاستغفروا لذنوِبهم ِومَن يغفرُ الذنوبَ إلاّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهُم يَعلُمون ) آل عمران 135، فهؤلاء هم المسلمون المؤمنون المستقيمون على طاعة الله تعالى ، ومنهم المقتصد الذي يأتي بالواجبات وينتهي عن المحرمات ،ومنهم السابق بالخيرات الذي يزيد في الطاعات والحسنات من النوافل والمستحبات 0
القسم الثاني : وهم الذين يقبلون جميع أحكام الله تعالى وماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعتقدون أنها كلها حق من عند الله تعالى ، ولايعترضون على شيء منها ، ولايقولون نؤمن ببعض ونرفض بعضا بعقولنا وأهواءنا ، ولكنهم مع ذلك تغلبهم الشهوات فيقعون في الذنوب والمعاصي والآثام وهم يعلمون أنَّ ما فعلوه مخالف لأحكام الله تعالى ، ويقرون بأنهم عاصون مذنبون ، ولكنَّهم يسوِّفون التوبة ويؤخِّرونها بتزيين الشيطان وطول الأمل 0
فهؤلاء عصاة فساق قد ظلموا أنفسهم ، لكنَّهم مسلمون لأنَّهم يؤمنون بالدين كلِّه ، ولايرفضون شيئا منه ، لاظاهراً ولاباطناً ، غير أنهم ناقصوا الإيمان ، وحكمهم أنَّ أمرهم إلى الله تعالى إن ماتوا على المعاصي ولم يتوبوا منها قبل الموت ، فيحكم الله فيهم يوم القيامة ، إن شاء غفر لهم ،وان شاء عذبهم ، وإن عذبَّهم فمآلهم بعد العذاب إلى الجنَّة ماداموا موحِّدين من أهل الصلاة ، مالم تهوي بهم كبائر الذنوب إلى حضيض الشرك والكفر قبل الموت ، لأن الكبائر ـ كما قال العلماء ـ هي دهليز الكفر ، وأهل الكبائر على خطر عظيم ، ومن ذلك أن يُران على قلوبهم مع كثرة الذنوب ، فيسهل عليهم الكفر بالله تعالى ، فيصيرون إليه قبل الموت ، خذلاناً من الله تعالى ، عياذا بالله من سوء الخاتمة0
القسم الثالث : وهم الذين يرفضون أحكام الله تعالى كلها ، ويعتقدون أن الأديان ليست سوى اجتهادات بشريِّة لمصلحين اجتماعيين أو مفكرين سياسيين ، ولايوجد وحي من الله تعالى منزل على الرسل عليهم السلام ، وقد يعتقد بعض هؤلاء أن الله تعالى خلق الكون والإنسان ، ولكنَّه تركه ليهدي نفسه بنفسه ، لأنَّه ركَّب فيه العقل وتركه ينير للإنسان طريق الهداية ، وهؤلاء هم الكفّار الذين لايؤمنون بما أنزل الله تعالى ، والذين قال الله تعالى عنهم ( وقال الذين كفرُوا لاتَسمَعُوا لهذا القرآنِ والغوا فيِهِ لعلَّكُم تَغلِبُون ) فصلت 26 0(/4)
القسم الرابع : وهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ويجعلون الدين أجزاء بحسب أهواءهم ، ويقولون نؤمن بما يوافق أهواءنا منه ، ونرفض ما سواه ، أونعرض ذلك على التصويت حسب عدد الأصوات ، فما قبله أكثر الناس بناء على قناعاتهم العقليِّة التزمناه وجعلناه قانوناً حاكماً على العباد لاحاكم سواه ، وعاقبنا من يخالفه ، ومارفضه التصويت والعقل تركناه وأهملناه ، ولايهمُّنا أن الله تعالى أنزله وفرضه ، فالعقل والتصويت هما الحاكمان علىالدين ، وهما الإله المعبود لديهم ، وهما الكتاب المنزَّل المتَّبع عندهم ، وهما المنهج الهادي ، بدل كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد صدق عليهم قول الحق سبحانه ( أَلَم تَرَ إِلى الذينَ بَدَّلوُا نعمةَ اللهِ كُفراً وَأَحَلُّوا قَومَهُم دارَ البَوار ، جَهَنَّمَ يَصلَونَها وبِئسَ القَرار ) سورة إبراهيم 28
ولاريب أن التشريعات المناقضة لشريعة الله تعالى ، ليست سوى أنداد تضل عن شريعة الله التي هي سبيله وصراطه المستقيم الذي وضعه نورا وهدى للناس ، ويصدق عليها قوله تعالى(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قد تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)سورة ابراهيم29
حكم العلمانيين الذين يؤمنون ببعض الدين ويكفرون ببعض :
من المعلوم أن الدين كلُّ ، لايقبل أن يتجزأ من جهة القبول به والإ ذعان له ، وأن من رفض حكما من أحكام الله تعالى ، وكفر به واعتقد أنه لايصلح لهذا الزمان ، وأن تطبيقه يجب أن يعرض على العقل ، أو على التصويت ، فان وافق ذلك أحكام الله تعالى كان بها ونعمت ، وان لم يوافق تركنا ما أنزل الله تعالى وراء ظهورنا ، واتبعنا عقولنا ونتيجة التصويت ، من زعم ذلك فهو كافر مشرك بالله تعالى 0
كما قال تعالى في كتابه العزيز عن الذين آتاهم الكتاب من اليهود ثم لما جاءهم الحقُّ ، آمنوا ببعضِ الكتابِ ، وكفرُوا ببعضِهِ الآخر 0
قال سبحانه ( أفتؤمنون ببعضِ الكتابِ وتكفرونَ ببعض ، فماجزاءُ من يفعلُ ذلكَ منكُم إلاّ خزيٌ في الحياةِ الدُنيا ، ويومَ القيامةِ يردُّونَ إلى أشدِّ العذابِ وماالله بغافلٍ عمَّا يَعملُون ) البقرة 85
ونسوق فيما يلي الآيات القرآنية الدالة على كفر من لم يعتقد وجوب التحاكم إلى شريعة الله تعالى في كل صغير وكبير ، ومن آمن ببعض أحكام الله تعالى دون بعض 0
1ـ قال سبحانه ( ويقولون نُؤمنُ ببعضٍ ونكفُرُ ببعضٍ وَيُريدُونَ أن يَتَّخِذوُا بيَنَ ذلكَ سبيلاً ،أُولئكَ هُمُ الكافِرونَ حقاً وأَعتَدنا للكافرينَ عذاباً أليماً) النساء 150، 151
2ـ وقال سبحانه ( ياأيُّها الذينَ أُوتُوا الكتابَ آمِنوُا بما نزَّلنا مصدِّقاً لما معكُم مِن قَبلِ أَن نَطمِسَ وُجوهاً فَنَرُدَّها على أدبارِها أَو نَلعَنَهُم كما لعنَّا أصحابَ السبتِ وكان أمرُ اللهِ مفعولاً ) النساء 47
3ـ وقال سبحانه ( ألم ترَ إلى الذينَ أُوتوُا نصيباً منَ الكتابِ يؤمنونَ بالجبتِ والطاغوتِ ويقولونَ للذينَ كفروُا هؤلاءِ أَهدى منَ الذينَ آمنوُا سبيلاً ، أولئِكَ الذينَ لعنهُم اللهُ ومن يَلعن اللهُ فلن تَجدَ لهُ نصيراً) النساء 51،52
وسنتوقف قليلاً عند تفسير هذه الآية :
يقول الله تعالى إنّ الذين أتاهم الكتاب من اليهود ، لماجاءهم محمّد صلّى اللهُ عليه وسلّم بالبيّنات والهُدى ، فضلوا الإيمان بالجبت والطاغوت ، والطاغوت اسم لكل مايعبد من دون الله ، وكذلك هم اسم لكل ما يطاع أو يتبع من دون الله تعالى فيما يخالف حكمَ اللهِ تعالى ، فكلّ منهج يخالف منهج الله تعالى ، فهو طاغوت ، وهؤلاء اليهود فضَّلوا الإيمان بالجبت و الطاغوت على الإيمان بما أنزل الله تعالى ، كما فضل العلمانيُّون الإيمان بأهواءهم وعقولهم على الإيمان بما أنزل الله تعالى ، فجعلوا الدين أجزاء على وفق أهواءهم ، فكفروا ببعض وآمنوا ببعض ، فكفروا ـ على سبيل المثال ـ بالحدود الشرعية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الربا ، وفرض الحجاب على النساء ، وغيرها من أحكام الدين ، وزعموا أنهم مؤمنون ، لكنَّ الله تعالى كذَّبهم 0
ثم أخبر سبحانه في هذه الآية أنهم يعتقدون أن منهج الذين كفروا أهدى من منهج المؤمنين ، كما قال تعالى ( ويقولُونَ للّذينَ كفروُا هؤلاءِ أَهدى مِنَ الذينَ آمنوا سبيلاً ) ، وكذلك العلمانيُّون يعتقدونَ أنّ المنهج العلمانيُّ والليبراليُّ ، أهدى مما أنزل الله تعالى ، ولولا ذلك ما اتبعوه معرضين عن أحكام الله تعالى 0
4ـ وقال سبحانه ( قل آمنّا باللهِ وماأُنزِلَ عَلَينا وما أُنزِلَ على إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط وما أُوتِيَ موُسى وعِيسى والنبيُّون مِن رَبِّهِم لانفرِّقُ بيَن أَحَدٍ مِنهُمُ ونَحنُ لَهُ مُسلِموُن ، ومَن يَبتغِ غيَر الإسلامِ ديناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وهُوَ في الآخرِةِ مِن الخاسِرِين ) آل عمران 85، فالإسلام هو الإيمان بكلِّ ما أنزَل اللهُ تعالى ، واتِّباع كلِّ أحكامِ الله تعالى 0(/5)
5ـ وقال تعالى ( يا أيُّها الذينَ آمنوُا ادخلُوا في السِّلمِ كافَّةً ولاتتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَيطانِ إنَّه لَكُم عدُوُُ مُبِين ) البقرة 208 ومعنى السِّلم في هذه الآية هو الإسلام ، أي ادخُلُوا في جميع الإسلام ، وآمنوا بجميع أحكامه ، لا كالذين يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض 0
6ـ وقال تعالى ( وأَنِ احكُم بينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ ولاتتَّبِع أهواءَهم واحذَرهُم أن يَفتِنوُكَ عَن بعضِ ما أَنزَلَ اللهُ إِليكَ ، فإِن تَولَّوا فاعلَم أَنَّما يُريدُ اللهُ أَن يُصيبَهُم ببعضِ ذنوبِهِم وإنَّ كثيراً مِنَ النّاسِ لفاسقُون ، أَفَحُكمَ الجاهليِّةِ يَبغُونَ ومَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنوُن ) المائدة 49، 50
وحكم الجاهلية هو جعل الايمان بما أنزل الله تعالى تبعا للأهواء ، لأنّهم يريدون الايمان ببعض ما جاء به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ، والكفر ببعضه الآخر ، وقالوا له نؤمن بما جئت به سنة ، ونؤمن بما نحن عليه من أمر الجاهلية سنة ، ولهذا حذَّر الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يتنازل عن أي شيء مما أنزل الله تعالى ، قال تعالى ( واحذرهم أَن يَفتِنوُكَ عَن بَعضِ ماأَنزَلَ اللهُ إليك)0
7ـ وقال تعالى ( ومَن لم يَحكُم بما أَنزلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الكافرون ) المائدة 44، وقال تعالى ( ومَن لَم يَحكُم بما أَنزلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الظالِموُن) المائدة 45، وقال تعالى( وَمَن لَم يَحكُم بما أَنزَلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الفاسقُون ) المائدة 47
ومقتضى هذه الآيات من تسمية الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافرا وظالما وفاسقا ، يصدُقُ على القليلِ والكثيِر مِنَ الحُكمِ بغيرِ ما أَنزَلَ الله تعالى ، كما يصدق على الجزء والكلّ ، فكلّ من أعرض عن شيء من أحكام الله تعالى ، معتقداً أنَّه لايجب عليه التزام الحكم بها فهو كافر ، ظالم ، فاسق ، وقد أجمع المسلمون على هذا 0
8ـ وقال سبحانه ( كَذلكَ نَقصُّ عَليكَ مِن أَنباءِ ما قَد سَبَق ، وَقَد آتينَاكَ مِن لدُنّا ذكراً مَن أَعرَضَ عَنهُ فإنِّهُ يَحمِلُ يَومَ القِيامَةِ وِزراً ، خالدِينَ فيِهِ وساءَ لَهُم يَومَ القيامَةِ حِملاً ) طه 99ـ101 ، والذِّكرُ هُوَ ما أنزَلَ اللُه تعالى ، وهو القرآن العظيم ، وما يشتمل عليه من أحكام ، فمن أعرض عنه ، أوعن بعضه مفضلا مناهج كفرة الغرب أو الشرق ، فإنّه يأتي يوم القيامة حاملاً وزراً عظيماً ، وهو وزر الكفر الذي يخلد صاحبه في النار عياذا بالله 0
9ـ وقال سبحانه ( وَمَن أعرضَ عن ذِكرِي فإِنَّ لَهُ معيشةً ضَنكا ، ونَحشُرُه يَومَ القِيامَةِ أَعمى ، قال رَبِّ لمَ حَشَرتَني أَعمى وَقَد كُنتُ بَصِيرا ، قال كذلكَ أَتَتكَ آياتنا فَنسيتَها وكَذلكَ اليومَ تُنسى ،وَكَذلكَ نَجزي مَن أَسرَفَ ولَم يُؤمِن بآياتِ ربِّهِ ولعذابُ الآخرِةِ أَشدُّ وأَبقى ) طه 124ـ 127 ، والعلمانيُّون أعرضوُا عن اتباع الذكر وهو القرآن ، وأتتهم آيات الله فنسوها ،فكان لهم بذلك الشقاء في الدنيا ، ذلك أنهم لم يفلحوا في شيء من شئونهم ، وتخبطوا في كل أمورهم ، فأفسدوا على الناس معايشهم الدنيوية ، فانتشرت بسبب مبادئهم الضالّة ، واعراضهم عن أحكام الله تعالى التي أنزلها رحمة ونوراً وهدى الناس ، انتشرت الجرائم والمخدرات والدعارة وألوان الفساد ، وخرَّبوا الإقتصاد باتّباعهم النظام الربويّ معرضين عن أحكام الله تعالى ، وأفسدوا المرأة وأهانوها وحوَّلوها إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى ، وقذفوا بها في كل موضع تنتهك فيه كرامتها وهم يزعمون تحريرها ، وامتلأت بسببهم حياة الناس شقاءً وضنكاً وفساداً في البلاد الغنيّة ، وتمثل ذلك في اختلال الأمن وشيوع الفواحش والأمراض الجنسية والنفسية والجريمة المنظمّة وشعور الناس بالضياع والخوف ، كما امتلأت الحياة فقراً وجوعاً وظلماً في البلاد الفقيرة ، وضجّت الأرض والبلاد والعباد مما يفعلونه في العالم من الخراب 0
ومما يدل أيضا على كفر من يرد شيئا مما أنزل الله تعالى كلَّه أوبعضه معرضاً عنه مفضلاً عليه سواه :
10ـ قول الحق تعالى ( أَلم تَرَ إِلى الذينَ يَزعُمُونَ أَنَّهم آمنوُا بما أُنزِلَ إليكَ وما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدُونَ أَن يَتحاكَمُوا إلى الطاغوُتِ ، وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُروُا بِهِ وَيُريدُ الشَيطانُ أَن يُضلَّهُم ضلالاً بَعيداً ، وإِذا قِيلَ لَهُم تَعالَوا إلى ما أَنزَلَ اللهُ وإلى الرسولِ رَأَيتَ المنافِقينَ يَصدُونَ عَنكَ صُدوداً ) النساء 60، 61(/6)
والطاغوت اسم عامُّ يشمل كل معبود أو مطاع أو متَّبع ينصبه الناس حكماً لهم من دون الله ، ويجعلون كلامه هو القول الفصل الذي يحكم بينهم ، بديلا عن شريعة الله ، وهو كل مناهج يناقض منهج الله ، فكلُّ مَن يَتحاكَم إلى عقلِهِ ، أو إلى منهجٍ بشريِّ يخالف منهج الإسلام ، أو إلى شريعةٍ وضعيّةٍ ، معرضاً عن شريعة الله تعالى ، نابذاً وراء ظهره أحكام الله تعالى في قليلٍ أو كثيرٍ ، فهو مؤمن بالطاغوت كافر بالله تعالى 0
وكل من يقال له : هَلمَّ إلى ما أنزلَ اللهُ تَعالى ، وإلى ما جاء به الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الهدى والحق والنور المبين ، فصدَّ عن ذلك راغباً عنه ، واتبَّع غيرَ ما أَنزلَ اللهُ تَعالى ، فَهُو من المنافقين الذين قال الله فيهم ( إنَّ المنافِقينَ في الدَركِ الأسفَلِ مِنَ النّار وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصيراً ) النساء 145
والمنافقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله ( مُذَبذَبينَ بَينَ ذلكَ لا إلى هؤُلاءِ ولا إلى هؤُلاء ) النساء 143 أي أنَّهم متحيرون ، فلاهم الذين يتبعون ما أنزل الله تعالى ، ولاهم الذين يثبتون على غيره أيضا ، فتارة يؤمنون بالشيوعيِّة ، وتارة بالاشتراكيِّة ، وتارة بالبعثيِّة ، وتارة بالقوميِّة ، وتارة بالليبراليِّة ، وتارة بالماركسيِّة ، وتارة بالقوانين الوضعيِّة ، وتارة ببعض أحكام الشريعة الاسلاميِّة وفق أهواءِهم ، فَهُم مُذَبذَبون دائماً ، كما قال تعالى ( بَل كَذَّبوُا بالحَقِّ لماَّ جاءَهُم فَهُم في أَمرٍ مرِيجٍ ) ق 5، أي أن كلَّ مُكَذِّبٍ بالحقِّ يُصبِحُ في حالٍ مُضطَرب غايةَ الإضطِراب 0
11ـ وقال سبحانه ( كان النّاسُ أمَّةً واحدةً فَبَعَثَ اللهُ النبيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأَنزَلَ مَعَهُم الكِتابَ بالحقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فِيما اختَلفُوا فِيه ) البقرة 213 فبيَّن أنَّه أنزَلَ الشريعةَ لِكَي تَكونَ حاكمة بين العباد في كل صغير وكبير من شئون حياتهم ، وفي كل ما يختلفون فيه 0
12ـ وقال سبحانه ( فلاوَرَبَّكَ لايُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لايَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً ) النساء 65، فكل من وجد في نفسه حرجا من شيء مما أنزل الله تعالى ، فقد أقسم الله تعالى بنفسه العليَّة أنه لايكون مؤمنا 0
13ـ وقال سبحانه ( ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعةٍ مِنَ الأَمرِ فاتَّبِعها ولاتَتبَّع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُونَ ، إنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئاً وإنَّ الظالِمينَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعض واللهُ وليُّ المُتَّقِين ، هذا بَصائِرُ للنّاسِ وَهُدى وَرَحمَةُُ لِقَومٍ يُوقِنُون ) الجاثية 18ـ 20 والعلمانيون هم الذين يتبعون أهواء الذين لايعلمون من كفرة ملاحدة أوربّا الضالّين 0
وقد أمر الله تعالى نبيّه الكريم في هذه الآية الكريمة أن يستقيم على الشريعة ، ونهاه أن يتبع أهواء الجاهلين ، وبين أنه أنزل هذا القرآن المشتمل على الشريعة التامة ، فهي البصائر والهدى والرحمة ، وغيرها الضلال والحيرة والجهل 0
فهذه أربع عشرة آية في الكتاب العزيز ، ونظائرها أكثر من أن تحصر في هذا الموضع ، وكلها دالة دلالة قطعية على أن من علم حكم الله تعالى ، ثم رفض أن يلتزمه معتقدا أنه يسعه ذلك فهو كافر بالله تعالى ، ولاينفعه زعمه أنه مؤمن بروح الشريعة أو جوهر الدين كما يقول العلمانيون والليبراليون 0
هذا ولم يقرِّر القرآن أصلاً بعد توحيد الألوهية كما قرر هذا الأصل العظيم ، وهو وجوب الاحتكام إلى الشريعة الإلهية ، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، مما يُؤذن بخطر التهاون في هذا الشأن العظيم ، كيف وقد قرر القرآن أن الإعراض عن الشريعة واتباع غيرها عبادة للطاغوت ، كما تقدم في آية سورة النساء ، ورحم الله العلامة ابن القيم اذ يقول ( فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة لله ، فهذه طواغيت العالم إذا تدبرتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ) إعلام الموقعين (1/50)
ثالثا
بيان معنى الليبراليَّة
وأنها ليست سوى وجه من وجوه شجرة العلمانيَّة الخبيثة(/7)
الليبراليَّة هي وجه آخر من وجوه العلمانيِّة ، وهي تعني في الأصل الحريِّة ، غير أن معتنقوها يقصدون بها أن يكون الإنسان حراً في أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويحكم بما يشاء ، فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه ، وعابد هواه ، غير محكوم بشريعة من الله تعالى ، ولا مأمور من خالقه باتباع منهج إلهيّ ينظم حياته كلها، كما قال تعالى ( قُل إنَّ صَلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتي للهِ رَبَّ العالَمِينَ ، لاشَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المِسلِمين) الانعام 162، 163 ، وكما قال تعالى ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18
وكما قال تعالى ( وأن احكُم بَينهُم بِما أَنزَلَ الله ولاتَتَّبِع أَهواءَهُم ) المائدة 49 ، وغيرها من الآيات الكثيرة 0
ولهذا فإن الليبراليَّة لاتُعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلا : هل الله موجود ؟ هل هناك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل هناك أنبياء أم لا ؟ وكيف نعبد الله كما يريد منّا أن نعبده ؟ وما هو الهدف من الحياة ؟ وهل النظام الإسلاميُّ حق أم لا ؟ وهل الربا حرام أم حلال ؟ وهل القمار حلال أم حرام ؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها ، وهل للمرأة أن تتبرج أم تتحجب ، وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور ، وهل الزنى جريمة أم علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين ، وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل ، أم كله باطل ، أم كله من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ولايصلح لهذا الزمان ، وهل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به ، أم مشكوك فيها ، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى أم مصلح اجتماعي ، وما هي القيم التي تحكم المجتمع ؟ هل هي تعاليم الاسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد ، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية ، وماهو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع ، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية ، وهل الإجهاض مسموح أم ممنوع ، وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل ، وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية ، وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعه ، وهل نعلم الناس القرآن في المدارس على أنه منهج لحياتهم كلها ، أم هو كتاب روحي لاعلاقة له بالحياة ؟؟؟؟
فالليبراليّة ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة ، ومبدؤها العام هو : دعوا الناس كلُّ إله لنفسه ومعبود لهواه ، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون ، ولن يحاسبهم رب على شيء في الدنيا ، وليس بعد الموت شيء ، لاحساب ولا ثواب ولاعقاب 0
وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام ، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي ، وبه وحده تعرف القوانين التي تحكم الحياة العامة ، وهو شريعة الناس لاشريعة لهم سواها ، وذلك بجمع أصوات ممثلي الشعب ، فمتى وقعت الأصوات أكثر وجب الحكم بالنتيجة سواء وافقت حكم الله وخالفته 0
ولايقيم الليبراليون أي وزن لشريعة الله تعالى ، إذا ناقض التصويت الديمقراطي أحكامها المحكمة المنزلة من الله تعالى ، ولايبالون أن يضربوا بأحكامها عرض الحائط ، حتى لو كان الحكم النهائي الناتج من التصويت هو عدم تجريم الزنا إلا إذا وقع بإكراه ، أوعدم تجريم شرب الخمر ، أوكان تحليلاً للربا ، أوكان السماح بتبرج النساء ، أو التعري والشذوذ الجنسي والإجهاض ، أونشر الإلحاد تحت ذريعة حرية الرأي ، 00الخ 0
وكل شيء في المذهب الليبراليِّ متغيِّر ، وقابل للجدل والأخذ والردِّ حتى أحكام القرآن المحكمة القطعيِّة ، وإذا تغيَّرت أصوات الاغلبيَّة تغيَّرت الأحكام والقيم ، وتبدلت الثوابت بأخرى جديدة ، وهكذا دواليك ، لايوجد حق مطلق في الحياة ، وكل شيء متغير ، ولايوجد حقيقة مطلقة سوى التغيُّر 0
فإذن إله الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ ، حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره ، وحكم الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة ، سواءُُ عندهم عارض الشريعة الإلهيّة ووافقها ، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء ، ولايعقِّب عليه إلا بمثله فقط 0
غير أن العجب كلَّ العجب أنَّه لو صار حكمُ الأغلبيِّة هو الدين ، واختار عامة الشعب الحكم بالإسلام ، واتباع منهج الله تعالى ، والسير على أحكامه العادلة الشاملة الهادية إلى كل خير ، فإن الليبراليّة هنا تنزعج انزعاجاً شديداً ، وتشن على هذا الاختيار الشعبي حرباً شعواء ، وتندِّدُ بالشعب وتزدري اختياره إذا اختار الإسلام ، وتطالب بنقض هذا الاختيار وتسميه إرهاباً وتطرفاً وتخلفاً وظلاميّة ورجعيّة 00الخ(/8)
كما قال تعالى ( وإذا ذُكِر الله ُوَحدَهُ اشمَأَزَّت قلوبُ الذين لايُؤمِنُونَ بِالآخرِةِ وَإِذا ذُكِرَ الذينَ مِنَ دونِهِ إذا هُم يَستَبشِروُن ) الزمر 45 0
فإذا ذُكر منهج الله تعالى ، وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوب الليبراليين ، وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر ، أو شريعة أخرى ، أو قانون آخر ، إذا هم يستبشرون به ، ويرحِّبون به أيَّما ترحيب ، ولايتردَّدون في تأيِّيده 0
فإذن الليبراليِّة ماهي إلاّ وجه آخر للعلمانيِّة التي بنيت أركانها على الإعراض عن شريعة الله تعالى ، والكفر بما أنزل الله تعالى ، والصد عن سبيله ، ومحاربة المصلحين ، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة ، والضلالات الفكريِّة ، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة ، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له0
هذا وقد يتبيّن لكل ذي بصيرة ، أنَّهم عندما يدعون الناس إلى مخالفة الشريعة الإلهيّة ، زاعمين أنهم يمنحونهم الحرية ، أنها خديعة وفخ يصيدون به المغفلين من ضعاف العقول ، وبغيتهم أن يخرجوا الناس من عبادة الله تعالى وحده باتباع صراطه المستقيم ، إلى عبادة مفكِّريهم ومنظِّريهم ، وإلى إتِّباع أهواءِهم والسيرِ على مناهجهم الضالَّة ، وعندما يقولون للشعب أنت حرُّ في أن تفعل ما تشاء ، فكأنهم يقولون له كن أسيراً وعبداً لشهواتك وهواك ، ولنزغ الشيطان ، ذلك أن دأب الشيطان أن يزين للإنسان فعل السوء والفحشاء ، ويوسوس له بالشر والضلال فيطيعه ويتبعه ، وهو يظنُّ أنه حرُّ في تصرفاته ، بينما هو متبع مستعبد للشيطان من حيث لايشعر ، كما قال تعالى ( وزيَّنَ لَهُم الشَيطانُ أَعمالَهُم فَصَدَّهُم عَن السَّبِيل ) العنكبوت 38وقال سبحانه أيضا ( وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إبلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوه إلاَّ فَريقاً مِنَ المؤمِنِين ) سبأ 20 وقال سبحانه ( وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَن نُقَيِّض لَهُ شَيطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين ) الزخرف 36 ومعنى يعش عن ذكر الرحمن ، أي يَعمى عن اتباع ما أنزل الله تعالى 0
فالليبراليِّة إذاً إنما تقول للناس دعوا عبادة الله تعالى واتباع شريعته ، إلى طاعة وعبادة الهوى والشيطان ، فهي تدعو إلى الشرك والكفر وفعل الفحشاء والمنكر 0
وهي عندما تزعم أنَّه لايوجد حقُّ مطلق إلا الحريَّة والتغيُّر ، فإنها تكفر بثوابت القرآن والسنة ، وبأحكام الشريعة المحكمة التي أنزلها الله تعالى لتكون نبراساً لهداية الناس إلى يوم القيامة ، وما الشريعة إلا الحق المبين الراسخ الذي لايتغيَّر ولايتبدَّل مهما تغيَّر الزمان والمكان 0
كما قال تعالى واصفاً نفسه العليَّة ( أَفَمَن يَهدِي إلى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَع أَمَّن لايَهِدِّي إلاَّ أَن يُهدى فَما لَكُم كَيفَ تَحكُمُون ) يونس 35 وقال سبحانه ( فَذلِكُم اللهُ رَبُّكُم الحَقَّ فَماذا بَعدَ الحقِّ إِلاَّ الضلال فأنى تصرفون ) يونس 32 وقال سبحانه ( والذينَ هُم بآياتِنا يُؤمِنُون ، الذينَ يَتَّبِعُون النَّبيَّ الأُمِيَّ الذي يَجِدُونَهُ مكتوباً عِندَهُم في التَوراةِ وَالإنجِيل يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهاهُم عَن المُنكَر ، وَيُحِلُّ لَهُم الطَيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِم الخبائِث ) الأعراف 156، 157 0
وكما قال تعالى ( قُل ياأَيُّها النّاسُ إِنيِّ رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جمَيعاً الذي لَهُ مُلكُ السمواتِ وَالأرضِ لاإلهَ إلاّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيت ، فَآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِيِّ الذي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تُهتَدُون ) الأعراف158 0
وكما قال تعالى ( الذينَ إِن مَكَّناهُم في الأرضِ أَقامُوا الصلاةَ وَآتَوا الزَكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَن المنُكَر وَللهِ عاقِبَةُ الأمور ) الحج 41 0
والليبراليّة عندما تسوي بين دين الله الحق وغيره من الأهواء الباطلة ، وعندما تسوّي بين المؤمنين بالله تعالى المتبعين لدينه ، والكافرين به ، بزعم أن الجميع سواء في مبدأ الحريّة ، فهي بذلك تشرّع شريعة تناقض شريعة الله تعالى القائل ( أَفَمَن كانَ مُؤمِناً كَمَن كان فاسِقاً لايَستَوُون ) السجدة 18 والقائل ( أَفَنَجعَل المُسلِمِين كَالمجُرِمِينَ ، مالَكُم كَيفَ تَحكُمُون ) القلم 35، 36 0
والمذهب الليبراليّ بهذا المنهج الضال ، يبطل دين الله كله ، ويطوي أحكامه التشريعيَّة برمَّتها ، ويضع بدلها أحكاما أخرى من عنده ، أحكاما لاتقيم وزنا لما أنزله الله تعالى من البيَّنات والهدى والكتاب المنير 0
والخلاصة أن المنهج الليبراليّ ليس سوى الضلال بعينه ، وهو الكفر والشرك برسمه واسمه ، وماهو إلاّ صدُّ عن سبيلِ اللهِ تعالى ، ونَقض لأحكامِ اللهِ تعالى ، ودعوة للناس إلى الخروج عن شريعة الله تعالى ، وإشاعة الفوضى الفكرية والعقائدية في حياة الناس 0(/9)
هذه هي الليبراليّة ، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء ، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة ، ووجه آخر من وجوهها 0
وبهذا يعلم أنه يجب شرعا ، بل هو من أهم واجبات الدين ، أن يُبَيَّن للمسلمين خطر هذه الأحزاب العلمانية والليبرالية ، ويُوَضَّح لهم ما تشتمل عليه من أفكار تهدم العقيدة والشريعة والأخلاق ، ويجب أن يُدعى أصحابُها إلى الإسلام ، ويُكشف لهم حكم الإسلام في حقيقة مذهبهم الذي يعتقدونه ، وأنه مناقض للإسلام تمام المناقضة ، وأن في تركهم له نجاتهم من الهلاك 0
ويجب أن يُدعَون إلى أن يُقِرُّوا بوجوب الإحتكام إلى الشريعة الإلهيَّة في كلِّ صغير وكبير من شئون الحياة ، ولايجوز إقرارهم على أي مبدأ لاينطلق من هذا الأصل الذي هو أصل الدين الأصيل ، وركنه الجليل ، كما قال تعالى ( ثُمَّ جَعَلناكَ على شَريعَةٍ مِنَ الأَمرِ فاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18 وقال ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) المائدة 49 ، وقال (فاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاتَطغَوا إنَّهُ بِما تَعمَلُونَ بَصِير ، وَلاتَركَنُوا إِلى الذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النّارُ وَمالَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لاتُنصَروُن ) هود 112، 113 0
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ، ولم يستجيبوا للداعي ، ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول صلىالله عليه وسلم وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى : ( فإن تَوَلَّوا فَاعلَم أَنَّما يُريدُ اللهُ أَن يُصيبَهُم بِبَعضِ ذُنوبِهِم وإنَّ كَثيراً مِنَ النّاسِ لَفَاسِقُون ، ) اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الاحسان والتوفيق ، أي بفعل ما يرضى الفريقين ويوفق بينهما ، كما يفعله من يروم التوفيق بين ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق ، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ، فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق ) إعلام الموقعين (1/50) 0والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،حسبنا الله ونعم الوكيل 0
حامد عبدالله العلي
الكويت في 23محرم 1422هـ(/10)
البيت الاسلامي السعيد
احبتي في الله
إن البيت المسلم السعيد هو الدعامة الأساسية لقيام المجتمع المسلم الرشيد وإن الأسرة المسلمة الآمنة المستقرة ضرورة لابد منها لصلاح المجتمع وتماسكه وشرط لا مفر منه إذا ما أريد لأمة أن تعز وأن تنتصر وتسود ولهذا كانت عناية الإسلام كبيرة بالأسرة فأقام على الحق والعدل بناءها وثبت بالود قواعدها وقوى بالخوف من الله عُراها .
ولهذا بذل أعداء الإسلام جهوداً مضنية لتدمير الأسرة المسلمة وتفكيك أواصرها ، وسلكوا إلى ذلك سبلاً شتى ، فحرضوا الزوجات على التمرد على أزواجهن، وزينوا للنساء سبيل هجر البيوت
والانطلاق إلى الشوارع والطرقات في ظل شعارات زائفة. ونشأت من جراء ذلك مشاكل لم تكن لتوجد أصلاً لو أن الأمور سارت وفق ما أمر الله .
وعمل أعداء الإسلام كذلك بما يملكون من وسائل الإعلام وغيرها على تخريب علاقات الحب والاحترام بين الآباء والأبناء وبين الأمهات والبنات وبين الشيوخ والشباب تحت ستار مبادئ اخترعوها مثل ضرورة الاختلاف بين الأجيال وما إلى ذلك من الأباطيل والأقوال .
وإذا كان أتباع الباطل جادين في نصرة باطلهم فأولى بأتباع الحق أن ينصروا حقهم، لكن ذلك يقتضي عملاً دؤوبا وجهاداً مستمراً في جميع المجالات وعلى كل المستويات حتى يتحقق الأمل وتجنى الثمار ، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم:4،5].
كيف تتحقق السعادة في البيت ؟
البيت المسلم يتكون من رجل وامرأة جمع بينهما الزواج الشرعي المعلن ، والزواج ـ الذي هو أصل الأسرة في الإسلام ـ تنظيم لفطرة أودعها الله في الإنسان ، به يتميز عن الحيوان ، وهو إشباع لهذه الفطرة بطريقة كريمة تناسب الإنسان الذي كرمه الله سبحانه واستخلفه في الأرض لعمارتها .
يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].
وإذا تصورنا أن عقد الزواج بين رجل وامرأة هو عقد شركة بين طرفين كل منهما كامل الأهلية، فإن كل شركة قابلة للربح والخسارة، تربح إذا نظمت تنظيما سليماً وأديرت إدارة رشيدة وأدى كل شريك واجبة على الوجه الأكمل، وسادتها روح التفاهم والمودة وتوافرت فيها الأمانة والإخلاص بين طرفيها .
يقول الله تعالى في الحديث القدسي : ( أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما ).( رواه أبو داود ).
والإسلام يبغي لشركة الزواج التي تنشأ بين رجل مؤمن وامرأة مؤمنة أن تنجح وتربح وتثمر أطيب الثمرات، ذرية طيبة تجاهد في سبيل الله وترفع راية الحق وتنشر العدل والسلام في الأرض ، ومن أجل ذلك رسم الإسلام طريقاً واضح المعالم ميمون الخطوات .
أولاً : اختيار طرفي الشركة :
وحتى لا نخدع بالمظاهر أو نتأثر بالأهواء فنقع في الخطأ أرشدنا الإسلام إلى الطريقة المثلى لاختيار شريك الحياة .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ". متفق عليه .
فمن استطاع الحصول على امرأة ذات خلق ودين تشاركه الحياة في بيته زوجة صالحة فقد ظفر وانتصر . وذلك لا يعني أن الجمال مرفوض فإن وجوده من أسباب السعادة بلاشك وكذا بقية الصفات المذكورة في الحديث غير أنه ينبغي ألا يكون هو الهدف ، وعليه فيجب أن تتوافر في المرأة مع الدين صفات :
1. الجمال : لقوله صلى الله عليه وسلم : " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه .
2، 3. ـ أن تكون ودوداً ولوداً . لقوله صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الودود الولود" .. رواه أبو داود والنسائي .
4. ويستحب أن تكون قليلة المهر لقوله صلى الله عليه وسلم :" أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً " ( رواه الإمام أحمد والبيهقي )،
5 . أن تكون بكراً لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقد تزوج ثيباً فقال رسول الله صلى عليه وسلم : " هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك " (متفق عليه) .
أما أهم الصفات التي ينبغي أن تتوافر في الزوج فهي الدين والخلق . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه. إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " . (رواه الترمذي وأحمد) .
وقال رجل للحسن : إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها ؟ فقال : زوجها ممن يتقي الله تعالى فإنه إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها .
ثانياً : إدارة الشركة :
لابد لنجاح أية شركة من وجود إدارة تقوم بشأنها وتحفظ أمرها ، وأن تكون لهذه الإدارة صلاحيات البت في كل ما يطرأ من مشاكل أو يستجد من أحوال ، ولا يقبل أبداً أن تترك هذه المسألة دون تحديد واضح لئلاً يتنازع الطرفان الرئاسة ويتجاذبا القيادة فيقع الخلاف وتدب الفوضى ويحل الشقاء .(/1)
وبنظرة موضوعية نتساءل : أي الطرفين مؤهل للقيادة في شركة الأسرة الرجل أم المرأة ؟ لقد أنعم الله تعالى على النساء بقسط وافر من جيشان العاطفة ونبل المشاعر ورهافة الإحساس ، وفي مقابل ذلك أنعم سبحانه على الرجال بنصيب أوفر من حسن التبصر ودقة التفكر وعظيم الروية والنظر في عواقب الأمور دون تسرع أو انفعال ، ولا ينكر ذلك إلا جاحد ومكابر .(هذا هو الغالب المشاهد ولا يعني هذا أن المرأة قليلة التبصر، وأن الرجل خال من العاطفة) .
إن من مصلحة هذه الشركة ومن أجل سعادة طرفيها المؤسسين ومن يعيش في ظلالها من بنين وبنات أن يسلم زمام الإدارة إلى الزوج ، رب الأسرة وعمادها ومثلها الأعلى . وهذا ما جاء به القرآن الكريم وأمر به الله العلي الحكيم بقوله تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )[النساء:34].
دمتم دوما سعداء(/2)
البيع على القوات المحتلة ما لا تتقوى به على حرب المسلمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/مسائل متفرقة
التاريخ ... 15/08/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا مواطنة عراقية، أعمل في مجال إعداد الأزياء الفلكلورية ذات الطابع التراثي والتاريخي، قبل الاحتلال كنت أبيع منتجاتي للعراقيين والأجانب المقيمين داخل وخارج العراق، ويشكل دخلي من عملي هذا جزءًا كبيرًا في معيشتنا العائلية، والحمد لله، بعد سقوط بلدنا العزيز بيد القوات المحتلة عرض علي بعض الأصدقاء ببيع منتجاتي للأمريكان المحتلين عن طريق شركة عراقية، وبعد مناقشة طويلة سألت بعضًا من رجال الدين، وقد حصلت على إجابات متضاربة، وعدت إلى بعض كتب فقه السنة التي استطعت الحصول عليها ولم أجد بها ما يساعدني على اتضاح الصورة غير نهي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عن بيع السلاح في الفتنة، وبعد مناقشة الموضوع مع أسرتي عدت إلى استفتاء قلب،ي وقلت بأن الدول المسلمة وخاصة العربية عاشت سنوات طويلة في ظل الاستعمار، فكيف كان حال الناس وقتها؟ وإن أغلب العاملين الآن في العراق إن لم يكونوا كلهم هم بالتالي يتعاملون مع المحتلين سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة شاءوا أم أبوا، إن ما أحصل عليه من مال هو أصلاً مالنا، فكأنني والآخرين من أمثالي نسترجع جزءًا ولو بسيطًا من أموال العراق المسلوبة. أرجو من سماحتكم أن توضحوا لي موقف ديننا الحنيف في حالتي التي ذكرتها. وبارك الله فيكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
إذا كان عملكِ في الأزياء والتراث الشعبي والتاريخي، فلا شيء عليكِ في ذلك، وكذلك بيعها للكفار المحتلين أو غيرهم؛ لأن تعامل المسلم مع الكافر بالبيع والشراء وسائر العقود الشرعية جائز لا شيء فيه– والحمد لله- فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع المقوقس القبطي ملك مصر، ومع أكيدر أمير دومة الجندل، ومع صفوان بن أمية، وأجرى مع هؤلاء وغيرهم عقود الهدية والهبة والاستعارة وسائر عقود البيع والشراء، وكذلك صحابته، رضي الله عنهم، من بعده، فقد آجر علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، نفسه عند يهودي يسقي له ماء من بئر في كل دلو بتمرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم- جزءًا من حياته في كنف عمه أبي طالب يحوطه ويذود عنه، وهذه الحماية يقصر دونها الطعام والشراب، وإعانة الكفار الممنوعة زمن الفتنة هي ما تتقوى بهم على المسلمين، ولذلك مثَّل له العلماء ببيع السلاح للكفار وقت الفتنة، أي قيام الحرب بينهم وبين المسلمين، ويلحق به بيع الطعام والشراب لهم إذا لم يستطيعوا جلبه إلا من المسلمين، فيحرم بيعهم حينئذ لتوقف حاجتهم له على المسلمين حينئذ.
وعلى هذا فإن عملكِ الأزياء الفلكورية ذات الطابع التراثي والتاريخي لقوات الاحتلال وغيرهم من الكفار جائز لا شيء فيه– إن شاء الله- حيث الأصل فيه الإباحة وليس فيه إعانة أو تقوية للكفار. والله أعلم.(/1)
البيع لمن يحارب المسلمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 18/8/1424هـ
السؤال
هل يجوز لي البيع للكافر الذي يحارب المسلمين الآن؟ إذا كان الجواب لا، فإن الأصل في البيع الحل فلماذا حرم مع التعليل؟.
الجواب
نعم الأصل في عامة البيوع هو الحل، لقوله تعالى "وأحل الله البيع..."، ولكن هذا الأصل إذا طرأ عليه ما ينقضه أو يغيره تغير الحكم إلى ضده، ألا ترى أن البيع بعد الأذان الثاني يوم الجمعة حرام، نص العلماء على بطلانه، أو عدم انعقاده، أخذاً من قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [الجمعة:9]. أي اتركوا البيع بعد النداء يوم الجمعة والأصل في الأمر اقتضاء الوجوب، كما أجمع العلماء على منع بيع العنب ممن علم أنه يتخذ منه خمراً، والله يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: من الآية2].
وما دام الكافر يحارب المسلمين فلا يجوز بيعه ولا الشراء منه؛ لأن في هذا إعانة له على حرب المسلمين، وفعل هذا من الإثم والعدوان كما نصت عليه الآية، فالعلة من تحريم مبايعة الكافر الذي يحارب المسلمين ليست هي الكفر، ولكن العلة المانعة من ذلك هي محاربته للمسلمين، فإذا كف أذاه عن المسلمين وقتالهم جازت مبايعته، ورجع الأمر إلى الأصل، وهو الإباحة، وهذا هو معنى القاعدة الأصولية عند العلماء (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً).
وخلاصة القول: لا يجوز للمسلم أن يبيع الكافر في زمن الحرب، لأن في هذا إعانة للكفار على المسلمين، ولا يبعد أن يكون هذا الفعل مظاهرة ومناصرة للكفار على المسلمين، ويخشى أن يكون هذا من التولِّي المحرَّم في الآية "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [المائدة:51] والله أعلم.(/1)
التآمر الصليبي على بلاد المسلمين
الشيخ عباس الكوراني
لم يكن الكيد للدين الالهي من قبل أهل الضلال شيئاً غريباً، ذلك أنّ الذي يضلّ عن الصراط المستقيم يتربّص الدوائر بأهل الايمان وينصب لهم الشباك ليرميهم فيها، وما زال الصليبيون يضعون الخطط عبر التاريخ للوقيعة بالمسلمين منذ أن استيقظوا على الحضارة الاسلامية وهي تبسط ظلالها على جميع أنحاء العالم الى يومنا هذا، ولئن كان ذلك في الازمان السابقة خفيّاً وبعيداً عن الانظار فإنّهم اليوم أصبحوا يصرّحون بحقدهم الدفين.
وما تخفي صدورهم أكبر.
كان أعداء اللّه ومازالوا يتصرّفون في بلاد المسلمين وكأنّهم هم أصحاب الحق الطبيعي فيها.
وهناك وثائق تظهر الاساليب والجهات التي كانوا يركّزون جهودهم عليها ومن جملتها المحاضرة التي ألقاها المستر (كيردتر) في مؤتمر رجال الكنيسة العاملين في البلدان الاسلامية، وذلك في مطلع القرن الحالي (عام 1909م) في أدنبرة/ بريطانيا.
وهذه الوثيقة وإن كانت قديمة نسبياً إلاّ أنّها تضع أمامنا صورة واضحة عن الاساليب التي يستعملها أعداؤنا للسيطرة على العالم الاسلامي، وتنبّهنا الى مواطن الضعف والثغرات التي ينفذ من خلالها أعداء اللّه إلى مجتمعنا الاسلامي.
والذي يطّلع على هذه الوثيقة يجد فيها الاُمور التالية:
1 ـ إنّ فكرة تنصير العالم الاسلامي وإدخاله في متاهات الحضارة المادية شيء مفروغ عنه عند أرباب التبشير.
2 ـ إنّ التعليم والتثقيف هو الاساس الذي يبني عليه الفكر التنصيري كل آماله لبسط نفوذه في أوساط المسلمين.
3 ـ إنّ الهدف الذي رسمه أرباب التنصير هو السيطرة على العالم الاسلامي مهما كلّفهم ذلك من ثمن.
4 ـ إنّ أعداءنا لا يألون جهداً في استعمال كل الاساليب التي توصلهم إلى أهدافهم.
5 ـ إنّهم في نشاط وتخطيط مستمر لخلق أساليب جديدة تحفظ لهم التفوّق الدائم على ا لمسلمين في كلّ عصر وفي كلّ مكان.
6 ـ إنّ أرباب التبشير يرصدون التحرّك الاسلامي بدقّة متناهية، ويحرصون دائماً على خنق أيّ فكرة تمدّد للاسلام حتى لو كان ذلك بين المسلمين.
7 ـ إنّهم يتصرّفون على الارض وكأنّهم أصحابها الاصليون، وباقي الناس أو المسلمون بالخصوص هم ميدان نشاطهم التبشيري.
8 ـ إنّهم يعتبرون أنّ الاسلام هو دين وثنيّ وهم أصحاب الدين الالهي الذي يجب أن يبسطوه على كلّ أنحاء العالم الاسلامي.
9 ـ إنّ الاسلام عندهم مشكلة مزمنة وفعلية تضغط على أعصابهم دائماً ويتحرّكون لحلّها انطلاقاً من كون خطرها محدقاً بهم حالياً وبالفعل.
10 ـ إنّهم يعتمدون في أعمالهم على كشف الواقع والتخطيط المبرمج لتنفيذ مخططاتهم المرسومة، ومتابعة كلّ ذلك بشكل مستمر.
11 ـ إنّ الحرية التي تصبو إليها الشعوب الاسلامية هي إحدى منطلقاتهم للتحلّل من الدين، والتي تجد لها رواجاً كبيراً بين الشباب ومختلف الطبقات.
12 ـ إنّ الصحافة هي أحد أعمدة النشاط التبشيري في العالم الاسلامي.
13 ـ الاستفادة من عامل الثأر الذي يعتمل في نفوس المسيحيين الذين جرت حروب بينهم وبين المسلمين كالارمن مثلاً.
14 ـ الاحتلال العسكري هو أحد أساليب بسط الفكر التنصيري في أراضي المسلمين.
15 ـ من جملة الاساليب التي يستعملها أعداؤنا الاُمور التالية: زيادة المبعوثين إلى البلدان الاسلامية.
المحاورات بينهم وبين شخصيات إسلامية.
توزيع النشرات والاناجيل.
البعثات الطبيّة.
مدارس البنات والبنين.
المناداة بالمساواة بين الاديان.
16 ـ العمل على زيادة النشاط التبشيري في أي مكان ينشط فيه العمل الاسلامي لمواجهته.
17 ـ إنّ إعطاء المنح الدراسية في الجامعات هو أحد توصيات هذه الوثيقة التي تعتبره ضرورياً للعمل التبشيري.
18 ـ توصي هذه الوثيقة أن يركّز المبشّرون على خطّين في مصر وهما:
(جامع الازهر) وتعبّر عنه بالمركز الديني التقليدي الفلسفي.
وثانيهما: النهضة الاسلامية الحديثة التي تؤثّر على الشباب.
19 ـ إنّ الشخصيات الاسلامية المؤثّرة مثل الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رضا صاحب جريدة (المنار) تقع مورد اهتمام زائد من قبل المبشّرين ويركّزون على محاربتهم وتطويق أعمالهم بقوّة.
20 ـ الجامعات ودور العلم وهي من أهمّ الوسائل التي ينفذ من خلالها التبشير الى أوساط الشباب والمجتمعات الاسلامية.
وبعد ذكر هذه النقاط التي تحتويها الوثيقة نوردها نصّاً ليقف المسلم الغيور على كيد الاعداء منذ أربع وثمانين سنة، وكيف به الان وفي نهاية القرن العشرين وبعد أن سقطت إحدى القوتين العظميين وبقيت القوة العظمى الاخرى التي مافتئت تقف وراء إذلال الشعوب الاسلامية والسيطرة عليها للاستمرار بامتصاص دماء شعوبها، والوثيقة تحمل عنوان:التغيّرات الطارئة على العمل التبشيري في الاراضي المحمدية:
«حضرات السادة: الرئيس، الاباء والاخوان (القساوسة).
السؤال المطروح هذا اليوم لا يتمثل في أين نجد الدليل على الحركة التحديثيّة في بلاد المسلمين، بل أين لا نجد مثل هذا الدليل.(/1)
نحن لا شكّ على علم تام بالحركة التحديثيّة الناشطة في الوسط الاسلامي في كل من تركيا ومصر وبلاد فارس والهند.
فجميع هذه الدول قد تأثرت بالافكار الاوربية، وقد تشكّلت فيها منظمات فكرية وسياسية.
وأثّرت هذه المنظمات بشكل مباشر أو غير مباشر على العقائد الدينية.
غير أنّ هذه الدول ليست هي الوحيدة من دول الاسلام المتأثرة بأفكار الغرب، ففي روسيا ونتيجة لاطلاق الحريات الدينية في 17 نيسان عام 1905م، وكما أعلمتني سيّدة روسية قامت بدراسة خاصة أنّ ما يزيد على 50000 من اتباع الكنيسة اليونانية عادوا الى اعتناق الاسلام، وقد تبعهم آخرون اعتنقوا هذا الدين لاول مرّة.
لاشكّ في أنّ مثل هذا الحدث سوف يحفّز «المحمديين» في روسيا الاوربية، في الفولغا في أواسط آسيا وحتى سيبريا حيث الافكار تسري بسرعة مثل التيار الكهربائي، وخاصة عندما تكون وسيلة النقل الجديدة: السكّة الحديدية، فالقطار عبر قزوين سوف يتّجه نحو روسيا وتركمانستان ثمّ الصين التركية وسوف ينقل الافكار الاسلامية، وهكذا تعود الخطوط التجارية التاريخيّة عبر وسط آسيا نحو الصين لتصبح العصب المنظّم والجهاز العضوي الاكثر فاعلية مما كان عليه قبلاً.
إذاً فدورنا الان يجب أن يتركّز في الصين.
وإذا كانت هناك دولة واحدة في العالم المحمدي ممن لا يتأثّر بالعالم الخارجي فهي الصين، والنموذج الصيني المسلم ليس من النوع الذكي، ومع ذلك فقد سمعنا بانتقال بعثة تركية مسلمة الى الصين لتقوم بدور التبليغ لاوّل مرة.
وأكثر ما يثير العجب أن يقوم ثلاثون طالباً صينيّاً من الذين يدرسون الاراء الغربية في جامعة اليابان، بتحرير مجلة فصلية باسم:
«أيّها المسلمون استيقظوا» وتوزّع هذه المجلة في عموم بلاد الصين، وعندما ننتقل الى ماليزيا حيث السفينة التجارية تقوم بمساعدة الاعداد المتزايدة من أهالي جاوة وسومطرة وجزر الهند الشرقية في التوجّه نحو مكّة لاداء فريضة الحج، وحيث يتعاظم بذلك تثبيت جذور الاسلام في هذه الدول، ومن ثمّ يصعب القضاء عليه، ونتّجه بعد ذلك نحو الجزيرة العربية نفسها حيث هناك قبر النبي في المدينة، وحيث تتردد صفارات القاطرات.
ومن الجزيرة العربية وبشكل غير مباشر جاءت أعظم حركة للسنوسيين إن لم تكن أحدثها، والتي يمكننا أن نلمس آثارها بسهولة في السودان وفي بحيرة تشاد وأقصى أطراف حوض الكونغو.
ومن جانب آخر فإن الحركة الاسلامية الممتدة بشكل مرعب في إفريقيا أساساً هي ردّ فعل لما قامت به الحكومات الاوربية (الاستعمارية) التي وضعت مؤسسات حكومية من النيل وحتى زامبيا، وأضعفت بذلك الروابط القبلية، وهيّأت مئات الاقنية لتوغّل الاسلام بشكل هادئ، وسنجد بعد قليل أنّ الاسلام هو هدية السماء لوحدة إفريقيا، والمعبّر الحقيقي عن الجنس الافريقي، وسوف يحصد المسلمون الجهود التي بذلها نصارى الحبشة.
إنّ هذه النظرة السريعة تؤكّد لنا ـ حتى من وجهة نظر الحركات التحديثيّة ـ مشكلة الوجود المحمدي الممتد في كامل العالم الاسلامي، وسوف اُقدّم في هذا المؤتمر العظيم ملاحظة أولية: إنّ مشكلة الاسلام هذه لا يمكن تجاوزها حتى في الظروف الاضطرارية التي لا يمكن وصفها، والتي تواجهنا في الشرق الاقصى.
والسبب أنّ الاسلام الان يقف على أعتاب دورنا من أقصى الساحل المغربي حيث يلامس حدود أوربا وحتى أعمدة هرقل ومدينته القسطنطينية.
إنّ هذه المشكلة هي مشكلتنا المركزية.
لنفكر بهذه الكتلة العظيمة من دول منطقة البحر المتوسط من شمال إفريقيا غرباً وحتى أواسط آسيا شرقاً سنجدها جداراً لا يمكن زحزحته، يمنع الغرب المسيحي من الوصول الى قلب الشرق الوثني.
أيّها الاباء والاخوة: تذكّروا حتى عندما تُحل مشاكلنا مع اليابان أو الكوريين أو المنشوريين أو الصينيين أو الهنود فإنّ الازمات الحالية يمكن تجاوزها، وعندما يلتقي نصارى الشرق الاقصى مع الكنيسة الكاثوليكية فإنّ الكتلة الضخمة المعادية سوف تشطر دولة الغرب النصراني الى شطرين، وتفصل بين التوأمين، وتعزل أحدهما عن الاخر، ولن تقيم خطاً عازلاً ممتداً بين الربّ والانسان فحسب، بل سوف تسبّب شرخاً في بنية الكنيسة الكاثوليكية العظيمة الخالية من الشروخ، والذي يتمثل بوجود المسلمين هناك، ويمكن كسبه الى جانب المسيح، وعليه لا يمكننا تأخير حل مشكلة الاسلام.
إنّها مشكلة كل يوم كما ترون فلنجعل هذا اليوم نفسه يوماً للحل والانعتاق.
إنّ واجبي أن أوضّح لاتباع الكنيسة القادمين من جميع أنحاء العالم الاوضاع العامة في ضوء الحركات التحديثية داخل بلاد المسلمين.
إنّ هدفنا الموحّد هو: اتخاذ الاجراءات الى أقصى حد في ضوء «المصادر المتوفرة لدينا» حيث يمكن بذلك فهم الواقع لتحقيق أهدافنا.(/2)
إنّ المصادر المتوفرة لدينا يمكن تفسيرها بوجهين، وعلينا أن نحتفظ في أذهاننا بهذين التفسيرين، ففي المعنى الضّيق، هذه المصادر غير كافية لمعالجة الواقع، غير أنّها ـ من دون شك ـ موزّعة بشكل حكيم واقتصادي ومستغلّة بشكل جيد.
ومن جانب آخر في متناول أيدينا مصادر الاله الحي، وهذه الفكرة تجعلنا نتذكر دائماً أثناء هذا المؤتمر الدرس الاساس وهو الفهم الجديد «للاله الحي» الذي سوف يساعدنا في انجاز هذا العمل العملاق.
ليس لدينا الوقت الكافي لانّ نوضّح أين تتركز الازمة اليوم.
شعارنا اليوم: «العمل بحكمة»، وفي هذه القاعة وحول هذا الموضوع أؤكّد على هذا الشعار: «العمل بحكمة».
لنبدأ من «الامبراطورية العثمانية» حيث نجد هناك حركة يمكن وصفها بشكل كبير بالتوجّه نحو الحرية.
الحرية السياسية والحرية الثقافية.
انّ حركة مزدوجة من هذا النوع سوف تؤثّر بالتأكيد على الدين وإن كان بشكل بطيء.
فالتوجّه الداخلي للجيل التركي الجديد نحو التسامح الديني يسير بشكل جيد.
الحقيقة الوحيدة هنا:
أنّ المسيحية والمسيح الى حد بعيد متوغّل في عمق حركتهم، وسوف تأتي بنتائج مهمة، وها هي حرية الصحافة في معظم أنحاء الامبراطورية العثمانية وخاصة سوريا قد حققت نتائج جيدة، وها هم قادة الفكر الاسلامي يقعون في الحيرة بعد أن وجد بعضهم في القرآن الكثير من تعاليم المسيح.
أليست هذه الحقيقة جديرة بأن تجعلنا نناشد الجمعيات العاملة في الامبراطورية لكي تكون نشطة ومستعدة لجني الثمار واستغلال الموقف الى أقصى حد؟ هل سيأتي ذلك اليوم الذي يثأر فيه الارمن الذين تحمّلوا وصبروا، لشهدائهم؟ يجب أن يأتي ذلك اليوم بالتأكيد مادام هناك إله في السماء! ولذلك فإنّ الخطوات التالية تبدو ضرورية: 1 ـ تقوية العمل الناجح والرائع الذي تمارسه الكنائس الشرقية في الامبراطورية العثمانية.
2 ـ احتلال المناطق التي لا توجد فيها الجمعيات التبشيرية كما هو موضح في تقرير بعثة التبشير رقم (1).
3 ـ تعزيز الاعمال الادبية بشكل قوي ومؤكّد.
4 ـ الضغط المنظّم والمستمر على الحكومة العثمانية لاعطاء المساواة الدينيّة الكاملة والحرية في الامبراطورية العثمانية.
5 ـ العمل بحكمة وحذر واستمراريّة في أوساط المسلمين.
وفي مؤتمر كنسي عام عقد مؤخراً في بيروت وحضرته بنفسي استمعنا الى تقارير بعثات التبشير الواحد بعد الاخر حول الاعمال المنجزة.
وقد عبّر المؤتمرون في نهاية المؤتمر عن وجهة نظرهم بالشكل التالي:
1 ـ العمل التبشيري المستمر منذ عدّة عقود ـ سواء في سوريا أو فلسطين ـ هو اليوم ممكن أكثر من أي وقت مضى سواء عن طريق الزيارات، المحاورات، توزيع النشرات التبشيرية والاناجيل، البعثات الطبية ومدارس البنين والبنات.
2 ـ إنّ إعلان الدستور وخاصة في أوساط المتنوّرين قد سهّل عمل التبشير المباشر، وبموجب مبادئ الدستور حول المساواة بين الاديان سوف يزداد سهولة.
ومن جانب آخر نحن نقف اليوم وجهاً لوجه مع الاحياء الثقافي والديني المحمدي مما يستوجب زيادة العمل التبشيري.
3 ـ من الضروري وضع خطة حكيمة وسريعة تطبّق بدقّة للنشاط في الوسط الاسلامي في سوريا وفلسطين.
إنّ واجب جميع المنظمات الكنيسية أن تبدأ الخطوة الاولى في هذا الاتجاه.
أيّها الاباء والقساوسة: شعارنا «العمل بحكمة».
والان نصل الى مصر حيث هناك حرية دينية واسعة تجعل العمل الاسلامي المباشر غير محدد.
أصبحت القاهرة اليوم مركزاً للنشاط الفكري للاسلام.
وهي هكذا منذ سقوط بغداد والحكم العباسي.
عند هذه النقطة يجب التأكيد على ضرورة زيادة النشاط التبشيري دون تأخير، وأعني الزيادة في الكمية والنوعية عن طريق إعطاء المنح الدراسية للعاملين في العالم الاسلامي وخاصة في مناطق التنوير (الجامعات).
يجب أن تركّز هذه الدراسة على خطّين رئيسين حيث يمثل مسلمو القاهرة هذين الخطين:
الاول: هو المركز الديني التقليدي والفلسفي الذي تمثله جامعة الازهر.
والثاني: هو الحركة التحديثية التي تؤثر قليلاً أو كثيراً بكل الشباب المسلم الذي ـ كما ذكرت ـ يحاول أن يتجاوز الانجاز الاسلامي التاريخي ويفكّر بسياسة جديدة ومفهوم ديني وفلسفي جديد للقرآن، ولا يهتم بأيّ تراث مهما كان! هذه الحركة واضحة جداً في الهند ولها موقع ثابت في القاهرة حيث الشيخ محمد عبده يعمل ويجمع حوله الطلبة المؤيدين له.
أحد طلابه محرر جريدة «المنار» يحاول أن يؤسس في اسطنبول جامعة دينيّة سوف يذهب طلابها بعد التخرّج للتبشير بالاسلام في أقاصي المشرق.
وهكذا ترون أنّ الاهداف الجديدة للاسلام هي الانتشار والتبليغ، وكلا الخطين يتطلّبان قوّة في التبشير وسط طلاب الجامعات وبعدد أكبر ومستويات جامعيّة أعلى مما هي عليه الان.
واذا كانت الدراسة الاسلامية التقليدية قد اضمحلّت ـ وهذا احتمال ينتظر البرهان ـ فلا نقاش هناك في أنّ تدهور وضع الازهر وتأثيره خارج مصر ليس إلاّ ظلاًّ لما كان في السابق.(/3)
ومع ذلك فإنّ الدراسة التقليدية الاسلامية هي السائدة وسط الجماهير (المحمدية) الواسعة في العالم، وتبقى هذه الجماهير ذات استعدادات ضخمة! وعليه فالدراسة التقليدية بحاجة الى طلبة بشكل مستمر ومتزايد، وهؤلاء يجب أن يضيفوا إلى برامجهم مهمّة المراقبة والدراسة والالتقاء مع الاسلام الجديد ومع تناقضاته المتعددة! ولا أدري أين يجب أن تتم مثل هذه الدراسة في العالم العربي فيما عدا القاهرة! من الضروري إذاً تأسيس جامعة عربية تكون في خدمة التبشير في جميع أنحاء العالم الاسلامي.
أقول ذلك دون تحامل على الجامعات الاستشراقية والدورات التعليمية في بلادنا.
فهذه ولا شك مشاريع لها أهميّتها غير أنّ مهمّتها تكميلية ومساعدة لما اريد الاشارة إليه.
وعليه يجب أن تؤسس هذه الجامعة في القاهرة وعليكم التفكير بذلك حالاً(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجلّة الطاهرة، العدد 41 ، 1413 هـ ـ 1993م.(/4)
التأصيل الشرعي للدعوة في المجال الطبي
د.عصام بن عبد المحسن الحميدان الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران 20/10/1424
14/12/2003
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد:
فإن الدعوة إلى الله تعالى من أشرف المهمات وأوسع طرق الخير ، قال سبحانه ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) [فصّلت : 33].
وشرَّف الله تعالى رسوله بهذه المهمة ، فقال: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف : 108 ]
ولمعرفة الحكم الشرعي للدعوة في المجال الطبي ، وفضلها ، وأساليبها ، لا بدّ من بيان بعض المقدمات:
الأولى :أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم كان طبيباً للقلوب والأبدان ، فقال سبحانه (وننزِّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين) [الإسراء : 82] ، وقال ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور ) [ يونس : 57].
وقد عالج النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم أدواء الناس النفسية والجسدية والعقلية . وانظر كتب الطب النبويّ لتجد الأمثلة الكثيرة على علاجاته عليه السلام.
وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم قدوة للناس جميعاً كما قال سبحانه (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21].
فإنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم قدوة للأطباء على وجه الخصوص ، لأنه قام بمهمتهم ولو على نحوٍ ما.
ولذا يذكر الأطباء المسلمين القدماء في صدر كتبهم من أسباب شرف مهنة الطب أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم قام بها ولو على نحوٍ ما.
ومن الأنبياء الأطباء أيضاً إدريس عليه السلام (اسمه في التوراة خنوخ ولقبه هرمس): ذكر أنه أول من تكلم في الطب ، فإن صحّ هذا كان إمام الأطباء الدعاة. ( إخبار العلماء بأخبار الحكماء لابن القفطي: 2 ، طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل :5).
الثانية : أن الطبيب المسلم هو أحد المكلَّفين والمخاطبين بالتوجيهات الربانية والنبوية ، وكل أمرٍ أو نهيٍ في كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم فإنها تتناوله ، ومنها الدعوة إلى الله تعالى ، فالطبيب عندما يقوم بها فإنه ينفِّذ التوجيهات الموجَّهة إليه كمسلم قبل أن يكون طبيباً.
وكما يتم الالتزام بشرف المهنة وأخلاقياتها ، فإنه يلتزم بالتوجيهات الربانية من باب أولى.
الثالثة :أن وجود المتخصصين في طب الأبدان واجب كفائي ، وثوابه عند الله تعالى عظيم إذا خلصت النية ، قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني :" فرض الكفاية أفضل من فرض العين لما فيه من نفي الحرج عن الغير"(الأشباه والنظائر لابن الوكيل:1 /112).
وقد خصص صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم بعض الأطباء والطبيبات من الصحابة للقيام بهذا الواجب.
وأرشد باستشارة بعض الأطباء كالحارث بن كلَدة الثقفي طبيب العرب، فأرشد سعد ابن أبي وقاص أن يأتيه كما روى ابن إسحاق (إخبار العلماء بأخبار الحكماء لابن القفطي: 112، وطبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل : 54).
فالطبيب قائمٌ على ثغرةٍ من ثغور الدين ، فإن الفقهاء ذكروا أن الضروريات التي فرضها الله تعالى على العباد خمس ، وعليها قام الدين ، وهي :
حفظ الدين ،وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ المال ، وحفظ العرض .(الموافقات للشاطبي:1 / 38، 3 / 46).
ففي الطب حفظٌ للنفوس ، وللعقول بعلاجهما ،وحفظٌ للأعراض بالتحذير من الأمراض، وكشف الاعتداءات الجنسية ، وحفظٌ للدين؛ لأن الدين لا يقوم إلا بنفوس العقلاء.
الرابعة: أن المرض قدَر الله تعالى على عباده يبتليهم به ، فمنهم من يصبر ومنهم من يجزع، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم بالتداوي ، فقال :" ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله "(رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه).
فمن واجب الطبيب أن يقدِّر اختلاف الناس في استقبال المرض ، ويعامل كلاً منهم بما يناسبه.
لماذا أدعو ؟ :
* لما لها من فضل وشرف : قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " (رواه البخاري ومسلم عن سهل الساعدي رضي الله عنه).
وقال ابن القيم : الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة . والعالم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر مخالطته للناس وتعليمهم ، ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح (المنطلق للراشد).
#(/1)
لأنها فرض : وهذا يقودني إلى بيان حكم الدعوة إلى الله تعالى ، وقد ذكر أكثر العلماء أن الدعوة إلى الله تعالى فرض كفاية ، وهنا نحتاج إلى أن نوضِّح معنى فرض الكفاية في حق المكلَّفين بالدعوة : قال الشاطبي :" قد يصح أن يقال إنه – أي فرض الكفاية – واجبٌ على الجميع على وجهٍ من التجوُّز ؛ لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدِّها الجملة ، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها ، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين ، فمن كان قادراً على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر ، وهو إقامة القادر وإجباره على القيام بها من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " (الموافقات : 1 / 178)، والحقيقة أن الكفاية لم تتحقق حالياً بإقامة الدعوة إلى الله تعالى من قبل الدول والهيئات والأفراد ، بدليل أننا نرى كثيراً من المسلمين يتنصرون ويضلُّون بسبب الدعوات الدينية المختلفة التي تنتشر بينهم.
وأيضاً : فإن كثيراً من المسلمين في بقاع الأرض لا يزالون يطالبون بقدوم الدعاة إليهم ، ولم يقم المسلمون بإجابتهم.
وأيضاً : فإن كثيراً من الدعاة القادرين على الدعوة ليس لديهم من المال ما يكفي للقيام بنشر الدعوة ، ولو توفَّر المال الكافي لبعض الدعاة والمؤسسات الإسلامية الدعوية لتحوَّل حال العالم !
فإنه لا يوجد حالياً قناة فضائية إسلامية دعوية تقوم بها الكفاية وتخاطب العالم بلغاتٍ مختلفة ، ولا يوجد المال الكافي لنشر الإسلام في ربوع أفريقيا المتعطشة بالرغم من وجود الدعاة ، ولا يوجد الاهتمام الكافي لصدّ هجمات التنصير عن المسلمين في إندونيسيا وروسيا وشرق أوربا.
وبالمقابل نقرأ عن جهود المنصرين في العالم:
قال د. عبد الرحمن السميط :" في مدينة غارسيني في كينيا يوجد 8 كنائس بينما لا يوجد شخص واحد من سكان المدينة الأصليين غير مسلم ! " (رحلة خير في أفريقيا : 37).
وقال :" من الأمور التي تأثرت بها عند زيارتي لمركز إغاثة من المراكز الأوربية أني رأيت فتاة تدير هذا المركز في ريعان شبابها لم يتجاوز عمرها الرابعة والعشرين ، وعندما سألتها عن سبب وجودها هنا ، ذكرت أنها تقوم بأعمال الإغاثة والإشراف على المركز ، فسألتها : أين كانت من قبل ؟ فذكرت أنها كانت في جنوب السودان في منطقة أكثر صعوبة بكثير من عملها الآن ، بدون كهرباء ولا ماء ! فيها الكثير من البعوض والحيوانات المفترسة وخشونة طباع الناس ، فسألتها : لماذا هي هنا ؟ فقالت : من أجل الخدمة الإنسانية.وهي لا تتلقى إلا راتباً بسيطاً جداً كمصرف جيب " (رحلة خير في أفريقيا : 80).
وأضيف بعض الإحصائيات ( أخذت من مجلة الكوثر ):
-المتفرغون للعمل الكنسي البروتستانتي ( 525 ) مليون شخص.
-المتفرغون للعمل الكنسي الكاثوليك في أمريكا ( 6063 ) شخص.
-دخل الكنيسة في شمال أوربا وأمريكا ( 200 ) بليون دولار أمريكي.
-محطات الإذاعة والتلفاز المملوكة من قبل الكنسية (3400) محطة.
#
لأني محتاجٌ إلى تثبيت نفسي : فبالدعوة يتشجع الإنسان على الثبات على الالتزام ، والحرص على الفرائض والنوافل فيكون رقيباً على نفسه قبل الآخرين.
#
لأن الفساد منتشر : قال د. عبد الرحمن السميط :" ما أسرع ما يتحمس شبابنا لسماع محاضرة أو شريط ولكن ما أسرع ما يفتر الحمال ، بل حتى أولئك الذين جاءوا وزاروا أفريقيا ورأوا بأم أعينهم ما يمكن أن يفعله الإنسان هنا وعاهدوا الله أمامنا أن يجعلوا تحسين أحوال إخوانهم في أفريقيا همهم الأكبر ، لم يستمروا في حمل هذا الهم سوى فترة قصيرة ، فنحن شعوب عاطفية ، ولو توفر لنا بعض المسلمين الذين ينذرون أنفسهم وحياتهم للدعوة في أفريقيا أو لدعم الدعوة هناك كما يفعل أصحاب الديانات الأخرى لانتشر الإسلام في كل قرية من قرى أفريقيا ، ففي الوقت الذي يوجد فيه حولي 4 ملايين مبشر مسيحي متفرغ لنشر دينهم ، أتساءل عن عدد الدعاة المسلمين المتفرغين " (رحلة خير في أفريقيا : 24).
ويقول أيضاً :" سألنا أحد المبشرين إن كان قد نجح في عمله ، فقال : نعم . فقلنا له : كم مسلماً نصَّرت ؟ قال : أنا هنا منذ عشر سنوات ، وقد استطعت تنصير طفل صغير . فقلنا له : ألا تعتبر هذا فشلاً ؟ قال : بالعكس أنا أعتبر أن ما عمت به منتهى النجاح ، إذ أن العمل في وسط المسلمين ليس سهلاً كما يتصور الآخرون " ( رحلة خير في أفريقيا : 55).
#
لأن فرص الدعوة متاحة للطبيب أكثر من غيره ، فإن أكثر الناس يفتحون أسماعهم للطبيب في كل ما ينصحهم به . وهذا يوجب على الطبيب أن يستفيد من وضعه الاجتماعي في الدعوة إلى الله.
كيف أدعو ؟ (أساليب الدعوة ):
الدعوة القولية:
المباشرة : وهي النصيحة ، ولها آداب :(/2)
الأول : أن يتأكد من توثيق الكلام الذي يقوله للمنصوح ، قال تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) – البقرة : 111 - ، وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " المتشبِّع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور " ( رواه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ).
الثاني : أن لا يخالف نصيحة نفسه ، قال تعالى ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) – الصف : 3.
يا أيُّها الرجل المعلِّمُ غيرَه ... ...
هلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ
تصف الدواءَ لذي السِّقام وذي الضَّنى ... ...
كيما يصحّ به وأنت سقيمُ
ونراك تُصلِحُ بالرشاد عقولنا ... ...
أبداً وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهَها عن غيِّها ... ...
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُسمَع ما تقول ويشتفى ... ...
بالقول منك وينفع التعليم
لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... ...
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم
الثالث : مراعاة حال المنصوح : قال عليّ رضي الله عنه " حدِّثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذَّّبَ الله ورسوله " ( روه البخاري ).
* أمثلة على من يمكن نصيحتهم :
- المتبرجة.
- لابس الذهب من الرجال.
- المدمن.
- غيرالمصلِّي .
غير المباشرة : كالكتاب ، الشريط ، الملصقات.
الدعوة العملية :
أهميتها : قال د. عبد الرحمن السميط :" عملنا وسط قبيلة اللوكو المسيحية في سيراليون بالعمل الطبي دون دعوة كلامية ، فتأثروا بأطبائنا وسألوهم عن الإسلام واقتنعوا به ، وأسلم اثنان من زعماء القبيلة وأسلمت غالبية القبيلة ، وارتفعت نسبة المسلمين فيها خلال سنة ونصف من 5 % إلى 60 % ، وقمنا ببناء مركز إسلامي بينهم ، يضم مدرسة ومستوصفاً ومسجداً وداراً لتدريب النساء ، وأرسلنا زعماء القبيلة للحج فتأثروا جداً ، وعادوا وكلهم نشاط للدعوة للإسلام " ( رحلة خير في أفريقيا : 26 )
1 - حسن الاستقبال والتوديع : عن جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت : نذير قوم أتاهم العذاب ، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت أطلق الناس وجهاً ، وأحسنهم بشراً . حسنه الهيثمي.
ومن حسن الاستقبال والتوديع الدعاء الصالح له ، ومنه ما ورد في الأحاديث:
#
" أذهب البأس ربَّ الناس ، واشفِ أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاءك ، شفاءً لا يغادر سقماً " ( رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ).
#
" اللهم اشف عبدك ، ينكأ لك عدوّاً ، أو يمشي لك إلى صلاة " ( رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد صحيح ).
#
" أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك " (رواه الطبراني عن عليٍّ رضي الله عنه بإسناد حسن).
#
أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد من شر ما تجد " ( رواه الطبراني عن عثمان رضي الله عنه بإسناد حسن ).
، ويتذكر الطبيب أنه في عيادة مريض ، وعيادة المريض لها أجر عظيم ، قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم :" من عاد مريضاً شيّعه سبعون ألف ملك كلهم يستغفر له إن كان مصبحاً حتى يمسي ، وإن كان ممسياً حتى يصبح ، وكان له خراف في الجنة " ( رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بإسناد صحيح).
2 - إتقان العمل : قال تعالى ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [ البقرة : 195 ].
وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " ( رواه البيهقي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بسند حسن). .
، وقال " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " ( رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن شداد بن أوس رضي الله عنه ).
والناس يحبون من أحسن إليهم واجتهد في علاجهم وإرشادهم ، ويدعون له ، فإذا كانت سيرته حسنة ، والتزامه ظاهر انعكس ذلك على نظرتهم للدين ، وللمتدينين ، وحرصوا على الاقتداء بهذا الطبيب.
والنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم عندما بدأ دعوته إلى الله ، كانت الدعوة الجديدة غريبةً على المجتمع المكّي ، وكان يمكن أن تفشل ، لولا أن سيرته الحسنة كانت مسانداً له ودافعاً لكثير من الناس لاتباعه ، وذلك واضح في حديث هرقل مع أبي سفيان كما في صحيح البخاري.
3 - العلاقات الحسنة : قال فتحي يكن : إن الداعية بحق هو الذي يعيش لغيره لا لنفسه ، وتهمّه سعادة غيره ولو على حساب سعادته هو.
ويضيف : كان أحد الدعاة الموفقين الذين يتقربون إلى الله بصبرهم على متاعب الآخرين ، وكان له قريب مدمن الخمر مدفوع بالأبواب منبوذ من كل أحد.
فزار الداعية يوماً ، ففتح له قلبه وبيته وأكرمه ، واعتاد هذا المخمور التردد عليه أسابيع حتى صلح حاله واهتدى إلى الله.(/3)
ثم مرض الداعية وأدخل المشفى للجراحة ، فرابط المهتدي عنده يدعو له ويخدمه ولم يخرج من عنده ، حتى جاء يوماً للدخول ، فمنعه أحد أصدقاء الداعية ، فتشاكسا فصفعه ذلك البوَّاب على وجهه صفعة كانت كافية لأن يعود المهتدي إلى إدمانه وترك طريق الله . ( الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية / فتحي يكن : 29 )
4 – التلطُّف مع الناس : قال تعالى ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم ) [ آل عمران : 159 ].
وعن جابر رضي الله عنه قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم الظهر والعصر ، فلما سلم قال لنا : على أماكنكم . وأهديت له جرة من حلواء ، فجعل يلعق كل رجل لعقة ، حتى أتى عليّ وأنا غلام ، قال : فألعقني لعقة ، ثم قال : أزيدك ؟ قلت : نعم . فزادني لعقة لصغري . فلم يزل كذلك حتى أتى على آخر القوم . ( رواه ابن ماجه بإسناد حسن).
قال إسحاق الرهاوي :" على الطبيب أن يوسِّع خلقه ، ويحتمل من المرضى ضجرهم ، وأي كلام سمعه منهم بغير تحصيل لم يحفل به ، وليس ينبغي للطبيب أن يمنع المريض من كثرة ما يشتكيه، فيظهر ضجراً من ذل\ك ، لأنه ربما أورد في كلامه علامات يستدل منها الطبيب على ما ينتفع به ، ويستشهد بها على صحة مرضه " ( أدب الطبيب للرهاوي : 161).
وأضاف صاعد بن الحسن :" ويكون الطبيب كثير التودد والسلام على من يستحقه ، طويل الروح مبشراً بالخير ضاحك السنّ " .
ونقل عن أبقراط قوله :" أي امرئ أعطاه الله علماً يشفي به المرضى وحباه بذلك ، فبلغ من قساوة قلبه أن لا ينصحهم ولا يشفق عليهم إنه لبعيد من كل خير بعيد من الطب "( كتاب التشويق الطبي : 24 أ ).
قال فتحي يكن : الدعوة ليست منبراً لعرض الأفكار والنظريات ، والداعية ليس مذياعاً يردد الأفكار المجردة فحسب ، بل إن الدعوة والداعية يجب أن ينتقلا نقلة نوعية تجعلهما يعيشان هموم الناس ويحملان بقسط وافر من هذه الهموم.
فعلى الطبيب أن يسلِّي المرضى ببعض الكلمات الرقيقة المخففة للهموم ، فإن الغمّ النفسي للمريض أشدّ عليه من المرض العضوي ، وهذه بعض الأحاديث:
#
دخل النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم على شابّ وهو في السكرات ، فقال له : كيف تجدك ؟ قال : أرجو الله وأخاف ذنوبي . فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم :" لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف " ( رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه وقال النووي : إسناده جيد).
#
وقال تعالى في الحديث القدسي :" من أخذت إحدى كريمتيه ضمنت له الجنة ".
#
و قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم :" ما من مسلم يصيبه أذى إلا حطّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها " ( رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه).
#
وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم :" إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً ، فشغله عنه مرض أو سفر ، كتب الله له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم " ( رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه).
5 – احتساب الأجر : المشاركة في علاج فقراء المسلمين في بلاد العالم ، وتخفيف الأجرة عليهم . ومن الأطباء المميزين في هذا الجانب:
#
أبو جعفر أحمد بن إبراهيم الجزار القيرواني : توفي سنة 369 هـ ، كان لا يأخذ أجراً من أحد ، وإنما ينظر في القوارير ، ثم يصف الدواء ، ويحيل المرضى على غلامٍ له قد أعد بين يديه الأدوية ، فيصنعها الغلام ، حتى لا يأخذ من أحد شيئاً.
ولم يخلد إلى لذة ، ولم يركب إلى سلطان ، وكان يتعفف عن عطاياهم ، وله تآليف في الطب وغيره .( طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل : 88).
#
محمد علي باشا الحكيم المصري : ولد بالمنوفية سنة 1228 هـ ، وقرأ القرآن وتعلم اللغة العربية ، ودرس الطب تحت إدارة كلوت بك الطبيب ، فسبق أقرانه ، ثم أرسله محمد علي باشا إلى باريس لتعلم الطب ، فأتم الدراسة بتفوق وعاد سنة 1253 هـ ، فصار أستاذاً للجراحين والتشريح ، وتوفي سنة 1293 هـ في أثناء خدمته الطبية في الحرب مع الحبشة.
له كتاب : الجراحة ، وغاية الفلاح في أعمال الجراح.
كان محباً لوطنه ، دائباً على نشر العلوم ، غيوراً على الفقراء ، طويل الأناة في معالجتهم ، لا يأخذ عليهم أجراً ( المختار المصون من أعلام القرون / محمد بن حسن عقيل الشريف : 3 / 1822 - 1824 ).
#
د.مصطفى محمود : الذي أنشأ مشفى خيرياً في مركزه الإسلامي بالقاهرة .
6 – التواضع : بيان أن الشافي هو الله تعالى ، فالله تعالى هو الطبيب (وإذا مرضت فهو يشفين ) الشعراء : 80 - وسؤال الله التوفيق ، والتخفيض في الأجر على الضعفاء.
قال الرازي في رسالته :" ينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء ، ورأيت من المتطببين من إذا عالج مريضاً شديد المرض فبرأ على يديه ، دخله عند ذلك عجب ،وكان كلامه كلام الجبارين ، فإذا كان كذلك ، فلا وفِّق ولا سُدِّد.(/4)
ويتوكل الطبيب في علاجه على الله تعالى ، ويتوقع البرء منه ، ولا يحسب قوته وعمله ، ويعتمد في كل أموره عليه ، فإذا فعل ضد ذلك ونظر إلى نفسه وقوَّته في الصناعة وحذقه ، حرمه الله البرء " (أخلاق الطبيب للرازي : 38 ).
7 – احترام الأوامر الربانية : مثل أوقات الصلوات ، ووقت الصيام ، ومساعدة المرضى على ذلك ، وغضّ البصر عن الحرمات ، ومعرفة حدود العورات.
قال إسحاق الرهاوي :" أول الأفعال التي ينبغي للعاقل أن يفعلها بعد قيامه من نومه ونظافة جسمه وحواسه ، هو الصلاة ، فإن الشكر للمنعم والإقرار له بالوحدانية والخشوع بين يديه ، إذ هو العلة لكل خير والقادر على كل فعال من الواجب عقلاً وشرعاً ، وبالتنصل والإقلاع عن العيوب مع نقاء القلوب يمحص الرب الذنوب ، ويجيب الدعوات ، ويوصل إلى كل محبوب ، وذلك يكون في الجزء الأخير من الليل ، ثم يجب على الطبيب أن ينعطف من صلاته إلى قراءة جزء من كتب شرعه إذ هو الآمر له بالخيرات ، والباعث له على الصالحات " ( أدب الطبيب للرهاوي : 160 ).
وسائل الدعوة :
1 – المخيمات الطبية : وممن عمل بهذه الوسيلة من الأطباء : د.أحمد محمد الملط رحمه الله : ولد سنة 1917 م في محافظة الشرقية بمصر ، وحصل على بكالوريوس الجراحة ، وشارك في حرب فلسطين سنة 1948 م ، وحصل على زمالة الجراحين الملكية ببريطانيا ، شارك في تأسيس " الجمعية الطبية الإسلامية " التي قامت بأعمال مشكورة في بقاع العالم الإسلامي ، خصوصاً أفغانستان أيام الجهاد الأفغاني ضد الروس ، وكان يقوم بدور الإصلاح بين المجاهدين إضافة للإشراف على المشاريع الطبية هناك.
واستمرّ في خدمة المسلمين حتى زار المجاهدين المبعدين في مرج الزهور بلبنان ، والمحاصرين في سراييفو بالبوسنة رغم كبر سنِّه ، وتوفي سنة 1995 م بمكة ودفن بها . ( من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة / عبد الله العقيل : 365).
وممن عمل بها د. عادل الرشود الأمين العام لمؤسسة البصر الخيرية العالمية التي تقوم بعلاج أمراض العيون في العالم الإسلامي ، وقد حققوا نجاحات كبيرة والحمد لله في الدعوة إلى الإسلام ، إضافة للعلاج الجسماني.
2 – الرحلات العلاجية : في بلاد العالم ، على غرار ما فعله الدكتور عبد الرحمن السميط في أفريقيا ،
وما يفعله النصارى في منظمة " أطباء بلا حدود " ( MSF ) التي يتنمي إليها 2500 متطوع ، في 80 دولة ، و180 مكتب في العالم ( موقع المنظمة على الانترنت ).
3 – المراكز الإسلامية : كما أسس د.عبد الله الخاطر رحمه الله في بريطانيا المنتدى الإسلامي الذي قام بأعمال جليلة في العالم الإسلامي.
المصادر والمراجع:
1 – أدب الطبيب /إسحاق بن علي الرهاوي – تحقيق د. مريزن سعيد عسيري – نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – الطبعة الأولى 1412 هـ .
2 – كيف ندعو إلى الإسلام / فتحي يكن – نشر مؤسسة الرسالة – الطبعة الثانية 1394 هـ .
3 – الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية / فتحي يكن – نشر مؤسسة الرسالة – الطبعة الأولى 1403 هـ.
4 – أخلاق الطبيب / محمد بن زكريا الرازي – تحقيق د. عبد اللطيف العبد – نشر مكتبة دار التراث – الطبعة الأولى 1397 هـ.
5 – أسس في الدعوة ووسائل نشرها / د. محمد عبد القادر أبو فارس – نشر دار الفرقان – الطبعة الأولى 1412 هـ.
6 – رحلة خير في أفريقيا / د. عبد الرحمن حمود السميط – الطبعة الأولى 1414 هـ.
7 – الموافقات في أصول الشريعة / إبراهيم بن موسى الشاطبي – تحقيق عبدالله دراز – نشر دار المعرفة
8 – الأشباه والنظائر / محمد بن عمر ابن الوكيل – تحقيق د. أحمد العنقري – نشر مكتبة الرشد – الطبعة الأولى 1413 هـ.
9 – كتاب التشويق الطبي / صاعد بن الحسن – تحقيق ونشر أوتو شبيس.
10 – إخبار العلماء بأخبار الحكماء / علي بن يوسف القفطي – تحقيق محمد أمين الخانجي – نشر مطبعة السعادة بمصر – الطبعة الأولى سنة 1326 هـ.
11 – طبقات الأطباء والحكماء / سليمان بن حسان الأندلسي ( ابن جلجل )– تحقيق فؤاد سيد – نشر المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة 1955 م.(/5)
التأصيل الشرعي.. وقاية وهداية
د. مسفر بن علي القحطاني * 3/12/1424
25/01/2004
خرج في الفترة الماضية بعض رموز العمل القتالي والتكفيري في مصر والخليج ليعلنوا رجوعهم عن بعض المقالات والفتاوى المتعلقة ببعض المسائل العظام من تكفير و تفجير ومواجهة للأنظمة.
وكان هذا الرجوع والتغيّر مصدر ارتياح واطمئنان لشعوب ومؤسسات المنطقة مما دعا الكثير لدراسة هذه المرحلة وتقويمها.
وبغض النظر عن فقه المراجعات الذي أعلنه رموز هذا التيار القتالي؛ إلا أنها تعتبر خطوة رائدة نحو الاعتدال وحقن الدماء وعصمة للأمة من الوقوع في الفتن والاحتراب الداخلي.
ولكن ينبغي أن نستفيد من تلك الأحداث والمراجعات دروسًا نتعلم منها ما مضى ونستفيد منها فيما بقي وقاية وهداية لشباب المسلمين من الوقوع في الفتن والانحرافات الفكرية.
وأرى -والله أعلم- أن من أهم الدروس التي يجب أن نهتم بها ونراعيها في ميادين العمل الإسلامي؛ التأكيد على البناء العلمي والفقهي لدى العاملين لدين الله عز و جل، والتأصيل الشرعي لقضايا الأمة ونوازلها الحادثة من خلال قواعد التأصيل والاستدلال التي امتازت بها أمة الإسلام عن باقي الأمم الأخرى فيما يعرف بـ"علم أصول الفقه".
فعلم أصول الفقه -كما قال الإمام الغزالي- من أجلّ العلوم وأشرفها فهو يبحث في أدلة الأحكام وقواعد الاستنباط وكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات ولذلك كانت العناية به جليلة لشرف مقصوده". ويعرف شرف الشيء وقدره بتقدير فقده وتصور ضده. ولو قدَّرنا فَقْد هذه المراسم المرعية والأحكام الشرعية الموضوعة لأفعال الإنسانية لصار الناس فوضى هملاً مضاعين، لا يأتمرون لأمر آمر، ولا ينزجرون لزجر زاجر، وفي ذلك من الفساد في العباد والبلاد ما لاخفاء به. وقال شاعرهم وهو الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ...
ولا سراة إذا جهالهم سادوا" (1)
فهذا العلم الجليل قد تضمن فوائد جمة وقواعد مهمة لا يستغني عنها عالم ولا صاحب فنّ، وحتى المسلم العامي إذا أدرك بعض قواعده نفعته في حياته العامة، وذلك لاحتوائه على الطرق الضابطة لمعرفة الحق والصواب وتجليته للدليل الصحيح المناسب للوصول إلى الحكم الصحيح؛ بعيداً عن الخرص والظن واتباع الهوى الذي قد يؤدي إلى التنازع والاضطراب في حياة الناس ومعاشهم.
فلذلك لا يجدُّ في حياة الناس أمر أو ينزل بهم حادث إلا وفي أصول الفقه الدليل المنطوق أو المفهوم على بيان حكمه ومراد الشرع فيه بما يضبط للناس حياتهم ويحقق لهم السعادة في الدارين .
فالدعوة إلى الله –مثلاً- جزء من أحكام الشريعة وتصرفات الدعاة والعاملين لدين الله –عزوجل- في جميع الميادين لا تخرج عن تصرفات المكلفين التي قد ضُبِطَت من قبل بأصولٍ وقواعد تعالج ما يقع منهم من تصرفات وأعمال .. فإذا قررننا هذا الأصل المسلَّم؛ فإن واقع الدعوة المعاصرة في كثير من البلدان والأحيان بدت وكأنها محض أفكار وتصورات وعواطف وردود أفعال لا مرجع لها إلا أقوال وأفهام أصحابها، وخصوصًا فيما يتعلق بمجريات الأحداث الراهنة أوالوسائل الدعوية أوالتنظيمات الحزبية ومناهج العمل وفق المراحل والأولويات الدعوية، مع أن مقصود أولئك العاملين لهذا الدين هو إرجاع الناس إلى حياض حكم الله -عزّ وجل- من خلال العمل بشرعه وتطبيقه في جميع شؤون الحياة، فإذا كان هذا المقصد منصوص عليه ومقطوع به؛ فإن الوسائل إليه مضبوطة مقيدة بأصول الفقه ومقاصد الشريعة الكلية لا تخرج عنها بحال من الأحوال. فالممارسات الجهادية والأعمال الدعوية والإصلاحية التي لم يُنص عليها ويجتهد أصحابها في تطبيقها على واقعهم المعاصر؛ لا تخرج في حقيقتها عن قواعد وأصول الفقه لمن تأمل ونظر وخرج عن مألوف ما صُنِّف في كتب الأصول إلى النظر إلى مقاصده وقواعده الخاصة والعامة, أما بتر النصوص عن مقاصدها, ونقل الفتاوى بعيدًا عن واقعها, والمغالطة في الاستدلال من غير اعتبار للعوارض والمؤثرات على الدليل.. كل ذلك نقص في التأصيل وتلبيس على المسلمين.
ومن هنا كانت الحاجة إلى تأصيل الفقه الدعوي وربط المناهج الإصلاحية بأدلتها وأصولها القائمة عليها، وإحياء هذه النظرة التأصيلية في اجتهاد الدعاة .. ولا شك أن هذا العمل إذا تحقق في واقع العمل الإسلامي فإنه سيثمر في نفوس الدعاة ثقة بالمنهج ووضوحًا في الطريق، ويقلل من خطر الوقوع في الفتن المضلة والشبهات المزلة مع ما يحققه من سعة في الأفق وزيادة في العلم والعمل لدين الله -عز وجل- على هدى وبصيرة.
وهنا ثمرة أخرى للتأصيل الشرعي لقضايا العمل الإسلامي فيما يتعلق بالفصائل الدعوية، إذ هو عامل تقارب وجذب بين الدعاة والمصلحين وإن اختلفت منهاهجهم وتعددت طرائقهم.(/1)
فالإمام الشافعي رحمه الله لما قرر قواعد وأصول الفقه حقق تقارباً كبيراً بين المدارس الفقهية في وقته، ولذلك جاء عن الإمام أحمد رحمه الله قوله : "ما زلنا نلعن أصحاب الرأي ويلعنونا، حتى جاء الشافعي فمزج بيننا"(2).
يؤكد ذلك الحافظ ابن حجر في نقله عن أبي الوليد بن أبي الجارود قوله: "انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس فرحل إليه – أي الإمام الشافعي رحمه الله – ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملاً ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث فتصرَّف في ذلك، حتى أصّل الأصول وقعّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف"(3).
فالإمام الشافعي رحمه الله لما أصّل وقعّد الفقه قارب بين المذاهب وردم الهوة الحاصلة بينهم, وكذلك الدعاة إذا أرادوا تقاربًا وتعاونًا مؤتلفًا بينهم فعليهم بتأصيل عملهم من خلال الشرع، وإن حصل الاختلاف بينهم بعد ذلك؛ فإنه أقرب إلى التنوع منه إلى التضاد، وأدعى إلى التوافق والانسجام بدلاً من التنافر والاحتدام.
* الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1)الوصول إلى الأصول لابن برهان 1/47و48.
(2)ترتيب المدارك 1/95.
(3)توالي التأسيس لابن حجرص53 نقلاًمن كتاب الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص112-113تأليف:عبد الغني الدقر.(/2)
التأمين أنواع وأحكام
التمهيد: نبذة عن نشأة التامين :
التأمين أول ما نشأ في الغرب ومن أسباب نشأته إحجام كثير من رؤساء الأموال عن التجارة بسبب المخاطرة وبسبب حوادث الخسارة، ونتيجة لهذا الإحجام يتأثر الاقتصاد القومي وعلى إثره عمل المفكرون على إنشاء شركات التأمين حتى تضمن للتاجر المتاجرة وتؤمن له الخسارة للأقدار الطارئة مقابل مبلغ من المال يدفعه اشتراك يقدمه لشركة التأمين وتقوم بتعويضه إذا حصل له خسارة، وتأثرت الدول الإسلامية تباعا بهذه الشركات، ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار التأمين التجاري في البلدان الإسلامية العولمة التجارية .
المطلب الأول: تعريف التأمين :
في اللغة: الأمَانُ و الأمَنةُ بمعنى، وقد أمِنَ أمَاناً و أَمَنَةً بفتحتين فهو آمِنٌ و آمَنهُ غيره من الأمْنِ والأمَانِ (1) وقد أمنت فأنا أمن و آمنت غيري من الأمن و الأمان و الأمن ضد الخوف (2) والمقصود منه طمأنينة النفس وسكونها بتوفير أسباب الطمأنينة.
في الاصطلاح : عقد يتم بين شركة التأمين ومستأمن معين تتعهد هذه الشركة بمقتضاه بدفع مبلغ من المال ،عند حدوث خطر معين ، مقابل التزام المستأمن بدفع مبلغ مالي محدد (3)
في اصطلاح القانونيين : (عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤَمَّن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عرض مالي آخر في حالة وقوع الحادث، أو تحقيق الخطر المبين في العقد، وذلك نظير قسط أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن) (4)
المطلب الثاني
أنواع التأمين
النوع الأول : التأمين التبادلي على أنواع
أولا :التأمين على الأشخاص
صورة التأمين على الأشخاص أن يتقدم شخص ما إلى شركة التأمين لإبرام عقد التأمين على الحياة لمدة معينة بموجبه تلتزم الشركة بدفع المبلغ المدفوع له مع فوائده بعد تمام المدة ، أو دفع المال لورثته إن مات بتمامه حتى وإن لم يدفع إلا قسطا واحدا، ومن صوره :التأمين على ما قد يصيب عضوا من أعضاء الجسم ، وفي شرح المهذب : (أن التأمين على الحياة، فإنه غير صحيح ولا يباح لأننا لم نجد له محملاً من الصحة، لأن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته، فهو نوع من القمار، ويدخل في بيع الغرر، كبيع الآبق الذي لا يدري أيقدر على تحصيله أم لا، ويدخل في مسمى الربا الذي هو شراء درهم بدراهم مؤجلة، ويدخل في بيع الدين بالدين، حيث أن المؤمِّن يدفع قيمة التأمين مقسطة في سبيل الحصول على دراهم أكثر منها مؤجلة، أضف إليه أنها لا تقتضيه الضرورة ولا توجبه المصلحة، ومن عقود التأمين ما كان على الحياة، وصورته أن يعقد عقداً على مبلغ 5000 خمسة آلاف جنيه مثلاً تدفع لورثته بعد وفاته إذا مات بحادث أو مات حتف أنفه وفي هذه الصورة من القمار الصريح ما يتضح في جهالة الأجل لتعلقه بعلم الله تعالى والغرر القائم في العقد لجهالة ما سيدفعه المؤَمِّن على حياته) (5)
ثانياً :التأمين على الأموال
تأمين على البيت من الحريق،أو الهدم أو نحوه ،أو على البضاعة أثناء نقلها براً أو بحراً أوجواً، أو التأمين على المتجر من الحريق ونحوه أو السيارات وغيرها من الأشياء والأموال بدفع قسط محدد على ما بينا، يذكر شارح المهذب صورته فيقول : (فصورته أن يعقد شخص مع الشركة عقداً تضمن له به سلامة داره، أو سيارته، أو أثاث منزله، أو بضاعته التي في متجره، أو التي يريد نقلها من جهة إلى أخرى في البر أو البحر أو ما إلى ذلك من مختلف الأموال، ويلتزم صاحب المال المؤَمِّن عليه أن يدفع للشركة ضريبة معينة من المال كل سنة أو كل شهر على حسب الشرط ،ويختلف مقدار هذه الضريبة على حسب المال المؤَمِّن عليه الذي يتفق الطرفان على مقدار قيمته ،وهذه الضريبة لا يستردها صاحب المال على كل حال، وإنما تكون خالصة لشركة التأمين على خلاف الحكم في أقساط التأمين على الحياة، ثم تلتزم الشركة لصاحب المال المؤَمِّن عليه بأن تدفع له قيمة هذا المال كله إذا هلك أو تلف بحرق أو غرق أو غير ذلك ما دام عقد التأمين قائماً، ولو لم يدفع صاحب المال من الضريبة إلاّ دفعة واحدة ) (6)
ثالثاً :التأمين على المسؤولية
هذا التأمين على الأخطاء التي قد يرتكبها الشخص بمزاولة حرفة ما، مثل تأمين أصحاب السيارات فيما يقع لهم من أخطاء تضر بالآخرين.
وجه التحريم :
للعلماء في تحريم التأمين أوجه عديدة، وجه الربا بالزيادة في العوض ، ووجه في الغرر أن يدفع مبلغ لغرض الحصول على مبلغ مجهول، وجهالة أخرى إذا حدث له حادث كم سيدفع له،ووجه غبن قد يكون على المؤَمِّن أو على الشركة ،ووجه قمار .
المطلب الثالث
أقوال العلماء في التأمين التجاري
القول الأول: القول بالحرمة(/1)
الميسر في عصرنا عقود التأمين التجاري على الحياة والمركبات والبضائع وضد الحريق والتامين الشامل (7) ، وقد أفتى ببطلان عقد التأمين على الحياة من فقهاء العصر الحاضر الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله مفتى مصر سابقا والشيخ أحمد إبراهيم من كبار فقهاء الشريعة في عصره (8) والشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ العلامة محمد أبو زهرة (9) وقال بحرمته مجمع الفقه (10) وشيخنا الشيخ عبد الكريم زيدان
وعند سؤال لجنة إسلام أن لاين عن التامين أجابت اللجنة :
السؤال : ما حكم التأمين التجاري المنتشر اليوم ؟
الإجابة : فمن صور المعاملات الجديدة على الفقه الإسلامي ما يسمى (بشركات التأمين) ، ومن ضمن نشاطات شركات التأمين ما يسمى بالتأمين التجاري ، وجميع صور هذا التأمين حرام ؛ لأنها قائمة على الربا ، والربا محرم نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، كما أنه يقوم على القمار ، والمقامرة أيضاً حرام ، وكذلك فيه غرر ، والغرر حرام وفيه أكل لأموال الناس على الباطل ، وبقول فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد من علماء المملكة العربية السعودية : جميع أنواع التأمين التجاري ربا صريح دون شك ، فهي بيع نقود بنقود أقل منها أو أكثر مع تأجيل أحد النقدين ، ففيها ربا الفضل وفيها ربا النسأ ؛ لأن أصحاب التأمين يأخذون نقود الناس ويعدونهم بإعطائهم نقودا أقل أو أكثر متى وقع الحادث المعين المؤمن ضده، وهذا هو الربا، والربا محرم بنص القرآن في آيات كثيرة ، فجميع أنواع التأمين التجاري لا تقوم إلا على القمار ( الميسر ) المحرم بنص القرآن : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [سورة : المائدة- آية 90 ]
والتأمين بجميع صوره لعب بالحظوظ ، يقولون لك ادفع كذا فإن وقع لك كذا أعطيناك كذا ، وهذا هو عين القمار ، وإن التفرقة بين التأمين والقمار مكابرة لا يقبلها عقل سليم ، بل إن أصحاب التأمين أنفسهم يعترفون بأن التأمين قمار .
وجميع أنواع التأمين التجاري غرر ، والغرر محرم بأحاديث كثيرة صحيحة ، من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر "(11)
وإن التأمين التجاري بجميع صوره يعتمد على الغرر ، بل على الغرر الفاحش ، فجميع شركات التأمين ، وكل من يبيع التأمين يمنع منعا باتا التأمين ضد أي خطر غير احتمالي ، أي أن الخطر لا بد أن يكون محتمل الوقوع وعدم الوقوع حتى يكون قابلا للتأمين ، وكذلك يمنع العلم بوقت الوقوع ومقداره ، وبهذا تجتمع في التأمين أنواع الغرر الثلاثة الفاحشة .
فالتأمين التجاري بجميع صوره أكل لأموال الناس بالباطل ، وهو محرم بنص القرآن : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ? [سورة : النساء- آية 29] .
فالتأمين التجاري بجميع أنواعه وصوره عملية احتيالية لأكل أموال الناس بالباطل ، وقد أثبتت إحدى الإحصائيات الدقيقة لأحد الخبراء الألمان أن نسبة ما يعاد إلى الناس إلى ما أخذ منهم لا يساوي إلا 2.9% .
فالتأمين خسارة عظيمة على الأمة ، ولا حجة بفعل الكفار الذين تقطعت أواصرهم واضطروا إلى التأمين اضطرارا ، وهم يكرهونه كراهية الموت (12).
القول الثاني :القول بالحل
ذهب بعض العلماء إلى جواز عقود التأمين بأنواعها ومن هؤلاء الأستاذ مصطفى الزرقا وفضيلة الأستاذ عبد الرحمن عيسى ، والأستاذ محمد يوسف موسى والشيخ علي الخفيف رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق (13) والذي قال في بحثه المقدم للمؤتمر الثاني بمجمع البحوث الإسلامية: ( إن حكم التأمين شرعاً هو الجواز، لأنه عقد جديد لم يشمله نص حاضر، وهو يحقق مصلحة دون أن يكون من ورائه ضرر، فأصبح بعد أن تفشى وشاع عرفاً عاماً دعت إليه كل من المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وأن المصلحة التي تدعو إليه تقارب الضرورة ومعها لا يكون للإشتباه فيه موضع إذا فرض وكان فيه شبهة) (14)
أدلة القائلين بالحرمة :
أدلة الغرر والقمار المذكورة سابقاً وعللوا ذلك بالأتي:(/2)
التأمين من عقود المعاوضات وتعتريه : كل طرف يأخذ مقابل ما يعطي ، فالمؤَمِّن يدفع قسطاً محدداً ويأخذ مقابل ذلك ما ألتزمت به شركة التامين ، وشركة التأمين تأخذ القسط المحدد كل شهر أو ما اتفق عليه وتدفع إن حدث له شيء الغرم الحادث وكل طرف ملتزم بذلك التأمين من العقود الإحتمالية: بسبب الجهالة لكل طرف ما يأخذ وما يعطي المؤَمِّن يدفع قسطاً ثابتاً محدداً في حين ما يتلقاه غير معلوم الحصول ولا القدر فهذا غرر في الحصول في المقدار وفي الأجل (15) ، ومن الغرر أنه قد يدفع قسطاً واحدا ويقع الخطر وقد يدفع ولا يقع له خطر وهذا غرر فاحش والرسول r نهى عن الغرر الفاحش،كما أنه يحتوي على ضرب من المقامرة في المعاوضات المالية،فيؤدي إلى أن تتحمل شركة التامين غرما بلا جناية ولا تسبب فيها،ويكسب الطرف الآخر غنماً بلا مقابل، أو بمقابل غير مكافئ (16)
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك، قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية : (17)
أولاً: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الإجتماعية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد ومقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطاً أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤَمِّن ، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع الأقساط ولا يأخذ شيئاً، وكذلك المؤَمَّمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي r : " النهي عن بيع الغرر" .
وسبب ذلك؛ لأن التأمين يكون على شيء محتمل الوقوع أو عدمه، وهو مع ذلك مجهول الوقت والمقدار، فمما هو معلوم أن وقت وقوع الحادث شيء مجهول لا يمكن التنبؤ به، وكذلك مقدار تكلفته أمر مجهول، فهو داخل تحت بيع الغرر .
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافىء، فإن المستأمن قد يدفع قسطاً من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤَمَّن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر، ومع ذلك يغنم المؤَمَّن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قماراً، ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: ? يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّنصَابُ وَالاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسا، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، و المؤَمَّن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة، فيكون ربا نسا، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسا فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
وهو بيع نقود بنقود بأقل أو أكثر من الدفع مع تأجيل أحد النقدين، وبهذا اشتمل على الربا بنوعيه ربا الفضل والنسيئة، فأصحاب شركات التأمين يأخذون نقود الناس على أن يعطونها إياهم أو أقل منها أو أكثر عند وقوع الحادث المؤمن عليه، وهذا هو عين الربا الذي حرمه القرآن الكريم والسنة النبوية تحريما قاطعا.
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم، لأن كلاً منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام، وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي r رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله :
" لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" (18) وليس التأمين من ذلك ولا شبيهاً به، فكان محرماً.
بسبب أنه قائم على الحظ، فالمؤمن يدفع المبالغ التي يدفعها (قيمة التأمين) وقد يستفيد منها وقد لا يستفيد، فالمسألة مسألة حظ، إن وقع حادث استفاد وإلا فقد ضاع ماله.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ شيء بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: ? يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّنصَابُ وَالاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?.
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعاً، فإن المؤَمَّن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، و المؤَمِّن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حراماً (19)
أدلة المجيزين للتأمين:
1- المصلحة دليل للحل وفيه مصلحة المستأمن في حصول الطمأنينة في مزاولة التجارة
2- الأصل في العقود الإباحة ولا يحرم إلا بنص، فإنه يقوم على التعاون فالجميع يتعاونون ويعطون من المجموع الغرم
3- انه أصبح ضرورة ملحة في المجتمع وعرفاً لابد منه(/3)
4- نظام الموالاة ويتلخص هذا العقد أن يقول شخص مجهول النسب للعربي أنت وليي تعقل((20)) عني إذا جنيت وترثني إذا أنا مت
5- نظام العواقل إذا جنى احد جناية في القتل غير العمد تعطي الدية القبيلة التي ينتسب إليها .
رابعا: المناقشة والترجيح (21)
أدلة المبيحون للتأمين التجاري مطلقاً أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
يتلخص استدلالهم :
أ- الاستدلال ببعض أصول الشريعة.
ب- قياس التأمين على بعض العقود ، والتشبث ببعض الأنظمة .
ونرد عليها بالاتي:
أولا: الاستدلال بالمصلحة غير صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام:
أ- قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة.
ب- وقسم سكت الشرع عنه فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو (مصلحة مرسلة) وهذا محل اجتهاد المجتهدين.
ج- والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة، وغرر، وقمار، وربا، فكانت مما شهد الشرع بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
فالمصلحة الشرعية حجة عند من يقول بها بشروط :
- ألا تصادم نصاً من قرآن أو سنة ولا مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية.
- أن تكون المصلحة عامة للناس وليست خاصة لفئة.
- أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية.
- أن تكون هذه المصلحة لحفظ أمر ضروري من الضروريات الخمس المعلومة التي لا قيام للمجتمع بدونها.
- أن تكون فيما يعقل معناه دون ما لا يعقل، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجرى التعبدات في الأمور الشرعية المحددة.
وكل هذه الاشتراطات تخلوا من التأمين التجاري ، لمعارضته النصوص الشريعة القاضية بتحريم القمار والربا والغرر ،ويحقق المصلحة لفئة من الناس ومخل بالأمر الضروري.
ثانيا: الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاً هنا، لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم التنافى بينها أو المنافى لها .
ثالثا: الضرورات تبيح المحظورات؛ لا يسمح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافاً مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعاً تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
رابعا: لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعيين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها ؛ مع أن العرف من شروطه أن لا يخالف نصاً.
خامسا: قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
سادسا: قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين القاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية، تقوم على معاوضات مالية محضة، لا تمد إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
سابعا: الاستدلال بنظام معاشات التعاقد وصورته ما تقوم به الدولة من اقتطاع جزء من المرتب الشهري للموظفين، حتى إذا بلغ أحدهم سن التقاعد أو مات النظامي يعطى راتباً شهرياً والفرق بينهما
أولا: أن الموظف إذا استقال قبل بلوغ المدة المحددة للتقاعد أخذ ما يستحقه عن خدمته، مهما قلت أو كثرت، وفي التأمين إذا توقف المؤمّن له عن دفع الأقساط بطلت جميع حقوقه، وخسر جميع ما دفعه من مال.
ثانيا : في التقاعد لا احتمال ولا شك في حصول الموظف على مبلغ التقاعد إذا بلغ المدة المحددة في الخدمة، وفي التأمين قد تنتهي مدة العقد دون وقوع الحادث فلا يحصل المُؤمَّنْ له على شيء ويخسر جميع ما دفعه.
ثالثا: الذي يُبرم العقد في نظام التقاعد هو الدولة بدافع المصلحة العامة للموظفين، وحُسن الرعاية، والذي يُبرم العقد مع المُؤمَّنْ لهم في التأمين فئة من المتاجرين به من الناس، بدافع الربح والإثراء .
رابعا : تسهم الدولة في تمويل نظام التقاعد بما يخصصه من أموال من بيت المال، ولا تجني من وراء ذلك شيئاً، وشركات التأمين لا تسهم بشيء، وجميع مصروفاتها وأرباحها وما تعيده على المُؤمَّنْ لهم حين وقوع الحادث كل ذلك تستخرجه من جيوب المُؤمَّنْ لهم.
ومن خلال المناقشة يترجح لي الحرمة في هذه العقود و يمكن تفصيل وجه التحريم بالأتي:(/4)
1 – فيه معنى القمار والرهان والميسر، لأنه تعلق على خطر قد يقع وقد لا يقع.
2 – المؤَمِّن يدفع قسطا ثابتاً محددا في حين أن ما يلقاه غير معلوم الحصول والمقدار فهو غرر.
3 - ولأن فيه غرراً وجهالة، إذ لا يدري أي من طرفي العقد عند إنشائه من سيأخذ ومن سيعطي.
4- ولأن فيه غبناً وذلك باعتباره عقداً احتمالياً من عقود الغرر .
5 - ولأن فيه زيادة من جهة أن المستأمن قد يبذل قسطاً ضئيلاً ويأخذ إذا وقع الخطر تعويضاً كبيراً بلا مقابل، ومن جهة إعطاء فوائد في بعض أنواعه، فضلاً عن أن شركات التأمين قد تستغل ما تحصله من أقساط في معاملات يومية محرمة.
6- تحمل أحد أطراف التعاقد وهو شركة التأمين غرماً بلا جناية ولا تسبب فيها، ويكسب الطرف الأخر عنماً بلا مقابل، أو بمقابل غير مكافئ .
النوع الثاني
التأمين التعاوني
يشترك مجموعة من الأفراد بدفع مبلغ معين تعاوناً ويتفقون على تعويض من تنزل عليه نازلة أو يحدث له فيفقد مال أو نفس جاء في شرح المهذب : (هو أن تتولاه جمعيات تعاونية يجمع أعضاءها الأخطار التي يتعرضون لها، ويلتزمون بتعويض من يلحقه الضرر منهم، وذلك من الاشتراك الذي يؤديه كعضو، وهو اشتراك متغير يزيد أو ينقص بحسب قيمة التعويضات التي تلتزم الجمعية بأدائها في خلال السنة، وقد لا يدفع العضو اشتراكه إلاّ عند وقوع الخطر، وبقدر نصيبه من التعويض.. وهي جمعيات لا تستهدف الربح وإنما التعاون لجبر الخطر أو الضرر الذي يلحق بأحد الأعضاء بتوزيعه عليهم جميعاً، إذن يكون القسط أو الاشتراك في هذه الجمعيات التعاونية من قبيل التبرع، وهو عقد تبرع يقره الإسلام، وهذه الجمعيات هي الصورة الوحيدة التي أقرها مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية لعام 1965م وضرب المثل فيه بصناديق الزمالة التي يقوم بها موظفو شركة أو مصلحة لدفع مبلغ كمعونة سريعة لأسرة العضو المتوفي مثلاً) (22)
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع على الموافقة على جواز التأمين التعاوني (23) والمنوه عنه آنفاً للأدلة الآتية:
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النسا. فليس عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليه من النفع لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة ولا غرر، ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشىء هذا التعاون، سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معين (24) .
الخاتمة : بعد ذكر أقوال العلماء في هذه النازلة من النوازل الاقتصادية والنظر فيها، ترجح لي أن أنواع التامين التجاري التبادلي بأشكاله مما حرمه الشارع الحكيم ،وليس ثمة مصلحة معتبرة في واقعنا الإسلامي ملحة تجعل من التامين ضرورة ملحة لابد من اقترافها، والبديل المناسب في التامين على الأخطار، ما يسمى بالتأمين التعاوني ، والله أسأل التوفيق والسداد والهداية إلى سبيل الرشاد والحمد لله رب العالمين .
كتبه الفقير إلى ربه : عبد الوهاب مهيوب مرشد الشرعبي
(1) مختار الصحاح مادة"أمن" ج1/11.
(2) لسان العرب مادة "أمن" ج13/22.
(3) انظر مباحث في الاقتصاد الإسلامي في أصول الفقه د/ محمد رواس قلعبي ص131.
(4) انظر القانون المدني المصري مادة 747 .
(5) انظر المجموع شرح المهذب ج31/102.
(6) انظر المجموع شرح المهذب ج31/102 .
(7) انظر التأمين والبديل الإسلامي من العداد 17- 20 مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية .
(8) انظر المجموع شرح المهذب ، ج31/102.
(9) حكم التامين في الإسلام عبد الله ناصح علوان ص 9 دار السلام مصر ط4 1416هـ.
(10) قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 5 بتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ.
(11) أخرجه مسلم ، ج3/ 1153، برقم 1513.
(12) إسلام أون لاين بتاريخ 2/9/2001م.
(13) حكم الإسلام في التامين عبد الله ناصح علوان ص 9 .
(14) انظر المجموع شرح المهذب ج31/84وما بعدها.
(15) انظر القمار والميسر المسابقات والجوائز د/توفيق المصري ص58.
(16) انظر مباحث في الاقتصاد الإسلامي د/ محمد رواس قلعبي ص131.
(17) قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 5 بتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ.
(18) أخرجه أبو داوود ،ج3/34، برقم 2574، وصححه الألباني في صحيح أبو داوود ج2/489، برقم 2244.(/5)
(19) انظر المجموع شرح المهذب ج31/ 84 وما بعدها .
(20) العقل : هو دفع التعويض المالي في جناية القتل الخطاء وهو ما يسمى بالدية.
(21) انظر المجموع شرح المهذب ج31/ 84 .
(22) انظر المجموع شرح المهذب ج 13/102 .
(23) قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4 / 4 / 1397 هـ.
(24) انظر المجموع شرح المهذب ج31/ 84.(/6)
التأمين الإلزامي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 27/7/1424هـ
السؤال
ما حكم التأمين التعاوني الإلزامي على رخصة القيادة في السعودية، هل هو حلال أم حرام؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
التأمين المنتشر في البلاد باسم: التأمين التعاوني حرام لا يجوز، وتسميته تأميناً تعاونياً غير صحيح وباطل، فهو تأمين تجاري بحت، ومنه التأمين على الرخصة فهو تأمين ضد الغير، والتأمين التعاوني الجائز شرعاً هو ما يقصد به التبرع، ولا يطلب من ورائه ربح مادي؛ مثل أن يجتمع أفراد أسرة من الأسر أو أصحاب مهنة أو وظيفة فيدفع كل منهم مبلغاً معلوماً لمساعدة المحتاجين، أو من تنزل به كارثة منهم، وهذا هو التأمين التعاوني المجمع على جوازه والذي تدل عليه النصوص الشرعية من القرآن والسنة كقوله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى" [المائدة:2] وحديث: "...إن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..." رواه مسلم (2699) ونحوهما، أما عامة شركات التأمين القائمة اليوم ومنها الشركة الوطنية للتأمين المسماة (التعاونية) فهو تأمين تجاري بحت لا يمت إلى التأمين التعاوني الشرعي بصلة، وقد أفتت دور الفتوى والمجامع الفقهية في العالم الإسلامي بحرمة التأمين التجاري وإن سمي بغير اسمه تلبيساً على الناس وتغريراً بهم، وأحيل السائل والقارئ إلى بيان اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية في الرد على الشركة الوطنية للتأمين "التعاونية" ومن يماثلها – الرد باسم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله وقدس روحه منشور في مجلة البحوث العلمية والإفتاء عدد (50) لسنة 1418هـ.
والتأمين التجاري – ومنه التأمين على الرخصة – إذا كان إلزامياً لا خيار لأحد فيه أو ربما تعطلت بعض مصالح المسلم إذا لم يؤمن على رخصته فيجوز التأمين حينئذ للضرروة فقط، للقاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات)، ولكن يجب ويتعين على المؤمن على رخصته والحالة هذه – لو حصل له حادث فلا يأخذ تعويضاً من الشركة إلا بقدر ما دفع فقط، ولو أعطته أكثر من ذلك وأخذه فقد أكل الحرام والعياذ بالله، بدليل القاعدة الشرعية الأخرى (الضرورة تقدر بقدرها ومن زاد عن قدر الضرورة وهي في هذا تمثل المبلغ الذي دفعه للشركة فقط – فقد بغى وتعدى حدود الله، قال تعالى في أكل الشبه للضرورة (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم"[النحل: 115] والباغي هو من يأكل من الحرام من غير اضطرار إليه، والعادي هو من أكل أو أخذ أكثر من حاجته.(/1)
التأمين الشامل
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 26/6/1424هـ
السؤال
أنا أعمل في شركة تعمل في مجال الاتصالات، ومن ضمن المزايا التي تقدمها الشركة للموظف التأمين الشامل للسيارة في حالة وقوع حادث، علماً أن هذا التأمين للموظفين الذين يستخدمون سياراتهم الخاصة لصالح أعمال الشركة، ويتم ذلك بأن يتفق الموظف مع إحدى شركات التأمين ويدفع لهم المبلغ من ماله الخاص، ثم يقدم أوراقه للشركة التي تقوم بعد ذلك بإعطائه المبلغ، شريطة ألا يتجاوز المبلغ الخمسة آلاف ريال، فما حكم هذا التأمين؟ مع العلم أن شركة التأمين تعطي تأمين الرخصة الإلزامي كهدية إذا أمن الشخص تأميناً شاملاً، فهل يجوز لي أن أؤمن تأميناً شاملاً حتى أحصل على تأمين الرخصة، وأتجنب أن أدفع شيئاً من مالي الخاص؟.
الجواب
إذا وقع الحادث لسيارتك الخاصة فلك أن تأخذ من التأمين (الشامل) بقدر قيمة إصلاح ذلك الحادث ولا تزد عليه، وإن كانت قيمة إصلاح السيارة أكثر من المبلغ المخصص للتأمين عليها من الشركة فلك مطالبة الشركة بالقدر الزائد عن المبلغ المحدد من قبلها، أما قبول تأمين الرخصة الإلزامي كهدية من الشركة، لا لأنه في أصله جائز وإنما لوجود الإلزام والجبر عليه (التأمين على الرخصة تجاه الغير) فلا فرق أن تقوم بالتأمين بنفسك، أو يقدم إليك هدية من شركة هي مجرد واسطة، والله أعلم.(/1)
التأمين الصحي في المنظور الإسلامي
الشيخ الدكتور سعود الفنيسان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين نبينا محمد وصحابته أجمعين وبعد:
فيعد التأمين – والتأمين الصحي خاصة من النوازل التي ظهرت في هذا العصر ولم تكن معروفة من قبل. ولابد من عرض تلك القضايا على الأدلة والقواعد الشرعية. إذ ما من قضية إلا وللإسلام فيها حكم.
ويجد الناس من الأحكام بقدر ما يحدثونه من أحداث وقضايا، ذلك أن النصوص في الكتاب والسنة محصورة ومتناهية، أما القضايا والحوادث فغير متناهية، بل هي في تزايد مطرد وأهل العلم الشرعي المجتهدون هم الذين يبينون أحكام النوازل والمستجدات التي تنزل بالأمة في كل عصر، مستهدين بقول الله تعالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل أليهم)- النحل 44 -وقوله : (ما فرطنا في الكتاب من شيء )- الأنعام38-وقوله: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطوه منهم )-النساء83-
ومستشهدين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وإذا حكم فاجتهد فأصاب فله أجران (- سنن الدارقطني ج4 ص210-211-
وهذه المستجدات التي تنزل بالأمة (كالتأمين الصحي) مثلاً، لابد من اجتماع رأي الفقيه المتبصر بأمور عصره مع رأي الطبيب المختص، إذ لا يمكن للفقيه أن يصدر حكمه الجازم في المسألة دون الاطلاع على آراء الأطباء وذوي التجربة ولايمكن للطبيب أن يفتي في المسألة لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره وهذه الكلمات المرقومة في هذه الورقة بحاجة إلى أن يجتمع
عليها الفقهاء والأطباء في نقاش وحوار علميين حتى يمكن الوصول إلى النتيجة الشاملة والحكم الفاصل في مسألة (التأمين الصحي)
تعريفات تتعلق بالبحث
التأمين: في اللغة مصدر للفعل الرباعي أمن يؤمِّن تأميناً في طلب للأمل والطمأنينة. وتتعدد أنواع التأمين إلى أنواع وأشكال كثيرة جداً غير أنه يمكن حصرها إجمالاً بأن يقال: ينقسم التأمين من حيث الشكل إلى نوعين: عاوني وتجاري ومن حيث الموضوع: إلى تأمين من الضرار اللاحقة للمال وتأمين على الأشخاص (الحياة) ومنه التأمين الصحي ومن حيث العموم والخصوص: إلى تأمين اجتماعي، تقوم به المؤسسات ، والهيئات لعموم أفرادها، كالتأمينات الاجتماعية والتقاعدية. وتأمين فردي يكون الفرد فيه طرفاً مباشراً في العقد وتعريف كل نوع لا يهمنا في هذا البحث اللهم إلا التأمين على الأشخاص فيمكن تعريفه على وجه التقريب بأن يقال:
-التأمين على الحياة: عقد يلتزم به المؤمن (شركة التأمين) أن يؤدي إلى المؤمن (المستأمن) أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه – مبلغاً من المال عند حصول الضرر مقابل مبلغ مالي يدفعه المؤمن له (المستأمن) إلى المؤمن (الشركة) دفعة واحدة أو على أقساط.
-التأمين الصحي: عقد بين طرفين يلتزم به الطرف الأول (المستشفى) بعلاج الطرف الثاني (فرداً كان أو جماعة) من مرض معيّن أو الوقاية من المرض عامة مقابل مبلغ مالي محدد يدفعه إلى الطرف الأول دفعة واحدة أو على أقساط.
-الإجارة في اللغة المجازاة. وفي اصطلاح الفقهاء: عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معيّنة من عين معلومة أو موصوفة في الذمة.
-الجعالة في اللغة: اسم لما يجعله الإنسان لغيره وهي مثلثة الجيم أي تنطق بالضمة والفتحة والكسرة.
وفي اصطلاح الفقهاء: التزام عوض معلوم على عمل معيّن (معلوم أو مجهول) بمعين أو مجهول.
وأكثر الفقهاء يبحثونها في كتبهم مع الإجارة لشدة الترابط بينهما حيث كل منهما عقد على عمل مباح مقابل عوض. وبعض الفقهاء يبحثها في آخر باب اللقطة.
الجعالة طلب التقاط الدابة الضالة مثلاً.
وحيث أن الجعالة هي الأظهر لحمل (التأمين الصحي) عليها سنبين أدلتها الشرعية.
من الأدلة على مشروعية الجعالة:(/1)
1-قوله تعالى: ]ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ يوسف من الآية72. ووجه الاستدلال: أن الاسم الموصول (من) من ألفاظ العموم والمخاطب (العاقد) غير معين، فدلت الآية على جواز المجاعلة والمشاركة على العمل المجهول لأنه لا يدري بأي وسيلة يؤتى بالمفقود هل يأتي به المجعول له على قدميه أو راكباً ليسلمه إلى الجاعل – دافع الجعل – كما دلت الآية على جواز أن يكون الأجر (الجعل) غير معلوم. ووجه ذلك أن حمل البعير يتفاوت بتفاوت البعير قوة وضعفا فمن الجمال ما يحمل (50) كيلاً ومنها ما يحمل أكثر من 200 كيل كما أنه لم يحدد النوع المحمول فقد يحمل على البعير ذهب أو فضة أو تراب أو حطب. كما دلت الآية أيضا على جهالة (المعاقد) المجعول له فلا يلزم تعيينه في العقد كأن يقول: من أتاني بدابتي. أو عالج مريضي فله كذا. وقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على مشروعية الكفالة والجعالة، والحق أن دلالتها على الجعالة أظهر وأبين من دلالتها على الكفالة: ووجه ذلك أن الجاعل ملتزم عن نفسه، والكفيل ملتزم عن غيره. والمنادي في الآية التزم بالجعل عن نفسه ولم يذكر أنه نائب عن غيره، وليس في الاية ما يدل على النيابة عن الغير، والآية في سياق شرع من قبلنا. وهو شرع لنا إذا لم يكن في شرعنا ما يخالفه كما هو منصوص عند جمهور العلماء وقد جاءت الآية موافقة لشرعنا.
2-حديث أبي قتادة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه) وفي رواية أنس (من قتل كافراً فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم) أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن. ووهج الاستدلال ظاهر من تعيين الجعل وهو السلب ولم يعين المجعول (المقتول) ولا المجعول له (القاتل).
3-حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أيضاً في قصة الرقية على سيد الحي لما لدغته حية وطلب أهل الحي من الصحابة رقية سيدهم وكانوا استضافوهم قبل فأبوا أن يضيفوهم. فقال أبي سعيد: لا نرقيه حتى تجعلوا لنا جعلاً فجاعلوهم على قطيع من الغنم فقرأ عليه أبو سعيد سورة الفاتحة فشفي من ساعته كأنما نشط من عقال. قلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم الغنم وأخبروه تبسم وقال: (ما أدراك أنها رقية أضربوا لي معكم بسهم). ووجه الاستدلال من الحديث ظاهر جلي حيث ذكر الجاعل والمجعول والجعل. ويضم هذا الحديث مع الحديث السابق يظهر جواز تعيين المجعول له الجعل وعدمه. وإنما اللازم تعيين المجعول الذي هو (القتل) في الحديث الأول و(الرقية) أو (الشفاء) في الحديث الثاني.
4-والجعالة من المعاملات التي كانت في الجاهلية ولما جاء الإسلام أقرها وعد بذل تشريعاً.
5-وقد عمل بالجعالة من الصحابة عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة ولا من جاء بعدهم فصار العمل بها إجماعاً.
6-ثم أن الضرورة والمصلحة العامة تدعوان إليها في كل عصر. وفي العصور المتأخرة بوجه أخص والحاجة إليها قائمة وملحة لا تقل عن الحاجة إلى الإجارة وإن كان بينهما فروق نجملها فيا يأتي:
الفروق بين الإجارة والجعالة من وجوه:
الوجه الأول:عقد الجعالة يجوز على عمل مجهول بخلاف الإجارة.
الوجه الثاني:عقد الجعالة يصح من غير معين بخلاف الإجارة.
الوجه الثالث:في عقد الجعالة لا يشترط قبول العامل بخلاف الإجارة.
الوجه الرابع:عقد الجعالة عقد جائز وعقد الإجارة عقد لازم.
الوجه الخامس:في عقد الجعالة لا يستحق العامل المجعول له الأجرة إلا بالعمل
بخلاف الإجارة فإن الأجير العامل يستحق الأجرة بمجرد العقد.
الوجه السادس:ينعقد عقد الجعالة مع وجود الجهالة والضرر فيه بخلاف الإجارة.
الوجه السابع:لا يستحق العامل الجعل إلا بعد الفراغ من العمل بخلاف الإجارة فبمجرد
العقد وإن أخر إلى نهاية العقد فلا باس بذلك.
الوجه الثامن:تجوز الجعالة في أفعال القربة كأن يقال: من أذن بهذا المسجد أو صلى فيه إماماً فله كذا، بخلاف الإجارة فلا تجوز في أفعال القربة.
وهناك فروع فقهية مترددة بين الجعالة والإجارة منها:
أ-مشارطة الطبيب على برء المريض.
ب-مشارطة المعلم على تعليم القرآن.
ج- المعاقدة على استخراج المياه من الآبار والعيون على صفة معلومة مع صعوبة الأرض وليونتها وقرب الماء وبعده.
د-مغارسة الشجار كأن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس فيها أشجاراً فإذا بلغت عدد كذا أو أثمرت صارت الأرض والشجر بينهما.
من نصوص الفقهاء في الجعالة (أو التأمين الصحي):
1-قال ابن قدامه: يجوز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السعلة – السعال لا نعلم فيه خلافاً لأنه فعل فعلٌ مباح يحتاج إليه مأذون فيه شرعاً فجاز الاستئجار عليه كسائر الأفعال المباحة. المغني 8/17.
2-وقال المرداوي: (لو قال من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمد عينيه فله كذا. صح جعالة وقيل إجارة اختار الأول ابن أبي موسى والخرقي والزركشي) الإنصاف 6/391.(/2)
3-وقال شيخ الإسلام بن تيمية: ( ... ومن هذا الباب أي الجعالة – إذا جعل للطبيب جعلاً على شفاء المريض جاز كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الغنم على شفاء المريض سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برأ فأخذوا القطيع فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيباً إجارة لازمة على الشفاء لم يجز لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة). مجموع الفتاوى 70/506 وقال في موضع آخر: (والجعالة في معنى الإجارة) مجموع الفتاوى 30/115.
4-وقال الزركشي : ( وتجوز إجارة الطبيب لأنه فعل مباح مأذون فيه أشبه سائر الأفعال المباحة ويقدر ذلك بالمدة ويبين قدر ما يأتي له كل يوم، مرة أو أكثر من ذلك. ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي ، وجوزه ابن أبي موسى وأبو محمد لكن جعله جعالة لجواز جهالة العمل فيها ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح) شرح مختصر الغرقي 4/250.
5-وقال ابن رشد:( والجعل والإجارة على منفعة مظنون حصولها مثل مشارطة الطبيب على البرء والمعلم على حذق التلميذ والناشد على وجود العبد الآبق) بداية المجتهد 2/232. وقال ابن رشد أيضاً مثل ابن القاسم وابن وهب عن الطبيب يشارط المريض يقول : أعالجك فإن برئت فلي من الأجر كذا وكذا وإن لم تبرأ غرمت لي ثمن الأدوية التي أعالجك بها فكرهاه وأجازه الإمام مالك بن أنس. وسئل الإمام مالك عن كسب البيطار – أي البيطري – فقال: ما أرى به باساً) البيان والتحصيل8/455.
6-وذكر ابن شاس فروقاً مترددة بين الجعالة والإجارة منها: (مشارطة الطبيب على برء العليل..) عقد الجواهر الثمينة 3/5.
7-وقال الشراملسي: ( إن جعل الشفاء غاية للجعل كالتداوي إلى الشفاء. أو لترقيني إلى الشفاء فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل ... وإن لم يجعل الشفاء غاية ذلك نحو: لتقرأ علىَّ الفاتحة سبعاً استحق بقراءتها سبعاً لأنه لم يقيد بالشفاء ) حاشية الشرامسلي على نهاية المحتاج 5/465.
وجوه الاختلاف بين التأمين على الحياة وبين التأمين الصحي:
بما أن التأمين الصحي قد يتبادر للذهن أن له علاقة ما بالتأمين على الحياة نظراً لتعلقهما بالشخص المؤمن عليه، غير أن بينهما تبياناً من وجوه كثيرة منها:
1-التأمين على الحياة(سبق تعريفه) : عقد مبني على جهالة في أثناء العقد وبعده أي حال الحياة وبعد الممات وفيه غرر في قدر العوض وأجله. أما التأمين الصحي: فهو عقد على منفعة قائمة موجودة خال من الجهالة والغرر المفسدين للعقد.
2-التأمين على الحياة يقوم على معارضة مال (المستأمن) بمال المؤمن (شرك التأمين) وهذه المعارضة المالية فيها التفاضل والتأجيل وهما ربا الفضل والنسيئة المحرمان في الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما التأمين الصحي فهو معاوضة مال بمنفعة قائمة أو محتملة الوجود وهذا من باب العقود على المنافع المباحة. والجعالة والإجارة من عقود المعارضات غير المالية في الشريعة الإسلامية فلا يدخلها الربا.
3-عقد التأمين على الحياة يدفع فيه المؤمن (الشركة) للمؤمن له (المستأمن) مبلغاً من المال لورثته عند حصول الوفاة.
أما التأمين الصحي فإن المؤمن (المستشفى) لا يدفع نقوداً للمؤمن له عند حصول الضرر كالمرض أو الوفاة وإنما يقوم بمعالجته مقابل ما دفعه من نقود.
فالعقد منصب على العلاج أصالة والمال بالتبع بخلاف التأمين على الحياة فإن المال فيه مقصود أصالة وتبعاً من الطرفين على السواء.
4-إن شرك التأمين شركة تجارية بحتة فهي عندما تدفع التعويض للمستأمن أو لوليه عند الموت أو الحادث إنما تدفعه كوسيط فقط فالتزامها هذا التزام بما لا يلزم شرعاً. لأنها قد تدفع أكثر مما أخذت عند حصول الحادث أو الضرر وقد تأخذ أكثر مما دفعت لو لم يحصل الحادث أو الضرر وكونها وسيطاً يخرجها أن تكون طرفاً شرعياً في العقد.
أما التأمين الصحي فالتجارة ليست هي الأصل فيه وإن كان الربح المادي مقصوداً لدى المؤمن (المستشفى) لكن طلب شفاء المريض والثقة في المستشفى لدى العملاء أكبره عنده من الربح المادي.
5-ثم عن شركة التأمين تشغل المال في غير الغرض الذي تعوقد معها من أجله وهو دفع الضرر كما أنها تقوم بتشغيله بالربا في البنوك وإعطائه المشتركين.
أما التأمين الصحي فإن المال الذي يقبضه المستشفى يصرف في الغرض الذي من أجله أبرم العقد بين الطرفين، أو فيما له به علاقة. فيصرفه في شركة الأدوية والتعاقد مع الأطباء المختصين ومساعديهم، وتأمين الوسائل اللازمة لعلاج المرضى وراحتهم ورفع أداء المستشفى بجملته وكفاءته من حيث النظام والصيانة.
6-عقد التأمين على الحياة عقد إذعان وإلزام وهو من عقود المعاوضات المالية ، أما عقد التأمين الصحي فهو من عقود التبرع والنفع العام للناس فطلب الربح من أحد الطرفين فقط أو وجود الجهالة والضرر اليسيرين لا يبطلانه بخلاف عقد المعاوضات المالية.
الخلاصة(/3)
إن التأمين الصحي إذا حمل على الجعالة فهو جائز لما سبق من ذكر أدلة الجعالة من الكتاب والسنة، وأيضاً فإن الأصل في العقود والشروط الإباحة والحل.
ما لم يأت من الشارع دليل على المشروع بنص صحيح أو قياس صريح والجهالة في عقد التأمين الصحي – إن وجدت – مغتفرة معفو عنها كما في الجعالة والإجارة بمنفعة أو ضمان المجهول. وقد نص الفقهاء على أن الجهالة إذا وجدت في هذه المعاملات لا تضر بالعقد. فلا يقدح في صحة ضمان المجهول جهل المضمون به
أو لجهل بالمضمون عنه. كما لا يقدح في صحة الإجارة عدم وجود المنفعة المؤجرة عند العقد. ولا يقدح في الجعالة عدم تعيين المجعول له ولا تعيين الجعل أو قدره.
وأيضاً أن عقود المعاوضات في الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد وغالب مبناها الاجتهاد بخلاف العبادات فإن مبناها الاتباع والتوقيف وهي من حقوق الله. أما الأخرى فهي من حقوق العباد. فشرع الله فيها النظر والاجتهاد.
والله أعلم وصلى الله على معلم الناس الخير النبي الأمي.(/4)
التأمين الصحي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 23/11/1422
السؤال
ما حكم التأمين الصحي في حال عدم وجود بديل إسلامي ؟
الجواب
التأمين الصحي من القضايا (النوازل) المستجدة في العصر الحاضر لم يعرف من قبل بهذا الاسم ولا بقريب منه ، وفيه شبهة أنه جزء من (التأمين على الحياة) المحرم قطعاً . غير أن التأمين الصحي يختلف عن التأمين على الحياة من عدة وجوه :
1- التأمين على الحياة عقد مبني على جهالة، وفيه غرر في قدر العوض وأجله . أما التأمين الصحي فهو عقد على منفعة موجودة أو في حكم الموجودة وهو خال من الجهالة والغرر المفسدين للعقد .
2- التأمين على الحياة من عقود المعاوضة اللازمة، كالإجارة فلا بد من خلوه من الجهالة والغرر وأكل المال بغير حق. أما التأمين الصحي فهو من عقود الارتفاق ويفتقر فيها من الجهالة والغرر اليسير مالا يفتقر بعقود المعاوضة . والتأمين الصحي يمكن تكييفه الفقهي على عقد الجعالة في كتب الفقه، كما يقول الفقهاء : (من داوى مريضي حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمد عينيه فله كذا من المال. صح جعالة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ودليل ذلك -أي : الجعالة- إذا جعل الطبيب جعلا على شفاء المريض جاز كما أخذ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنم على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى يبرأ فأخذوا القطيع وأقرهم الرسول قائلاً: أضربوا إليّ معكم بسهم " قال ابن تيمية : "فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيباً إجارة لازمة على الشفاء لم يجز ؛ لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفى " إ0هـ .
وفي الوقت الحاضر انتشرت شركات التأمين بما فيه التأمين الصحي وربما أصبح هذا التأمين من الضروري للرجل وأهل بيته . وغالب هذه الشركات لا تراعي في نظامها الأحكام الشرعية، فالتعامل معها إذا كان ضرورة ملزمة فلا إشكال فيه وإن كان اختيارياً فأرى ألا يأخذ المستأمن من الشركة أكثر من حقه الذي دفعه ولو عوضته بأكثر منه .
ومن أراد التوسع فلينظر بحثي (التأمين الصحي في المنظور الإسلامي ) في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة عدد (31) 1417هـ. وبالله التوفيق .(/1)
التأمين بين الحلال والحرام
لكاتب: سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله رب العالمين مفهم سليمان ومعلم إبراهيم ، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، اللهم صلّ وسلم على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلةٌ من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه ، والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيدَ له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمتُه، والحفاظ عليه وتحصيله . وهل هو وسيلة أو غاية ؟ ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع تكاثره في أيدي قلة من الناس ، وذلك بسَنِّ التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعةٌ من المحتاجين إليه من المسلمين .
التأمين:
التأمين في اللغة من مادة أمِن يأمَن أمناً إذا وثق وركن إليه وأمَّنه إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمناً وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأميناً أي جعله في ضمانه.
وأما في الاصطلاح : فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلافٌ لفظي ، ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو :
أنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَنِ له أو من يعينه مستفيداً مبلغاً من المال أو إيراداً دورياً أو تعويضاً عن ضرر إثر حادث مُغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤَمَّن له للمؤمِن بصفة دورية أو دفعةً واحدة .
والتأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكرٌ له لعدم وجوده في عصورهم . ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين رحمه الله .
التأمين التعاوني ومستندُ القول بجوازه لدى القائلين به
لا شك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه – وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء – على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات حيث إن التأمين مطلقاً يعتمد على خمس ركائز هي :المؤمن ، المؤمنُ له ، محلُ التأمين ، القسطُ التأميني ، التعويضُ في حال الاقتضاء .
حجة القائلين بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني
1- أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه ، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني . فهو تعاون بين المشتركين فيه على الصدوع وجبر المصائب وما زاد عن ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه .
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية ، وفي حال وجود عجزٍ في هذا الصندوق فيعتبر خسارةً على شركة التأمين التجارية الالتزامُ بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.
ويجاب عن هذا: أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غيرُ صحيحة فالفائض ُ في القسمين ربحٌ والعجز في صندوق كل منهما خسارة .
وبهذا يتضح أن التأمينَ التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريقَ بينهما في الحكم إباحةً وتحريماً ، فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط هي : المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء . وأن الإلزامَ والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين – المؤمَّن والمؤمن له – يكون في العقد بيانُ أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
2- أن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة ، وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضربٌ من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمَّنُ له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويضَ في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ وُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه ، وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري فما في الصندوق فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمةٌ على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون . كما قيل بان التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاءِ عنصر المعاوضة.
مناقشة هذا القول:(/1)
هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده:
الوقفة الأولى:فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول بأن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصودٌ عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصدُ تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إن الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم ، ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري ، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها . فرغيف الخبر مثلاً لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده- زراعة وحصاداً وتنقية وطحنا وعجناً وخبراً – دون أن يكون لعمال كل مرحة قصدٌ في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف . فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه . وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون في تحصيلها .
ولا أظن أحداً يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول : بان المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون . لا شك أن القول بذلك دعوى موغلةٌ في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحسُّ والعقل . بهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قولٌ لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني .
الوقفة الثانية:مع القول بأن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع.
هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود والذي تبين بطلانُه . فمن خصائص التبرع أن المتبرعَ له حقُّ العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه فما على المحسنين من سبيل ،كما أن له حقَّ الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق . فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع ؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقَّه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حقَّ فسخ العقد معه؟
إن الإجابة على هذا التساؤل من باحثٍ عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول بأن المؤمن والمؤمن له تعاقدُ معاوضةٍ توجب الإلزام كالحال بالنسبة للتأمين التجاري ؛ وأن القول بالتبرع بدون أن تثبت له أحكامه ضربٌ من الوهم والخيال.
الوقفة الثالثة:
مع القول بان توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمينَ التعاوني من أن يكون طريقاً من طرق المتاجرة وطلب الربح.
وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين :
أحدهما : أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمراً محرماً أو مكروهاً حتى يُعَدَّ ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك . والقول بإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح فالضربُ في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.(/2)
الجانب الآخر: يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعة شركةُ تأمين مكونة من مشتركين أعضاءً فيها . فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين ، صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضواً له حقُّ في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزامُ والمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته . وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزماً بدفع قسط التأمين وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب عقده مع الشركة . وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري فكلاها شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره ومن حيث الإلزامُ والصفة القانونية لكلا القسمين . فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والحقوق والواجبات وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات . ومعلوم أن لكل شركة من الشركتين إدارةُ مسؤولةً عن الجانب التنفيذي لأعمال كل شركة سواء أكانت هذه الإدارة من أهل الشركة نفسها أم كانت إدارة أجنبية مستأجرة للإدارة.,كما أن شركة التأمين التجارية ملزمةٌ بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب وإذا كان صندوق الشركة فيه عجزٌ يحول دون كامل التزاماته أو بعضها تعين الرجوعُ إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق ، حتى يكون قادراً على الوفاء بتغطية كامل التزاماته حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فهيا.
وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية وصدرت قراراتُ وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك ، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها . وهذا مما تزول به الحواجزُ المفتعلة بين شركات التأمين التجارية وشركات التأمين التعاونية.
الوقفة الرابعة: مع القول بان التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وان التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات.
مناقشة هذا القول:
على افتراض بأن التأمين التجاري ينطوي على الربا والقمار والغرر والجهالة فإن التأمين التعاوني يصب في نفس هذا الحوض مع التأمين التجاري . فأهل هذا القول يقولون عن التأمين التجاري بأن المؤمَن له يدفع أقساطاً تأمينية هي أقل بكثير مما قد يُدفع له تعويضاً في حال الاقتضاء . وليس تقابض العوضين في مجلس واحد وإنما أحد العوضين يُستلم قبل تسلم العوض الآخر إن كان بوقت طويل ، وهذا هو عين الربا بقسميه ربا الفضل وربا النسيئة . ويمكن أن يقال في بلة هذا القول : بأن التأمين التعاوني يسلك هذا المسلك حذو القذة بالقذة ومن فرق بينهما بدعوى التبرع أو التعاون فتفريقه مردود عليه بما سبق . والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على القمار حيث إن القمار يعتمد على غرم محقق وغنم محتمل حيث إن المشترك يدفع أقساط اشتراكه قطعاً ولا يدفع له التعويض عن الضرر إلا في حال وقوعه . ووقوع الضرر محتملٌ فقد يقع فيُدفع له مبلغ يفوق ما سبق منه دفعه وقد لا يقع الضرر فتضيع مبالغُه التي دفعها في شكل أقساط ،وهذا هو القمار – غرم محقق وغنم محتمل – ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في هذا التصور . فالمشترك في التأمين التعاوني يلتزم بدفع أقساط التأمين بكل حال وقد ينتهي عقد التأمين معه دون أن يقع عليه ما يقتضي التعويض ، فاتفق مع التأمين التجاري في دعوى اشتماله على القمار – غرم محقق وغنم محتمل – والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على الغرر الفاحش حيث إن المؤمن له لا يدري هل ينتهي عقده دون أن يقع عليه ما يوجب التعويض فما مقداره ؟ فهذا عين الغرر . ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التأمين التعاوني يتفق مع هذا التصور ، ويسير بهذا مع التأمين التجاري جنبا إلى جنب . ولا يدفع هذا دعوى أن التأمين التعاوني مبني على التبرع والتعاون والتسامح . فهو قول موغل في الوهم والخيال ، وبمثل ما ذكرنا في دعوى الربا والقمار والغرر نقول في دعوى الجهالة فما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال لك في التأمين التعاوني فليس بينهما فروق تقتضي التقسيم والتفريق في الحكم .
شرعية التأمين بنوعيه(/3)
أن التأمين بنوعيه لو تحقق فيه القول باشتماله على الربا والقمار والغرر الفاحش والجهالة ، لو تحقق فيه ذلك أو اشتمل على واحدة ما ذكر لكان ذلك كافياً في القول بحرمته ولا نعلم في القول ببطلان أي عقد يشتمل على الربا أو الغرر الفاحش أو القمار أو الجهالة خلاف بين أهل العلم في البطلان ، والنصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد e متوافرة في ذلك ، فهل التأمين بنوعيه يشتمل على ما ذكر من ربا وقمار وغرر وجهالة ؟ إننا نستطيع أن نتبين ذلك عن طريق التعرف على محل العقد في التأمين . هل محل ذلك المعاوضة بين نقد ونقد كما هو الحال في المصارفة ؟ أم أن محل ذلك عنصر الرهان والمقامرة بحيث يربح أحد المتقامرين ويخسر الآخر ؟ أم أن محل العقد أمر مجهول لا نعلم حقيقته ولا قدره ولا وجه حصوله ؟ أم أن الغرر متحقق حصوله لدى أطرافه ؟ الواقع أن محل العقد في التأمين بقسميه ليس ما ذكر وإنما هو ضمان الأمن والأمان والسلامة من ضياع المال أو تلفه ، فالأقساط التأمينية ثمن للضمان ، فليس لدينا نقود بنقود ، وليس لدينا غارم وغانم ، وإنما كل طرفيه غانم ، فالمؤمن غانم للأقساط التي هي ثمن ضمانه السلامة . والمؤمن له غانم السلامة سواء سلمت العين المؤمن عليها حيث كسب الطمأنينة والارتياح النفسي أثناء مدة عقد التأمين عليها ، وفي حال تلفها فهو كاسب التعويض عنها ، فهو سالم في حال السلامة أو التلف .
إيرادات على القول بأن محل العقد ضمان الأمن والجواب عنها
أحدها :أن الأمن شيء معنوي لا يصح أن يكون محلا للمعاوضة .
والجواب عن هذا الإيراد : أن الأمن مطلب يسعى لتحقيقه الأفراد والجماعات فالأموال تبذل في سبيل الحماية والحراسة والحفظ وذلك لتحقيق الأمن والسلامة من النقص والتلف والضياع والغصب واضطراب الأمن وانتفاء الاستقرار يستوي في استهداف ذلك الأفراد والجماعات والدول . ولو نظرنا إلى ميزانيات الدول لوجدنا أن وزارات الداخلية تختص بنسب كبيرة من الميزانية ثمنا لتحقيق الأمن والأمان الاستقرار في البلاد وهذا يعني أن الأمن والسلامة والأمان والاستقرار أمور معنوية تبذل في سبيل تحقيقها وتوفيرها للبلاد وأهلها أموال كثيرة قد تتجاوز ثلث ميزانية الدولة.وغني عن البيان القول بأن هناك حقوقا معنوية صالحة لأن تكون محلا للمعاوضات بيعا وشراء وتنازلا وصلحا ، مثل حقوق الطبع والنشر والإنتاج والعلامات التجارية وبراءات الاختراع والتنازل عن الاختصاصات والمعاوضة عن الرغبات الثابتة بالاختصاص كل ذلك من الحقوق المعنوية القابلة لتنقل الأيدي على تملكها بالمعاوضة عنها .
الأمر الثاني : أن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد، والأمن والأمان ليسا مملوكين للمؤمن وقت إبرام عقد التأمين بينه وبين المؤمن له .
والجواب عن هذا الإيراد : أن المؤمن وهو شركة التأمين باع من ذمته أمناً جرى وصفه وصفا تنتفي منه الجهالة ، وجرى ذكره في العقد وهو قادر على تحقيقه للمؤمن له وقت الاقتضاء وذلك بدفعه التعويض الجالب للطمأنينة والسلامة والأمان . وهذا من أشباه ضمان الأسواق وضمان أمن الطرقات التي جرى ذكرها واعتبارها لدى بعض الفقهاء ومنهم فقهاء الحنفية فقد ذكروا : ( لو قال شخص لآخر اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك شيء فيه فأنا ضامن، فسلكه وأخذ اللصوص ماله ضمن القائل تعويضه عما أخذ منه ) اهـ. فهذا نوع من التأمين وهذا القائل : اسلك هذا الطريق وأنا ضامن ما يحصل عليك ، لا يملك الضمان وإنما ضمن له من ذمته مما يغلب على الظن قدرته على حصوله عليه وقت حلول أجل التسليم . وبهذا ينتفي رد هذا القول بأن بائع الأمان لا يملكه وقت العقد .
الأمر الثالث : أن القول ببيع الضمان-الأمن والأمان- باعتباره محل العقد يعني القول بأخذ الأجرة على الضمان وهذا القول قد رفضه جمهور أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع ممن يحفظ عنه من أهل العلم على منع أخذ الأجرة على الضمان حيث جرى تخريج محل العقد في التأمين على شراء الضمان –أي ضمان حصول الأمن والسلامة للمؤمن له- وأن ذلك غير جائز .
والجواب عن هذا ما يلي : إن القول بمنع أخذ الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين أهل العلم وإن ذكر ذلك ابن المنذر –رحمه الله – فقد قال بجوازه الإمام إسحاق بن راهويه أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين وهو سابق لابن المنذر . وقال بجوازه من فقهاء العصور المتأخرة من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف والشيخ عبد الرحمن عيسى والشيخ عبد الحليم محمود ، ومن علماء المملكة الشيخ عبد الرحمن السعدي والشيخ عبد الله البسام .
الأمر الرابع : إن الضمان في التأمين وقع على أمر مجهول قدره وغير واقع وقت حصول التعاقد بين الطرفين والعقد على أمر مجهول قدره وغير واقع وقته مما تفسد به العقود .(/4)
والجواب عن هذا : أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول وضمان المعدوم ، لأن مآله العلم إذا وقع ، والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه ، ومتى وقع حصل العلم بمقداره ، وقد نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول مجموعة من أهل العلم منهم : شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين من الفقهاء ، فقد جاء في الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع علاء الدين البعلي صفحة 132 ما نصه :" ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق –إلى أن قال- ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد" أهـ .
وخلاصة القول فيما ذكر ما يلي :
1- التأمين نازلة اقتصادية من نوازل العصر اقتضاها حماية المال وحفظه .
2- التأمين موضوع جديد لا عهد لفقهائنا الأقدمين به وقد جرى بحثه والنظر في حكمه من حيث الجواز أو المنع لدى مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات والحلقات العلمية ولدى مجموعة من الفقهاء ومن مجموعة من الهيئات الرقابية للمؤسسات المالية الإسلامية .
3- اختلف العلماء في حكمه فمنهم من حرمه مطلقا ومنهم من أجازه مطلقاً ومنهم من فصل في ذلك فأجاز بعضه وحرم البعض الآخر .
4- ذهب جمهور فقهاء العصر إلى تقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني جائز وتأمين تجاري محظور وذكر القائلون بهذا التقسيم وجه القول بجواز التأمين التعاوني ووجه القول بحرمة التأمين التجاري ، وممن قال بهذا هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ،ومجمع الفقه الإسلامي بجدة .
5- استند القائلون بإجازة التأمين التعاوني على أنه تبرع وتعاون وليس من عقود المعاوضات فهو تأمين خال من الربا والقمار والغرر والجهالة وجرى نقاش ذلك بما أزال جسور التفريق بينه وبين التأمين التجاري .
6- أن محل العقد ضمان الأمن والسلامة للمؤمن له وليس معاوضة نقود بنقود حيث انتفى بهذا التوجيه القول بأن التأمين يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة .
7- الجواب على الإيرادات على القول بضمان الأمن من حيث إن الأمن أمر معنوي ليس محل معاوضة وفي نفس الأمر لا يملكه المؤمن كما لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان . وضمان المجهول وما لم يقع محل خلاف بين أهل العلم.
وبعد فرأيي في أن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في غالب مجالات حياتنا ، وأنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة ، ومن جهات ذات اختصاص ، وممن هم أهل لبحثه من حيث المقدرة الفقهية والتمكن الاقتصادي وبُعد النظر من حيث التدبر والاعتبار والتصور والقدرة على تطبيق الأحداث والنوازل على أحكامها الشرعية ، وأن يكون ذلك في محيط قواعد الإسلام العامة وثوابته الجلية وفي محيط التطبيقات الميدانية مع الأخذ في الاعتبار والنظر أن الأصل في المعاملات الإباحة استئناساً بقوله e :( أنتم أعلم بشؤون دنياكم) . وأن ما تتحقق به مصالح المسلمين وحفظ أموالهم أمر مشروع . مع التقيد بآداب النقاش والبحث عن الحقيقة بحيث يلتزم الباحث التجرد عن التعصب لقول معين حتى تظهر وجاهته واعتبار صحته انطلاقاً من مبدأ : الحكمة ضالة المؤمن ، ومن مبدأ : الرجال يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال .
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/5)
التأمين على الحياة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 17/04/1426هـ
السؤال
قمت بشراء بوليصة تأمين على الحياة مبلغها الإجمالي 10000دينار، على أن أدفع قسطاً كل ستة أشهر، والآن موعد القسط 88.5 دينار، وقد دفعت القسط الأول قبل ستة أشهر، والآن موعد القسط الثاني. العقد يلزم الشركة بدفع مبلغ العشرة آلاف في حال الوفاة أو العجز الكلي -لا قدر الله- أو بعد مضي سبع سنوات أستطيع سحب المبلغ كاملاً عشرة آلاف، والآن وقبل دفع القسط الثاني أريد رأي الإسلام (حلال أو حرام ولماذا) لأن قراري بالاستمرار أو الانسحاب سيكون بناءً على ردكم. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
التأمين على الحياة حرام لا يجوز؛ لما فيه من الغرر والجهالة، وأكل مال الغير بالباطل، وكثير ما يؤدي التأمين بين الطرفين إلى مشكلات وخصومات لا تكاد تنتهي في الدوائر والمحاكم. والله يقول: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" [البقرة:188].
ومن وجوه التحريم أن الأمن والأمان أمر معنوي لا يملك، فلا يصلح أن يكون محلاً للعقد فضلاً عما فيه من المخاطرة الجسيمة للطرفين وخاصة المؤمّن –طالب التأمين- إما غارم أو خاسر.
وعامة فتاوى العلماء والمجامع العلمية تحرم هذا النوع من التأمين، ومن أجازه للضرورة لما يكون إلزامياً للفرد لا خيار له فيه.
والخلاصة: إن التأمين على الحياة حرام لا يجوز مباشرته اختياراً، وإباحته للضرورة الشرعية في بعض الأحوال-تدل على بقائه في الأصل حراماً.
والله أعلم.(/1)
التأمين على اللاعبين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 03/07/1425هـ
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
فضيلة الشيخ: أقوم باللعب مع نادٍ رياضي يقوم بتأمين اللاعبين أثناء اللعب، مع العلم أن هذا التأمين يتم بتقديم النادي مبلغاً مالياً عن كل لاعب لشركة التأمين سنوياً، و قد أُصبت في إحدي المباريات، وقام الطبيب بفحصي، و تقديم نسبة مئوية عن الضرر الذي أصبت به، وعلى أساس هذه النسبة تقوم شركة التأمين بتقديم تعويض مالي لي، فهل يجوز لي أخذ هذا التأمين؟.والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
القاعدة في أخذ مبلغ التأمين ألا تأخذ من شركة التأمين أكثر مما دفعت لها من أقساط أو دفعها التأمين عنك،ووجه جواز أخذك العوض من الشركة تعويضاً عن الحادث الذي أصابك هو أن النادي يدفع مبلغ التأمين عنك سنوياً تبرعاً منه لك لتشجيع اللاعبين وجذبهم، وإن كان التأمين مشروطاً عند دخولك مع النادي فما فعله النادي إنما هو تحقيق للشرط، وإن لم يشترط فهو جار مجرى العرف، والقاعدة الشرعية تقول: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وعلى هذا فإن أخذ التعويض المالي عما لحقك من الضرر جائز، لا سيما أنك لم تدفع التأمين وإنما دفعه النادي. والله أعلم.(/1)
التأمين على رخصة القيادة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 10/3/1423
السؤال
ما حكم التأمين على رخصة القيادة، وخاصة أنه سيكون إجبارياً في السعودية في بداية العام الجديد؟ وما هو موقف العلماء من هذا الحدث؟
الجواب
لا يجوز التأمين على الرخصة؛ لأنه تأمين على صاحبها عن الحوادث ضد الغير، وهذا النوع من التأمين من التأمين التجاري البحت المحرم شرعاً؛ لأنه مبني على الجهالة والغرر وأكل أموال الناس بغير حق، وفتاوى جمهور العلماء في المجامع الفقهية وهيئات الفتوى تحرم التأمين التجاري القائم اليوم في أغلب دول العالم، إذا كان اختيارياً لا يلزم به أحد من الناس، أما إذا كان التأمين إلزامياً وبغير رضا واختيار فيجوز التأمين على الرخصة مثلاً، فالإثم على من أجبر غيره عليه بناء على قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، وعلى الإنسان الذي أجبر على التأمين على الرخصة مثلاً، ألاَّ يأخذ أكثر مما دفع فيما إذا عوضته الشركة عما حصل عليه من ضرر اعتماداً على قاعدة (الضرورات تقدر بقدرها)، وعلى المسلم أن يتحرى لدينه وعرضه فيبتعد عن الحرام أو ما فيه شبهة للحرام، كما ورد في حديث النعمان بن بشير:" إن الحلال بَيّن والحرام بَيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .." رواه البخاري (2051) ومسلم (1599) واللفظ له. والله أعلم .(/1)
التأمين على معارض السيارات
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 25/7/1424هـ
السؤال
لدينا صالة بيع سيارات، وجاءتنا عروض من عدة وكالات للسيارات؛ لنكون لهم وكيلاً أو موزعاً معتمداً، ولكن نتوقف عن نقطة التأمين على هذه الصالة، حيث إننا نرفض ذلك إلا أنهم يصرون على هذا الشرط، ما رأي سعادتكم في هذا الأمر؟ أرجو إفادتنا بالتفصيل.
الجواب
التأمين التجاري على الممتلكات حرام ولا يجوز لاشتماله على الغرر والجهالة والربا المحرم في القرآن والسنة، وعلى هذا عامة فتاوى أهل العلم والمجامع الفقهية والهيئات والمؤسسات الشرعية، وما دام في مكنة السائل ألاَّ يدخل في هذا العقد التأميني بهذه الصالة فلا يجوز له الإقدام حينئذ، أما لو كان ملزماً وإجبارياً كما هو في البلاد الأخرى فربما جاز ذلك، إذ لعله الإكراه والضرورة الشرعية، مع أن الضرورة تقدر بقدرها، ولا يجوز تجاوز الحد الأدنى منها إلى غيره، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
التأمين..أنواعه وأحكامه (1/2)
د/ منصور بن تركي المطيري
خلال السنوات العشر المنصرمة وأنا في بداية التكوين العلمي سواء من خلال الدراسة النظامية في المعهد العلمي والكلية ثم المعهد العالي للقضاء أو من خلال الدراسة على الشيخ محمد ابن عثيمين – رحمه الله -، ما زلت مقتنعا بجوانب من الكلام على موضوع التأمين التجاري، لكن كنت أعتقد أن هناك جوانب تمثل خللا يحتاج إلى مزيد بحث ونظر.
وبعد مدة من إمعان النظر – خاصة وقد تزايدت الحاجات إلى النظر المباشر في مسألة التأمين، وتغيرت كثير من الظروف التي تدعو إلى بيان شاف في حكم التأمين – وجدت أن كثيرا من القضايا المتعلقة بحكم التأمين لا يزال فيها أخطاء علمية لم أجد من وضحها، كما أن هناك بعض المسائل والأدلة لم يشر إليها ولم يمعن النظر فيها لذا سعيت إلى إظهارها وإبرازها، ولا شك أن مسألة التأمين مسألة حادثة في العصور المتأخرة وفي الوقت نفسه شائكة ومشكلة نوعا ما.
والتأمين يأخذ ثلاث صور وأنواع رئيسة هي التأمين الخيري، والتأمين التعاوني، والتأمين التجاري (1)، حيث يقوم الخيري على مبدأ الزكاة والصدقة، والدافعون له هم الأغنياء، والمستفيدون منه هم الفقراء. وأما التعاوني فيقوم على اشتراك جماعة من الناس في دفع أقساط يؤديها الجميع ومن خلالها يمكن استفادة أي منهم بهذه المبالغ عند حصول الحادث أو الضرر، وتدير هذا التأمين جمعية تعاونية، أما التجاري فهو مثل التعاوني إلا أنه يهدف إلى الربح، وتديره شركة ربحية تجارية.
فالتأمين الخيري متفق على مشروعيته على تفاصيل أحكامه المعروفة في كتب الفقه، والتعاوني أجازه الكثيرون ومنعه البعض – وممن أجازه هيئة كبار العلماء. والتجاري وهو موضوع حديثنا مختلف فيه بين العلماء، ومن الأمور التي لاحظتها في الكلام على هذا النوع من التأمين هو التزايد في التدليل من كلا الطرفين المبيحين مطلقا والمانعين مطلقا، كما أني لاحظت وجود حق في أدلة كل فريق، وعليه سأظهر الرأي الوسط في هذا المقال المختصر والذي يأخذ بكل حق عند الآخر وتبيين ما عنده من خطأ بقدر الإمكان، والذي أعتقد أن الاهتمام به وتفعيله سيؤدي إلى تقريب كبير لوجهات النظر المتباينة.
حقيقة التأمين التجاري
أريد أن أبين هنا أن كلامي في هذا المقال منصب على حكم جوهر التأمين وذاته، ولست أقصد الكلام على عقود شركات التأمين الحالية التي يتضمن كثير منها مخالفات شرعية سواء في الشروط أو في بعض أنواع التأمين التي يقول بمخالفتها للشريعة حتى القائلون بإباحة التأمين مطلقا، والتأمين اصطلاح عربي حديث، يقابل في الاصطلاح الفرنسي (Assurance) والإنجليزي: (Insurance) ويعني تحقيق الأمان، والأمان بالفرنسية (Securite) وبالإنجليزية (Security) ومن هذين اللفظين دخلت كلمة (سوكرة) أو (سوكرتاة) إلى بعض الجهات العالمية في مثل الشام (2) وقد استخدمت في بعض البحوث القديمة.
وتعريفه القانوني كما عرفه بعض الباحثين فقال: هو التزام طرف لآخر بتعويض نقدي يدفعه له أو لمن يعينه عند تحقيق حادث احتمالي مبين في العقد مقابل ما يدفعه له هذا الآخر من مبلغ نقدي في قسط أو نحوه (3).
التأمين التجاري قمار وغرر ولكن…
كثير من القائلين بحرمة التأمين مطلقا يصوغون ثلاثة أدلة أو أكثر وهي عند التحقيق وفي الحقيقة تعود إلى دليل واحد (4)، فيقولون: التأمين حرام لأنه ميسر وقمار، ولأنه غرر وجهالة، ولأنه رهان ومخاطرة، ولأنه أكل لأموال الناس بالباطل، وهذا الأخير من آثار ما سبقه من تعليلات وليس مستقلا عنها، وكل ما سبق في الواقع دليل واحد، وأنا أستغرب من محاولة التعداد والتكاثر لمعاني مترادفة، أو على الأقل معاني متقاربة جدا، بل ومن المؤكد هو اتفاقها وتطابقها في أغلب القضايا المعينة، فإنها وإن تفاوتت في المفهوم، فقد تطابقت في كثير من المصادقات التي منها التأمين، وإظهار التباين في موطن الاتفاق خلل وعيب.
والقمار في اللغة من قمر يقمر مقامرة وقمارا وقمرا من باب نصر، يقال: قمر الرجل الثلج: تحير بصدره من الثلج، وتقمر الصيد: خدعه، وتقمر المرأة خدعها وطلب غرتها، وتقمر عدوه: تعاهد غرته ليوقع به، وتقمره: راهنه فغلبه (5)، ففي معنى القمار في اللغة التغرير بالشخص لجهالة عاقبة أمره، وهذا مقارب للمعنى الاصطلاحي الذي سيأتي.(/1)
ويبحث معنى القمار في لغة الفقهاء واستعمالاتهم، وهل هو خاص باللعب بالمال، كما يقول الدكتور رفيق المصري عازيا ذلك إلى أبي عبيد صاحب كتاب الأموال (6)، أو هو عام لكل غرر اشتمل على مخاطرة بين حصول الغنم أو الغرم؟. نجد بعد التتبع لأقوال العلماء والفقهاء واستعمالاتهم للفظ القمار أنهم يعممون معناه: فقد أطلق الإمام مالك على بعض بيوع الغرر قمارا (7) وتبعه في ذلك أصحابه، كما أطلق الشافعي القمار على معاملات ليس فيها لعب مثل قوله المعروف في شركة المفاوضة بأنها قمار (8)?، وكذلك كثير من الأحناف (9)، وأما الحنابلة فهم أيضا يوسعون معنى القمار، ودليل على ما ذكرنا: كلام السلف عند قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم وكبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (10)، حيث قال كثير منهم: "الميسر هو القمار كله"، وقالوا أيضا: "القمار الميسر"، وقال بعضهم: "كل شيء له خطر فهو من الميسر" ورد مثل ذل بمعان متقاربة عن ابن عباس، والحسن، وقتادة ومعاوية بن صالح، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم (11).
يقول ابن تيمية: "لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم، فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل… وعلى هذا فللفظ الميسر في كتاب الله يتناول هذا كله، وما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر يتناول كل ما فيه مخاطرة (12)، وقال أيضا: "الغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار" (13). وقال ابن القيم: "الجهالة المانعة من صحة العقد التي تؤدي إلى القمار والغرر" (14)، وقال ابن مفلح: "الغرر ما تردد بين الوجود والعدم فهو من جنس القمار الذي هو الميسر وهو أكل المال بالباطل" (15).
وبهذا يتبين أن معاني الميسر والقمار والرهان والمخاطرة والغرر متقاربة إن لم تكن متطابقة هنا من حيث المقاصد، وعليه فإنه وبالنظر إلى التأمين وحقيقته نجد أنه مشتمل على وجود المقامرة والمخاطرة لأن المؤمن عليه الذي دفع قسطه قد يحصل عليه حادث أو حوادث فيحصل على التعويض المناسب فيكون رابحا وقد لا يحصل عليه شيء فيكون خاسرا، والتأمين مبني على عنصر الخطر والاحتمال، فلا يكون التأمين أبدا على حادث محقق الوقوع، ووجود الغرر والقمار في التأمين أمر معترف به عند الغربيين، فهو يدخل عند رجال القانون الفرنسي فيما يسمى : (Contrat aleatoirs) وهي عقود الغرر، أو العقود الاحتمالية، وهو عندهم مستثنى من القمار المحرم (16).
تساؤلات وأجوبة:
لكن … 1- هل تحريم القمار (الميسر) أو الغرر كان سدا للذريعة فيباح حينئذ للحاجة؟
2- وهل تحريم الميسر كله في درجة واحدة من التحريم أو في درجات متفاوتة؟
3- هل تحريم القمار (الميسر) أو الغرر مثل تحريم الربا؟ وعليه، ما موقف التأمين من كل ذلك؟.
1- بالنظر في كثير من الأدلة والأحكام وكلام العلماء نجد أن القمار (الميسر) والغرر مما حرم سدا للذريعة، وقد توسع في ذلك ابن تيمية في كتابه (القواعد النورانية) وفي بعض أجوبته كما في المجموع له، ويدل عليه قوله تعالى: "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" (17)، فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، فإن المطالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك (18)، وأيضا ما جاء في الحديث الذي رواه زيد بن ثابت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع (أي المشتري): إنه أصاب الثمر دمان، أصابه مرض، أصابه قشام عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله – لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: "وايم والله فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر" كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من خصام.
2- القاعدة الفقهية تقول: ما حرم سدا للذريعة يباح للحاجة أو للمصلحة الراجحة" كما قرر ذلك جمهور العلماء كالعز بن عبدالسلام، والقرافي، وابن تيمية، وابن القيم، والمقري، وغيرهم (19)، وضابط الحاجة هو كونها متضمنة لمصلحة راجحة على المفسدة المفضية إليها الوسيلة.(/2)
3- يجدر الإشارة هنا – للإجابة على التساؤل الثالث- إلى أن الذريعة أو الوسيلة تتفاوت من وسيلة إلى أخرى، فقد تكون الوسيلة مقصدا وغاية لما دونها، وقد تكون الوسيلة تفضي إلى شرور ومفاسد قطعية وكثيرة، وقد تفضي إلى مفاسد وشرور ظنية أو محتملة وقليلة، وعليه فالحاجة التي تبيح الأخيرة لا تبيح التي قبلها للاختلافات، بل قد تصل تلك إلى كونها أشد في جنسها من بعض ما حرم تحريم مقصد من غيرها، والميسر بخصوصه يشمل أنواعا من المسائل التي يتفاوت إفضاؤها إلى الشرور والمفاسد قوة وضعفا، وقلة وكثرة، لذا يقول ابن تيمية: "الميسر اشتمل على مفسدتين: مفسدة في المال وهي أكله بالباطل، ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب وفساد ذات البين، وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهى عن أكل المال بالباطل مطلقا، ولو كان بغير ميسر كالربا، وينهي عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بالعداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال، فإذا اجتمعا عظم التحريم فيكون الميسر المشتمل عليها أعظم من الربا ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا (20)، ويقول في موضع آخر: "وهذا أصل مستمر من أصول الشريعة كما قد بسطناه في قاعدة سد الذرائع وغيرها، وبينا أن كل فعل أفضى إلى ذلك المحرم كثيرا كان سببا للشر والفساد فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة نهي عنه، بل كل سبب يفضي إلى الفساد نهي عنه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة فكيف بما كثر إفضاؤه إلى الفساد، ولهذا نهي عن الخلوة بالأجنبية، وأما النظر لها فقد كانت الحاجة تدعو إلى بعضه وخص منه فيما تدعو له الحاجة، لأن الحاجة سبب الإباحة، كما أن الفساد والضرر سبب التحريم فإذا اجتمعا رجح أعلاهما (21).
4- الأصل في الميسر أنه أقل حرمة من الربا إلا أنه قد يزيد عليه إذا اجتمعت فيه الشرور والمفاسد القطعية والكثيرة، لذا قال ابن تيمية: "فتبين أن الربا أعظم من القمار الذي ليس فيه إلا مجرد أكل المال بالباطل" (22)، وقال أيضا: "فالربا في ظلم الأموال أعظم من القمار… فلو لم يكن في الميسر إلا مجرد القمار لكان أخف من الربا لتأخر تحريمه، وقد أباح الشارع أنواعا من الغرر للحاجة" (23)، وفي موضع آخر يقول: "وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر الذي هو القمار لأن المرابي قد أخذ فضلا محققا من محتاج، وأما القمار فقد يحصل فضل وقد لا يحصل" (24)، ويقول: "ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا (25)، وبهذا يتبين أن القمار الذي ليس فيه إلا مجرد القمار أقل حرمة من الربا. بهذا السياق نصل إلى نقطة مهمة وهي: ما موقف التأمين مما سبق؟: عند تأملنا للتأمين نجد أنه مجرد مخاطرة بالمال مبنية على استفادة المؤمن عليه عند حصول الحادث المحتمل وقوعه، وخسارته قسطه عند عدم هذا الحادث وربح المؤمن في هذا الحال، فإذا علمنا خلو التأمين من المفاسد المنصوص عليها في الآية وهي الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وعدم وقوع العداوة والبغضاء به، خاصة إذا قام عقد التأمين على قواعد بنود واضحة وغير مجملة، وكان محررا من جهة (شرعية أنواعه). لم تكن مشكلته حينئذ إلا مجرد القمار الذي يغمر في جانب الحاجة الماسة والمصلحة الراجحة، والقاعدة الفقهية تقول: لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة خوفا من المفاسد النادرة، والقاعدة الأخرى: أغلب ما بني عليه الشرع جلب المصالح الظاهرة ودرء المفاسد البينة" (26).
فكان النظر وقتها محصورا في مدى "الحاجة للتأمين" ومدى أرجحية مصلحته بالنسبة لمفسدته بناء على القاعدة التي ذكرتها وهي أن ما حرم سدا للذريعة يباح للحاجة والمصلحة الراجحة.
-----------------------------------
(1) الحظر والتأمين، د. رفيق المصري ( ص 57).
(2) نفس المرجع (ص 33).
(3) التأمين وأحكامه للدكتور سليمان الثنيان (ص 40).
(4) نفس المرجع (ص 212 – 240)، وبحث لبعض أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كما في مجلة البحوث (عدد 19) (ص 71 – 126).
(5) القاموس المحيط (ص 598).
(6) د. المصري – مرجع سابق – (ص 73).
(7) المدونة، كتاب الغرر (255/3).
(8) الإمام الشافعي (237/3).
(9) انظر المبسوط للسرخسي (101/15)، وتبيين الحقائق للزيلعي (132/4).
(10) سورة البقرة (آية 219).
(11) انظر تفسير الطبري (370/2)، وأحكام القرآن للجصاص (450/1)، والمصنف لابن أبي شيبة (280/5) (194/6).
(12) مجموع الفتاوى (283/19)، وانظر القواعد النورانية (ص 194).
(13) المجموع (22/29).
(14) إعلام الموقعين (266/3).
(15) الفروع (430/4).
(16) د. المصري – مرجع سابق – (ص66).
(17) سورة المائدة (آية 91).
(18) انظر الفتاوى الكبرى (30/4).(/3)
(19) انظر القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (123/1)، (77/2)، والفروق للقرافي (62/2) الفرق (58)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (298/22)، و(46/29)، و (228/32)، وزاد المعاد لابن القيم (242/2) و بدائع الفوائد له (722/3) والقواعد للمقري (ق 146).
(20) الفتاوى الكبرى (473/4).
(21) نفس المرجع (472/4).
(22) نفس المرجع.
(23) نفس المرجع.
(24) مجموع الفتاوى (341/20)
(25) القواعد الكبرى للعز (138/1)، و (83/1).
(26) انظر الهامش رقم (2).(/4)
التأويل الباطني عند الجمهوريين
أ.د. شوقي بشير عبد المجيد*
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله و على آله و صحبه أجمعين، و بعد:
فقد اخترت لهذا البحث عنوان " التأويل الباطني عند فرقة الجمهورين بالسودان" و التأويل هو صرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة، فالظاهر عند الباطنية هو الأمثال المضروبة للمعاني الخفية، فالتأويل في نظرهم هو الطريقة المؤدية إلى رفع التعارض بين ظاهر النصوص و باطنها. و التأويل الباطني هو أساس الشرع المبدل الذي هو التأويلات الفاسدة، و التفاسير المقلوبة، و الأحاديث المكذوبة، و البدع الفكرية المضلة التي أدخلت في الشرع عن قصد من الفرق الباطنية المعاصرة و القديمة. و فرقة الجمهوريين بالسودان فرقة معاصرة لها خطرها على عقائد المسلمين، و قد جعلت هذه الفرقة- كغيرها من الفرق الباطنية المعاصرة- ما وصلت إليه من تفسير القرآن الكريم و شرح السنة النبوية سبباً في الخروج على الكتاب و السنة لما ظنوه معارضاً لهما لما يسمونه قياساً و رأياً و عقليات و قواطع.
و الهدف من هذا البحث بيان أن الفرق الباطنية عموماً و فرقة الجمهوريين - على وجه الخصوص- قد بنت عقائدها على التأويل الباطني و الأحاديث الموضوعة. و في هذا البحث سوف أنبه على المآخذ التي أراها في منهجهم المعرفي و تأويلهم الباطني.
و قد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في محورين، تناولت في المحور الأول التعريف بمصطلح التأويل الباطني و التعريف بفرقة الجمهوريين. أما المحور الثاني فقد تناولة فيه التأويل الباطني عند الجمهوريين.
هذا هو جهدي المتواضع أقدمه، مع علمي أن كل كسب بشري عرضة للخطأ و الصواب و المراجعة في زمنه و الأزمان التالية، فإن و فقت فالحمد لله رب العالمين، و إن أخطأت فأرجو من الإخوة الكرام تصويبي و تصحيح ما وقعت فيه من أخطاء. و أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجه الكريم، و أن يوفقني لما يحبه و يرضاه، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المحور الأول: التعريف بمصطلح التأويل:
التأويل عند السلف:
يطلق التأويل على عدة معان فيراد به الحقيقة و العاقبة، " حقيقة ما يؤول إليه الكلام، و إن وافق ظاهره. و هذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب و السنة كقوله تعالى:( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) الأعراف:35.
و يراد بلفظ التأويل أيضاً التفسير، و هو كثير في اصطلاح المفسرين، و لهذا قال مجاهد – إمام التفسير- "إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره و بيان معانيه و هذا مما يعلمه الراسخون"[1]
التأويل عند المتأخرين:
هو صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى مايخالف ذلك لدليل منفصل يوجب ذلك: أو بعبارة أخرى "صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ لدليل يقترن به مع قرينة مانعة من المعنى الحقيقي"[2]، و هذا النوع من التأويل يعذر به المسلم، فالعذر بالتأويل كالعذر بالخطأ مما قال به أهل السنة، " فقد يتلبس الإنسان بالكفر أو يقع فيه نتيجة لقصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمدٍ للمخالفة، و لكن لا يعذر الإنسان بكل تأويلٍ بل من التأويل ما يعذر به و منه ما لا يعذر به.
و التأويل الذي يعذر به:
1. إذا كان التأويل يحتمله المعنى أو له وجه في الفهم فيعذر به الشخص.
2. أن لا يكون التأويل في أصل من أصول الدين.[3]
و تسمية هذا النوع من التأويل تأويلاً لم يكن في عرف السلف، و إنما سَمَّي هذا تأويلاً جماعة من العلماء المتأخرين، و ظنوا أن قوله تعالى:( و ما يعلم تأويله إلاّ الله) (آل عمران:7) يُراد به هذا المعنى. ثم صاروا في هذا التأويل على طريقتين – كما يقول ابن تيمية- " قوم يقولون إنه لا يعلمه إلا الله، و قوم يقولون الراسخون في العلم يعلمونه، و كلا الطائفتين مخطئة، فإن هذا التأويل في كثير من المواضع من باب تحريف الكلم عن مواضعه" خاصة التأويل الذي لا يعذر به، التأويل الباطني، فمثل هذا التأويل لا يقبل و لا يعذر به، و من هذا النوع تأويلات الباطنية الأوائل أمثال الخطابية، البيانية، الجناحية، المغيرية، العجلية، المحمرة، البابكية، الخرمية و الاسماعيلية، و الحركات الباطنية المعاصرة من أمثال البابية، البهائية، القاديانية، الدروز، الإسماعيلية و فرقة الجمهوريين بالسودان.
و قد أجمع العلماء على كفرهم و أنهم لا يعذرون بالتأويل لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى و عدم عبادته وحده و إسقاط شرائع الإسلام.
التأويل الباطني:(/1)
التأويل عند الباطنية هو صرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة، فالظاهر عند الباطنية هو المعاني الخفية المطلوبة. فالتأويل الباطني أمر لا بد منه عند الباطنية في فهم الشريعة الإسلامية، فالشريعة عندهم مشتملة على ظاهر و باطن لاختلاف فطر الناس و تباين قرائحهم في التصديق، فكان لا بد من إخراج النص من دلالته الظاهرية إلى دلالته الباطنية بطريق التأويل، "فالظاهر هو الصور و الأمثال المضروبة للمعاني، و الباطن هو المعاني الخفية التي لا تتجلَّى إلاّ لأهل البرهان[4]. فالتأويل في نظرهم هو الطريقة المؤدية إلى رفع التعارض بين ظاهر الإقاويل و باطنها"[5].
قال الباطنية: " القرآن ظاهر و باطن، و المراد به باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، و نسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللبِّ إلى القشر، و المتمسك بظاهره معذب بالشقشقة في الكتاب، و باطنه مؤدٍّ إلى إلى ترك العمل بظاهره، و تمسكوا في ذلك بقوله تعالى :( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب)(الحديد:13)[6].
و قد اتخذ الباطنية من أمثال الخطابية، الجناحية، المغيرية، العجلية[7]، الشيخية[8]، البابية[9]، البهائية[10]، الإسماعيلية الأغاخانية[11]، فرقة الجمهوريين بالسودان[12]، البهرة[13] و القاديانية[14] التأويل الباطني الذي لا يلتزم بقواعد اللغة و دليل العقل، و الشرائط التي وضعها العلماء للتأويل الذي يعذر به. و اتخذوا ذلك المنهج وسيلة لهدم الدين و تحريف أصوله و قواعده، و جعلوه طريقاً يوصل إلى إسقاط التكاليف الشرعية. و بلغ الأمر منتهاه عند الإسماعلية و إخوان الصفا و غيرها من الفرق التي ربطت التأويل بألوان من العلوم الغامضة و اشتغال بالحروف و الأعداد و أسرارها[15].
قال الديلمي تحت عنوان "ذكر طرف من تأويلاتهم الباطنية" : "اعلم أن مذهبهم في الجملة أنه لا بد لكل ظاهر من باطن و هو المقصود حقيقة، و هو بمنزلة اللب، و الظاهر بمنزلة القشر، و عمّوا بذلك جميع الكلام و أنواع الإجسام، و لم يعتبروا المطابقة بين الظاهر و الباطن، بل تأويلاتهم لا تناسب الظاهر من حيث الحقيقة و المجاز، و لم يقتصروا مع ذلك على تأويلٍ واحد، بل أثبتوا تأويلاً للتأويل، و جعلوا للعبارة الواحدة تأويلات عدَّة حتى ذكر صاحب (المبتدأ و المنتهى) – وهو من أكابرهم في الكفر و الضلالات و العمى- قال: و قد روي عن موالينا عليهم السلام أنّا نقول الكلمة لها سبعة وجوه. فقال قائل: سبعة وجوه!. فقال سبعون. فقال القائل: سبعون!. فقال: سبعمائة. فكل ما ارتجَّ على قارئه و خفيت معرفته و دقت عليه إشارة و كنا بقربه فليسألنا عنه، أو من يعلم أنه أعلم من أبناء جنسه ممن يحمل هذا العلم، و متى كان الأمر على ما ذكره فلا يمكن الوقوف على المراد بالكلام أصلاً و الحال هذه، و لعل السائل لو قال له: سبعمائة!. لقال سبعة آلاف ثم هكذا، لأن تحقيق ذلك خرج عن الحصر لعدم المطابقة، و هذا يحقق لكل ذي تمييز أن غرض القوم ما قدمنا من الخلع عن الدين، و السلخ عن دين المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، و قد قال تعالى: (و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودَّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) (الزمر:60)[16].
و قال أبو حامد الغزالي، الصوفي، الأشعري، الشافعي(450-505هـ): "أنهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن القرآن و السنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريف زخرفوها، و استفادوا بما انتزعوه من نفوسهم من مقتضى الألفاظ إبطال معاني الشرع، و بما زخرفوه من التأويلات تنفيذ انقيادهم للمبايعة و الموالاة، و أنهم لو صرحوا بالنفي المحض و التكذيب المجرد لم يحظوا بموالاة الموالين، و كانوا أول المقصودين المتقولين"[17].
و قال العلوي: " اعلم أنهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن التصديق عمدوا بلطف الاحتيال و دقة الاستدراج، فصرفوا ظواهر الشرع و نصوصه إلى هذيانات لفقوها، وتهويسات جمعوها و زوَّروها، ليستفيدوا بذلك إبطال معاني الشرع و هدم أساسه، و أوقعوا في نفوسهم أنهم لو صرحوا بالنفي المحض و التكذيب الصرف لم يثقوا بانقياد الخلق لضلالتهم، و لا بإصغاء سمع أحد إلى جهالتهم فقالوا: "كل ما ورد من التكاليف، و الحشر و النشر، و ضمائر النصوص، و الظواهر، و جميع المعجزات، فهي بأجمعها أمثلة و رسوم إلى بواطن مكذوبة، و أمور محرفة موهومة"[18].
فرقة الجمهوريين بالسودان:(/2)
إن أول نواة لفرقة بالسودان هم مجموعة من السودانيين الذين انتموا إلى الجماعة التي أسسها محمود محمد طه[19]في الأربعينات من القرن الماضي. و كانت بداية هذه الجماعة نتيجة لظروف مشابهة للظروف التي أسهمت في كثيراً في ظهور الأحزاب السياسية السودانية، إلا أن هذه الجماعة كانت علمانية الاتجاه بصورة واضحة و أعلن زعيمها ذلك في سَفْره الأول الذي أعلن فيه أن الدين ويعني- الإسلام- ليس بمفلت من التشكيك و يجب أن يوضع على منضدة البحث العلمي لرفض ما لا يتناسب مع العصر عن طريق تأويل النصوص التي لا تتماشى مع القرن العشرين كنصوص الجهاد و العبادة. و مع أن اتجاه هذه الجماعة كان واضحاً منذ البداية إلا أن زعيمها حاول أن يصبغها بصبغة دينية حتى يجد سنداً شعبياً في بلد يدين معظم أهله بالإسلام و ينتشر فيه التصوف.
و ظهرت فرقة الجمهوريين باتجاهها الباطني المخالف للإسلام في عام 1965م العام الذي أعلن فيه زعيمهم بأنه قد استقام له أمر نفسه و أصبح على مشارف الوصول للمعية بالذات[20]. و خرج من جماعة الجمهوريين عدد من الرجال بعد أن أصبحت فرقة باطنية، كما دخل فيها آخرون إعجاباً بتأويله للخطاب الديني. و قد نجح محمود محمد طه في ملء فراغ أتباعه الفكري بفكره التلفيقي الذي جمعه من أفكار و فلسفات الفرق الباطنية في القديم و الحديث، و من الفلسفات الإلحادية و المذاهب المعاصرة.
و قد قام الفكر الجمهوري في بدايته على أصول فلسفية منها:
1. مذهب وحدة الوجود، وهي وحدة وجود مادية تجعل الحق سبحانه و تعالى مادة الأشياء[21].
2. أزلية و أبدية المادة.
3. المعدوم شيئ ثابت في العدم و هو عين الله بمعناه البعيد[22].
4. عقائد النِّحل الباطنية في القديم و الحديث[23].
5. عقيدة التجسد الإسماعيلية أو البهائية[24].
6. الفلسفة الوجودية.
7. الفلسفة الشيوعية.
8. النظرية الدارونية بديلاً للخلق من عدم.
و أضاف إليها الجمهوريون اليوم (النظام العالمي الجديد).
المحور الثاني: التأويل الباطني عند الجمهوريين:
الاتجاه الجمهوري في التفسير اتجاه باطني، هو باب من الإبواب دلف منها الجمهوريون إلى ترويج مذهبهم و نشره اعتماداً على ما أثبته محمود محمد طه لنفسه في هذا الباب، فقد بلغت به الجرأة أن أثبت لنفسه كثيراً من الآيات التي نزلت صريحة في حق نبينا صلى الله عليه و سلم،و أثبت كثيراً من الآيات التي تحدثت عن عيسى عليه السلام، كما ذكر أن الآيات التي تتحدث عن الصراط و عن يوم القيامة، و عن مسائل غيبية كثيرة تتحدث عنه و عن فرقته، و حرَّف آيات القرآن الكريم تحريفات معنوية و لفظية يصعب حصرها، و استعان في ذلك بمناهج الباطنية الذين يتطرفون في تأويل المصطلحات الإسلامية و الكلمات الشرعية المتواتر لفظها و معناها ومفاهيمها، و يتوصلون إلى فتح باب الإلحاد و الفساد و الفوضى الفكرية على مصراعيه، و العبث بالدين و بعقول الناس .
و يرى محمود محمد طه أن التفسير الذي يقدمه لآيات القرآن هو التفسير المراد، وهو الذي يحمل المعاني الحقيقية للقرآن الكريم، و هو من هذه الناحية لم يسبق أن قدمه أحد، فهو المعنى البعيد الذي عند الله، المعنى الذي نزل معه المعنى القريب.
و يرى محمود محمد طه – زعيم الجمهوريين – أن المفسرين السابقين من الصحابة و التابعين و غيرهم لم يستطيعوا فهم النصوص الأصلية و بيانها، وذلك لاعتمادهم على اللغة العربية، و اللغة العربية – عند الجمهوريين – لا تحمل من معاني القرآن الحقيقية شيئاً، و لا تخبر عن المقصود عنه في الحقيقة، و لذلك لا بد من التأويل الباطني و صرف الألفاظ عن معانيها الظاهرة التي اتبعها الصحابة و التابعون لهم، فالصحابة رضي الله عنهم في نظر الجمهوريين لم يستطيعوا فهم النصوص الفرعية التي يستطيعون متابعتها، و ترك أمر بيان و تفسير النصوص الأصلية للجمهوريين.
و يرى الجمهوريون أن زعيمهم هو الذي استطاع استيعاب النصوص الأصلية لأنه الأصيل الأول و الوارث المحمدي الذاتي المقام الذي ترقى في سيره المحدود إلى المطلق و من العلم الناقص إلى العلم الكامل.(/3)
و يستعين الجمهوريون في منهجهم الباطني و تأويلهم للنصوص ببتر الأجزاء التي يصعب تأويلها من النص، فيذكرون جزءاً من الحديث أو الآية للإيهام، خاصة إذا رأوا أن الجزء المبتور يبيِّن فساد عقيدتهم، أو يؤكد بعدها عن الدين، و لذلك يحرصون على ذكر الجزء من الحديث الذي يوافق هواهم، و مما لا شك فيه أن هذا إهمال – عن قصد- لأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم . و الغرض من ذلك البتر جعل السامع يعتقد صحة الأدلة التي استدل بها باتر النصوص مع ما في الجزء المبتور من بيان لفساد عقيدته، كما أن بتر النص قد يعطي معنىً مخالفاً لما يعطيه النص بأكمله، بل قد يدفع بصاحبه إلى الكفر، و لذلك نبهنا أكثر من واحد من السلف إلى عدم بتر النصوص حتى في الكلام العادي، و نستدل لبيان أن نصف الجملة قد يدفع بصاحبه للكفر -إن اعتقده- بجمل استخدمها الأشعري رحمه الله " إن الكفر باطل، و الكفر قضاء الله تعالى، بمعنى أنه خلق الله، و لا يقول قضاء باطل، لأنه يوهم أنه لا حقيقة لقضاء الله، وهذا كما نقول الكافر مؤمن بالجبت و الطاغوت، ولا نقول مؤمن و نسكت لما فيه من الإبهام"[25].
و لأهمية ذكر الأحاديث كاملة دون بتر جزء منها اهتم العلماء بالحفظ، و احتاطوا في الأخذ عمَّن يأتيه الخطأ من جهة الحفظ ناهيك عن المتروكين الذين يبترون النصوص عن قصد، بل اهتموا بالحديث الذي تذكر من بعض رواياته زيادة، و احتاطوا في هذه المسألة لأن إهمال الزيادة الواردة في رواية من الروايات و فيها معنى زائد يحتاجه المسلم إهمالٌ لحديث النبي صلى الله عليه و سلم، لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، و لذلك ترى أئمة الحديث كالإمام مسلم يعيد الحديث الذي فيه زيادة، و يميل في معظم الأحيان إلى إعادة الحديث الذي فيه زيادة في بعض رواياته بهيئته لأن ذلك أسلم[26].
في الوقت الذي نجد فيه أن الجمهوريين يميلون إلى بتر النصوص كما نجدهم أيضاً إلى زيادة ألفاظ من عندهم لبعض الأحاديث الصحيحة. و خطر التأويل الباطني يتمثل في أنَّه أصبحت للباطنية مصطلحات[27] خاصة بهم، ظاهر ما يتبادر إلى ذهن المسلم من معانيها لا يتعارض مع الإسلام، بل هي مصطلحات إسلامية اصطلح المسلمون عليها، أو عرفوها من دينهم، بينما حرف الباطنية تلك المصطلحات عن معانيها الظاهرة و اصطلحوا على معنيين لكل مصطلح. فحينما يسمع السامع لفظاً من الألفاظ التي اصطلح عليها الباطنية يتبادر إلى ذهنه المعنى الذي تعارف عليه المسلمون و يكون حكمه على مذهبهم تبعاً لذلك.
فالجمهوريون – على سبيل المثال- و هم من الباطنية يستخذمون عبارات وضعت بالأصل لنظم خاصة مختلفة عن النظام الإسلامي، كما يستخدمون مصطلحات إسلامية ( حديثية و فقهية و توحيدية) متفق عليها في معاني أخرى مختلفة تناقض ما أراده المسلمون من تلك المصطلحات.
و من الأمثلة الواضحة الدلالة على ذلك المصطلحات التالية:
أمثلة لبيان أن كل كلمة عند الجمهوريين لها معنيان و ما يترتب على ذلك من إضلال الناس:
الله:
الله علم على الذات المقدسة المعبودة بحق. و هذا معروف عند المسلمين، أما محمود محمد طه – زعيم الجمهوريين- فيرى أن اسم الله – تبارك و تعالى- يطلق على معنيين: معنىً بعيد و هو ذات الله الصرفة، و هي فوق الأسماء و لو لا أنها تنزلت في مراتب الوجود المختلفة لما عرفت.فكلمة (الله) عند الجمهوريين في معناها البعيد ليست إلا إشارة بسيطة غامضة لا يمكن أن توصف و لا تسمى و لا تعرف إلا بعد تنزُّلها. فالتنزُّل الإول من الذات الساذجة إلى مرتبة الأسماء (الله) ثم التنزل الثاني من مرتبة الإسماء إلى مرتبة الصفات (الرحمن). و أما المعنى القريب (لله) – في رأي الجمهوريين- اسم للمحدث الكامل- الإنسان الكامل- و هي مرتبة البشر الكامل، و تشير إلى التعيين الأول الذي ليس بينها و بين صرافة الذات أحد من الخلق، و إنما هو بين جميع الخلق و بين الذات، و تقوم جميع الصفات و الإسماء الإلهية بالتعين الأول، أي بالإنسان الكامل.
قال الجمهوريون: ".. و أن اسم الله تبارك و تعالى يطلق على معنيين أيضاً معنى بعيد و هو ذات الله الصرفة، و هي أمر فوق الإدراك و فوق الأسماء و فوق الإشارات، و لولا أنها تنزَّلت لما عرفت، و معنى قريب و هو مرتبة الإنسان الكامل الذي أقامه الله خليفة عنه في جميع العوالم و أصبغ عليه صفاته و أسماءه حتى اسم الجلالة (الله) حيث قيلت إنما تشير إلى هذين المعنيين[28].
و النتيجة التي يخلص إليها الناظر في حديث الجمهوريين عن اسم الجلالة (الله) يجد أن هؤلاء الباطنية يقولون في أذكارهم دائماً (الله)،(الله) بلسان الحال حتى يتم تحقيقها بلسان المقال، أو تتحقق بالهجرة إلى النفس العليا – التي هي عندهم نفس الله!!.(/4)
و ليس في نظام الجمهوريين الفكري و لا في حقيقة الجمهوريين العارفين بحقيقة مذهبهم موضع لله سبحانه و تعالى، و لا للإيمان بأنه الرزاق ذو القوة المتين، و قد ساروا في هذه المسألة على درب حسين المازندراني زعيم البهائية، و قد استدل الباطنية في حديثهم عن عقيدة التنزُّل و التجسد الإسماعيلية أو البهائية بحديث قالوا إنه قدسي " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتعرَّفت إليهم حتى عرفوني"[29].
قال محمود محمد طه: " فالله من حيث ذاته المطلقة كان و لا يزال و لن ينفك في حضرة خفاء، و لكن لكي يعرف تنزَّل إلى مرتبة القيد – مرتبة الخلق- و كان أول التنزُّل إلى مرتبة الاسم (الله) هو الحقيقة المحمدية المشار إليها بقول المعصوم " أول ماخلق الله نور نبيِّك يا جابر" و عن كون ذات الله الصرفة لا تعرف، و لا توصف، و لا يشار إليها بشيئ قوله تعالى :(سبحان ربك ربِّ العزة عمّا يصفون)(الصافات: 180) يعني تنزَّه الله في ذاته عن كل وصف... (و سلام على المرسلين)(الصافات:181) يعني خير ما وصف الله المرسلين..".
و يرى الجمهوريون أن جميع الآيات القرآنية تتحدث عن مقام الاسم (الله)، و جميع آيات الصفات تتحدث عن التجسيد، و كل الإحاديث النبوية التي تتحدث عن رؤية الله يوم القيامة أو نزوله إلى السماء الدنيا إنما تتحدث عن مقام الإسم.
و قد أوَّل الجمهوريون جميع الأحاديث التي تتحدث عن الرؤية، أو نزول الله إلى السماء الدنيا. فصفات الله عند الجمهوريين إنما هي صفات الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية أو التعيين الأول للذات الإلهية، أو التجسد الإول. و النصوص القرآنية التي تتحدث عن صفات الله و أسمائه – عند الجمهوريين- المقصود بها الله بمعناه القريب – الإنسان الكامل- !! قال الجمهوريون: " و مقام الاسم (الله) الحقيقة المحمدية هو مقام الملكوت، و لكنه بفضل الله يتنزل في كل حين إلى عالم الملك حتى يتجسد على الأرض، و لحظة تجسيده هي لحظة ظهور المسيح"[30].
كلمة إسلام:
عندما يتحدث الجمهوريون عن الإسلام لا يعنون ما يعنيه المسلم عادة من هذه الكلمة و إنما يعنون مذهبهم الجمهوري.
قال الجمهوريون: " و نحن عندما نتحدث عن الإسلام لا نعني ما يعنيه الناس عادة عن الإسلام..."[31]. و قال الجمهوريون في كتيبهم ( الجمهوري و المهاجر الاكتويري): "إن الإسلام ليس غير الفكرة الجمهورية، ذلك بأن سائر المسلمين بفرقهم المختلفة ليسو على شيئ"[32].
الشهود الذاتي:
يقصدون به شهود تجليات الذات الإلهية على النفس الإنسانية. فالرسول صلى الله عليه و سلم عند الجمهوريين قد شاهد التجليات الإلهية قبل أن يصل إلى مستوى الشهود الذاتي في جبريل.
الشهود الأسمائي:
يقصد به الجمهوريون شهود تجليات الذات في الخلق،. قال محمود محمد طه: " فالشهود الأسمائي هو شهود تجليات الذات في الخلق فقد شاهد النبي التجليات الإلهية في جبريل، و القرآن يقصُّ علينا هذه الآيات (علَّمه شديد القوى)(النجم:5) (ذو مرَّة فاستوى)(النجم:6) وصف لجبريل بالشدة، و معنى فاستوى في صورته التي خلقه الله عليها و هي أعلى ما يكون جبريل مظهراً للتجلي الأسمائي، و إلى ذلك الإشارة بقوله (و هو بالإفق الإعلى)(النجم: 7) مما يلي الذات، (ثم دنا فتدلَّى)(النجم:8) تنزَّل في التجلي الأسمائي إلى مرتبة الصفة إلى مرتبة الفعل حيث استقر (فكان قاب قوسين أو أدنى)(النجم:9) و في هذا الثالوث إشارة لطيفة إلى العقل لا يتسع المقام لاستقرائها (فأوحى إلى عبده ما أوحى)(النجم:10) فأوحى جبريل إلى عبده ما أوحى!!"[33].
حق الحرية: يقصد بها الجمهوريون الديمقراطية.
حق الحياة: يقصد بها الجمهوريون الاشتراكية.
أدب الوقت:
أدب الوقت عند الجمهوريين هو الحضور في اللحظة الحاضرة، و أن يعيش الإنسان اللحظة لا يفكر في الماضي أو في المستقبل. و أدب الوقت هو السبيل الوحيد عندهم ليحقق الإنسان من المطلق شيئاً و يكسب شيئاً من صفاته، و يساعد في شهود من لا يحويه الزمان و لا المكان، يساعد في شهود المطلق الشهود الذاتي!.
مقام الوسيلة:
مقام الوسيلة عند الجمهوريين مقام بين المطلق و المقيد، بين الخالق في إطلاقه و بين الخلائق من قمتها إلى قاعدتها[34]. و هو المقام المحمود الذي تحقق للنبي صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء و المعراج التي ارتفع فيها حجاب الفكر عن النبي صلى الله عليه و سلم و تمت له الوحدة الذاتية و المكانية و حقق الأحدية. و هذا المقام عند الجمهوريين ليس حكراً على الرسول بل يمكن التوصل إليه بالهجرة من النفس السفلى إلى النفس العليا.
تحقيق الأحدية:
تحقيق الأحدية عند الجمهوريين هو الوصول إلى الله، و الوصول إلى الله عندهم عبارة عن الوصول إلى النفس العليا، التي هي نفس الله!.
الأصيل الإول:(/5)
يقصد بها الجمهوريون الحقيقة المحمدية متنزِّلة في الإرض، و بنزولها في الأرض يتم إنزال ملكوت السماء إلى الأرض. و الأصيل الأول في مواجهة الذات الإلهية هو أول قابل لتجلي المطلق و هو الذي يقيد المطلق[35].
الحق:
الحق عند الجمهوريين هو وجه الأشياء الذي يلي الحقيقة و هو الذي يستطيع أي إنسان -في رأيهم- في هذا العصر المتطوِّر تحقيقه من المطلق في الزمان و المكان، فمثلاً علم الإنسان النسبي هو ما يحققه أي إنسان في الزمان و المكان من علم المطلق، أما الذي يحققه الإنسان المتجلي بأدب الوقت فهو العلم المطلق[36].
منهج الجمهوريين في تفسير القرآن الكريم:
قول الجمهوريين بأن لكل كلمة في القرآن معنى بعيداً و معنى قريباً:
يؤمن الجمهوريون بأن لكل كلمة من كلمات القرآن الكريم معنى قريبا و معني بعيداً. و المعنى القريب هو الظاهر، و المعنى البعيد هو الباطن، و المعنى القريب هو الذي يمكن معرفته بمعرفة اللغة و إجادتها، و المعنى البعيد عند الرب لا يعلمه إلا الرسل و الأنبياء،أو الذين يستطيعون أن يتلقوا شريعتهم من الله كفاحاُ!!.
قال محمود محمد طه: "و من الأمور التي لا بد من تقريرها لتعين على فهم القرآن هو أن القرآن كله مثاني، كل آية فيه، و كل كلمة، بل و كل حرف.. و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هادٍ)( الزمر:23) و معنى مثاني أنه معنيين اثنين، معنىً بعيد عند الرب و معنىً قريب تنزل من الرب إلى العبد.
زعم الجمهوريين أن لكل آية معنى قريباً و معنى بعيداً:
أمثلة لتفسيرهم:
1. قال تعالى: (و التين و الزيتون، و طور سينين، و هذا البلد الأمين)(التين:1-3) قال محمود محمد طه في تفسير هذه الآيات: يقول المفسرون في ذلك أن الله تبارك و تعالى أقسم بهذه الأعيان ((و التين)) .. و هو المعروف المأكول.. ((و الزيتون)) كذلك ((و طور سينين)) جبل بسيناء الذي كلَّم عليه موسى بن عمران ((و هذا البلد الأمين)) مكة المكرمة.. و لكن هذا التفسير قريب من القرب، و هو ما تعطيه اللغة[37]، و في المعرفة الحقيقية الله لا يقسم إلا بنفسه[38]، و هذه الأعيان في السور إن هي إلا رموز إليه تعالى تترقي في سلم من القاعدة إلى القمة[39]، و هو سلم على شكل هرمي إن صح هذا التعبير، و هي قبل أن تصل في سلم الترقي إلى مستوى الرمز إليه تعالى إنما ترمز إلى الإنسان، لأنه في هذا السلم بينهما، أعني بين الإعيان و بين الله.
كما أن هذه الأعيان في رأي محمود محمد طه تشير إلى أربع مستويات من المستويات التي تشكل الشكل الهرمي الذي تشكله القوى البشرية المركوزة في البنية الجسدية، و هي النفس الحيوانية، و النفس الإنسانية، و النفس الملائكية –الروح- أو الذكاء- و النفس الكبرى التي هي القلب[40].
فالتين رمز للنفس الحيوانية، و الزيتون رمز للنفس الإنسانية، و طور سينين رمز للنفس الملائكية(الروح) و هذا البلد الأمين رمز للقلب. و النفس الإنسانية التي يرمز لها في الآية بالزيتون هي وسط بين النفس الحيوانية و النفس الملائكية، و لذلك قال تعالى في سورة النور: (شجرة مباركة زيتونة لا شرقية و لا غربية)(النور:35) أي وسط بين طرفي الملك و الحيوان، و هي تنشأ من لقاح الحيوان و الملك، كما ينشأ الجنين من لقاح المرأة و الرجل[41].
2. قال تعالى (( هل ينظرون إلا إن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام و الملائكة و قضي الأمر و إلى الله ترجع الإمور)) (البقرة:210) قال الجمهوريون: و من آيات التجسيد أيضاً فوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام...)) الآية، فالله تعالى في ذاته ليس بغائب حتى يأتي.. ثم هو لا يأتي في ظلل من الغمام فهي إشارة لتحديد عنه تتعالى الذات علواً كبيراً، فلم يبق إلا الذي يأتي في ظلل من الغمام وهو مقام الاسم، يأبي في تجسيد، هذا التجسيد هو الإنسان..[42] و كل الإحاديث التي تتحدث عن رؤية الله يوم القيامة، و هي أحاديث كثيرة، إنما تتحدث عن مقام الاسم و ليس عن الذات المطلقة.."[43].
و قد أول الجمهوريون الآيات التي تتحدث عن الرؤية تأويلات لا تعقل، و من تلك الآيات قوله تعالى: ( وجوه يومئذٍ ناضرةٌ، إلى ربها ناظرةٌ) (القيامة: 23-22) و قوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ) (الأحزاب:44) و قوله تعالى: (كلاّ إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون، ثم إنهم لصالو الجحيم، ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) (المطففين:15-17).(/6)
3. قال تعالى: (أم خُلقوا من غيرِ شيئٍ أم هم الخالقون)(الطور:35) قال الجمهوريون –تحت عنوان الخلق ليس من العدم- : "و من فساد العقيدة عند المسلمين اليوم الظن بأن الله خلق الوجود من العدم، فهذا الظن يجعل للعدم وجوداً مع الله، منه استمد الخلق..و على الرغم من ممَّا في هذا الظن من تناقض إذ كيف يجيئ الموجود من المعدوم؟! إلا أنه ظن شائع بين المسلمين و قد استنكره القرآن بقوله : (أم خلقوا من غير شيئ أم هم الخالقون)(الطور:35) فكأن قولهم أنهم خلقوا من غير شيئ –من العدم- هو مستوى من الشرك يشابه القول بأنهم هم الخالقون، فالخلق لا يُستمد من غير الموجود و إنما يستمد من الموجود كامل الوجود"[44].
فالنص السابق يؤكد إيمان الجمهوريين بأن المعدوم شيئ ثابت في العدم و هو عين الله بمعناه البعيد، و قد أولوا الآية التي استدلوا بها إلى تأويل لا يُعقل، و فيه الدليل على فساد ما يقولون، و على أن ما يقولونه كفرٌ صريح باتفاق أهل الإيمان، و أنه أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، فكل إنسان يقر بتوحيد الربوبية.
و قوله تعالى: ((أم خلقوا من غير شيئ أم هم الخالقون)) دليل على أن المعدوم في نفسه ليس شيئاً، و أن ثبوته و وجوده و حصوله شيئ واحد، لأنه فيه أنكار اعتقاد أن يكونوا خلقوا من غير شيئ خلقهم، و فيه إنكار أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم"[45].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "و هو استفهام إنكار يقول أوُجِدوا من غير مبدع؟ فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكوِّن، و يعلمون أنهم لم يكونوا من نفوسهم، و علمهم بحكم أنفسهم معلوم بالفطرة بنفسه، لا يحتاج أن يستدل عليه، بل كل كائن محدث، أو كل ممكن لا يوجد بنفسه، و لا يوجد من غير موجد"[46].
4. قال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساءً) (النساء:1). قال محمود محمد طه: "فالنفس الواحدة في الحقيقة هي نفس الله تعالى، و آدم مشمول بخطاب ((يا أيها الناس)) فآدم لم يكن بداية الخلق، و إنما هو مرحلة متقدمة منه.. ثم النفس الواحدة هي نفس آدم.. و إلى نفس المعنى الإشارة بقوله تعالى: (و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعاً) (الجاثية: 13) فالآية تفيد –إلى جانب التسخير- أن جميع ما في السماوات والأرض مستمد من الله و هذا معنى منه من الآية... فالإنسان من الله صدر و إليه يعود و إلى هذا العود تشير الآية الكريمة: (يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه) (الانشقاق: 6) و الآية الكريمة: (و أنَّ إلى ربِِِِِِك المنتهى) (النجم:42) حركة العودة إلى الله هي حركة المحدود إلى المطلق، و من النَّقص إلى الكمال، و همي حركة ليس لها انتهاء"[47].
5. قال تعالى: (سبحان ربِك رب العزة عما يصفون) (الصافات: 180). استدل محمود محمد طه بهذه الآية في حديثه عن الذات الإلهية و أنها لا توصف و لا يشار إليها و لا تعرف إلا إذا تجسدت و تنزلت في مراتب الوجود المختلقة و حققت المعية مع جميع المخلوقات (بالذات).
و الخطأ الذي وقع فيه محمود هو ظنه أن قول الله تعالى: ((سبحان ربِك ربِّ العزة عما يصفون...)) يُبيِّن أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف و لا يسمى و لا يعرف، و أن الذي يُعرف و يُسمى بأسماء الله هو الإنسان الكامل الذي لا يشك أحدٌ في وجوده –في رأيه- فقد وُجد في العصور السابقة في كل رسول أو نبي إنسان كامل و وجد في هذا العصر في شخصه و أشخاص الجمهوريين من بعده، قال محمود: " الأمر كله أمر تنزُّلات، ففي البدء و لا بدء كان الله و لا شيئ معه.. و تلك مرتبة الذات الصرفة، أو الذات الساذج! فهي لا تعرف و لا تسمى و لا توصف"[48].
6. قال تعالى: (عَمَّ يَتَساءلون، عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون) (النبأ: 1-3) يزعم الجمهوريون أن النبأ العظيم الذي تساءل عنه أهل مكة و اختلفوا فيه و الوارد في قوله تعالى (عمَّ يتساءلون...) ليس هو يوم القيامة كما يظن المسلمون، و إنما هو محمود محمد طه، النبأ العظيم، و قد ظلَّت الإرض – في رأي الجمهوريين- محتفظة بهذا السر إلى القرن العشرين و باحت به الآن بعد أن أوقدت شمسها.
قال الجمهوري صلاح محمد عثمان السوداني في تقديمه لقصيدة في جلسة إنشاد جمهورية خالصة عقدت في منزل محمود محمد طه في يوم (20/4/1977): قصيدتنا التالية للأخ عوض الكريم موسى قال الله تعالى: ((عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم...)) ما هو النبأ العظيم؟ هو مقتضى فرط الجلاء، و أتى بها خبر السماء، هي ما عليه العالمون. تعالوا نلتقط النبأ من هذه القصيدة:
سر الحقيقة في خفاء
هو مقتضى فرط الجلاء
و أتى به خبر السماء
هي ما عليه العالمون
و الأرض توقد شمسها
و تقيم منها عرسها
و تشق عنها رمسها
و تبوح بالنبأ المصون
و الفرد في تحقيق كن
قد كان حتى لم يكن
هو فوق ما في كن يكن
فكماله في يكن يكن(/7)
7. قال تعالى: ( و جاء ربك و الملك صفاً صفاً ) (الفجر: 22) من الآيات يستدل بها الجمهوريون على مذهبهم في تجسد الذات الإلهية. قال الجمهوريون: "... فمثلاً إذا جاء في القرآن قوله تعالى: ((و جاء ربُك و المَلَك صفّاً صَفَّا)) فإن المفسرين يقولون جاء أمر ربك و هذا إفراغ للقرآن عن محتواه، إذ أن السؤال سيظل قائماً ما هو هذا الأمر؟ نحن عندما نقول إن الإمر هو المسيح فإن ذلك يعطي عبارات القرآن مدلولاتها، فيصبح هنالك معنىً محدد.. ثم أنَّ المسيح هو فعلاً أمر الله"[49].
اختلاف الجمهوريين مع علماء المسلمين في التفسير ليس هو من جنس اختلاف علماء المسلمين فيما بينهم:
قد خالف محمود محمد طه زعيم الجمهورين صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التفسير، و خالف التابعين لهم بإحسان، و من جاء بعدهم من المفسرين الذين فسروا القرآن بالمأثور و حركوا العقل في إطار النصوص، أو أولئك الذين مالوا إلى تأويل الآيات المتشابهات.
و يتهم محمود محمد طه الصحابة بأنهم لم يعلموا من معاني القرآن شيئاً، و لذلك فهو يذمهم من هذه الناحية.
يقول محمود محمد طه: "الإسلام عائد عمَّا قريب بعون الله و توفيقه، و هو عائد لأن القرآن لا يزال بكراً لم يفض الأوائل منه أختاماً غير ختم الغلاف".
كما أن محمود محمد طه يعتمد في زعمه أنه هو الوحيد الذي فهم القرآن كما ينبغي بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم على أنَّ البشرية جمعاء لا تستطيع أن تستوعب النصوص الأصلية لأن فهمها ناقص و بيانها لم يحقق فرديته و من لم يرتق في سيره من العلم الناقص إلى العلم الكامل، و من المحدود إلى المطلق.
و المسألة التي أريد بيانها أن هذا التأويل الباطني الجمهوري الذي يعتقد محمود أنه التفسير الصحيح للقرآن الكريم تأويل باطني، و هو يختلف عن تفسير علماء التفسير للقرآن الكريم، فالاختلاف الذي كان بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو أئمة التابعين أو غيرهم من المسلمين في التفسير هو اختلاف لا يغيِّر معاني القرآن و لا يخرجها عن المعنى المراد، و لا يؤدي إلى فساد العقيدة. أما اختلاف محمود محمد طه مع أئمة المسلمين فهو اختلاف أساسي، فتأويلاته الفاسدة تأكيد لعقيدته الفاسدة و لدعوته المخالفة.
و الاختلاف الثابت عن الصحابة بل عن أئمة التابعين لا يخرج عن وجوه: أحدها " أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه فالمسمى واحد، و كل اسم يدل على معنىً لا يدل عليه الاسم الآخر مع أن كليهما حق بمنزلة تسمية الله بأسمائه الحسنى، قال تعالى: (قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أيَّاً ما تدعو فله الأسماء الحسنى) (الإسراء:110).
الوجه الثاني: " أن يذكر كل منهما من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب لا على سبيل الحصر و الإحاطة، كما لو سَئل أعجمي عن معنى لفظ الخبز فأُري رغيفاً فقيل هذا هو. فذاك مثال للخبز و إشارة إلى جنسه لا إلى ذلك الرغيف خاصة"[50].
الوجه الثالث: " أن يذكر أحدهم لنزول الآية سبباً و يذكر الآخر سبباً آخر لا ينافي الأول، و في نزولها لأجل السببين جميعاً أو نزولها مرتين مرَّة لهذا و مرَّة لهذا. أما ما صحَّ عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه"[51].
و لا يمكن بحال من الأحوال أن تضم اسم محمود محمد طه صاحب التأويلات الفاسدة لقائمة المفسرين، لأن معرفته بصحيح المنقول و سقيمه، و صريح المعقول، و أسباب النزول، و الناسخ و المنسوخ، و اللغة العربية لا ترقى إلى مستوى المفسرين الذين عرفتهم الأمة الإسلامية و لا يمكن أن يداني مقامه مقام الأئمة الكبار في هذا المجال. فمحمود لم تتوفر فيه شروط المؤثرين لمنهج الدراية على منهج الرواية، لأنه ليس عالماً باللغة[52] و النحو و الصرف و الاشتقاق و علوم البلاغة و القراءات و أصول الفقه و الأحاديث المبينة لمجمل القرآن.
تأويل ظاهر الحديث تأويلات باطلة:
يميل الجمهوريون إلى تأويل ظاهر الأحاديث إلى تأويلات لا تعقل، و مرادهم من ذلك -كما ترى- هو إبطال الشريعة، و قد ساروا في هذه المسألة على طريق الباطنية الأوائل و الثنوية و الدهرية و الإباحية من المنكرين للنبوة و الشرائع و الحشر والجنة و النار و الملائكة و الربوبية.
فيميل الجمهوريون إلى تأويل الإحاديث التي تتحدث عن رؤية الله في الآخرة، و يزعمون أن الله الذي يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام و الملائكة هو الإنسان الكامل. كما يميلون إلى تأويل الآيات التي تتحدث عن الصراط و الميزان و المعراج.
قال الجمهوريون: " و كل الإحاديث النبوية التي تتحدث عن رؤية الله يوم القيامة، و هي أحاديث كثيرة، إنما تتحدث عن مقام الاسم[53]، و ليس عن الذات المطلقة، و ذلك لأن القيامة زمان و مكان و الذات المطلقة لا يحويها الزمان و لا المكان .. و لأن الرؤية لا تكون إلا للمحدود، و الذات المطلقة تتعالى أن تراها البصائر و الأبصار"[54].(/8)
للإحاديث معنيان عند الجمهوريين:
جعل الجمهوريون للأحاديث معنيين: معنىً قريباً، و معنىً بعيداً. المعنى البعيد هو المقصود لذاته، و المعنى القريب في معظم الأحيان و سيلة للمعنى البعيد، و ذكروا أن الذي يفهم المعنى القريب دون المعنى البعيد لم يفهم الإحاديث.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). قال محمود محمد طه في كتابه (رسالة الصلاة): " ((صلوا كما رأيتموني أصلى))!! هكذا أمر النبي في تبليغه رسالة ربه، فالصلاة معراج النبي بالأصالة و معراج الأمة بعده بالتبعية و التقليد.. و كلمة ((رأيتموني أصلي)) لها معنى بعيد و معنى قريب، .. فأما المعنى البعيد فهو أن نرى بعين البصيرة حال قلب النبي من صدق التوجه حين يقوم لصلاته، و أما المعنى القريب فهو أن نرى بعين البصر حركات النبي الظاهرة في صلاته فنتقنها أيضاً .. فنحن بدون أن نراه بعين البصيرة و بعين البصر، و بعبارة أخرى بدون أن نعرف حال قلبه و حركات جسده لا نكون قد رأيناه.. و إذا صلينا بمحاكاة حركات الجسد، بدون محاكاة صدق توجه القلب لانكون قد أطعنا عبارته ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .. بذلك تكون صلاتنا صلاة يحق فيها قول الله تعالى : ( فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، و يمنعون الماعون) (الماعون:4-7) سماهم المصلين، لأن حركاتهم حركات مصل، ثم قال فيهم أنهم عن صلاتهم ((ساهون)) يعني غافلون عن حقيقة صلاتهم و هي تقوم فيها الصلة بين الله و بينهم و ذلك بحضور قلوبهم فيها، و لذلك قال (( الذين هم يراؤون )) أي يهتمون بالظاهر و يهملون الباطون ((و يمنعون الماعون)) و الماعون يعني القلب يمنعونه من الله أن يكون فيه و يملئونه بأصنام حب الجاه و حب السلطة". فحديث (( صلوا كما رأيتموني أصلي)) فيه أمران :
أمر بالتقليد و أمر بالأصالة-في رأي الجمهوريين- جاء في الكتاب (رسالة الصلاة) : ( فالنبي أتانا بلسان الحقيقة –لسان الحال- أمراً بالأصالة ". فمعنى الحديث عند الجمهوريين أن النبي صلى الله عليه و سلم قد قال بلسان العبارة " قلدوني إلى أن تكونوا أصلاء مثلي" و قد أخطأ الجمهوريون في هذه المسألة التي اعتمدوا فيها على تأويلاتهم الفاسدة، و التي حاولوا أن تكون سنداً لهم في الدعوة إلى الأصالة – ترك التقليد- أو ترك الصلاة الشرعية.
و هذا الحديث الذي تحدث عنه الجمهوريون له معنى واحداً و فيه تنصيص على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم مبين لأصحابه، و المراد من هذا الحديث واضح و بيِّن و هو أن نصلي بالكيفية التي وضحها لنا الرسول صلى الله عليه و سلم و إظهار المراد قد يكون بالفعل أبلغ منه بالقول، و لهذا السبب نرى أن محموداً قد أخطأ في جعله للمتقن للصلاة الحركية و غير المدرك للمعنيين الذين تحدث عنهما من الذين هم عن صلاتهم ساهون، و من الذين لا صلاة لهم فالآيات التي استدل بها محمود في هذه المسألة لها معنى يختلف عن المعنى الذي يتحدث عنه، و الذي وصل إليه بتأويله الباطل[55].
خاتمة:
بان لنا بعد استعراضنا نماذج من التفسير الجمهوري أن الاتجاه الجمهوري في تفسير القرآن الكريم و في شرح السنة النبوية أتجاه باطني منحرف عن النهج القويم في تفسير القرآن الكريم أو شرح السنة النبوية. فالتأويل الباطني عند الجمهوريين يخرج بالقرآن الكريم عن هدفه الذي يرمي إليه، فالقرآن الكريم يقصد هدفاً معيناً، و الجمهوريون يقصدون هدفاً معيناً بتأويلاتهم الفاسدة، و بين الهدفين تنافر و تضاد، فيأبى الجمهوريون إلا أن يحوِّلوا القرآن عن مقصده و هدفه إلى مقصدهم و هدفهم، فيقيمون مذهبهم و يروجون له على حساب القرآن الكريم و السنة النبوية.
فهدفهم أن يقيموا مذهبهم في ظاهره على أساس من تفسيرهم لكتاب الله، و بهذا الصنيع يكون الجمهوريون قد خدموا هدفهم و لم يقدموا لكتاب الله شيئاً إلا هذا التأويل الفاسد، الذي كله شر على الدين و إلحاد في آيات الله. و قد اتبع محمود في تأويله المنهج المذموم في التفسير، و عارض النصوص الصريحة في القرآن الكريم، و قال بمرحلية الآيات المعارضة لمذهبه و التي لم يستطع تأويلها لصراحتها، و تأويلاته للآيات القرآنية و الأحاديث النبوية تأويلات باطلة متكلفة يمجها الذوق السليم و لا تتفق في قليل و كثير مع قواعد الدين و بلاغة القرآن الكريم و فصاحة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم فنسأل الله العافية في الدين و الدنيا و الآخرة.
فهرس المصادر و المراجع:
1. ابن باز: حكم الإسلام في من زعم أن القرآن متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات، أو وصف الرسول صلى الله عليه و سلم بما يتضمن تنقصه أو الطعن في رسالته، ط المملكة العربية السعودية (ب.ت).
2. ابن تيمية: الفتاوى ط. السعودية، تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية و الأوقاف 1995م.
3. أبو الحسن الإشعري: اللمع في الرد على أهل الزيغ و البدع، ط مطبعة مصر 1955م.
4. أبو الحسن الندوي: القادياني و القاديانية.(/9)
5. العلوي: الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، ط. منشأة الإسكندرية (ب.ث).
6. إبن القيم: أمثال القرآن، تحقيق ناصر بن سعد الرشيد ط 2. 1402هـ المملكة العربية السعودية.
7. الذهبي: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها و دفعها، ط مصر 1396هـ، مصر.
8. الذهبي: التفسير و المفسرون ط2. دار الكتب الحديثة 1396هـ.
كتب الجمهوريين:
1. محمود محمد طه: السفر الأول ط1. أكتوبر 1945م الخرطوم.
2. محمود محمد طه: قل هذه سبيلي ط1. 1952م أم درمان.
3. محمود محمد طه: رسالة الصلاة ط1. 1385هـ أم درمان.
4. محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام ط. 1967م.
5. محمود محمد طه: رسائل و مقالات ط 1393هـ أم درمان.
6. الإخوان الجمهوريون : عقيدة المسلمين اليوم ط 1403هـ.
7. الإخوان الجمهوريون: التقليد و الأصيل و الإصلاء ط1. 1982م.
8. الإخوان الجمهوريون: اليوم الهجرة من النفس السفلى إلى النفس العليا ط1. 1981م.
----------
[1] - الفتاوى 4: 69
[2] - الفتاوى 13 : 313
[3]- كتاب الفكر الإسلامي، تأليف نخبة من الإساتذة ط3. جامعة الإمارات 2003م، ص99.
[4] - التأويل عند علماء اللاهوت تفسير الكتب المقدسة تفسيراً رمزياً أو مجازياً يكشف عن معانيها.
[5] - انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي للدكتور محمد أحمد الخطيب ص 30.
[6] - التفسير و المفسرون للذهبي 2: 232 و انظر المواقف للأيجي 8: 388.
[7] - انظر لمعرفة المزيد عن هذه الفرق الباطنية القديمة الكتب الآتية: فضائح الباطنية للغزالي و كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي و الفتاوى لابن تيمية و الملل و النحل للشهرستاني والفصل في الملل و الأهواء و النحل لابن حزم و الفرق بين الفرق للبغدادي.
[8] - أتباع الشيخ أحمد الإحسائي و كاظم الرشتي بإيران. و قد كان الباب شيخياً. انظر: البهائية لإحسان إلهي ظهير و وثائق عن البهائية للدكتورة بنت الشاطئ و البهائية لعبد الرحمن الوكيل.
[9] - البابية أتباع الباب علي محمد الشيرازي الذي نفذ عليه حد الردة بإيران في 1256هـ لقوقه بنسخ الشريعة الإسلامية.
[10] - البهائية أتباع البهاء حسين علي المازندراني الذي كان بابياً و قال بالتأويل الباطني الذي أدى به إلى القول بتجسد الذات الإلهية و تغيير الصلاة و الصوم و الحج إلخ.
[11] - أتباع الإغاخان و الآن يوجد الأغاخان الرابع.
[12] - هذه الفرقة هي موضوع البحث و سيأتي الكلام عنها.
[13] - فسر زعيم البهرة قول الله تعالى:(و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا)(آل عمران103) بأن الحبل المشار إليه له طرفان: أحدهما بيد الله – تعالى عن ذلك- و الآخر بيده!! (كتاب الحركات الباطنية للبروفسير جلي- كتاب مخطوط-).
[14] - يعتمد الميرزا غلام أحمد القادياني – الذي تنسب إليه القاديانية- على الإلهامات و الرؤى و يستدل- شأن الباطنية- بحساب الجمل و الأعداد و يسترسل في تأويل الآيات و الكلمات الواردة في الأحاديث و يعتبرها كلها مجازات و استعارات – كما يقول أبو الحسن الندوي في كتابه القادياني و القاديانية ص64، 65. و قد أصدر الميرزا أربع رسائل من رسائله الأربعين التي وعد بها و ألف رسالة (تحفة الندوة) و صنف (شهادة القرآن) و كتاب(حقيقة الوحي)و ألف إبنه الميرزا بشير الدين محمود كتاب(حقيقة النبوة) و صنف محمد علي الذي تزعم فرعاً من فروع القاديانية و هو الفرع اللاهوري مؤلفات كثيرة منها (THE ISLAM) و الترجمة الإنجليزية للقرآن، و منهج محمد علي اللاهوري في تفسير القرآن منهج باطني.
[15] - انظر: كتاب نشأة الفلسفة الصوفية ص 80، 81.
[16] - بيان مذهب الباطنية و بطلانه للديلمي ص39، 40، ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان. الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير ص481.
[17] - فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي، الباب الخامس، الفصل الأول ص55، ط. الكويت: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير ص 481، 482.
[18] - الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 71 ط منشأة المعارف، الاسكندرية.
[19] - محمود محمد طه: مؤسس فرقة الجمهوريين و رئيسها و شيخها. ولد بقرية الهجليج في سنة 1912م. و الهجليج قرية تقع شمال مدينة رفاعة الواقعة في وسط السودان، شرق النيل الأزرق. تخرج من كلية غردون الجامعية و عمل في بداية حياته مهندساً في شكك حديد السودان، ثم مهندساً في الإدارة المركزية للكهرباء، ثم عمل بعد ذلك مهندساً في القطاع الخاص بمدينة كوستي- وسط السودان- و في سنة 1965م تفرغ تماماً لفرقته التي أنشأها، و جعل مقر إقامته الدائمة بأم درمان بالسودان.نفذ عليه حد الردة الرئيس السوداني جعفر نميري في عام 1985م.(/10)
[20] - المعية بالذات: يؤمن الجمهوريون بالمعية بالذات و عقيدتهم في المعية بالذات تابعة لعقيدتهم في في التجسد و لمذهبهم في الإسراء و المعراج. بيان مذهبهم في المعية أن زعيمهم –محمود محمد طه- يرى أن يرى أن معية الله مع عبده تختلف باختلاف درجات معراج العبد إلى ربه أو تنزل الذات الإلهية في سلم الوجود حسب درجة الصبر التي يتمتع بها الإنسان. فالصابر عن الله تكون معية الله معه بالذات و القول بالمعية بالذات كفر و إلحاد و لم يقل به حتى المشبهة الذين بالغوا في التشبيه.
و قد ذكر الشيخ محمد بن خضر بن مايابي الموريتاني في كتابه (استحالة المعية بالذات و ما يضاهيها في متشابه الصفات) أنه ما رأى أحداً نسب إليه القول بالمعية بالذات إلا ما ذكر عن شخص يسمى إبراهيم المواهبي الشاذلي.
[21]- يعتبر محمود محمد طه وحدة الوجود أصلاً من أصول الدين.
[22] - لا يوجد شيئ عند محمود إسمه المعدوم، بل المعدوم كان موجوداً في صورة أخرى تطور إليها أو نقص عنها، فالإمر مستمر بلا بداية و لا نهاية و المادة أزلية أبدية.
[23] - عقائد البابكية و الحزمية و الخابطية و البيانية و الدروز و النصيرية والقاديانية إلخ.
[24] - الذات عندهم يجب أن تتجسد و تتنزل في مراتب الوجود المختلفة.
[25] - اللمع في الرد على أهل الزيغ و البدع لأبي الحسن الأشعري ط مطبعة مصر1955 ص83.
[26] - انظر: صحيح مسلم المجلد الإول، نشر و توزيع دار البحوث العلمية و الإفتاء و الدعوة، المملكة العربية السعودية، المقدمة ص 5.
[27] - عرف الاصطلاح بأنه اتفاق طائفة من الناس على شيئ إذا ذكر تبادر معناه إلى الأذهان و بعبارة أخرى الاصطلاح لفظ خاص اصطلح بعض الناس على معنى معين له فحين يطلق هذا اللفظ يتبادر إلى الذهن ذلك المعنى الاصطلاحي المتفق عليه. (حكم الإسلام في الاشتراكية لعبد العزيز البدري ص132).
[28]انظر: عقيدة المسلمين اليوم- مرجع سابق-. -
[29] - قال ابن تيمية ليس من كلام النبي صلى الله عليه و سلم و لا يعرف له سند صحيح و لا ضعيف و تبعه الزركشي و العسقلاني.
[30] - الإخوان الجمهوريون: عقيدة المسلمين اليوم ص 83، 84.
[31]- كبيِّت (أكتيور الثانية و الكتلة الثالثة) للإخوان الجمهوريين ط 1. 1301هـ ص 12 .
[32] - ط 140 هـ ص 20.
[33] - رسالة الصلاة لمحمود محمد طه.
[34] - انظر: رسائل و مقالات لمحمود محمد طه ص61/نشرة داخلية بتاريخ 3/4/1982 ص3 الإخوان الجمهوريون/ الشريعة الإسلامية تتعارض مع الدستور الإسلامي/ رسالة الصلاة لمحمود محمد طه ط 1399هـ ص 44.
[35] - الثورة الثقافية لمحمود محمد طه ص 22.
[36] - رسالة الصلاة لمحمود محمد طه ص 44.
[37] - أي أن اللغة لا تستطيع أن تعطي المعنى الحقيقي المقصود من الكلمات، فهي عند الجمهوريين لا تحمل من معاني القرآن الحقيقية شيئاً، و لا تخبر عن المقصود منه في الحقيقة.
[38] - إشارة إلى مذهبهم في وحدة الوجود المادية التي تجعل الله سبحانه و تعالى مادة الأشياء .
[39]- سلم التطور.
[40] - رسائل و مقالات لمحمود محمد طه، الكتاب الإول ص 44.
[41] - رسائل و مقالات، الكتاب الثاني ص 45.
[42] - رسائل و مقالات لمحمود محمد طه 2/29.
[43] - عقيدة المسلمين اليوم ص 46، 47
[44]ج1 ط ربيع الأول1403هـ ص 53. - عقيدة المسلمين اليوم
[45] - الفتاوى ابن تيمية، المجلد الثاني، توحيد الربوبية ص 156.
[46] - الفتاوى مجلد توحيد الربوبية ص 11.
[47] - عقيدة المسلمين اليوم ص 53، 54.
[48] - محمود محمد طه، رسائل و مقالات، الكتيب الثاني ص 45.
[49] - عقيدة المسلمين اليوم ص 43-48.
[50] - القاعدة المراكشية ص 32، 33.
[51] - انظر: القاعدة المراكشية لابن تيمية، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد و الأستاذ رضا بن نعسان ط مطابع صفا، مكة المكرمة 1401هـ ص 32-34.
[52] - مجرد معرفة اللغة لا يعين على معرفة التفسير و فهمه بالتفصيل، بل لا بد من معرفة أسباب النزول و معرفة المعاني الدقيقة للقرآن عن طريق النقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال تعالى ((و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون)) (النحل:44)، انظر: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم للذهبيص 10.
[53] - أي الإنسان الكامل عند الجمهورين.
[54] - الإخوان الجمهوريون: عقيدة المسلمين اليوم ص 47. و انظر: موقف الجمهوريين من السنة النبوية للدكتور شوقي بشير ط 1 رابطة العالم الإسلامي، سلسلة دعوة الحق، سبتمبر 1987م ص 47، 48.
[55] - لمعرفة المزيد عن أن إظهار المراد بالفعل أبلغ منه بالقول و أن لهذا الحديث معنى يختلف عن فهم محمود محمد طه له أنظر: أصول السرخسي 2/27، و انظر: موقف الجمهوريين من السنة النبوية للدكتور شوقي بشير ط: رابطة العالم الإسلامي، مكة، سلسلة دعوة الحق 1987م.
* استاذ العقيدة الإسلامية بجامعة أم درمان الإسلامية(/11)
التاريخ الرافضي يعيد نفسه... يا سني يا عار يا أنجس من الفار !!
كتبه للمفكرة : شريف عبد العزيز
مفكرة الإسلام: يبدو أن سياسة إهانة رموز السنة وعلمائهم بل والصحابة الكرام، أمر معتاد متعارف عليه لدى الرافضة راسخ لديهم وليس أمرا جديدا عليهم؛حيث ذكر الشيخ فضل الله المحبى في كتابه النفيس 'خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ' الحادثة الهائلة التي وقعت ببغداد سنة 1031 هجرية عندما احتل الشاه الصفوى عباس الكبير وكان رافضياً شديداً غالياً في رفضه وزندقته بغداد وذلك لبضع شهور قام خلالها بمجازر مروعة بحق أهل السنة فقتل العلماء والخطباء والأعيان وهدم أحياء أهل السنة وأحرق مساجدهم وامتد طغيانه الذى فاق ما فعله التتار إلى القبور فأحرقها وبعثرها وأهانها بشدة خصوصاً قبر الإمام أبى حنيفة والإمام عبد القادر الجيلانى، حتى أن ذهنه النجس تفتق عن حيله خبيثة يبغى منها تحطيم قلوب أهل السنة وتدمير معنوياتهم ذلك أنه أمر بسد جميع المراحيض في منطقة باب الأزج المدفون بها الجيلانى بحيث يجعل الممر الوحيد لكل هذه المراحيض يصب فوق قبة الشيخ الجيلانى وفتح طاقة في القبة ليكون كل من يريد التبول والتغوط في باب الأزج تنزل فضلاته على قبر الشيخ .
وقد احتفل الروافض في بغداد بهذه الإهانات والمجازر أعظم احتفال وكانوا يطوفون بقبر أبى حنيفة وهم يرقصون ويصفقون ويقولون ... ..... ..... .. يا سني يا عار يا أنجس من الفار '
إن كان الله حرمك من الجنة فلا يحرمك من النار
خلاصة الأثر مجلد 1 صفحة 380 إلى 385 *** هذه الحادثة ننشط بها أذهان المهرولين والمنبهرين بجهاد الروافض الذي هو في الحقيقة ضد الإسلام وأهله وإن بدا غير ذلك ومهما تؤيدون وتصفقون وتنصرون فأنتم عند الروافض مجرد عار أنجس من الفار !!(/1)
التبشير الغربي
الأستاذ أنور الجندي
الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة والتشكيك في الإسلام وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن ظاهرة الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي هي أخطر الظواهر الاجتماعية التي يجب أن تدرس في توسع للتعرف على الدور الخطير الذي قامت وتقوم في محاربة الإسلام وتزييف مفاهيمه واحتوءا معتنقيه، وتمهيد السبيل لتثبيت دعائم النفوذ الأجنبي على مدى قرن كامل من الزمان وخاصة بعد أن توسعت واقتحمت مجال الثقافة والصحافة بعد المدرسة والجامعة.
مصانع تخرج العلماء:
فقد كانت هذه الإرساليات هي المصانع التي خرجت الأجيال من العملاء والتابعين للنفوذ الأجنبي وأولياء الثقافات الفرنسية والإنجليزية والماركسية والتلمودية.
ولقد عرف الدكتور زويمر هدف هذا العمل الخطير بأنه: ليس إدخال المسلمين في المسيحية وإنما هو إخراجهم من الإسلام حين قال: "ليس غرض التبشير المسيحي إخراج المسلمين من دينهم ولقد برهن التاريخ وأزمة بعد أزمة على أن المسلم لا يمكن أن يكون مسيحياً مطلقاً ولكن الغاية هي إخراج المسلمين من الإسلام فقط ليكون ملحداً أو مضطرباً في دينه وعندها لا يكون مسلماً أي لا تكون له عقيدة يدين بها.
وهذه أسمى مراتب الانتقام من الإسلام وأعظم الغايات الاستعمارية "أجل قضينا على برامج التعليم في الأقطار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام ومن ثم أخرجنا الشباب والفتاة الإسلامية من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحق.
وثيقة خطيرة:
هذه هي أخطر وثائق التبشير التي يؤرخ بها للتعليم في البلاد العربية والإسلامية. ذلك لأن الإرساليات جاءت فوضعت البرامج التي تدمر الإنسان المسلم ثم جاءت المدارس الوطنية – في ظل النفوذ الاستعماري في مصر والمغرب والشام والهند وإندونيسيا – فاعتنقت هذه المناهج وطبقتها ولا تزال في جانب كبير منها مطبقة إلى اليوم. وقد ركزت الإرساليات على عدة أمور هامة:
أولاً:
أن تحتضن الفتاة المسلمة، فكانت أولى الإرساليات هي مدارس البنات لتعليم المرأة المسلمة في ظل مفاهيم مسيحية وعلمانية.
وقالت المبشرة المعروفة (أنا مليمنان) ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة..
وقال المبشرون: لقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجأوا إليها، في سعيهم لإخراج المسلمين من الإسلام.
ثانيا:
أن يكون التعليم وسيلة لعقد الولاء مع الأمة صاحبة المدرسة أو الجامعة، ولقد تردد طويلاً، أن الجامعات الأمريكية كانت وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية وكانت منطلق العمل لتأكيد الصهيونية في العالم الإسلامي ودعمها، كما كانت الجامعات الفرنسية وسيلة لتثبيت النفوذ الفرنسي وكذلك الجامعات الإنجليزية.
ثالثاً:
أن يكون التعليم في الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة، وذلك بالدعوة إلى وحدة كل الأديان والعقائد والنحل والمذاهب، وحرية الجمع والمساواة بين الأديان المنزلة، وبين الأديان الوثنية وفتح الطريق أمام نقد "الدين" والسخرية به، وتصويره على أنه فكر قد مضى عهده، وأن العصر عصر العلم وأن الدين معارض للعلم.
رابعاً:
تقوية العنصريات والدعوة إلى الإقليميات والعصبيات والقوميات كالبربرية والتركية والفارسية والعربية، وإحياء الحضارات القديمة كالفينيقية والآشورية والبابلية والفرعونية، وإحياء الفلكلور القديم والآثار القديمة، لخلق ثقافات وتاريخ سابق للإسلام، مع أن الإسلام أقام قاعدة الانقطاع الحضاري بين حاضره وما سبقه من عصور طابعها الحضارية الوثنية.
خامساً:
الدعوة إلى العاميات واللغة المحلية والقضاء على اللغة العربية الفصحى، والحيلولة بين النشء وبين تعلم لغته التي هي المفتاح للإسلام والقرآن، وإحياء العاميات والتركيز على تعليم اللغة الأجنبية، التي هي المدخل إلى مفاهيم الفكر الوافد، والإدعاء بأن اللغة العربية لم تعد صالحة لاستيعاب كل الأغراض، مع تفريغ اللغة الفصحى من الروح الإسلامي عن طريق كتابات الصحف والمسرحيات والإذاعة والأغاني التي تقدم مضامين وافدة غربية منقولة مكتوبة باللغة العربية.
وإقامة ثقافة خفيفة مستمدة من التفاهات مقام الثقافة الأصيلة ذات البيان العربي الرصين.
سادساً:
الاعتماد على الترجمات من اللغات الأجنبية، وخاصة ترجمة قصص الجنس والإباحية، وقصص الإغريق الوثنية وكتابات سارتر وكافكا ونيتشة وغيرها، مما يثير في نفوس الشباب شبهات الشكوك والإلحاد.
سابعاً:(/1)
طرح الأيدلوجيات المختلفة والنظريات الفلسفية المتعددة في علم النفس والاجتماع والأخلاق، وكلها ترمي إلى تحطيم مفاهيم الدين الحق، وخلق روح حرية الشباب والجنس، والإفساد الأخلاقي بالأندية والسمر والرحلات المختلطة، واستغلال الفكر الماركسي في هدم المجتمع الإسلامي، وتقديم الشبهات المسيحية واليهودية في قالب من النظريات ذات الصبغة العلمية البراقة الكاذبة.
ثامناً:
محاولة التشكيك في تاريخ إسلام وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بالإدعاء بأن القرآن مستمد من التوراة والإنجيل.
واستغلال الآيات التي مجد القرآن فيها السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم. للتبشير بالمسيحية ومحاولة إقناع المسلمين بفكرة التجسد. أو الإدعاء بأن الفكر الإسلامي مستمد من الفسلفة اليونانية.
تاسعاً؟:
تقديم مفاهيم فاسدة، عن الموسيقى والمسرح والفن والحضارة والتقدم والمعاصرة، تختلف مع مفهوم الإأسلام الأصيل.
عاشراً:
إغراء الشباب المسلم بالبعثات الخارجية، وهي التي تستهدف تغيير شخصية الشباب بعد صهره في معاهد خاصة، ووضع الفتيات الأجنبيات في طريقه لعقد صلة اجتماعية تستمر مدى الحياة، وتكون عاملاً من عوامل خدمة أهداف التغريب، وحصار رجال البعثات بعد عودتهم، ليكونوا خادمين للثقافات الأجنبية، وهناك نماذج واضحة أمثال طه حسين ومحمود عزمي وغيرهما.
الدخول في التيه:
إن خطة الإرساليات التبشيرية لم تتوقف عند المدرسة والجامعة، ولكنها امتدت إلى الثقافة والصحافة.
وهي ليست خطة ضيقة مرتبطة بتغيير الدين فحسب، ولكنها خطة واسعة ترمي إلى تحويل العقل والنفس الإسلامي جميعاً، وإخراج المسلم من مفهوم الإسلام الصحيح، ومن قيم الإسلام الحقة بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وإدخاله في هاليز الفكر البشري الرطبة المظلمة، وصهره في أتون الوثنية والمادية والعلمانية والأممية وفتح الطريق أمام فكره وعقله وقلبه ليتقبل كل فكر وافد، ويتلقى كل ما تطرحه أعاصير الليبرالية والماركسية والتلمودية والوجودية وغيرها من السموم.
المهم هو إخراجه من الإسلام دون إدخاله في أي دين آخر وإبقائه مهموماً يدور في الدائرة المظلمة المفرغة: دائرة التيه التي لا تجعل منه قوة صالحة لأي اتجاه، أو كما صوروا هذا في دقة "إن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله".
وبذلك فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك يتحقق الهدف، ما هو الهدف؟ هو على حد تعبيرهم، أن يكونوا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية".
وبمفهومنا نحن، خلق ذلك الجيل ذي الولاء الخاص العامل على تدمير مقومات المجتمع الإسلامي من حيث تمكينه لقيادة الثقافة والاستيلاء على ألوية التوجيه.
التبشير بغير جلده:
وقد تطور أسلوب التبشير، وخرج من مرحلة إلى مرحلة، واستطاع تغيير جلده ليوائم تطورات المجتمعات الإسلامية، وهم يركزون اليوم على أهدافهم القديمة بواسائل جديدة، فقد انتهى عهد المبشرين والدعاة الذي يقتحمون المستشفيات ويوزعون الأدوية والملابس وجاء ددور الخدمات الفنية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية، في أنظمة مثل "التربية الأساسية" والتغلغل في أنحاء الريف ومخاطبة الناس والتعرف على نوازعهم.
وهي أساليب الجواسيس والمبشرين بصورة أخرى، قوامها السيطرة على توجيه المجتمع والجاسوسية السياسية للحصول على معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها، وقد اتخذت أساليب جديدة قوامها الجداول الإحصائية لكل شيء في البلاد، مع التركيز على التعليم بالذات، وتجنيد رجال التربية في العالم العربي في مؤسساتهم وإغرائهم بالمرتبات الضخمة.
كما يدعون بين آن وآخر إلى مؤتمرات موسعة، والهدف هو تطبيق أفكار تربوية بحقل الفكر الإسلامي العربي تابعة للفكر الغربي المسيطر، وتطبيق مبادئ علم النفس وتجاربه على أبنائنا وتلاميذنا بهدف احتقار أوضاعنا ومقدراتنا والخروج من تقاليدنا إلى التقاليد الوافدة.
ولاريب في أن تحقيق هذه الأهداف يباعد بين المسلمين وبين العودة إلى مناهج التربية الإسلامية الصحيحة التي تمكنهم من امتلاك إرادتهم، ولا يزال النفوذ الأجنبي يركز على الثنائية الموجودة في نظام التعليم في العالم الإسلامي، فيصبح النظام الإسلامي خاضعاً وتابعاً للنظام الغربي.
بينما الوجهة الصحيحة هي أن يكون التعليم الأولى كله إسلامي الأساس. وأن تقوم مناهج إسلامية ثقافية تحتضن كل أنواع الدراسات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والأدبية واللغوية، وأن تكون اللغة العربية هي أساس العلوم والتكنولوجيا ودراسات الطب والعلم التجريبي.
حيرة الشباب:(/2)
يقول الدكتور عمر فروخ: إن التحدي الذي يواجه المسلمين منذ قرن كامل من الزمن على الأقل: "هو عندما قرر الاستعمار أن يستخدم التبشير عن طريق الغزو الفكري بديلاً عن الفتح العسكري واتخذ لذلك طريق المدرسة والكتاب والجريدة، ثم طريق الراديو والتلفزيون في السنوات الأخيرة، وعن طريق الأزياء أيضاً، وكانت طريق الأزياء من بين الطرق الناجحة في سلب الشخصية الإسلامية من المسلمين، ثم كانت أنجع الوسائل إطلاق الأحزاب ذات الهوية الفكرية المعادية للإسلام، والهدف هو زعزعة اطمئنان المسلم بماضيه ومثله العليا. وأول ما يتجه إليه خصوم الإسلام هو أن يختاروا من الشبان من كان في أزمة نفسية أو اجتماعية، وهم يدعون الشباب المختطف إلى التحرر من جميع القيود وأن يقرر أموره بنفسه، من غير أن يشاركه في ذلك أبوه ولا أستاذه ولا النظم الحاضرة، ويقف الشباب المسلم حائراً قلقاً، يظن أن الحضارة غير الإسلامية تتحداه، وهو في الواقع لو عرف شيئاً كافياً من أمور دينه وأشياء من تاريخ الحضارة الغربية، لما وقف موقف الحائر في هذا التحدي، بل لما كان الخصوم قادرين على تحديه وكان هو القادر على تحديهم.
الاحتواء والولاء:
والواقع أن كل محاولات التبشير تركز على الشباب وعلى الأجيال الجديدة بهدف احتوائها، لتكون ذات ولاء للفكر الغربي وإنها في سبيل ذلك تستخدم الشيوعية والعلمانية وأكاذيب مذهب فرويد وضلالات فلسفة سارتر، وغيرها من الدعوات لتدمير القيم الأخلاقية في نفس الشباب، وجعله لقمة سائغة للقوى التي تعمل على احتواء العالم الإسلامي، وتحول بينه وبين القدرة على امتلاك إرادته بفهم دينه وعقيدته، والتشكل على النحو الصحيح، وهو أن يكون قادراً على مواجهة التحدي والإعداد للرباط في سبيل الله والجهاد بحمل السلاح للدفاع عن العقيدة والأرض معاً.
وقد سجل رجال التبشير هدفهم هذا وما وصلوا إليه حين قالوا: لقد جنينا أعظم الثمرات المرجوة منذ حطم التبشير النشء الإسلامي تحطيماً. وهو سبب فساد الخلق والوطنية وموت الرجولة في نفسو الشباب.
إخضاع العالم الإسلامي:
وقد كتب أحد المبشرين في مجلة (لاريفو مسلمان) التي تصدر في باريس مقالاً كشف فيه بكل وضوح عن هدف الإرساليات التبشيرية، التي تحولت اليوم إلى جامعات ومعاهد لها صفة علمية خالصة، تحت عنوان "إخضاع العالم الإسلامي" قال: إن الهدف ليس مجرد نشر النصرانية بل إخضاع العالم الإسلامي. فقد أثبت التاريخ أن المجابهة بين المسيحية والإسلام لم تنته بمجرد انتهاء ما يسمى بالحروب الصليبية، تلك الحروب التي مثلت الصراع الجسدي على أعلى المستويات والتي استمرت في خمس حملات خلال مائتي عام، وقال إن بين الإرساليات والاستعمار تعاون وثيق. فإذا أضفنا إلى هذا ما كتبه الأب جيرونر في خطاب ألقاه في أحد المؤتمرات التبشيرية حيث قال: إن الإسلام هو مشكلة اليوم التي لا يجب تأجيلها، وأنه يتحتم علينا أن نرصد كل إمكانياتنا لحلها مما يدعو إلى التستر في هذا الهدف الوصول إليه بأساليب غير مباشرة.
الإسلام دين يتحرك زاحف يمتد بنفسه دون قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه:
الإسلام الخطير:
ويردد كثيرون ما هو أشد صراحة من هذا المعنى حين يقولون: أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية، إذ أنها جميعاً ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهلها، وهي في نفس الوقت أقل من النصرانية رقياً، أما الإسلام فهو كما يسمونه – دين متحرك زاحف – وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه.
ويقول الأستاذ سيد قكب معلناً: أننا لا ندرك ضخامة الجهود التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر النصرانية في أرجاء العالم وفي مجاهله ومعموره على السواء، ولا ندرك أن للكنيسة الكاثوليكية، وحدها نحو ثمانية آلاف بعثة تبشيرية تنتشر في أنحاء الأرض، وتذهب إلى مجاهل الكونغو والتبت (وإذا كان هذا الكلام عن عام 1950 م) فإن الأمر اليوم قد تضاعف. مع تملك هذه البعثات التبشيرية من وسائل الدعم المالي والآلي لتمكين جهودها.
ولاريب أن الجهود المبذولة من الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية والموجهة إلى أفريقيا وإلى جنوب شرق آسيا بالذات في هذه المرحلة تؤازرها قوى مختلفة، وترصد لها ميزانيات ضخمة ببناء المستشفيات والكنائس الضخمة، وتربي أجيالاً تنسلخ عن أسرها ودينها، هذه العناصر هي وحدها التي يتاح لها فرصة تسلم أرقى المناصب. ودعامتها العقيدة المسيحية واللغة الإنجليزية والإيمان بالحضارة الغربية وتمكن النفوذ الأجنبي من السيطرة على مقدرات الإوطان ومقاومة الإسلام الذي ينتشر تلقائياً.
وقد تواترت أخبار كثيرة عن الخطط التي تقوم بها الإرساليات في إندونيسيا وماليزيا. والتي ترمي إلى تصفية الإسلام في نصف قرن، وكذلك ما يجري في أفريقيا مداً بالحركة التبشيرية في جنوب السودان والحزام الأفريقي.
المظهر والمخبر:(/3)
فإذا ذهبنا نبحث وجدنا أن المناهج كلها وإن كلنت مسيحية المظهر فهي تلمودية المخبر، وإن التبشير المسيحي كله خاضع اليوم لنفوذ الصهيونية العالمية، وأنه يعمل لتحقيق غاياتها البعيدة، والتبشير بمفاهيم شعب الله المختار ومفاهيم أخرى تتناقض تماماً مع مفاهيم الإنجيل المنزل من عند الله، بل إن ما تطرحه الإرساليات الآن إنما يستمد مصدره من الفكر الماسوني التلمودي، الذي يقدم في نظريات ماركس وفرويد ودروكايم وفريزر، هذه المفاهيم التي فرضت اليوم على جميع الجامعات والمعاهد في العالم الإسلامي، على أنها علوم يقينية وليست نظريات وفروض قابلة للخطأ والصواب.
وإذا كانت الإرساليات التبشيرية هي منطلق العمل في المدرسة والصحيفة فإن من ورائها قوى الاستشراق الضخمة التي تمدها بالمادة الواسعة للتشكيك وإثارة الشبهات، ويقوم التغريبيون خلفءا طه حسين وساطع الحصري ولطفي السيد وسعد زغلول وسلامة موسى في العلم الإسلامي كله للتبشير بهذه المفاهيم، تحت اسم الدعوة إلى المعاصرة والتقدمية.
ولقد تنبهت قوى اليقظة الإسلامي إلى هذه المخططات والأهداف، فهي تواجهها في قوة وتكشف زيفها ولم يبق إلا أن تسيطر عليها في القريب.(/4)
التبيان
شرح نواقض الإسلام
للإمام المجدد
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. رحمه الله
تأليف
سليمان ناصر بن عبد الله العلوان
الطبعة السادسة
وقف لله تعالى
هذه النسخة متوافقه مع طبعة دار المسلم للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة السادسة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه الطبعة السادسة لكتابنا ((التبيان شرح نواقض الإسلام)).
وقد زدت في هذه الطبعة بعض المسائل المهمة، لكثرة الجهل في هذا الزمان في توحيد العبادة، وحذفت ما ينبغي حذفه وكتبت ملحقاً آخر الشرح في التفريق بين تكفير الفعل وتكفير الفاعل لأن بعض الناس يخلط بين الأمرين فيرى التلازم بينهما، وهذا غلط كما ستراه موضحاً في الملحق.
والله المسؤول أن ينفع به، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين.
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين.
أما بعد؛ فقد طلب مني بعض الإخوان أن أشرح نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الإمام المجدّد لما اندرس من معالم الدين والإيمان شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - تعالى -، فأجبته إلى سؤاله؛ رجاء النفع به.
وقد نهجت في هذا الشرح منهج الوسط، فليس بالطويل الممل؛ لتقاصر الهمم عن قراءة المطولات، وليس بالقصير المخل؛ الذي لا يفي بالمعنى والمقصود، بل هو عوانٌ بين ذلك.
وأسأل الله أن يجعل عملنا صالحاً ولوجهه خالصاً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شرح نواقض الإسلام
قال -رحمه الله-: ((بسم الله الرحمن الرحيم. اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض)).
ابتدأ المصنف -رحمه الله- هذه النواقض بالبسملة؛ اقتداء بالكتاب العزيز، وتأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكاتباته ومراسلاته، فيُستحب البداءة بها في المكاتبات والمراسلات وغير ذلك مما دل عليه الدليل. ومثل البسملة التسمية؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدئ بها عند الأكل وإرادة الجماع، وغير ذلك مما هو معلوم لا يخفى.
قوله: ((اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض)):
((اعلم)): فعل أمر مبني، وهو مبني على السكون، من العلم، وهو حُكْم الذهن الجازم المطابق للواقع؛ أي: كن متهيئاً لما يُلقى إليك من هذه النواقض؛ لعلك تفهمها وتدرك المراد منها؛ لتخرج من ظلمات الجهل إلى النور.
و((نواقض)): جمع (ناقض)، وهو اسم فاعل، واسم الفاعل لغير العاقل يُجمع على فواعل.
و((نواقض الإسلام)): هي مفسداته التي متى طرأت عليه؛ أفسدته، وأحبطت عمل صاحبه، وصار من الخالدين في النار.
ولذلك يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّم هذه النواقض، وإلاَّ؛ فالمسلم قد يقع فيها وهو لا يشعر؛ كما هو مشاهد من كثير ممن يدَّعي الإسلام فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: ((عشرة نواقض)):
هي أكثر من ذلك، ولكن الشيخ رحمه الله اختار هذه العشرة؛ لإجماع المسلمين عليها في الجملة؛ كما سيأتي إن شاء الله إيضاحه عند كل ناقض نذكره.
أو يقال: إن النواقض الكثيرة التي ذكرها الفقهاء في باب حكم المرتد مرجعها إلى هذه العشرة.
* * *
الناقض الأول من نواقض الإسلام
قال -رحمه الله-: ((الأول: الشرك في عبادة الله: قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(1)، (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(72))(2)، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر)).
ابتدأ الشيخ -رحمه الله تعالى- هذه النواقض العشرة بالشرك بالله، لأنه أعظم ذنب عُصي الله به، وهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وهو "تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله".
وكيف لا يكون أعظم ذنب عُصي الله به وقد جَعَلَ لله شريكاً في عبادته، وقد أوجده من العدم، وغذاه بالنعم؟!
والشرك ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
1- شرك أكبر.
2- شرك أصغر.
3- شرك خفي.
وذهب العلامة ابن القيم رحمه الله إلى أن الشرك نوعان:
1- أكبر.
2- أصغر.
النوع الأول: الشرك الأكبر:
الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وصاحبه إن لقي الله به؛ فهو خالدٌ في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين.
قال الله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(3).
وقال –تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31))(4).
__________
(1) النساء: 48.
(2) المائدة: 72.
(3) النساء: 48.
(4) الحج: 31.(/1)
ولذلك يقول المشركون من عُبَّاد قبور وغيرهم لآلهتهم في النار: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98))(1).
وهم لم يسووهم به في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة إنما سوَّوهم به في المحبة التي هي لُبُّ العبادة، وكذلك التعظيم الذي هو قربة من أجل القربات وعبادة من أعظم العبادات؛ ولذلك ذمَّ الله الذين لا يعظمونه، فقال: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13))(2)؛ أي: عظمة.
ولذلك نقول: إن الشرَّ كلَّه عائدٌ إلى الإشراك بالله جل وعلا.
والشرك الأكبر أنواعه كثيرة، مدارها على أربعة أنواع(3)، نذكرها مجملة مع شيء من البيان يكون مختصراً لئلا يطول بنا الكلام، مع أن طول الكلام في هذه المسائل أحسن وأقوم، ولكن لتقاصر الهمم نكتفي بما ينفع مع الاختصار.
النوع الأول: شرك الدعوة:
ودليله قوله -تعالى-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ(65))(4).
قال المصنف -رحمه الله- -تعالى- في "القواعد الأربع": "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة, ومشركو زماننا شركهم دائماً في الرخاء والشدة".
وقال -رحمه الله- في مقدمة "القواعد الأربع": إذا دخل الشرك في العبادة؛ فسدت كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك؛ لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله".
النوع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد:
والدليل قوله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16))(5).
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله -: "أما الشرك في الإرادات والنيات؛ فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، من أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته".
وجعل شرك النية شركاً أكبر محمول على من كانت جميع أعماله مراداً بها غير وجه الله، أما من طرأ عليه الرياء، فهو شرك أصغر، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه.
النوع الثالث: شرك الطاعة:
وهي طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله -تعالى-؛ كما قال –تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31))(6).
ومما يفسر هذه الآية ويوضحها ما رواه الترمذي(7) وغيره عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية فقلت له: إنا لسنا نعبدهم! قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟" فقلت: بلى. قال "فتلك عبادتهم"، وسنده ضعيف، ولكن له شاهد عند ابن جرير(8) موقوفاً من طريق حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة وفي صحته نظر، ولكن تفسير الآية بما ذكر مشهور بين أهل التفاسير، ليس فيهم من يدفعه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً - حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله - يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل؛ فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم؛ فكان من اتبع غيره في خلاف الدين -مع علمه أنه خلافُ الدين- واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام(9) ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب" اهـ كلامه(10).
النوع الرابع: شرك المحبة:
__________
(1) الشعراء: 97-98.
(2) نوح: 13.
(3) انظر "مجموعة التوحيد" (ص 5).
(4) العنكبوت: 65.
(5) هود: 15- 16.
(6) براءة: 31.
(7) ج 5/259.
(8) جامع البيان 10/114.
(9) كذا في "الفتاوى" وهو غلط مطبعي والصواب "بتحريم الحرام وتحليل الحلال".
(10) "مجموعة الفتاوى" (7 /70).(/2)
والدليل على ذلك قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) الآية(1).
فالمشرك - لجهله بربه - تجده يحب الآلهة من الأصنام وغيرها كحب الله وأعظم من ذلك، تجده إذا انتُهِكَتْ، يغضب لها أعظم مما يغضب لله ويستبشر لها ما لا يستبشر لله.
قال -تعالى-: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45))(2).
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وها هنا أربعة أنواع من المحبة، يجب التفريق بينها، وإنما ضلَّ من ضلَّ بعدم التمييز بينها:
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحبُّ الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر وأحبُّ الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.
الثالث: الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحبُّ، ولا تستقيم محبة ما يحبُّ إلا فيه وله.
الرابعة: المحبة مع الله، وهي المحبة الشركية، وكل من أحب شيئاً مع الله، لا لله، ولا من أجله، ولا فيه؛ فقد اتخذه ندًّ من دون الله وهذه محبة المشركين" أهـ المقصود.
فهذه الأنواع الأربعة للشرك الأكبر كلها مخرجة من الإسلام؛ لأنها عبادات، وصرف العبادات لغير الله شرك كما قال –تعالى-: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117))(3) فسمَّاهم الله كافرين؛ لدعائهم معه غيره.
ومن الشرك الأكبر أيضاً: الذبح لغير الله: لأن الذبح لله قربة له من أجل القربات؛ كما قال –تعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2))(4)، وقال-تعالى-: (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162))(5)؛ فالنسك هو الذبح.
فمن ذبح للأولياء أو للأصنام أو للجن - كما يفعله كثير من الجهلة في البلاد الجنوبية وفي بعض ضواحي مكة عند سكنى المنزل -؛ فقد خرج عن الإسلام، ودخل في دائرة الكفر والضلال، لصرفه عبادة من أجل العبادات لغير الله.
ومن ذلك: النذر لغير الله: فهو شرك أكبر؛ لأن النذر عبادة؛ كما قال -تعالى-: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(6)، وقال-تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)(7).
فمن نذر لولي الشموع أو اللحوم وغيرهما؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه؛ لأنه لا يجوز النذر إلا لله، وصرفه لغير الله مناقض لما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - فما يفعله عباد القبور من أهل البلاد المجاورة وغيرها من النذر لمن يعتقدون فيه ضرًّا أو نفعاً شرك أكبر مخرج عن الإسلام، ومن قال: إن ذلك شرك أصغر؛ فقد أبعد النجعة وقفا ما لا علم له به، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن ذلك: الاستعاذة والاستغاثة: كل ذلك صرفه لغير الله شرك.
النوع الثاني: الشرك الأصغر:
وصاحبه إن لقي الله به؛ فهو تحت المشيئة على القول الصحيح إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه، ولكن مآله إلى الجنة؛ لأن الشرك الأصغر لا يخلد صاحبه في النار، ولكنه معرض للوعيد، فيجب الحذر منه.
ومن أنواع الشرك الأصغر: الحلف بغير الله: إن لم يقصد تعظيم المحلوف به، وإلا؛ صار شركاً أكبر.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك".
رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وقال: "على شرط الشيخين"، وسكت عنه الذهبي، من حديث ابن عمر.
ومنه: يسير الرياء والتصنع للخلق:
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسُئِل عنه؟ فقال: "الرياء". رواه أحمد وغيره من حديث محمود بن لبيد وسنده حسن.
فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على الصحابة الذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدركوا نزول الوحي؛ فعلى غيرهم من باب أولى ممن قل علمه وضعف إيمانه.
ولا يسلم المسلم من الشرك إلا بالإخلاص لله وبتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) البقرة: 165.
(2) الزمر: 45.
(3) المؤمنون: 117.
(4) الكوثر 2.
(5) الأنعام: 162.
(6) الإنسان: 7.
(7) البقرة: 270.(/3)
ولما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله- شرك عُباد الشمس والقمر وعباد النار وغيرهم؛ قال: "وأما الشرك في العبادة؛ فهو أسهل من هذا الشرك، وأخف أمراً، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضرُّ ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، وهذا حال أكثر الناس.
وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حبان في "صحيحه": "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة". قالوا: كيف ننجو منه يا رسول الله؟! قال: "قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". فالرياء كله شرك.
قال-تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً(110))(1).
أي: كما أنه إله واحدٌ، ولا إله سواه؛ فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية؛ فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة.
وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً"(2).
وهذا الشرك في العبادة يُبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجباً، فإنه يُنَزَّلُ منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر؛ فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته عبادة خالصة.
قال -تعالى- (وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)(3).
فمن لم يخلص لله في عبادته؛ لم يفعل ما أُمِرَ به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يُقبل.
ويقول الله: "أنا أغنى الشركاء فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء"(4).
وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور.." اهـ المقصود من كلامه رحمه الله –تعالى-.
والعمل لغير الله له حالات:
الحالة الأولى: أن يكون رياء محضاً، فلا يريد صاحبه إلا الدنيا أو مراآة المخلوقين؛ كالمنافقين؛ الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلا قَلِيلاً(142))(5).
فهذا العمل لا يشك مسلم بأنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله جل وعلا.
الحالة الثانية: أن يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فهذا له حالتان:
أ- إما أن يشاركه الرياء من أصله.
ب- وإما أن يطرأ عليه.
فأما الأول؛ فالعمل حابط لا يقبل، ويستدل له بالحديث الذي خرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه".
وأما إن طرأ عليه الرياء، واسترسل معه: فبعض العلماء يبطله بالكلية، وبعض العلماء يقول: إن استرسل معه؛ فله أجر إخلاصه وعليه وزر الرياء، وأما إن جاهد ودفعه؛ فهذا له نصيب من قوله –تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41))(6).
وأما مثلاً من جاهد في سبيل الله وله نية في أخذ المغنم؛ فهذا العمل فيه خلاف بين العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (2/163) بعد كلام سبق: "وهذا كمن يصلي بالأجرة؛ فهو لو لم يأخذ الأجرة؛ صلى، ولكنه يصلي لله وللأجرة، وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال: فلان حج، أو يعطي الزكاة، فهذا لا يُقبل العمل منه".
وقال ابن رجب رحمه الله: "نقص بذلك أجرُ جهاده، ولم يبطل بالكلية".
وقال رحمه الله(7): "وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضاً من الدنيا: أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا".
فعلى هذا؛ هناك فرق بين من يجاهد مثلاً للذكر والأجر وبين من يجاهد للمغنم والأجر.
__________
(1) الكهف: 110.
(2) رواه أحمد في " الزهد " من رواية الحسن عن عمر وهو لم يسمع منه.
(3) البينة: 5.
(4) رواه: مسلم، وابن ماجة، والسياق قريب من سياق ابن ماجة.
(5) النساء: 142.
(6) النازعات: 40-41.
(7) "جامع العلوم والحكم" (ص15).(/4)
فالأول: ثبت فيه حديث أبي أمامة عند النسائي(1) بسند حسن: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا شيء له", فأعادها عليه ثلاث مرات. يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا شيء له". ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغِىَ به وجهه".
وأما الثاني: فقد قدمنا الكلام عليه، والله أعلم.
الناقض الثاني من نواقض الإسلام
قال -رحمه الله-: ((من جعل بينه وبين الله وسائط؛ يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم؛ كفر إجماعاً)).
أقول: إن هذا الناقض من أكثر النواقض وقوعاً وأعظمها خطراً على المرء، لأن كثيراً ممن يتسمى باسم الإسلام وهو لا يعرف الإسلام ولا حقيقته جعل بينه وبين الرب - جل وعلا - وسائط يدعوهم لكشف الملمات وإغاثة اللهفات وتفريج الكربات، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين؛ لأن الله -جل وعلا- ما أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، ولكن أبى ذلك عباد القبور، وجعلوا وسائط يسألونهم جلب المنافع ودفع المضار، وجعلوا ذلك هو العبادة التي أمر الله بها، ومن أنكر عليهم شيئاً من ذلك؛ رموه بعدم تعظيم الأولياء والصالحين.
وهم بزعمهم الفاسد لا يسألون الله مباشرة تعظيماً منهم لله ويقولون: إن الله لا بد له من واسطة، كما أن الملك لا يُسأل إلا بواسطة الحجاب والله أولى بذلك من الملك.
فهم والعياذ بالله شبهوا الله بالمخلوق العاجز، ومن هذا الباب دخلوا، حتى خرجوا من الإسلام، وفي الكتاب والسنة مما يبطل قولهم ويقطع دابرهم كثير.
ومن تدبر القرآن طالباً للهدى ومؤثراً للحق، تبين له ذلك وتبينت له غربة الدين، وجهل كثير من الناس بدين رب العالمين.
فمن ذلك قوله -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(2).
وقال -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57))(3).
وقال -تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107))(4).
وقال -تعالى-: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38))(5).
وفي القرآن أكثر من ذلك مما يدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وعدم جعل الوسائط بينه وبين خلقه.
وقد قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186))(6).
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: ما شاء الله وشئت؛ قال: "أجعلتني لله عدلاً؟ ما شاء الله وحده(7)؛ لأن الواو في قوله: "وشئت"؛ تقتضي المساواة، والله جل وعلا تفرد بالإلهية، فيجب أن يفرد بالعبودية، ولا يساوى بأحد من خلقه في جلب نفع أو دفع ضرّ.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث العظيم الذي خرَّجه الترمذي وحسَّنه عن ابن عباس: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، وإذا سألت فاسأل الله ن وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجفت الصحف".
__________
(1) النسائي [ 6 /52 ] من طريق معاوية بن سلاَّم عن عكرمة بن عمار عن شدّاد أبي عمار عن أبي أمامة به.
(2) سبأ: 22-23.
(3) الإسراء: 56- 57.
(4) يونس: 106- 107.
(5) الزمر: 38.
(6) البقرة: 186.
(7) رواه أحمد (1 /213 و214) من حديث ابن عباس وسنده حسن.(/5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومع علم المؤمن أن الله ربُّ كل شيء ومليكه؛ فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب؛ كما جعل المطر سبباً لإنبات النبات؛ قال -تعالى-: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)(1)، وكما جعل الشمس والقمر سبباً لما يخلقه بهما، وكما جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك؛ مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت؛ فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها، ويثيب عليها المصلين عليه، لكن ينبغي أن يُعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لابد معه من أسباب أخر، ومع هذا؛ فلها موانع؛ فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع؛ لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.
الثاني: أنه لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئاً سبباً بلا علم أو يخالف الشرع؛ كان مبطلاً، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الذر، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سبباً، إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره، وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه، ولذلك لا يُعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة، وإن ظن ذلك؛ فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان، فلا يحل له ذلك؛ إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به؛ إذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بُعثَ بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به، فمصلحته راجحة، وما نهى عنه؛ فمفسدته راجحة" اهـ كلامه(2).
والمشركون في قديم الدهر وحديثه إنما وقعوا في الشرك الأكبر لتعلقهم بأذيال الشفاعة؛ كما ذكر الله ذلك في كتابه؛ والشفاعة التي يظنها المشركون أنها لهم هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأبطلها في عدة مواضع:
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254))(3).
وقال -تعالى-: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ)(4).
فهذه الشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله، لأن الله - جل شأنه وعز سلطانه - أثبت الشفاعة في كتابه في عدة مواضع:
كما قال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ)(5).
وقال -تعالى-: (وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى)(6).
وقال -تعالى-: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً)(7).
وقال -تعالى-: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26))(8).
فعلى هذا؛ فالشفاعة شفاعتان:
أ- شفاعة منفية: وهي التي تطلب من غير الله.
ب- شفاعة مثبتة: وهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، وهي زيادة على ذلك مقيدة بأمرين عظيمين:
الأول: إذن الله للشافع، كما قال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِه)(9).
الثاني: رضا الرب عن المشفوع له؛ كما قال –تعالى-: (وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى)(10)؛ أي: قوله وعمله، أما المشركون؛ فتكون أعمالهم هباء منثوراً، فلا شفاعة لهم؛ معاملة لهم بنقيض قصدهم، فمن استعجل شيئاً قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه.
* * * * *
الناقض الثالث من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((من لم يكفر المشركين أو شك في كفره أو صحح مذهبهم))
لأن الله -جل وعلا- كَفَّرهم في آيات كثيرة من كتابه، وأمر بعداوتهم؛ لافترائهم الكذب عليه، ولجعلهم شركاء مع الله، وادعائهم بأن له ولداً، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً، وقد افترض الله -جل وعلا- على المسلمين معاداتهم وبغضهم.
ولا يحكم بإسلام المرء حتى يُكَفِّرَ المشركين، فإن توقّف في ذلك مع ظهور الأمر فيهم، أو شك في كفرهم مع تبينه؛ فهو مثلهم.
__________
(1) البقرة: 164.
(2) انظر الفتاوى [ 1 /137 -138 ].
(3) البقرة: 254.
(4) الأنعام: 51.
(5) البقرة: 255.
(6) الأنبياء: 28.
(7) الزمر: 44.
(8) النجم: 26.
(9) البقرة: 255.
(10) الأنبياء: 28.(/6)
أما من صحح مذهبهم، واستحسن ما هم عليه من الكفر والطغيان؛ فهذا كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه لم يعرف الإسلام على حقيقته، وهو: "الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله" وهذا والى أهل الشرك، فضلاً عن أن يكفرهم.
وفي "صحيح مسلم" من طريق مروان الفزاري عن أبي مالك سعد ابن طارق عن أبيه؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله".
فلا يُكتفى بعصمة دم المسلم أن يقول: لا إله إلا الله، بل لا بد أن يضيف إليها الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن لم يكفر بما يُعبد من دون الله، لم يحرم دمه وماله، والسيف مسلول عليه؛ لإضاعته أصلاً من أصول ملة إبراهيم. التي أمرنا باتباعها والسير على منهجها دونَ تمييع لها مسايرة لشهوات أعداء الله.
قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)(1).
هذه هي ملة إبراهيم التي من رغب عنها، فقد سفه نفسه.
وقال -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)(2).
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب قدَّس الله روحه: "وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم"
وبهذا البيان يتبين لك ما عليه كثير من حكام البلاد التي تنتسب إلى الإسلام؛ لأنهم والوا أهل الإشراك، وقربوهم، وعظموهم، وجعلوا بينهم علاقات تدل على أنهم إخوان لهم، إضافة إلى ذلك أنهم عادوا أهل الدين وآذوهم وأودعوهم في السجون؛ فهل يبقى إسلام بعد هذا؟!".
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51))(3).
وقال -تعالى-: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)(4).
فلا بد لكل مسلم يدين دين الإسلام أن يُكَفِّرَ المشركين، وأن يعاديهم، وأن يبغضهم، ويبغض من أحبهم، أو جادل عنهم، أو ذهب إلى ديارهم من غير عذر شرعي يرضاه الله ورسوله.
وعلى المسلمين جميعاً أن يرجعوا إلى دينهم؛ فبه يحصل العز، وبه يحصل النصر، وبه تستقيم البلاد، وبه يحصل الفرقان بين أولياء الرحمن الذين ينصرون دينه وبين أولياء الشيطان الذين لا يبالون بما جرى على الدين إذا سلمت لهم مآكلهم ومشاربهم.
ويجب على جميع المسلمين أن يكون لهم أسوة بإبراهيم الخليل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27))(5)؟!.
وعلينا أن نرجع إلى عقيدتنا وديننا ونمتثل أمر الله –جل وعلا – في حكمه في الكفار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123))(6).
وقال -تعالى-: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(7).
وكلما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة؛ سلّط الله عليهم عدوهم، فلما أعرض كثير من حكام الدول عن تحكيم شرع الله ورضوا بالقوانين الوضعية الملعونة الملعون محكمها؛ تدهورت بلادهم وتشتتت، وسامهم العدو سوم العذاب من حيث لا يشعون، لأن كثير من الرؤساء لا يهمهم إلا المحافظة على المناصب التي يتولونها، سواءٌ استعز الدين أم لا، مع أن العز والتمكين لا يكون إلا بالقيام بنصر هذا الدين؛ لأنه فرض لازم على كل من له قدرة وملكة يستطيع ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وسبب ذلك بطانة السوء مع تقصير كثير من الدعاة إلى الله في التركيز على هذا الجانب. والله المستعان.
وليعلم كل مسلم أن الكفار يسعون سعياً شديداً، ويحرصون كل الحرص، على إبعاد المسلم عن دينه حسداً من عند أنفسهم، فإن لم ينتبه الغيور على دينه من هذه الرقدة؛ فسوف يعض أصابع الندم حين لا ينفع، وسوف يجني ثمرة فعله, "ومن لم يغزُ غُزِيَ"
__________
(1) الممتحنة: 4.
(2) البقرة: 256.
(3) المائدة: 51.
(4) آل عمران: 28.
(5) الزخرف: 27.
(6) التوبة: 123.
(7) التوبة: 5.(/7)
ويجب على كل عالم وداعية وخطيت وإمام مسجد أن يبين للناس خطورة موالاة الكفار بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، ويبين لهم خطورة الذهاب إلى ديارهم، أو استقدامهم إلى ديار المسلمين؛ لأن الله قطع الموالاة والصلة بين المسلم والكافر، حتى ولو كان أقرب قريب؛ كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ)(1).
وقال -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(2).
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(1))(3).
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه الشيخان من حديث أسامة: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"؛ لئلا يقع بين المسلم والكافر علائق؛ حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - المادة وقطع بينهما التوارث.
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه:(لا يقتل مسلم بكافر)(4)، وما ذاك إلا لهوان الكافر.
كيف لا، والله -جل وعلا يقول: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(5)؟!.
وليعْلم كل مسلم أن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم لن يصطلحوا مع المسلمين، ولن يسالموهم ويرضوا عنهم؛ حتى يتبع المسلمون ملتهم، ويحذوا حذوهم؛ كما قال -تعالى-: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(120))(6).
فهذا تهديد من الله ووعيد شديد على من اتبع دين الكفار، وأنه ليس له من دون الله ولي ولا تصير.
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمفارقة المشركين؛ لئلا يصير منهم، بل عظم الأمر وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". قالوا: يا رسول الله! لِمَ؟ قال: "لا تراءى ناراهما"(7).
وروى النسائي وغيره بسند جيد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين".
ونشكوا إلى الله -جل وعلا- غربة الدين، وتغير أحوال المسلمين فهم يسمعون هذه النصوص الصريحة المخيفة، ومع ذلك يذهبون إلى ديارهم، ويجلسون معهم، ويؤاكلونهم، ويضاحكونهم!
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله".
رواه أبو داود من حديث سمرة بن جندب، وفيه ضعف، ولكن يشهد له ما تقدم.
أين ملة إبراهيم؟!
أين الحب والبغض في الله؟!
كل هذا لا يرفع به كثير من الناس رأساً.
ولله درُّ العلامة سليمان بن سمحان حيث يقول:
وَمِلَةُ إبْراهيمَ غُودرَ نَهْجُها
وَقَدْ عُدِمَتْ فينا وَكَيْفَ وقَدْ سَفَتْ
ومَا الدِّينُ إلاَّ الحُبُّ والبُغْضُ والوَلا
وَلَيْسَ لَها مِنْ سالِكٍ مُتَمَسِّكٍ
فَلسْنا نَرى مَا حَلَّ بالدِّينِ وانْمَحَتْ
فَنأْسَى عَلى التَّقصيرِ مِنّا وَنَلْتَجي
فنَشْكوا إلى اللهِ القُلوبَ الَّتي قَسَتْ
أَلَسْنا إذا مَا جَاءَنا مُتَضَمِّخٌ
نَهُشُّ إلَيْهِمْ بالتَّحيَّةِ والثَّنا
وقَدْ بَرِئ المَعْصومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ
ولكِنَّما العَقْلُ المَعيشِيُّ عِنْدَنا ... عَفاءً فَأَضْحَتْ طامِساتِ المَعالِمِ
عَلَيْها السَّوافِي في جمَيعِ الأقالِمِ
كَذاكَ البرَا مِنْ كُلِّ غاوٍ وآثِمِ
بِدينِ النَّبِيِّ الأبْطَحِيِّ ابنِ هَاشِمِ
بِهِ الِملَّةُ السَّمْحَاءُ إحْدى القَواصِمِ
إلى اللهِ في مَحْو الذُّنوبِ العَظائِمِ
وَرانَ عَلَيْها كَسْبُ تِلْكَ المآثِمِ
بِأوْضارِ أهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظالِمِ
ونُهْرَعُ في إكْرامِهِمْ بالوَلائِمِ
__________
(1) التوبة: 23.
(2) المجادلة: 22.
(3) الممتحنة: 1.
(4) رواه البخاري (1/ 204 –فتح) من حديث أبي جحيفة عن علي به.
(5) التوبة: 28.
(6) البقرة: 120.
(7) رواه: أبو داود، والترمذي، من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير به، ورواته ثقات، ولكن أعله الترمذي وغيره بالإرسال. وهو الحق ولكن يشهدله ما بعده.(/8)
يُقيمُ بِدارِ الشَّركِ غَيْرَ مُصارِمِ
مُسَالَمَةُ العَاصينَ مِنْ كُلِّ آثِمِ
قول الشيخ رحمه الله: "أو صحح مذهبهم": يدخل فيه ما يدعو إليه كثير من أهل هذا الزمان، ممن يدعون إلى الاشتراكية، أو يدعو إلى العلمانية، أو إلى البعثية؛ فهذه كلها فرق ضالة كافرة، وإن تسمى أصحابها باسم الإسلام؛ لأن الأسماء لا تغير الحقائق.
ونشكوا إلى الله ما حلَّ بنا في هذا العصر الغريب، فقد انقلبت الموازين فأصبح الكثير يتعاملون مع الأسماء دون المسميات ومع الدعاوي دون البينات. فعدو الله الذي يحارب الدين ليلاً ونهاراً سرًّا وجهاراً قد صار مؤمناً موحداً عند الجهال المغفلين وأهل الشهوات، بدعوى أنه يتلفظ بالشهادتين، وما يغني عنه تلفظه بالشهادتين وقد صار جنديًّا من جنود إبليس، وحرباً على هذا الدين بالنفس والمال فالله المستعان.
* * * * *
الناقض الرابع من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((ومن اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو حكم غيره أحسن من حكمه؛ كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه)).
المسألة الأولى:
أما المسألة الأولى، وهي: "من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه"، فهي مسألة عظيمة خطيرة، تردي بمعتقدها إلى الجحيم؛ لأن ذلك مصادمة للمنقول والمعقول.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد".
أخرجه مسلم(1) وغيره من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به.
فلا شك ولا ريب أن هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الهدي؛ لأنه وحي يوحى إليه؛ كما قال الله –جل وعلا-: (إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى(4))(2).
ولذلك أجمع العلماء الذين يعتد بإجماعهم على أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي، وأنها مستقلة بتشريع الأحكام، وهي كالقرآن في التحليل والتحريم.
ولذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمر لما رأى معه كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب :" أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بها بيضاء نقية.." الحديث، أخرجه أحمد وغيره وفي إسناده مجالد بن سعيد قال عنه أحمد ليس بشيء وضعفه يحيى ابن سعيد وابن مهدي وغيرهما.
فشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع، وهي أسهلها وأيسرها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة".
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وعلقه في صحيحه بصيغة الجزم، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح [ 1/ 94 ] من حديث ابن عباس.
فكيف مع ذلك يكون هدي غيره أكمل من هديه، وقد جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "والذي نفسي بيده؛ لو كان موسى بين أظهكم، ثم اتبعتموه وتركتموني ، لضللتم ضلالاً بعيداً"؟!
والله -جلا وعلا- قد امتن على هذه الأمة بأن أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة، وذلك بواسطة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(3).
فما رضيه الله لنا؛ فنحن نرضاه؛ لأنه الدين الذي أحبه ورضيه وبعث به أفضل المرسلين.
قال الله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلام)(4).
وقال -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85))(5).
فكل من ابتغى غير هذا الدين؛ فهو من الكافرين.
المسألة الثانية:
وأما المسألة الثانية، وهي: "من اعتقد أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه"، فهذا كافر بإجماع أهل العلم، ومن هؤلاء الكفار الذين يفضلون أحكام الطواغيت الوضعية على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء كفار؛ لتفضيلهم أحكام أناس مثلهم -بل قد يكونون دونهم- على حكم رسول رب العالمين، الذي بعثه الله هدى للعالمين، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
قال -تعالى-: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1))(6).
وينبغي لكل مسلم ومسلمه أن يعلم أن حكم الله ورسوله مقدمٌ على كل حكمٍ، فما من مسألة تقع بين الناس؛ إلا ومردها إلى حكم الله ورسوله، فمن تحاكم إلى غير حكم الله ورسوله؛ فهو كافر؛ كما ذكر الله ذلك في سورة النساء:
__________
(1) صحيح مسلم [ 6/153-نووي ]
(2) النجم: 4.
(3) المائدة: 3.
(4) آل عمران: 19.
(5) آل عمران: 85.
(6) إبراهيم: 1.(/9)
فقال –تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً(60)) الآية إلى أن قال جل وعلا: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65))(1).
أقسم الله -جل وعلا- بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يستكملوا ثلاثة أشياء:
1- أن يحكموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور.
2- أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى به.
3- أن يسلموا تسليماً كاملاً لحكمه.
وكيف يرضى العاقل أن تجري عليه أحكام المخلوقين التي هي نُحاتة أفكار وزبالة أذهان بدلاً من حكم الله الذي أنزله على رسوله، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؟!
وكذلك أيضاً فإن أحكام المخلوقين مبنية على الظلم والجور وأكل أموال الناس بالباطل.
وانظروا ماذا حل بكثير من الدول لما خرجوا عن حكم الله ورسوله، ورضوا بأحكام المخلوقين؟! الظلم ديدنهم، والباطل والفجور جارٍ بينهم؛ من غير منكر ولا نكير، نشأ على هذا الصغير، وهرِم عليه الكبير، حتى تغيرت فطرهم، فهم يعيشون معيشة بهيمية، وهكذا يعيش كل من خرج عن حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44))(2).
والحكم بما أنزل الله، واعتقاد أن حكم الرسول أحسن من حكم غيره: من مقتضيات شهادة أن (لا إله إلا الله)، ومن زعم أن حكم غير الرسول أحسن من حكم الرسول؛ فهذا لم يعرف معنى (لا إله إلا الله)، بل أتى بما يناقضها؛ لأن الانقياد شرطٌ من شروط هذه الكلمة العظيمة، التي بها قامت السماوات والأرض، ومن أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، ومن أجلها شرع الجهاد، ومن أجلها افترق الناس إلى شقي وسعيد، فمن عرفها وعمل بها مستكملاً شروطها وأركانها؛ فقد تبرأ من حكم غير الله والرسول.
وقد تغيرت الأحوال، خصوصاً في هذا الزمان الذي يشبه أزمان الفترات، فاعتاضوا عن كلام الله ورسوله وحكم الله ورسوله بآراء اليهود والنصارى، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ورضوا بتحكيم آراء الرجال.
ولله در العلامة ابن القيم حيث يقول:
واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنوبَ فإنَّها
لكِنَّما أخْشى انْسِلاخَ القَلبِ عَنْ
وَرِضاً بِآراءِ الرِّجالِ وَخَرْصِها ... لَعَلى سَبيلِ العَفْوِ والغُفْرانِ
تَحْكيمِ هَذا الوَحْيِ والقُرْآنِ
لا كانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ المَنَّانِ
فإلى الله المشتكى، وبه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) النساء: الآيات 60-65.
(2) المائدة: 44. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء [ 1 208 ] [ وفرق بين الكفر المعروف باللام كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات ] ا. هـ فالكفر المعرف بالألف واللام لا يحتمل في الغالب إلا الأكبر كقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فيمن حكم بغير ما أنزل الله، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه من قوله (كفر دون كفر) فلا يثبت عنه فقد رواه الحاكم في مستدركه (2/ 313) من طريق هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس به وهشام ضعفه أحمد ويحيى. وقد خولف فيه أيضاً فرواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) قال هي كفر، وهذا هو المحفوظ عن ابن عباس أي أن الآية على إطلاقها،وإطلاق الآية يدل على أن المراد بالكفر هو الأكبر إذ كيف يقال بإسلام من نحى الشرع واعتاض عنه بآراء اليهود والنصارى وأشباههم. فهذا مع كونه تبديلا للدين المنزل هو إعراض أيضاً عن الشرع المطهر، وهذا كفر آخر مستقل. وأما ما رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال (ليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وبكذا) فليس مراده أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر. ومن فهم هذا فعليه الدليل وإقامة البرهان على زعمه، والظاهر من كلامه أنه يعني أن الكفر الأكبر مراتب متفاوتة بعضها أشد من بعض، فكفر من كفر بالله وملائكته واليوم الآخر أشد من كفر الحاكم بغير ما أنزل الله. ونحن نقول أيضاً: إن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله أخف من كفر من كفر بالله وملائكته.. ولا يعني هذا أن الحاكم مسلم وأن كفره كفر أصغر، كلا بل هو خارج عن الدين لتنحيته الشرع، وقد نقل ابن كثير الإجماع على هذا، فانظر البداية والنهاية [ 13 / 119 ].(/10)
ويدخل فيما تقدم من الكفر والضلال قول من يقول: إن إنفاذ حكم الله في رجم الزاني المحصن وقطع يد السارق لا يناسب هذا العصر الحاضر؛ فزماننا قد تغير عن زمن الرسول والدول الغربية تعيبنا في هذا!! فهذا المارق قد زعم أن حكم أهل هذا العصر أحسن من حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى سبيلاً.
وكذلك يدخل في ذلك من قال: إنه يجوز في هذا العصر الحكم بغير ما أنزل الله!! لأنه قد استحل محرماً مجمعاً على تحريمه. والله أعلم.
* * * * *
الناقض الخامس من نواقض الإسلام
قال -رحمه الله-: ((من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به؛ كفر)).
وهذا باتفاق العلماء؛ كما نقل ذلك صاحب "الإقناع" وغيره.
وبغض شيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - -سواء كان من الأقوال أو الأفعال- نوع من أنواع النفاق الاعتقادي الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار.
فمن أبغض شيئأً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أمراً كان أونهياً؛ فهو على خطر عظيم.
فمن ذلك ما يتفوه به كثير من الكتاب الملحدين الذين تغذوا بألبان الإفرنج، وخلعوا ربقة الإسلام من رقابهم من كراهيتهم لتعدد الزوجات؛ فهم يحاربون تعدد الزوجات بشتى الوسائل، وما يعلم هؤلاء أنهم يحاربون الله ورسوله، وأنهم يردون على الله أمره.
ومثل هؤلاء في الكفر والبغض لما جاء به الرسول من يكره كون المرأة ليست بمنزلة الرجل؛ ككرههم أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وغير ذلك؛ فهم مبغضون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن.." الحديث، متفق عليه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فلذلك تجدهم يمدون ألسنتهم نحو هذا الحديث العظيم: إما بصرفه عن ظاهره، وإما بتضعيفه، بحجة أن العقل يخالفه، وإما بمخالفته للواقع.. وغير ذلك مما هو دال ومؤكد لبغضهم لما جاء به الرسول.
وهؤلاء كفار، وإن عملوا بمدلول النص، فهم لم يستكملوا شروط (لا إله إلا الله) لأن من شروطها: المحبة لما دلت عليه، والسرور بذلك، وانشراح الصدر، وهؤلاء ضاقت صدورهم وحرجت وأبغضوا ما دلت عليه وهذا هو عين فعل المنافقين، الذين يفعلون كثيراً من محاسن الشريعة الظاهرة لشيء ما، مع بغضهم لها.
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه؛ دخل الجنة"(1)، فقوله: "خالصاً من قلبه" خرج بذلك المنافق؛ لأنه لم يقلها خالصة من قلبه، إنما قالها ليعصم دمه وماله.
قال الله -تعالى- حاكماً بكفر من كره ما أنزل على رسوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(9))(2).
فالله -جل وعلا- أحبط أعمالهم، وجعلها هباءً منثوراً؛ بسبب كراهيتهم ما أنزل على رسوله من القرآن الذي جعله الله فوزاً وفلاحاً للمتمسكين به، المؤتمرين بأمره، المنتهين عن نهيه.
وكل من كره ما أنزل الله؛ فعمله حابط، وإن عمل بما كره؛ كما قال –تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28))(3).
وهذا من أعظم ما يخيف المسلم: أن يكون كارهاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد يكمن هذا في النفس، ولا يشعر به إلا بعد برهة من عمره، ولذلك ينبغي الإكثار من قوله: "يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك"؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن كثيراً من الناس قد تبين له منكراً ما، فيرفض القبول، ولا يقبل ما تقول؛ خصوصاً عند ارتكابه، فهذا لا يطلق عليه أنه مبغض لما جاء به الرسول دون تفصيل؛ لأنه قد لا يقبل الحق الذي جئته به، لا لأنه حق، ولكن لسوء تصرفك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو جاءه غيرك، وبيَّن له نفس المنكر، لقبل وانقاد، أو أنه لا يقبل منك لما بينك وبينه من شيء ما، فهذا لا يسمى مبغضاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وهناك من الناس من يُلزِمُ صاحب المعصية بما لا يَلْزَمُ، فيُلزِمُ حالق اللحية ومسبل الإزار وشارب الخمر مثلاً وغيرهم ببغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بإعفاء اللحية وعدم الإسبال والنهي عن شرب الخمر، فيقول لهم: لولا أنكم تبغضون ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لما فعلتم هذه المنكرات.
__________
(1) رواه: أحمد (5 / 236)، وابن حبان (1 / 429) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله، وسنده صحيح.
(2) محمد: 8-9.
(3) محمد: 28.(/11)
وهذا إلزام باطل؛ فهناك من الصحابة من حصلت منه بعض المخالفات –كشرب الخمر مثلاً- ولم يلزمه أحد من الصحابة بذلك الإلزام، بل لما أتى بشارب الخمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعنه بعض الصحابة وقال: ما أكثر ما يُؤتى به! نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم -?عن لعنه، وقال: "إنه يحب الله ورسوله"(1).
وإلزام هؤلاء بذلك يقتضي إخراج أهل الكبائر من الإسلام، وهذا مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة من أن أهل الكبائر تحت المشيئة: إن شاء الله عفا عنهم وإن شاء عذبهم على قدر جرمهم، ثم مآلهم إلى الجنة، والله أعلم.
* * * * *
الناقض السادس من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ثوابه، أو عقابه؛ كفر، والدليل قوله –تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(2).
الاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول كفر بإجماع المسلمين، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء؛ كما لو هزل مازحاً.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم عن عبد الله ابن عمر؛ قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت! ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحجارة تنكبه وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65))(3).
فقولهم: "إنما كنا نخوض ونلعب"؛ أي: إننا لم نقصد حقيقة الاستهزاء، وإنما قصدنا الخوض واللعب، نقطع به عناء الطريق، كما في بعض روايات الحديث، ومع ذلك كفَّرهم الله -جل وعلا-؛ لأن هذا الباب لا يدخله الخوض واللعب؛ فهم كفروا بهذا الكلام، مع أنهم كانوا من قبل مؤمنين.
وأما قول من قال: "إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم"؛ فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقال: "إن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يُقال: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(4)، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر"(5).
فمن استهزأ بشيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كالاستهزاء بالعلم الشرعي وأهله لأجله، وكالاستهزاء بثواب الله وعقابه، والاستهزاء بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من أجل أمرهم به أو نهيهم عنه، وكالاستهزاء بالصلاة سواء كانت نافلة أو فريضة، وكذلك الاستهزاء بالمصلين لأجل صلاتهم،وكذلك الاستهزاء بمن أعفى لحيته لأجل إعفائها، أو بتارك الربا لأجل تركه؛ فهو كافر.
والاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صفات المنافقين؛ كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36))(6).
وقد قسم غير واحد من أهل العلم(7) الاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:
أحدهما: الاستهزاء الصريح؛ كالذي نزلت فيه الآية وهو قولهم: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء"، أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين.
__________
(1) رواه البخاري (12 / رقم 6780 –الفتح) من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب به.
(2) التوبة: 65 – 66.
(3) التوبة: 65.
(4) التوبة: 66.
(5) وقال رحمه الله في كتاب "الإيمان" (ص 273) على هذه الآية: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...) الآية.
"دل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه".
(6) المطففين: 29-36.
(7) منهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، كما في "حكم المرتد" (ص 105)، وحمد بن عتيق، كما في "مجموعة التوحيد".(/12)
الثاني: غير الصريح: وهو البحر الذي لا ساحل له، مثل: الرمز بالعين، وإخراج اللسان، ومد الشفة، والغمزة باليد عند تلاوة كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجب على كل مسلم أن يصارم المستهزئين بدين الله وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانوا أقرب الناس إليه، وأن لا يجالسهم، لئلا يكون منهم؛ كما قال الله -جلا وعلا-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(140))(1).
فمن سمع آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها وهو جالس معهم مع رضاه بالجلوس معهم، فهو مثلهم في الإثم والكفر والخروج عن الإسلام؛ كما قال –تعالى-: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)(2)، أي: شبهاءهم ونظراءهم.
* * * * *
الناقض السابع من نواقض الإسلام
قال -رحمه الله -: ((السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به؛ كفر، والدليل قول الله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر)(3))).
السحر يُطلق في اللغة على ما خفي ولطف مأخذه ودق.
ومنه قول العرب في الشيء إذا كان شديداً خفاؤه: "أخفى من السحر".
ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
جعلت علامات المودة بيننا
فأعرف منها الوصل في لين طرفها ... مصائد لحظ هن أخفى من السحر وأعرف منها الهجر في النظر الشزر
وتعريفه في الشرع: عُقدٌ ورقى يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين لتضر المسحور.
وقيل في تعريفه غير ذلك.
ولكن قال الشنقيطي -رحمه الله-: "اعلم أن السحر لا يمكن حدُّه بحد جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حدة اختلافاً متبايناً"(4).
ومن السحر الصرف والعطف:
فالصرف: صرف الرجل عما يهواه؛ كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها.
والعطف: عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية.
والسحر محرم في جميع شرائع الرسل.
* * * * *
فصل
تتعلق بالسحر عدة مسائل، نذكرها مع إردافها بشيء من أقوال العلماء؛ لأهمية هذا الباب، ولانتشاره في غالب أقطار الأرض. فنقول:
المسألة الأولى: هل للسحر حقيقة؟
قد دل قوله -جل وعلا-: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4))(5) على أن للسحر حقيقة، وإلا، لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
وكذلك قوله -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(6)، فهذه الآية تدل عل أن للسحر حقيقة تكون سبباً للتفريق بين المرء وزوجه.
ومما يدل أيضاً على أن له حقيقة: حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحرَ، حتى إنه ليُخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبَّه؟ قال: لبيد ابن الأعصم في مشط ومشاطة، وفي جف طلعة في بئر ذروان".
رواه: الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وغيرهم.
وهذا القول هو قول أهل السنة، وعليه جمهور علماء المسلمين.
وذهب بعضهم إلى أنه لا حقيقة له، وهو مذهب المعتزلة المنعزلة عن الكتاب والسنة، واستدلوا بقوله -تعالى-: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66))(7)، ولم يقل: تسعى على الحقيقة, وقالوا: إن السحر إنما هو تمويه وتخيل وإيهام لكون الشيء لا حقيقة له، وأنه ضربٌ من الشعوذة!
قال العلامة ابن القيم رحمه الله(8): "وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف، وما يعرفه عامة العقلاء، والسحر الذي يؤثر مرضاً وثقلاً وحلاًّ وعقداً وحبًّا وبغضاً وتزييفاً وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس.." إلخ كلامه.
وقال القرطبي بعدما ذكر قول المعتزلة واستدلالهم: "وهذا لا حجة فيه؛ لأنا لا ننكر أن يكون التخيل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوَّزها العقل، وورد بها السمع:
__________
(1) النساء: 140 .
(2) الصافات: 22.
(3) البقرة: 102.
(4) أضواء البيان: 4 / 444.
(5) الفلق: 4.
(6) البقرة: 102.
(7) طه: 66.
(8) "بدائع الفوائد" (2 / 227).(/13)
فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه (يعني: قوله -تعالى-: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) الآية(1))، ولو لم يكن له حقيقة؛ لم يمكن تعليمه، ولا أخبر أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة.
وقوله -تعالى- في قصة فرعون: (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116))(2).
وسورة الفلق، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم".
ثم ساق الحديث -وقدمناه- ثم قال: "وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما حل السحر: "إن الله شفاني" والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقًّا وحقيقة، فهو مقطوع به، بإخبار الله تعالى ورسوله عن وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق.." إلخ.
المسألة الثانية: في حكم الساحر:
اختلف العلماء رحمهم الله في الساحر: هل يكفر أم لا؟
ظاهر كلام المصنف -رحمه الله- أنه يكفر؛ لقوله -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)(3)، وهو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- ومالك وأبي حنيفة، وعليه الجمهور.
وذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أنه إذا تعلم السحر، يقال له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يستوجب الكفر -مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها-؛ فهو كافر، وإن كان لا يصل إلى حد الكفر واعتقد إباحته، فهو كافر لاستحلاله المحرم، وإلا؛ فلا.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل:
فإن كان السحر مما يُعظم فيه غير الله، كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدَّى إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة؛ فإنه كفر بلا نزاع؛ كما دل عليه قوله -تعالى-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(4)، وقوله -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)(5)، وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(6)، وقوله -تعالى-: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69))(7).
وإن كان السحر لا يقتضي الكفر؛ كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها؛ فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.
وهذا هو التحقيق إن شاء الله(8) تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء" اهـ كلامه رحمه الله.
واعلم أن الساحر على كلا الحالتين يجب قتله على القول الصحيح، لأنه مفسد في الأرض، يفرق بين المرء وزوجه، وبقاؤه على وجه الأرض فيه خطر كبير وفساد عظيم على الأفراد والمجتمعات ففي قتله قطع لفساده وإراحة للعباد والبلاد من خبثه، وسيأتي إن شاء الله أنه ليس بين الصحابة اختلاف في قتل الساحر.
المسألة الثالثة: في قتل الساحر والساحرة:
قد اختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: وهو قول الجمهور: إنه يقتل، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.
القول الثاني: إنه لا يقتل إلا إذا عمل عملاً يبلغ به الكفر، وهو قول الشافعي رحمه الله.
واحتج أصحاب القول الأول بأدلة:
- منها ما رواه الترمذي والحاكم وابن عدي والدار قطني وغيرهم من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن جندب؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حد الساحر ضربه بالسيف".
قال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، والصحيح عن جندب موقوف".
قلت: وإسماعيل بن مسلم: قال عنه أحمد منكر الحديث وقال ابن معين ليس بشيء. وقال الذهبي: (متفق على تضعيفه).
- واستدلوا أيضاً بما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن بجالة؛ قال: "أتانا كتاب عمر قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر, (وربما قال سفيان: وساحرة)، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزة. فقتلنا ثلاث سواحر.." الحديث(9).
- واستدلوا أيضاً بما جاء عن حفصة -رضي الله عنها- أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها.
وهذا الأثر رواه مالك في "الموطأ" وسنده منقطع، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في "المسائل" والبيهقي عنها بسند صحيح، وصححه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في "كتاب التوحيد".
__________
(1) البقرة: 102.
(2) الأعراف: 116.
(3) البقرة: 102.
(4) البقرة: 102.
(5) البقرة: 102.
(6) البقرة:102.
(7) طه: 69.
(8) أضواء البيان: 4 / 456.
(9) الحديث مخرج في "البخاري" ولكن في بعض النسخ ليس فيه: "اقتلوا كل ساحر" والأثر أخرجه أيضاً أبو داود؛ فليعلم.(/14)
وهذا القول -وهو قتل الساحر مطلقاً- هو الصواب، ولا يُعلَم لعمر وجندب وحفصة -رضي الله عنهم- مخالف من الصحابة، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر(1)، وقال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"(2)، وهذا حديث صحيح.
وأما الذين قالوا: إن الساحر لا يقتل إذا لم يبلغ بسحره الكفر، فاستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
رواه: البخاري، ومسلم. وفي الاستدلال به نظر من وجوه كثيرة.
وأما عدم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - للبيد بن الأعصم، فهو خشية إثارة الفتنة، والله أعلم، مع أن بعض العلماء قال: هذا خاص بالذمي، والصواب أن الذمي والمسلم سواء في قتلهم.
المسألة الرابعة: حل السحر عن المسحور:
وهي النشرة.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "حل السحر عن المسحور نوعان:
أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن (وهو: لا يحل السحر إلا ساحر)، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحة؛ فهذا جائز".
أما ما رواه البخاري في "صحيحه" معلقاً: "عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته؛ أيحل عنه أو ينشر؟ قال لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه".
فهو محمول على نوع من النشرة لا محذور فيه؛ لأن الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما سُئل عن النشرة: "هي من عمل الشيطان".
رواه أحمد في "مسنده"(3) وأبو داود من طريق أحمد عن عبد الرزاق حدثنا عقيل بن معقل سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وسنده حسن.
وأما الذهاب إلى السحرة والكهان والمنجمين والعرافين لسؤالهم فهذا جرم عظيم وخطأ كبير، يترتب عليه عدم قبول صلاة أربعين ليلة، لما روى مسلم في صحيحه (2230) من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
وأما إن سألهم وصدّقهم فهو كافر بما أنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما رواه الحاكم (1/8) بسند صحيح من طريق عوف عن خلاس ومحمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وروى البزار (2/443) بسند صحيح عن ابن مسعود موقوفاً " من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
* * * * *
الناقض الثامن من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51))(4).
قوله: "المظاهرة"، أي: المناصرة.
ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين فتنة عظيمة قد عمت فأعمت، ورزية رمت فأصمت، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون بحب المشركين، ولا سيما في هذا الزمن، الذي كثر فيه الجهل، وقل فيه العلم، وتوفرت فيه أسباب الفتن، وغلب الهوى واستحكم، وانطمست أعلام السنن والآثار.
وعندي أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية، والإقبال على تعلم العلوم اليونانية والفلسفية، فلا حول ولا قوة إلا بالله، عاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، فصاحب الحق اليوم غريب بين الناس، غريب بين أهله، إن طلب مساعداً، لم يجده، وإن طلب صاحب سنة، لم يحصله إلا بكلفة ومشقة، استحكمت غربة الإسلام، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس.
ومن ذلك(5) التحذير من مظاهرة المشركين على المسلمين ومعاونتهم؛ لأن مظاهرتهم ردة عن الإسلام.
وقد سُئل العلامة عبد الله بن عبد اللطيف عن الفرق بين الموالاة والتولي؟ فأجاب بأن التولي: "كفر يخرج عن الملة، وهو كالذَّبِّ عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي".
__________
(1) رواه: أحمد (5 / 399)، والترمذي (10 / 147- تحفة الأحوذي).
(2) رواه الترمذي (1/ 169 – تحفة الأحوذي)، وقال: "حديث حسن صحيح غريب".
(3) 3 /294).
(4) المائدة: 51.
(5) أي: الإصلاح.(/15)
ولو أن المسلمين صاروا يداً واحده على هؤلاء الطغاة المجرمين، وتناصروا فيما بينهم وتعاونوا، لصار للإسلام والمسلمين شأن غير ما نحن فيه الآن، ولصار الكفار أذلاء، يدفعون الجزية كما كانوا يدفعونها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه عن يد وهم صاغرون , ثم اعلم أنَّ إعانة الكفار تكون بكل شيء يستعينون به ويتقوون به على المسلمين من عَدَدٍ وعُدَد.
* * * * *
الناقض التاسع من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر)).
وذلك لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(1).
وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي والدارمي وغيرهم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-؛ قال "خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(2).
وأخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
فمن رغب الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو ظن الاستغناء عنها؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "فضل الإسلام" باباً عظيماً، فقال:
"(باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه)":
ولا شك أن الكتاب يأمرنا بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الخروج عن طاعته، بل إن الخروج عن طاعته من الأسباب الموجبة للنار؛ كما في "مسند أحمد" و"صحيح البخاري" عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمتي يدخلون الجنة؛ إلا من أبى". قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
ثم ساق الشيخ -رحمه الله- قوله -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية(3).
روى النسائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا، واتبعتموه، وتركتموني، لضللتم".
وفي رواية: "ولو كان موسى حيًّا، ما وسعه إلا اتباعي". فقال عمر: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا.
وهذا الحديث نص على أنه لا يسع أحداً الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - والأدلة على هذا كثيرة.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالله، وأقوى الناس إيماناً؛ ما كانوا يعرفون غير اتباعه واحترامه وتوقيره واتباع النور الذي أنزل إليه، وما ذاك إلا لأن الله اصطفاهم لصحبة نبيه؛ فقد أخرج الإمام أحمد والبزار وغيرهما بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً؛ فهو عند الله سيئ".
وافترض الله على جميع الناس طاعته، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى.
وانقسمت الأمة إلى قسمين:
أ- أمة إجابة، وهم الذين أطاعوه واتبعوا النور الذي معه.
ب- وأمة دعوة، وهم الذين استكبروا عن طاعته ومتابعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد كلام سبق(4): "ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة أمراً ونهياً إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له؛ لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه؛ من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصاً عاجزاً محروماً، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقاً، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتداً منافقاً أو كافراً معلناً، وهؤلاء كثيرون جدًّا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر".
وقال -رحمه الله- بعد هذا الكلام بورقة: "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر، فيحتجون بها على وجهين:
__________
(1) الأنعام: 153.
(2) الأنعام: 153.
(3) النحل: 89.
(4) "الفتاوى" (11 / 418 –التصوف).(/16)
أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهداً الإرادة الربانية الشاملة والمشيئة الإلهية العامة -وهي الحقيقة الكونية- فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر؛ فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر، وشهد أن الله رب ك شيء؛ لم يكن عليه أمر ولا نهي وهذا كفر بجميع كتب الله ورسوله وما جاؤوا به من الأمر والنهي.. إلخ.
وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه -إما مطلقاً وإما من بعض الوجوه- على النبي؛ زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم.
وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات، بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر، فإنه قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لجميع الناس؛ عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم؛ وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمته ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء؛ لوجب عليهم متابعته ومطاوعته".
إلى أن قال رحمه الله: "بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن المسيح عيسى ابن مريم: إذا نزل من السماء؛ فإنه يكون متبعاً لشريعة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء؛ فكيف بمن دونهم؟!
بل مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره؛ كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول فكيف بالخروج عنه والرسل..".
إلى أن قال: "ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" أن الخضر قال له: يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه"، وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء؛ قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
فدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته؛ مستغنياً عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا، أو اعتقد أن أحداً من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته؛ فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا؛ لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل؛ وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله الخضر مخالفاً لشريعة موسى، لما وافقه.." اهـ المقصود من كلامه رحمه الله، وفيه البيان الشافي في هذه المسألة العظيمة.
وبهذا يتبن أنه لا يجوز لأحد أن يدعي الخروج عن شريعة محمد، كما يدعيه غلاة الصوفية، ويفسرون قوله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99))(1)؛ أي: العلم والمعرفة، ويجوزون لمن حصل عنده علم ومعرفة الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويسقطون عنه التكاليف، وهذا كفر وخروج عن الإسلام باتفاق العلماء.
وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم في "نونيته":
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما
فانظر لعلك هكذا دون التي ... جاء الرسول به لقول فلان
قد قالها فتبوء بالخسران
فإذا كان رد ما جاء به الرسول كفراً، فكيف بالخروج عن شريعته بالكلية؟ فالله المستعان.
الناقض العاشر من نواقض الإسلام
قال رحمه الله: ((الإعراض عن دين الله تعالى؛ لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله –تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ(22))(2).
والمراد بالإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام: هو الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي به يكون المرء مسلماً، ولو كان جاهلاً بتفاصيل الدين؛لأن هذا قد لا يقوم به إلا العلماء وطلبة العلم.
وقد سُئل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟
__________
(1) الحجر: 99.
(2) السجدة: 22.(/17)
فأجاب: "إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً، والتفريط والشرك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية؛ فهذا كفر إعراض، فيه قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ) الآية(1)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الآية(2).
قال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان: "فتبين من كلام الشيخ أن الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا بترك الواجبات والمستحبات"(3).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين": "وأما الكفر الأكبر؛ فخمسة أنواع".
فذكرها، ثم قال: "وأما كفر الإعراض، فأنه يُعرض بسمعه وقلبه عن الرسول؛ لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغى إلى ما جاء به البتة" اهـ كلامه.
ومن هذا البيان لمعنى الإعراض يتبين لك حكم كثير من عباد القبور في زماننا هذا وقبله؛ فإنهم معرضون عما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إعراضاً كليًّا بأسماعهم وقلوبهم، لا يصغون لنصح ناصح وإرشاد مرشد، فمثل هؤلاء كفار لإعراضهم.
قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3))(4).
ولا يقال: إنهم جهال فلا يكفرون لجهلهم؛ لأنه يقال: إن الجاهل إذا بُيِّن له خطؤه؛ انقاد للحق، ورجع عن الباطل، وهؤلاء مصرون على عبادتهم الأوثان، ولا يصغون لكلام الله ولا لكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويصدون عن إرشاد الناصحين صدوداً، ولعلهم يتعرضون بالأذى لمن أنكر عليهم أباطيلهم وفجورهم، فقد قامت عليهم الحجة؛ فلا عذر لهم سوى العناد.
قال –تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ(22))(5).
* * * * *
حكم الهازل والجاد والخائف والمكره
ثم إن المصنف -رحمه الله- لما ذكر هذه النواقض العشرة، قال بعدها: "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف(6)، إلا المكره".
ودليل العذر بالإكراه: قوله -تعالى- (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106))(7).
والإكراه يكون بالقول والفعل؛ خلافاً لمن قال: إن الأفعال لا يكون فيها إكراه، فإن هذا خلاف ظاهر الآية.
ثم قال الشيخ -رحمه الله-: "وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً".
* * * * *
خاتمة
ونختم هذا الشرح بما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "كشف الشبهات"؛ فإنه كلام، عظيم، يبين ما تقدم ويزيل اللبس والإشكال، لكثرة الواقعين فيه؛ لإعراضهم عن تعلم دينهم، وما أوجب الله عليهم.
قال -رحمه الله-: "لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا؛ لم يكن الرجل مسلماً.
فإن عرف التوحيد ولم يعمل به؛ فهو كافرٌ معاندٌ؛ كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثيرٌ من الناس؛ يقولون: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا؛ إلا من وافقهم.. أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار؛ كما قال -تعالى-: (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً)(8) وغير ذلك من الآيات؛ كقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)(9).
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه أو لا يعتقده بقلبه؛ فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(10).
وهذا المسألة مسألة كبيرة طويلة، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا أو جاه(11) أو مداراةٍ لأحد، وترى من يعمل به ظاهراً، لا باطناً فإذا سألته عما يعتقد بقلبه؛ فإذا هو لا يعرفه.
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
__________
(1) الأعراف: 179.
(2) طه: 124.
(3) الدرر السنية (10 / 472-473).
(4) الأحقاف: 3.
(5) السجدة: 22.
(6) أي: خوف المال والجاه ؛ كما سيأتي عن المصنف فيما سننقله عنه إن شاء الله.
(7) النحل: 106.
(8) التوبة: 9.
(9) البقرة: 146.
(10) النساء: 145.
(11) وهذا كثير في زماننا وقد والله وصل الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك فترى من يحارب أهل التوحيد والاتباع ويتقرب إلى أسياده بذمهم وشكايتهم لئلا يقطعو عنه الرشاء ومع ذلك يزعم الإيمان ويظهر التأسف على من نابذ أعداء الله وتقرب إلى الله بمقتهم فقد جمع مع النفاق التفريط في التوحيد وإهمال حقوقه فالله المستعان.(/18)
أولاهما: قوله -تعالى-: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(1).
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب؛ تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مالٍ أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله -تعالى-: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)(2).
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا؛ فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو طمعاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره؛ فالآية تدل على هذا من وجهين:
الأول: قوله: (إلا مَنْ أُكْرِهَ): فلم يستثن الله –تعالى- إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب؛ فلا يكره عليها أحد.
الثاني: قوله –تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ): فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يمن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًّا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين، والله سبحانه أعلم".
* * * * *
ملحق
إذا علم ما تقدم من النواقض التي تحبط الأعمال وتجعل صاحبها من الخالدين في النار، فليعلم أن المسلم قد يقول قولاً أو يفعل فعلاً قد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أنه كفر ورده عن الإسلام، ولكن لا تلازم عند أهل العلم بين القول بأن هذا كفر وبين تكفير الرجل بعينه.
فليس كل من فعل مكفراً حكم بكفره؛ إذ القول أو الفعل قد يكون كفراً، لكن لا يطلق الكفر على القائل أو الفاعل إلا بشرطه؛ لأنه لا بد أن تثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه؛ فالمرء قد يكون حديث عهد بإسلام، وقد يفعل مكفراً ولا يعلم أنه مكفر، فإذا بُيِّنَ له؛ رجع وقد ينكر شيئاً متأولاً أخطأ بتأويله.. وغير ذلك من الموانع التي تمنع من التكفير .
وهذا أصل عظيم، يجب تفهمه والاعتناء به؛ لأن التكفير ليس حقًّا للمخلوق، يكفر من يشاء على وفق هواه، بل يجب الرجوع في ذلك إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، فمن كفّره الله ورسوله، وقامت عليه الحجة؛ فهو كافر، ومن لا فلا.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت؛ أوصى بنيه؛ فقال: إذا أنا مُتُّ؛ فأحرقوني، اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فو الله، لئن قدر عليَّ ربي؛ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً". قال: " ففعلوا ذلك به، فقال للأرض أدى ما أخذت. فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب (أو قال مخافتك)! فغفر له بذلك".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (3/ 231): فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أولى بالمغفرة من مثل هذا".
وقال -رحمه الله- في "المسائل الماردينية": (ص 71): وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكفر كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا؛ فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها".
والحاصل أن مذهب أهل التحقيق التفريق بين تكفير الفعل وبين تكفير الفاعل، وكذلك الأمر في التبديع هناك فرق بين تبديع القول أو الفعل وبين تبديع القائل أول الفاعل فليس كل من فعل بدعة صار مبتدعاً.
ومن نظر في سيرة السلف؛ عرف حقيقة هذا القول، وعلم أن مذهبهم وهذه طريقتهم، ورأى ما هم عليه من العدل والإنصاف وقول الحق والحرص على هداية الخلق، لما خصهم الله به من العلم النافع والعمل الصالح، وهذا هو الواجب على جميع الخلق: أن يكون قصدهم بيان الحق وإزهاق الباطل مع العدل والإنصاف؛ ليكون الدين كله لله، والحمد لله رب العالمين.
فهرس الموضوعات
مقدمة الطبعة السادسة ... 1
مقدمة الطبعة الأولى ... 2
شرح نواقض الإسلام ... 3
* قوله: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ... 3
* قوله: ((اعلم أن نواقض الإسلام عشرة)) ... 3
* الناقض الأول: الشرك ... 5
أنواع الشرك ... 5
النوع الأول: الشرك الأكبر ... 6
شرك الدعوة ... 7
شرك النية والإرادة والقصد ... 7
شرك الطاعة ... 8
__________
(1) التوبة: 66.
(2) النحل: 106- 107.(/19)
شرك المحبة ... 9
الذبح لغير الله ... 10
النذر لغير الله ... 10
الاستعاذة والاستغاثة ... 11
النوع الثاني: الشرك الأصغر ... 11
الحلف بغير الله ... 11
يسير الرياء والتصنع للخلق ... 11
* الناقض الثاني: اتخاذ الوسائط بينه وبين الله ... 16
كثرة وقوع ذلك من الناس وشبهتهم فيه ... 16
إيراد الأدلة من القرآن والسنة على ذلك ... 16
كلام عظيم لشيخ الإسلام في مسألة الأسباب ... 18
الكلام في الشفاعة ... 19
أنواع الشفاعة ... 20
* الناقض الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم ... 21
إيراد الأدلة على ذلك من القرآن الكريم ... 22
نقل عن الإمام محمد بن عبدالوهاب في مسألة الكفر بالطاغوت ... 22
العزة تحصل بالرجوع إلى الدين ... 23
تسليط الأعداء يحصل بالإعراض عن الدين ... 23
سعي الكفار إلى إبعاد المسلم عن دينه ... 24
خطورة الموالاة بين المسلمين والكفار ... 24
لا صلح ولا سلم بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ... 25
قصيدة للعلامة سليمان بن سحمان في موالاة الكفار ... 26
* الناقض الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه ... 28
المسألة الأولى: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه ... 28
المسألة الثانية: من اعتقد أن حكم غيره أحسن من حكمه ... 30
قضية الحكم بغير ما أنزل الله ... 30
حاشية في تضعيف الأثر الوارد عن ابن عباس من قوله كفر دون كفر ……31
* الناقض الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 34
معنى هذا الكلام ... 34
أمثلة شائعة على بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ... 34
كراهية تعدد الزوجات ... 34
كراهية عدم تساوي المرأة بالرجل ... 34
رفض الانتهاء عن المنكر لسوء تصرف الناهي ... 36
عدم إلزام صاحب المعصية بما لا يلزم ومثال ذلك ... 36
* الناقض السادس: الاستهزاء بشيء مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ... 37
دليل ذلك من القرآن والسنة ... 37
أقسام الاستهزاء ... 38
الاستهزاء الصريح ... 39
الاستهزاء غير الصريح وأمثلة عليه ... 39
ضرورة مصارمة المستهزئين ودليل ذلك ... 39
* الناقض السابع: السحر ... 40
معنى السحر ... 40
معنى الصرف والعطف ... 40
المسألة الأولى: هل السحر حقيقة؟ ... 42
أدلة ذلك من الكتاب والسنة ... 42
موقف المعتزلة من السحر ... 43
كلام ابن القيم في ذلك ... 43
كلام القرطبي في ذلك ... 43
المسألة الثانية: في حكم الساحر ... 44
مذهب العلماء في ذلك ... 44
المسألة الثالثة: في قتل الساحر والساحرة ... 45
مذهب الجمهور أنه يقتل ... 45
مذهب الشافعي أن لا يقتل ... 45
أدلة مذهب الجمهور ... 45
أدلة قول الشافعي ... 47
المسألة الرابعة: حل السحر عن المسحور ... 47
كلام للعلامة ابن القيم في ذلك ... 47
حكم الذهاب إلى السحرة وسؤالهم ... 48
* الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ... 49
معنى المظاهرة ... 49
كلام للعلامة عبدالله بن عبداللطيف في الفرق بين الموالاة والتولي ... 50
* الناقض التاسع: اعتقاد أن بعض الناس يسعه الخروج عن الشريعة ... 51
دليل ذلك من الكتاب والسنة وفعل السلف الصالح ... 51
كلام للإمام ابن عبدالوهاب في الالتزام بمتابعة الكتاب ... 51
كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في الاستمساك بالشريعة ... 53
نقل من "نونية" ابن القيم ... 55
* الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله ... 56
دليل ذلك ... 56
معنى الإعراض ... 56
كلام للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في ذلك ... 56
كلام للشيخ سليمان بن سحمان في ذلك ... 56
كلام للعلامة ابن القيم في ذلك ... 57
* حكم الهازل والجاد والخائف والمكره ... 58
خاتمة ... 59
توضيح ما سبق وبيانه بكلام للشيخ من "كشف الشبهات" ... 59
ملحق في التفريق بين تكفير الفعل وتكفير الفاعل ... 61
فهرس الموضوعات ... 63(/20)
التثبت في نقل الأقوال وسماعها والحكم عليها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
قال الله عز وجل: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً )) ( الإسراء :36 .
يقولُ الإمام ابن كثير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية : (( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: يقول: لا تقل.
وقال العوفي عنه : لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم.
وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور.
وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كله.
ومضمون ما ذكروه أنَّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: (( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ َعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )) (الحجرات: 12) ([1]) .
ويقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عند هذه الآية:
»وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجًا كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثًا جدًّا، ويضيفُ إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام عن المناهج العقلية الجافة.
فالتثبت من كل خبرٍ ومن كل ظاهرة، ومن كل حركةٍ قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافةِ في عالم العقيدة، ولم يبق مجالٌ للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتأمل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية، والفروض الوهميةِ في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيدُ بها الناس في العصر الحديث، ليست سوى طرفٍ من الأمانة العقلية القلبية، التي يعلنُ القرآن تبعتها الكبرى، ويجعلُ الإنسان مسئولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنَّها أمانةُ الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانةٌ يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا، أمانةٌ يرتعشُ الوجدان لدقتها وجسامتها، كلَّما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلَّما أصدر حكمًا على شخصٍ أو أمرٍ أوحادثة.
(( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) ولا تتبع ما لم تعلمهُ علم اليقين، ومالم تتثبت من صحته: من قولٍ يقال وروايةٍ تروى، ومن ظاهرةٍ تُفسر، أو واقعةٍ تُعلل. ومن حكمٍ شرعي، أو قضيةٍ اعتقادية.
وفي الحديث: ((إياكم والظن فإنه أكذب الحديث)) [2]
وفي سنن أبي داود : ((بئس مطية الرجل: زعموا )) [3] .
وفي الحديث الآخر : (( إن أفرى الفرى، أن: يُري الرجل عينيه مالم تريا )) ([4]) .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقريرِ ذلك المنهج الكامل المتكامل، الذي لا يأخذُ العقل وحده بالتحرجِ في أحكامه، والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعرهِ وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكمًا، ولا يبرم الإنسان أمرًا إلاَّ وقد تثبت من كل جزئيةٍ، ومن كل ملابسةٍ، ومن كل نتيجةٍ، فلم يبق هُنالكَ شكٌ ولا شبهة في صحتها: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }(الإسراء:9) حقًّا وصدقًا))[5] اهـ.
إنَّ التفريط في هذا المنهج العظيم، الذي أوصى الله به عباده المؤمنين، لمِن أعظم أسباب الفرقةِ والعدوان والبغضاء، فكم من مظلومٍ في مالهِ أو بدنه أو عرضهِ كان سببُ ذلك التسرع في نقل الأخبار وإشاعتها، دون تمحيصٍ وتثبت، وكم من أواصرَ وصلاتٍ قُطعت بين الأرحام والإخوان، كان سببها عدمُ التثبتِ والقول بالظنون أو بلا علم، بل كم قامت من حروبٍ وفتنٍ وأساسها أخبارٌ وشائعاتٌ وظنونٌ وتهمٌ باطلة.
من أجل ذلك كان لزامًا على كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة، وألاَّ يكون سببًا في ظلمِ العباد، وإثارةِ الفتن، أن يعي معنى الآية السابقة ويطبقها في حياته، فيتثبتُ من كلامه قبل أن يدلي به للناس، ويتثبتُ من سماعه، فلا ينقلُ عن أحدٍ مالم يقلهُ أو يقصده. ويتثبتُ في أحكامهِ ومواقفه.(/1)
وإنَّ منهجَ التثبت في القولِ والنقلِ والسماع، لا يستغني عنه مسلمٌ مهما كان مستواهُ من العلم والثقافة، فالعالم في تعليمه العلم، لا بدَّ له من التثبت فيما ينقلُ من العلم والأقوال والروايات، والقاضي لا بدَّ له من التثبت من البيانات والشهود، وتفاصيلِ القضايا، والمفتي لا بدَّ لهُ من التثبتِ من الأدلةِ، وتفاصيلِ الواقعةِ التي يريدُ أن يفتي فيها، والداعيةُ لابدَّ له من التثبتِ فيما يدعو الناس إليه بأنَّهُ الحق، كما أنه محتاجٌ إلى التثبتِ في نقل الأخبارِ وسماعها، وفهمها والحكم عليها، وعامةُ الناس محتاجون إلى التثبتِ فيما يتناقلونه من الأخبار، ويسمعونها عن الأشخاص أو الهيئات أو الأحوال، وبقيةُ طبقاتِ الناس من إعلاميين وتجار، وساسةَ وعسكريون... إلخ. كل أولئك مُحتاجون إلى هذا المنهج السابق، الذي أوصى الله عز وجل به، وإلاَّ يأخذ به المسلمون في حياتهم وتعاملاتهم تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.
ويمكن إرجاع أصول التثبت إلى الأصول التالية :
1- التثبت من صحة الكلام المسموع أو المقروء: وثمرة هذا الأصل الاطمئنان إلى صدق الخبر المسموع أو المكتوب، لأنَّ الخبر قد يكون كذبًا، والرواية قد تكون مختلقة، وعندها يُرفض الخبر وترد الرواية، ويسلمُ الإنسان من نقلِ الأخبارِ المكذوبة والشائعات.
2- التثبت من دقة كلام المتكلم ووضوح عبارته :
فقد يكون أصلُ الخبر صحيحًا، والمتكلم به غير متهمٌ بالكذب، ولكن قد يتبينُ أنَّ الخبرَ ليس كما نقل، وذلك لعدمِ دقةِ المتكلمِ به في عباراته وعدم استطاعته الإفصاح عما يريد، أو أن نقلهُ للخبر كان بأسلوبٍ ركيكٍ غامض، جعلَ السامع يفهمُ منه غير المقصود، ومن هُنا تنشأ الشائعات إذا تسلسل النقل بهذه الطريقة، ومن هنا يجبُ التثبت من دقةِ عبارةِ المتكلم ووضوحها.
3- التثبت من دقة فهم السامع واستيعابه :
في هذه الحالة قد يكون المتكلم بالخبر دقيقًا في عبارته وأدائه، وهو صادقٌ فيما ينقل، ولكن التثبت ينصبُّ في هذه الحالة على دقةِ فهمِ السامع للكلام المنقول، فقد يكونُ السامع بطيءُ الاستيعاب، سيءُ الفهم، فيفهمُ الكلامُ على غيرِ مقصودهِ، فينقلهُ بعد ذلك لغيرهِ بفهمهِ الخاطئ، ومن هُنا أيضًا تبدأ الإشاعات والأكاذيب، مع أنَّ الناقلين لم يؤتوا من كذبهم فهم صادقون، ولكنهم أتوا من سوءِ فهمهم، وقلة انتباههم، ومن هنا يجبُ التثبت من أنَّ السامع قد فهم الفهم الدقيق الصحيح لما سمع.
وهذه المراحلُ الثلاث من التثبت لا بدَّ للمسلم أن يعيها وهو يتكلمُ بالأخبار، أو يسمعها؛ حيثُ يجبُ عليه تقوى الله عز وجل، فلا يقولُ ولا ينقلُ إلاَّ صدقًا، وإذا تكلم فليكن منتبهًا في كلامهِ، دقيقًا في عبارتهِ، حتى لا يفهمَ عنهُ الكلامُ على غير حقيقته، وإذا سمع فليرع سمعهُ، ويحضر ذهنهُ حتى يكون فهمه دقيقًا مستوعبًا لما قيل.
وكما هو مطلوبٌ منه أن يتثبت من هذه الأمور في نفسه، فمطلوبٌ منهُ أن يطمئن على وجودها أيضًا في غيرهِ من الناقلين والسامعين.
ولقد كان السلف - رحمهم الله تعالى- حريصين أشدَّ الحرص فيما يقولونهُ ويسمعونهُ من الفتاوى والأقوال، على هذا المنهج الرباني الكريم، ومن ذلك ما تواتر من الروايات المنقولة عنهم في تحريمهم للإفتاء بغير علم وأن لا يفتي العالم في مسألةٍ حتى يفهم واقعها وصحة دليلها، ولا يروي روايةً إلاَّ بعد التثبت من صدقها وصحتها.
ومن ذلك ما نقلهُ ابن القيم- رحمه الله تعالى- في آداب المفتي والمستفتي، حيث يقول : »وكان أيوب إذا سألهُ السائل قال له: أعد، فإن أعاد السؤال كما سألهُ عنه أولاً أجابه، وإلاَّ لم يجبه، وهذا من فهمهِ وفطنتهِ- رحمه الله تعالى-، وفي ذلك فوائدَ عديدة: منها أنَّ المسألة تزدادُ وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال، ومنها أنَّ السائل لعلهُ أهمل فيها أمرًا يتغيرُ به الحكم، فإذا أعادها ربما يتبينُ له، ومنها أنَّ المسئول قد يكونُ ذاهلاً عن السؤالِ أولاً، ثم يحضرُ ذهنه بعد ذلك، ومنها: أنَّهُ رُبما بان له تعنت السائل، وأنَّه وضع المسألة؛ فإذا غيَّر السؤال، وزاد فيه ونقصَ فرُبما ظهر لهُ أنَّ المسألةَ لا حقيقة لها، وأنَّها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجبُ الجواب عنها )) [6] أهـ.
ومن هذا النقل يتبينُ لنا بعض جوانب التثبت التي سبق الإشارة إليها.
نسألهُ سُبحانه الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونعوذُ به من أن نقترف على أنفسنا سوءًا أو نجرهُ إلى مسلم، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
[1] تفسير ابن كثير عند الآية 36 من سورة الإسراء.
[2] البخاري (5143) ، ومسلم (2563).
[3] أبو داود في الأدب ( 4972 ) ، وفي صحيح سنن أبي داود ( 4158 )
[4] أحمد 2 / 92 من حديث ابن عمر.
[5] في ظلال القرآن عند الآية (36) من سورة الإسراء.
[6] إعلام الموقعين 2 / 187 .(/2)
التجديد ... حينما يفقد مساره ! (2/2)
26-10-2005
بقلم عبدالله بن محمد المالكي
"...إنِّ مصطلح (التجديد) أصبح مثالاً لهذه المصطلحات التي تعرَّضت إلى كثيرٍ من الخلط والعبث الفكري، حيث استطاع ثلةٌ من العلمانيين الملحدين، ومن العصرانيين المنهزمين أمام الحضارة الغربية، ..."
إنَّ كشف معاني المصطلحات المتداولة وضبطها ورسم حدودها من أهم نشاطات البحث في الشأن الفكري بشكل خاص وفي الشأن المعرفي بشكل عام، وذلك للوصول إلى اتخاذ مواقف منضبطة تجاه المصطلح، واستعماله استعمالاً لا يتعارض مع مدلوله . وهو في ذات الوقت سياجٌ للحراك الفكري من الخلط والعبث، وحمايةٌ للعقل المسلم من الإرباك والفوضوى .
ذلك لأن عدم وضوح دلالة المصطلح يورِّثُ - أثناء استعماله - شيئاً من الضبابية الفكرية، والتميُّعِ العلمي، الأمر الذي يسمح (لقراصنة) الفكر من العلمانيين وأضرابهم من خطف ذلك المصطلح وتوظيفه توظيفاً غير نزيه، بعد إفراغ مضمونه من دلائله الشرعية، ثم تعبئته بالمضامين والتوجهات الغربية المنحرفة وتسريبها إلى العقل المسلم عبر ذلك المصطلح الذي قد يكون شرعياً في أصله .
والأمثلةٌ كثيرةٌ على ذلك، كالذي يحصل في هذه الأيام من الخلط بين مصطلح (الديموقراطية) بمفهومها العلماني و(الشورى) بمفهومها الإسلامي، وبين مصطلح (التعددية) بمفهومها الليبرالي و(الاختلاف) بمفهومه الشرعي، وبين مصطلح (التأويل) بمفهومه الباطني و(التأويل) بمفهومه القرآني، ونحو ذلك .
والجدير بالذكر، أنَّ هذه الخلط الفكري مِنْ قبل أدعياء الثقافة والفكر ومِنْ بعض الصحفيين وكتاب الجرائد في عالمنا العربي هو في الحقيقة ليس من بنيِّات أفكارهم أو من قراءاتهم الخاصة في التراث، فهم أجهل الناس بالتراث وبالمصطلحات الشرعية، وإنما هو من مخرَّجات المدرسة الاستشراقية - قديماً - التي لم تكن محايدة ولا دقيقة في دراساتها وأبحاثها، فجاء المثقفون في عالمنا العربي وقاموا بسرقة تلك المخرجات كأنها نتاج للبحث والدراسة الذاتية !
وسرقة المثقفين العرب وتوسلهم إلى تراث المستشرقين في الدراسات الإسلامية قصةٌ أخرى ينبغي أنْ تروى في غير هذا المقام .
أعود فأقول: إنِّ مصطلح (التجديد) أصبح مثالاً لهذه المصطلحات التي تعرَّضت إلى كثيرٍ من الخلط والعبث الفكري، حيث استطاع ثلةٌ من العلمانيين الملحدين، ومن العصرانيين المنهزمين أمام الحضارة الغربية، أنْ يستغلوا هذا المصطلح استغلالاً غيرَ علمي ولا نزيه، بتفريغه من مضمونه الشرعي، وجعله غطاءً على (تحريف الدين) و (إبطال الشريعة)، حتى أصبح مصطلح (التجديد) يثير الريبة والتوجس والقلق بين عامة المسلمين .
أصالة مصطلح (التجديد):
إن مصطلح (التجديد) - في أصله - مصطلحٌ ديني، جاء ذكره في خطاب الشارع، وهو قبل ذلك لفظٌ عربي له مدلوله الخاص في لغة العرب، ومدلوله اللغوي متوافقٌ مع مدلوله الشرعي؛ كبقية المصطلحات الشرعية المتوافقة في دلالتها مع المعنى اللغوي (اشتراكاً أو تواطئاً)، كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك .
مفهوم التجديد في اللغة:
فالتجديد في لغة العرب كما تشير معاجم اللغة [1] : نقيض الخَلِق، أي: القديم، ويُقَال: جدَّد الشيء: صيِّره جديداً، أي: جعل القديم جديداً وأعاده إلى حالته الأولى، وجدَّد الثوب أي أعاده إلى أول أمره .
فالتجديد إذن في معناه اللغوي يتكوَّن من ثلاثة معانٍ متصلة، وهي:
1) أن الشيء المجدَّد قد كان في أول أمره موجوداً، وللناس به عهد .
2) أن هذا الشيء قد طرأ عليه ما غيره وأبلاه وصار قديماً .
3) أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أنْ يبلى ويخلق" [2] .
وفي القرآن الكريم جاء ذكر (التجديد) بمعنى الإحياء والبعث والإعادة، وهي معان تتفق مع المعنى اللغوي للتجديد، كما في قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} (ق: 15)، وقوله: {أئنا لفي خلق جديد} (السجدة: 1)، قال ابن جرير: "منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقاً جديداً بعد فنائهم وبلائهم" [3]، وهذا التفسير - كما ترى - منسجمٌ مع المعنى اللغوي للتجديد .
المفهوم الديني للتجديد:
إذا تقرر هذا؛ فحينها عندما يأتي مصطلح (التجديد) في خطاب الشارع، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [4]؛ فينبغي أنْ يُفهم على وفق مدلوله اللغوي، فيكون المقصود بـ (التجديد): "إعادة الدين (مفهوماً وممارسة) إلى صورته الأولى قبل التحريف والإضافة"؛ وهذا هو المعنى الشرعي الذي ينبغي أنْ يفهم من خلال هذا الحديث، وهو المعنى الذي ينسجم مع التصور الكلي للنصوص الأخرى في هذا الباب:
- كحديث: (يرث هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين) [5] .
- وحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [6] .(/1)
- وحديث: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين بغرسٍ يستعملهم في طاعته) [7] .
ونحو ذلك من النصوص التي تكوِّن في النهاية معنىً كلياً للمفهوم الشرعي لمصطلح (التجديد) .
ممارسة العلماء للتجديد بمفهومه الشرعي:
ولقد كانت ممارسة العلماء للتجديد عبر التاريخ على وفق هذا المفهوم، ولعلنا نستدعي هنا مقولة الإمام مالك التي ذكرناها في المقالة السابقة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً" [8]، وهذا هو المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف .
وإذا أردنا أن نستعرض أدوار المجددين في تاريخ الإسلام لطال بنا المقام، كدور التابعي الجليل الحسن البصري في تجديد الشعور الديني لدى عامة الناس، ودور الخليفة الراشدي عمر بن عبدالعزيز في تجديد السياسية الشرعية في الإسلام، ودور الإمام الشافعي في تجديد المنهج العلمي في باب الاجتهاد والاستدلال، ودور الإمام ابن تيمية في تجديد التصور السلفي الأصيل ونقد التصورات الفلسفية والكلامية المنحرفة، ودور الإمام محمد بن عبدالوهاب في تجديد حقيقة التوحيد ومحاربة الشرك الخرافة، وهكذا في سلسلة من أهل العلم الذين مارسوا التجديد بمفهومه الشرعي، مع مراعاة كل واحدٍ منهم حاجة الزمان والمكان .
يقول أبو الأعلى المودودي: "المجدِّد: كل من أحيا معالم الدين بعد طموسها، وجدَّد حَبْلَه بعد انتقاضه ... والتجديد في حقيقته: تنقية الإسلام من كل جزءٍ من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان"[9] .
ويقول الشيخ القرضاوي: "إن التجديد لشيء ما: هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهى منه، وترميم ما بلي، ورتق ما انفتق، حتى يعود إلى أقرب ما يكون إلى صورته الأولى ... فالتجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء"[10] .
الممارسة المنحرفة لمصطلح التجديد:
ومع هذا الضبط والوضوح للمفهوم الشرعي لمصطلح "التجديد"، إلا أن الممارسة الثقافية والدينية لبعض دعاة التجديد في واقعنا المعاصر تختلف وتبتعد كثيراً عن هذا المفهوم، إذْ أنها تتوسل وتستدعي أثناء ممارستها للتجديد ممارسات أجنبية مختلفة عن طبيعة الموضوع (= الإسلام)، ولعل تلك الممارسات تجتمع في اتجاهات أربعة:
الاتجاه الأول:
وهو المتأثر في ممارسته بالحركة التجديدية الإصلاحية التي قامت في أوربا في بداية القرن الخامس عشر، والتي كانت تمارس نقد المسيحية الكاثوليكية آنذاك، وكان يقودها القس الألماني (مارتن لوثر)، وقد نتج عنها بعد ذلك قيام المذهب البروتستانتي، الذي - بلا شك - أحدث شرخاً كبيراً في الكيان الديني (الفاتيكاني) المتسلِّط في أوربا .
والحركة البروتستانتية وهي وإن كانت تدعوا إلى العودة إلى تعاليم (الآباء الأوائل) للنصرانية، ونقد المفهوم البدعي القائم للنصرانية المتمثل في قرارات المجامع الكنسية، إلا أن نقدها - في الحقيقة - لم يكن نقداً إيجابياً بناءً، بل كان نقداً هدميّاً فحسب، فلم يقدموا تصوراً صحيحاً وبديلاً للديانة المحرَّفة، وإنما قدموا تصوراً آخر لا يقلُّ انحرافاً عما قبله .
ونحن نعتقد جازمين أن الحركة البروتستانتية عاجزة عن ذلك (أي تقديم البديل)، لسببٍ بسيط، وهو فقد وغياب المرجعية الأولى للديانة النصرانية التي كان يمكن للبروتستانت وللإصلاحيين أن يقدموا من خلالها الصورة الصحيحة للديانة النصرانية .
وأقصد بالمرجعية الأولى: تراث نبيهم وتراث أصحابه الحواريين الذين اعتنقوا النصرانية الصحيحة التي أرادها الله، بل إن إنجيل المسيح الذي جاء به من عند الله = ضاع وفُقِدَ عبر التاريخ بإجماع الباحثين اللاهوتيين الغربيين، هذا إنْ صحَّ أنه جُمِع وكتب بالفعل . فضلاً عن تراثه أو تراث أصحابه .
إن تلك المرجعية الأولى هي الميزان الدقيق لمعرفة صحة أو بطلان جميع الأوضاع والممارسات التي كانت تمارسها النصرانية المتأخرة .
والحقيقة التي نعتقدها - نحن المسلمون - أن تلك المرجعية وإن ضاعت عبر التاريخ إلا أن جوهرها محفوظ في القرآن الكريم، وهو المصدر الإلهي الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والعبث .
أقول: بسبب ضياع وفقد تلك المرجعية، واستكبار النصارى عما هو موجود لدى المسلمين من الحق؛ تخبطت الحركة البروتستانتية في عملية التجديد تخبطاً كبيراً، ولم يقدموا سوى صورة جديدة للنصرانية المنحرفة .(/2)
ولذا فإن استلهام هذا التجربة الإصلاحية التي قامت بها الحركة البروتستانتية من قبل بعض المثقفين ودعاة التجديد في واقعنا الإسلامي = خطأ فادح، وسذاجةٌ في التفكير، وسوءُ فهمٍ لقراءة التاريخ، فالموضوع هنا يختلف اختلافاً كبيراً عن الموضوع هناك، فالإسلام هنا مرجعيته محفوظة، وتراث النبي صلى الله عليه وسلم مدوَّن ومنقول إلينا بالسند الصحيح، وكذلك تراث أصحابه من بعده، بل وتراث أئمة الدين الكبار من التابعين وتابعيهم إلى زماننا . هذه المرجعية المحفوظة، هي التي أمكن من خلالها أنْ يقدم العلماء المجدِّودن عبر تاريخ الإسلام الصورة الصحيحة للإسلام .
الاتجاه الثاني:
ويسير عليه فريق من المثقفين العرب الذي تأثروا بالمذاهب المادية المنحرفة، كالماركسيين وأضرابهم، والذين كان "الدين" عقبةً أمام مشاريعهم الفكرية في المجتمعات الإسلامية، حيث عجزوا أن يمحوا آثاره من حياة الناس، وأدركوا أنَّ الإسلام متأصلٌ في قلوبهم .
فعمدوا حينها إلى مشروع وفاقي مع الإسلام (شكلياً)، فبدأوا أولاً بالإعلان أنهم وجدوا ضالتهم في هذا الدين، ثم قرروا بأن الإسلام لا يتعارض مع النظرية الماركسية، ثم ظهر بعد ذلك مصطلح (اليسار الإسلامي) ومصطلح (الإسلام الاشتراكي) .
والمتابع لهذا الاتجاه يجد أنه ينطلق في ممارسته (للتجديد) من خلال مسارين:
الأول: بالتوسل إلى التراث والبحث في داخله عن أي معنى يتوافق مع الماركسية، وذلك من خلال إبراز الرموز المنحرفة في التاريخ الإسلامي، أو الإشادة بالحركات الثورية الباطنية المتهمة بالزندقة .
الثاني: محاولة تفسير النصوص الشرعية والوقائع التاريخية تفسيراً مادياً بحتاً يتوافق مع النظرية الماركسية، وذلك تحت شعار (تجديد الخطاب الديني) .
ولعل المفكر اليساري "حسن حنفي"، و"الطيب تزيني"، و"محمود أمين العالم"، نماذج واضحة على هذا الاتجاه .
وفي الحقيقة أن المقام لا يتسع لمناقشة هذا الاتجاه، ولكن لعلي أكتفي بالإشارة إلى أنَّ هذه الاتجاه لم يكن يمارس (التجديد) في حقيقة الأمر، وإنما مارس شيئاً أستطيع أن أسميه بـ (النفاق الفكري) أو (التزلف الفكري) أو (المداهنة الفكرية)، فبدل أن يكشف هذا الاتجاه عن مشروعه الحقيقي بشكل واضح لا ملابسة فيه، حتى يكون أمره بيِّناً لدى الطليعة من شباب مثقفي الأمة، فيدركوا المقاطعة الواضحة بينه وبين الإسلام ... بدل أن يقوم بذلك؛ أخذ في التمسُّحِ بعتبة الإسلام ومحاولة الولوج فيه والبحث في داخله عما يوافق مشروعه الفكري، وذلك عن طريق العبث بالنصوص الشرعية ومحاولة تفسيرها تفسيراً لا يمت إلى العلمية والموضوعية بصلة، وهذا كله تحت شعار (تجديد الخطاب الديني !!)، وهذا في الحقيقة أقرب إلى النفاق والتزلف منه إلى الوضوح في تبني الفكرة .
الاتجاه الثالث:
وهو ما أستطيع أن أسميه بالاتجاه "التبريري"، وذلك لكثرة تأويله للنصوص الدينية - خاصةً نصوص الأحكام - حتى تنسجم مع الواقع، خاصةً إذا كان النص ظني الدلالة ووقع الخلاف في دلالته، فبدل أن يجتهد أصحاب هذا الاتجاه في قراءة النص قراءة علمية على وفق المعايير الموضوعية عند علماء الأصول، بدل ذلك .. تتجه قراءتهم إلى تأويل النص تأويلاً ينسجم مع ظروف الواقع، تحت شعار (التجديد) .
فكأن الواقع هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه النص، مع أن النص الديني في التصور الإسلامي هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه ليس الواقع فحسب؛ بل الوجود بأكمله! قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك الله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 2) وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ...} (الأحزاب: 36) ولهذا عبَّر الفقهاء الأوائل بالقاعدة الشهيرة: (لا اجتهاد مع النص) .
وهذا الاتجاه يسير عليه جماعة من المنتسبين إلى العلم والفكر الإسلامي، الذين واجهوا الحضارة الغربية وما أفرزته من تقدم هائل في التقنية والمعرفة ومجالات الحضارة، والتي أدَّتْ إلى افتتان كثيرٍ من المسلمين بالغرب العلماني، واستيراد نظمه التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاكاته في أنماط الحياة وطريقة العيش، دون إفرازها وتنقيتها مما يخالف الشريعة، حتى تكونت مع الأيام فجوة كبيرة بين الشريعة وواقع المسلمين . فجاء هذا الاتجاه لردم هذه الفجوة؛ لكن ليس بإصلاح الواقع، وإنما بتأويل الشريعة حتى توافق ذلك الواقع .
ومشكلة هذا الاتجاه هي ذات المشكلة التي واجهت المتكلمين قديماً، فالمتكلمون قديماً كانوا يشعرون بإشكالٍ كبير عند تعارض العقل مع النقل في بعض المسائل الدينية، خاصةً في القضايا الإلهية .
علماً بأن هذا التعارض - في الحقيقة - ليس له وجودٌ في واقع الأمر، إنما هو موجودٌ في الأذهان، ولذا فهو نسبي يختلف من عقل إلى عقل، بخلاف النص الذي يمتاز بالثبات والحياد .(/3)
فبدل أن يتجه المتكلمون إلى درء تعارض العقل مع النقل بقدر المستطاع، أو اللجوء في نهاية الأمر إلى تحكيم النقل على العقل تعبداً لله تعالى، وتعظيماً للوحي الإلهي، واتهاماً للعقل البشري القاصر، مع الجزم بأن العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، لأن الله تعالى هو مصدر النقل وهو خالق العقل في نفس الوقت ... بدل أن يتجه المتكلمون إلى ذلك اتجهوا إلى تأويل النقل الصحيح حتى يتوافق مع ما يقوله العقل الذي قد يكون فاسداً في حقيقته، فحكَّموا العقل على النقل .
كذلك وقع العصرانيون في نفس الخطأ، عندما وجدوا أن الواقع في أغلبه يتعارض مع بعض النصوص الشرعية، فبدل أن يجتهدوا في إصلاح ذلك الواقع والقيام بواجب الدعوة ومحاولة تطبيق تلك النصوص في أرض الواقع؛ اتجهوا إلى تأويل تلك النصوص حتى تنسجم مع الواقع، بحجة أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ! وأنه عندما توجد (المصلحة!) فثمَّ شرع الله ! وأن الشريعة قامت على الرفق والتيسير ! ونحو ذلك من الحجج التي يُستدَل بها في غير مواضعها، وهذا كله تحت شعار (التجديد!) .
ولهذا فإن خطاب (التجديد) الذي يتبناه بعض الدعاة والمفكرين المتأثرين بهذا الاتجاه لم ينجح في إصلاح واقع المسلمين إصلاحاً حقيقياً، لأنه كان خطاباً تبريرياً للواقع وليس خطاباً تغييراً نهضوياً يقارب الفجوة بين الشريعة وواقع الناس، مما أدى إلى استمرار التخلف وترسيخ المشاكل والأمراض التي تعاني منها الأمة !
ويعتبر الشيخ محمد عبده، هو المؤسس الفعلي لهذه الاتجاه، والذي سمي فيما بعد بالاتجاه (العصراني) أو (التنويري)، وقد تأثر به جماعةٌ من الدعاة والمفكرين الإسلاميين، كالشيخ محمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وسليم العوا، وفهمي هويدي .
الاتجاه الرابع:
وهو ما يسمى بـ(الإسلام الليبرالي) أو (الإسلام الأمريكي)، وهذا الاتجاه هو أحدث الاتجاهات ظهوراً في العالم الإسلامي وإن كان وجوده في أدبيات الفكر الإسلامي من قديم، ولعل الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - هو أول من تنبأ بظهور هذا الاتجاه وسطوته في الساحة الثقافية والإعلامية .
حيث ذكر الشيخ عبد الله عزام أن من مزايا سيد قطب الكثيرة: "نفاذ بصيرته وعمق نظره"، وفي هذا السياق يقول: "وكثيرًا ما كان سيد قطب يردد: (ستهب في المرحلة القادمة على المنطقة رياحٌ من الإسلام الأمريكي) وقد كان!" [11] .
فلما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول كانت هي الانطلاقة الفعلية في ظهور هذا الاتجاه وانتشاره بشكل ملفت .
وخطورة هذا الاتجاه تكمن في قوته والدعم المادي الذي يلاقيه من قبل أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى التمكين له في وسائل الإعلام المختلفة، بل هناك وسائل تعتبر الناطق الرسمي له، كقناة العربية، ومجموعة الأم بي سي، وقناة الحرة، وإذاعة سوا، وصحيفة الشرق الأوسط .
ونحن هنا إزاء ظاهرة فريدة، إذ تحول سؤال (التجديد) من مطلب داخلي تجسَّد على يد دعاة التجديد في العالم الإسلامي باختلاف توجهاتهم ومشاربهم، فرضه الواقع والانفتاح نحو الحضارة الغربية، تحول إلى مطلب خارجي من قبل (الاستعمار) ليصبح خطاباً إرغامياً إيديولوجياً من قبل القوى الأمريكية المتمثلة في حزب (المحافظين الجدد)، أو خطاباً ملحاً فيه شيء من التهذيب والمتمثل في القوى الليبرالية الأمريكية .
والاتجاه الأمريكي في ممارسة تجديد الخطاب الديني، يقوم على اعتبار المصالح الأمريكية بشكل أساس بغض النظر عن مصالح الأمة، ويتبلور مشروعه: في إيجاد خطاب ديني جديد ومعتدل حسب المنظور الأمريكي يتمشى مع المصالح والسياسات الأمريكية في المنطقة العربية، ويحل مشكلة ما يسمى بـ(الإسلام الأصولي) الذي ينزع إلى المقاومة ويؤمن بالجهاد كإحدى فرائض الإسلام الكبرى ويقف موقف الرفض للثقافة الغربية التي تصطدم مع الثقافة الإسلامية .
ولعل أهم الوسائل التي يمارسها هذا الاتجاه في عملية "التجديد" هي التلاعب بالمصطلحات الدينية، ومنها مصطلح (الإسلام المعتدل) أو (الوسطي) حيث أصبح هذا المصطلح ينتشر كثيراً في الأوساط الإعلامية وفي الخطاب الثقافي العربي، ويُقصَد به: الإسلام الذي ينسجم مع المصالح الأمريكية في المنطقة عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، وفي المقابل (الإسلام المتطرف) أو (المتشدد) ويراد به: المقاوم والممانع للسيطرة الأمريكية، مع أن (الاعتدال والتشدد) و (الوسط والتطرف) مفاهيم دينية خاصة لها مدلولاتها المحددة في الشريعة الإسلامية، إلا أنه بفضل الخطاب الليبرالي المتأسلم أصبحت تلك المفاهيم ذات مدلولات أمريكية بحتة .
ولعل المفكر المصري سعد الدين إبراهيم، وشاكر النابلسي، وهشام جعيط، وعبدالرحمن الراشد، وأحمد الربعي، أبرز من يمثل هذا الاتجاه .
والخلاصة؛(/4)
أن هذه الاتجاهات الأربعة لم تمارس (التجديد) على مفهومه الشرعي، وإنما مارست مفاهيم أخرى، ألصقت بمفهوم (التجديد)، وهي أقرب - في الحقيقة - إلى مفهوم "الانحراف" و"التغيير" و"التبديل" .
إن تجديد الإسلام ليس في نسف أصوله والتهجم على ثوابته، وليس في تجاوز نصوصه الدينية باسم المصلحة تارة أو باسم ضرورة الواقع تارة أخرى، وليس في تجاهل واحتقار تراث فقهاء المسلمين المنجز عبر التاريخ، وليس في تجاهل العلوم المعيارية التي تضبط حركة (الاجتهاد) الذي هو أساس حركة (التجديد) .
إنما التجديد في قناعتنا: عبارةٌ عن ممارسة تعبدية لها شروطها وأركانها يجب الالتزام بها، وله - في النهاية - رجاله المخلصون من أهل العلم والإيمان، الذين هم فقط من يمتلكون شرعية الحديث عن (التجديد) !
ـــــــــــــــــ
الهامش:
[1] انظر: الجوهري، "الصحاح"، ابن منظور، "لسان العرب"، 2/22 ، الفيومي، "المصباح المنير"، (92) .
[2] انظر: بسطامي سعيد، "مفهوم تجديد الدين"، ص / 15 ، أ.د. سيف الدين عبدالفتاح، "مفهوم التجديد"، موقع إسلام أون لاين .
[3] ابن جرير الطبري، "الجامع في بيان القرآن"، 13/91 .
[4] أخرجه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 599 .
[5] أخرجه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"، وصححه جماعةٌ من أهل العلم، كابن القيم في "مفتاح دار السعادة"، وابن الوزير في "العواصم من القواصم"، وحسنه القاسمي في "قواعد التحديث" .
[6] أخرجه مسلم، برقم (3544) .
[8] أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان .
[9] أبو الأعلى المودودي، "الموجز في تاريخ تجديد الدين"، ص / 13 - 25 .
[10] يوسف القرضاوي، "من أجل صحوة راشدة"، ص / 28 . وليت الشيخ القرضاوي التزم بما شرطه هنا للتجديد الصحيح، فقد وقع - عفا الله عنه - في بعض آرائه التجديدية ما يخالف شرطه هنا .
[11] عبدالله عزام، "عملاق الفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب"، نشر مركز شهيد عزام الإعلامي، باكستان، الطبعة الأولى .(/5)
التجديد الإسلامي والمفهوم الخاطئ له
محمد مسعد ياقوت
بلطيم كفر الشيخ
M_yakout2003@yahoo.com
يعتبر مفهوم التجديد من أكثر المفاهيم التي تنازعتها التيارات الثقافية والفكرية المختلفة.. و لم يأخذ التجديد ـ كمصطلح شرعي ، ورد على لسان الشرع، ونطق به العلماء والدعاة والمفكرون كثيراً، في أوساط فكرية ودعوية ومحافل علميّة، حقَّه من الفهم الصحيح له، بل تجاوزت به فئات من النَّاس عن المراد الحق منه، إلى معانٍ تناقض مطلوب الشرع، وتنقضّ على ثوابت الدِّين وحقائقه بالإلغاء أو المحو أو التهوين أو التذويب أو التلاعب ..!
فكثيرون ارتبط في أذهانهم معنى للتجديد، ليس هو المعنى الذي أُطلق عليه، بل هو معنى ـ حسب فهمهم ـ لم يقم على أصول العلم الشرعي، ولم يستصحب الثابت الحق الذي لا يجوز المساس به بحال، فظنوا أنَّ للتجديد رجالاً يجدِّدون للأُمَّة أمر هذا الدِّين ؛ وأنَّ التجديد يكون بالتغيير لكل وجهٍ موجود في العصر، وبالنسخ لكل شكل يُتَعَبَّد به الله تعالى في أوانهم، وبالتبديل لكل أصل يقوم عليه الدِّين ـ علماً وسلوكاً ـ في زمانهم، ظناً منهم أنَّ التجديد هو: التبديل، والنسخ، والإلغاء، والتغيير بإطلاق ، فيخوضون بهذا المفهوم المعكوس الحروب ضد ما ثبت من دين أو تديُّن، ويقودون الحملات الشرسة على كل ما استقر من حال أو شكل لدعوة أو عبادة، دون تمييز وتفريق بين ما يجوز فيه ذلك وما يُمنع، وبين ما يستحق التبديل أو التغيير وما لا يستحق، وبين الذي يصلح للأُمَّة و الذي لا يصلح لها (1).. و من ثم على علماء هذه الأمة أن يبينوا هذا المفهوم – الإسلامي الصميم بضوابطه وأصوله ..
لا تجديد في ثوابت الدين ..
إذاً .. فلا تجديد في ثوابت الدِّين بحال، إلاَّ إذا قُصد بتجديدها إزالة الغبار العالق بها، وما أُدخل فيها من الشُبَهِ، وتعلق بها من الخرافات والخزعبلات، فتنقية ثوابت الدِّين من هذه العوالق، وتصفيتها من الدخن والوهن وكل ما أصابها يكون من صميم التجديد.
أما محاولات الجهَّال ومن تربَّى على أفكار المتشككين والمستشرقين، وأقام عود قلبه على حب الملحدين، وأصاب عقله ونفسه أمراض التغيير المطلق، فمحاولات أولئك ومن اتبعهم بشبر لتغيير ثوابت الدِّين ، وسعيهم المستميت في صياغتها على وفق ما ترسّخ عندهم من أفكار وضلالات اليهود وخرافات النصارى التي تربوا عليها في مراحل التبعية وسنّيها العجاف؛ لا يكون تجديداً أبداً؛ وإنما هو تبديد لثوابت العقيدة الحقّة، وجوازم الدِّين التي لا تقبل التبديل، ولا التغيير، ولا النسخ.. (2) فهذا لا يسمى تجديداً بل يسمى انحلالاً و تفككاً وذوباناً و موتاً ! وانظر إلى جميع الأديان و المذاهب العالمية و الأحزاب الكبرى لا يمكنها أن تثبت ذاتيتها و تفرض و جودها و تدعم و سائل بقائها إلا إذا كان لها دستور واضح و مبادىء محددة و ثوابت راسخة و أهداف محترمة (3) ..و نرى أتباع هذه الأديان الباطلة و الأفكار المتخلفة المنحلة ؛ يدافعون ويناضلون في سبيل الحفاظ على ثوابت تلك العقائد و الأفكار الشاذة ..نعم .. انظروا إلى أتباع البوذية و الهندوسية و الشيوعية ..!!
لا تجديد في نصوص الشرع :
ولن يكون التجديد ممكناً يوماً لنصوص الشرع، من آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم، إلاَّ إذا أُريد بذلك: صياغة أصول النظر فيها، وتطوير مسالك الاستنباط لمعانيها، وتسهيل طرائق استخراج الأحكام منها، حتى يقدر كل من حصّل قسطاً من أدوات النظر فيها الوصول إلى المطلوب الشرعي أو الاقتراب منه.
أما إذا أُريد بتجديد نصوص الشرع من الكتاب والسُّنَّة: الاستغناء عنها اعتماداً على العقل وتقديماً له عليها، فهذا مذهبٌ رفضته جماهير الأُمَّة وعلماؤها ومجدِّدوها من أهل السُّنَّة من قديم، حين ظهر المعتزلة يبالغون في تقديم العقل على النصّ، ويطّرحون ما أوصل نصّ الشرع إذا وُجد معنى عقلي مقابل، بل ربما ردّوا نصوص الشرع في مقابل المعنى العقلي(4) كما أنّ التجديد لا يمكن أنْ يكون في نصوص الشرع: بتقديم المصلحة المجردة عن الأصل المنقطعة عنه ـ ولا شاهد لها منه تقاس عليه ـ على نص الشرع عند المخالفة والمعارضة، وقد ظَنَّ بعض الناس صحة ذلك، فنادوا به يزعمون أنهم يجدِّدون به الدِّين، بشبهة أنَّ الإسلام يعد المصلحة، وأنه ما جاء إلاَّ لجلبها ودرء المفسدة المقابلة لها، فنشطوا يؤخرون النصوص من أجل المصلحة، ويردونها أخذاً بالمصلحة وتقديماً لها، وهذا طريقٌ رفضه الناس حين نُصبتْ على مدرجة الشرع، وقد صرَّح بسلوكها الطوفي(5).. يزعم أنَّ رعاية المصلحة أقوى أدلة الشرع، وأنَّ نصوص الشرع إذا خالفتها وجب تقديم رعاية المصلحة عليها! ليتسع الخرق على الناس، يفتئت على الشرع من هبَّ، ويعطّل نصوصها من دبَّ، كلما أعجزه العلم عن إدراك المراد أو الوصول إلى المطلوب(6). فهذا كله ليس بتجديد مقبول، وليس هو الذي بشَّر به الشرع الأُمَّة ببعث رجالها من أجله...(/1)
التجديد و الابتداع :
وإنَّ الذي بين التجديد والابتداع، هو ما بين الضدّين من تخالف وتضاد وتعاكس، فلا يمكن أنْ يكون التجديد من الابتداع، بل هما ضدّان متعاكسان:
• الابتداع قطع عن الأصل، والتجديد إعادة للأصل وربط به.
• الابتداع اختراع في أصول الدِّين وفروعه بلا دليل، والتجديد إرجاع لأصول الدِّين وربط لفروعه بالدليل.
• الابتداع طمس لحقائق الدِّين ومعالمه، والتجديد إحياء لتلك المعالم بعد طمسه، فأنَّى يجتمعان، وكيف لهما أنْ يلتقيا؟ فلا يمكن أنْ يكون تجديد
الدِّين بالابتداع فيه يوما ما..(7)
التجديد و الجديد:
ويخطئ الكثيرون حين يظنون أنَّ التجديد لا يكون إلاَّ بإتيان جديد غير مسبوق في تاريخ التديُّن، أو باختراع عبادة يرون أنها تناسب العصر أو الناس أو الحال، أو بإنشاء أوامر جديدة وتعاليم لم يشر إليها نصٌّ أو استدلال، واهمين أنَّ البقاء على كل قديم جمود قاتل، وأنَّ الثبات على الأصول تقليد مذموم، وأنَّ استصحاب الماضي تعصب خاسر، وينهض لذلك بدوافع رافضة للقديم بمجرد كونه قديماً، وهؤلاء هم الذين سخر منهم الرافعي ـ رحمه الله تعالى ـ حين دخل معركته معهم [تحت راية القرآن] وقال: \"إنهم يريدون أنْ يجدِّدوا الدِّين، واللُّغة، والشمس، والقمر\". وهؤلاء هم الذين رَدَّ عليهم محمد إقبال حين قال: \"إنَّ الكعبة لا تُجَدَّد بجلب حجارة لها من أوربا\".
وهم الذين أشار إليهم أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر :
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا ** من كل ساعٍ في القديم وهدمه
من مات من آبائهم أو عمِّرا ** وإذا تقدّم للبناية قصّرا(8)..
الحق أن مفهوم التجديد – و إن كان مفهوماً شرعياً- عليه كثير من الغبار غير الذي ذكرنا ، و إننا لنهيب بالعلماء و الدعاة و طلاب العلم والأخوات الداعيات وصناع الحياة ـ أن يبحثوا هذا المفهوم الإسلامي الكبير – التجديد – و لنخرج بملامح منهج التجديد الإسلامي ، من حيث ضوابطه و مجالاته و آثاره ، و من حيث تربية وإعداد المجددين ، و أعتقد أن ظهور المجددين على رأس كل مائة سنة ؛ لا يتحقق إلا بإعداد مسبق ، و تربية عالية المستوى ، و هذا ما أثبته تاريخنا المشرق ؛ فضلاً عن كون عملية ظهور فئة المجددين – رضوان الله عليهم - ، سنة ربانية بحتة ..
----------
الهوامش
:
1- عبدالله الزبير عبد الرحمن : التجديد و تجديد التدين ، بتصرف ، موقع المشكاة :
http://www.meshkat.net
2- المصدر السابق
..
3- أنور الجندي : شبهات في الفكر الإسلامي ، 24 ، بتصرف
4- عبدالله الزبير عبد الرحمن : التجديد و تجديد التدين ، مصدر سابق .
5- هو: سليمان بن عبد القوي الطوفي، حنبلي في الفقه، اشتهر بالرفض والتشيع، كما ذكر ذلك ابن الجوزي في: \"ذيل طبقات الحنابلة\"،
/366 و377، وابن العماد في: \"شذرات الذهب\"، 6/239
6- انظر: محمد سعيد رمضان البوطي: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، ط/4، 1402هـ ـ 1982م، ص 202-215. ونجم الدين الطوفي، ود. مصطفى زيد: المصلحة في الشريعة الإسلامية، دار الفكر العربي، ص 15-35 من ملحق الكتاب.
7- عبدالله الزبير عبد الرحمن : التجديد و تجديد التدين ، مصدر سابق .
8- يوسف القرضاوي، مقابلة معه ضمن كتاب الأُمَّة، \"فقه الدعوة ملامح وآفاق\"، عدد [19]، تحرير الأستاذ/عمر عبيد حسنة، 2/165-(/2)
التحدي الأخلاقي المعاصر
وأكذوبة " الصدق "
في الحضارة الأورأمريكية
إن التحدي الذي تواجهه الحضارة المعاصرة تحدِّ أخلاقي نابع من طبيعة الحضارة الأورأمريكية
فهناك الدمار الذي أبدعته :
على مستوى البشر : هناك ما أبدعته من أسلحة الدمار الشامل التي تنتظر في مخازن الكبار ، ومن الإيدز الذي ينتظر في مخادع الفساق
وعلى مستوى الطبيعة : هناك ما أبدعته من النفايات الذرية والتلوث البيئي ، والانقلاب المناخي ، وهلم جرا
فكيف تحل مشكلة المشاكل هذه ؟ إنها لا يمكن أن تحل بغير الضوابط الأخلاقية الدينية التي أهملتها الحضارة الأورأمركية ، واستبدلت بها أخلاقيات المكسب والخسارة والصراع والتطور
كيف يمكن لهذه الحضارة وقد تغلغل في عروقها الإيمان بفلسفة التطور والصراع والبقاء للأقوى أن تمارس صناعة الرقي والسلام ؟
وإذا كان بعضنا يعجب بأخلاقيات لهم فوجدوا عندهم شيئا من الصدق أو الأمانة فإنها في حقيقتها أخلاقيات كاذبة تدعو للرثاء كما تدعو للسخرية
إنها وقد صدرت في أصلها التاريخي عن أسس غير دينية واتجهت إلى غايات دنيوية بحتة صارت إلى نوع من التجارة التي يقصد بها القوة والتفوق والسيطرة ، ولذلك فقدت جوهر الطهارة النفسية ، وجرَّت إلى أنواع من المظالم والقلق والاضطراب والصراع لم يشهد لها العالم مثيلا في تاريخه الطويل عبر مئات القرون ، ، ولذا فإنها – وبخاصة من وجهة النظر الإسلامية – ليست من حسن الخلق في شيء ، وهي لم تثمر ولا يمكن أن تثمر شيئا في صنع الرقي والسلام .
يتحدثون عن الصدق في المعاملة في الغرب ، أي صدق هذا ؟
أي صدق في معاملات تجارية محسوبة بنتائج الربح والخسارة ؟
أي صدق في معاملات وظيفية محسوبة بنتائج التوظف والبطالة ؟
أي صدق في معاهدات دولية محسوبة بانتهازية الخرق والإبطال ؟
أي صدق في أنواع من الانضباط ليس فيها شيء من الفضيلة أكثر مما في انضباط الآلة والكمبيوتر وأجهزة الروبوت ؟
أي صدق في تجويع الشعب العراقي وإرهابه والاعتداء عليه وإسقاط جيشه وشرطته وتاريخه ومؤسساته و كل مقومات وجوده ؟ بدعوى امتلاكه أسلحة الدمار الشامل زورا وبهتانا ؟
أي صدق في إبادة الشعب الفلسطيني وإرهابه والاعتداء عليه وطرده من أرضه ومصادرة وجوده بدعوى أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ؟
أي صدق في نزع سلاح الضعيف وتكديس السلاح في ترسانة القوي ؟
أي صدق في تسليح شعب سرق الأرض ، وتحريمه على شعب سرقت منه ؟
أي صدق في وصفهم حركات التحرير بالإرهاب ، ووصفهم حكومات الإرهاب بالشرعية ؟ أي صدق عند رئيس وزراء تشيكيا في وصفه [1] للرئيس ياسر عرفات بهتلر ؟
أي صدق في تسمية الولايات المتحدة الأمريكية حملتها على المستضعفين في أفغانستان ب " العدالة المطلقة
أ ي صدق في تسمية الاحتلال بالتحرير ؟
وأي صدق في عقاب سوريا لأسباب زائفة " معلنة " حول الديموقراطية وأسلحة الدمار الشامل إخفاء لأسباب " غير معلنة " حول الصلح مع إسرائيل والخضوع للهيمنة الإمبريالية الأمريكية ؟ ؟
أي صدق في ادعاء ديموقراطية مشروطة بالعلمانية اللادينية ؟ أي ديموقراطية مشروطة باللاديموقراطية ؟
أي صدق في نسبة المخترعات الكبرى الشهيرة إلى غير أصحابها وكما قيل ويقال : ( " عباقرة ولكن لصوص " ذلك أن بعض العباقرة الذين يتحدث العالم عن عبقرياتهم بما يشبه الانبهار لم يكونوا عباقرة على الإطلاق ، وإنما أناس عاديون سرقوا عبقريات غيرهم ونسبوها لأنفسهم وبدوا أمام الناس في جلود غير جلودهم ، وثياب غير الثياب التي يرتدونها .
وحتى الآن ما يزال الناس يعتقدون أن صموئيل مورس هو الذي اخترع إشارة مورس التي تحمل اسمه ، بينما يقول المؤرخون أن مورس لا علاقة له بهذه الإشارة التي فتحت أمام العالم عصر اللاسلكي ومخترعها هو مساعده ألفريد فيل .
وقد كافأ مورس مساعده فيل بتعيينه في منصب قيادي في عالم الاتصالات لكي يضمن سكوته
وعندما حاول مورس تسجيل اختراعه في أوربا والحصول على براءة اختراع ، وجد صعوبة في ذلك ، فقد اكتشف أن الأوربيين سبقوه إلى الاختراع بسنوات . وأن السير تشارلز ويتسون وشريكه ويليام كوك يمتلكان شبكة التلغراف في لندن منذ عام 1840
ويقول المؤرخون إن تشارلز ويتسون ساهم في تطوير الفونوغراف الذي يعتقد الناس أن توماس أديسون اخترعه عام 1877 .. أما المخترع الحقيقي للفونوغراف فهو ليون سكوت دومار تينفيك الذي ابتكر جهازا أطلق عليه اسم الفونوغراف ولم يكن هذا الجهاز يعمل بإبرة وإنما وكل ما هنالك هو أن أديسون استغل علاقته في مكتب تسجيل الاختراعات وسجل الاختراع ، باسمه ، ولم يستطع دومار تينيفيك أن يفعل شيئا(/1)
ونفس اللعبة لعبها اديسون بالنسبة للمصباح الكهربائي .. ويقول المؤرخون إن المصباح الكهربائي من اختراع شخص بريطاني اسمه السير جوزيف سوان ، وقد توصل إليه عام 1878 ويقول المؤرخون إن أديسون سمع بخبر هذا الاختراع وسارع إلى إنشاء شركة للتصنيع الكهربائي وبدأت الشركة بالعمل في أكتوبر 1880 أي قبل شهر واحد من حصول سوان على ترخيص لإنشاء شركته التي أطلق عليها اسم " شركة سوان للمصباح الكهربائي " وسجل الاختراع باسمه، ولو عاد أديسون وسوان إلى الحياة هذه الأيام لشعرا بالذهول من الثورة التي أحدثها المصباح في حياتنا وسلوكياتنا
ويقول المؤرخون إن أليشاجراي وليس جراهام بل هو الذي اخترع جهاز الهاتف ، وعندما ذهب إلى تسجيل اختراعه في مكتب براءات الاختراعات وجد أن ألكسندر جراهام بيل سبقه إليه بثلاث ساعات .
ويقول المؤرخون إن الكسندر جراهام بل كان يسعى في مختبره إلى تطوير جهاز كهربائي للصم وتشاء الصدف أن يسكب بيل بعض الأسيد على الجهاز دون قصد منه ، فنادى على مساعده جراي يلتمس منه المساعدة فسمع جراي صوت بيل عبر قطعة من المعدن موصولة بمغناطيس مثبت بشريط إلى زجاجة الأسيد التي سكبها بيل . ) الخليج 12\12\ 1995
أي صدق في برمجة الكذب عمدا لبثه في وسائل الإعلام الموجه للعالم الإسلامي؟ يقول السيد باسم شاهين في متابعته اليومية لوسائل الإعلام الغربية في جريدة الخليج 20\ 2 \ 2002 : ( سوف تتلبد سماء العالم الإسلامي بغيوم اصطناعية من تركيب وكالة الاستخبارات الأمريكية ، وستهطل أمطار المعلومات بغزارة من تلك الغيوم ، وعلى الجميع أن يتهيأ لمرحلة لن يكون الخبر فيها بريئا ، ولا التقرير محايدا ولا الدراسة موضوعية ، لأن كل شيء سيكون " ذكيا " وموجها ومهندسا " جينيا "
والهدف : إعادة صياغة المنظومة النفسية والثقافية لمسلمي العالم ، ولغيرهم من الشعوب المرشحة لأن ترى في أمريكا شيطانا يسيطر على العالم بأساليب شريرة .
هذه خلاصة ما تقوله صحف عالمية عن التطور الجديد المتمثل في إطلاق " خدمة " معلوماتية أمريكية موجهة إلى المسلمين في المقام الأول وإلى العالم عموما ، وهي الخدمة التي تحمل اسم برنامج " التأثير الاستراتيجي " .
صحيفة نيويورك تايمز كشفت من جانبها عن بعض جوانب الخدمة المذكورة مثل إمطار المسلمين في أنحاء شتى برسائل ألكترونية مرسلة من عناوين وهمية ، وتحمل كل ما يخدم أصحابها من القصص المختلقة والدروس المبرمجة ، والأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة .
ولن تكون الخدمة الجديدة سلمية فقط ، بل سيتم قمع أي ردود أفعال معلوماتية من الجانب الآخر بأساليب ألكترونية أيضا ، كأن تجري مهاجمة الشبكات المعلوماتية للجهات المعادية مثلا [ نذكر هنا ضرب مكتب قناة " الجزيرة " بأفغانستان ]
ومع أن البرنامج لا يتحدث عن إلقاء قنابل وإطلاق رصاص إلا أنه" يحدث في النفس صدمة أقوى " من صدمات القنابل كما تقول الكاتبة الأمريكية " مورين دون "، التي ترى فيه خداعا مبرمجا للعالم
وليست " دون " فقط التي ترى البرنامج على هذا النحو فقط ، فويليام كوهين وزير الدفاع في حكومة بيل كلينتون وصف الخدمة الجديدة عبر شاشة ال سي . إن . إن . بقوله : " نحن نتحدث عن تضليل وسائل الإعلام والرأي العام عموما في كل بلدان العالم "
وتتساءل الكاتبة " دون" عن جدوى ومبررات المشروع قائلة : " ما حاجتنا إلى الكذب في سياق حربنا على الإرهاب ، ؟ وإذا كان الأشخاص الذين نحاربهم شريرين بموجب أفعالهم فلماذا نختلق القصص لإثبات أنهم شريرون ؟ وإذا كانت قضيتنا عادلة فلماذا لا نخوض حربنا استنادا إلى قول الحقائق وليس إلى ليِّها " ؟ )
وأي صدق في الإعلان عن إنشاء هذه الإدارة أو إلغائها لبث الوهم بأن أعمالها لم تكن قائمة من قبل ؟ وسوف تظل قائمة من بعد ؟
يقول الأستاذ الدكتور عبد الله النفيسي في كلمته بالخليج بتاريخ 20\ 2 \ 2002 عن الخلل في نظام القيم الذي أصاب الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض : ( على صعيد الخلل في نظام القيم لديها فهي تكذب يوميا – وقبل طلوع الشمس – على جميع العالم :
تتحدث عن " السلام والاستقرار في العالم " وفي نفس الوقت تحتكر خمسين بالمائة من تجارة السلاح عالميا وتبيعه لجميع الأطراف المشتركين في نزاعات مسلحة على مستوى العالم ، وتعاقب أي طرف ينافسها في هذه التجارة
وتتحدث عن " الديموقراطية وحقوق الإنسان " وفي نفس الوقت واستجابة لمصالحها تدعم وتؤازر نظما سياسية في أنحاء متفرقة من هذا العالم بينها وبين الديموقراطية وحقوق الإنسان عداوة تاريخية
وتتحدث عن " إرادة " المجتمع الدولي والشرعية الدولية " وهي أكثر من لجأ إلى حق النقض " الفيتو" في مجلس الأمن لإعاقة إرادة المجتمع الدولي والشرعية الدولية
البعض تلطفا يسمي هذا الخلل لدى الإدارة الأمريكية " ازدواج معايير " بينما هو في واقع الحال : كذب في كذب ، ودجل في دجل ) .(/2)
أي تحضر وأي أخلاق تلك التي تسمح بمسيرات الشواذ بنوعيها التي – كما تقول عنها الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة بآداب المنوفية في مقالها : الشعب 28\ 7 \ 1995 - أصبحت من التقاليد المتبعة في باريس منذ أربعة عشر عاما من اجل الحصول على مزيد من الحقوق الاجتماعية
وقد تمت مسيرة الشواذ في هذا العام – 1995 - في فرنسا بالحركة المسماة مفخرة الشواذ في خمس مدن كبرى قامت بالإعداد لها مائة وخمس وعشرون منظمة من منظمات الشواذ وجمعياتهم وتفاوت حجم المظاهرات من بضع مئات في مرسيليا ونانت ورين ليصل عددهم إلى عشرين ألفا في باريس ، وذلك بخلاف مدينتي تولوز ومونبلييه
أما في الولايات المتحدة فيرجع تاريخ هذا الاحتفال إلى عام 1969 حينما قام الشواذ بمقاومة رجال البوليس ليتحول الأمر إلى مظاهرة واعتصام لمدة ثلاثة أيام وكان ذلك بمثابة مولد الحركة المسماة " مفخرة الشواذ " أي فخر مقاومتهم لقوى المجتمع " الرجعية " وإعلان فرض ظهور المنحرفين من الأقبية و الحنايا المستترة لينبثقوا في وضح النهار .
وسرعان ما امتدت هذه الحركة كالنار وسط الهشيم لتنتقل إلى مختلف إلى مختلف العواصم الأوربية في برلين وبوتسدام وبرشلونة ومدريد وأيدنبورج ولندن وكوبنهاجن وستوكهولم ..
وتعني هذه الحركة مولد جماعة أخطبوطية التركيب تتشابك أفرادها وجماعاتها عبر العالم الغربي والبلدان الخاضعة له مباشرة بغية فرض مزيد من الانحلال ، أو هو في الواقع بغية جعل كل ما هو شاذ ومخالف لسنن الله هو الذي يسود في العالم بل لقد امتد الفجر والفقدان لأية ضوابط إلى درجة سماحهم لبعض المراهقين من الشبان والفتيات الصغار بالاشتراك في مسيرات في مدينة نيويورك وهم يحملون لافتات مكتوبا عليها " أطفال شواذ من آباء وأمهات شواذ "
وإنه لمن المخزي للضمير الإنساني أن نطالع ما ورد بمجلة " نوفيل أوسر فاتير " الفرنسية الصادرة في 22 من يونيو 1995 بالتفصيل الممل وعلى مدى تسع صفحات ما وصل إليه المنحرفون من سلطان في البلاد الأمريكية ، بحيث اصبحوا يكونون مركز ضغط لا يستهان به ، بعد أن أصبحت لهم جماعاتهم العلنية في المدن الكبرى ، بل أصبحت لهم أحياء بأسرها مثلما في مدينة سان فرانسسكو
وتعد واقعة حق الشواذ في الالتحاق بالجيش الأمريكي واقعة لها مغزاها
وإذا كان وجود هذه الفئة بدا مستترا في الجيش الأمريكي فقد بدأ بعض أعضاء الكونجرس هناك يعلنون عن هويتهم الشاذة وكذلك بعض الأبطال الرياضيين ..
وسرت العدوى بين مختلف الفئات ليقوم بعض العاملين في قطاعات البوليس ورجال التعليم والصحة وبعض المؤسسات الكبرى بالإعلان عن ميولهم الجنسية الشاذة
وقد نشرت جريدة لوموند الفرنسية الصادرة في 24 من يونيو 1995 مقالا عن مئات الآلاف من الشواذ الذين اشتركوا في تلك المسيرة السنوية …
وإذا كانت مازالت هناك بلدان تعارض أو تحرم الشذوذ الجنسي … إلا أن قاضي مدينة دنفر بمقاطعة كولورادو أوقف إجراءات سن قانون بالتحريم " لعدم تماشها مع الدستور "
ورغم مثل هذه المعارضة فإن وجودهم يتزايد في المجال الثقافي والإعلامي ، ففي فرنسا تخصص لهم القناة الفضائية ط كنال بلوس " عشر ساعات يوميا بينما يتزايد عدد الصحف والمجلات الخاصة بهم في مختلف البلدان الأوربية حيث بدا سيل من الروايات الخاصة بحياتهم يغزو الأسواق ويطفح على الإنتاج السينمائي والتليفزيوني .
بل ويتسلسل إلى مجالات التعليم ليتصدر بعض المواد الجامعية من قبيل " نظريات الانحراف"!
وكان المؤرخ جون بوسويل من أوائل الذين دخلوا هذا المجال بكتابه المعنون " المسيحية التسامح الاجتماعي والشذوذ الجنسي " الذي صدر عام 1980 وكان قد تمكن قبل وفاته بقليل من الانتهاء من كتابه الاستفزازي – على حد تعبير المجلة الفرنسية – حول الزيجات المثلية
غير أن الطامة الكبرى تطل في إنشاء أقسام في الجامعات الأمريكية للدراسات السحاقية واللواطية !
ورئيسة أحد هذه الأقسام في جامعة في مدينة بركلي بكاليفورنيا هي كارولين دينشو أستاذ الأدب الإنجليزي في القرون الوسطى ، هي أيضا إحدى مؤسسات ومحررات المجلة الفصلية المعروفة باسم " اللواطيون والسحاقيات " التي تقوم أيضا بنشر الأبحاث العلمية الخاصة بهذا المجال الذي أصبح معروفا في الجامعة باسم " الدراسات السحاقية واللواطية والثنائية الجنسية وتجاوز النوع " ) الشعب 28\ 7 \ 1995
تقول الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة بآداب المنوفية في مقالها : وهذه العبارة الأخيرة تربطنا كما تقول الكاتبة بمؤتمر المرأة الرابع - الذي أقيم بعد كتابتها لما سبق - في سبتمبر في بكين
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر وأية أخلاق تلك التي جعلت – كما جاء في جريدة الاتحاد - أبوظبي - في 11 يونية 1990: - (جيل المراهقين في أمريكا - يعاني من مشاكل جسمية وعاطفية تدفعهم نحو المزيد من الجريمة والمخدرات والانحلال الخلقي(/3)
فقد ذكرت دراسة اجتماعية نشرت في واشنطن أن جيل المراهقين الأمريكيين يعاني من مشاكل جسمية وعاطفية تجعلهم أقل شعورا بالصحة من آبائهم حين كانوا في نفس أعمارهم
وأوضحت الدراسة التي أعدها مجلس مكون من رؤساء المنظمات الحية والتجارية في أمريكا أن مئات الألوف من المراهقين من الجنسين في الولايات المتحدة يعانون من تفشي عادة تعاطي المخدرات وأمراض تناسلية ومشاكل عاطفية وحمل غير مرغوب به عند الإناث أدت بالكثير منهن إلى الرسوب في الدراسة والانتحار
وقالت الدراسة أنه لم يحدث من قبل أن شعر جيل المراهقين بالمشاكل الصحية وعدم المبالاة وعدم الاستعداد والتهيؤ لمرحلة الشباب والرجولة كالذي يحدث الآن في جيل المراهقين الأمريكيين
وأفادت الإحصائيات بان حوالي مليون مراهقة أمريكية أي ما يعادل واحدة إلى عشرة مراهقات في المجتمع الأمريكي يتورطن في حمل غير مرغوب فيه كل عام كما أن 2.5 مليون من المراهقين والمراهقات يصابون بأمراض تناسلية خطيرة نتيجة تفشي الإباحية
وأضافت بأن معدل الانتحار بين فئة هذا الجيل تضاعف منذ عام 1968 وأن 10% من الذكور المراهقين و 20% من المراهقات يحاولون كل عام الانتحار كوسيلة للتخلص من مشاكلهم الصحية والعاطفية والاجتماعية )
أي تحضر وأية أخلاق
أ ي تحضر وأية اخلاق تلك التي جعلت – كما جاء بجريدة الخليج 21\4\1993 ( ثلث الفرنسيين غير شرعيين
فقد أوضحت إحصائية أجراها مركز الدراسات الوطني ونشرتها صحيفة " لوفيغارو" الفرنسية أن طفلا من أصل كل ثلاثة يولد في فرنسا خارج عقد الزواج .
وبينت الدراسة أن عدد عقود الزواج انخفض في العشرين عاما الماضية في حين ارتفع عدد ملفات الطلاق كما ارتفعت نسبة الحياة المشتركة دون زواج
وذكرت الدراسة أن عدد النساء اللاتي يقمن بتربية أولادهن وحدهن دون أب تضاعف إلى الضعف أي ما يعادل مليون امرأة في عام 1993 مقابل 500 ألف امرأة في عام 1968 )
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر واي صدق وأية أخلاق تلك التي جعلت – كما جاء بجريدة الاتحاد 24\5\1990 – جعلت ( الخيانة الزوجية في أمريكا 35 % من النساء و 50% من الرجال
وحيث قال ثلاثة أزواج أمريكيين من بين كل أربعة أزواج شملهم البحث بشان مواقفهم تجاه الزواج أنهم متأكدون من أن زوجاتهم غير خادعات لهم على الإطلاق ، ولكن نحوا من 35% من النساء الذين تم استطلاع آرائهن قلن إنهن خدعن أزواجهن بالفعل .
وأظهرت الدراسة التي تنشر في عدد يونية من مجلة ايسكواير أيضا أن 50 % من الرجال الذين شملهم الاستطلاع قالوا : إن لهم علاقات مع نساء غير زوجاتهم .
في حين قالت 65 % من السيدات إنهن مقتنعات بأن ليس لأزواجهن علاقة مع أحد غيرهن )
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر وأية أخلاق تلك التي جعلت – كما جاء بجريدة الخليج 15\11\1992\ - ( الطالب الأمريكي كذابا غشاشا وسارقا ، وفقا لما أفادته دراسة استغرق إعدادها سنتين على تسعة آلاف طالب تتراوح أعمارهم بين 15و30 سنة من أن طلاب المدارس الثانوية والجامعات الأمريكية يغشون ويسرقون ويكذبون أكثر من أي وقت مضى
وأضافت الدراسة التي نشرتها مؤسسة " جوزيف إند إيدنا جوزفسون " الأخلاقية الخاصة أن 61 % من الطلاب الجامعيين يعترفون أنهم غشوا في امتحان السنة الماضية
وأقر ثلث طلاب المرحلة الثانوية و 16% من طلاب الجامعات أنهم سرقوا خلال السنة الماضية
واعترف أكثر من الثلث أخيرا بأنهم كذبوا في الطلب الذي قدموه للحصول على وظيفة ولم يكتبوا معلومات صحيحة في نموذج البيانات الشخصية .
وقال 16% من طلاب الثانوية و 18% من طلاب الجامعات أنهم فعلوا ذلك .
وذكر رالف ويكسلر نائب رئيس المؤسسة أن " شبان اليوم لم يخترعوا الغش والسرقة والكذب لكنهم أجادوها " لكنه أضاف أن ذلك ليس خطأهم ، : وقال : " نحن في صدد إنشاء مجتمع يزدهر فيه الذين يغشون ، وبصراحة لا نستطيع أن نقول لهم إن الصدق هو الموقف الأفضل ")
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر وأية أخلاق تلك التي نشرت الإيدز - مرض الإباحية والشذوذ – كما جاء بجريدة الأهرام 3\12\1992من كلمة الكاتب أحمد بهجت -- ( كما تقول آخر إحصائية أن 168 دولة أبلغت منظمة الصحة العالمية عن وجود حالات إيدز بها ، ولكن الثابت العدوى موجودة في كل أنحاء العالم ، ويبلغ عدد المرضى بوباء الإيدز 12 مليونا من الكبار بالإضافة إلى اكثر من مليون طفل أصيبوا بالمرض . وأنه ومن المتوقع مع نهاية هذا القرن أن يبلغ عدد المرضى بالوباء 40 مليون نسمة )
وجعلتهم يبيعون كما جاء بجريدة الخليج 9\12\1992( بدم بارد الدم الفاسد ، وأول هذه الفضائح وأكبرها – من المكشوف حتى الآن – ما حصل في فرنسا خلال عامي 1984 و 1985 حين تم نقل دم ملوث بفيروس الإيدز إلى حوالي 1200 من مرضى النزاف الذين توفي منهم 250 شخصا
وجعلت تجار الدم القاتل يتوسعون في تجارتهم إلى الأسواق الخارجية ومنها تونس والبرتغال والأردن ..(/4)
إن المكشوف والمخفي يؤكدان أن تجارة الدم الملوث بالإيدز تكاد تصبح الوجه الأكثر رعبا لوباء العصر
والخوف كل الخوف أن يكون العالم الثالث سوق هذه التجارة كما حصل ويحصل للتخلص من النفايات السامة )
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر وأية أخلاق تلك التي جعلت الكاتب أبو خلدون يصرخ بالخليج 6\9\ 1995 قائلا ( اقتلونا ولكن بشرف ، ففي 21 يوليو 1969 قدم الدكتور هنري كيسنجر بوصفه مستشارا لشئون الأمن القومي في إدارة نيكسون دراسة إلى الكونجرس الأمريكي بعنوان " النمو السكاني في العالم الثالث خطر على الأمن القومي للولايات المتحدة "
وأخطر ما في هذه الدراسة التي ساهم في إعدادها برينت سكوكروفت في إدارة ريجان ، وكان مساعدا لكيسنجر في إدارة نيكسون هو أنها تقول : " عن طريق تحديد النسل والمجاعات والكوارث الطبيعية ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تخفيض العدد عن طريق الحروب والأوبئة "
والأخطر من ذلك ما نشره ليندون لاروش مرشح الرئاسة الأمريكية عن المستقلين في مجلة يصدرها بعنوان " إيسيكيوتيف "إنتليجنس ريفيو " من أن الولايات المتحدة طلبت من منظمة الصحة العالمية تطوير فيروس يساعد على تخفيض عدد السكان ..
وتزامن تقدم علم هندسة الجينات في الولايات المتحدة مع طروحات كيسنجر وسكوكروفت واتجاهات الكونجرس ، وفي تقرير قدمته هيئة العلاقات العامة إلى مجلس العموم البريطاني عام 1987 جاء أن العالم الأمريكي روبرت جالو لم يكن يقول الحقيقة عندما زعم أنه اكتشف فيروس الإيدز وإنما هندسه وراثيا .
ويقول التقرير أن روبرت جالو أدخل الفيروس مع لقاح الجدري الذي جرى إرساله إلى أفريقيا لكي يقال إن المرض أصله أفريقي ، كما جرى إدخال فيروس الإيدز مع لقاح التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الشواذ .
وفي شريط فيديو علمي موثق صدر عام 1987 يقول الدكتور روبرت ستريكر : إن الفيروس الذي يسبب سرطان الدم لدى البقر وفيروس آخر اسمه " شيب فيسنا " الذي يصيب الخراف إذا دخلا نسيجا بشريا يتبادلان جينات معينة تحدث طفرة ينجم عنها فيروس مشابه لفيروس الإيدز ، وهذا مافعله روبرت جالو في مختبراته .
وياروبرت جالو وياكيسنجر ويا سكوكروفت ويا كل أمريكا اقتلونا ولكن بشرف )
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر وأية أخلاق تلك التي تصدر الموت في واحدة من أكبر صناعاتها الرأسمالية – كما جاء الأهرام 26\5\1990 تحت عنوان : ( تصدير الموت حيث تقوم دول المجموعة الأوربية بالتخلص من التبغ الذي يحتوي على نسب عالية من النيكوتين وتصديره إلى العالم الثالث بأسعار رخيصة
وابتداء من عام 1993 تتضاعف صادرات المجموعة ثلاث مرات ، بعد تطبيق القوانين الجديدة التي تحد من كمية النيكوتين في السجائر المباعة في أوربا ، وذلك بعد ارتفاع معدل وفيات المدخنين للتبغ بدرجة تهدد الصحة العامة للمواطنين في هذه الدول
وهذه الأعمال الذي وصفت باللاأخلاقية من قبل مسئول بمنظمة الصحة تتمركز حول إدراك سياسي اقتصادي بان العالم الثالث هو سوق كبيرة للنفايات الأوربية التكنولوجية والصناعية والزراعية والغذائية والصحية
حيث يتم بيع ونقل وتوطين التكنولوجيا الملوثة والمدمرة للبيئة ، وبيع المبيدات والبذور الفاسدة والمؤثرة على صلاحية التربة الزراعية ، وإجراء التجارب على البشر والزرع فضلا عن الأغذية الفاسدة والأدوية التي تجعل من البشر حقلا لتجاربها
ومثل هذه السياسات التي لا تكترث بصحة البشر والبيئة في جنوب العالم تكشف عن هذا الاختلال في الوعي الأوربي والغربي بانقسام العالم إلى شعوب بيضاء متحضرة تستحق كل الرعاية في صحتها ومستوى حياتها وبين شعوب ملونة لا وزن ولا أهمية تذكر لها ولا تراعى إزاءها أية قواعد أخلاقية أو قانونية أو تعاقدية ، وان المواصفات القياسية في الآلات والصناعات والسلع والخدمات لا تسري إزاء إنسان الجنوب الملون مشروع ..
ويبدو أن سلوك المجموعة الأوربية سوف يمثل شكل ممارستها في العقد الحالي والعقود القادمة ، وهو تحويل الجنوب إلى مقبرة للنفايات الأوربية والغربية واليابانية . )
أي تحضر وأية أخلاق
أي تحضر و أية اخلاق تلك التي جعلت – كما جاء في الاتحاد 13\6\ 1989 - ( 45 ألف طفل فرنسي يتعرضون لاعتداءات وحشية كل عام وطبقا لتقرير نشرته جمعية الطفولة الفرنسية مؤخرا فإن 57 في المائة من الاعتداءات تقع على أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين وتسع سنوات غالبيتهم من الإناث وتؤدي هذه الاعتداءات إلى موت ما بين 300 و600 طفل سنويا
وأشار التقرير إلى أن أولياء الأمور هم " الفاعلون الأصليون " في 75 % من هذه الاعتداءات)(/5)
وجعلت – كما جاء بجريدة الاتحاد12\5\1989( كبار السن يتعرضون للإيذاء في بريطانيا ، حيث حذر تقرير نشر في لندن من أن حوالي نصف ملون شخص عجوز في بريطانيا معرضون للاعتداء الجسماني أو العقلي ، وقالت جمعية طب الشيخوخة البريطانية أن إيذاء المدمنين في السن موجود لدى جميع الطبقات الاجتماعية من جميع الأعمار والشخصيات ، ولكنه بالرغم من انتشاره الواسع لا يلقى اهتماما من الجمهور .
وقالت الجمعية التي تمثل 1500 طبيب لأمراض الشيخوخة أن الإيذاء يتخذ العديد من الأشكال بما في ذلك الاعتداء المباشر والحرمان من الطعام أو الدواء أو الاستفزاز )
وحيث ارتقت الإحصائية بعد ذلك إذ ( تشير الإحصاءات كما جاء بجريدة الخليج 6\4\1993إلى أن اكثر من مليوني عجوز أمريكي يتعرضون للإيذاء ويتخلى عنهم أبناؤهم سنويا …وأظهر استطلاع أجري مؤخرا أن نحو نصف المسنين الأمريكيين يتعرضون للإيذاء سنويا بتوجيه الكلمات النابية إليهم وينتهي بضربهم .. ويضطرون لدخول المستشفى نتيجة لذلك وغالبا ما يكون الأبناء هم المتسببون )
أ ي تحضر و أية أخلاق تلك
وكيف يشتم من مثلها تكريس أخلاق التحضر والسلام على الأرض ؟
*****
إنه لا مفر من الاعتراف بأن الأساس الإلهي للحضارة والسلام هو الأساس الأخلاقي الديني الثابت الذي يمكن أن يطمئن إليه الإنسان في بناء حضارته بسلام …
إن انهيار البناء الأخلاقي الذي تعاني منه الإنسانية حاليا إنما هو لأن هناك ومازالت فلسفات تحاول أن تضع أساسا إنسانيا للأخلاق تستمده من اجتهادات العقل ومباحث العلوم ، وبمقدار ما بين هذه الفلسفات من اختلافات وشكوك كانت الأخلاق التي تقوم عليها مهترئة الكيان ، مهتزة الأركان ، مضطربة القواعد والمقاييس ، وكانت المجتمعات التي تبحث عن أساسيات لأخلاقها بين تلك النظريات فريسة للتعاسة والفوضى والتمرد والتمزق ، وقد انتهت أحدث هذه الفلسفات إلى أن الأخلاق ليست إلا أوامر أو رغبات تعبر عن إرادات أصحابها[2] ، وإذن – وكنتيجة غير مقصودة لأصحاب هذه الفلسفة – فالأساس الإلهي هو الأساس الوحيد الذي يصح أن يأخذ به الإنسان وهو مطمئن إلى أصالة مصدره ، وسلامة منهجه ، وعدالة مقصده ، لأنه يقوم على أوامر من له وحده حق إصدار الأوامر ، وهو صانع الإنسان .
إن الدعوة إلى التحضر إذا لم تكن مرتكزة على الأخلاق ، مشمولة بالإنصاف قائمة على العدل تصبح الدعوة في هذه الحالة دعاية ، بل تصبح نوعا من الخديعة ، وتتحول إلى وسيلة من وسائل استمرار الحروب .
علينا أن نعمل على إسقاط فلسفات الصراع ، وإدانة جميع ألوان الاستعمار ، وعلينا أن نتآزر من أجل نصرة الشعوب المظلومة ، وأن نقوم بواجبنا من أجل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب الذين يقتلون في المعارك ، أو يصلبون على الأرائك ، أو يشردون على نواصي الطرقات ، أويذبحون على أبواب المستشفيات ، أو يطاردون بين قلل الجبال ، وسفوح الوديان ، في أنحاء الأرض ، وعلى امتداد المعمورة ، في كل أرض إسلامية في : فلسطين ، والعراق ، وكردستان ، والجولان ، وجنوب لبنان ، والسودان ، والصومال ، والبوسنة والهرسك ، وكوسوفو ، وألبانيا ، وأفغانستان ، والشيشان ، والفيلبين ، وبورما ، وكشمير ، إلى شعوب أخرى يهز أنينها قلب السماء ، وإن كانت آذاننا عنه ما تزال بعد صماء .
[1] \ تصريح رئيس وزراء تشيكيا : انظر جريدة الخليج الإماراتية في 18-19 \ 2\2002
[2] \ أنظر ( نشأة الفلسفة العلمية ) لهانز ريشنباخ ترجمة الدكتور فؤاد زكريا(/6)
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية
د. خالد بن عبد الله القاسم 4/3/1427
02/04/2006
واجهت الثقافة الإسلامية تحديات عديدة متنوعة ومن أهمها:
أولاً: الغزو العسكري:
عانت الأمة الإسلامية من هجمات عسكرية ظالمة استهدفت وجودها وثقافتها منذ القدم ومن ذلك:
الحروب الصليبية الشرسة (490هـ - 691هـ) التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرنين من الزمان.
ثم الهجوم التترى على العراق والشام وإسقاط الخلاقة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء في القرن السابع الهجري.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرنين الماضيين (1798م – 1962م) ومحاولته مسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة.
وزامن ذلك الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشاهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب(1)
في قلب العالم الإسلامي لشرذمة من اليهود اجتمعت من أنحاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين، ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسيًّا في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم حتى لا تتم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل تجاوز العدوان على البلدان العربية الأخرى غير المجاورة، فتمثل في تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1989م, وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهما في تأخر الأمة وإشغالها.
- وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية فقد دمرت أفغانستان، وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل، ومات آلاف الأبرياء، وحدث الأمر نفسه في العراق بحجج وجود أسلحة الدمار الشامل التي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها أيضًا بتهمة دعم الإرهاب (مع أنها أوضح وسائل ترابط المجتمع الأهلي الذي ينادون به في معظم الدول)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام، فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات لن تقضي على دين الله تعالى فقد أخبر المولى سبحانه ببقاء دينه وظهوره "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" [التوبة:33] وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (2).
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21]. كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات"الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ"[العنكبوت:1-2]. وفيها تنقية للصف المسلم قال تعالى: "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو غير مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، فعمدوا إلى غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين.
أ- وسائل الغزو الفكري:
1- الإعلام: استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام, حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابيًّا والمحتل مدافع عن نفسه، ونظرة سريعة إلى بعض وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه صورة الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا, سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه, وسيل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام, وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء, تمجد الجريمة, وتدعو إلى الفسق والفجور, وتنفر من الحياة المستقيمة الفاضلة, وتتهكم بالمسلمين والمسلمات, وتتخذ الدين هزوًا, وتعرض ما حرَّم الله: الرقص الفاضح, وشرب الخمر, والكذب والدجل, وقد أقامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
وقد ازداد خطر هذه الوسيلة مع انتشار الفضائيات، وتنامي الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) حيث نجد المواقع التي تثير الشبهات، وتشكك في العقائد، وتنشر المذاهب الباطلة.(/1)
2- الاستشراق: وهو دراسة الغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة(4)، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين.
ومن أهم نتاج المستشرقين في القرن العشرين دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاص للعقيدة الإسلامية(5).
وقد ملئت كتابات المستشرقين بالتعصب الصليبي باعتراف كثير من المستشرقين، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية(6).
إن كثيراً من المستشرقين كانوا أداة للاستعمار، حيث تخلوا عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان، سفير ألمانيا في المغرب - وقد هداه الله للإسلام -: "والحق أن معظم المستشرقين عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل(7) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكية مع مراكز الدراسات الاستشراقية, لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط(8) الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة. كما أن كثيرا من المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية، وقد ساق إدوارد سعيد(9) الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
3- التنصير: وعلى الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية, وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم, إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا, وقد رصدوا لذلك مئات الملايين من الدولارات, وأرسلوا البعثات التنصيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله, وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم, إلا أنهم ماضون في هذا الطريق, وهم يصطادون المسلمين الجهلة, وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين, حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم(10)، بينما نجد العكس فيمن يسلم من الغربيين، حيث يسلم المتعلمون والمفكرون.
وأهم وسائل التنصير: التعليم والصحة والإعلام واستغلال الكوارث والحروب والفقر.
4- تشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وذلك بإقصاء الإسلام من شتى شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية.
5- محاربة الدعوة الإسلامية: حيث استغل الأعداد أحداث الاعتداء على نيويورك لمحاربة الدعوة الإسلامية لا سيما الجمعيات الخيرية الإسلامية والزج بها في تلك الأحداث واتهامها بدعم الإرهاب ومصادرة ممتلكاتها.
6- التغريب والعولمة الثقافية: وهي باختصار فرض الثقافة الغربية عن طريق المنظمات والمؤتمرات الدولية ووسائل الإعلام المختلفة.
وإن كان للعولمة – بشكل عام – وجوه مفيدة في التقنية والاتصال، والتعارف والمعلومات؛ فإن لها جوانب خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية.
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب على الرغم من عدم الاقتناع الواسع بها قيماً، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(11) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.(/2)
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان جاء الحديث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز هذه الإباحية حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسؤول(12).
وها هو المستشرق الألماني "هاملتون جب" يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(13).
ب- آثار التحديات التي تواجه الثقافة الإسلامية:
1- تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
2- تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القوميات المتنوعة، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية, فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة, فنادى العرب بالقومية العربية, والأتراك بالتركية الطورانية, ونادى الأكراد بالكردية, وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها, وقد كان ظهور هذه الدعوات سببًا في إضعاف الخلافة التركية العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة, فرأينا الدعوة إلى الفرعونية, والدعوة إلى البابلية, والآشورية.. وغيرها(14).
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى كما قال سبحانه: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" [المائدة: من الآية2] ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال –صلى الله عليه وسلم -: (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية) (15)إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها، بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام، وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار النبي –صلى الله عليه وسلم - منهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) (16).
إن الرابطة الحقيقية بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها مثل رابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
3- الجهل بالإسلام وعقائده وأحكامه في كثير من بلاد الإسلام وانتشار البدع والخرافات والمذاهب الباطلة كالقاديانية والبهائية وانتشار الأفكار العلمانية المتطرفة والتكفيرية الغالية.
4- الهزيمة النفسية لدى بعض المسلمين واهتزاز الثوابت لديهم ونشوء طبقة من المثقفين المستغربين المنبهرين بالغرب وثقافاته.
5- إضعاف اللغة العربية وانتشار اللهجات المحلية التي اختارها الله لكتابه كما قال تعالى:"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً" [يوسف:2] . 6- إقصاء شريعة الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأثر بذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر, وقد أقنعوا به كثيرًا من الحكام في الديار الإسلامية, وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيرًا من القوانين المخالفة للإسلام, وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية, باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(17).
7- إفساد التعليم وإضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة التعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(18).
8- إفساد المرأة: لقد حرص الكفار على هذا, لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج, فأخرجوها من بيتها, وهتكوا حجابها, وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب, وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا(19)؛ وأفغانستان مثال حي على هذا؛ فعندما احتلوها لم ينقلوا إليها التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.(/3)
إن هدف عدونا ذوبان شخصيتنا وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، حيث إخراج أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي(20).
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والانسياق معهم فقال سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ" [آل عمران:100]. وأخيراً .. إنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة: من الآية120].
________________________________________
(1) الغرب ليس شيئاً واحداً بل يجب التفريق بين الجهات الصهيونية والصليبية المعادية، وبين المنصفين منهم، وبين الأغلبية التي تأثرت بوسائل الإعلام المعادية، ومن الممكن التأثير عليها وبيان الحق لها.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله –صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ..) رقم (1920).
(3) انظر: نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 62-64.
(4) المستشرقون لهم أهداف متنوعة منها أهداف مادية، وأهداف علمية، وأهداف استعمارية، وأهداف دينية وصليبية، وربما أسلم بعضهم، ولكن الحكم بالغالب وبالمؤسسات الاستشراقية الكبرى التي تهدف إلى صراع حضاري لهدم الإسلام وتشويهه.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبدالله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25-50.
(6) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(7) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م، ص: 212.
(8) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.
(9) مفكر فلسطيني الأصل، أمريكي الجنسية، نصراني الديانة، فضح في كتاباته الاستعلاء الغربي، توفي سنة 1424هـ.
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 63-64.
(11) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(12) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(13) شبهات التغريب، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، بيروت – لبنان، 1398هـ، ص: 12 .
(14) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان – الأردن، الطبعة السادسة، 1418هـ - 1997م، ص: 5.
(15) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن رقم (1850).
(16) فيض القدير شرح الجامع الصغير، الإمام عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت – الطبعة الثانية، 1391هـ، (2/290).
(17) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 5.
(18) انظر: غزو في الصميم، عبدالرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1405هـ، ص: 200.
(19) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 62-63.
(20) أنظر: شبهات التغريب، ص: 63 .(/4)
التحديد الفلكي لأوائل الشهور القمرية ( رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال ) لعام 1425 هـ
الشيخ/ عبد الله بن سليمان بن منيع 2/8/1425
16/09/2004
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، والشكر لله الذي ميزنا بعقول نستطيع بها التفكر في آيات الله ومخلوقاته وأشهد ألا إله إلا الله القائل (والشمس والقمر بحسبان) والقائل (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله القائل (إن هذا الدين متين ولن يشاده أحد إلا غلبه ولكن يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد :
فلقد كان مني المساهمة في تنوير إخواني المسلمين في بلادي خاصة وفي البلدان الإسلامية عامة بمواعيد ولادة أهلة الشهور القمرية القريبة من شهر رمضان المبارك ـ رجب ، وشعبان ، وشوال ـ؛ خدمة لتحديد دخول شهر رمضان وخروجه، ونشر ذلك في بعض الوسائل الإعلامية كالصحافة والمواقع الإسلامية على الشبكة العالمية (الانترنت)، وكان لهذه المساهمة أثرها في انضباط الفتوى بثبوت رؤية هلال رمضان وهلال شوال . حيث مضى لنا أكثر من خمس سنوات وأمر الفتوى في ذلك مستقيم لدى الجهة المختصة بالإثبات بالرغم من تضايق تلك الجهة بتلك المساهمة .
( انظر : العدد 27 من مجلة البحوث الإسلامية : ص : 91 ـ 118 ) .
ومع ذلك فقد عذرتهم لشعورهم الصادق بمسئوليتهم ووجوب بذل الجهد في تحقيق مقتضاها .
ولكن ما كل مجتهد مصيب والبحث عن الحق يقتضي البعد عن التعصب واتهام الإنسان لرأيه طالما أن الرأي مبني على الاجتهاد والتحري واحترام آراء الآخرين .
وإيمانا مني بجدوى هذه المساهمة التبصيرية وأثرها في الأخذ بالقيود والضوابط ومضاعفة التحقق والتحري في قبول شهادات رؤية هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال لا سيما إذا كانت المعلومات تؤكد أن ولادة الهلال ستكون بعد غروب شمس اليوم الذي ادعيت فيه الرؤية .
إيمانا مني بذلك فسأختم هذا البحث ببيان مواعيد ولادة أهلة الشهور الأربعة ـ رجب وشعبان ورمضان وشوال ـ والبيان الفلكي لبدء أوائل هذه الشهور الأربعة بما فيها أول يوم من شهر رمضان وأول يوم من شهر شوال ـ يوم عيد الفطر ـ وكذلك بيان الفوارق الزمنية بين غروب الشمس وغروب القمر .
وقبل ذلك فلي في هذا البحث عدة وقفات أوردها فيما يلي :
الوقفة الأولى :
مع العتب من هذا الاتجاه عليّ وعلى بعض إخواني الذين شعروا بواجبهم نحو التعاون مع إخوانهم جهات مثبتي أوائل الشهور القمرية بما في ذلك شهر رمضان وشهر شوال .
العتب على هذا الاتجاه منّا بتدخلنا فيما لا يعنينا وبجهلنا فيما تدخلنا فيه مما سمعنا وقرأنا .
هذا العتب في غير محله لا سيما وقد صدر ممن هم أهل للتقوى والصلاح والإمامة ، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين عامة بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ، فحينما يكون منا هذا الإسهام في التوضيح والبيان فنحن نتعاون مع ولاة أمورنا ومنهم الجهة المختصة بالإثبات وذلك فيما نراه محققا للصواب، لا سيما ونحن نرى أن الأمر منهم يحتاج إلى مزيد من التحري والتحقيق وصيانة سمعة بلادنا وقادتها من القيل والقال والهمز واللمز ، وقد كانت مساهمتنا في هذا السبيل مصدر ارتياح وتقدير من أهل العلم والفكر والنظر داخل بلادنا وخارجها والحمد لله رب العالمين .
الوقفة الثانية :
مع القول بأن الأخذ بالحساب مطلقا منافٍ للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا القول فيه حق وباطل . أما الحق فهو أن القول بالأخذ بالحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر وخروجه دون النظر إلى الرؤية الشرعية للهلال في الإثبات قول باطل ويظهر لنا بطلانه ومنافاته للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا شك أن علماء الأمة الإسلامية إلا من شذ مجمعون على أن دخول شهر رمضان وخروجه لا يتم إلا برؤية الهلال لا بالحساب الفلكي، قال تعالى:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [البقرة: 185]وقال صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..)). الحديث، أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081).
وأما الباطل من هذا القول فهو الأخذ بشهادة من يدعي الرؤية - بعد إجراءات تعديله – وذلك قبل ولادة الهلال؛ إذ هي شهادة لم تنفك عما يكذبها، إذ كيف يُرى الهلال متخلفا عن الشمس بحيث تغيب قبل غيابه والحال أنه لم يولد بعدُ، فهو لا يزال متقدما على الشمس فهو غربها وهي شرقه، فهي شهادة باطلة لا يجوز سماعها فضلا عن قبولها، فنحن حينما نقول بالأخذ بالحساب الفلكي نحصر هذا القول في النفي دون الإثبات، فإذا قال علماء الفلك بأن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس وجاء من يشهد برؤيته بعد غروب الشمس والحال أنه لم يولد فهذه الشهادة غير صحيحه وباطلة وإن كانت من جملة شهود . فهذا وجه الأخذ بالحساب فيما يتعلق بالنفي.(/1)
أما إذا كان الهلال مولوداً قبل غروب الشمس ولم يتقدم بالشهادة على رؤيته شاهد أو أكثر فلا يجوز أن نثبت دخول الشهر بالحساب والحال أنه لم يتقدم شاهد برؤيته، وقد أحسن مجلس القضاء الأعلى في قراره عدم ثبوت دخول شهر رمضان يوم الأحد الموافق 26/10/2003م فقد كانت ولادة الهلال حاصلة قبل غروب شمس يوم السبت الموافق 29/8/1424هـ إلا أن الهلال لم ير ذلك اليوم بعد غروب الشمس في بلادنا السعودية فأصدر المجلس قرارا بأن يوم الاثنين هو اليوم الثلاثين من شهر شعبان.
وهذا التصرف من المجلس عين الحق حيث إن المعتمد في الإثبات الرؤية فقط دون الحساب.
والقول برد شهادة من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس والحال أن الشمس غربت قبل ولادة الهلال قول صحيح لا يتنافى مع النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الشهادة معتبرة إذا سلمت عما يؤثر على اعتمادها، ومعلوم أن للشهادة موانع قبول واعتماد ومن أهم ذلك أن تنفك عما يكذبها، ولا شك أن غروب الشمس قبل ولادة الهلال يُعَدٌّ أقوى مانع لرد شهادة من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس والحال أنها غربت قبل الولادة، فنحن بهذا لم نرد قول الله تعالى:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ولا قول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته))وإنما رفضنا شهادة باطلة ممن شهد بشهادة لم تنفك عما يكذبها، فالشاهد هو الواهم أو الكاذب في شهادته. فليس في الأمر رؤية صحيحة للهلال لكونه لم يولد بعدُ . وبهذا يتضح الأمر بأن الأخذ بالحساب فيما يتعلق بالنفي ليس فيه مصادمة لكتاب الله ولا لسنة رسوله محمد صلى الله عيه وسلم .
الوقفة الثالثة :
مع قول بعضهم في معرض الرد على القول بالأخذ بمقتضى ولادة الهلال ما نصه : ما الذي نجنيه من الكتابة عن الصيام وتكذيب شهود رؤية الهلال لأن الحساب قد دلنا على أن الشهر لن يهل أو أنه لم يولد ؟ هل عندنا بذلك أثارة من علم ممن لا يرد قوله . إلى آخر ما قال .
وأتمنى من قائل هذا القول أن يتهم رأيه وعلمه، فرحم الله امرأًً عرف قدر نفسه فيما يتكلم فيه، فعلم الفلك علم له قواعده وأصوله ونتائجه، وله علماؤه المختصون به، وعلى نظرياته الدقيقة تبنى أدق التطبيقات العلمية في عالم الفضاء والكون، وليس الأمر فيه محصورا في أثارة من علم تنتظر ممن لا يرد قوله فالأمر في ذلك قطعي لا يحتاج إلى أثارة من علم .
ومن المسائل الفلكية التي لا تقبل جدلاً من أهل الدراية والنظر والاختصاص مسألة ولادة الهلال فهي مسألة قطعية لا يختلف فيها ولا في تحديد وقتها بالدقيقة لا بل بالثانية أحد من علماء الفلك من مسلمين وغير مسلمين ولا يشك في قطعيتها إلا من يشك في نتيجة جمع الخمسة مع الثمانية أو ضرب الستة في الأربعة أو طرح الثلاثة من التسعة أو قسمة الثمانية على الاثنين.
وإذا كان المنازع لا يزال في منازعته في أن ولادة الهلال ظنية لا قطعية فعليه أن يأتي بقول واحد من علماء الفلك يقول بظنية الولادة لا قطعيتها. أما أن تُحشر لنا نصوص من أقوال فقهائنا من المذاهب الأربعة فهم علماء شريعة وليسوا علماء فلك. فهل يصح أن ننتقد مسألة طبية في الجراحة مثلا أو مسألة هندسية من النظريات الهندسية ثم نأتي بأقوال
الفقهاء على انتقاد هذه المسائل العلمية من طب أو هندسة أو فلك أو نحو ذلك ؟
الوقفة الرابعة:
مع الاحتجاج لرد العمل بالحساب بقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب )) إلى آخر الحديث أخرجه الخاري (1913)، ومسلم (1080) وتوجيه الاحتجاج لذلك أن وصف أمة الإسلام بالأمية وصف مدح لا وصف ذم. هذا القول بالرغم من صدوره ممن هو في مستوى رفيع من العلم ودقة النظر وعمق التفكير إلا أنه قول فيه نظر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وصف هذه الأمة من واقعها في عهده فليس الغرض من وصفها بالأمية مدحها أو ذمها وإنما الغرض من ذلك تقرير أن الأمة لا تكلف بما لا تستطيع (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [البقرة:286] ، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج:78] ولكن بعد أن تيسر لهذه الأمة الدخول في ميادين العلم ومن ذلك علم الفلك فقد زالت عن هذه الأمة الأمية فصارت تحسب وتكتب وتعلم وتقرأ وتخترع وتدرك ما أدركه الآخرون من آيات الله وعجائب مخلوقاته وأسرار مكنوناته ودقائق صنعه وإتقان إبداعه، وبزوال هذه الأمية يقوم التكليف، وتسقط الأعذار، ويتعين الأخذ بالأسباب ونتائج المعرفة، وطرح التعلل بالجهل بعد زواله وحلول العلم محله.
الوقفة الخامسة:
مع حاشيةٍ لبحثٍ لبعض إخواننا في مجلة البحوث الإسلامية ( العدد 27 ) من أنه اطلع على أكثر من عشرة كتب فلكية وليس في واحد منها ما يشير إلى قطعية الحساب .
ونحن نتساءل هل في هذه الكتب ما ينفي قطعية الحساب ؟ وإذا كان كذلك فليت الباحث أتى بنصوص من هذه الكتب تدل على ما ذكر وبشرط أن تكون هذه الكتب من أهل الاختصاص في الفلك.(/2)
وقد جاء في هذه الحاشية ذكر قرار مؤتمر الكويت عام 1409هـ وهو قرار لا يتفق مع موضوع البحث، فهو قرار يؤيد القول باعتبار الحساب الفلكي في حال النفي وقد جاء في القرار الفقرة (1) النص على ذلك وأن هذا القول هو قول عدد من فقهاء المسلمين كابن تيمية والقرافي وابن القيم وابن رشد، وفي الفقرة الثالثة من القرار ما يدل على أن الإثبات يجب أن يعتمد على الشهادة.
وللشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - هو أحد علماء مصر والمختصين في علم الحديث ورجاله رسالة بعنوان ( أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعا إثباتها بالحساب الفلكي ) وقد ذكر في رسالته ما نصه :
" لقد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي منذ أكثر من عشر سنين حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية رأي في رد شهادة الشهود إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي . وأثار رأيه هذا جدلا شديدا وكان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. وما كان قولي هذا بدعا من الأقوال أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير يعرفه أهل العلم وغيرهم ". ا .هـ
( ص : 15 من الرسالة نشر مكتبة ابن تيمية لطباعة ونشر الكتب السلفية ).
ما ذكره فضيلة الشيخ أحمد شاكر وما جاء في قرار مؤتمر الكويت عام 1409 هـ يتضح منه أن القول باعتبار الحساب الفلكي لا سيما فيما يتعلق برد شهادة رؤية الهلال قبل ولادته قول مجموعة من علماء المسلمين قديما وحديثا، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والقرافي وابن رشد والسبكي والمراغي وأحمد شاكر والشيخ مصطفى الزرقاء رحمهم الله .
الوقفة السادسة:
هذه الوقفة مختصة بحوار قصير مع الجهة المختصة بإثبات الأهلة في بلادنا فهذه الجهة جهة علمية مشهود لرئيسها وأعضائها بالنصح الخالص للبلاد وأهلها خاصة وللمسلمين عامة وهم أهل لذلك من حيث التقوى والصلاح وبذل الجهد في استبراء الذمة مع ما يتمتعون به من كفاءة علمية تؤهلهم لممارسة اختصاصهم، وهم يدركون ما قاله مجموعة من فقهاء المسلمين ومحققيهم قديما وحديثا من أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة والظروف بشرط أن لا يكون هذا التغير مصادما لنص شرعي أو أصل من أصول الدين. فعلوم التقنية بمختلف أجناسها وأنواعها قد تطورت تطوراً خدم البشرية خدمة أثرت على أنماط حياتها، ونقلتها من عالم محدود الإدراك والتفكير والتحرك إلى عالم يسابق زمنه في الإبداع والعطاء والقدرة على الانتفاع بعوامل الانفتاح الفكري والنظري والتطبيقي . أفلا يجد إخواننا أن واجب عملهم واختصاصهم بإثبات الرؤية يقتضي الأخذ بكل جديد يساعدهم على الدقة في تحقيق ما اختصوا به ؟
ومن ذلك إعادتهم النظر في آرائهم السلبية نحو النتائج الفلكية لا سيما وهم في علوم الفلك في صفٍ لا يؤهلهم لهذا الموقف السلبي نحو النتائج الفلكية، فلو عملوا على عقد مؤتمر دولي يُدعى إليه علماء فلكيون من أجناس فلكية مختلفة ويحضر معهم علماء شرعيون من بلدان إسلامية مختلفة يُبحث في هذا المؤتمر موضوع الاقتران والولادة وإمكان الرؤية وهل النتائج الفلكية في علم هذه المسائل قطعية أو ظنية ؟ وهل في ذلك خلاف بين علماء الفلك ؟ حتى لا يكون منّا رد لقضايا قطعية نقول عنها على سبيل التشكيك والارتياب : هل لدى أحد أثارة من علم بها ممن لا يرد قوله!!.
فإنكارنا النتائج العلمية القطعية مما هو محل إجماع علماء الاختصاص يرجع علينا بالنقص والزراية وضيق الأفق والنظر وسوء السمعة، وقد سمعنا الكثير من ذلك وتألمنا مما سمعنا . والله حسبنا ونعم الحسيب .
الوقفة السابعة:
مع قول بعضهم إن علماء الفلك مختلفون فيما بينهم في إمكان الرؤية وفي تحديد أول الشهر وآخره وهذا يعني أن النتائج الفلكية ظنية وما دامت ظنية والرؤية ظنية وقد اعتبر الشارع الرؤية وأمرنا باعتمادها فلا حاجة لنا بالفلك وعلومه .
والإجابة على هذا الإيراد تقتضي التمهيد لها بتعريف الاقتران والولادة وإمكان الرؤية وهذا تعريفها :
الاقتران : هو اجتماع الشمس والقمر في خط طولي واحد بحيث لا ينعكس ضوء الشمس على القمر ولا على جزء منه .
الولادة : هي انفصال القمر عن الشمس بحيث تكون الشمس أمامه من جهة الغرب ، والقمر خلفها من جهة الشرق ، فيظهر بالولادة نور الشمس على جزء من القمر .
إمكان الرؤية : هو حصولها بالقدرة البصرية على رؤية الهلال بعد ولادته .
وقد أجمع علماء الفلك على أن ولادة الهلال تتم في وقت محدد بالدقيقة إن لم يكن بالثانية وأن علماء الفلك قاطبة لا يختلفون في ذلك التحديد إلا إذا اختلف علماء الرياضيات في نتيجة جمع عشرين مع خمسة عشر أو نحو ذلك من النتائج القطعية.(/3)
وإنما الاختلاف بين الفلكيين في مسألة إمكان رؤية الهلال بعد اتفاقهم على وقت ولادته . فبعضهم يقول بولادته قبل غروب الشمس . ولكن لا يمكن رؤيته إلا إذا كان على زاوية أفقية محددة بدرجة معينة وعلى ارتفاع درجات محددة أيضا بعدد كخمس درجات أو ست أو أقل من ذلك أو أكثر فهذه المسألة محل اختلاف بينهم مع اتفاقهم جميعا على تحديد وقت الولادة . وهذا الاختلاف هو الذي أوجد خلطا بين علماء الشريعة وفقهائها قديما وحديثا فلم يفرقوا بين الولادة وبين إمكان الرؤية من عدمه ؛ فظنوا أن الاختلاف في إمكان الرؤية هو اختلاف في تحديد الولادة والذي ندين الله به جمعا بين النصوص الشرعية والنتائج القطعية للفلك أن الرؤية تثبت بالشهادة عليها وأن دخول الشهر أو خروجه يجب أن ينحصر إثباته فيها ولو قال الفلكيون بولادة الهلال قبل غروب الشمس ولم يُرَ الهلال فلا يجوز الأخذ بالإثبات الفلكي، كما لا يجوز تقييد رؤية الهلال بعد ولادته بإمكان الرؤية وتقييد الإمكان بزاوية معينة أو درجة معينة ، فمتى ولد الهلال وجاءت الشهادة بالرؤية تعين اعتبار الرؤية من غير اعتبارٍ للإمكان .
وأما إذا غربت الشمس قبل الولادة وجاء من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس فيجب رد هذه الرؤية حيث إن رؤية الهلال منتفية قطعا في هذه الحال وعليه فيجب اعتبار الحساب الفلكي في حال النفي دون حال الإثبات .
ولمزيد من توضيح معنى أن الحساب الفلكي وأنه يجب أن يُستند عليه في النفي دون الإثبات نذكر الحالات الآتية والحكم على كل حال منها:
الحال الأولى : أن يولد الهلال قبل غروب الشمس ويأتي من يشهد برؤيته بعد غروب الشمس فهذه الرؤية معتبرة ويثبت بها بعد تعديلها دخول الشهر، فإن كان شهر رمضان فيكفي لها شاهد عدل، وإن كان شهرا غير شهر رمضان فيجب أن تكون الشهادة بالرؤية من شاهدي عدل فأكثر، وفي هذه الحال فقد اتفق النظر الشرعي مع الواقع الفلكي على إثبات دخول الشهر.
الحال الثانية : أن يولد الهلال بعد غروب الشمس ولم يتقدم أحد بدعوى رؤيته الهلال بعد غروب الشمس ففي هذه الحال اتفق النظر الشرعي مع الواقع الفلكي على نفي الرؤية واعتبار هذه الليلة ليلة آخر يوم من الشهر الحالي .
الحال الثالثة : أن يولد الهلال قبل غروب الشمس ولكن لم يتقدم أي شاهد برؤيته الهلال فهذه الحال اختلف النظر الشرعي مع الواقع الفلكي حيث إن الواقع الفلكي يثبت دخول الشهر والنظر الشرعي ينفي ذلك حيث لم يشهد أحد برؤية الهلال ففي هذه الحال يجب علينا الأخذ بالنظر الشرعي في نفي دخول الشهر استجابة للنصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه). ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .كما يجب علينا عدم الأخذ بالثبوت الفلكي لانحصار الإثبات الشرعي في الرؤية فقط .
الحال الرابعة :أن يولد الهلال بعد غروب الشمس ويأتي من يشهد برؤية الهلال بعد غروب الشمس فهذه الحال اختلف الواقع الفلكي مع دعوى الرؤية قبل الولادة حيث إن دعوى الرؤية يثبت دخول الشهر والواقع الفلكي ينفي دخول الشهر ففي هذه الحال يجب الأخذ بالواقع الفلكي حيث إن الهلال لم يولد إلا بعد غروب الشمس فكيف يُرى بعد غروبها والحال أن الشمس غربت والهلال متقدم عليها نحو الغرب وهي متخلفة عنه نحو الشرق فالرؤية التي تقدم بها أصحابها شهادة ، ومن شروط قبول الشهادة أن تنفك عما يكذبها، وهذه الشهادة لم تنفك عما يكذبها حيث إن ما يكذبها ملازم لها فيجب رد هذه الشهادة مهما كان الشاهد بها ومهما تعدد شهودها، وهذا معنى قولنا يجب الأخذ بالحساب الفلكي فيما يتعلق بالنفي لا بالإثبات .
وهناك إيراد آخر ملخصه إن علماء الفلك قاطبة مجمعون على أن ولادة الهلال لها وقت محدد بلحظة واحدة ومع ذلك يوجد خلاف بينهم في تحديد أول كل شهر والمثال على ذلك اختلاف العجيري وهو أحد علماء الفلك مع تقويم أم القرى في تحديد أول شهر رمضان عام 1421 هـ ، والسؤال عن وجه هذا الاختلاف والحال أن علماء الفلك مجمعون على تحديد ولادة هلال كل شهر بلحظة معينة .
والجواب عن هذا الإشكال أن غالب علماء الفلك من مسلمين وغير مسلمين أخذوا بتوقيت جرينتش واتفقوا على الأخذ باصطلاح مقتضاه :(/4)
إن وُلد الهلال قبل الثانية عشرة بتوقيت جرينتش فالليلة ليلة أول يوم من الشهر . وإن ولد بعد الثانية عشرة فالليلة آخر يوم من الشهر . والأستاذ العجيري أحد هؤلاء العلماء الذين يأخذون بتوقيت جرينتش وباعتبار هذا الاصطلاح المذكور في أول الشهر وآخره، وأما لجنة تقويم أم القرى فهي تأخذ بقرار مجلس الوزراء السعودي رقم ( 143 ) وتاريخ 22/ 8 / 1418 هـ المقتضي الأخذَ بغروب الشمس في مكة المكرمة فإن كان غروبها قبل ولادة الهلال فتعتبر هذه الليلة ليلة آخر يوم من الشهر ، وإن كان غروبها بعد ولادة الهلال فتعتبر هذه الليلة أول يوم من الشهر ، ومستند هذا القول هو المقتضى الشرعي في اعتبار دخول الشهر وخروجه الرؤية الشرعية المعتمدة على الشهادة الصحيحة برؤية الهلال بعد غروب الشمس، وبهذا يظهر وجه الاختلاف والجواب عنه , وأن هذا الاختلاف ليس اختلافا في وقت ولادة الهلال وإنما هو اختلاف في الاصطلاح.
فلو فرضنا أن الهلال ولد بعد غروب الشمس من مكة المكرمة الساعة الحادية عشرة مساء بتوقيت المملكة والساعة الثامنة مساء بتوقيت جرينتش فعلى حساب الأستاذ العجيري ومن اخذ بهذا الاصطلاح تكون هذه الليلة هي ليلة أول يوم من الشهر , وعلى حساب تقويم أم القرى تكون هذه الليلة هي ليلة آخر يوم من الشهر . ولاشك أن حساب تقويم أم القرى هو المتفق مع المقتضى الشرعي لأن العبرة في دخول الشهر وخروجه بغروب الشمس آخر الشهر قبل غروب القمر , فإن غربت الشمس قبل غروب القمر كانت الليلة ليلة أول يوم من الشهر , وإن غرب القمر قبل الشمس كانت الليلة آخر الشهر ولا عبرة بولادة الهلال بعد غروب الشمس سواءً أكان ذلك أول الليلة أو آخرها. وهذا هو المقتضى الشرعي المستند على قوله صلى الله عليه وسلم : ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ))، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما : (( إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه )) أخرجه مسلم (1080).
والحمد لله الذي هدانا لهذا فقد صار للجهة المختصة عندنا في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه مزيد من التأني والتحري، والاستئناس بتقويم أم القرى في مدى الأخذ بشهادة شهود يشهدون برؤية الهلال قبل ولادته . وهذه مرحلة أولى من الجهة المختصة في الأخذ بمقتضى ولادة الهلال . ونأمل أن تتلوها مرحلة الاعتراف بولادة الهلال حتى ننفي عنا وعن بلادنا وعن ولاة أمورنا سمعة القيل والقال والهمز واللمز .
الوقفة الثامنة:
مع مدعي رؤية الهلال قبل ولادته .
يمكن تعليل رؤية الهلال قبل ولادته ممن يدعيها بما يلي:
(1) يحتمل أن يكون المرئي نجما أو كوكباً قريباً من الشمس في حجم نقطة تُظن هلالاً. وأذكر أن أخوين من جماعتي من أسرة الهدلق تقدما إلى قاضي البلد بدعوى رؤية هلال شوال، وحينما ناقشهما القاضي عن الهلال وصفته قال: لعلكما رأيتما نجمةً؟ فقالا: نعم لعلها نجمة، فسميت نجمة الهدلق.
(2) يحتمل أن تكون الرؤية لطائرة أو مركبة فضائية أو قمرٍ صناعي أرى جسم في الفضاء قريب أو بعيد من ذلك ما روي عن إياس بن معاوية وقصته مع أنس بن مالك.
(3) يحتمل أن تكون حالة جوية كعاصفة أو سحابة أو سراب.
(4) يحتمل أن تكون حالة نفسية حيث إن المتحري يُخَيَّل إليه شيء فيعتقده حقيقة .
(5) يحتمل الكذب في ذلك وهذا أبعد الاحتمالات إلا أنه قد يقع.
وهناك احتمال آخر يتعلق بحالةٍ للهلال في شهر واحد من شهور العام حيث يُرى الهلال قبل ولادته إلا أن هذه الرؤية ليست رؤية حقيقية للهلال وإنما هي رؤية لانعكاسه في الأفق خلف الشمس والحال أنه أمام الشمس لم يولد بعدُ وهذه الحال قد يظن بها مخالفة للقول بأن ولادة الهلال قطعية .
وبتفسير هذه الحالة يظهر الرد على القول بالمخالفة وتأكيد القول بقطعية الولادة وعليه فتفسير هذه الحال ما يلي :
من المعلوم للجميع بالمشاهدة أن الهلال يكون ناقص الاستدارة ومقوساً حتى ليلة تمام القمر يوم خمسة عشر وفي ليالي هذه الأيام أي في النصف الأول من الشهر يكون نقص الاستدارة – فتحة القوس - من الشرق ويكون التقويس من الغرب وذلك بهذا الشكل:
وفي النصف الثاني من الشهر ينعكس الأمر فتكون فتحة التقويس إلى الغرب ويكون التقويس إلى الشرق وذلك بهذا الشكل:
ويمكن استخدام هذه الظاهرة الكونية في معرفة الغرب والشرق إذا كان الإنسان في البر في الليل واختلف عليه تعيين القبلة للصلاة. فبمعرفته الجهة يستطيع معرفة القبلة .
فمتى وجدت حالة رؤية الهلال قبل ولادته فهذه حالة انعكاس أفقي للهلال وهو متقدم على الشمس ولهذا سيكون وضع الهلال بالنسبة للتقويس وفتحة التقويس هو وضعه في النصف الأخير من الشهر ويكون بهذا الشكل:
ولو لم يكن هذا الهلال انعكاساً لوضعه قبل ولادته وكانت رؤيته حقيقية لا انعكاساً لكان شكله هكذا :(/5)
وتعليل هذه الظاهرة أن تقويس القمر دائما يكون إلى قربه من الشمس سواءً أكان أول الشهر أو آخره ، ولو وجدت مناقشة لمدعي الرؤية ومنها أين قرنا الهلال ؟ هل هما إلى الشرق أم إلى الغرب ؟ لظهرت حقيقة هذه الرؤية هل هي انعكاس أو حقيقة ؟ فإن كان قرناه إلى الشرق فهي رؤية حقيقية ، وإن كان قرناه إلى الغرب فهي رؤية انعكاسية .
وهذا جواب عن هذا الإيراد وتفسير لهذه الظاهرة من أن الهلال قد يُرى بعد غروب الشمس والحال أنه لم يولد بعدُ فهذه رؤية سرابية لا رؤية حقيقية . والله أعلم .
الولادة الفلكية للأشهر القمرية لعام 1425 هـ
( رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال ) .
( 1 ) ولادة شهر رجب :
يولد هلال شهر رجب صباح يوم الاثنين الموافق 30 / 6 / 1425 هـ الساعة ( 4 ) و ( 25 ) دقيقة صباحا ، ويغرب الهلال مساء هذا اليوم الاثنين بعد غروب الشمس بمقدار اثنتين وثلاثين دقيقة أي يغرب الساعة (7) و ( 23 ) دقيقة مساء وبهذا يكون يوم الثلاثاء الموافق 17/8/2004 م هو أول يوم لشهر رجب سنة 1425 هـ ، ويكون الترائي الصحيح للهلال هو مساء يوم الاثنين الموافق 30/6/1425 هـ بعد غروب الشمس .
ولا يصح ترائي الهلال مساء يوم الأحد الموافق 29/6/1425 هـ حيث إن الشمس تغرب هذا اليوم قبل ولادة الهلال بأكثر من ثمان ساعات .
( 2 ) ولادة شهر شعبان :
يولد هلال شهر شعبان مساء يوم الثلاثاء الموافق 29/7/1425 هـ الساعة ( 5 ) و ( 30 ) دقيقة مساء ، ويغرب الهلال في هذا اليوم الثلاثاء بعد غروب الشمس بسبع دقائق أي في الساعة ( 6 ) و ( 32 ) دقيقة مساء ، وبهذا يكون يوم الأربعاء الموافق 15/9/2004م هو أول يوم من أيام شهر شعبان .
ويكون الترائي الصحيح للهلال ( هلال شهر شعبان ) هو مساء يوم الثلاثاء بعد غروب شمس هذا اليوم 29/7/1425هـ ولا يصح ترائي الهلال مساء يوم الاثنين 28/7/1425هـ لكون الهلال لم يولد حيث تغرب الشمس في هذا اليوم قبل ولادته بما لا يقل عن ثلاث وعشرين ساعة .
( 3 ) ولادة شهر رمضان :
يولد هلال شهر رمضان المبارك يوم الخميس صباحا الساعة ( 5 ) و ( 49 ) دقيقة الموافق 30/8/1425هـ ، ويغرب الهلال في هذا اليوم الخميس بعد غروب الشمس بمقدار ثمان عشرة دقيقة أي يغرب الساعة ( 6 ) و ( 15 ) دقيقة وبهذا يكون يوم الجمعة الموافق 15/10/2004م هو أول يوم من شهر رمضان المبارك .
ويكون الترائي الصحيح لشهر رمضان هو مساء يوم الخميس الموافق 30/8/1425هـ بعد غروب شمس هذا اليوم . ولا يصح ترائي الهلال مساء يوم الأربعاء 29/8/1425هـ حيث إن الشمس غربت ذلك اليوم قبل ولادة الهلال بما لا يقل عن إحدى عشرة ساعة .
( 4 ) ولادة شهر شوال :
يولد هلال شهر شوال مساء يوم الجمعة الموافق 29/9/1425هـ الساعة ( 5,28 ) مساء أي قبل غروب الشمس باثنتي عشرة دقيقة حيث تغرب شمس هذا اليوم يوم الجمعة الساعة ( 5,40 ) مساء ، ونظرا إلى أن بين ولادة الهلال وغروب الشمس زمنا قصيرا جدا قدره اثنتا عشرة دقيقة فالاحتمال قوي جدا قد تتجاوز نسبته 99% ألا يرى الهلال حيث إن غروبه مع الشمس .
ونظرا إلى أن الهلال مولود قبل غروب الشمس باثنتي عشرة دقيقة فلو جاء شاهدان أو أكثر وشهدوا برؤية الهلال وتم تعديلهم شرعا فقد اتفقت الرؤية الشرعية مع الحساب الفلكي على ثبوت دخول شهر شوال وبذلك يكون يوم السبت الموافق 13/11/2004م هو أول يوم من شهر شوال ويكون ذلك اليوم هو يوم العيد . ولكن نظرا لتعسر رؤيته بعد غروب شمس يوم الجمعة الموافق 29/9/1425هـ إن لم تتعذر الرؤية فالاحتمال القوي الغالب أن يوم السبت هو آخر يوم لشهر رمضان وأن يوم العيد هو يوم الأحد الموافق 14/11/2004م .
هذا ما تيسر إيراده وأرجو الله تعالى أن يحسن قصدي وأن يجعل الإصلاح هدفي ومرامي فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنبت وهو رب العرش العظيم . والله المستعان .(/6)
التحذير من اتباع الهوى وبيان آثاره
د . بدر بن ناصر البدر [*]
تضافرت النصوص من الكتاب والسنة والمروي عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى في ذم الأهواء المضلة والتحذير من اتباعها ، لما لها من آثار سيئة ، وعواقب وخيمة على أصحابها في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك ما خاطب الله تعالى به نبيه داود عليه السلام بقوله : ] يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ ( ص : 26 ) .
وقد حذر الله نبيه وصفيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اتباع الهوى والوقوع فيه واتباع أهله قال تعالى : ] ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [ ( الجاثية : 18 ) .
وقال عز وجل : ] وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ [ ( البقرة : 145 ) . وقال تعالى ] الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ [ ( الأنفال : 56 ) . وقال تعالى مخاطبا عباده المؤمنين أن يحذروا من الهوى ، جميع صوره وأشكاله : ] فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا [ ( النساء : 135 ) .
ومن صور التحذير من اتباع الهوى والبعد عن أهله ما جاء في قوله تعالى : ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [ (القصص : 50) فقد أخبر تعالى أنه لا أحد أضل ممن يتبع هواه بغير هدى ولا علم ، وهذا حال الظالمين الضالين ، قال تعالى : ] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ [ ( الروم : 29 ) . وقال عز وجل : ] وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ [ ( الأنعام : 119 ) .
وفي موضعين آخرين من القرآن بين - جل وعلا - أن الهوى إله يعبده أصحابه من دون الله ، وذلك باتباعه وطاعته وعدم مخالفته ، بعد أن أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم ، قال تعالى : ] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [ ( الفرقان : 43-44 ) وقال تعالى : ] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [ ( الجاثية : 23 ) .
التحذير النبوي من الهوى :
الأحاديث التي جاءت في ذم الهوى ، وبيان خطورته ، والتحذير منه كثيرة منها : ما رواه الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " [1] ، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الهوى من المهلكات ، متى اتبعه صاحبه ، وانقاد له ، قال عليه الصلاة والسلام : " ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وثلاث مهلكات ، هوى متبع ، وشح مطاع ، وإعجاب المرء بنفسه " [2] .
تحذير السلف من اتباع الهوى :
المروي عن السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - كثير في التحذير من اتباع الهوى وذم أهله ، والبعد عن مجالس أهله ، وسماع كلامهم ، والنظر في كتبهم ، سلامة لدينهم ، وحفظا لإيمانهم وعقيدتهم ، ونصحا للأمة ، وأداء للأمانة ، وهم في هذا يستدلون بآي الذكر الحكيم بفهم صحيح ، ونظر ثاقب ، وذلك لأنهم اعتنوا بكتاب الله - جل وعلا - وساروا في حياتهم وفق توجيهاته ، واتباع تعليماته ، والاستهداء بهداياته ودلالاته .
من ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : طول أمل واتباع الهوى ، أما طول الأمل فيفني الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق " [3] .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " لا تجالسوا أصحاب الأهواء فإنهم يمرضون القلوب " [4] وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : " اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله ، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم " [5] .(/1)
وفي بيان أضرار مجالسة أصحاب الأهواء وآثارها السيئة على العبد في دينه وتمسكه وخلقه ، يقول أبو قلابة رحمه الله : " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون " [6] . وقال إبراهيم النخعي : " لا تجالسوا أهل الأهواء ، فإن مجالسهم تذهب بنور الإيمان من القلوب ، وتسلب محاسن الوجوه ، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين " [7] .
وقد كان سلفنا الصالح يتواصون بهذا ، فيحذرون طلابهم وغيرهم من مجالسة أهل الأهواء ، معتمدين في توجيهاتهم على النصوص من الكتاب والسنة ، شفقة على غيرهم ، وحبا لهم ، قال عبد الرحمن بن عمر : ذكر عند عبد الرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع واجتهادهم في العبادة فقال : لا يقبل الله إلا ما كان على الأمر والسنة ، ثم قرأ : ] وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [ ( الحديد : 27 ) فلم يقبل ذلك منهم ووبخهم عليه ثم قال : الزم الطريق والسنة ، وسمعت عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - يكره الجلوس إلى أصحاب الرأي وأصحاب الأهواء ، ويكره أن يجالسهم أو يماريهم ، وذكر عنده مرة أصحاب رأي وهوى فقرأ قوله تعالى : ] وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ [ ( المائدة : 77 ) [8] .
معنى الهوى :
الأصل في معنى الهوى ميل النفس إلى ما تهواه ، فإن مالت إلى ما يخالف الشرع والدين فهو الهوى المذموم ، وإن مالت إلى ما يوافق الشرع فهو الممدوح ، وإذا ذكر الهوى مطلقا أو ذكر ذمه فهو الهوى المذموم لأنه الغالب ، والله المستعان ، وهذا المذموم قد يكون شبهة ، وقد يكون شهوة ، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أن فتنة الشبهات أعظم وأشد خطرا من فتنة الشهوات ، لأن الشبهة إذا تواردت على القلب أضعفته ، وحرفته عما يدين الله به أو يعتقده إلى غيره ، وقد لا يقتنع صاحبه بشرع الله ، ولا يسلم لأمره ، ولا يرضى بدينه .
أما فتنته الشهوات فتكون في الأمور المحرمة كالفاحشة وشرب الخمر ، وشهوة جمع المال من غير حله ، فالحلال ما حل في يده من أي سبيل كان ، قال الإمام الشاطبي ، ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء ، لأنهم اتبعوا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك [9] ، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ، ولذلك يسمى أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة ما يحبه [10] .
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - خطر فتنة الشبهات فقال : واتباع الأهواء في الديانات وأعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، كما قال تعالى : ] فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [ (القصص : 50) .
ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء ، كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه ، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعثه به رسوله صلى الله عليه وسلم [11] .
________________________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض .
(1) رواه أحمد في المسند(4/420) وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، مجمع الزوائد(1/188) .
(2) رواه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط بسند حسن ينظر : صحيح الجامع الصغير(1/583) .
(3) ينظر الزهد للإمام أحمد(192) .
(4) ينظر : الإبانة لابن بطة(2/438) .
(5) ينظر : الإبانة لابن بطة(1/389) .
(6) ينظر : سنن الدارمي(1/108) .
(7) ينظر : الإبانة لابن بطة(2/439) .
(8) ينظر : حلية الأولياء(10/8) .
(9) ينظر : الاعتصام(2/176) .
(10) ينظر : جامع العلوم والحكم(3/226) .
(11) ينظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية(18/143 - 144) .(/2)
التحذير من البدع والمواسم المحدثة ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
شرح الله لقبول النصيحة صدورَكم، وأصلح بعنايته أمورَكم، واستعمل فيما يرضيه آمرَكم ومأمورَكم، فإن الله قد استرعانا جماعتَكم، وأوجب لنا طاعتَكم، وحذَّرنا إضاعتَكم، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ" [النساء:59]، سِيَما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرّمٌ بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية، "الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ" [الحج:41].
ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسِكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسِكم، فألقوا لأمر الله آذانَكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانَكم، وطهّروا من دنس البدع إيمانَكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانَكم، واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرقَ السنة لتسلُكُوها، وصرَّح بذمّ اللهو والشهوات لتملِكُوها، وكلَّفكم لينظر عملَكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرِفوا فضلَه عليكم وعُوه.
اترُكوا عنكم بدعَ المواسم التي أنتم بها متلبّسون، والبدعَ التي يزيّنها أهلُ الأهواء ويلبّسون، وافترقوا أوزاعًا، وانتزعوا الأديان والأموالَ انتزاعًا، بما هو حرامٌ كتابًا وسنة وإجماعًا، وتسمَّوْا فُقرَا، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرَا، "قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" [الكهف:103، 104]، وكل ذلك بدعةٌ شنيعة، وفِعلةٌ فظيعة، وسبَّة وضيعةٌ، وسُنةٌ مخالفة لأحكام الشريعَة، وتلبيسٌ وضلال، وتدليس شيطاني وخبَال، زيّنه الشيطان لأوليائه فوقَّتوا له أوقاتًا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهمَ وأقواتًا، وتصدّى له أهل البدع من عيساوة وجلالة، وغيرِهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقَّبون لِلَهوِهِمُ الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعِصِيِّه منهم الجماعات، وكلُّ ذلك حرامٌ ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.
فأنشدكم الله عباد الله، هل فعل رسولُ الله لِعمّه سيد الشهداء موسما؟! وهل فعل سيدُ هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل موسمًا؟! وهل تصدّى لذلك أحدٌ من التابعين - رضي الله عنهم -أجمعين؟! ثم أنشدكم الله، هل زُخرِفت على عهد رسول الله المساجد؟! أم زُوِّقت أضرحةُ الصحابة والتابعين الأماجد؟!
كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفةِ أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع:"حسبُنا الاقتداء والاتباع، إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون"، وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون، وقد ردَّ الله مقالتَهم، ووبَّخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين، وأهل الصلاح والدين، ((خير القرون قرني...)) الحديث[1]، وبالضرورة إنه لن يأتيَ آخرُ هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أوَّلُها، فقد قُبِض رسولُ الله وعقْدُ الدين قد سُجِّل، ووعْد الله بإكماله قد عُجِّل، "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً" [المائدة:3]، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -على منبر رسول الله بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس، قد سُنّت لكم السنن، وفُرِضت الفرائض، وتُرِكتم على الجادة، فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا)، فليس في دين الله ولا فيما شرع نبيُّ الله أن يُتقرّبَ بغناء ولا شطح.
والذكرُ الذي أمر الله بِه، وحثَّ عليه ومدح الذاكرين بِه، هو على الوجه الذي كان يفعله، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يُستَمَعْ، ومن سلك غيرَ سبيلِهم فلا يُتَّبعْ، "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً" [النساء:115]، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108].
فما لكم ـ يا عباد الله ـ ولهذه البدع؟! ءأمْنًا من مكر الله؟! أم تلبيسًا على عباد الله؟! أم منابذةً لمن النواصي بيديْه؟ أم غرورًا لمن الرجوع بَعدُ إليْه؟ فتوبوا واعتبِروا، وغيِّروا المناكرَ واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترَفين مَن دونهم، وعاقب الجمهورَ لمَّا أغضُّوا عن المنكر عيونَهم، وساءت بالغفلة عن الله عُقبى الجميع؛ ما بين العاصي والمداهن والمطيع.(/1)
أفيُزِلُّكم الشيطان وكتاب الله بين أيديكُم؟! أم كيف يضلُّكم وسنةُ نبيِّكم تناديكُم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، "وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" [الزمر:54].
ومن أراد منكم التقرّبَ بصدقةٍ، أو وُفِّق لمعروفٍ أو إطعام أو نفقةٍ، فعلى من ذكرَ اللهُ في كتابِه، ووعدكم فيهم بجزيل ثوابِه، كذوي الضرورة غير الخافيَة، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافيَة، ففي مثل هذا تُسَدُّ الذرائِع، وفيه تُمتثَلُ أوامرُ الشرائع، "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ" [التوبة:60].
ولا يُتقرَّب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يَتقرَّب به الأولياء والصالحون، والأتقياء المفلحون: أكل الحلال، وقيام الليال، ومجاهدةُ النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال؛ البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآياتٌ تُتلَى، وسلوكُ الطريقةِ المثلى، وحجٌّ وجهادٌ ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحةٌ تُهدَى، وأمانةٌ تؤَدَّى، وخلقٌ على خلق القرآن يُحدَى، وصلاةٌ وصيام، واجتنابُ مواقعِ الآثام، وبيعُ النفس والمال من الله، "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ..." الآية [التوبة:111]، "وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ" [الأنعام:153]. الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأَحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والإِحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص، "أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً" [فاطر:8].
عن المقداد بن معد يكرب [2]: سمعت رسول الله يقول: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، وبين يديه راية يحملها، وأناسٌ يتبعونها، فيُسأل عنهم، ويُسألون عنه))، "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا" [البقرة:166،167].
فيجب على مَن ولاَّه الله من أمر المسلمين شيئًا من السلطان والخلائف أن يمنعوا هذه الطوائف من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع، فإنها تترك مراسمَ الدين خاليةً خاوية، والسكوتُ عن المناكر يحيل رياضَ الشرائع ذابلةً ذاوية، فمن المنقول عن الملل، والمشهورِ في الأواخر والأول، أنَّ المناكر والبدعَ إذا فشت في قوم أحاط بهم سوءُ كسبِهم، وأظلم ما بينهم وبين ربِّهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثُلات، وشحَّت السماء، وحلَّت النقماء، وغِيضَ الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفّت الضروع، ونقعت بركةُ الزروع؛ لأن سوءَ الأدب مع الله يفتح أبوابَ الشدائد، ويسدّ طرقَ الفوائد، والأدبُ مع الله ثلاثةٌ: حفظُ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعايةُ السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيقِ والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكلُّ ذلك كذبٌ على الله وافتراء، "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" [آل عمران:31]، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأنَّ هذه موعظةُ مودّع فما تعهَد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لمن وُلّي عليكم وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعِش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة))[3].
وها نحن ـ عبادَ الله ـ أرشدناكم وحذَّرناكم، فمن ذهب بعدُ لهذه المواسم أو أحدَثَ بدعةً في شريعة نبيِّه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسِه، وجرّ الوبال عليه وعلى أبناء جنسِه، وتلّه الشيطان للجبين، وخسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63].
----------
[1] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -بلفظ: ((خير الناس قرني...)).(/2)
[2] جاء في حاشية جريدة البصائر المنقول منها هذه الخطبة ما نصّه:"كذا في الأصل المنقول عنه (المقداد بن معديكرب)، ولا يوجد في الإصابة هذا الاسم، إنما الموجود المقداد بن الأسود والمقدام بن معديكرب، ولعله هو الصواب هنا، راجع ج3 من الإصابة، ص 454-455. وبعدُ فانظر من خرَّج الحديث وما رتبته فإني لم أقف عليه". وما استظهره المحشِّي هو الصواب، فقد أخرج هذا الحديث ابن أبي عاصم في السنة (1099)، والطبراني في الكبير (20/275) عن المقدام رضي الله عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (5/207-208) إلى الطبراني في الأوسط وقال:"فيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف"، وبه أيضا ضعفه الألباني في ظلال السنة.
[3] أخرجه أحمد (4/126 - 127) وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 - 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال:"هو حديث جيد، من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
سليمان بن عبد الله(/3)
التحذير من الشبهات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فإن كل إنسان له هدف يسعى إلى بلوغه في هذه الحياة , وهدف المسلم أن يصل إلى رضوان الله عز وجل ونعيم الجنة
(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الحشر : 8) فالفضل من الله هو الجنة .
ولابد من طريق واضح المعالم يوصل كل إنسان إلى هدفه , ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من معالم هذا الطريق في قوله "إن الحلال بيِّن وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لايعلمهن كثير من الناس , فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه , ألا وإن لكل ملك حمَى , ألا وإن حمى الله محارمه, ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب" أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه(صحيح البخاري رقم 52 , الإيمان (1/126) , صحيح مسلم , رقم 1599 , المساقاة (ص1219))
فقد تبين من هذا الحديث الشريف الطريقُ الموصل إلى الهدف السعيد , وهو طريق الحلال الخالص الخالي من الشبهات , وقد صدَّر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ببيان وضوح الحلال الخالص من شبهة الحرام ووضوح الحرام الخالص من شبهة الحلال , وذلك عند عامة المسلمين وخاصتهم, ولكن هناك بين الحلال والحرام أمور مشتبهة تخفى على كثير من الناس , وهذه الأمور المشتبهة كالقضايا التي اختلف العلماء في حلها وحرمتها بناء على تعارض الأدلة أو لغير ذلك من الأسباب, وبعض العلماء أدخل في ذلك المكروهات .
وذكر الحافظ ابن رجب أن الإمام أحمد بن حنبل فسر الشبهات باختلاط المال الحلال بالحرام, قال: ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط , فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد : ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا أو شيئا لايُعرف , قال: وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي , وإن كان المال قليلا اجتنبه كله , وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير(جامع العلوم والحكم /61)
فمن اتقى الشبهات فابتعد منها واكتفى بالحلال الواضح أمره فقد طلب البراءة لدينه, حيث اجتنب الأمور المشكوك فيها وأرسى قدميه على أمور واضحة لن يغير رأيه فيها فيما بعد, واستبرأ لعرضه , حيث حماه من طعن الناس فيه فيما إذا ارتكب أمورًا مشتبهة , وبعض الناس يسارع إلى الطعن في الآخرين من غير تثبت ولاروية ولا اطلاع على وجهة نظرهم فيما ذهبوا إليه .
"ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" قال الحافظ ابن رجب : والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام , فهذا يفسر بمعنيين : أحدهما أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنه شبهة ذريعةً إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح, وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث "ومن اجترأ على مايَشكُّ فيه من الإثم أوْشَكَ أن يواقع ما استبان" , والمعنى الثاني أن من أقدم على ماهو مشتبه عنده لايدري أهو حلال أو حرام فإنه لايأمن من أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادفُ الحرام وهو لايدري أنه حرام(جامع العلوم والحكم /63)
إن بين الحلال والحرام خيوطا دقيقة قد تخفى على بعض الناس, فمن قطعها فإنه يُخشى عليه الوقوع في الحرام , ومن احترس منها كان من الحرام أبعد وأنجى .
ذكر ابن المنيِّر عن شيخه القباري أنه كان يقول : المكروه عقبة بين العبد والحرام,فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام , والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه .
ذكره الحافظ ابن حجر وقال : ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسُقْ لفظها فيها من الزيادة "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال , من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه , ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه" قال: والمعنى : أن الحلال حيث يُخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو حرام ينبغي اجتنابه , كالإكثار مثلا من الطيبات فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لايستحق , أو يفضي إلى بطر النفس , وأقل مافيه الاشتغال عن مواقف العبودية , وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان(فتح الباري 1/127).
فالمبالغة في المعيشة والمساكن والمراكب قد تلجئ الإنسان إلى الديون ثم إلى الكسب الحرام أو أخذ المال بالربا , أو تأخير قضاء الناس حقوقهم , بينما الاقتصاد في أمور الحياة يجعل الإنسان أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن الانحراف .(/1)
والورع هو الذي يحمي المؤمن من الوقوع في الشبهات ويباعد بينه وبين الحرام , ولذلك نال به المتقون أعلى الدرجات , وارتفعت به منزلتهم عند المؤمنين , ولقد عَدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى أنواع العبادة كما جاء في قوله " يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس" أخرجه ابن ماجه وقال البوصيري : إسناده حسن(سنن ابن ماجه رقم 4217 , كتاب الزهد)
ولقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم من قارب المشتبهات بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرعى ماشيته فيه, فما هو داخل الحمى من المرعى ممنوع منه , فإذا قرب من حدود الحمى فإنه لايأمن أن تنفلت منه بعض ماشيته فترعى داخل الحمى , أو يشحَّ الكلأ خارج المرعى ويتكاثر داخله فيغضَّ الطرف عن ماشيته كي تصيب من المرعى داخل الحمى .
وهذا المثل يدل على أن الشبهات من المباح الذي قد يوصل إلى الحرام , كما أن ماحول الحمى مباح ولكن قد يوصل إلى الحمى .
ثم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان ملوك الأرض قد حموا لأنفسهم أجزاء من الأرض لمصالحهم الخاصة , ومع ذلك فقد تعارف الناس على الاعتراف بها ومراعاتها فإن الله عز وجل قد حمى عباده من المحارم أن يقعوا فيها حتى تتم سعادتهم في الدنيا والآخرة ولايبغي بعضهم على بعض, فأولى بمحارم الله جل وعلا أن تراعى وأن يتعارف المسلمين على حمايتها !!
ثم يبين صلى الله عليه وسلم أن جسد الإنسان مكوَّنٌ من أعضاء , وهذه الأعضاء مدفوعة بالغرائز , وأن لهذه الأعضاء حاكما تأتمر بأمره , إن أمرها بخير سارت في طريق الخير , وإن أمرها بشر وقعت فيه, ألا وهو القلب , وهو الذي يعبَّر عنه بالضمير والوجدان .
فالإنسان يرتفع بالعقل عن مرتبة البهيمية ويكون أهلا للخلافة في الأرض , فإن صلَح قلبه صلح جسده كله , بسموه نحو الأهداف العالية وترفُّعه عن الدنايا , وإن فسد قلبه فسد جسده كلُّه بالهبوط نحو الأهداف القريبة والارتكاس في الخطايا .(/2)
التحذير من الفتن
الحَمْدُ لِلَّهِ نحمده و نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون?[آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71]وبعد:
فإن الله خلق الثقلين من الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له وجعل الله الحياة الدنيا ميداناً للابتلاء والاختبار وبين لنا الحكمة من خلقنا وإيجادنا فقال جل وعلا في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم: ?وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? [هود:7]، وقال: ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ? [الكهف:7]
يريد الله من عباده أن يعملوا لعبادته وطاعته وأن يحسنوا العمل في هذه الحياة، وإحسان العمل يكون بتوحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ويكون بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه في كل شيء لأن الله عز وجل قد أرسل عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فبشر وأنذر، ونصح وحذر، وبلغ رسالة ربه، وترك الأمة على مثل البيضاء وضوحاً وجلاءً ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد بين - صلى الله عليه وسلم - مضلات الفتن والأهواء التي تضل القلوب وتعصف بالعقول وحذر منها - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير، وأرشدنا ووصانا بما يجب أن نفعله إذا هاجت الفتن. ونحن نعيش عصرنا هذا عصر الأهواء والفتن، فإننا بحاجة إلى معرفة ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، حتى نتقي ونحذر.
ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتن، أسمعكم بعضاً مما قاله الرسول الأكرم عليه صلاة الله، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : "عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين رجلاً منكم". وفي رواية للترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "شبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه ، وقال: كيف أنت يا عبد الله بن عمرو ، إذا بقيت في حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا فصاروا هكذا، قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم".(/1)
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره؟ قالوا : أجل، قال: تلك يكفرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء؟ وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مرباد كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، قال: وحدثته أن بينك وبينها باباً مغلقاً، يوشك أن يكسر، قال عمر: أكسر ؟ لا أبا لك ، فلو أنه فتح؟ لعله كان يعاد، قال : لا بل يُكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت، حديثاً ليس بالأغاليط".
"كالحصير عَوداً عَوداً"، قيل معناه: أن الفتن تحيط بالقلوب كالحصير المحبوس، ويقال: حصيره القوم: إذا أحاطوا به وضيقوا عليه"، وأما قوله "عوداً عوداً" أي: مرة بعد مرة، وأما بالضم "عُوداً عُوداً" كما في الرواية الأخرى فمعناه: أن الفتن تظهر على القلوب الواحدة بعد الأخرى، كما ينسج الحصير عوداً عوداً، وشظية بعد أخرى، وقد جاء في لفظ "عَوذاً عَوذاً" بالذال فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال غُفراً غُفراً وغفرانك، أن نسألك أن تعيذنا من ذلك.
وعن الترمذي وأبي داود وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار ، إلا ملة واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
وعن زيد بن عُميرة ، وكان من أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: ما كان يجلس مجلساً للذكر، إلا قال حين يجلس: الله حكمٌ قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والعبد والحر ، والصغير والكبير، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ وما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً" أخرجه أبو داود.
لقد رأينا وسمعنا حكماء وعلماء يتبنون الضلالات بأقوالهم وفتاويهم ، ورأينا الجهلاء والمنافقين ينطقون أحياناً بالصواب، فقط قال بعض السلف قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك!!؟؟
وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحةٌ لهم –أي ترجع إليهم مواشيهم- فيأتيهم رجل لحاجة ، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله –أي ينزل عليهم العقاب غِرة ويضع العلم- أي الجبل يوقعه عليهم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
نعم لقد وقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهناك من يبيح الزنا في ديار المسلمين، ويدعو إلى الفجور والسفور وإلى نشر الفساد والرذائل بين أفراد المجتمع ، فهذه الحملات المسعورة الموجهة إلى المرأة لتدمير دينها وأخلاقها وإخراجها عن طهرها وعفافها، والقذف بها في مستنقع الرذائل والشهوات، ويسمون ذلك بغير اسمه!!
وفي ديار الإسلام من يبيح الخمور والمسكرات والمخدرات ويروج لها ويسمح بها تصنيعاً وتوريداً وتهريباً بل وإعطاء التصاريح لها وأخذ الضرائب عليها ويسمونها يغير أسمائها.(/2)
هؤلاء الذين يفعلون ذلك مستحلين للفروج والخمور والمعازف متظاهرين ومجاهرين ومستخفين بفجورهم قد مرقوا من الدين وحاربوا المسلمين. فإن الله جل وعلا يخسف بهم الأرض، وينزل عليهم العقوبات العاجلة، بتدمير بعضهم ، ومسخ آخرين قردة وخنازير، إما مسخاً حقيقياً بأن يحولهم الله قردة وخنازير كما فعل بالسابقين، وإما أن يكون مسخاً معنوياً في طباعهم وأخلاقهم فترى أحدهم قد تجرد عن إنسانيته وتحول إلى قرد أو خنزير في طباعه وأخلاقه، فلا إيمان ولا دين ولا خلق ولا غيرة ولا شهامة ولا حياء فصورته صورة إنسان وطباعه وأخلاقه كطباع القردة والخنازير وهذا معروف ومشاهد يعلمه ويراه المؤمنون المتوسمون. وهذا نوع من العقاب عظيم. نسأل الله العفو والعافية ونسأل الله العفاف والتقوى، ونعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الخطبة الثانية
إن أعظم خطر يراه اليهود والنصارى وأهل الشرك والكفر قاطبة، هو أن يجتمع المسلمون ويعتصموا بدينهم. ولذلك فقد خططوا منذ زمن بعيد على تفتيت وحدة المسلمين، وبذروا فيما بينهم عوامل التمزق والاختلاف من إحياء القوميات والوطنيات العرفية، ثم المذاهب السياسية والفكرية الهدامة التي دمرت المجتمعات ومزقتها، ثم هذه الديمقراطيات التي فرضها النظام العالمي الجديد بكل مسائها التي تدعو صراحة إلى تحطيم كل القيم الإيمانية والأخلاقية ونشر الإباحية، وتفتيت الأسر والمجتمعات وإذابة مقوماتها وخصائصها بواسطة هذه المفاهيم الوافدة. ولقد نجح أعداء الله في ذلك أيما نجاح. لقد انفرط عقد المسلمين وتفرقوا شيعاً وفرقا، وتمزقوا إلى طوائف ودول، ففي كل قرية منهم أمير المؤمنين ومنبر، حرب على بعضهم, سلم لأعدائهم, فأضاعوا دينهم ودنياهم، ولو أنهم اعتصموا بدينهم ونصحوا لأمتهم وساروا في طريق الوحدة والاجتماع لما حصل الذي حصل من تكالب الأعداء وتداعيهم على المسلمين, ولن يرفع عنا هذا الذل والهوان إلا إذا رجعنا إلى ديننا وطبقنا أحكامه في حياتنا ، وآمنا بعظمة هذا الدين وحملنا رسالته للعالمين. وأحيينا الأخوة والوحدة الإسلامية وكنا كما أراد الله لنا أن نكون أمة واحدة ، ونكون كالجسد الواحد السليم الصحيح إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره.
قضايا الإسلام والمسلمين لابد أن تكون في مقدمة اهتمامنا وإعلامنا. هذه الاستراتيجية الإعلامية التي وضعها لنا الأعداء لابد من تعديلها وتصحيحها ، نرى في كل البلدان الإسلامية أول حدث إعلامي في نشرات الأخبار الحديث عن الرئيس أو الملك عن سفره وإقامته وعن أكله وشربه، ثم عن الفن والرياضة والاحتفالات والرقصات ثم إذا بقي وقت للحديث عن المجازر والكوارث التي يتعرض لها المسلمون في العالم تكون في مؤخرة الأنباء وتستقي تحليلاتها وصياغتها من وكالات الأنباء العالمية التي يمتلكها اليهود والنصارى.
هذه فلسطين التي باعها الزعماء وتآمروا عليها عبر قرن من الزمن لم تعد تذكر إلا أنها قضية هامشية يقرر فيها الأعداء ما يريدون أما المسلمون فقد غيبوا عنها وكأن لا شأن لهم بها.
هذه الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في الشيشان ضد المسلمين ألا تستدعي من زعماء العالم الإسلامي أن يجتمعوا ويتدارسوا أمرها ويقرروا فيها قراراً أو يتخذوا حيالها رأياً، ما بالهم ما الذي أصابهم ، إنها الذلة والمسكنة والعبودية والخنوع لغير الله أوصلتنا إلى ما نحن فيه من التشرذم والتنافر.
ولكن أليس لهذا الليل من آخر؟ بلا: ولكن لابد من الإرادة والقوة والعزيمة الصادقة أولاً في وجوب التغيير، تغيير النفوس والأفكار والانتقال من المعصية إلى الطاعة ومن التبعية الذليلة إلى التمسك بالهوية وتطبيق توجيهات القرآن، ثم الأخذ بالعمل الجاد في كل الميادين وتوجيه الأمة توجيهاً سليماً وبنائها بناء صحيحاً فما يقال في المؤسسات التعليمية هو ما ينبغي أن يقال في الإعلام والتوجيه.
لتنطلق الأمة انطلاقة موحدة لتحقيق أهدافها الربانية في هذه الحياة. وإن من خصائص هذه الأمة أنها إذا توجهت للخير والبناء فإن الله يكرمها ويختصر لها الزمن والمسافات والإمكانيات ويبارك في جهدها ، فما لا يتم إنجازه إلا في مائة عام يمكن أن ينجز في خلال عقد من الزمن، إذا صدقت مع الله ، لقد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأييد الله ثم بالمؤمنين الصادقين الذين معه أن يغيروا الحياة التي كانت مملوءة ظلماً وظلاماً وجهلاً وانحرافاً. استطاعوا أن يغيروا واقعها خلال ثلاث وعشرين سنة هي عمر الدعوة والرسالة فأشرقت الأرض بنور ربها، وتحطمت عروش الطواغيت وتحررت الشعوب ودانت لله بالوحدانية ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
ولقد أراد الله لهذا الدين أن يبقى ويحكم في هذه الأرض ويظهر على كل الأديان رغم أنوف الكافرين.. ولكن لابد له من أمة تحمله ورجال يصدقوا الله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/3)
سنن أبي داود باب الأمر والنهي برقم 4341 . وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم 934.
سنن الترمذي: أبواب تفسير القرآن، عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ومن سورة المائدة. برقم 3058، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم 585.
في صحيح البخاري: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره برقم 466 عن واقد عن أبيه قال سمعت أبي وهو يقول قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن عمرو كيف بك في حثالة من الناس بهذا".
وأما اللفظ المذكور في الخطبة فهو في صحيح ابن حبان ذكر ما يجب على المرء من لزوم خاصة نفسه وإصلاح عمله عند تغيير الأمر ووقوع الفتن برقم 5951. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8185 بلفظ :" يوشك أن يأتي زمان يغربل فيه الناس غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم، وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا – وشبك بين أصابعه – قالوا : كيف بنا يا رسول الله؟ قال : تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم".
لم أجده في البخاري وهو في صحيح مسلم: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين برقم 144
وقيل أن الفتن تلصق بالقلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم
سنن الترمذي باب ما جاء في افتراق هذه الأمة برقم 2641. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2129.
سنن أبي داود باب لزوم السنة برقم 4611. وصحح الألباني إسناده موقوفا في صحيح أبي داود برقم 3855.
صحيح البخاري باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه برقم 5268.(/4)
التحذير من الفتن
الحَمْدُ لِلَّهِ نحمده و نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون?[آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71]وبعد:
فإن الله خلق الثقلين من الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له وجعل الله الحياة الدنيا ميداناً للابتلاء والاختبار وبين لنا الحكمة من خلقنا وإيجادنا فقال جل وعلا في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم: ?وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? [هود:7]، وقال: ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ? [الكهف:7]
يريد الله من عباده أن يعملوا لعبادته وطاعته وأن يحسنوا العمل في هذه الحياة، وإحسان العمل يكون بتوحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ويكون بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه في كل شيء لأن الله عز وجل قد أرسل عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، فبشر وأنذر، ونصح وحذر، وبلغ رسالة ربه، وترك الأمة على مثل البيضاء وضوحاً وجلاءً ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد بين - صلى الله عليه وسلم - مضلات الفتن والأهواء التي تضل القلوب وتعصف بالعقول وحذر منها - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير، وأرشدنا ووصانا بما يجب أن نفعله إذا هاجت الفتن. ونحن نعيش عصرنا هذا عصر الأهواء والفتن، فإننا بحاجة إلى معرفة ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، حتى نتقي ونحذر.
ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتن، أسمعكم بعضاً مما قاله الرسول الأكرم عليه صلاة الله، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: قلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : "عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين رجلاً منكم". وفي رواية للترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر".
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "شبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه ، وقال: كيف أنت يا عبد الله بن عمرو ، إذا بقيت في حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا فصاروا هكذا، قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم".(/1)
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره؟ قالوا : أجل، قال: تلك يكفرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء؟ وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مرباد كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، قال: وحدثته أن بينك وبينها باباً مغلقاً، يوشك أن يكسر، قال عمر: أكسر ؟ لا أبا لك ، فلو أنه فتح؟ لعله كان يعاد، قال : لا بل يُكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت، حديثاً ليس بالأغاليط".
"كالحصير عَوداً عَوداً"، قيل معناه: أن الفتن تحيط بالقلوب كالحصير المحبوس، ويقال: حصيره القوم: إذا أحاطوا به وضيقوا عليه"، وأما قوله "عوداً عوداً" أي: مرة بعد مرة، وأما بالضم "عُوداً عُوداً" كما في الرواية الأخرى فمعناه: أن الفتن تظهر على القلوب الواحدة بعد الأخرى، كما ينسج الحصير عوداً عوداً، وشظية بعد أخرى، وقد جاء في لفظ "عَوذاً عَوذاً" بالذال فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال غُفراً غُفراً وغفرانك، أن نسألك أن تعيذنا من ذلك.
وعن الترمذي وأبي داود وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار ، إلا ملة واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
وعن زيد بن عُميرة ، وكان من أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: ما كان يجلس مجلساً للذكر، إلا قال حين يجلس: الله حكمٌ قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والعبد والحر ، والصغير والكبير، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ وما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً" أخرجه أبو داود.
لقد رأينا وسمعنا حكماء وعلماء يتبنون الضلالات بأقوالهم وفتاويهم ، ورأينا الجهلاء والمنافقين ينطقون أحياناً بالصواب، فقط قال بعض السلف قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك!!؟؟
وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحةٌ لهم –أي ترجع إليهم مواشيهم- فيأتيهم رجل لحاجة ، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله –أي ينزل عليهم العقاب غِرة ويضع العلم- أي الجبل يوقعه عليهم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".
نعم لقد وقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهناك من يبيح الزنا في ديار المسلمين، ويدعو إلى الفجور والسفور وإلى نشر الفساد والرذائل بين أفراد المجتمع ، فهذه الحملات المسعورة الموجهة إلى المرأة لتدمير دينها وأخلاقها وإخراجها عن طهرها وعفافها، والقذف بها في مستنقع الرذائل والشهوات، ويسمون ذلك بغير اسمه!!
وفي ديار الإسلام من يبيح الخمور والمسكرات والمخدرات ويروج لها ويسمح بها تصنيعاً وتوريداً وتهريباً بل وإعطاء التصاريح لها وأخذ الضرائب عليها ويسمونها يغير أسمائها.(/2)
هؤلاء الذين يفعلون ذلك مستحلين للفروج والخمور والمعازف متظاهرين ومجاهرين ومستخفين بفجورهم قد مرقوا من الدين وحاربوا المسلمين. فإن الله جل وعلا يخسف بهم الأرض، وينزل عليهم العقوبات العاجلة، بتدمير بعضهم ، ومسخ آخرين قردة وخنازير، إما مسخاً حقيقياً بأن يحولهم الله قردة وخنازير كما فعل بالسابقين، وإما أن يكون مسخاً معنوياً في طباعهم وأخلاقهم فترى أحدهم قد تجرد عن إنسانيته وتحول إلى قرد أو خنزير في طباعه وأخلاقه، فلا إيمان ولا دين ولا خلق ولا غيرة ولا شهامة ولا حياء فصورته صورة إنسان وطباعه وأخلاقه كطباع القردة والخنازير وهذا معروف ومشاهد يعلمه ويراه المؤمنون المتوسمون. وهذا نوع من العقاب عظيم. نسأل الله العفو والعافية ونسأل الله العفاف والتقوى، ونعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الخطبة الثانية
إن أعظم خطر يراه اليهود والنصارى وأهل الشرك والكفر قاطبة، هو أن يجتمع المسلمون ويعتصموا بدينهم. ولذلك فقد خططوا منذ زمن بعيد على تفتيت وحدة المسلمين، وبذروا فيما بينهم عوامل التمزق والاختلاف من إحياء القوميات والوطنيات العرفية، ثم المذاهب السياسية والفكرية الهدامة التي دمرت المجتمعات ومزقتها، ثم هذه الديمقراطيات التي فرضها النظام العالمي الجديد بكل مسائها التي تدعو صراحة إلى تحطيم كل القيم الإيمانية والأخلاقية ونشر الإباحية، وتفتيت الأسر والمجتمعات وإذابة مقوماتها وخصائصها بواسطة هذه المفاهيم الوافدة. ولقد نجح أعداء الله في ذلك أيما نجاح. لقد انفرط عقد المسلمين وتفرقوا شيعاً وفرقا، وتمزقوا إلى طوائف ودول، ففي كل قرية منهم أمير المؤمنين ومنبر، حرب على بعضهم, سلم لأعدائهم, فأضاعوا دينهم ودنياهم، ولو أنهم اعتصموا بدينهم ونصحوا لأمتهم وساروا في طريق الوحدة والاجتماع لما حصل الذي حصل من تكالب الأعداء وتداعيهم على المسلمين, ولن يرفع عنا هذا الذل والهوان إلا إذا رجعنا إلى ديننا وطبقنا أحكامه في حياتنا ، وآمنا بعظمة هذا الدين وحملنا رسالته للعالمين. وأحيينا الأخوة والوحدة الإسلامية وكنا كما أراد الله لنا أن نكون أمة واحدة ، ونكون كالجسد الواحد السليم الصحيح إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره.
قضايا الإسلام والمسلمين لابد أن تكون في مقدمة اهتمامنا وإعلامنا. هذه الاستراتيجية الإعلامية التي وضعها لنا الأعداء لابد من تعديلها وتصحيحها ، نرى في كل البلدان الإسلامية أول حدث إعلامي في نشرات الأخبار الحديث عن الرئيس أو الملك عن سفره وإقامته وعن أكله وشربه، ثم عن الفن والرياضة والاحتفالات والرقصات ثم إذا بقي وقت للحديث عن المجازر والكوارث التي يتعرض لها المسلمون في العالم تكون في مؤخرة الأنباء وتستقي تحليلاتها وصياغتها من وكالات الأنباء العالمية التي يمتلكها اليهود والنصارى.
هذه فلسطين التي باعها الزعماء وتآمروا عليها عبر قرن من الزمن لم تعد تذكر إلا أنها قضية هامشية يقرر فيها الأعداء ما يريدون أما المسلمون فقد غيبوا عنها وكأن لا شأن لهم بها.
هذه الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في الشيشان ضد المسلمين ألا تستدعي من زعماء العالم الإسلامي أن يجتمعوا ويتدارسوا أمرها ويقرروا فيها قراراً أو يتخذوا حيالها رأياً، ما بالهم ما الذي أصابهم ، إنها الذلة والمسكنة والعبودية والخنوع لغير الله أوصلتنا إلى ما نحن فيه من التشرذم والتنافر.
ولكن أليس لهذا الليل من آخر؟ بلا: ولكن لابد من الإرادة والقوة والعزيمة الصادقة أولاً في وجوب التغيير، تغيير النفوس والأفكار والانتقال من المعصية إلى الطاعة ومن التبعية الذليلة إلى التمسك بالهوية وتطبيق توجيهات القرآن، ثم الأخذ بالعمل الجاد في كل الميادين وتوجيه الأمة توجيهاً سليماً وبنائها بناء صحيحاً فما يقال في المؤسسات التعليمية هو ما ينبغي أن يقال في الإعلام والتوجيه.
لتنطلق الأمة انطلاقة موحدة لتحقيق أهدافها الربانية في هذه الحياة. وإن من خصائص هذه الأمة أنها إذا توجهت للخير والبناء فإن الله يكرمها ويختصر لها الزمن والمسافات والإمكانيات ويبارك في جهدها ، فما لا يتم إنجازه إلا في مائة عام يمكن أن ينجز في خلال عقد من الزمن، إذا صدقت مع الله ، لقد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتأييد الله ثم بالمؤمنين الصادقين الذين معه أن يغيروا الحياة التي كانت مملوءة ظلماً وظلاماً وجهلاً وانحرافاً. استطاعوا أن يغيروا واقعها خلال ثلاث وعشرين سنة هي عمر الدعوة والرسالة فأشرقت الأرض بنور ربها، وتحطمت عروش الطواغيت وتحررت الشعوب ودانت لله بالوحدانية ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
ولقد أراد الله لهذا الدين أن يبقى ويحكم في هذه الأرض ويظهر على كل الأديان رغم أنوف الكافرين.. ولكن لابد له من أمة تحمله ورجال يصدقوا الله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/3)
سنن أبي داود باب الأمر والنهي برقم 4341 . وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم 934.
سنن الترمذي: أبواب تفسير القرآن، عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ومن سورة المائدة. برقم 3058، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم 585.
في صحيح البخاري: باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره برقم 466 عن واقد عن أبيه قال سمعت أبي وهو يقول قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله بن عمرو كيف بك في حثالة من الناس بهذا".
وأما اللفظ المذكور في الخطبة فهو في صحيح ابن حبان ذكر ما يجب على المرء من لزوم خاصة نفسه وإصلاح عمله عند تغيير الأمر ووقوع الفتن برقم 5951. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8185 بلفظ :" يوشك أن يأتي زمان يغربل فيه الناس غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم، وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا – وشبك بين أصابعه – قالوا : كيف بنا يا رسول الله؟ قال : تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم".
لم أجده في البخاري وهو في صحيح مسلم: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين برقم 144
وقيل أن الفتن تلصق بالقلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم
سنن الترمذي باب ما جاء في افتراق هذه الأمة برقم 2641. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2129.
سنن أبي داود باب لزوم السنة برقم 4611. وصحح الألباني إسناده موقوفا في صحيح أبي داود برقم 3855.
صحيح البخاري باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه برقم 5268.(/4)
التحذير من القمار وشرب المسكر وبيوع الغرر
القسم : إملاءات > مقالات
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وآله وصحبه ، أما بعد :
فإن الله سبحانه أحل لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات لحاجة العباد إليها وعظيم نفعها وسلامتها من الضرر ، وحرم عليهم عز وجل جميع الخبائث من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات لعظم ضررها وعدم نفعها أو قلته في جنب المضرة الغالبة ، قال تعالى في سورة المائدة : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[1] وقال تعالى في السورة المذكورة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[2] وقال تعالى في سورة الأعراف في وصف نبينا وسيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[3] أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أنه أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث ، وبين سبحانه أن من جملة الخبائث الخمر لعظم مضرتها وسلبها العقول وجلبها الشحناء والعداوة بين المتعاطين لها وغيرهم وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهي أم الخبائث ووسيلة الرذائل ، وهي من أقبح الكبائر وأعظم الجرائم ، وقد وعد الله من مات عليها أن يسقيه من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار نستجير بالله من ذلك .
ومن جملة الخبائث الكسبية : الميسر وهو القمار وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة التي منها سلب الثروات وأكل المال بغير حق وجلب الشحناء والعداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وكثير من الناس اليوم يتعاطى الميسر ولا يبالي بما قاله الله ورسوله في تحريمه والنهي عنه ولا بما يترتب عليه من المفاسد والأضرار وذلك لما جبلت عليه القلوب من الجشع والطمع والحرص على استحصال المال بكل وسيلة ولو كان في ذلك غضب الله وعقابه ، بل ولو كان في ذلك ذهاب ماله وتلف نفسه في العاقبة إلا من شاء الله من العباد ، وما ذاك إلا لسكر القلوب بحب المال والحرص عليه ونسيان ما يترتب على وسائله المحرمة كالقمار وبيع الغرر من العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر ومن المعاملة الداخلة في القمار وفي بيع الغرر ما حدث في هذا العصر من وضع بعض الشركات والتجار جوائز خفية في بعض السلع التي يراد بيعها طمعا في استنزاف ثروات المسلمين وترغيبا لهم في شراء السلع المشتملة على الجوائز بأغلى من ثمنها المعتاد والاستكثار من تلك السلع رجاء الظفر بتلك الجوائز ، ولا ريب أن هذه المعاملات من الميسر ومن بيع الغرر؛ لأن المشتري يبذل ماله الكثير رجاء مال مجهول لا يدري هل يظفر به أم لا وهذا من الميسر وبيع الغرر الذي حذر الله ورسوله منه ، وهكذا بيع البطاقات ذوات الأرقام ليفوز مشتريها ببعض الجوائز إذا حصل على الرقم المطلوب ، ولا شك أن هذا العمل من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من المخاطرة وأكل الأموال بالباطل . فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه المعاملات المحرمة وحذروا منها إخوانكم واحرصوا على حفظ أموالكم وعدم صرفها إلا فيما تتحققون منفعته وسلامته مما يخالف شرع الله ، وإياكم أن تساعدوا أعداءكم وأرباب الجشع من التجار والشركات بما يسلب أموالكم ويغضب الله عليكم ، ويجب على الحكومة وفقها الله لكل خير أن تمنع هذه المعاملات وأن تمنع ورود هذه السلع المشتملة على الجوائز التي توقع الناس في القمار وتسلب الأموال وتضر المجتمع ، نسأل الله أن يوفق الحكومة والمسلمين لما فيه صلاح البلاد والعباد وأن يهدينا وتجارنا وشركاتنا وسائر المسلمين لما يرضي الله ويقرب لديه وينفع المسلمين إنه على كل شيء قدير . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه .
________________________________________
[1] - سورة المائدة الآية 4.(/1)
[2] - سورة المائدة الآيات 90-92.
[3] - سورة الأعراف الآية 157.(/2)
التحذير من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد : فمن الظواهر السيئة ما نراه هذه الأيام من كثير من الأبناء من العقوق للوالدين ، وما نشاهده بين الأقارب من القطيعة ، وفيما يلي كلمات سريعة في التحذير من عقوق الوالدين والحث على برِّهما ، والتحذير من قطيعة الرحم وبيان الآداب التي ينبغي أن تراعى مع الأقارب ، نسأل الله أن ينفع بها .
أولاً : التحذير من عقوق الوالدين والحث على برهما
من صور العقوق :
1- إبكاء الوالدين وتحزينهما بالقول أو الفعل .
2- نهرهما وزجرهما ، ورفع الصوت عليهما .
3- التأفف من أوامرهما .
4- العبوس وتقطيب الجبين أمامهما ، والنظر إليهما شزراً .
5- الأمر عليهما .
6- انتقاد الطعام الذي تعده الوالدة .
7- ترك الإصغاء لحديثهما .
8- ذم الوالدين أمام الناس .
9- شتمهما .
10- إثارة المشكلات أمامهما إما مع الأخوة ، أو مع الزوجة .
11- تشويه سمعتهما .
12- إدخال المنكرات للمنزل ، أو مزاولة المنكرات أمامهما .
13- المكث طويلاً خارج المنزل ، مع حاجة الوالدين وعدم إذنهما للولد في الخروج .
14- تقديم طاعة الزوجة عليهما .
15- التعدي عليهما بالضرب .
16- إيداعهم دور العجزة .
17- تمني زوالهما .
18- قتلهما عياذاً بالله .
19- البخل عليهما والمنة ، وتعداد الأيادي .
20- كثرة الشكوى والأنين أما الوالدين .
الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الوالدين :
1- طاعتهما بالمعروف ،والإحسان إليهما ، وخفض الجناح لهما .
2- الفرح بأوامرهما ومقابلتهما بالبشر والترحاب .
3- مبادأتهما بالسلام وتقبيل أيديهما ورؤسهما .
4- التوسعة لهما في المجلس والجلوس ، أمامهما بأدب واحترام ، وذلك بتعديل الجلسة، والبعد عن القهقهة أمامهما ، والتعري ، أو الاضطجاع ، أو مد الرجل ، أو مزاولة المنكرات أمامهما ، إلى غير ذلك مما ينافي كمال الأدب معهما .
5- مساعدتهما في الأعمال .
6- تلبية ندائهما بسرعة .
7- البعد عن إزعاجهما ، وتجنب الشجار وإثارة الجدل بحضرتهما .
8- ان يمشي أمامها بالليل وخلفهما بالنهار .
9- ألا يمدَّ يدَه للطعام قبلهما .
10- إصلاح ذات البين إذا فسدت بين الوالدين .
11- الاستئذان عليهما حال الدخول عليهما ، أو حال الخروج من المنزل .
12- تذكيرهما بالله ، وتعليمهما ما يجهلانه ، وأمرهما بالمعروف ، ونهيهما عن المنكر مع مراعاة اللطف والإشفاق والصبر .
13- المحافظة على سمعتهما وذلك بحس السيرة ، والاستقامة ، والبعد عن مواطن الريب وصحبة السوء .
14- تجنب لومهما وتقريعهما والتعنيف عليهما .
15- العمل على ما يسرهما وإن لم يأمرا به .
16- فهم طبيعة الوالدين ، ومعاملتهما بذلك المقتضى .
17- كثرة الدعاء والاستغفار لهما في الحياة وبعد الممات .
الأمور المعينة على البر :
1- الاستعانة بالله .
2- استحضار فضائل البر ، وعواقب العقوق .
3- استحضار فضل الوالدين .
4- الحرص على التوفيق بين الوالدين والزوجة .
5- تقوى الله في حالة الطلاق ، وذلك بأن يوصي كل واحد من الوالدين أبناءه ببر الأخر ، حتى يبروا الجميع .
6- قراءة سيرة البارين بوالديهم .
7- أن يضع الولد نفسه موضع الوالدين .
ثانياً : قطيعة الرحم – أسبابها – علاجها
* الرحم هم القرابة , وقطيعة الرحم هجرهم , وقطعهم .
والصلة ضد القطيعة , وهي كناية عن الإحسان إلى الأقارب , والرفق بهم , والرعاية لأحوالهم .
أسباب قطيعة الرحم :
1- الجهل
2- ضعف التقوى
3- الكبر
4- الانقطاع الطويل الذي يسبب الوحشة والنسيان
5- العتاب الشديد من بعض الأقارب مما يسبب النفرة منه
6- التكلف الزائد , مما يجعل الأقارب لا يحرصون على المجيء إلى ذلك الشخص , حتى لا يقع في الحرج .
7- قلة الاهتمام بالزائرين من الأقارب
8- الشح والبخل من بعض الناس , ممن وسع الله عليه في الدنيا , فتجده لا يواصل أقاربه , حتى لا يخسر بسببهم شيئاً من المال , إما بالاستدانة منه أو غير ذلك .
9- تأخير قسمة الميراث بين الأقارب .
10- الشراكة المبنية على المجاملة بين الأقارب .
11- الاشتغال بالدنيا.
12- الطلاق بين الأقارب.
13- بُعْد المسافة والتكاسل عن الزيارة .
14- قلة تحمل الأقارب .
15- الحسد فيما بينهم
16- نسيانهم في الولائم , مما يسبب سوء الظن فيما بينهم .
17- كثرة المزاح .
18- الوشاية والإصغاء إليها .
فضائل صلة الرحم
1- صلة الرحم شعار الإيمان بالله , واليوم الآخر.
2- سبب لزيادة العمر , وبسط الرزق .
3- تجلب صلة الله للواصل .
4- هي من أعظم أسباب دخول الجنة .
5- هي من محاسن الإسلام .
6- وهي مما اتفقت عليه الشرائع
7- هي دليل على كرم النفس , وسعة الأفق .
8- وهي سبب لشيوع المحبة , والترابط بين الأقارب.
9- وهي ترفع من قيمة الواصل .
10- صلة الرحم تعمر الديار .
11- وتيسر الحساب .
12- وتكفر الذنوب والخطايا .
13- وتدفع ميتة السوء .
الآداب والأمور التي ينبغي سلوكها مع الأقارب :(/1)
1- استحضار فضل الصلة , وقبح القطيعة .
2- الاستعانة بالله على الصلة .
3- توطين النفس وتدريبها على الصبر على الأقارب والحلم عليهم .
4- قبول أعذارهم إذا أخطأوا واعتذروا.
5- الصفح عنهم ونسيان معايبهم ولو لم يعتذروا .
6- التواضع ولين الجانب لهم .
7- بذل المستطاع لهم من الخدمة بالنفس والجاه والمال .
8- ترك المنة عليهم , والبعد عن مطالبتهم بالمثل .
9- الرضا بالقليل منهم .
10- مراعاة أحوالهم , ومعرفة طبائعهم , ومعاملتهم بمقتضى ذلك .
11- إنزالهم منازلهم .
12- ترك التكلف معهم , ورفع الحرج عنهم
13- تجنب الشدة في معاتبتهم إذا أبطأوا .
14- تحمل عتابهم إذا عاتبوا, وحمله على أحسن المحامل .
15- الاعتدال في المزاح معهم .
16- تجنب الخصام , وكثرة الملاحاة والجدال العقيم معهم .
17- المبادرة بالهدية إن حدث خلاف معهم .
18- أن يتذكر الإنسان أن الأقارب لحمة منه لابد له منهم , ولا فكاك له عنهم .
19- أن يعلم أن معاداتهم شرٌّ وبلاء , فالرابح في معاداة أقاربه خاسر , والمنتصر مهزوم .
20- الحرص على ألا ينسى أحداً منهم في الولائم قدر المستطاع .
21- الحرص على إصلاح ذات البين إذا فسدت .
22- تعجيل قسمة الميراث .
23- الاجتماعات الدورية .
24- تكوين صندوق للأسرة .
25- الحرص على الوئام والاتفاق حال الشراكة .
26- يراعي في ذلك أن تكون الصلة لله وحده , وأن تكون تعاوناً على البر والتقوى , ولا يقصد بها حمية الجاهلية الأولى .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(/2)
التحذير من كبائر الذنوب
دار الوطن
الحمد لله الهادي إلى الطريق المستقيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد..
يقول الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما، وقال سبحانه: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة .
إذا علم هذا فإنه يتعين على كل مسلم أن يعرف هذه الكبائر تمام المعرفة، ويجتهد في اجتنابها والبعد عن اقترافها، لئلا تكون حائلا بينه وبين وعد الله له بالمغفرة الواسعة والمدخل الكريم، خصوصا وأن النبي حذرنا من اقترافها بقوله: { الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر } [مسلم والترمذي].
وفي هذه الرسالة عدد من الكبائر التي يجدر بكل مسلم أن يوليها اهتمامه، علما بها وحذرا من اقترافها، وقد راعينا في اختيارها ما يهم السواد الأعظم من الناس، فنسأل لله تعالى أن يقينا وسائر المسلمين الذنوب والمعاصي، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
1- الشرك بالله تعالى: قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [المائدة:72]، وقال النبي : { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله.. } [متفق عليه]. وهو نوعان: شرك أكبر وهو عبادة غير الله، أو صرف أي شيء من العبادة لغير الله، وشرك أصغر ومنه الرياء، قال تعالى في الحديث القدسي: { أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه } [رواه مسلم].
2- قتل النفس: قال تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [النساء:93]، وقال النبي : { اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله... } [متفق عليه].
3- السحر: قال الله تبارك وتعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [البقرة:102]، وقال : { اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله... } [متفق عليه].
4- ترك الصلاة: قال تعالى: وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب... [مريم:59]. قال : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر } [رواه أحمد والترمذي والنسائي].
5- منع الزكاة: قال تعالى: وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [فصلت:6].
6- عقوق الوالدين: قال تعالى؟ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23- 24]. وقال عليه الصلاة والسلام: { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟.. } فذكر منها عقوق الوالدين. [متفق عليه]، وقال! عليه الصلاة والسلام: { رضا الله في ر ضا الوالد، وسخط الله في سخط الوا لد } [ رواه الترمذي وابن حبان].
7- الزنا: قال تعالى: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32]، وقال : { إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه } [رواه أبو داودو الحاكم].
8- اللواط: قال تعالى عن قوم لوط: أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [الشعراء:165]، وقال النبي : { لعن الله من عمل عمل قوم لوط } [رواه النسائي].
9- أكل الربا: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [البقرة:278-279]، وقال : { لعن الله آكل الربا وموكله } [رواه مسلم].
10- أكل مال اليتيم: قال الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [النساء: 10]، وقال تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [الأنعام:152].
11- الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله : قال تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [الزمر:60]، وقال : { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } [رواه البخاري].
12- الكبر والفخر والخيلاء والعجب والتيه: قال تعالى: إنه لا يحب المستكبرين [النحل:23]، وقال : { لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر } [رواه مسلم].
13- شهادة الزور: قال تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [الحج:30]، وقال : { لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار } [رواه ابن ماجة والحاكم]. وقال غاباله: { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وقول الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت } [متفق عليه].(/1)
14- شرب الخمر: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [المائدة:90]، وقال : { لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها } [رواه أبو داود والحاكم].
وقال : {... ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } [متفق عليه].
15- القمار: قال تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [المائدة:90].
16- قذف المحصنات: قال تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم [النور:23]، وقال : { من قذف مملوكة بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما. قال } [متفق عليه].
17- السرقة: قال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم [المائدة:38]، وقال : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن } [متفق عليه].
18- قطع الطريق: قال تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [المائدة:33].
19- اليمين الغموس: قال : { من حلف علي يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان } [رواه البخاري].
20- الظلم: ويكون بأكل أموال الناس وبالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء، قال تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227]، وقال : { اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة... } [رواه مسلم].
21- قتل النفس: قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا [النساء:30]، وقال : { لعن المؤمن كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقاتله، ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة } [متفق عليه].
22- الكذب في غالب الأقوال: قال الله تعالى: ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [آل عمران:61]، وقال : {.. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا } [متفق عليه].
23- الحكم بغير ما أنزل الله: قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
24- تشبه النساء بالرجال وتشبه الرجال بالنساء: قال : { لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء } [رواه البخاري].
25- الديوث: قال : { ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء } [رواه النسائي والحاكم وأحمد].
26- عدم التنزه من البول: وهو من فعل النصارى، قال تعالى: وثيابك فطهر ، وقال النبي وقد مر بقبرين: { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة } [متفق عليه].
27- الخيانة: قال تعالى: وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [يوسف:52]، وقال : { لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له }.
28- التعلم للدنيا وكتمان العلم: قال تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة:159]، وقال : { من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة } يعني ريحها. [رواه أبو داود].
29- المنان: قال تعالى: ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [البقرة:264]، وقال : { ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر } [رواه الطبراني وابن أبي عاصم].
30- المتسمع على الناس ما يسرونه: قال تعالى: ولا تجسسوا ، وقال النبي : { من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ } [رواه البخاري].
31- النميمة: قال تعالى ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم وقال النبي لما مر بقبرين: { إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة... } [رواه البخاري].
32- اللعن:قال : { لعن المؤمن كقتله } [متفق عليه].
33- تصديق الكاهن والمنجم: قال : { من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد } [رواه أحمد والحاكم].
34- نشوز المرأة على زوجها: قال الله تبارك وتعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا [النساء:34]، وقال النبي : { إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح } [رواه البخاري].
35- أذى الجار: قال : { لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوإئقه } [رواه مسلم].(/2)
36- غش الإمام للرعية: قال تعالى: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم [الشورى:42]، وقال النبي : { أيما راع غش رعيته فهو في النار } [رواه أحمد].
37- الإكل والشرب في آنية الذهب أو الفضة: قال : { إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب أو الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم } [رواه مسلم].
38- لبس الحرير والذهب للرجال: قال : { إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة } [رواه مسلم].
39- الجدل والمراء: قال : {...، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع.. } [رواه أبو داود].
40- نقص الكيل والميزان: قال تعالى: ويل للمطففين [المطففين:1].
41- الأمن من مكر الله: قال تعالى: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف:99]، وكان النبي أن يقول: { يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك فقيل له: يا رسول الله أتخاف علينا؟ فقال رسول : إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء } [رواه أحمد والترمذي والحاكم].
42- تكفير المسلم: قال : { من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما } [رواه البخاري].
43- ترك صلاة الجمعة والصلاة مع الجماعة: قال : { لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين } [رواه مسلم].
وقال : { من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر } [رواه ابن ماجة وابن حبان].
44- المكر والخديعة: قال الله تعالى: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [فاطر:43]، وقال : { المكر والخديعة في النار } [البيهقي في شعب الايمان].
45- سبه أحد من الصحابة: قال : { لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } [رواه البخاري].
46- النياحة على الميت:قال : { اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت } [رواه مسلم واحمد].
47- تغيير منار الأرض: قال صلى الله عله وسلم: {.. ولعن الله من غير منار الأرض } [رواه مسلم].
48- الواصلة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة والواشمة: قال : { لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله } [متفق عليه]، وقال : { لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة } [متفق عليه].
49- الإلحاد في الحرم: قالت الله تعالى: والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [الحج:25]، وسأل رجل النبي : ما الكبائر؟ قال : { هن تسع: الشرك بالله.. } وذكر منها: واستحلال البيت الحرام قبلتكم [ رواه أبو داود والنسائي].
50- إفطار رمضان بغير محذر، وترك الحج مع الاستطاعة: قال : { بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا وسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت } [متفق عليه].
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يعصمنا من الوقوع في شيء من هذه الكبائر، وأن يبيض وجوهنا: يوم تبيض وجوة وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .
أخي المسلم أختي المسلمة:
إذا أردتم الاستزادة فيمكنكم الرجوع إلى:
كتاب "الكبائر" للإمام الذهبي.
كتاب "الكبائر" للإمام محمد بن عبدالوهاب.
كتاب "محرمات استهان بها الناس" للشيخ محمد صالح المنجد.(/3)
التحذير من ..
دار الوطن
التحذير من الغناء والتصوير وحلق اللحية والإسبال للرجال والسفر إلى بلاد الكفرة وشرب الدخان
حكم الغناء والتصوير وحلق اللحى واسبال الثياب للرجال وكلمة للشيخ ابن باز رحمه الله
التحذير من الغناء
لسماحة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
إن الاستماع إلى الأغاني حرام ومنكر، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. وقد فسر اكثر أهل العلم قوله تعالى في ومن الناس من يشتري لهو الحديث بالغناء وكان عبد الله بن مسعود رضي لله عنه يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء. وإذا كان مع الغناء آلة لهو كأرباب والعود والكمأ والطبل صار التحريم أشد.وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلة لهر حرم إجماع. فالواجب الحذر من ذلك وقد صح عن رسول الله انه قال: { ليكون من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف } والحر هر الفرج الحرام - يعني الزنا والمعازف هي الأغاني وآلات الطرب.
وأوصيك وغيرك بسماع إذاعة القرآن الكريم وبرنامج نور على الدرب ففيهما فوافد عظيمة، وشغل شاغل عن سماع الأغاني وآلات الطرب.
أما الزواج فيشرع فيه ضرب الدف مع الغناء المعتاد الذي ليس فيه دعوة إلى محرم أتمدح لمحرم في وقت من الليل للنساء خاصة أتعلان النكاح والفرق بينه وبين السفاح كما صحت السنة بذلك عن النبي .
أما الطبل فلا يجوز ضربه في العرس، بل يكفى بالدف خاصة، ولا يجوز استعمال مكبرات الصوت في إعلان النكاح وما يقال فيه من الأغاني المعتادة لما في ذلك من الفتنة العظيمة والعواقب الوخيمة وإيذاء المسلمين ولا يجوز أيضا إطالة الوقت في ذلك بل اكتفى بالوقت القليل الذي يحصل به إعلان النكاح لأن إطالة الوقت تفذي إلى إضاعة صلاة الفجر والنوم عن أدانها في وقتها وذلك من أكبر المحرمات ومن أعمال المنافقين [انتهى].
هذه أدلة على تحريم الغناء من أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم: قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه: الغناء والعزف مزمار الثيطان. وقال الامام مالك بن أنس رضي الله عنه: الغناء إنما يفعله الفساق عندنا. والشافعية يشبهون الغناء بالباطل والمحال. وقال الامام احمد رحمه الله: الغناء ينبت النفاق في القلب فلا يعجبني. وقال اصحاب الامام ابي حنيفة رحمهم الله: استماع الأغاني فسق. وقال عمر بن العزيز. الغناء بدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن. وقال الامام القرطبي: الغناء ممنوع بالكتاب والسنة. وقال الامام ابن الصلاح: الغناء مع آلة الإجماع على تحريمه.
حكم التصوير
لسماحة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالة بن باز
السؤل: ما قولكم في حكم التصوير الذي عمت به البلوى وانهمك فيه الناس.
الجواب: الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح آدميا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور والأمر بطمس الصور ولعن المصورين وبيان أنهم أشد الناس عذابأ يوم القيامة، وأنا أذكر لك جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وأذكر بعض كلام العلماء عليها، وأبين ما هو الصواب في هذه المسالة إنشاء الله.
ففي الصحيحين عن أيى هريرة قال: قال رسول الله قال الله تعالى: { ومن اظلم ممن ذهب يخلق خلقأ كخلقي، فليخلقوا ذرة، او ليخلقوا حبة، او ليخلقوا شعيرة } [رواه مسلم]. ولهما أيضآعن أيى سعيدرضي الله عنه قال:قال رسول االله : { إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون } ولهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله : { إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ماخلقتم } [لفظ البخاري].
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة أن النبي نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن اكل الربا وموكله، والواشمة والمستوشمة والمصور.
وعن ابن عباس سمعت رسول الله قال: { من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ } [متفق عليه]. وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل الى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصرر فافتني فيها، فقال: ادن مني، فدنا منه ثم قال ادن مني، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه فقال: أنبؤك بما سمعت من رسول الله . سمعت رسول الله يقول: { كل مصو ر في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسآ تعذبه في جهنم } وقال إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجروما لا نفس له.
وخرج البخاري قوله: { إن كنت لا بد فاعلا } الخ... في آخر الحديث الذي قبله ما ذكره مسلم [انتهى].
(ومن أراد الاستزادة يرجع إلى الكتاب الذي نقلت منه هذه الفتوى وهو كتاب "حكم الإسلام في التصوير" ص 37، 38. للشيخ ابن باز)
حكم حلق اللحى
للشيخ / محمد بن صالح العثيمين(/1)
حلق اللحية محرم لأنه معصية لرسول الله ، فإن النبي قال: { أعفوا اللحى وحفوا الشوارب }، ولأنه خروج عن هدي المرسلين الى هدي المجوس والمشركين، وحد اللحية كما ذكره أهل اللغة هي شعر الوجه واللحيين والخدين بمعنى أن كل ما على الخدين وعلى اللحيين والذقن فهو من اللحية، وأخذ أي منها داخل في المعصية أيضأ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: { أعفوا اللحى... } { وأرخوا اللحى... } { ووفروا اللحى... } { وأوفوا اللحى... } وهذا يدل على أنه لايجوز أخذ شيء منها لكن المعاصي تتفاوت. فالحلق أعظم شيء منها، لأنه أعظم وأبين مخالفة من أخذ شي منها.
حكم الإسبال للرجال
للشيخ / محمد بن صالح العثيمين
إسبال الإزار إذا قصد به الخيلاء فعقوبته أن لا ينظرالله تعالى إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم. وأما إذا لم يقصد به الخيلاء فعقوبته أن يعذب ما نزل من الكعبين بالنار لأن النبي قال: { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب } وقال: { من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة } فهذا فيمن جر ثوبه خيلاء وأما من لم يقصد الخيلاء ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال ما أسفل الكعبين من الازار ففي النار. ولم يقيد ذلك بالخيلاء ولا يتضح أن يقيد بها بناء على الحديث الذي قبله لأن أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله : { إزره المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج } أو قال: { لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة } [رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه ذكره في كتاب الترغيب والترهيب]. ولأن العملين مختلفان والعقوبتين مختلفتان ومتى اختلف الحكم والسبب امتنع حمل المطلق على المقيد لما يلزم على ذلك من التناقض وأما من احتج بحديث أبي بكر فنقول له ليس لك حجة فيه من وجهين الأول أن أبا بكر قال إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه فهو لم يرخ ثوبه اختيالأ بل كان ذلك يسترخي ومع ذلك فهو يتعاهده. والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد فنقول لهم إن قصدتم إنزال ثيابكم أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عذبتم على ما نزل فقط وإن جررتم ثيابكم خيلاء عذبتم بما هو أعظم من ذلك لا يكلمكم الله يوم القيامة ولا ينظر إليكم ولا يزكيكم ولكم عذاب أليم. الوجه الثاني أن أبا بكر ان النبي شهد له أنه ليس ممن يصنع ذلك خيلاء فهل قال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم.
حكم شرب الدخان
للشيخ / محمد بن صالح العثيمين
أرجو من سماحتكم بيان حكم شرب الدخان والشيشة، مع ذكر الأدلة على ذلك.
شرب الدخان محرم وكذلك الشيشة والدليل على ذلك قوله تعالى: لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً وقول تعالى: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقد ثبت في الطب أن تناول هذه الاشياء مضر وإذا كان مضرا كان حراما ودليل اخر قوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما فنهى عن إتيان السفهاء أموالنا لأنهم يبذرونها ويفسدونها ولا ريب أن بذل الأموال في شراء الدخان والشيشة تبذير وإفساد لها فيكون منهيا عنه بدلالة هذه الآية ومن السنة أن رسول الله نهى عن إضاعة المال ولأن،النبي قال: { لا ضرر ولا ضرارا } وتناول هذه الأشياء موجب للضرر ولأن هذه الأشياء توجب للأنسان أن يتعلق بها فاذا فقدها ضاق صدره وضاقت عليه الدنيا، فادخل على نفسه أشياء هو في غنى عنها.
أخي المسلم..... أختي المسلمه
على كل منا أن يجتهد في الأمور الأتية:
- طلب العلم الشرعي من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
- تحقيق التوحيد وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
- أداء الصلاة في أوقاتها بخشوع وطمانينة.
- إخراج زكاة المال وغيره، وصرفها لمستحقيها.
- صوم رمضان والحرص على التنفل في غيره على الوجه المشروع.
- أداء فريضة الحج في أقرب وقت ممكن.
- صلة الأرحام بالتزاور والتناصح والتعاون على البر والتقوى.
- الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة مع الحرص على هداية الناس . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل حسب استطاعته.
- الاستفادة من الوقت واكثار من الأعمال الصالحة.
- تربية اللأولاد تربية صالحة.
- التخلق بالأخلاق الحميدة.
- الاكثار من الاستغفار والتوبة وذكر الله تعالى.
- تذكر الموت والحساب والجنة والنار.
- ستر عيوب المسلمين والدعاء لهم بظهرالغيب.
وعلى الاخت المسلمة ان تحذر من:
- التبرج وإظهار المحاسن أمام الرجال الأجانب بلبس الثياب الضيقة أو المكشوفة أو القصيرة أو المفتوحة من أسفل.(/2)
- التشبه بغير المسلمات في الملابس أو تسريحات الشعر المختلفة.
- نتف الحاجب أو فلج الأسنان أو إطالة الأظافر أو الوشم أو وصل الشعر.
- الاسراف والتبذير في الولائم ورمي الطعام مع القاذورات.
- مشاهدة الأفلام أو المسرحيات المختلطة أو سماع الأغاني وآلات اللهو.
- الاطلاع على المجلات والكتب التي تدعو إلى التحلل وضياع الأخلاق.
- الخلو بالأجانب من السائقين أو الخدم أو غيرهم.
- الغيبة والنميمة والاستهزاء والكذب وخلف الوعد والخديعة.
- لبس المصورات من المجوهرات أو الملابس أو تعليقها.
- السهر وخاصة على المحرمات أو ما لا فائدة فيه.
- الخروج وحدك للأسواق العامة وغيرها خشية الفتنة.
- السفر بدون محرم بالطائرة أو غيرها.
- استعمال الأطياب عند الرجال الأجانب.
- اللعان والسب والشتم أو الألفاظ البذيئة أو الدعاء على الأولاد أو سب الدهر.
- لبس البراقع التي تخرج محاسن الوجة وتفتن الرجال.
- تغطية الوجة بغطاء لا يستر لخفته أو لقصره.
التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره على العقيدة والأخلاق
لسماحة الشيخ / عبدالعزيز بن باز رحمه الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد أنعم الله على هذه الأمة بنعم كثيرة وخصها بمزايا فريدة وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده شريعة ومنهج حياة وأتم به على عباده النعمة وأكمل لهم به الدين قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا .
ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى فامتلأت قلوبهم حقدا وغيظا وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً .
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وقال عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ .
وقال جل وعلا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا . والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة. والمقصود أنهم لا يألون جهدا ولا يتركون سبيلا للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم في النيل من المسلمين إلا سلكوه ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة فمن ذلك ما ظهر في هذه الأيام من قيام بعض مؤسسات السفر والسياحة بتوزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوربا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية ووضعت لذلك برنامجا شاملا لجميع وقت المسافر. وهذا البرنامج يشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
أ- اختيار عائلة إنجليزية كافرة لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
ب- حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
ج- زيارة أماكن الرقص والترفيه.
د- ممارسة الديسكو مع فتيات انجليزيات ومسابقات في الرقص.
هـ- جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الإنجليزية ما يأتي: (أندية ليلية، مراقص ديسكو، حفلات موسيقى الجاز والروك، الموسيقى الحديثة، مسارح ودور سينما وحانات إنجليزية تقليدية).
وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة منها ما يلي:
1- العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
2- إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد وجعلها في متناول اليد.
3- تشكيك المسلم في عقيدته.
4- تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الغرب.
5- تخلقه بالكثير من تقاليد الغرب وعاداته السيئة.
6- التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
7- تجنيد الشباب المسلم ليكونوا من دعاة التغريب في بلادهم بعد عودتهم من هذه الرحلة وتشبعهم بأفكار الغرب وعاداته وطرق معيشته.(/3)
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعانا في الكيد وإبعادا للشبهة وتضليلا للمسلمين عما يرمونه من أغراض في بلاد الإسلام. لذلك فإني احذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها فإنها سم زعاف ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم وبث الفتن بينهم كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ الآية.
كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم وعدم الاستجابة لطلبهم السفر إلى الخارج لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا وإرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة بحمد الله والاستغناء بها عن غيرها فيتحقق بذلك المطلوب وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية. هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين وأبناءهم من كل سوء ومكروه وأن يجنبهم مكايد الأعداء ومكرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه القضاء على هذه الدعايات الضارة والنشرات الخطيرة وأن يوفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
نصيحة من القلب لكل أب غيور يؤمن بالله
لفضيلة الشيخ / عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
قال النبي { لا أحد أغير من الله يزني عبده أو تزني أمته } ولا شك أن حميع البشر كلهم عباد الله وإيماؤه وقال عليه الصلاة والسلام: { أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني، فالله تعالى يغار ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } والغيرة هي الأنفة والحمية والغضب على المحارم وحمايتهن من أيدي العابثين وأعين الناظرين. ومن لا غيرة له هو الديوث الذي يقر الخنا في أهله وقد ورد أنه لا يدخل الجنة. ولا شك أن كل كؤمن تقي يكون غيوراً على زوجاته وبناته وجميع أقاربه ويكون من آثار هذه الغيرة أن يراقبهن ويتبع أخبارهن ويمنعهن عن الاختلاط بالرجال وعن المجتمعات التي فيها وجود الاحتكاك والازدحام لا سيما وأن الكثير في تلك الأماكن من ذوي النفوس الشريرة بحيث يكثر المزاح والمعاكسة والغزل والكلام الساقط مما يثير الغرائز ويدفع النفوس الضعيفة الإيمان إلى فعل الجرائم وارتكاب الفواحش،فكم حصل في تلك الأسواق من اختطاف ومن مواعيد ومكالمات ومخاطبات خفية وجلية والأولياء في غفلة يحسنون الظن في بمولياتهم ولا يخطر ببالهم عشر معشار ما حصل، أما الغيور الحازم فيجب عليه أن يكون دائما بصحبة محارمه يراقبهن ويحميهن ويمنعهن عن أسباب الفساد وعن النظر إلى الأفلام الخليعة والصور الفاتنة وعن سماع الأغاني الماجنة التي تثير الغرائز وتبعث النفوس إلى الحرام، كما أن عليه صحبة محارمه في الأسواق دائماً وفي المستشفيات وفي الطريق إلى المدارس [حتى يدخلن الفصول الدراسية] وكذا عند خروجهن [حتى يركبن الحافلات] وكذا في قصور الأفراح وفي البيوت والمساكن العادية ونحو ذلك حتى يأمن من الاعتداء عليهن ومن تساهلهن وخضوعهن بالقول، فإن المرأة ضعيفة الشخصية وقوية الشهوة إذا رأت الرجال أو سمعت بعض الأقوال التي تثير الشهوة لم تأمن أن تضعف مقاومتها، فلابد من المراقبة والحراسة التامة لا سيما في هذه الأزمنة التي كثر فيها الفساد وانتشر الزنا وضعف الوازع الديني والدنيوي في كثير من النفوس، ووجدت الأسباب وتيسرت الوسائل لنيل الشهوات وإشباع الغرائز في الداخل والخارج، فكان لزاماً على كل ولي أن يحمي موليته وأن يحرص على إعفاف أولاده ذكوراً وإناثاً بما يمنع نفوسهم عن الميل إلى الحرام أو تمني ذلك عند مشاهدة أو سماع ما يدفع النفس إلى اقتراف ذنب أو فعل فاحشة مما يسبب سخط الله تعالى وغيرته وإنزال العقوبة الخاصة والعامة ببني الإنسان فإن انتشار الزنا من أسباب كثرة الأمراض المستعصية كما ورد في الحديث ومن أسباب حرمان الناس من الخير والسعة والله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(/4)
التحزب آفة في طريق العبودية
قد كثرت الجماعات , واتسعت دائرة الخلاف بين المسلمين ؛ بسبب قلة العلم , وشهوة التصدر , وغلبة الهوى , والتحزب على أفراد أو جماعات فتت كيان الأمة , حتى عظمت الفرقة بين المسلمين , وأصبح الغالب لا يدعو إلى الدين الخالص , وعظمت المنافسة في تكثير الأتباع , حتى أصبح بعضهم يرمي بعضا ربما بالمروق من الإسلام - وإلى الله المشتكى ، وتمثّل ذلك في استنادهم واستدلالهم لصحّةِ مذهبهم ـ زعموا ـ على الكتاب والسنّة , والاستدلال بالطرق الكلاميّةِ , والحجج العقليّه ، والقصص غير الواقعية , حتى إن السامع ليغترّ بحلاوة كلامهم , وقوّةِ حججهم ، ويظنُّ أن الحقّ معهم , حتى نرى الأمة كل يوم في انشطار , فكلما وقع خلاف بين فريق انشطر إلى فرقٍ وجماعات .
لذا فلا يتعجّب إنسانٌ من كثرةِ سوادهم , وتهافت أتباعهم ، فإنّ العبرة ليست بالكثرة وتكثير السواد ، بل ولا يصح لنا أن نجعلها ميزاناً للحق ؛ كيف ؟ وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)} [سورة الأنعام 6/116] ، وقال أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [سورة يوسف 12/103] وقال أيضاً: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [سورة المائدة 5/100] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الجماعة , ما وافق الحق , ولو كنت وحدك .(1 )
وقال الفضيل ابن عياض ـ رحمه الله ـ : عليك بطريق الهدى , وإن قلّ السّالكون , واجتنب طريق الرّدى وإن كثر الهالكون .( 2)
ولهذا نجد أنّ الحقّ ـ عند الكثير من الناس ـ غير مألوف ، وقَدْ فَهِم هذا الأمر الإمامُ الأوزاعي ـ رحمه الله ـ حين قال : عليك بآثار من سلف , وإن رفضك الناس , وإياك وآراء الرجال , وإن زخرفوه بالقول ، فإن الأمر ينجلي , وأنت على طريق مستقيم(3 ) , وذلك لمّا علم بأن الحقّ في غُربة ، وهو مستنكرٌ لدى الكثير من الناس .
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ( 4) : وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة , فالمراد به لزوم الحق واتباعه , وإن كان المتمسك به قليلا , والمخالف له كثيرا , لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم , ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم . قال عمرو بن ميمون الأودي : صحبت معاذا باليمن , فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام , ثم صحبت بعده أفقه الناس , عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , فسمعته يقول : عليكم بالجماعة , فإن يد الله على الجماعة , ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها , فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة , وصلوا معهم فإنها لكم نافلة . قال : قلت : يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا ؟ قال : وما ذاك ؟ قلت : تأمرني بالجماعة , وتحضني عليها , ثم تقول : صل الصلاة وحدك وهي الفريضة , وصل مع الجماعة وهي نافلة ؟! قال : يا عمرو بن ميمون , قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية , تدري ما الجماعة ؟ قلت : لا , قال : إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة .
الجماعة ما وافق الحق , وإن كنت وحدك . وفي طريق أخرى , فضرب على فخذي , وقال : ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة , وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل .
قال نعيم بن حماد : يعني , إذا فسدت الجماعة , فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد , وإن كنت وحدك ؛ فإنك أنت الجماعة حينئذ . ذكره البيهقي وغيره .
وقال ابن شامة : عن مبارك , عن الحسن البصري , قال : السنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي , فاصبروا عليها رحمكم الله , فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى , وهم أقل الناس فيما بقي , الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف(5 ) في أترافهم , ولا مع أهل البدع في بدعهم , وصبروا على سنتهم , حتى لقوا ربهم , فكذلك إن شاء الله , فكونوا .
وكان محمد بن أسلم الطوسي , الإمام المتفق على إمامته , مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه , حتى قال : ما بلغني سنة عن رسول الله إلا عملت بها , ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك , فسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس "فعليكم بالسواد الأعظم" فقال : محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم , وصدق والله , فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة , داع إليها فهو الحجة , وهو الإجماع , وهو السواد الأعظم , وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ؛ ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا . أهـ(/1)
فالأصل في المسلم أنه لا يعرفُ بلقبٍ , أو رمزٍ يميّزه عن غيره , سوى الإسلام ، قال تعالى { هُوَ سَمَّاكُمُ المسْلِمِين}[الحج : 78] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " وَلَكِنْ تَسَمَّوْا بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ(6 ).
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من أقرّ باسم من هذه الأسماء المحدثة ؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه(7 ) .
وجاء رجلٌ إلى مالك ، فقال : يا أبا عبد الله ، أسألك عن مسألةٍ أجعلك حجّة فيما بيني وبين الله عزَّ وجل ، قال مالك : ما شاء الله لاقوّة إلاّ بالله ، سل ، قال : مَنْ أهل السنة ؟ قال : أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به ، لا جهمي ، ولا قدري , ولا رافضي (8 ) .
وقال ميمون بن مهران : إيّاكم وكل اسم يسمّى بغير الإسلام (9 ) .
وقال مالك بن مغول : ( إذا تسمّى الرجل بغير الإسلام والسنة , فألحقه بأيّ دين شئت ) (10 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ..والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك , أن يقول : لا أنا شكيلي , ولا قرفندي ؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله ..- إلى أن قال : .. فلا نعدل عن الأسماء التي سمّانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم ـ وسموها هم وآباؤهم ـ ما أنزل الله بها من سلطان .(11 )
ولكن ما إن ظهرت البدع في الأمة الإسلاميّة ، وتكاثرت الفرق المنتسبة إلى الإسلام بشكلٍ عظيمٍ ؛ حيث الشعارات الزائفة , والدعوات المشبوهة ، واجتهد في الدين من ليس من أهله ، وأُدخل فيه ما ليس منه ، وظهرت نبوءة النبيّ صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة ؛ كان لزاماً على أهل الحقّ ، والمنهج الصحيح , وأصحاب العقيدة الصحيحة ؛ أن تكون لهم سمةٌ يُعرفون بها , في إطار عام لا في قوالب ضيقة كالحزبيات والجماعات التي حكرت الحق عليهم , وعقدوا عليها الحب والبغض , وهذا منا , وهذا ليس منا .
قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله (12 ) :
لا طائفية ولا حزبية يعقد الولاء والبراء عليها :
أهل الإسلام ليس لهم سمة سوى الإسلام , والسلام .
فيا طالب العلم! بارك الله فيك وفي علمك ؛ اطلب العلم ، واطلب العمل ، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف.
ولا تكن خراجاً ولاجاً في الجماعات ، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة ، فالإسلام كله لك جادة ومنهجاً ، والمسلمون جميعهم هم الجماعة ، وإن يد الله مع الجماعة ، فلا طائفية ولا حزبية في الإسلام .
وأعيذك بالله أن تتصدع ، فتكون نهاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها.
فكن طالب علم على الجادة ؛ تقفو الأثر ، وتتبع السنن ، تدعو إلى الله على بصيرة ، عارفاً لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم.
وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم ، والتفريق عن الجماعة ، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي ، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي .
فاحذر رحمك الله أحزاباً , وطوائف طاف طائفها ، ونجم بالشر ناجمها ، فما هي إلا كالميازيب ؛ تجمع الماء كدراً ، وتفرقه هدراً ؛ إلا من رحمه ربك , فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
قال ابن القيم : العلامة الثانية -عند علامة أهل العبودية -قوله : ولم يُنْسَبُوا إلى اسم أي لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس , من الأسماء التي صارت أعلاما لأهل الطريق , وأيضا فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره من الأعمال , فإن هذا آفة في العبودية , وهي عبودية مقيدة , وأما العبودية المطلقة , فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها , فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها ؛ فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم , فلا يتقيد برسم ولا إشارة ولا اسم , ولا بزي , ولا طريق وضعي اصطلاحي , بل إن سُئل عن شيخه , قال : الرسول , وعن طريقه , قال : الإتباع , وعن خرقته قال : لباس التقوى , وعن مذهبه قال : تحكيم السنة , وعن مقصوده ومطلبه , قال : يريدون وجهه , وعن رباطه وعن خانكاه , قال تعالى : {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [سورة النور : 36-37] , وعن نسبه قال :
أَبِي الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ
إِذَا افْتَخَروا بِقَيْسٍ أَوْ iiتَمِيمِ
وعن مأكله ومشربه ؟! قال : ما لك ولها ! معها حذاؤها وسقاؤها , ترد الماء وترعى الشجر حتى تلقى ربها .
واحَسْرَتَاهُ تَقْضِي العُمْرَ وَانْصَرَمَتْ
سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ العَجْزِ iiوَالكَسَلِ
والقَوْمُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ iiوَقَدْ
سَارُوا إلى المطْلَبِ الأَعْلَى عَلَى مَهَلِ(/2)
ثم قال ابن القيم رحمه الله : قوله أولئك ذخائر الله حيث كانوا , ذخائر الْمَلِك ما يخبأ عنده , ويَذْخُره لمهماته , ولا يبذله لكل أحد , وكذلك ذخيرة الرجل ما يذخره لحوائجه ومهماته , وهؤلاء لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم , غير مشار إليهم ولا متميزين برسم دون الناس , ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي , كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة , وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات , فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها , ولزوم الطرق الاصطلاحية , والأوضاع المتداولة الحادثة هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله وهم لا يشعرون , والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة , والسير إلى الله , وهم إلا الواحد بعد الواحد المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود , وقد سئل بعض الأئمة عن السنة ؟ فقال : مالا اسم له سوى "السنة" _يعني _ أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها , فمن الناس من يتقيد بلباس لا يلبس غيره , أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره , أو مشية لا يمشي غيرها , أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما , أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها , وإن كانت أعلى منها , أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره , وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه , فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى , مصدودون عنه قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات , عن تجريد المتابعة ؛ فأضحوا عنها بمعزل , ومنزلتهم منها أبعد منزل , فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب , ويعد العلم قاطعا له عن الطريق .
فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , عدَّ ذلك فضولا وشرا , وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم ؛ وعدوه غَيْرا عليهم , فهؤلاء أبعد الناس عن الله وإن كانوا أكثر إشارة - والله أعلم .أهـ
أخي الحبيب : إن سُعار الحزبية محرق , وسمها قاتل ؛ كم مكر أخٌ بأخيه حتى أرداه في لجج الفتن , وكم عُطل من أمر بمعروف أو نهي عن المنكر ؛ فما شتت القلوب , وفرق بين الجموع , إلا الحزبية , ولذا يجب لأهل السنة أن يعلنوا عن هُويتهم , ويبينوا منهجهم , ويحذروا من الحزبية والعصبية , لهذا نجد أن العلماء رحمهم الله , كانوا يهتمّون بتمحيص رجال الحديث فنراهم يميّزون السني من المبتدع ، قال محمد بن سيرين رحمه الله( 13) : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سمّوا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم ، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم .
وكان حال السلف في وضع العلم , لا يضعونه إلا عند من يحسن استعماله .
عن أبي داود الطيالسي قال : جهد وكيع أن يسمع من زائدة بن قدامة(14 )حديثا واحدا ؛ فلم يسمع حتى خرج من الدنيا ، فقيل لأبي داود : وكيف سمعت أنت ؟ قال : كان يستشهد رجلين عدلين على أن هذا صاحب جماعة ؛ وليس بصاحب بدعة ، فإذا شهد عدلان ؛ حدّثه ، قال أبو داود : وكنت بمنى , وحضر سفيان الثوري ، فكان يُكرمني ويقول : ذاكرني بحديث أبى بسطام(15 ) فقلت لسفيان : أُحب أن تكلِّم زائدة في أمري حتى يحدثني ، فجاء إلى زائدة فقال : يا أبا الصَّلت ! حَدِّث صاحبي هذا ؛ فإنه صاحب سنة وجماعة ، فقال : نعم يا أبا عبد الله .( 16) وبعد هذه النقول ؛ فإنه لحريٌّ بمن كانت هذه همّته , وهي : حفظ بيضة الإسلام من الدخلاءِ ؛ أن يكون له منهجٌ مباينٌ لكلّ المناهج المخترعة , المضاهية لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم في العقيدة والاتباع .
وحريٌ أيضاً أن يكون أصحابها هم المعنيّون بالفرقة الناجية , والطائفة المنصورة كما جاء في بعض الأحاديث ، وكما فسّرها غير واحدٍ من الأئمة المعتبرين .
كما جاء في الحديث عن أَبَي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ رَأْسِهِ , وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ جُثَاءُ جَهَنَّمَ , قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ : نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى , وَلَكِنْ تَسَمَّوْا بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ. ( 17)(/3)
كذلك ما جاء في الحديث المعروف , عن جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا , وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ , فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا ؛ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا , وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ , وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ , فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , ثُمَّ قَالَ : مَا شَأْنُهُمْ , فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ , قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ .(18 )
مع أنهما اسمان شرعيان , المهاجري والأنصاري , لكن لما كان هناك موالاة ومعاداة عليهما , ونصرة في هذين الاسمين ، وخرجت النصرة عن اسم الإسلام بعامة ؛ صارت دعوى الجاهلية ، ولهذا ينبغي على أهل السنة والجماعة , وحملة المنهج السلفي ؛ التنبيه على هذا الأمر الخطير بالطريقة المثلى , حتى يكون هناك اهتداء إلى طريق أهل السنة والجماعة , وإلى منهج السلف الصالح .
كما يجب الانضباط بضوابط الشرع في مسائل الخلاف , والرجوع إلى فهم السلف فيها , لا كما نرى من البعض , بإعلان الحرب والهجر وغيره , دون سابق بيان أو حجة أو برهان , كما يجب نبذ التقليد , وأن لا تعود الدعوة إلى حقبة التعصب المذهبي , الذي ضرب بجرانه في كل أطراف أمة الإسلام , حتى بين العلماء والمتبوعين .
وهذا كما قيل في بعض أتباع الإمام مالك , ومن ضربت إليه أكباد الإبل .
عُذَيْرِي مِنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ iiكُلَّمَا
طَلَبْتُ دَلِيلاً هَكَذَا قَالَ iiمَالِكُ
فَإِنْ عُدْتُ قَالُوا هَكَذا قَالَ iiأَشْعَبُ
وَقَدْ كَانَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ
فَإِنْ عُدْتُ قَالُوا قَالَ سُحْنُونُ iiمِثْلَهُ
وَمَنْ لَمْ يَقُلْ مِثْلَهُ فَهُوَ iiآفِكُ
فَإِنْ قُلْتُ قَالَ الله ضَجُّوا iiوأَعْوَلُوا
وَصَاحُوا وَقَالُوا أَنْتَ قَرْنٌ مُمَاحِكُ
وَإِنْ قُلْتُ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ iiفَقَوْلُهُم
أَتَتْ مَالِكٌ فِي تَرْكِ ذَلِكَ iiالْمَسَالِكُ
[من كتاب "المنهج وأثره في حياة أهل السنة والجماعة" لفضيلة الشيخ /صلاح عبد الموجود]
________________________________________
( 1) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعه (1/122)رقم(160)
( 2) ذكره الشاطبي في الإعتصام (1/83) ، والنووي في المجموع (8/275) .
( 3) رواه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص26 والآجرّي في الشريعه ص58.
( 4) كتاب "الحوادث والبدع (26)"
(5 ) أي رؤساء الشر
(6 ) صحيح : وهو جزء من حديث سيأتي رواه أحمد في المسند (5/344) ابن منده "الإيمان" (1/375) صححه الألباني "صحيح الجامع" (1724)
(7 ) الإبانة الصغرى لابن بطة ص137 .
( 8) الإنتقاء لابن عبدالبرّ ص72.
(9 ) الإبانة الصغرى لابن بطة ص137 ، والكبرى (1/342،345) .
( 10) المصدر السابق .
(11 ) مجموع الفتاوى (3/415) .
( 12) حلية طالب العلم (61)
( 13) صحيح مسلم (1/44 نووي ) ، والدارمي في سننه (1/112) .
(14 ) قال الحافظ في التقريب(1982) : زائدة بن قدامة : ثقة , صاحب سُنَّة .
( 15) شعبة ابن الحجاج
( 16) الخطيب "الجامع لأخلاق الراوي" (1/133)
( 17)صحيح : رواه أخمد (5/344) تقدم .
( 18) البخاري (3518)(/4)
التحف في مذاهب السلف
محمد بن علي الشوكاني
قال الإمام المجتهد العلامة الرباني رئيس قضاة اليمن في وقته محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليمني الصنعاني المتوفى سنة 1255هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام ورضي الله عن صحبه الأعلام. وبعد، فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام، وهذا لفظه:
(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
ما يقول فقهاء الدين وعلماء المحدثين وجماعة الموحدين في آيات الصفات وأخبارها اللاتي نطق بها الكتاب العظيم، وأفصحت عنها سنة الهادي إلى صراط مستقيم، هل إقرارها وإمرارها وإجراؤها على الظاهر بغير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل عقيدة الموحدين وتصديق بالكتاب المبين واتباع للسلف الصالحين؟ أو هذا مذهب المجسمين؟ وما حكم من أول الصفات ونفى ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه وتأيد بالنصوص واتفق عليه الخصوص من أن الله سبحانه في سمائه مستوي على عرشه بائن من خلقه وعلمه في كل مكان؟ والدليل آيات الاستواء والصعود والرفع وقوله تعالى (ءأمنتم من في السماء) ومن السنة حديث الجارية والنزول وعمران ابن حصين وقوله صلى الله عليه وسلم (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) وغير ذلك من الآيات المتوترة والأحاديث المتكاثرة، وأولَ الآيات وجعل الاستواء استيلاءً وأول النزول بالرحمة، وهكذا جعل التآويل عليه مطردة في سائر نصوص الصفات وعاش في ظلام العقل في الجهل والشبهات، وإذا قيل له أين الله؟ أجاب بأنه لا يقال أين الله؟ الله لم يكن له مكان، كما هو جواب فريقي المضلين، فهل هذا جواب الجهميين والمريسيين وأضلاء المتكلمين، أم اختيار علماء السنيين؟ أفيدونا بجواب رجاء الثواب، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) فإن هذا المقام طال فيه النزاع وحارت فيه الأفهام وزلت الأقدام وكل يدعي الصواب بزخرف الجواب، فأبينوا المدعى بالدليل وبينوا طريق الحق بالتفصيل والتطويل، ضاعف الله لكم الأجر ووقاكم الشرور. والسلام عليكم ورحمة الله.)
وأقول اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه وتناسبت فيه المذاهب وتفاوتت فيه الطرائق وتخالفت فيه النحل وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه حتى تفرقوا فرقا وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا وكانوا في البداية ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد متبايني المطالب، فطائفة وهي أخف هذه الطوائف، المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثما وأقلها عقوبة وجرما وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب، لكن سلكت في طريقة متوعرة وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود لا يرجع من سلكها سالما فضلا عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح ومع هذا أصلوا أصولا ظنوها حقا فدفعوا بها آيات قرآنية وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية وخيالات مختلفة وهؤلاء طائفتان: الطائفة الأولى وهي الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد ويضطرب له القلب من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار وأظهر من فلق الصباح وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق مطابقا لما يريده الله سبحانه فظلوا الطريق المستقيم وأضلوا من رام سلوكها، والطائفة الأخرى هي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض والقسر الخالص، فلم يبق لبعث الرسل وإنزال الكتب كثير فائدة ولا يعود ذلك على عباده بعائد، وجاءوا بتأويلات الآيات البينات ومحاولات لحجج الله الواضحات فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح لولا ما شانه من الغلو القبيح.(/1)
وطائفة توسطت ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه (وكل حزب بما لديهم فرحون) وعند الله تلتقي الخصوم. ومع هذه فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية بطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز وقالوا هنيئا للعامة، فتدبر هذه الأعلمية التي حاصلها أن يهني من ظفر بها للجاهل الجهل البسيط ويتمنى أنه في عدادهم وممن يدين بدينهم ويمشي على طريقهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمبة التي طلبوها الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه وينتهي عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به عاطلا عنه. ففي هذا عبرة للمعتبيرين وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدئ وسلموا من تبعاتها وأراحوا أنفسهم من تعبها وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى آخر يصيّر آخره أولا
وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة أرفع من رتبة مثل رتبته أو دونها ولا يهنى لمن هو دونه أو مثله، ولا يكون ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته ومكانه أعلى من مكانه.
فيا لله العجب! من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه وأفضل مقدارا بالنسبة إليه، وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها؟! وإذا كان حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أخف هذه الطوائف تكلفا وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها وتبين بطلان مواردها ومصادرها؟ كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت به كيد الإسلام وأهله والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه. وعند هذا تعلم أن:
خير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة هو ما كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقد كانوا ـ رحمهم الله وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم ـ يمرون أدلة الصفات على ظاهرها ولا يتكلفون ما لا يعلمون ولا يتأولون.
وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم المتقرر من مذاهبهم، لا يشك فيه شاك ولا ينكره منكر ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ بينهم نازغ أو نجم في عصرهم ناجم أوضحوا للناس أمره وبينوا لهم أنه على ضلالة وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا إن الأمر أنف، وبينوا ضلالته وبطلان مقالته للناس فحذرون إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة.
وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذر منها، كما فعله التابعون رحمهم الله بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته الباطلة.
ثم مازالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته بل يكتمونها كما تتكتم الزنادقة بكفرهم، وهكذا سائر الميتدعين في الدين على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة، ولكننا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسألة التي ورد السؤال عنها وهي مسالة الصفات وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه، وبيان أن إمرار أدلة الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاع المتكلفين وشذاذ المحدثين والمتأولين أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر قاموا عليه وحذروا الناس منه وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.
وسائر المبتدعين في الصفات القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتالبعين وتابعيهم في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع. وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة وبرق بارق الشر من جهة العباسية ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة، وذلك في الدولة العباسية بسبب قاضيها أحمد بن دؤاد، فعند ذلك أطلع المنكسون في تلك الزوايا رؤوسهم وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة وبدعهم المضلة ودعوا الناس إليها وجادلوا عنها وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر واشتبه على العامة الحق والباطل والسنة والبدعة.(/2)
ولما كان الله قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله وبحفظه عن التحريف والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم وينكر على أهل البدع بدعهم. فكان لهم ولله الحمد المقامات المحمودة والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك (أستار) المبتدعين.
وبهذا الكلام القليل الذي ذكرنا تعرف أن مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هم إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريف لها ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل. وكانزا إذا سال سائل عن شيء من الصفات تلوا عليه الدليل وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكلف ولا نتكلم بما لا نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته. ف‘ن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه ونهوه عن طلب ما لايمكن الزصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله صلى الله هليه وسلم وحفظه التابعون عن الصحابة وحفظه من بعد التابعين عن التابعين وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة والطريقة لهم جميعا متفقة وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله وإقام الصلاةوإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر وطلب العلم النافع وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه والمحافظة على موجبات الفوز بالجنةوالنجاة من النار والقيام بالأمر بالمعروف والني عن المنكر والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته فكان الدين إذ ذاك صافيا عن كدر البدع خالصا عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتدوا وبأفعاله وأقواله اقتدوا. فمن فال إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو في غيرها فقد أعظم عليهم الفرية وليس بمقبول في ذلك، فإن أقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها عن الثقاة الأثبات يرد عليه ويدفع في وجهه، يعلم ذلك كل من له علم ويعرفه كل عارف. فاشدد يدك على هذا.
واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها وجعلوها أصلا يرد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن وافقها فقد وافق الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفها فقد خالف الأصول المتقررة في زعمهم ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به ولا رفعوا إليه رؤوسهم ولا عدوه شيئا، ومن كان منكرا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فأنه سيقف على الحقيقة وسيلم هذه الجملة ولا يتردد فيها.
ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها من بعدهم أصولا لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل والفرية على الفطرة وكل فيد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من يقلده ويقتدي به اصلا يرجع إليه ومعيارا لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه.(/3)
فيالله وللمسلمين، ويالعلماء الدين من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها. وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفضع أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتهما أصولا ترد غليها أدلة الكتاب والسنة جعلوها معيارا لصفات الرب تعالى، فما تعقله هذا من صفات الله قال به جزما، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله تعالى الشيء ونقيضه استدلالا بما حكمت به عقولهم الفاسدة وتناقضت في شانهن ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. بل إن وجدوا ذلك موافقا لما تعقلوه جعلوه مؤيدا له ومقويا، وقالوا قد ورد دليل السمع مطابقا لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفا لما تعقلوه جعلوه واردا على خلاف الأصل ومتشابها وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكما عنده والمخالف لدليل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله مالا يعلمه، وكفاك هذا وليس بعده شيء، وعنده يتعثر القلم حياء من الله سبحانه وتعالى وربما استبعد هذا مستبعد واستنكره مستنكر وقال إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها.
فأقول خذ جملة البلوى ودع تفصيلها واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته ولا جرى القلم بمثله. هذا أبو علي وهو رأس من رؤوسهم وركن من أركانهم واسطوانة من اسطواناتهم، قد حكى عنه الكبار ـ وأخر من حكى عنه ذلك صاحب شرح القلائد (والله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلم هو) فخذ هذا التصريح حيث لم تكتف بذلك التلويح وانظر هذه الجرأة على الله سبحانه وتعالى التي ليس بعدها جرأة. فيا لأم أبي علي الويل! أنهيق مثل هذه النهيق؟ ويدخل نفسه في هذا المضيق، وهل سمع السامعون بيمين افجر من هذه اليمين الملعونة أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى هذه الكلمة المفتونة أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ هذا المختال الفخور؟ أوَصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبا في يمينه فاجرا فيها، لأن كل فرد من الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره ويكره على أن يقف على شيء منها سواه. ومن ذا الذي يدري ما يجول في خاطر غيره ويستكن في ضميره؟
ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي فهو إما مصاب العقل يهذي بما لا يدري ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب عظيم الافتراء. فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحان فهو الذي يحول بين المرء وقلبه و(يعلم) ما توسوس به نفسه وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون، كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع. فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم مالا يعلمه إلا الله من عباده. فما ظنك بمن تجاوز هذا وتعداه وأقسم بالله سبحانه وأن اله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل، فلو كان مجنونا لم يكن رأسا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره ومن جاء بعده وينقلون كلامه في الدفاتر ويحكون عنه في مقامات الاختلاف. ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأرد عليهم مورد قول الله عز وجل ( ولا يحيطون له علما) وقوله (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقال لهم هذا يرد ما قال صاحبكم ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة. لقالوا هذه ونحوه مما يدل دلالة ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل، المدفوع بالأصول المقررة. وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات.
وليس مقصودنا ههنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، وإن ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا نصدق معناه ولا يوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع.(/4)
قلتُ: يا هذا! إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم ويذكرونه في مؤلفاتهم ويحكونه عن أكابرهم إن الله سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس "لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم ولا خارجه" فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء القوم في فرارهم من شبه التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب موائلا في سبل الراعد
أو كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن قرصة النملة إلى قضمة الأسد!
وقد يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله تعالى وصف بهما نفسه وأنزلهما على رسوله وهما (ولا يحيطون به علما) و (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب وتضمنتا بما يعين أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوي التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل مخلوط بخلوط هي منافية للعلم ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد من الأفراد علما، فكل قول من أقول المتكلمين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل. وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف. ولم يحط بفائدة هذه الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون الصفات على ظاهرها المريحون أنفسهم من التلكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات، زهم السلف الصالح كما عرفت. فهم الذين اعترفوا بـ(عدم) الإحاطة وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاتهن بل العلم كله له، وقالوا كما قال من قال ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل وجلاله وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم
بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين، فقال:
………………….. وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم
وها أنا أخبرك عن نفسي وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام وتارة علم التوحيد وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم ورمت الرجوع بفائدة والعود بعائدة، فلم أضفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفا، وقلت عند ذلك في تلك المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خصت منه غماره وما قنعت نفسي بغير التبحر
وأما الكلمة وهي (ليس كمثله شيء) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة وتعرف به الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع البصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة فتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات فيدفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل. فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين حقيقة مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).(/5)
ومن جملة الصفات التي أمرها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القران والسنة من دون تكلف ولا تأويل صفة الاستواء التي ذكرها السائل. يقولون نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه على هيئة لا يعلمها إلا هو وكيفية لا يدري بها سواه، ولا نكلف أنفسنا غير هذا. فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علما. وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة. وقد جمع أهل العلم منها، لا سيما أهل الحديث، مباحث كتبوها بذكر آيات قرآنية وأحاديث صحيحة وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي رحمه الله استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجعة من كتاب أو سنة أو قول صاحب مذهب. والمسالة أوضح من أن تلتبس على عارف وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية كثر الكلام فيها وفي مسالة الاستواء وطال، سيما بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، ومازالوا هكذا في عصر بعد عصر. والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح. فالاستواء على العرش والكون في تلك الجهة قد صرح به القران الكريم في مواطن يكثر حصرها ويطول نشرها وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث. بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد الناس في نفسه وتحسه في فطرته وتجذبه إليه طبيعته، كما نراه في كل من استغاث بالله سبحانه وتعالى والتجأ إليه ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه أو يرمي إلى السماء بطرفه. ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء وحدوث بواعث الاستغاثة ووجود مقتضيات الإزعاج وظهور دواعي الالتجاء، عالم الناس وجاهلهم والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء، كما قال جمهور المتأولين والأقيال كما قاله أحمد بن يحيى وثعلب والزجاج والفراء غيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان، كما قاله آخرون. فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر والإذعان بأن الاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف ولا قيل ولا قال ولا قصور في شيء من المقال. فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف ولا واقف في طريق النجاة ولا معتصم عن الخطأ ولا سلك في طريق السلامة والاستقامة. وكما نقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة فكذا نقول في مثل قوله سبحانه (وهو معكم أينما كنتم) وقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) وفي نحو (إن الله مع الصابرين) (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) إلى ما يشبه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القران، إن الله سبحانه وتعالى مع هؤلاء، ولا نتكلف تأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل تخالف مذاهب السلف وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم. وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه،
وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق
وقد هلك المتنطعون ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها براقش تجني.
وفي هذه الجملة، وإن كانت قليلة، ما يغني من شح بدينه وحرص عليه من تطويل المقال وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والهداية من الله والله أعلم.
انتهت الرسالة المفيدة كما وجدت، ولله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وأصلي واسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه(/6)
التحيز الإعلامي (2/1) محمد عبد الله الغبشاوي*
مصطلح ( التحيز ) من منحوتات المفكر الكبير البروفسير عبد الوهاب المسيري صاحب ((موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)) و (( إشكالية التحيز )) الذي أشرف علي تحريره وصدر في مجلدين عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي .
ومصطلح التحيز يعني الانحياز والتعصب مطلقاً ولكن فيما نعنيه في هذه المعالجة التسليم المطلق بالمقولات والمفاهيم والمناهج الغربية والانسياق الأعمى في محاكاتها وكأنها قد أنزلت منزلة الأمر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وجدير بنا التنبيه إلي أن (( التحيز )) بهذا التعريف لا يقتصر في أوساطنا علي الإعلام ووسائطه المختلفة وإنما هو أمر قد طال جميع أوجه حياتنا وسائر مناشطنا وتوجهاتنا . ففي تشريعنا واقتصادنا ومناهج تربيتنا وصور تعليمنا بل وفي سلوكياتنا ولغة حديثنا اليومي شواهد عديدة لا تخطئها عين عاقل علي هذا (( التحيز )) الذي أقام علينا حجراً نفسياً عقلياً وسلطاناً أدبياً معنوياً قد ننكر أصله ونغالط في حقيقته ولكن آثاره وتراكماته هي الشاهد والبرهان عليه .
ومن هنا فقد نخلص إلي القول بأن أداءنا الفكري الإبداعي لا يعدو أن يكون مجرد محاكاة وترديد للأداء الغربي ولكن بأصوات عربية وليس بلغة عربية وشتان بين الاثنين .
ومن هنا فالتحيز في الخطاب الإعلامي هو جزء من أداء عام صار هو النمط المعتاد لإنساننا في الحيز العربي الإسلامي وما كان للخطاب الإعلامي أن يفلت وحده من هذا الأداء فذلك مما يتنافي وطبائع الأشياء . ولكن التنبيه الزائد إليه في هذه الورقة يأتي بدافعين : أولاهما
أن الإعلام ووسائطه هو القلب والمركز لهذا الأداء التحيزي العام الذي يطبع حياتنا . وثانيهما : أن المراجعة لأداء القلب والمركز في المنظومة حري بأن يدعو إلي مراجعة أداء المنظومة كلها . فإلي حد كبير إذا صح الأداء الإعلامي . فسينساب التصحيح في بقية أجزاء المنظومة وقد تستقيم خطواتنا علي الطريق الصحيح لإقامة بنائنا من جديد .
عقبتان كأداوان : -
وكلتا العقبتين نفسيتان أما أولاهما فتتصل بالشيوع والسيرورة للمنتجات الحضارية الغربية أدبية كانت أو مادية . فبحكم السيادة شبه المطلقة للحضارة الغربية ويحكم الفعالية الاستثنائية لأنماط ووسائط إنفاذها وبالسرعة الفذة المتصاعدة لوسائل الاتصال امتلكت الحضارة الغربية حاكمية تلقائية لم تسبق إليها في الحاكميات الحضارية التاريخية السابقة عليها .
وهذه الحاكمية الحضارية الاستثنائية سوّلت للغرب دمغ جل منتجاته الفكرية الأدبية بخاتم (( العالمية )) و (( الإنسانية )) . ولم تملك القطاعات المستضعفة المستكينة إلا التأمين علي ذلك وخصوصاً من خلال نخبتها – وإن صادم ذلك وتضاد مع المسلمات و اليقينيات الأم في تلك المجتمعات .
ومجموع ما أشرنا إليه ساهم أيما مساهمة في تضخيم الشيوع والسيرورة للنماذج الغربية وخصوصاً في المجالات الإعلامية . فصار الخارج علي أنماطها يشعر شعوراً مكثفاً بالغربة والعزلة بل والشذوذ التام عما سوّد – نفسياً ومعنوياً – بأنه الأنموذج الذي ينبغي أن ينسج علي منواله ويسير الجميع في ركابه .
وأما العقبة الثانية فهو أن القطاعات المنتمية إلي حضارات ذابلة أو كامنة تقل في تابعيها روح المغامرة والجسارة والإقدام . وتسود فيها وتنتشر روح التسليم بالأمر الواقع ومن هنا يخفت فيها روح الشعور بالتغيير وخصوصاً في الجوانب الإيجابية لواذاً بأمان مزيف من خلال الالتزام بما التزم به جمهور الناس ونأياً عن مغامرة مودية مهلكة وفقاً للمعيار السائد
وإضافة إلي هذا فإن الإعلام خادم تلقائي للتيارات الفكرية السائدة في قطاع ما . وإذ أن التيارات الفكرية في قطاعنا يغلب عليها التقليد والالتزام التام بالمعتمل في الغرب فليس غريباً أن يكون الإعلام مرتهناً بذلك أيضاً .
أنماط التحيز في الخطاب الإعلامي : -
بصورة مجملة يمكن حصر بعض أنماط التحيز في خطابنا الإعلامي في الآتي :
التحيز للرسالة الإعلامية الغربية .
التحيز للمصطلحات والمفاهيم .
التحيز للأشكال والوسائط .
التحيز للنهج الإخباري .
وفيما يلي نتعرف بإيجاز غير مخل لهذه التحيزات الأساسية .
أولاً : التحيز للرسالة الإعلامية الغربية .
الرسالة الإعلامية تكون مترجمة دوما للرؤية المعرفية الكونية الإنسانية للثقافة والحضارة التي انبثقت منها تلك الرسالة وتفتقت عنها .
وبالضرورة أن تتقمص الرسالة الإعلامية الغربية روح ثقافتها وحضارتها الأم ولا نريد أن نخوض في مجالات الوسم والوصم بهذا الخاتم أو ذاك فيما يتصل بمكونات ودعائم النظرة المعرفية الغربية ودرجات الإيجاب والسلب في كل ذلك فهذا لا يعنينا كثيراً ونحن بصدد هذه المعالجة . وإنما يهمنا الإشارة إلي حقيقتين متصلتين بما نعكف عليه الآن :(/1)
أولاهما : أن النظرة المعرفية الكونية الإنسانية الخاصة بنا مخالفة ومفارقة لرصيفتها الغربية كثيراً سواء في منطلقاتها الأساسية أو تفصيلاتها الداخلية . ومن هنا يتضح بأن تبني الرسالة الإعلامية الغربية وتقمص روحها والتحيز لها هو تقويض داخلي تلقائي لقطاعنا وإنساننا طالما أقررنا بالمخالفة والمفارقة في النظرية المعرفية الأم .
ثم إن هناك خصوصية جزئية متصلة بهذا تستحق الانتباه والتنويه هو أن الثقافة والفكر الغربيين لا يتخذان موقف الحيدة والموضوعية العلمية تجاه قطاعنا وإنساننا . فهناك مركب (( كراهية ثقافية )) – كما أشار المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد – تجاه إنساننا وقطاعه الحضاري بكل مكوناته . وهناك ما يشبه الطابع الإبادي الاستئصالي في التمدد الحضاري الغربي في قطاعنا .
ومن هنا فالتحيز للرسالة الإعلامية الغربية هو بالضرورة حامل لكل ذلك ومتأثر منفعل به وحلول رسالة إعلامية بهذه المواصفات في قطاعنا هو نحر وانتحار .
ثانيهما : إضافة إلي فرضية صدور الرسالة الإعلامية عن منطلقاتنا المعرفية الأم فيما يتصل بالنظرة الكونية الإنسانية يجب أيضاً استيعاب الظروف والملابسات الخاصة التي تحيط بإنساننا وقطاعه واستصحاب الظرف التاريخي والمخاض الحضاري الخاص الذي يخيم علي أمتنا بكل مكوناته وتفاصيله .
فنحن أمة في أدني درجات أدائها الحضاري الفاعل سواء كان بالقياس عليها في
دورات تاريخها السالفة أو كان بالقياس علي غيرها في حاضرنا وهذه الحقيقة تلزم برسالة إعلامية ذات مواصفات تعالج بالضرورة هذه الحالة وتحرص علي نقلها إلي درجات إيجابية أكبر .
ثم إننا مستهدفون من مشروعين خطيرين أحدهما المشروع الإمبريالي الصليبي الغربي الذي ما استنفد أغراضه بعد في قطاعنا وانساننا و الذي لا يدل أداؤه الحالي عن نيته علي تركنا وشأننا .
والمشروع الثاني وإن كان وليداً للأول إلا أن له ملامحه الثأرية والانتقامية الخاصة وأعني بذلك المشروع الصهيوني من خلال إسرائيل وأجندتها التفصيلية في صياغة جديدة لإنساننا وقطاعنا بما يؤمن سلامة وجودها ويضمن الرفاهية لها والتفوق الدائم لإنسانها .
ومجابهة مشروعين إباديين استئصاليين بمثل هذه المواصفات التي نحسها ونلمسها فعلاً وممارسة وسلوكاً - وليس مجرد شعار أو لافتة- يلزم أهل الرسالة الإعلامية الإعداد لهما بقدرهما وتفاصيلهما . وهو ما نفتقد معالمه وحقائقه في الرسالة الإعلامية السائدة التي تخلو إلا قليلاً من النهج البنائي التعبوي الواعي ذي الروح المفعم بالأمل والخالي من الإحباط والانكسار والمتسلح في نفس الوقت بالعلمية المنهجية الدقيقة في تعامله مع كل ما يحيط به .
ثانياً : التحيز للمصطلحات والمفاهيم :-
في خطابنا الإعلامي هناك تحيز للمصطلحات في بعض الأحيان وهناك تحيز مباشر للمفاهيم في أحيان أخري وناتج عن ذلك بالضرورة تحيز متداخل للمفاهيم والمصطلحات .
وسنستعين ببعض الإيضاحات المعينة علي إثبات دعوانا . فمن المصطلحات السيارة في إعلامنا والتي نصحو عليها صباح مساء مصطلح قضية الشرق الأوسط أو مصطلح الشرق الأوسط مجرداً . وكلا المصطلحين مترجم لرسالة إعلامية مستهدفة لتصفية كياننا وإنساننا وغني عن الذكر أن هذه المصطلحات عينها هي من الأذرع المهمة في ذلك الاستهداف وتلك التصفية .
فبادئ ذي بدء مصطلح مثل قضية الشرق الأوسط تبدو في معالمه الأولي حيثيات التفريغ والإفراغ من ناحية وحيثيات الإبدال والإحلال من ناحية أخري . وتكمن في ذيوعه وسيرورته تحقق الأماني الإمبريالية الصهيوصليبية برمتها وما بلغته في هذا الطور من تاريخنا وما تنبئ به المقدمات من نتائج تسوقها ولو بعد حين .
ومعلوم أن هذا المصطلح ليس من منحوتاتنا اللفظية ولا مصطلحاتنا الأم وإنما هو مصطلح وليد للإستراتيجيات الإمبريالية الصهيوصليبية . وهو ترجمة عملية لنظرية تاريخية إمبريالية شهيرة هي نظرية الأرض التي لا مالك لها التي اخترعتها الأدمغة الفلسفية الغربية الإمبريالية أثناء صراع الممالك الأوروبية علي البقاع الإنسانية غير الغربية . فالإنسان الغربي لا يعترف بإنسانية غير أوروبية – كما تترجم ممارساته وسلوكياته – وفي حمي ذلك الصراع الإمبريالي علي أفريقيا وآسيا وغيرهما لم يكن هناك اعتراف بإنسان تلك الأمكنة أو أنظمتها والاعتبار إنما كان (( لمالك )) أوروبي حلّ بها فإن كان وإلا فهي أرض بوار لا مالك لها وإن عجت وزخرت بالمئين من ملايين الأنفس
وتسمية قطاعنا الحضاري العربي الإسلامي بالشرق الأوسط هو تفريغ نفسي مادي تاريخي من كل مضامينه . وهو من ثم إلغاء تلقائي لمقتضى كل ذلك وبلا أدني ريب . فهو (( إخلاء )) وإذا تم الإخلاء بحكم الحيثيات غير الأوروبية وغير الغربية فقد جاز إجراء منطق التمليك لهذا (( الخلاء )) . وهذا ما تسعي الإمبريالية الصهيوصليبية لبسطه وتسويده وبصورة عملية .(/2)
وإضافة إلي هذا فإن تسويد مصطلح الشرق الأوسط هو نصر ضمني لإسرائيل . فأنت إذا قلت العالم العربي أو العالم الإسلامي فذلك يعني نفياً تلقائياً وإسقاطا عملياً لإسرائيل إذ أن كلتا الصفتين ( عربية / إسلامية ) مما لا يتيح لها سبيل وجود أو ظهور . وأما الشرق الأوسط فهو تضمين بالضرورة لإسرائيل فضلاً عن تهويمه وإيهامه لتاريخ وهوية وحضارة المنطقة فما عادت إسلامية عربية وإنما شرق أوسطية .
ومثال ثاني هو مصطلح (( الإرهاب )) والذي نال ذيوعاً وسيرورة منقطعة النظير . وقد نعلم أن الغرب ومنذ الثورة الإسلامية في إيران عكف علي قولبة الإسلام وإنسانه في قالب الإرهاب ومشتقاته ومع الإنسياح الكثير للإعلام الغربي من مقروء ومسموع ومنظور تخلق لدي القطاع الأعظم من بني الإنسان أن (( الإرهاب )) هو الاسم الآخر للإسلام .
فالتأمين علي مصطلح من هذا القبيل والإذاعة له في أوساطنا ودون بذل أي جهد للتحليل والتمحيص هو دمغ لأنفسنا بأنفسنا بجريمة نحن منها براء . وهو تبرع تلقائي لا بتجريم النفس فقط وإنما القبيل والقطاع كله .
وأسوأ ما يبرر به الناس مثل هذه السقطات السهو وعدم التعمد وهو العذر الأكثر قبحاً . فنحن في عالم لا يرحم وهو تجاه قطاعنا سابق دوماً إلي التجريم والإدانة . وحرصه علي إفنائنا وتقويضنا مما لا يحتاج إلي دليل .
وقريب من ذلك تشويه العمليات الفدائية وإطلاق الصفة الانتحارية عليها . بدلاً من الاستشهادية . وما يراد من وراء ذلك من تزهيد في الروح الجهادى الفدائي والتشويه لمدرك الشهادة من خلال دمغه بالانتحار .
هذه أمثلة للتحيز للمصطلحات وأما التحيز للمفاهيم فنكتفي بمفهوم حقوق الإنسان وجعله مدركاً مطلقاً . مع أنه مدرك غربي احتكاري يسعي لجعل كل غربي إنساني عالمي .
وكان حرياً بنا أن نقول : حقوق الإنسان الغربي كنوع من التمييز إذ أن سير وسيرة المفهوم علي ما نعاصره الآن بلغ درجات من المركزية الغربية تجعلنا نشمئز من المسايرة المطلقة لهم فيه والتسليم الضمني بأنه حقوق مطلقة لبني الإنسان بعد أن صار المفهوم فريسة لفئات من المترفين والمترفات من الشاذين والشاذات . وإذا بنا ودون أن ندري نجد أن اللواط والسحاق حقوقٌ يجب أن تراعي لهذا الإنسان الغربي ولا تقتصر علي مجرد الاعتراف والإقرار لها في القطاع الغربي وإنما أن تكون مسلمات يدين لها قطاعنا الإنساني الحضاري كله بالطاعة والإذعان التام . وأن نتخلص عن كل موروثاتنا بل أصولنا الفكرية التشريعية فنتخلص من مدركنا للمعروف والمنكر فننكر معروفنا ونعرّف منكرنا لا لشيء إلا إذعاناً للسيد الغربي في أخس نزواته وأحط شهواته .
والمتابع لصيرورة المفهوم في أوساطنا العربية المسلمة في العقد الأخير يري أن مسمي حقوق الإنسان صار مدركاً موازياً ومضاداً لتطبيقات الشريعة الإسلامية وهذا من إستراتيجيات الابتزاز والاستنزاف الفكري النفسي التي لم نحط بها علماً بعد وهو مما لا يتسع له هذا الحيز للإبانة والتفصيل .
وخلاصة ما يقال أن التحيز التلقائي للمصطلحات والمفاهيم هو من الأذرع المهمة في آليات الإجهاز والإبادة والتقويض لإنساننا وقطاعه وما يمت إليهما بسبب . ولعل من أقل الجهد الذي ينبغي علي الإعلاميين بذله أن يحصوا هذه المصطلحات والمفاهيم وأن يقوموا بعملية تفكيك وتشريح مفصل لها . وأن لا يستسلموا للعجز فيزعموا عدم وجود بديل إحلالي لها .
التحيز الإعلامي (2/2) محمد عبد الله الغبشاوي*
ثالثاً : التحيز للنهج الإخباري : -
العجز في المجال الإخباري نابع عن الاحتكار الغربي شبه المطلق لوكالات الأنباء والتي هي غربية في سوادها الأعظم . وهذه الوكالات جعلت مقاييسها ملزمة لنا وبصورة تلقائية . بدءاً باختيارها لنوعية الأخبار مروراً بترتيب أهميتها وما يعنينا منها . انتهاء إلي الانطباعات المختلفة عنها .
ولعل الأمثلة الواضحة تعين علي الإيضاح أكثر من الوصف المجرد . فقبل أعوام قلائل وفي حادث حركة ذهبت ضحيته الأميرة ديانا مطلقة ولي عهد إنجلترا . وجدنا أنفسنا ملزمين بمتابعة ذلك الخبر وكل التفصيلات المتصلة به . ولو طالعت المواد التلفازية والإذاعية والصحفية لعالمنا العربي الإسلامي أيام ذلك الحدث بل وبعده بزمان لوجدته مجرد صدي لما يعتمل في الآلة الإعلامية الغربية .
وقد شوهت مفاهيمنا الأخلاقية ومعاييرنا القيمية مما انجرفت فيه بعض من وسائطنا الإعلامية في تحيزها المنجرف للرسالة الإعلامية الغربية . فوجدنا من يبرر لسقطات ديانا الأخلاقية بل من يقلبها إلي سلوكيات (( قديسة )) لا تستحق الشجب وإنما تلزم بالتفهم والتعاطف بل وإضفاء صفات السمو والروعة عليها !(/3)
وما من ريب أنه كانت في أوساط عالمنا الإسلامي عشرات بل مئات من المآسي الموجعة التي غطي عليها ذلك التحيز وقبرها في التراب وطواها في عالم النسيان . كانت هناك مأساة فلسطين المتجددة وكانت هناك حيثيات مفزعة موجعة لما أصاب كرائم المسلمات في البوسنة والهرسك علي أيدي الصرب من اغتصاب وتقتيل . وكان هناك أنين الأطفال والأرامل في العراق وغيره وغيره .
كل هذا الواقع المرير الذي يستحق توفراً خاصاً ومعالجة رسالية تحليلية مواكبة له أولاً بأول تأتي تحيزات النهج الاخباري الغربي المتبناة في إعلامنا للقضاء عليها وقبرها في عالم النسيان والمثال الذي اجتزأته من موت ديانا هو مجرد شاهد ولكن غيره كثير مما يطوي معالم قضايانا في قبور النسيان .
وفي مثل هذه التحيزات الخبرية تحدث نتائج عرضية لا تقل خطورة وفداحة علي قطاعنا الحضاري وإنسانه . ومن ذلك مثلاً مسخ صورة البطولة وانحصارها من خلال الترداد الإعلامي المستمر في شكل ممثلة أو مغني أو لاعب كرة في أحسن الأفعال .
إن في هذه الصيرورة لمدرك البطولة والنجومية في قطاعنا خطر أيما خطر فهو وأد للبطولة الحق من ناحية وهو ترويج لأمثلة زائفة مضللة لا تنتفع بها في شيء وهو في بعض الحالات وأد للمروءة والفضيلة من خلال الإعلاء لشأن ساقطة أو ساقط . وكل هذا من المناقضات لمقتضى ما نحتاجه وما نريد . ففي مجتمعات محاطة بمخاطر المشروع الإمبريالي والصهيوني وفي قطاعات تتخلف فيها التنمية يوماً بعد يوم وتزداد فيها نسب الفقر والعوز ساعة بعد ساعة يكون التسويغ والترويج لهذه النماذج المزيفة من البطولة جريمة لا تقل عن المذابح الجماعية بحال .
التحيز للأشكال والوسائط :
أتيحت لي الفرصة قبل شهور للاستماع لورقة إعلامية لفت انتباهي فيها سيطرة الأسطورة الدرامية علي صاحبها كمقوم أول وركن ركين في العمل التلفازي بوجه أخص . ولو اكتفي صاحبنا بذلك لكان الأمر مفهوماً ولكنه أبان في لحظة صدق عن شغله الشاغل وهو بحثه عن فتوى تجيز له تعرية الأنثى بصورة أخص لأن ذلك صار من مقومات الأداء الدرامي الهادف والذي سيضمن القبول والرواج لرسالتنا الإعلامية !!
ولا أريد أن أعلق كثيراً علي هذا لأنه سينحرف بي عن مسار المعالجة وإنما أجتزئ منه ما يتصل بورقتي هذه وهو التحيز المطلق للأشكال والوسائط الغربية . وسيطرة ذلك علي ذهن رجال إعلامنا بحيث تحجب عنهم كل المساحات الإبداعية الحقيقة التي يمكن أن يجلوها ويبصروا بها . فنحن في الحقيقة إزاء حالة غير سوية وبكل المقاييس .
إن أشكال التعبير الإعلامي التلفازي لا يمكن اختزالها في الأداء الدرامي فقط والأداء الدرامي لا يمكن حصره في العاري منه فقط بأي حال من الأحوال ! هذه الأسطورة خلفها العجز النامي عن التحيز المفرّغ لإنساننا من كل مقومات ومقدرات الاجتهاد .
وقريب من هذا التحيز الغريب للكم الموسيقي الهائل – بكلمات أو بدونها – والذي يكاد يمسخ أهداف بعض البرامج . وزحف النسق الموسيقي الغربي حتى علي المدائح النبوية ومن المدهش لدي ألا يثير ذلك دهشة أحد . ولا أدري كم يتبقى من تراثنا – بمنطق الفولكلور الغربي نفسه – إذا استمرأت فئات من شبابنا الفارغ هذا النهج من المسخ والتشويه وبإقرار تام من الأجهزة الرسمية وغيرها .
ما أخفاه التحيز من المضامين في إعلامنا :
قد نعيد ونكرر أن قطاعنا الحضاري مليء متخم بهمومه ومشاكله الخاصة . وأنه قطاع مستهدف بالإلهاء عن تلك الهموم والمشاكل ، فواضح أن نهضته رهينة بحل وتجاوز تلك الهموم والمشاكل و التي لن يستطيع معها أن يقوم بدوره ورسالته في هذا الوجود .
ومن هنا فالإلهاء عن تلك الهموم والمشاكل شرط أول في الإبقاء علي إنساننا علي حالته من التخلف والعوز والعجز إن لم يضاعف منها ويزاد عليها . وأظن أن المكونات الأولي للرسالة الإعلامية ما يتصل بإعلاء الحس والوعي بتلك الهموم والمشكلات التي نوهنا بها لا في إطار التعريف فقط وإنما في المعالجة وكيفية القضاء والاستئصال لها .
إننا نسمع عن الإعلام التنموي ونريد أن نضيف إليه الإعلام التعبوي . ولا نعني به التعبئة بمعني الحشد للجهد العسكري كما يتبادر إلي الأذهان . وإنما نعني به الحشد لتخليق عقدة إيجابية – اسميها – في إنساننا ! لا بد من تعريف إنساننا في قطاعنا الحضاري عموماً وفي قطاعنا السوداني بوجه أخص بأنه في أدني درجات السلم في عالم الإنجاز والتحقق الحضاري! وتكون تلك (( العقدة )) إيجابية إذا ما رفدت بتعليمه كيفية تجاوز ذلك إلي نماء وإسهام حقيقي في نهضته ونهضة قطاعه .(/4)
وكل ما ننادي به موؤود بالضرورة بالتحيز للرسالة الإعلامية الغربية ومضامينها . إننا مثلاً في حاجة إلي التبصير بالهموم القومية المشتركة داخل الإطار السوداني . مشكلة مثل مشكلة العطش ينبغي أن يكثف الإحساس بها بحيث تغدو هماً خاصاً لكل فرد من أفراد الأمة وبجعلها قاسماً مشتركاً للكبير والصغير والغني والفقير . إن الذيوع والسيرورة لمشكلة كهذه قمين بأن يكثف الإحساس بضرورة الإسهام في حلها والقضاء عليها وسيحمل الضمير الجمعي ذلك وسيصتصحبه في نومه ويقظته وحله وترحاله وذلك الألم سيتحول إلي أمل ! أمل في القضاء علي ذلك الألم وتراكمات هذه المشاعر وأنواع الوعي المكتنزة والمحتشدة هنا وهناك قمينة بحل مشكلة المياه وانفراج أزمتها يوماً ومع انفراجها ستنفرج شدائد أخري كثيرة .
ومضمون إيجابي آخر خذله التحيز للمضامين الغربية في إعلامنا فنحن نعاني من تآكل الروح التكافلي في مجتمعنا ومن تنامي مارد الذاتية والانكفاء الزائد علي النفس . وقدر كبير من وزر ذلك تتحمله الرسائل الإعلامية المتحيزة للمضامين الغربية أصالة أو وكالة أعني إما عبر نماذج إعلامية غربية مباشرة أو غير مباشرة فيما يسمي بالمسلسلات العربية مثلاً .
إن التفريغ المتزايد للريف والهجرة المتزايدة إلي المدينة تدين في كثير منها إلي المضامين المتحيزة في رسالتنا الإعلامية التي صورت المدينة جنة علي الأرض ووصمت الريف بكل سلبي مثبط . فساهم ذلك ضمن أسباب أخري في ألوان المعاناة التي صار يصطلي بها الريف والحضر في آن معاً .
إن أزمة المضامين المغيبة في إعلامنا لن تواجه إلا بإعادة النظر والتمحيص للرسالة الإعلامية المتحيزة السائدة في أوساطنا ووضع خارطتها علي مائدة يجتمع إليها نفر مستقل في عقله وضميره ومشاعره يعيد تشكيل معالمها بالحقيق المهم من قضايا الأمة المصيرية في عاجلها وآجالها ويعيد إنسانها إلي حلبة التاريخ من جديد .
كي لا يكون الإعلاميون مجرد جماعة وظيفية للحلف الصهيوصليبي في قطاعنا : -
الأداء السائد للرسالة الإعلامية في أوساطنا يفتقر في جله إلي المضامين الإيجابية البناءة التي يرجي لإنساننا أن يتشربها ويحسن تفهمها والانفعال بها وتساعده علي التفهم لدوره ورسالته في الوجود واحتشاده المرتجي لأداء ذلك الدور وتلك الرسالة .
وتصحيح كل ذلك مربوط بانفكاك الإعلاميين من الربقة الغربية والانفلات من التحيز الأعمى لتلك الرسالة الإعلامية الغربية والتي يعني التمادي في الانحياز لها إطباق الحصار علي إنساننا من المشروعين الإمبريالي الصليبي والإسرائيلي الصهيوني فضلاً عن تغييب وعيه وتصعيد تقهقره وعجزه وضعفه .
إن بعضاً من الرؤى المغيّبة قد انجلى وانكشف في الآونة الأخيرة وبعض من أهمه متصل بالمعالجة التي نتوفر عليها الآن . وملخص تلك الرؤى أنه ومع تزايد العولمة الأمريكية وازدياد نهمها وتنامي ازدرائها لإنساننا وما يمثله وما ينتمي إليه برزت لديها حاجات عديدة تصب كلها في مصالحها الإستراتيجية والتي صارت العولمة آليتها الأولي والأهم في تحقيقها .
إن مسألة تفكيك الدولة والأمة والهوية صار من المتطلبات الأولي لهذه العولمة الأمريكية وفيما يتصل بمسألة تفكيك الأمة والهوية هذه لم تفلح الآلة الإعلامية الغربية في تحقيق ذلك مع ضخامتها وقوة بطشها .
ومن هنا فالمعوّل هو علي الآلة الإعلامية المحلية بحكم إجادتها للسان ولغة التخاطب وانتفاء النفور والاشمئزاز في حقها . وتوفر التآلف والأنس بها .
ومن هنا فالبادي للعيان أن المعوّل الأول سيكون علي هذا ولعل في طلائع بعض الفضائيات وما تضطلع بها من رسالة تفريغية تفكيكية دليل أيما دليل علي الدور المنوط بإعلامنا في ظلال العولمة الأمريكية هذه .
ومعلوم أن الغرب عموماً وأمريكا علي وجه الخصوص تعوّل علي ما يسمي بالجماعات الوظيفية في تحقيق ما تريد في قطاعنا في مقام أول . والجماعات الوظيفية هي التي تنجز مهاماً بالوكالة مدفوعة الأجر تعجز الجهات الأم عن القيام بها والأداء لها بنفس الإتقان والبراعة وخبرة الاحتراف المتأتية لتلك الجماعات المنوّه بها .
لقد قيل عن انتهاء دور الدولة في قطاعنا وتقلص دورها السيادي فيما بعد الحادي عشر من سبتمبر وأن ذلك سيتقلص رويداً رويداً إلي مجرد دور أمني لا للحفاظ علي أمن إنسان المنطقة وإنما الحفاظ علي الأمن الأمريكي في المنطقة . وموجز ذلك أن الدولة في قطاعنا ستتحول – أو هذا ما يراد لها – إلي دولة وظيفية موكول لها الحفاظ علي المصالح الإمبريالية الصهيوصليبية في قطاعنا وبقوة الحديد والنار !!
وكل دولة وظيفية – علي هذا السياق – تتطلب جماعات وظيفية ضابطة لأدائها موجهة لطاقاتها بما يتوافق والهوي الإمبريالي الصهيوصليبي .(/5)
وإن الحاجز الواقي دون كل ذلك درجات من الوعي والفكر مبصرة بأبعاد ذلك بل وقافزة فوقه إلي قلب ميدان التحقق والشهود الحضاري وكل ذلك لا يتأتي دون رسالة إعلامية هادفة تبثها فئات منفعلة بقضية أمتها حريصة متفانية في السهر علي حفظ فكرها ووعيها .
ومختصر كل ذلك ( إعلام رسالي ) . وكل إعلام غير رسالي هو بدرجة من الدرجات أداء جماعة وظيفية إذ ليس هناك من منزلة بين المنزلتين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،(/6)
التخلص من الفوائد الربوية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ الربا والقرض/الفوائد الربوية وكيفية التخلص منها
التاريخ ... 29/4/1423
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سؤالي حول الفوائد الربوية ووجوه صرفها وحددت بعضها، مثل: أعمال الصيانة في المركز، تسديد فواتير الهاتف والكهرباء...إلخ، ترميم أو صباغة المركز منها، تقديم مساعدات لبعض المسلمين منها أو غير المسلمين، الصرف منها على بعض أنشطة المركز، -أرجو التكرم بتحديد الأنشطة إذا كان الأمر ليس على إطلاقه- ومن الأنشطة إصدار مجلة، قيمة البريد وخصوصاً البريد المرسل لأغراض الدعوة كإرسال نشرات تعريفية عن الإسلام، أو إرسال نسخ القرآن الكريم للمسلمين إلى غير ذلك.
الجواب
اعلم يا أخي إن إيداع النقود أو فتح حساب في البنك بنية أخذ ربا (فوائد) حرام لا يجوز ولو بنية صرف هذه الفوائد في سبيل الدعوة إلى الله؛ لأن الله حرم الربا بنص كتابه، وحرم رسوله –صلى الله عليه وسلم- كل وسيلة تعين عليه "لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" البخاري (2238) مسلم (1598) واللفظ له.
أما إذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا كحال عامة البنوك في الدول الغربية، والإيداع في مثل هذه البنوك ضرورة لا بد منها فهل تؤخذ هذه الفوائد الربوية أم لا؟ اختلف أهل العلم اليوم في هذا فمنهم من منع ذلك أخذاً بظاهر نصوص القرآن كقوله –تعالى-:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ..." [البقرة:275]، وقوله:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين.." [البقرة:278]، وقوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.." البخاري (1410) ومسلم (1015) واللفظ له، وقال بعض العلماء بجواز أخذ هذه الفوائد الربوية من تلك البنوك وصرفها في مصارف الخير بنية التخلص منها لا بنية الصدقة لأنها مال خبيث، ولعل هذا القول هو الأرجح عندي –إن شاء الله-؛ لأن هذه الفوائد مع ضخامتها لو تركت عند البنوك الربوية في مثل هذه البلاد الكافرة لتقوى بها اقتصادها، وعاد ضررها على المسلمين، وإذا كان الأمر كذلك على هذا القول فالواجب عليك –أخي السائل- أن تجتهد في صرف هذا المال المسؤول عنه في أولويات أعمال المركز عندكم وأنشطته ما دامت في خدمة الدعوة إلى الله في بلاد الغربة، من دعوة غير المسلمين وتأليف قلوبهم ونشر الكتب والأشرطة التي تشرح العقيدة والأحكام الضرورية، وأنصح المسلمين بألا يأكلوا أو يشربوا مما صرف من هذه الفوائد على الطعام والشراب مما قد يوضع في المركز وهذا من باب قول الله:"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [التغابن:16].
فالله الله في تدبر هذه الآية على وفق جوابي لسؤالك، وفقنا الله وإياك إلى كل خير.(/1)
التدابير الوقائية من الإيدز في الإسلام
د. إسماعيل محمد حنفي*
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد ...
إنَّ أمر الوقاية وتدابيرها في الإسلام أمرٌ أصيل، ويندرج تحت قاعدة (سد الذرائع)(1) التي تقضي بإغلاق جميع السُبُل المؤدية إلى المحرم أو إلى الضرر. كما أنه يندرج تحت قواعد مثل:
ـ "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح"(2): فكل ما يمكن أن يترتب عليه ضرر يُحجم عنه ويُمنع مع عدم الالتفات إلى المصالح المرجوة من ورائه.
ـ "الدفع أقوى من الرفع"(3)؛ بمعنى أن منع الشيء قبل وقوعه يُعدُّ أقوى في التأثير في التعامل مع ذلك الشيء الضار مما لو انتظرنا أن يقع ثم نحاول بعد ذلك إزالته. هذا بالإضافة إلى كون الدفع ـ عن طريق الوقاية ـ يُعدُّ أسهل وأيسر وأقل تعقيداً من الرفع لآثار الضرر الذي حلَّ، وهذا قد يجُر أضراراً ومفاسد أخرى معه .. وهذا معنى قولهم "الوقاية خيرٌ من العلاج"، ولكن الفقه الإسلامي أسبق في ذلك.
أليس الأمر بغض البصر عن المحرمات وقايةً من الوقوع فيها، أليس النهي عن خلوة الرجل بالمرأة وقايةً من وقوع كليهما في الفاحشة، أليس الأمر بأخذ الحذر من العدو ـ حتى في أثناء الصلاة ـ وقايةً من وقوع ضرره على المسلمين؟.
وإذا تأملنا تشريعاً مثل تشريع الصوم نجد الوقاية نصاً ـ في القرآن ـ يقول سبحانه: ]يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلكم لعلَّكم تتقون[(4). "إنَّ الصوم الذي لخصَّ الله حكمته في العبارة القرآنية المعجزة (لعلَّكم تتقون) هو أهم أبواب الوقاية بمعناها الشامل، فلن تتحقق التقوى إلا إذا كان الجوع ذا تأثيرٍ على الجسم والعقل والروح بحيث يسهُلُ توجُّه هذه القوى الأساسية إلى غايةٍ واحدة في جوٍ من الصَّفاء والطهارة، وهي غاية التقوى"(5).
أقول: ألم يأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من لم يستطع الباءة من الشباب ليتزوج بأن يصوم، وأخبر أنَّ الصوم يُعدُّ حماية له ووقاية؟ ألا يتعلق ذلك بموضوعنا؟.
هل فكَّرنا في أن نخاطب الغربيين وغيرهم ممن انتشر عندهم هذا المرض الفتَّاك ـ الإيدز ـ بمثل هذه النصوص عن رسولناe لمعالجة أمر الشهوات الطاغية المتدفقة لدى أقوامهم لدرجة أنهم لا يعرفون أين يفرغونها أفي الإنسان فقط أم الحيوان؟ أفي النساء فقط؟ أم الرجال؟ أم الأطفال؟!.
إنَّ أمر الوقاية عندنا في الإسلام أمرٌ يسيرٌ ليس مكلِّفاً لأنه يكون بالكفِّ والامتناع، وهو ليس كالبذل والعطاء، يكفي أن تمتنع عن الطعام أحياناً، وأن تمتنع عن مفارقة الفاحشة وعن مرافقة أصدقاء السوء وعن النظر إلى المثيرات والاستماع إليها ... والبدائل موجودة بحمد الله في ما خلق الله من النعم الجليلة، والخيرات العديدة.
إنَّنا نود أن نقول هنا إنَّ الأساس الذي تقوم عليه الوقاية ـ من الإيدز وما شابهه من الأمراض الخبيثة ـ يمكن أن تكون بالالتزام بتعاليم الإسلام شكلاً ومضموناً، فالخير فيها لمن لازمها، والشر لمن بارحها.
إذاً، إن نجحنا في إقناع الآخرين بهذه التدابير الوقائية فكأنها دعوةٌ لهم جميعاً لاعتناق هذا الدِّين، لأنَّ مصلحتهم فيه، ودرء المفاسد عنهم موجود فيه، وهم ـ كبقية البشر ـ مصلحيُّون بطبعهم.
آمل أن أرصد في هذه البحث الموجز أهم التدابير الشرعية التي تُشكِّل منهجاً ينبغي الأخذ به لوقاية أمتنا من مرض الإيدز، تحجيماً للضرر عند هذا الحد وتلك الإحصائيات بحيث لا يتعدَّى ذلك إلى ما هو أكثر ... حتى نصدق قوله تعالى ]ولا تقتلوا أنفسكم، إنَّ الله كان بكم رحيما[(6)، وقوله سبحانه ]ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلُكة[(7).
أولاً: تسهيل الزواج وتشجيعه:
يقول الله سبحانه ]وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم [(8). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج...) الحديث(9).
فإن كنا نتكلم عن أسباب الوقاية من هذا الداء ـ الإيدز ـ فإنَّ علينا أن نقفل أبواب الدخول إليه، ومن أهمها ميل الرجل إلى المرأة ميلاً فطرياً، وبما أن الإسلام دين الفطرة فهو إذاً لا يحاربها بل يهذبها، ولذا شرع الزواج ليكون طريقاً سليماً صحيحاً للعلاقة بين الجنسين تضمن الثمرات الطيبة لهذه العلاقة وليس الثمرات الخبيثة.
"إذا كان الإسلام قد أعلن الحرب على مرتكبي الفواحش، وأوجب أن تقام عليهم العقوبات القاسية الشديدة، فإنه شرع الطريق النظيف لإشباع الرغبات الجنسية بطريق الزواج، إنه السبيل القويم في مقابل السيئ المقيت الذي حذَّر الله منه"(10).
ومن ثمَّ يجب على الدولة وأفراد المجتمع الجد في تبسيط أمر الزواج والإعانة عليه بتقديم الدعم للراغبين في الزواج، وفي إقامة الزواج الجماعي للشباب في المؤسسات المختلفة ـ ومنها الجامعات ـ وتوفير الوظائف المناسبة لهم.(/1)
ثانياً: محاربة الاختلاط بين الجنسين في المرافق والمؤسسات المختلفة:
حيث ثبت أنَّ الاختلاط بين الشباب والشابات يتناسب طردياً مع انتشار الفاحشة ومن ثمَّ انتشار الإيدز ...
والتفريق بين الجنسين يُعدُّ من قبيل سد الذرائع. وكأنَّ المراد هنا أنَّ الاختلاط ذريعة لإثارة الشهوات، وهذه ذريعة للزنا، والزنا ذريعة للإيدز. فيجب سد كل هذه الذرائع. والمثل السُّوداني يقول "الباب البجيب الرِّيح سِدُّوا واستريح".
ثالثاً: محاربة الفواحش:
والفاحشة هي "ما عَظُمَ قُبْحُه من الأفعال والأقوال"(11).
وقد حرَّم الله الفواحش: ]قل إنَّما حرَّم ربِيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن[(12)
ونهانا حتى عن قربانها: ]ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن[(13). والشيطان هو الذي يحرص على نشر الفاحشة: ]الشيطانُ يَعِدُكُمُ الفقرَ ويأمرُكم بالفحشاء[(14).
إذاً فكل من يسير على هذا النهج فيه شبهٌ من الشيطان.
وأعظم الفواحش اللواط، فإنه عنوان انتكاس الفطرة البشرية، والذين يمارسونه أحطَّ من الحيوانات وأضل منها: ]ولوطاً إذْ قالَ لِقومِهِ: أتأْتُونَ الفاحِشةَ وأنتم تبصرون*أئنكم لتأتونَ الرجالَ شهوةً من دونِ النساءِ بل أنتم قومٌ تجهلون).(15).
والزنا كذلك من الفواحش الكبار التي جاء الإسلام بتحريمها: ]ولا تقربوا الزنى إنَّه كان فاحشةً وساءَ سبيلا).(16)
فيجب على الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي منع كل الوسائل التي تدعو إلى الزنا: ]إنَّ الذين يحبون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرة .(17)( فكل من نشر المواد المواد الخليعة أو روَّج لها أو تساهل في أمرها لغرضٍ في نفسه يدخل في هذه الآية.
وفي الحديث الصحيح: (لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قط حتى يُعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)(18) فهذا الإيدز تأكيد لهذا الحديث، ولن يكون المرض الأخير ما دام الناس يتمادون في فحشهم.
رابعاً: عدم التساهل مع من يتعمَّد نقل المرض إلى الأصحاء:
وذلك أنه قد يقوم شخص أو جماعة ما بالتخطيط والتدبير لنقل العدوى إلى الآخرين إمَّا بمواقعتهم جبراً أو خداعاً، بالتغرير بالأطفال والفتيات الصغيرات، أو بحقن ضحاياهم بالدماء الملوَّثة بفيروس المرض أو بغير ذلك.
فإنَّ من يفعل ذلك يعدُّ من المفسدين في الأرض الذين قال الله عنهم: ]إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفوا من الأرض. ذلك لهم خزيٌ في الدُّنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم[.(19) فإن كانت الآية تُفهم على أنها تتناول قُطَّاع الطريق الذين يأخذون المال علانية، واعتبرت ذلك إفساداً في الأرض، فإنَّ من يسعون لنشر الآفات والأمراض الفتَّاكة في الناس اليوم يُعدُّون في قِمَّة المفسدين: ]وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنَّسل، والله لا يحب الفساد[(20)
ولذا يجب على الدولة توقيع أقسى العقوبات على أمثال هؤلاء عدم الرأفة بهم.كما يجب على من تصله معلومة عن شيء من ذلك إبلاغها إلى الجهات الرسمية. كما لا يمنع ذلك من بذل الوسع في مناصحة المصابين وتذكيرهم بأنَّ هذا ابتلاء وأنَّ عليهم الصبر والتوبة والرجوع إلى الله، وأنه لا ينفعهم نقل المرض إلى الآخرين، بل ذلك يزيد من إثمهم وعقابهم عند الله(21).
خامساً: يجب على مريض الإيدز أن يمتنع عن الزواج من شخص معافى، لأن المعاشرة الجنسية هي أعظم وسيلة لانتشار هذا المرض الخبيث.
ومن حق أولياء المرأة منعها إذا وافقت على الزواج من شخص مصاب بهذا المرض. ونكاح المرأة من غير ولي باطل وفقاً لرأي جمهور العلماء، ومنهم مالك والشافعي وأحمد وجمهور أصحابهم وأتباعهم عدا الحنفية.
وعلى رأي الجمهور يكون للأولياء الحق في منع مولِّيتهم من الزواج بمريض الإيدز، ولا تستطيع المرأة أن تدَّعي عند القاضي بأنَّ أولياءها عضلوها لأنَّ الزوج في هذه الحالة ليس كفؤاً، والعضل كما يقول ابن قدامه: "منع المرأة من التزوُّج بكفئها إذا طلبت ذلك" (22)
"وعلى الدولة الإسلامية أن تَسُنَّ من القوانين ما يحفظ على الناس حياتهم، ومن ذلك منع الأصحَّاء من التزوُّج بمريض الإيدز وأمثاله من الأمراض المعدية التي يصعب علاجها" (23)
سادساً: يجب على المرأة المصابة بالإيدز تجنُّب الحمل والإنجاب، ويلزمها اتخاذ الاحتياطات والوسائل التي تحول دون الحمل، وذلك وقايةً لجنينها، حيث دلَّت الإحصاءات على أنَّ نسبة انتقال العدوى إلى الجنين في أثناء الحمل تبلغ عشرة في المائة، ونسبة انتقاله إلى الطفل أثناء الوضع وبعده تبلغ ثلاثين في المائة(24)(/2)
لا مانع شرعاً من أن تقوم الأم بحضانة طفلها ـ إذا أصيبت بالإيدز ـ إلاَّ أنَّ الأحوط عدم إرضاع الأم المصابة بالإيدز طفلها إذا أمكن أن توجد امرأة ترضعه، أو في حال توافر بدائل له عن لبن الأم. أمَّا في حال تعذُّر ذلك فلا مفر من إرضاعه حمايةً له من الهلاك (25).
توصيات البحث:
وفيما يلي نخلُص إلى مجموعة من التوصيات التي نرى أنَّ الوقاية من مرض الإيدز لا تتحقق إلا بها، وأنَّ الأخذ بها يُعدُّ واجباً شرعياً بحسبان أنَّ "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(26) . كما تقول القاعدة الأصولية، وتتمثل هذه التوصيات في الآتي:
(أ) في المقام الأول: على الدولة عبر جميع مؤسساتها مراعاة الآتي:
1. تسهيل الزواج وتشجيعه.
2. محاربة الاختلاط بين الجنسين في جميع المرافق.
3. توقيع أقسى وأقصى العقوبات على من يتعمد نقل المرض للأصحاء.
4. محاربة الفواحش، وسد جميع السُبُل المؤدية إليها، ومعاقبة أصحابها.
5. ضبط إجراءات الزواج وعدم السماح بالتزاوج بين مريض الإيدز مع أحد الأصحاء.
6. القيام برصد دقيق لحالات الحمل والإنجاب ومتابعة حالات الأمهات.
(ب) دعوياً وتربوياً: على الأسر والدُّعاة والتربويين وجميع المؤسسات الرسمية والشعبية مراعاة الآتي:
1. التأكيد على أهمية الدعوة والتربية الإسلامية في تنشئة النشء والمجتمع، وضرورة توجيه الأجيال الجديدة إلى السلوك الملتزم بتعاليم الإسلام، لما في ذلك من وقايتهم من الانحرافات بكل أنواعها، والتي تؤدي في الغالب إلى الأمراض العضوية الفتَّاكة كالإيدز، وما يصاحبه من الأمراض النفسية للمريض وأقاربه.
2. التأكيد على أهمية التوعية الدينية الصحيحة لجميع فئات المجتمع، وخاصةً النشء والشباب.
3. الاهتمام بتقوية الواز ع الديني عبر كل المنابر المتاحة في وسائل الإعلام والمسجد وجمعيات النفع العام العاملة في هذا المجال.
4. ضرورة توضيح الأحكام الشرعية المتعلقة بالممارسات الجنسية المحرَّمة سواء كان ذلك من حيث الممارسة المباشرة أو غيرها، وسواء كان بالمشاركة فيها شخصياً أو المساعدة عليها بأي وجهٍ من وجوه المساعدة: كالترويج والإعلان وغير ذلك.
5. التأكيد على أهمية قيام الدُّعاة بدورٍ أكبر في مخاطبة المعنيين في هذا الجانب من شبابٍ لاهٍ مستهتر يميل إلى المجون والانفلات، وأولياء أمور غير مبالين ولا مدركين لخطورة الإيدز. والمطلوب تكثيف وعظ الجميع بخطورة الإيدز، وحُرمة الزنا، وأنَّ الإيدز نتيجة طبيعية لمقارفة الحرام ـ في أغلب الأحوال ـ وأنَّه عذاب في الدُّنيا قبل الآخرة، ومسئولية ولي الأمر أمام الله تعالى بسبب تقصيره إن كان والداً أو مسئولاً.
(ج) اجتماعياً:
1. التأكيد على أهمية دور الأسرة والعلاقات بين أفرادها في بناء الشخصية الإسلامية السويَّة وغرس الإيمان والقيم في النفوس، ومتابعة الأبناء وملاحظتهم لمعالجة أي انحرافٍ عند بدايته.
2. أهمية الاهتمام بالتوعية والتثقيف الدِّيني للأسرة.
3. أهمية الترابط الأسري وقوة العلاقات بين أفراد الأسرة، حتى لا يلجأ أحد أفرادها إلى معالجة مشكلاته وأزماته بطريقته الخاصة عبر أصدقاء وقرناء السوء.
4. أهمية الالتفات إلى المشكلات والخلافات التي تنشأ داخل الأسرة، والتوعية بالطريقة الشرعية للتعامل معها، وأن تقوم الجمعيات المختصة بدورها في هذا الإطار.
5. التأكيد على دور المؤسسات التعليمية ـ كالمدارس والجامعات ـ وأهمية وجود اتصال مستمر بينها وبين الأسرة لحل المشكلات مبكِّراً بالتعاون فيما بينها.
6. التأكيد على أهمية الرعاية الاجتماعية السليمة في كل المؤسسات، وذلك للتعامل مع المنحرفين أو المبتلين بالممارسات المحرَّمة.
7. أهمية التدريب للمدرسين بهدف المساعدة للاستكشاف المبكِّر لحالات الانحراف، والعلاقات الخاطئة، بل وبداية المرض، إن لم يكن لوقاية هؤلاء فلوقاية غيرهم من الأسوياء.
(د) صحياً:
1. الاهتمام بالتوعية الصحية، وتوضيح المخاطر الصحية للإيدز، مع عرض المعلومات والأرقام والصور التي توضِّح خطورة المرض، وتبيِّن طرق الوقاية منه.
2. أهمية تطبيق الفحص الدوري للجميع وذلك عبر مراكز وجهات موثوقة، وتقنين ذلك والإلزام به في كل المعاملات والمرافق، مع مراعاة التدرُّج المناسب لتطبيق البرنامج.
3. إنشاء جمعيات صحية في المدارس والمؤسسات المختلفة، تضطلع بدور التوعية المناسبة وتقديم المعلومات لمن يطلبها، وتبذل جهدها لوقاية الناس من الإيدز، بالتعاون مع الجهات المختصة.
4. التأكيد والتشديد على تجنُّب أي خطوة أو عملية طبية أو غيرها، قد تؤدي إلى نقل المرض من المصاب إلى غيره، وذلك مثل:
- نقل دم لم يتم التحقق من سلامته، أو مشتقات دم ملوَّثة كالبلازما، أو العامل الذي يساعد على تجلُّط الدم لمرضى الهيموفيليا.
- نقل عضو أو نسيج من جسم شخص مصاب إلى آخر سليم، مثل زرع الكُلى أو قرنية العين أو غيرها من الأعضاء.(/3)
- استخدام إبرة لحقن شخصٍ مصاب بالعدوى ثم وخز شخص سليم بنفس الإبرة.
- استخدام أدوات سبق أن اخترقت جلد شخصٍ مصابٍ أو تلوَّثت بدمه أو سوائل جسمه مثل شفرات الحلاقة أو فرشاة الأسنان وأدوات الوشم والوخز بالإبرة وثقب الأذن وكي شعر الوجه للسيدات.
(هـ) عموماً:
1. أهمية الاستفادة من تجارب الآخرين في مجال الوقاية من الإيدز: وذلك لأنَّ الحكمة ضالَّة المؤمن، أين وجدها فهو أولى الناس بها.
2. ضرورة التنسيق بين الجهات المختلفة داخل الدولة: الصحية، الأمنية، الاجتماعية، الدينية، التربوية والإعلامية، في سبيل وضع وتطبيق البرامج المناسبة للوقائية من الإيدز، وذلك تعاوناً على البر والتقوى، ولأن الإنسان قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ لوحده، قويٌّ مع المجموعة.
هذا ما تيسَّر لي رصده وتدوينه في هذا البحث، أرجو أن يكون قد تم بيانه بالطريقة المناسبة، آملاً أن ينفع الله به من قرأه ومن سمعه.
والحمد لله رب العالمين
----------
(1) الشاطبي ـ الموافقات في أصول الشريعة 3/257 ـ 300.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص: 179 ـ 223.ابن نجيم الأشباه والنظائر، ص: 90. الزرقا، المدخل الفقهي العام، فقرة: 594.
(3) السيوطي، مرجع سابق، ص: 560.
(4) سورة البقرة الآية (183).
(5) د. عبد الحليم عويس، الرعاية الصحية في الإسلام، ص: 96، ط1/1989م. من مطبوعات صحيفة الشرق الأوسط: الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، جدة.
(6) سورة النساء الآية (29).
(7) سورة البقرة الآية (195).
(8) سورة النور الآية (32).
(9) البخاري، الجامع الصحيح 3/412، الترمذي، السنن 1/201.
(10) أ.د. عمر الأشقر، بحث: أحكام الشريعة المتعلقة بمرض الإيدز، منشور في كتاب "دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة"، ص: 25 ـ 88، ط1، سنة 2001م، دار النفائس الأردن.
(11) الراغب الأصفهاني ـ المفردات في غريب القرآن، ص: 373.
(12) الأعراف الآية (33).
(13) الأنعام الآية (51).
(14) البقرة الآية (26).
(15) سورة النمل الآية رقم (55) .
(16) سورة الإسراء الآية(32) .
(17) سورة النور الاية (19) .
(18) سنن إبن ماجه 2/1322 . حديث رقم (4019) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي . دار إحياء الكتب العربية القاهرة سنة 1902م .
(19) سورة المائدة الآية (33).
(20) سورة المائدة الآية (33) .
(21) يذكرون أنَّ رجلاً كندياً كان يعمل عمل قوم لوط وكان من أوائل من أُصيبوا بالإيدز، نصحه الأطباء بعدم ممارسة الجنس مع أحد، فمارسه بطريقة محمومة جنونية، حيث زعم أنه مارسه مع ألف شخص في أمريكا قبل أن يهلك عام 1984م!!. د.فهمي مصطفى محمود، وهكذا بدأ مرض الإيدز، ص: 51.
(22) ابن قدامة المغني 7/337. دار الكتاب العربى . بيروت 1983م . وراجع مذاهب الفقهاء في اشتراط الولي . الشوكاني . السيل الجرار 4/ 259 دار الكتب العلمية ، بيروت 1985م ، ابن رشد ، بداية المجتهد 2/9، ابن حزم ، المحلة 9/451- الكسائى – بدائع الصنائع 2/247 .
(23) أ.د عمر سليمان الأشقر ، مرجع سابق ، ص 25 / 88 .
(24) د. محمد هيثم الخياط وزميله ، معلومات أساسية حول مرض الإيدز ، ص 3 .
(25) من توصيات وقرارات ندوة(رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز) عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الكويتية بتاريخ 6/8/1993م في مدينة الكويت بالاشتراك مع وزارة الصحة الكويتية ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية، وهي الندوة الفقهية الطبية السادسة من سلسلة ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. انظر بحث: الأحكام الشرعية المتعلقة بمرض الإيدز. مرجع سابق، ص: 72.
(26) الشوكاني ، إرشاد الفهول 1/411 ، تحقيق محمد سعيد البدري ، ط 1 ، سنة 1992م نشر دار الفكر ، بيروت ، ابن تيمية ، الفتاوي 28/259 - 31/321 - تحقيق عبد الرحمن بن قاسم .(/4)
التدافع في منى من منظور نفسي - اجتماعي
مريم بنت عبداللطيف الناجم * 18/12/1426
18/01/2006
يُعدّ رمي الجمرات من أسهل مناسك الحج وأيسرها أداء، ذلك أن عملية الرمي
بحد ذاتها لا تتطلب أكثر من رمي عدد معين من الحصيات التي جمعها الحاج من مزدلفة، ومع ذلك يقع أثنائها أخطر الحوادث، وأكثر الإصابات لدى الحجاج حتى أصبحت حوادث التدافع بمنى وما ينتج عنها من وفيات من الأشياء المتوقعة في مثل هذا الموسم العظيم، وخاصة في اليوم الثاني من أيام التشريق.
ونظرًا لأهمية الحدث فقد تناوله الكثير من المحللين والمهتمين بهدف التوصل إلى تفسير دقيق وموضوعي للحدث، كل بحسب وجهة نظره وتخصصه، ومن خلال متابعة آراء المحللين نجد أنها ركزت على الجانب المادي والتنظيمي، واهتمت بالمكان والخدمات بشكل عام، لذا سيكون الحديث هنا عن الجانب النفسي والاجتماعي للحاج، والذي يُعدّ غاية في الأهمية؛ لأن إغفاله قد يُبقي على المشكلة حتى مع توافر الحلول المادية.
إن الصعوبة ليست في الرمي، وإنما في الظروف النفسية والاجتماعية المصاحبة لها، ذلك أن الحاج يأتي إلى مكان الرمي، وفي ذهنه عدد من المهام التي ينبغي له إنجازها في وقت محدود جداً، فهو يستحضر أن عليه إتمام رمي الجمرات في مكان مزدحم بالحجاج، ثم الانطلاق سريعاً لأداء طواف الوداع قبل وصول أفواج الحجاج إلى مكة، ثم عليه أن يستعد للمغادرة بكل ما يتطلبه ذلك منه من جهد، كل هذه الصور الذهنية للأعمال المطلوبة تجعله في حالة نفسية خاصة، كالشعور بالتوتر وفقدان الإحساس بالطمأنينة، والخوف من أن يشكل الآخرون حوله عائقاً أمام أداء ما تبقى من المناسك مما يزيد من حالة التأهب الشديد، واستنفار القوة الجسدية لمقاومة العوائق والحماية من الخطر، ولذا يحدث التدافع في اليوم الثاني من أيام التشريق الذي يذهب ضحيته سنوياً أعداد من الحجاج. ومما يزيد من تأثير هذا التدافع أن الكثير من الحجاج يتحركون للرمي بعنف في شكل جماعات كبيرة متماسكة، وكل جماعة تسعى إلى توفير الحماية لأفرادها فقط، والذي يكون في الغالب على حساب غيرها. وعادة لا تتحرك جماعات الحجاج دون تعليمات محددة لأفرادها، مثلاً على الفرد الحاج أن يقاوم كل الظروف التي تحول دون وصوله إلى الهدف أو تتسبب في انفراطه من يد الجماعة التي ينتمي إليها، وهذا بلا شك سوف يحصر الحاج في إطار أهداف جماعته، ويجعل الآخرين حوله مصدر تهديد مما يدفعه إلى التعامل غير المناسب معهم، والذي قد يصل إلى حد العدوان.
وتفادياً لهذا الوضع النفسي والاجتماعي كان ينبغي على الحاج أن يؤدي النسك بهدوء وسكينة، مع استشعاره لعظمة شعائر الحج، وأن يكون تفكيره في الرمي وليس في المهام اللاحقة، بحيث لا يزدحم ذهنه بتفاصيل أعمال مستقبلية ليس هذا وقتها؛ لأن ذلك سيجعله مندفعاً في سلوكه، وغير متأمل لما يقوم به من مناسك حالية، بل قد يفقده الشعور بالجو الإيماني الذي يغمر لحظات الرمي، ويكون كالذي يصلي، وهو مشغول البال بأمور حياتية مختلفة، مما سيؤثر على أدائه للصلاة وبالتالي تأثيرها على نفسه وروحه. هذا إلى جانب أن التأخر في النزوح من منى إلى مكة - وهو ما يخشاه الحاج- سوف يحدث لا محالة إذا تصرف بهذا الاندفاع والعشوائية، وقد لا يصل إلى مكة أبداً. كما عليه أن يتأمل التجمع الإسلامي المهيب في الحج، وأن يجدد في نفسه روح الانتماء إلى أمته الإسلامية، وأنه جزء منها وليس مجرد فرد في جماعة انسلت من هذا التجمع الكبير لتُكون لنفسها وضعاً جديداً لا يأخذ في الاعتبار مصالح من هو خارج هذه الجماعة. وخلاصة القول: إن الحاج يحتاج إلى استعداد نفسي واجتماعي سليم كي يؤدي مناسك الحج بلا ضرر ولا ضرار. ويمكن أن تساهم عدة جهات في تنمية هذا الاستعداد وتهذيبه، وبكل الوسائل الإرشادية المتيسرة، ومن ذلك الاستعانة بمرشدين نفسيين يتولون عملية إرشاد الحجاج ومساعدتهم على تنظيم أفكارهم وسلوكهم، وتبصيرهم بأخطائهم الذهنية التي قد تقودهم إلى مالا تُحمد عقباه.
* باحثة في مرحلة الدكتوراه في تخصص الإرشاد النفسي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسل(/1)
التداوي بالأعشاب.. بديل أم مكمل؟!
دبي/ حسام أبو جبارة 24/6/1427
20/07/2006
"الأعشاب صيدلية متنقلة، كلما شحّ العلاج افتحها، وانتق منها دواءك".. هكذا يقول الكثير من الناس الذين يؤمنون بالعلاج بواسطة الأعشاب، بديلاً أو مكملاً للعلاج الكيماوي.. ولكن هل كل الأعشاب صحية وخالية من الأخطار؟! أليست أشهر السموم التي عرفتها البشرية في الماضي والحاضر عبارة عن أعشاب ونباتات؟!
لقد عرف الإنسان منذ فجر التاريخ الأعشاب الطبية وفوائدها العلاجية المختلفة، وبرع الصينيون والمصريون القدماء في علم التداوي بالأعشاب؛ إذ استخدموها للعلاج والتحنيط والزينة. وفي العصور الإسلامية انتشر أيضاً علم التداوي بالأعشاب، وظهر الكثير من الكتب والمخطوطات التي تشرح بصورة واضحة أنواع الأعشاب الطبية المختلفة وطرق استخدامها والأمراض التي يمكن أن تعالجها. وبالرغم من التطور الهائل في الطب وظهور الكثير من الأدوية في شتى مجالات العلاج، فإن الحقبة الماضية شهدت عودة إلى استخدام الأعشاب الطبية في علاج الأمراض، كواحد من أهم أفرع الطب البديل.
(الإسلام اليوم) تفتح ملف طب الأعشاب البديل أو المكمل، وتستطلع آراء خبراء الأعشاب والأطباء والاختصاصيين في هذا المجال.
كثرة المؤيدين
في البداية تحدثنا إلى بعض الأشخاص الذين استخدموا الأعشاب للعلاج، ومنهم غياث الراس، الذي يؤمن بمقولة "الأعشاب إن لم تنفع فإنها لا تضر"، وتحدث عن والدته التي مرضت مرة، مرضاً شديداً، واستخدمت الأعشاب علاجاً فأعطت مفعولها أكثر من الدواء التقليدي. أما خالد محمد فيستخدم العسل وحبة البركة وغذاء ملكات النحل واليانسون علاجاً لأوجاع المعدة الذي يعاني منه منذ ثماني سنوات، وهو يرتاح كثيراً عند تناولها، ولا يعتقد بوجود أضرار جانبية لها.
ويفضل أحمد سمية استعمال الأعشاب للأمراض التي تأخذ وقتاً طويلاً للشفاء؛ لأن مخاطرها تكون أقل من الدواء العادي. وهو يرى أن المستقبل سيكون للعلاج بالأعشاب لأنها متوفرة بكثرة، وسهلة الاستخدام، ورخيصة الثمن، ومخاطرها قليلة. ولكن عبيد صالح لم يستخدم الأعشاب مطلقاً في حياته ولا يؤيد استعمالها إلا لأمراض بسيطة كآلام البطن مثلاً. وتنصح منال عبد الله بالحصول على الأعشاب والأدوية المصنوعة من مواد طبيعية من أماكن ومحلات مرخصة من الجهات المعنية، وبضرورة استشارة الطبيب قبل استخدامها؛ لأن بعضها له مضاعفات سلبية. أما فرح بدر فلا تحكم على إمكانية شفاء الأعشاب للمرضى إلا بعد تجربتها، وقد استخدمت هي شخصياً أعشاباً كالميرمية والبابونج لعلاج أمراض البطن بعد أن أخبرتها والدتها بأنها مجربة.
وإذا كان معظم الذين التقيناهم يستعملون الأعشاب الطبية، ويؤمنون بنجاعتها، فإن لديهم الكثير من التساؤلات حول مصادر هذه الأعشاب، وكيفية استخدامها في العلاج، وكيفية التفريق بين المفيد والضارّ منها.. لذلك التقينا بعض خبراء الأعشاب والأغذية الطبيعية كي نستوضح منهم الأمر.
* أعشاب منزلية مفيدة
يُعدد عبد الرؤوف يونس -خبير أعشاب- المناطق التي يحصلون منها على الأعشاب الطبية بالقول: "هناك الكثير من الدول التي نحصل منها على الأعشاب المستخدمة في العلاج ومنها: الهند، ومصر، والصين، وإيران، وسوريا، واليمن، والسودان، وروسيا، وأستراليا، وألمانيا".
ويضيف يونس: "هناك أعشاب ومواد طبيعية موجودة بسهولة بين أيدي الناس يمكن أن تعالج الكثير من الأمراض مثل "الحبة السوداء" التي تنشط جهاز المناعة من خلال تحسين فعالية الخلايا الطبيعية القاتلة التي تهاجم الخلايا المريضة، كما أنها تحتوي على مواد مقوية ومنشطة، وهي تزيل السّعال العصبي، وتعالج الإرهاق، وتنشط الذاكرة، وتساعد على زيادة إدرار حليب الأم والبول.. وهناك عشبة "الأيكناشيا" التي تعدّ النبات الأول في حماية الجسم من الميكروبات، ومعالجة الالتهابات الصديديّة في الجسم، وهي توقف نمو البكتيريا وتقضي عليها، وتعالج الدمامل وحب الشباب والتهاب اللوزتين ولدغات الأفاعي. كذلك يعتبر "الكركم" خير من يحافظ على صحة ووظائف الكبد، فهو مضاد للدهون في الدم وخلايا الكبد ويقلل من مستوى الكوليسترول في الدم، ويحمي من سرطان القولون. ويساهم في علاج مرض السكري؛ لأنه يحفز إنتاج الأنسولين من خلايا البنكرياس، ويفيد في حالات الإرهاق والإجهاد. أما "إكليل الجبل" فينشط القلب والأمعاء، ويقوي الذاكرة، ويطرد الغازات، ويساعد في علاج الصداع النصفي، ويحسّن الدورة الدموية، ويطهّر الرئة، ويزيد من إفراز المرارة، ويوسع الشرايين الدقيقة في الرأس. في حين يخفّض "الراوند" من حرارة الجسم، ويعالج البواسير ويخفف من الدهون والشحوم، ويعالج الإمساك، وينشط البنكرياس. ويستعمل شاي "الراوند" لإزالة الحبوب السوداء من الوجه عن طريق شربه".(/1)
ويضيف خبير الأعشاب سامر الحميدي إلى هذه الأسماء: "البابونج" الذي يهدّئ الأعصاب ويعالج المغص المعوي، و"الميرمية" التي تخفض نسبة السكر في الدم، وتخفف الوزن، وتهدئ القرحة المعوية، وكذلك "الزعتر" المهدئ للسعال، والمنشط للذاكرة، و"الشاي الأخضر" المانع للتجلطات والمخفف لنسبة الدهون في الدم، وهو يساعد على تخفيف الوزن، ويقي من السرطان.
الخبرة هي الأساس
وحول فحص ومراقبة الوصفات العشبية المستخدمة للعلاج قال خبير الأعشاب والتداوي بالحجامة عادل العارف: إن جميع الأعشاب والوصفات الدوائية العشبية في دولة الإمارات العربية المتحدة، مثلاً، تُفحص في "مجمع زايد لبحوث الأعشاب والطب التقليدي" في "أبو ظبي"، وهو الجهة الرئيسة في هذا المجال كونه يضع معايير جودة الأعشاب المستوردة للتأكد من سلامة استعمالها، ويجري الأبحاث على المواد العشبية من أجل تطوير جودتها وفعاليتها. ويؤكد الخبير سامر الحميدي أن جميع الأعشاب المستخدمة في العلاج تخضع لمراقبة وإشراف من قبل وزارة الصحة والبلديات للتأكد من مطابقتها للقوانين والشروط الصحية، كما يتم فحص نظافة وتهوية الأعشاب وصلاحيتها باستمرار، إضافة إلى مراقبة كيفية تجهيز الخلطات العشبية والزيوت الطبيعية.
وبالنسبة للتحقق من موثوقية مكونات الوصفات العلاجية، يقول الخبير عبد الرؤوف يونس: إنه لا يصف علاجاً من الأعشاب دون أن يعرف مكوناته؛ لأن الخبرة هي الأساس. ويضيف عادل العارف أن غالبية الوصفات مأخوذة من أمهات الكتب مثل "الطب النبوي"، ومؤلفات ابن سينا وكتاب "تذكرة داود" للأنطاكي، وكتاب "الرحمة" للإمام السيوطي وغيرها، ولذلك لابد للمعالج بالأعشاب أن يكون مُلمّاً بخواصها، سواء كانت مفردة أو مركبة.
ولعل من المفيد هنا أن نعدّد بعض النصائح حول أسلم الطرق لاستعمال الأعشاب بطريقة صحية سليمة ومنها:
- استشارة أهل الاختصاص قبل استعمال أي دواء عشبي لمعرفة مزاياه وأعراضه الجانبية المحتملة.
- الالتزام بالكمية أو الجرعة الموصى بها وعدم تجاوزها.
- استعمال الأعشاب من قبل الشخص المريض فقط، وعدم إعطاء نصائح باستعمالها من قبل أشخاص مصابين بذات المرض؛ لأن بعضهم قد تكون عنده حساسية تجاه بعض الأعشاب.
- الانتباه لأي تفاعلات محتملة، خاصة في حالة استخدام أعشاب أو أدوية أخرى.
- الحصول على الأعشاب من أماكن مرخّصة؛ لأن الحصول على الأعشاب من مصادرها الطبيعية يتطلب خبرة طويلة، فمثلاً هناك تشابه كبير بين "البقدونس البري" ونبات "الشوكران" السامّ، وكذلك الأمر بالنسبة للفطر العادي، وفطر "الأمانيتا" الذي يُعرف بـ"قبعة الموت" تأكيداً على سُمّيّته الشديدة!
أمراض عالجتها الأعشاب
يجمع خبراء الأعشاب على أن الفئة الأكثر إقبالاً عليهم هم الأشخاص الذين يئسوا من الطب الحديث وآثاره الجانبية، وفي الغالب أولئك الذين يعانون من أمراض استعصى علاجها، كما يقول عادل العارف.
من جانبه، يرى عبد الرؤوف يونس أن هناك الكثير من الأمراض المستعصية التي عالجتها الأعشاب بعد أن عجز عنها الطب الحديث، ومنها الصدفية، والأكزيما، والربو، والسكري، وأمراض الكبد الفيروسي، وكذلك - كما يقول سامر الحميدي - تضخم البروستاتا ومشكلات الكليتين، ويضيف الحميدي أن الوصفات العشبية تعد مكملة للعلاج الكيميائي، فلا تُعطى أي وصفة عشبية إلا بعد السؤال عن الدواء الذي كان يتعاطاه المريض حتى لا تتداخل مكونات العلاج وتحدث مضاعفات خطيرة لا قدّر الله.
ويروي الحميدي أمثلة لأشخاص عولجوا بوساطة الأعشاب فكان الشفاء حليفهم، ومنهم طفل في الخامسة من عمره كان يعاني من احتقان والتهاب حادّين في اللوزتين، وكان من المقرّر أن تجرى له عملية لاستئصال اللوزتين، إلا أنه أُعطي برنامجاً غذائياً خاصاً، ثم علاجاً من الأعشاب والعسل وخلاصة الزيوت الطبيعية فشُفي بفضل الله خلال فترة لا تتجاوز الأربعين يوماً وأُلغيت العملية. وهناك رجل سوداني الجنسية عمره (54) عاماً أثبتت التحاليل الطبية وجود تضخم والتهاب في البروستاتا عنده، فأُعطي نظاماً غذائياً من (المايكرو بوتيك) ثم أُعطي وصفة عشبية مع العسل، وخلال سبعين يوماً شُفي وعادت له حياته بشكل طبيعي دون مشكلات.
الطبيعة خير علاج
تعمل الصيدلانية كندة الصرّاف في مركز متخصص بالغذاء الصحي، وهي - بحكم عملها- لها خبرة في مجال الغذاء الصحي والعلاجات المأخوذة من مواد طبيعية.
سألناها بداية عن مصدر المواد المتوفرة في المركز فقالت: "كلها منتجات وأغذية طبيعية 100%، بدءاً من الأرض التي تُزرع بها، مروراً بالأسمدة التي تُضاف إليها، وانتهاء بطرق تصنيعها وحفظها؛ فالأغذية طبيعية وبعضها مضاف إليه معادن وعناصر غذائية مفيدة للصحة، كالألياف، والبروتينات. أما الأدوية فكلها من مصدر عشبي مؤكد وموثوق".(/2)
وبالنسبة لاستخدام بعض المنتجات الطبيعية علاجاً، تؤكد كندة أن الأدوية الطبيعية لا تعدّ علاجاً بحد ذاتها، ولكنها مكملة وداعمة للعلاج الكيميائي، كما أن الاعتماد على غذاء طبيعي من شأنه أن يمنح وقاية للمستقبل. وحول أكثر المنتجات التي يقبل عليها الناس، تقول الصراف: إن الفيتامينات تحتل المرتبة الأولى، تليها أدوية التنحيف وتخفيف الوزن، ثم المقويات الرياضية.
رأي الطب الحديث
يرى الدكتور عدنان عبد الواحد -أخصائي أمراض المفاصل والعظام- أن الأعشاب لم تُدرس نتائج فعاليتها وتأثيراتها جيداً مثل الأدوية المصنعة كيميائياً، لذلك فإنها قد تكون فعّالة في علاج بعض الأمراض البسيطة مثل نزلات البرد والرشح والسعال. ويضيف: "الأدوية المصنعة كيميائياً تكون آثارها الجانبية محسوبة ومدروسة جيداً، وقد جُربت سنوات طويلة قبل أن يُؤذن لها بالتداول، أما العلاج العشبي فلا تزال الدراسات والتجارب قليلة فيه وقد تكون مضاعفاته خطيرة على المدى البعيد".
ويعتقد الدكتور عبد الواحد أن استخدام الأعشاب الطبية قد صاحبه الكثير من عدم الدقة والمبالغة في الوصف إلى الحد الذي دخل الدجل أو الخداع فيه؛ فقد تقرأ أو تشاهد في الإعلانات بأن الدواء العشبي الفلاني له مفعول سريع وسحري، ولكن عند الاستعمال تظهر الحقيقة، وتكون له تأثيرات جانبية لا تُحمد عقباها، لذلك يجب استشارة الطبيب في ذلك، وعدم التهاون في التعامل مع صحة الإنسان من قبل أشخاص لا علاقة لهم بالطب، ويدّعون الخبرة بالأعشاب.
ورغم معارضة الدكتور عدنان عبد الواحد الدواء العشبي وتفضيله الدواء الكيميائي، فهو يقرّ بأنه لم تُعرض عليه حالات لمرضى أثّر فيهم دواء عشبي تأثيراً سلبياً. ويضيف: "يمكنني أن أصف دواءً عشبياً لمريض لكن بشرط أن يكون مصنعاً في شركة أدوية معروفة لكي تكون مكوناته مضمونة".
وإذا كان الأطباء يعتقدون بأن الأدوية والعقاقير أكثر فعالية من الأعشاب كونها تخضع لإدارة وإشراف منظمة الأغذية والأدوية (FDA)، فإن الأعشاب في الواقع تتمتع بميزة أكبر وتاريخها الطويل في مجال الاستهلاك؛ إذ صمدت إزاء اختبار الزمن منذ عصور. وتعتمد فعالية العشبة على عوامل عدة: تركيبتها الجنينيّة، شروط الزراعة والنمو، درجة النضوج وقت الحصاد، مدة التخزين، طريقة التصنيع. ولذلك يفترض فعلاً الحصول على الأعشاب من مصادر خاضعة لإشراف من الجهات المعنية.
طب مكمل وبديل
العلاج بالأعشاب أصبح اليوم اتجاهاً عالمياً أقرّته منظمة الصحة العالمية لمزاياه وتدني تأثيره الجانبي مقارنة بالدواء الكيميائي، بيد أن العلاج بالأعشاب له بعض العيوب؛ فهو:
أولاً: علم دخله الكثير من الدجل والخداع.
وثانياً: بعض وصفاته العلاجية تحتاج وقتاً طويلاً حتى تشفي المرض.
وثالثاً: هناك صعوبة في تحديد دقيق لمكونات الدواء العشبي.
ورابعاً: معظم الرقابة على الأعشاب تقتصر على فحص تاريخ صلاحيتها أكثر من أن تكون رقابة صحية حول مفعولها. ومن الضرورة أن يتم استخدام العلاج بالأعشاب بعد الحصول عليها من أماكن مرخصة وأن يراجع الأطباء أو المختصين قبل التفكير باستعمال العلاج العشبي؛ لأن لكل مرض علاجاً، بوسائل وجرعات محددة. كما أن بعض الأعشاب يمكن أن تكون بديلاً كلياً للأدوية الكيميائية، وخاصة في الأمراض البسيطة، وبعض الأمراض التي ثبتت نجاعة العلاج العشبي معها، وبالمقابل هناك بعض الأمراض التي تُعدّ الوصفات العشبية مكملة للدواء الكيميائي في علاجها(/3)
التداوي بالقرآن الكريم بين الالتزام والتجاوز
أحمد إسماعيل*
(الهادي).. شاب ظل يداوم على التردد عليّ بغرض الرقية.. وظللت أرقيه طيلة ثلاث سنوات متتالية.. ولكن لم يحدث أي أثر، ومع استمرار الحالة.. وبعد تفكر عميق طلبت منه أن يحضر معه في المرة القادمة واحدًا من أعضاء أسرته .. وفي اللقاء التالي حضر ومعه أخته، وبدأت أرقيهما معًا.. فإذا بأخته تستحضر – ينطق الجن الذي فيها- وبعدها بقليل إستحضر الهادي نفسه .. وواصلت الرقية حتى نطق الجني الذي يسكن الفتاة، أخبرني-على لسانها- أن السحر مدفون تحت النخلة التي في منزلهم، فسألته: في أي شيء دفن ؟.. هل هو في علبة، أم في لفافة، أم ماذا؟.. فقال الجني: في جثة طفل!!.. ويا لهول المفاجأة!! .. وبالفعل قاموا بالحفر تحت النخلة فوجدوا جثة طفل. و وجدوا بداخلها السحر!!.."
هكذا روى لنا أحدالمشتغلين بالعلاج القرآني أو الرقية الشرعية!! .. وعشرات القصص مثل هذه يرويها هؤلاء الناس.. و يقولون إن أمراضاً كثيرة تستعصى على الطب .. يقومون بمعالجتها بعد أن يكتشفوا أن سببها تلبس الجن بالإنسان!!.. لقد انتشر المعالجون بالرقي.. وافتتحت كثير من الدور – كعيادات – ولمعت كثير من الأسماء .. بعض الرقاة أدخل التكنولوجيا الحديثة في عمله مثل أجهزة الحاسوب وغيرها.. بل وصارت للرقية مواقع على شبكة الويب تستقبل استشارات الناس وتقوم بالرد عليها.. وتدلهم على العلاج وعلى المعالجين.
أصبح هذا النمط من (الطب) والعلاج ظاهرة أخذت حيزها في عالم اليوم، ومع تمددها .. تمددت كثير من التساؤلات والآراء حول هذه القضية.. هل هي ظاهرة صحية أم ظاهرة مرضية!!؟.. وما هي الضوابط الشرعية للرقية؟.. هل يسمى هذا النمط طبًا؟!!.. هل يجوز اعتبار الرقية مهنة ومصدرًا للكسب.. إلى غير ذلك من الآراء والتساؤلات التي انقسم الناس فيها بين مؤيد ومعارض..
ما هي الرقية الشرعية:
يقول الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة.. أستاذ أصول الفقه بجامعة القدس:
إن مس الجن للإنسان ثابت وقد قامت الأدلة على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الواقع يؤيد ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك) مجموعة الفتاوي 24/276.
ويكون العلاج من صرع الجن للإنسان بقراءة الآيات القرآنية والأوراد النبوية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشيخ محمد سيد حاج يرى أن: الأصل عند المرض الذهاب إلى الطبيب ولكن القرآن فيه شفاء للأمراض العضوية أيضاً و الشاهد في ذلك حديث اللديغ .
ويرى البعض الرقية الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: الرقية الشرعية الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، من آيات أو أحاديث، وهي رقية باللغة العربية الفصحى ومفهومة.
ثانيًا: رقية بدعية وهي عبارة عن خليط من الصحيحة وأُضيف إليها بعض إجتهادات البشر وهيه بدعة.
ثالثًا: الرقية الشركية وهي التي تقرأ على المريض بغير اللغة العربية وبلهجة غير مفهومة وبها استعانات واستغاثة بغير الله سبحانه وتعالى..)
إدارة الإفتاء والبحوث الشرعية بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت هي الأخرى في فتواها رقم 87ع/92 بتاريخ 12/7/1992.
تجوز الرقية بشروط ثلاث:
أوليها: أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته.
ثانيها: أن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
ثالثها: أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله تعالى وقدرته".
وتضيف في فتواها رقم 3ع/ 94 بتاريخ 6/7/1994م.
ما نصه: (ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرقية من كل داء يصيب الإنسان بشروط أربعة:
الأول: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وبالمأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذكر الله مطلقًا.
الثاني: أن يكون الكلام مفهوم المعنى، وألا يستعمل فيها الطلاسم والرموز التي لا يفهم معناها.
الثالث: أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله تعالى وقدرته.
الرابع: أن لا تشتمل الرقية على شرك أو معصية.
وقد روى عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله، فكيف ترى في ذلك ؟! فقال صلى الله عليه وسلم: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك" أخرجه مسلم.
انتشار ظاهرة تلبس الجن بالأنس:
يزعم المعالجون بالرقية الشرعية أن ظاهرة تلبس الجن بالانس بسبب السحر أو المس أو العين قد انتشرت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.. مما سبب كثيراً من الإشكالات الاجتماعية والتعقيدات الكبيرة .. يقول أحد الممارسين للرقية في إحدى الدول العربية أنه عالج ما يقارب الـ2 مليون حالة.
ويقول الأستاذ: المتنبئ عبد الله ـ أحد المعالجين بالقرآن الكريم بمدينة أمدرمان، السودان :(/1)
(لاحظت أن كل قبيلة من قبائل السودان ينتشر فيها نوع معين من الأمراض وأعتقد أن مرجع انتشار هذه الأمراض مؤخرًا في السودان يرجع إلى ظاهرة النزوح – عقب الجفاف والتصحر – التي ساعدت على انتشار الثقافة الوثنية السحرية.. ويقول إن أكثر الأمراض إنتشارًا هي إصابات العين.
كما يرى أن للسحر أثرًا كبيرًا في التحولات والتفكك الاجتماعي وشيوع التحلل الخلقي فيقول إن هناك مثلاً (سحر الجلب) الذي يستخدم في إغواء الفتيات للسقوط في مستنقع الرذيلة.
أما عبد الجليل آدم فضل: (متخصص في الرقية الشرعية) الخرطوم بحري – حي المزاد – فيقول:
إن أكثر الأمراض إنتشارًا هي العين – الحسد .. والسحر، وهناك فرق بين العين والحسد، فالعين قد تكون عين إعجاب فقط. بغير حسد. وقد تكون عين حسد، ويشتركان في كون الإصابة بها تكون عن طريق النظر من النفس الخبيثة. أو ما يسمى عند العامة بـ(النجيهة).
هل هناك تداخل بين الأمراض العضوية وأمراض المس الشيطاني:
الأستاذ المتنبئ عبد الله يرى أن : هناك تداخل كبير بين الأمراض العضوية والأمراض الروحية. أمراض المس الشيطاني. ويدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الطاعون من وخز إخوانكم من الجن) وأنا أذهب إلى أبعد من ذلك، بل أعتقد أن السبب الأساسي وراء الأمراض هو المس ولكني لا ألزم أحدًا بهذا الرأي .. فالطب الحديث متقدم في علاج (الظواهر والنتائج ولكنه متأخر في علاج الأسباب والمقدمات).
فمثلاً: (السكري) يذهب الطب إلى أنه ناتج عن خلل في البنكرياس ولكن لا يقدم تفسيرًا لهذا الخلل.. ما سببه .. أنا أعتقد أن الجن هو المتسبب في الخلل، وقد قمت بعلاج حالة من هذا النوع، وجدت أن الجن يسكن البنكرياس.. كذلك الحال في سرطان الدم (اللوكيميا) فقد مرت عليَّ حالة امرأة مصابة به، وكان الجن يجري في دمها، فعندما قرأت عليه قوله تعالى (وجاءوا على قميصه بدم كذب) استحضر الجن، وبعد ذلك خرج وشفيت المرأة تمامًا.
ولكن عبد الجليل آدم مع كونه يوافق المتنبئ في وجود التداخل بين الروحي والعضوي .. إلا أنه لا يذهب مذهبه في إرجاع سبب كل الأمراض العضوية إلى مس الجن فيقول:
ليس صحيحًا أن كل مرض عضوي سببه الجن بل هناك أمراض عضوية بحتة .. وهناك أمراض روحية بحتة ليس لها حتى أعراض قاهرة.. وهناك أمراض مشتركة.. بل إن المرض وإن كان في الاصل روحي ولكن العرض العضوي فيه أكبر .. فهنا يكون الأولى الذهاب إلى الطبيب.
تجاوزات المعالجين بالقرآن:
يتهم المشتغلون بالعلاج بالقرآن بأنهم يتوسعون في الأمر إلى درجة التجاوز وتنسب إليهم أفعال بعضها يدخل في باب المتفق على تحريمه .. وآخرون انزلقوا إلى استعمال الطلاسم وغيرها فوقعوا في ممارسة السحر وتسخير الجن .. ولكن بعض ما ينسب إلى التجاوز من هذه الأفعال محل اختلاف في وجهات النظر... وهذا الأخير باب كثر فيه الجدال بين المشتغلين بالرقية الشرعية وبين منتقديهم.
يقول الشيخ ياسر عثمان جاد الله: خطيب مسجد دار تحفيظ القرآن الكريم بالعيلفون:
هناك تجاوزات تحدث من بعض الممارسين للرقية الشرعية تدخل في باب الممنوع شرعًا .. مثل الخلوة بالمرأة الأجنبية ومس بدنها وأحيانًا تتكشف المرأة الممسوسة أمامهم.. والبعض لا يتورع عن هذه الأشياء لأنه يتعامل مع المسألة من ناحية تجارية بحتة .. كذلك من التجاوزات في هذا الباب المغالاة في أسعار الجلسات وتكاليف العلاج بما يرهق كاهل المرضى.
كذلك من التجاوزات: غلو بعض هؤلاء الرقاة في تحديد المس، حتى يتصورون أن كل شيء وكل حركة وكل أمر ناتج عن مس الشيطان .. الأمر الذي أدى إلى تثبيت الأوهام عند كثير من العامة والخاص.
و يذكرالدكتور طارق الحبيب-رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الملك سعود بالرياض- أن من هذه التجاوزات:
( الابتداع في أساليب العلاج و الرقية و التشخيص، فمنهم من يستخدم ذيل الذئب لاختبار و جود الجني من عدمه، ومنهم من يلسع بالكهرباء، و منهم من يشخص المريض أنه مصاب بالوشرة أو عنده تسنيم في الدماغ !! فيعالجه بالكي فيحرق رأسه، و على الأطباء فيما بعد أن يجتهدوا في علاج ضحاياه..).
ويوافق "المتنبئ" على وجود تجاوزات تقع من بعض المعالجين:
فيقول: "نعم هناك كثير من التجاوزات يمارسها بعض المشتغلين بالرقية مثل المغالاة في أسعار الجلسات بما يرهق كاهل المصاب .. وقد يرد بعضهم المصاب الذي ليس معه مال كافٍ .. وهذا ما لا نفعله.. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس الدخول في هذا العمل من غير تجربة كافية .. فهذا العمل قائم على أساس التجربة .. أحيانًا يقوم الجن بقتل الممسوس إذا لم يحسن الراقي التعامل .
كذلك من التجاوزات ما يفعله بعض المتصوفة .. فهناك كتب لطرق صوفية مجموع فيها احزاب وأوراد مثل (حزب السيف) و(حزب الأمان) وفيها كثير من المخالفات العقائدية.(/2)
ويرى عبد الجليل آدم: إن من التجاوزات الخلوة بالمريضة من غير محرم.. ويرى أن هناك فرقاً بين المغالاة في الأسعار وبين تحديد أسعار للجلسات .. فالتحديد هو نوع من (الجعالة) وفيه حسم لمادة النزاع .. ولكن المغالاة هي المذمومة. ويقول (نسمع عن أرقام فلكية غير متصورة .. وهذا يدخل العنت على المريض ويؤدي به إلى عدم مواصلة العلاج وربما إلى الموت أو الجنون .. والعلاج فيه إحياء للنفس وحفظ للعقل .. وعلى الرقاة أن يتذكروا أن الأمر هو دعوة في المقام الأول).
الضرب كوسيلة للعلاج:
يستخدم كثير من الرقاة الضرب في علاج المس ويعتبرونه وسيلة لإخراج الجني أو إخافته .. وحجتهم في ذلك ما يروي بعض العلماء – كشيخ الإسلام بن تيمية – أنه كان يضرب أثناء العلاج .. وحجتهم كذلك، أن الضرب يقع على الجني ولا يقع على الإنسي.
يقول الدكتور طارق الحبيب: يلجأ بعض الرقاة إلى استخدام الخنق و الضرب عند رقية مرضاهم مما يؤدي أحياناً إلى حدوث بعض الجروح و الحروق و أحياناً الموت، و مع أن هذه الطرق منتشرة عند بعض منهم إلا أنها تنتشر بشكل أكبر و بصورة متكررة عند قليلي الحظ من العلم الشرعي منهم أكثر من سواهم... أما الأضرار غير المحسوسة مما لا يمكن قياسه مثل إيهام بعض المعالجين بالقرآن المريض بأنه مسحور أو معيون دون أن يكون عند الراقي ما يثبت به قوله مما يؤدي بالمريض إلى الدخول في دائرة الوهم و الشك باحثاً عمّن سحره أو عانه فهذه الأضرار إن أمكن إثبات شيئ منها فللقاضي تعزيره بما يراه محققاً للعدالة و بما يحقق الردع لأمثاله.
ولكن الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد إلأستاذ بجامعة إفريقيا يرى مشروعية ضرب المريض مستشهداً بما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضربه بعض المصابين، كما أن بعض أئمة السلف قد فعله و لكنه يقول مستدركا؛ً أن الضرب لابد أن يكون في حدود معقولة.
يقول عبد الجليل آدم: بعض الناس يستخدمون الضرب بصورة أساسية وهذا خطر جدًا .. فبعض أنواع الجن يقتل، وربما قام بقتل المريض أثناء الضرب فتقع الجريمة على الراقي.. وطالما أن هناك وسائل أخرى غير الضرب فالأفضل تجنبه.. لأنه يخلق حاجزًا بين الناس وبين العلاج بالقرآن.
هل يجوز تخصيص بعض الآيات لبعض الأمراض:
يستعمل المعالج بالقرآن جميع آيات القرآن في العلاج .. ولكن في كثير من الأحيان تكون هناك آيات بعينها تقرأ لأمراض بعينها، آيات للعين،و آيات للسحر..إلخ، وأحيانًا يحدد لها عدد معين من التكرارات .. هذا الأمر أصبح واحدًا من مواطن النزاع هل هو مبني على التجربة والأمر فيه سعة أم هو تخصيص بغير مخصص من السنة أو القرآن.. فيدخل في باب البدعة؟.. إدارة الإفتاء والبحوث الشرعية بدولة الكويت تذهب إلى منع ذلك في فتواها رقم 87 ع/92، بتاريخ 21/7/1992م. حيث جاء فيها:(أما الرقى المرفقة بالفتوى وإن كانت من آيات القرآن الكريم إلا أن تخصيص الآيات المذكورة بما يقابها من أمراض مخصوصة على أن تقرأ مرات بعدد معين هو تخصيص بلا مخصص، فلا يكون العمل به مشروعًا فضلاً عما فيها من حمل الآيات على غير معانيها كما في ألم الأذن والاصفرار، الحصر والدم ونحوها كثير ...).
وعبد الجليل آدم يقول: (ما ورد بشأن تخصيص آيات للعلاج في السنة قليل جدًا .. ولكن الأمر مبني على التأويل في القرآن.. فما المانع إذا وافقت الآية المعنى، والقرآن لا تنقضي عجائبة .. والقرآن كله شفاء والأمر مبني على التأثير).
الرقية مهنة ومصدر كسب:
صارت الرقية مهنة من المهن التي وجدت لها موقعًا مميزًا في المجتمع .. خاصة أن الراقي أو ما يسمى شعبيًا بـ(الفكي) له وضعه المميز في المجتمع السوداني وقبوله الذي ليس له نظير باعتباره مظنة صلاح.. إضافة لما يضيفه المشهد من رهبة في نفوس الناس .. وتزداد هذه المكانة كلما كتب الله على يديه الشفاء لأمراض الناس التي تستعصى على الطب. بعض الرقاة المشهورون بلغوا درجة من الثراء الواسع .. هذا الأمر – في حد ذاته– يرى البعض أنه أصبح دافعًا لكثير من طالبي الثراء السريع للدخول في مضماره أحيانًا بغير أهلية.. وعمومًا لم يكن معهودًا عند سلف الأمة تفرغ البعض للرقية وإتخاذها مهنة، بل هي من الأمور التي استجدت في واقع اليوم .. صارت هذه الوضعية الجديدة مصدر جدل واسع بين الدعاة وأهل العلم والرقاة.
الشيخ ياسر عثمان جاد الله يقول:
أعتقد أن إتخاذ الرقية مهنة وحرفة هو في حد ذاته من التجاوز فجانب الخير والمعروف فيها أكبر من جانب المهنة.. ولم يعرف هذا عن السلف..كما أن هذا الأمر يفتح الباب أمام الكسالى والمتبطلين، فهي في اعتقادهم أقصر طريق للتكسب.(/3)
قريباً من هذا يذهب الشيخ د. حسام الدين عفانة – القدس –حيث يقول: (لا ينبغي لأحد من الناس أن يتفرغ لعلاج الناس بالرقي القرآنية أو بالأذكار الواردة، والاعلان عن نفسه بأنه المعالج بالقرآن، والبديل الشرعي لفك السحر ومس الجان والعين والعقم والأمراض المستعصية، أو يعلن عن نفسه (العيادة القرآنية) ويوزع الكروت ويحدد المواعيد كالأطباء المتخصصين؛ لأن ذلك ليس منهج الصحابة والتابعين والصالحين، ولم يكن معروفًا مثل هذا التفرغ عندهم مع أن الناس لا زالوا يمرضون على مر العصور والأزمان.. ولأن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة، ويلج منه الدجالون والمشعوذون وأمثالهم.
ولكن الرقاة والممارسين للعلاج لهم رآي آخر .. حيث يقول عبد الجليل آدم فضل: (الأمر فيه سعة .. فالرقية فيها جانب عبادي وفيها جانب عادي، وهو التطبب .. فليس على الإنسان حرج أن يمتهن الطب.. والرقية نوع من أنواع الطب .. وحجة المنكرين أن السلف لم يفعلوا ذلك، ولكن ليس كل أمر لم يفعله السلف محرم.. والأمر في النهاية يخضع للاجتهاد بتقدير الواقع، والمصالح المجلوبة والمفاسد المدفوعة.. كما أن الرقية الشرعية هي ثغرة من ثغور الإسلام لا بد من سدها فالأمراض كثرت بصورة لم تكن من قبل، كما أن فيها قطع للطريق أمام الدجالين .. وعمومًا الذي يمارس الرقية لا يستطيع أن يمارس معها عملاً آخر فهو إما أن يتفرغ لها أو يتركها.. وأعتقد أن هذا الأمر شأنه شأن كثير من القضايا التي أختلف السلف في جوازها من قبل، ثم تجاوزها الفقه الإسلامي في الوقت الحالي مثل أخذ الأجر على القيام على المساجد وأخذ الأجر على تعليم القرآن.
أما المتنبئ عبد الله فيرى أن موضوع أن السلف لم يفعلوها أمر يحتاج إلى تجديد! .. ويقول:
لم أجد في كلام السلف شيئًا في منع التفرغ للرقية وما دام أخذ الأجر على الرقية مباح، فلا مانع من اتخاذها حرفة ومصدرًا للرزق.. ويقول: إن الزمان لم يفسد أيام السلف كفساده الآن.. وأمور السحر والمس وغيرها يجب أن تحارب لأنها خلل عقائدي.. ويضيف إنه قد ردَّ على بعض من نصحه بترك الرقية، بقوله: (هل الأفضل أن يهرع الناس إلى النشرة السحرية أم يلجأون إلى الرقية الشرعية والقرآن؟!) ويقول (هذا فضلاً عن أن الرقية باب من أبواب الدعوة إلى الله .. فالناس يقبلون من المعالج – الفكي – ما لا يقبلون من غيره).
هل يشترط الصلاح في الراقي؟!:
الشيخ عبد الحي يوسف: كثر في زماننا من يزعمون أنهم معالجون وأهل رقية، وكثير منهم لا يسلم من قادح في عدالته، ومغمز في دينه. عليه: أنصح الناس – خاصة النساء- بأن يلجأن لمعالجة أنفسهن بأنفسهن، وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وغيرها من النساء كيف ترقي نفسها، تقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. قالت: فلما اشتد وجع الرسول صلى الله عليه وسلم كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها. رواه مسلم
يقول الدكتور عمر عبد الكافي: وهو داعية مصري: (لقد رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عاد أحد المسلمين وهو مريض وقرأ عليه فاتحة الكتاب واضعًا يده على الجزء المريض في جسده، فبرئ الرجل بفضل الله، فلما استشهد عمر، ومرض الرجل مرة أخرى طلب ممن يعوده أن يقرأ عليه بفاتحة الكتاب كما صنع عمر، فلما قرأ عليه الراقي الفاتحة واضعًا يده على الجزء المريض في جسده، ثم قال له: ( كيف حالك؟) قال: له (كما أنا) .. قال الراقي: (والله إن الفاتحة هي الفاتحة ولكن أين يد عمر؟) ويكمل: (القضية إذًا ليست في الآيات فحسب وإنما في اليد الطاهرة التي توضع على المريض، يد لم تؤذ أحدًا من الناس ولم تمتد إلى رشوة أو حرام أو لم ترتكب معصية تغضب الله عز وجل).
ويوافق عبد الجليل آدم على هذا الكلام، ويضيف:
(أرى أن شرط الراقي أن يكون على تقوى وعلم.. والعلم هنا ركيزتان العلم الشرعي والتجربة العملية.. والتجربة مهمة جدًا .. فكثير من الرقاة يأخذون المسألة من اطلاعهم وقراءآتهم الخاصة بغير تمشيُخ وتلمذة .. والرقاة المتميزون هم الذين جاء عملهم نتيجة لأخذه عن مشايخ .. وهذا يساعد في التشخيص والتعامل مع الجان).
أما المتنبئ عبد الله فيركِّز على التجربة والخبرة أكثر من الصلاح ويقول حول العلاج:
(ليس الصلاح الذي يبلغ الغاية ولكن المسلم العادي الذي لديه الحد الأدنى الذي يصح به الدين وليس بفاسق يمكنه أن يرقى ولكن الصلاح أفضل).(/4)
وأخيرًا، فإن العلاج بالقرآن أو الرقية الشرعية أصبح من القضايا التي أخدت مكانها في المجتمعات العربية والإسلامية، وصارت بيوت الرقية مؤسسات اجتماعية لها وزنها. وتأثيرها البالغ .. ورغم وجود كثير من التجاوزات الشرعية التي يمارسها كثير من هؤلاء الرقاة، الأمر الذي جلب حملة أهل الدعوة والعلم عليهم .. إلا أن كثير من هؤلاء الرقاة يتمتع بقدر وافر من التقوى والورع والفهم ويستغل الرقية الشرعية استغلالاً طيبًا في الدعوة إلى الله ويستثمر قبول الناس له في المجتمع في تغيير كثير من السلوكيات والممارسات الخاطئة.. فالراقي يملك باباَ للاقتحام المباشر إلى عمق المجتمع ويدخل بيوت الناس ويتصفح أسرارهم الخاصة.. بل في كثير من الأحيان يصبح هو المستشار الذي لا ترد كلمته.. ما دام الأمر كذلك فليعلم أولئك الذين يتصدون لهذا الأمر مقدار ما يتحملونه من أمانة ويكونوا أهل لذلك بالتزامهم بأحكام الشرعية، حتى لا يكونوا قطاع طريق إلى الله عز وجل.(/5)
التداوي في رمضان بين الفقه والطب
الدكتور حسان شمسي باشا
يهل علينا شهر رمضان ومع إطلالته تزدحم الصحف والمجلات والمساجد والإذاعات بالأسئلة والأجوبة حول المفطرات من وسائل التداوي والعلاج .
وقد أجمعت الأمة على أنه يجب على الصائم الإمساك عن الطعام والشراب ، ولكن اختلف الفقهاء في وسائل التداوي المختلفة ، وتباينت الآراء وكثر النقاش حول هذا الموضوع .
ولهذا فقد عقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع " منظمة الحسن الثاني للبحوث الطبية عن رمضان " ندوة في الدار البيضاء في شهر يونيو 1997(صفر 1418 ) لبحث موضوع المفطرات . كما أخذ مجمع الفقه الإسلامي في جدة - جزى الله المسؤولين عنه خير الجزاء - على عاتقه بحث موضوع المفطرات ومناقشته بعمق ودراية ، فعقد اجتماعا في جدة في الفترة ما بين 28 يونيو - 3 يوليو 1997 ( 23 - 28 صفر 1418 ) وخرج منه بتوصيات محددة .
والصوم الشرعي هو إمساك وامتناع إرادي عن الطعام والشراب والمعاشرة الجنسية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لقوله تعالى : (( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل )) البقرة 187 . وفي الحديث الصحيح عن الصائم (( يضع طعامه وشهوته من أجلي )) متفق عليه .
ومن إجماع الأمة أن تناول الطعام والشراب ينافي الصوم ويفسده . وقد اختلف الفقهاء في تحديد الجوف المقصود بأحكام الصيام . والحقيقة أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة أي نص على الجوف في موضوع الصيام . ولكن وقع المتقدمون من الفقهاء - جزاهم الله عنا خير جزاء - في بعض الالتباسات عندما فسروا " الجوف " بأنه كل ما يسمى جوفا وإن لم يكن مكان الطعام والشراب . فاعتبروا الدماغ جوفا وما هو مكان طعام ولا شراب ، وأن من كان برأسه مأمومة
( إصابة بالدماغ ) ووصل الدواء إلى خريطة الدماغ أفطر . واعتبروا الإحليل والمهبل جوفا وما هي بموضع الطعام والشراب . والفقهاء في ذلك معذورون ، فلم تكن هناك دراية كافية بتشريح جسم الإنسان في ذلك الحين .
طرق استعمال الأدوية :
قطرات العين :
ذهب الأحناف والشافعية إلى أن قطرة العين لا تفطر ، حتى ولو وجد طعمها في حلق الصائم . وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المكتحل نهارا إذا وجد طعم الكحل في حلقه فسد صومه .
ومن الوجهة التشريحية تنفتح القناة الدمعية التي تخرج من جوف العين على العين عبر فتحة فيه . وبالتالي فإن وضع قطرة في العين تصل إلى الأنف ومنه إلى البلعوم . والحقيقة أن جوف العين لا يتسع لأكثر من قطرة واحدة فقط . ولهذا يصف أطباء العين عادة وضع قطرة واحدة أو قطرتين في العين كل 6 ساعات مثلا . والكمية التي تصل إلى البلعوم ، إن وصلت ، كمية ضئيلة جدا . وهي بلا شك أقل بكثير مما يتبقى في الفم بعد المضمضة أو مما يدخل في الأنف أثناء الاستنشاق . وقد أقر الفقهاء المضمضة أثناء الصيام ولو كانت للتبرد . ولا بأس بالاستنشاق مالم يبالغ . وينبغي أن نشير إلى أن المسواك يحتوي على ثمان مواد كيميائية تقي الأسنان واللثة مما قد يصيبها من أمراض . وهذه المواد تنحل باللعاب وبالتالي تدخل البلعوم . ولم يحرم المسواك في رمضان أحد من الفقهاء ، فقد جاء في صحيح البخاري عن عمر بن ربيعة رضي الله عنه (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد )
قطرات الأنف :
والحقيقة أن قطرات الأنف ليست من باب الطعام والشراب ولا يقصد منها التغذية ولا التقوية ، وإنما هي للعلاج الموضعي للأنف ، وينطبق عليها ما ينطبق على قطرة العين . وعلى الإنسان أن يحتاط من وصول شيء منها إلى حلقه
قطرات الأذن :
وهي مباحة في النهار للصائم في مذاهب الفقهاء جميعا ما دامت طبلة الأذن سليمة . ولا يمكن لأي سائل أو قطرة توضع في الأذن الخارجية الوصول إلى البلعوم مالم يكن غشاء الطبل مثقوبا . وحتى في تلك الحالة فإن كمية قطرة الأذن التي تصل إلى البلعوم - إن وصلت - كمية ضئيلة جدا .
بخاخ الربو :
وفيه تستنشق مواد تحتوي على أدوية خاصة تستعمل في توسيع القصبات الهوائية . ورغم أن جزءا ضئيلا جدا من المادة المستنشقة قد تذهب إلى المريء أو المعدة إلا أن بعض الفقهاء المعاصرين أباحه . ولكن مجمع الفقه الإسلامي لم يصل فيه إلى قرار .
الحقن العضلية والجلدية :
يتفق الفقهاء على أن الحقن العضلية أو تلك التي تعطى تحت الجلد لا تفسد الصيام سواء كانت للعلاج أو للتطعيم ( اللقاحات ) .
الحقن الوريدية :
أكثر علماء العصر يفرقون بين حقن الوريد التي تؤخذ للتداوي فيبيحونها ، وبين تلك التي تؤخذ للتغذية ( مثل محاليل الجلوكوز وما شابهه ) فيعتبرونها مفطرة للصائم لأنها يمكن أن تغني عن الطعام والشراب .
الأدهان والمراهم الجلدية :
لا شك أن الأدهان والمراهم واللصقات الجلدية كلها تمتص عن طريق الجلد ، ولكن ذلك لا علاقة له بالجهاز الهضمي
* * *(/1)
قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في جدة خلال الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ ( 28 يونيو - 3 يوليو 1997 م ) :
أولا : الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات :
1.قطرة العين ، أو قطرة الأذن ، أو غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق
2.الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
3.ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس ) ، أو غسول ، أو منظار مهبلي ، أو إصبع للفحص الطبي .
4.إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم .
5.ما يدخل الإحليل ، أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى ، من قثطرة ( أنبوب دقيق ) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
6.حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف الأسنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
7.المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
8.الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية ، باستثناء السوائل ( المحاليل ) والحقن المغذية .
9.غاز الأوكسجين .
10.غازات التخدير ( البنج ) ما لم يعط المريض سوائل ( محاليل ) مغذية .
11.ما يدخل الجسم امتصاصا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية
12.إدخال قثطرة ( أنبوب دقيق ) في الشرايين لتطوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء .
13.إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها .
14.أخذ عينات ( خزعات ) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
15.منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل ( محاليل ) أو مواد أخرى .
16.دخول أية أداء أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
17.القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد ( الإستقاءة ) .
ثانيا : ينبغي للطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل مالا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق
ثالثا : تأجيل إصدار قرار في الصور التالية للحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة :
أ- بخاخ الربو ، واستنشاق أبخرة المواد .
ب- الفصد ، والحجامة .
ج- أخذ عينة من الدم المخبري للفحص ، أو نقل دم من المتبرع به ، أو تلقي الدم المنقول .
د - الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنا في الصفاق ( الباريتون ) أو في الكلية الاصطناعية
هـ - ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل ( لبوس ) أو منظار أو إصبع للفحص الطبي .
و - العمليات الجراحية بالتخدير العام إذا كان المريض قد بيت الصيام من الليل ، ولم يعط شيئا من السوائل ( المحاليل ) المغذية .(/2)
التدخين قاتل الملايين
لماذا تدخن ؟
اخي المدخن :(
ان كل فعل يقوم به الانسان لابد ان يكون له سبب مباشر لولاه ما ظهر هذا الفعل الى الوجود 0
اضرب لك على ذلك امثلة( :
الانسان يأكل اذا شعر بالجوع 00 ويشرب اذا شعر بالعطش 00 ويستعمل السواك او الفرشاة لتنظيف اسنانه وترطيب فمه 00 وضع العطور الطيبة حتى لايشتم منه احد رائحة كريهة 00 ويتوضأ للصلاة 00 ويصلى طاعة لله وطلبا لرضاه 00 وي1هب الى عمله لانه يتقاضى على ذلك اجرا 00 وينام ليريح بدنه 00 وهكذا فان لكل فعل سببا مناسبا له داعيا الى حدوثه 0
فليس التدخين طعاما يستفيد الانسان من كله لما يحتوي عليه( من الفيتامينات والبروتينات الت يتعذي الجسم وتمده بالطاقة ، وليس التدخين شرابا يروي الانسان ويخلصه من العطش بل انه يزيد جفاف الفم والحلق 0
وليس التدخين( دواء يساعد على الشفاء والتخلص من الامراض بل هو داء قاتل فتاك 0
وليس( التدخين عبادة يتقرب بها الى الله ، بل هو معصة واسراف وتبذير ، كما انه ليس مظهرا من مظاهر الجمال والقوة والفتوة بل هو على العكس من ذلك دليل على الضعف والعجز ودناءة الهمة 0
هناك من يقول : انني ادخن مجاراة لزملائي واصدقائي 0(
( ومنهم من يقول : ادخن لانني اشاهد كثيرا من النجوم والمشهورين يدخنون 0
ومنهم( من يقول : ادخن لاثبت رجولتي وانني قد تخصلت من مراحل الطفولة 0
ومنهم من يقول( : ادخن لاحصل على اللذة والمتعة والنشوة 0
اما اغلب المدخنين فانهم يقولون :( لقد جربناذلك من انفسنا انه اذا ضاقت صدورنا وهرعنا الى التدخين ذهب عنا مانشعر به من القلق والتوتر والضيق والغضب 0
وقد يكون كلام هؤلاء صحيحا الا انه يؤكد( ضعفهم وعجزهم وعدم قدرتهم على مواجهة مشكلاتهم واستخدام الحلول المشروعة في حلها 0
ولذلك فانهم يلجئون الى هذا المخدر القاتل الذي يذهب بهم بعيدا عن اسباب( توترهم وقلقهم زمنا يسيرا ، فاذا ما انتهى مفعول المؤقت عاد القلق وعاد التوتر وعادت المشكلات كما هي او زادت ، فيقومون عند ذلك بالاثكار من هذا الوباء القاتل ، ويقنعون بهذا الهروب الناتج عن الضعف والعجز ، ويجهلون مع ذلك انهم بدفعون ضريبة باهظة جدا ثمنا لهذا المسكن الموضعي الا وهي حياتهم 0
تعددت الاسباب والموت واحد
هذه ـ تقريبا ـ الاسباب التي تحمل على التدخين ، وتلك اجابات لكل من وجه اليه هذا السؤال : لماذا تدخن ؟ واذا كان الامر كذلك فاعطني اخي المدخن بعضا من وقتك ، لاجلي لك الامر ، واظهر لك حقيقة هذا اللعين ، عسى ان نصل سويا الى نتيجة مرضية ، يعقبها عمل جاد 0
ماذا تعرف عن التبغ ؟
الشهرة والتطور :
لم تعرف اوربا عادة التدخين الا في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي ، بعد وصول المكتشف (كريستوف كولومبس) الى جزر الباهاما ، حيث وضع قدمه على ارض امريكا عام 1492م وهناك قدم له سكانها (الهنود الحمر) التبغ حيث كانوا يشعلون اوراقه الملفوفة ويستنشقون دخانها ، واصبح (كريستوف كولومبس) من هذا العهد اول اوربي يشاهد ويمارس التدخين بنفسه 0
ولم تأت نهاية القرن السادس عشر الميلادي الا وقد عرفت اوربا كلها التبغ واستخدمته بطرقه المختلفة سعوطا ومضغا وتدجخينا 0
اما( السجائر فلم تعرفها اوربا الا في القرن التاسع عشر0
وكان اول انتاج الى( للسجائر في الولايات المتحدة يصل الى انتاج 600 سبجارة في الدقيقة الواحدة 00 اما الان فان الولايات المتحدة تنتج 600 بليون سيجارة سنويا 0
اما معرفة بلاد( الاسلام للدخان فيرى الشيخ محمد بن ابراهيم ان دخوله بلاد الاسلام كان في حدود سنة 1000 هـ وانه دخل المغرب عن طريق رجل يهودي يزعم انه حكيم ، ثم دعان الناس الى شربه ، ودخل تركيا عن طريق رجل نصراني ، ودخل السودان عن طريق المجوس ، ثم جلب الى مصر والحجاز وسائر الاقطار 0
تتألف اوراق التبغ اليابسة من :(
1ـ النيكوتين : وهي مادة سامة جدا تنتج عن احتراق التبغ اذ يكفي من جرامن واحد لقتل عشرة كلاب من الحجم الكبير دفعة واحدة ، وكل جرام ورق التبغ يحوي 20 ملليجرام من النيكوتين ، وقد قدر العلماء ان كمية النيكوتين الموجودة في سيجار واحد وزنه 5 جرامات تكفي لقتل رجلين غير مدخنين اذا اكل كل منهما نصف السيجار ، لان الجرعة الممينة لسم النيكوتين هي 50 مليجراما ، كما ان تنقيط 3 نقط من النيكوتين الصرف على لسان شخص كافية لقتله 0
2ـ النورينكوتين والاناباسين والميوزين والنيكوتيرين : وهي اشباه قلويات ثانوية ، لا تقل سمية عن النيكوتين ، ولذلك قانها تحدث اثارا مشابهة لاثار النيكوتين ، مثل الدورا والغثيان والقيء لحديثي التدخين 0
3ـ المواد المعدنية : تشكل 10 ـ 25% من تركيب الاوراق وهي تتحول الى رماد بالاحتراق 0
4ـ المواد البكتنية : تشكل 4ـ6% من تركيب الاوراق يتولد منها الكحول اثناء الاحتراق ، واليه تعزي النشوة التي تنسب للتدخين 0(/1)
5ـ اول اكسيد الفحم : وهو غاز سام جدا يؤدي الى الموت المحتعم اذا زادت نسبته ، وذلك لانه يطرد الاكسجين اللازم للتنفس 0
6ـ الامونياك : وهو غاز يؤثر على العينين واليه يعزى احمرار عيني المدخن 0
7ـ سيان هيدريك : وهو غاز شديد السمية ، ويؤدي هذا الغاز الى العقم عند الرجال ، لتعطيله انتاج الحيوانات المنوية ، وعند النساء لتعطيله عملية لتبويض 0
8ـ ولايقف امر التبغ عند هذا الحد : هناك المواد المسرطنة الكثيرة الناتجة عن احتراقه ، وكلها تحدث امراض السرطان او تساعد في حدوثها ، وفي مقدمة هذه المواد : القطران ـ الفورم الدهيد ـ الاكرولين ـ املاح الامونياكك 0
ايها( المدخن :
هذه مكونات الدخان الذي تدخله في جسمك ، وهي عبارة عن سموم ـ وجراثيم ـ وغازات ـ ودخان ـ وقطران ـ ومواد مسرطنة ـ وعفونة 0
فهل مازلت مصرا على تناوله ؟؟
الدخان والادمان
يصر بعض الناس على ان الدخان مجرد عادة ولا يدخل في مجال الادمان ، والحقيقة ان هناك من يتعاطى الدخان على سبيل العادة والتقليد ، وهؤلاء يمكنهم التوقف عن التدخلين لاي سبب ، ولكن القطاع الاكبر من المدخنين وصل بهم تعاطي الدخان الى حد الادمان ، بحيث لايتصورون الحياة دونه ، واذكر مثالا على هؤلاء : احد الاساتذة في جامعة القاهرة كان يدخن في المحاضرة الواحدة من ثمان الى عشرة سجائر ، بحيث كان يشعل السيجارة الجديدة من التي اوشكت على الانتهاء ، فلما كلمه بعض الطلاب الغيورون قال لهم : لقد طلبوا مني في الجامعة الامتناع عن التدخين اثناء المحاضرات ، فقلت لهم بالحرف الواحد : اما انا والسيجارة ، واما لا انا ولا السيجارة ، فلما رات ادارة الجامعة اصراره على ذلك ـ وكان من الاساتذة الكبار ـ وافقت على مضض ، فهذا نوع من الادمان الذي يجعل المرء يتنازل عن كل شيء في سبيل تواصله مع هذا الشيء الذي ادمنه ، اذن ماهو الادمان ؟
( الادمان في ابسط تعريفاته هو " احساس " الشخص بحاجته الماسة الى المادة التي تعود عليها ، فلا يكاد يرى او سيمع او يفهم دون حصوله عليها ، فاذا لم يجد هذه المادة تغير حاله وظهر عليه القلق والاضطراب ، وربما سلك سلوكا عدوانيا وتصرف كالمجانين ، ولم يهدأ حتى يحصل على هذه المادة ، واسيجارة فيها نوع من الادمان ، وسبب الادمان فيها ان النيكوتين وغيره من المواد الموجودة في السيجارة تدخل الى الدم وتؤثر فيه 00 وهذا الدم يغذي شرايين المخ 00 ونتيجة للتدخين يتعود جسم الانسان على نسبة معينة من النيكوتين يريد بقائها داخل دمه بصفة مستمرة ، فاذا انخفضت هذه النسبة احس المدخن بتلك اليد الخفية التي تجعله يمد يده اوتوماتيكيا الى علبة السجائر لاشعال سيجارة 0 ومن هنا اثبتت تقارير الكليات والمعاهد الطبية الغربية ان التدخين نوع من الادمان 0
ممنوع التدخين !!(
كتب احدهم قصته مع مدخن قائلا : في مصعد كهربائي كدت اسقط مختنقا 00 بعد ان ابديت له كل الوان التململ والتافف 00 ولكن الى ان يفهم الغبي الكلام يكون الذكي قد ترك المقام 00 فمع كل ماحاولت ان ابديه على وجهي من عدم الرضا 00 الا ان السيجارة لم تفارق يد ذلك الرجل الذي ابتليت به 00 فمرة يقبلها بفمه 00 ومره يضعها بين اصبعيه لينفخ الدخان من انفه وفمه 00 وكأنه عادم سيارة 00 المشكلة الاولى اني اريد الدور السابع 00 اما المشكلة الثانية فهي انه يريد الدور الثامن 00 واخيرا حمدت الله على ان احياني بعدما اماتني وخرجت من المصعد بعد وصولي بالسلامة 00 وانا التقط انفاسي 00 واشتكي الى الله حالي 00 فمن يحمي رئتي من ذلك المدخن الذي يباهي بسيجارته من غير تقدير لمشاعر من حوله 00 كنت احكي هذه القصة لان جاري عندما شم رائحة الدخان في ثيابي قال لي : اذا كنت قد خفت على رئتيك من هذه الدقائق 00 فماذا اقول وانا اعاني كل يوم ثمان ساعات من اولئك المدخنين في اثناء العمل الرسمي ؟؟!! واذا تقدمت انا ومثلي بالشكوى جاءت الاجابة كاجابة جحا لحماره : انا لا استطيع ان اقنع حماري بالتوقف عن النهيق لانه حمار 00 فحاول انت ان تغلق نافذتك !! (مجلة الدعوة) 0
صدق او لاتصدق !(
يقول الدكتور محمد علي الباز : يبلغ معدل الانتاج العالمي ( للدخان ) سيجارتين لكل شخص على ظهر الارض يوميا 00 وتكفي هذه الكمية من السجائر لابادة الجنس البشري عن اخره ، لو اخذت محتويات هذه السجائر المنتجة في يوم واحد بطريق حقنها في الوريد 0(/2)
وبما ان هذه الكمية الهائلة من الساجائر لا تتعاطى الا بطريق التدخين ، فان اضرارها على الصحة لاتأخذ شكلا فجائيا ، وانما يتدرج مفعولها يوما بعد يوم ، حتى تحطم صحة الانسان على مدى ربع قرن من الزمان 00 ولعل هذه من الاسباب التي جعلت الناس يتساهلون في محاربة التدخين ، لانهم لايشعرون بمخاطره كما يشعرون مثلا عندما ينتشر وباء الكوليرا او الحمى الشوكية او الجدري او الطاعون 00 مع ان هيئة الصحة العالمية تقرر ان الوفايت الناتجة عن التدخين في كل عام هي اكثر من الوفيات الناتجة عن جميع هذه الاوبئة مجتمعة 0!! (التدخين واثره على الصحة)
اضرار التدخين
اثتت التجارب والابحاث العلمية الحديثة بما لايقبل الشك خطر التدخين الكبير على جسم الانسان باجهزته المختلفة ، وسوف نستعرض ذلك في النقاط التالية :
اولا : ضرر التدخين على الجهاز التنفسي :
1ـ الاصابة بسرطان الرئة 0
2ـ الاصابة بمرض التهاب الرئة المزمن 0
3ـ الاصابة بمرض السل الرئوي والربو المزمن 0
4ـ الاصابة بسرطان الحنجرة 0
5ـ الاصابة بضيق التنفس 0
6ـ الالتهاب الشعب المزمن 0
تقارير
1ـ جاء في احد التقارير الطبية الصادرة عن لجنة مكافحة السرطان الطبية الامريكية ان هناك 60 الف حالة اصابة بسرطان الرئة سنويا ( وهذا العدد تضاعف الان ) 98% منهم مدخنون 0 كما ان عدد الذين يموتون من هؤلاء سنويا يبلغ 27 الفا تقريبا ، نسبة المدخنين فيهم 96%
2ـ اثبتت الدراسات ان اصابة الجهاز التنفسي بالالتهابات القصبية والرئوية المزمنة تكثر بشكل كبير جدا عند المدخنين ، وتبين لهم ان هناك علاقة اكيدة بين الربو المزمن والتدخين ، كما اكد الاطباء ان حالة المصابين بالسل الرئوي تكون اسوا بكثير عند المدخنين 0
ثانيا : ضرر التدخين على الجهاز العصبي :
تتحكم الاعصاب في جميع حركات الجسم البشري الارادية واللاارادية ويؤثر التدخين بشكل سلبي على هذه الاعصاب ، وينتج عن ذلك :
1ـ الارق الطويل ، فكم من مدخن يظل متوترا مستيقظا ممسكا بسيجارته حتى الصباح 0
2ـ ضعف الاعصاب ، وربما يصاب المدخن بشلل الاعصاب اذا كان من المفرطين في التدخين 0
3ـ العصبية الزائدة وفقد السيطرة على النفس 0
4ـ ضعف الذاكرة ووهن النشاط الذهني 0
5ـ ضعف حاسة الشم والذوق 0
6ـ زيادة افراز الدمع من العينين مما يؤدي الى التهاب الجفون 0
7ـ ضعف البصر نتيجة الدخان المتصاعد 0
ثالثا : ضرر التدخين على القلب والجهاز الدوري :
1ـ زيادة عدد ضربات القلب بمقدرا 15 ضربة عند التدخين 0
2ـ تصلب الشرايين بما فيها شرايين القلب 0
3ـ جلطات القلب وموت الفجأة 0
4ـ جلطات الاوعية الدموية للمخ وماينتج عنها من شلل 0
5ـ اضطراب الدور الدموية في الاطراف وجلطاتها 0
6ـ الاصابة بالذبحة الصدرية 0
7ـ ارتفاع ضغط الدم 0
8ـ التهاب الشريان التاجي المغذي للقلب 0
تقرير
يؤكد تقرير الكلية الملكية للاطباء بلندن دور التدخين في تسبب جلطات القلب والشرايين الاخرى ، ويقول : ان الوفايت الناتجة عن امراض القلب والشرايين بسبب التدخين تبلغ اكثر من ضعفي الوفيات الناتجة عن سرطان الرئة بسبب التدخين 0
رابعا : ضرر التدخين على الجهاز الهضمي :
1ـ الاصابة بفقدان الشهية 0
2ـ الاصابة بالاضطرابات الهضمية وكذلك الاصابة بالاسهال والامساك الشديدان 0
3ـ الاصابة بالوهن والضعف العام 0
4ـ الاصابة بسرطان الشفة واللسان 0
5ـ سرطان الفم والبلعوم 0
6ـ سرطان المريء 0
7ـ قرحة المعدة والاثنى عشر 0
8ـ سرطان البنكرياس 0
9ـ زيادة افراز الغدد اللعابية 0
10ـ الاصابة بمرض الضمور الكبدي 0
خامسا : ضرر التدخين على الجهاز البولي :
يتكون الجهاز البولي من اكلية والحالبين والمثانة ، وقناة مجرى البول ، ويصيب التدخين هذه الاعضاء بالامراض التالية :
1ـ سرطان المثانة ، وقد تبين علميا ان سرطان المثانة يصيب المدخنين اكثر من غير المدخنين بـ 15 مرة 0
2ـ قرحة المثانة 0
3ـ سرطان الكلى 0
4ـ التسمم البولي 0
دراسات
اثبتت دراسة حديثة في الولايات المتحدة الامريكية ان دخان التبغ يحمل العنصر المشع المسمى (البوليونيوم) ، وقد قام العلماء بقياس هذه العنصر في جسم المدخن ، فتبين ان كميته تبلغ في بول المدخنين ستة اضعاف ماهي عليه عند غير المدخنين مما يجعلهم عرضة للاصابة بسرطان المثانة 0
حكم التدخين
اخي الحبيب :
هل يشك عاقل في تحريم التدخين بعدما ثبت احتواؤه على سموم وغازات ومواد قاتلة ؟
وقد يقول قائل : وهل يوجد في القرآن او السنة مايدل عىل تحريم الدخان ؟
والجواب : نعم ، فناك كثير من الايات والاحاديث التي تقضي بتحريم التدخين بيعا وشراء واستخداما باي وجه كان ومن ذلك :
1ـ ان الدخان خبيث لايشك في خبثه عاقل ، وقد حرم الله الخبائث بقوله : ( ويحل لهم الطبيات ويحرم عليهم الخبائب ) " الاعراف : 157 " ، وقال تعالى : ( ولا تتبلدلوا الخبيث بالطيب ) " النساء : 2" 0(/3)
2ـ والتدخين اهلاك للنفس وقد قال تعالى : ( ولاتلقوا بايديكم الى التهلكة ) " البقرة : 195 "
3ـ التدخين اسراف وتبذير ، و الله سبحانه يقول : ( ولا تبذر تبذيرا "26" ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين ) "الاسراء 26 ، 27 " ، وقال سبحانه وتعالى : ( ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) " الاعراف :31 " 0
4ـ والدخان قتل للنفس ولو على المدى البعيد ، و الله تعالى يقول : ( ولاتقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما ) " النساء : 29 " 0
5ـ والدخان ايذاء لعباد الله ، و الله تعالى يقول : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثمامبينا ) " الاحزاب : 58 " 0
6ـ والدخان ضرر على النفس والمجتمع والامة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ضرر ولاضرار" (رواه احمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي) 0
وساوس وشبهات
* قال الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله : وليس لاحد ان يتشبث بالمطالبة بذكر دليل خاص على تحريم الدخان بخصوصه غير قانع بعموم النصوص ، الا ان يكون قاصر النظر ، ضعيف الفكر ، جاهلا بمصادر الشريعة والاستفادة منها ، فان الادلة الشرعية كما تجيء جزئية احيانا تجيء كثيرا قواعد كلية ، يتعرف منها احكام الجزئيات التي تتضمنها وتندرج تحتها ، وان طالب الحق الباحث عنه لايقف في سبيله مثل هذه الشبهة ، انما يتعلل بذلك من غلبته نفسه ، واستمكنت منه العادة فكان اسيرا لها ، واستهواه الشيطان فاتخذه اماما له ، يزين له الخبائث ويحببها الى نفسه ، ويزيغ قلبه بما يلقيه من الوساوس والشبه الزائغة 0 أ0هـ
وقد ذهب الى تحريم التدخين جميع علماء هذه البلاد ، منهم سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم ال الشيخ وسماحة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله ابن باز رحمهم الله جميعا ، ولهم فتاوى في ذلك 0
مضار التدخين الدينية
ذكر الشيخ عبدالرحمن بن ناصر اللاسعدي من مضار التدخين الدينية :
1ـ انه يقل على العبد العبادات والقيام بالمأمورات خصوصا الصيام 0
2ـ انه يدعو الى مخالطة الاذال ويزهد في مجالس الاخيار ، وهذا من اعظم النقائص 0
3ـ انه سبب لسقوط الصغار والشباب اذا ابتلوا به ، كما تنه عنوان على سقوط اخلاقهم ودخولهم في مداخل قبيحة 0
فتوى
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عن ادلة تحريم شرب الدخان او بيعه ، فاجاب حفظه الله : " شرب الدخان محرم ، وكذلك بيعه وشراءه ، وتأجير المحلات لمن يبيعه ، لان ذلك من التعاون على الاثم والعدوان ، ودليل تحريمه انه من التعاون على الاثم والعدوان ، وكذلك قوله تعالى : (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياما ) "النساء : 5" 0
* ومن ادلة تحريمه قوله تعالى : (ولاتقتلوا انفسكم ) " النساء : 29 " ، وقد ثبت في الطب ان شرب الدخان سبب لامراض مستعصية تئول بصاحبها الى الموت مثل السرطان ، فيكون متناولها قد اتى سببا لهلاكه 0
* ومن ادلة تحريمه قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) " الاعراف : 31" ، ووجه الدلالة من هذه الاية انه اذا كان الله قد نهى عن الاسراف في المباحات ، وهو مجاوزة الحد فيها ، فان النهي عن صرف المال في امر لا ينفع يكون من باب اولى 0
* ومن ادلة تحريمه : " نهي النبي صلى الله عليه وسلم من اضاعة المال " (متفق عليه ) ولاشك ان صرف المال في شراء هذا الدخان اضاعة له ، وهناك ادلة اخرى ، والعاقل يكفيه دليل واحد من كتاب الله او من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم 0
اضاءة
اخي الحبيب :
ان الحكم بتحريم التدخين يشمل كل صور استعمال مادة التبغ السامة ، يستوي في ذلك استخدامها عن طريق السجائر المعروفة او عن طريق النارجيلة (الجوزة والشيشة) او عن طريق الاستنشاق (الشمة والنشوق) او عن طريق السعوط (التنقيط في الانف) او عن طريق الحقن (الشرجية و الوريدية) او عن طريق المضغ ، فكل هذه الصور محرمة ، لان المادة التي من اجلها صدر الحكم بالتحريم واحدة ، والضرر واقع منها جميعا 0
إحصائيات وأرقام
قاتل الملايين :
* يقتل الدخان حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية 3 ملايين انسان كل عام في العالم ، ويعطب ملايين اخرى ، ويعتبر التدخين الان من العقاقير التي تحدث الادمان ، والتي تفتح ابواب الانحراف على مصراعيها 0
التدخين في مصر :
* نشرت جريدة الاهرام المصرية احصاء عن التدخين في مصر يبين مدى السرعة التي انتشر بها هذا الوباء الخطير حيث تقول : ان المصريين يدخنون " 40 مليار سيجارة سنويا !!" أي ما يعادل (3 مليارات جنيه سنويا) تنفق في التدخين !! (الاهرام 14/6/1997م) 0
خسائر هناك وارباح هنا :(/4)
* ذكرت وكالات الانباء الغربية ان شركات السجائر تعاني من خاسئر في اوربا وامريكا ، ولكنها عوضت هذه الخسائر باضعفها عن طريق مبيعاتها لدول العالم الثالث التي يشكل المسلمون اغلبيتها ، ففي امريكا : هبط عدد المدخنين من 40% من السكان عام 1965 م الى 5ر25% من السكان عام 1992 م ، وفي بريطانيا انخفضت نسبة التدخين مابين عامي 1970م ـ 1985م الى 25% 0
* أما المملكة العربية السعودية فقد قامت بخطوات رائدة في مجال مكافحة التدخين منها :
1ـ منع استيراد التبغ المستخدم في الشمة ، وهو نوع من التبغ يستخدم عن طريق المضغ وهو معروف في تهامة الحجاز واليمن 0
2ـ منع الاعلان عن التدخين في جميع وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة 0
3ـ منع التدخين في جميع المدارس والجامعات ، والدوائر الحكومية أثناء العمل 0
4ـ منع التدخين في جميع وسائل المواصلات 0
5ـ زيادة الضرائب على استيراد التبغ ، ولكنها زيادة طفيفة 0
6ـ قامت الخطوط الجوية السعودية بتخصيص مقاعد لغير المدخنين 0
وعلى الرغم من هذه الجهود المشكورة الا ان الاحصائيات لا زالت تشير الى كميات هائلة تستورد كل عام من التبغ والسجائر بجميع انواعها 0
وهذا الجدول الذي نشر في التقرير الدوري للجمعية الخيرية لمكافحة التدخين نقلا عن مصلحة الاحصاءات العامة يوضح ذلك :
العام الكمية المستوردة القيمة بالريال
1990م 37 ألف طن 1.039.000.000
1991م 37 ألف طن 1.295.000.000
1992م 21 ألف طن 374.000.000
1993م 12 ألف طن 214.000.000
1994م 9 ألف طن 410.000.000
1995م 22 الف طن 844.000.000
1996م 19 ألف طن 633.000.000
* التدخين في دول العالم الثالث :
* ازداد عدد المدخنين في اسيا منذ عام 1970 حتى عام 1985م بنسبة 79% 0
* ازداد عدد المدخنين في افريقيا في نفس الفترة 116% وهي اعلى نسبة في العالم
التدخين والحرائق :
* أظهرت احدى الدراسات ضررا اخر للتدخين في تسببه في كثير من الحرائق ، فقد اظهرت الدراسة ان التدخين سبب في 13% من حرائق المساكن والمكاتب ، و5ر14% من حرائق المرافق العامة والمسارح والمطاعم ، و20% من حرائق الغابات والاعشاب والحطب ، اذ ان الحريق قد ينشأ بشرارة تسقط من السيجارة 0
(لماذا تدخن)
التدخين والبيئة :
* من اجل معالجة اوراق التبغ يحتاج الامر الى كمية كبيرة من الاخشاب ، وتقدر الكمية اللازمة لمعالجة 1 كجم من اوراق التبغ بـ 100ـ130 كجم من الخشب ، وهذا يعني حرق 50 شجرة متوسط عمر كل منها 15 سنة ، مما يسهم اسهاما كبيرا في اتلاف الغابات وافقار التربة وغيرها من الاضرار 0
* كما ان المبيدات الحشرية والاسمدة التي تستعمل لتحسين نوعية الانتاج تصل الى التربة وتلوثها 0
(التدخين هاجس العصر)
كم تنفق على التدخين ؟
* اذا فرضنا ان رجلا بدأ التدخين من سن الخامسة عشرة الى سن الستين ، وان متوسط تدخينه في اليوم 20 سيجارة ، فكم من السجائر اشعلها طول عمره ؟ وكم من المال اهدره على الخبيث ؟
20 سيجارة × 30 يوما = 600 سيجارة شهريا
600 × 12 شهرا = 7200 سيجارة سنويا
7200 × 45 عاما = 32400 سيجارة في العمر 0
* ولمعرفة عدد علب السجائر المشتراة نقوم بما يلي :ـ
324000 ÷ 20 = 16200 علبة 0
* ولمعرفة قيمة هذه العلب نقوم بما يلي :
16200 × 5 ريال ثمن العلبة = 81000 ريال
* اذن ينفق المدخن العادي واحدا وثمانين الف ريال على التدخين ، فكيف اذا ممن يدخنون 40 سيجارة يوميا او اكثر ؟!
سيتضاعف هذا المبلغ بلاشك 00 وستتضاعف الامراض والاوبئة التي تصيب هذا المدخن 0
التدخين والوقت
لو فرضنا ان متوسط تدخين الفرد 20 سيجارة يوميا ، وان تعاطي السيجارة الواحدة يستغرق 6 دقائق فقط ، لوجدنا انه يضيع ساعين يوميا في الهواء ، أي انه يضيع في الشهر الواحد يوميا ونصف ، وفي السنة شهرا كاملا ، فاذا وصل عمره الى الستين ، وكان قد بدأ تدخينه في الخامسة عشرة يكون قد اضاع من عمره مايقارب السنتين ليلها ونهارها في التدخين !!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاتزول قدما عبد مؤمن حتى يسأل عن اربع : عن عمره فيم افناه ؟ ، وعن علمه مافعل فيه ؟ وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه ؟ ، وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه ؟ ، وعن جسمه فيم ابلاه ؟ " (رواه الترمذي وصححه الالباني )
التدخين والمرأء
يقول الباحثون الطبيون افي الولايات المتحدة الامريكية ان زوجات المدخنين اكثر عضة للاصابة بالازمات القلبية القاتلة اكثر من غيرهن من النساء اللاتي لا يدخن ازواجهن السجائر بثلاث مرات 0
وقال الدكتور مايكل مارتن والذي شارك في هذه الدراسة : ان غير المدخنين اصبحوا الان في امس الحاجة للحماية من الاخطار الصحية التي قد تلحق بهم بسبب وجود مدخنين بينهم سواء كانوا ازواجا او شركاء في محيط العمل 0 (رسالة الى حواء )0
التدخين وصحة المرأة(/5)
لقد ثبت علميا ان اضرار التدخين على النساء تفوق امثالها على الرجال ، وذلك لان جسم المرأة اقل استعدادا لطرد الماد الغريبة عن الجسم ، كما ان طبيعة تكوين المرأة البيولوجي والفسيولوجي ، وكونها امرأة تحمل وتلد ، يزيد مخاطر التدخين عليها وعلى الجنين الذي ينمو في احشائها 0 وقد دلت الدراسات على ان موت الجنين او تشوهه يصبح اكثر احتمالا عند الام المدخنة ، وتصبح صحة الجنين سلبية تجاه السموم التي تتعرض لها الام نتيجة وجودها في بيئة مليئة بالدخان 00 حتى لو لم تكن هي نفسها تمارس عادة التدخين 0 (من اجل تحرير حقيقي للمرأة ) 0
التدخين وجمال المرأة
اظهرت التدراسات ان التدخين يسيء الى المرأة اساءة بالغة :
1 ـ فهو يشوه جمالها ويفقدها كثيرا من حيويتها ونضارتها ولون وجهها 0
2ـ كما انه يسود اسنانها ، ويصدر عن فمها رائحة كريهة 0
3ـ ومن ناحية اخرى فان التدخين يخشن صوت المرأة ويزيد نمو الشعر غير المرغوب فيه في جسدها ، ويعمل على اضطراب افراز الهرمونات الانثوية عندها ، مما يسيء الى انوثتها ورقتها 0 (التدخين بين المؤيدن والمعارضين )
التدخين والدورة الشهرية
الدورة الشهرية في الحالة العادية عند المرأة البالغة مرة كل 28 يوما ، الا ان المرأة المدخنة تصاب غالبا باضطرابات مختلفة في دورتها الشهرية ، فقد تتباعد المدة بين طمث وطمث ، وقد تقل بدرجة ملحوظة ، كما يحدث احيانا انقطاع الطمث لمدة تستمر اشهرا عديدة ، وفي بعض الاحيان يحدث نزف دموي غزير ومستمر ، كما قد تترافق الدورة بالام شديدة نتيجة التسمم التبغي المزمن الذي تعاني منه المرأة المدخنة 0
* واثبتت احدى الدراسات ان دخان التبغ يوصل المرأة الى سن اليأس في عمر مبكر عن الحدود الطبيعية المعروفة بفترة زمنية تقارب العشر سنوات !! مما يترك اثره السلبي على المرأة وانوثتها ، ويحرمها من الانجاب في هذا العمر المبكر 0 ( التدخين بين المؤيدين والمعارضين )
دراسة عن التدخين والانجاب
هل تريدين ان كوني اما ؟!
اذا كنت تدخنين وتتمنين ان كوني اما فان الاحتمال الاكبر انك سوف تحتاجين الى وقت اطول لحدوث الحمل بالمقارنة بغير المدخنات 000 هذا ما اظهرته دراسة حديثة قام بها الباحثون في المعهد القومي للصحة البيئية 0
سأل الباحثون 678 سيدة حاملا تتراوح اعمارهن مابين 18 و38 عاما عن المدة التي استغرقها حدوث الحمل ، فاظهرت الاجابات ان المدخنات احتجن الى وقت اطول بكثير من غير المدخنات ، كما اظهرت الدراسة ان اللاتي يدخن بشراهة تصل الى 20 سيجارة او اكثر في اليوم يواجهن صعوبة اكثر في حدوث الحمل 0 (جريدة الاهرام العدد 36110)
التدخين ووزن الجنين
اثبتت الدراسات الطبية ان المواليد لامهات مدخنات يقلون في اوزانهم عن مثالهم من الامهات غير المدخنات ، وقد وجد ان النقص في المعدل هو مائتا جرام 0
وفي دراسة احصائية اخرى لمكتب الاحصاء الطبي الامريكي ذكرت ان النقص في اوزان اولاد المدخنات يصل الى 480 جم 0 (لماذا تدخن) 0
التدخين والاجهاض
ان حالات الاجهاض التلقائي تزداد بين المدخنات ، وقد وجد الباحثون ان هذه الزيادة تعتمد على كمية السجائر التي تدخنها الحامل ، فكلما زاد عدد السجائر كلما زادت حالات الاجهاض ، ويقول تقرير وزارة الصحة الامريكية : ان (14%) من المواليد قبل الموعد المحدد تحدث نتيجة التدخين 0 (التدخين واثره على الصحة) 0
التدخين والجنس
اثبتت الدراسات ان تدخين المرأة يخفف من الرغبة الجنسية عندها بدرجة تتناسب مع عدد السجائر المستهلكة يوميا وعدد السنين التي مارست فيها معصية التدخين ، وقد تصاب في نهاية المطاف بمرض البرود الجنسي الذي يمكن ان يكون سببا في تدمير حياتها الزوجية 0
وذلك الامر في الرجل ايضا ، فان التدخين يضعف مراكز الانتصاب العصبي عند الرجل ، ويخمد الوظيفة الجنسية عنده ، والتدخين يخل بوظائف الغدد التناسلية ، ويخفف من انتاجها ، ويضعف حيويتها ، ويؤثر كذلك في مركز النشاط العصبي الجنسي فيضعفه ويؤذيه ، وربما يؤدي بعد سنين من التدخين الى حدوث الضعف الجنسي الكامل 0
التدخين والشباب
لقد وقع كثير من شباب الامة في براثن هذا العدو القاتل ، فالتدخين يعتبر البداية الحقيقية لرحلة الضياع ، التي تبدأ بالتدخين وتنتهي باقتراف كل جريمة مخلة بالدين والشرف والرجولة ، والتدخين هو البوابة الحقيقية للمسكرات والمخدرات والزنا واللواط وغير ذلك من الجرائم الخطيرة ، ومنها القتل والعياذ بالله ، فالحدث في سن المراهقة يشعر ببلوغه وكبر جسمه زيادة قوته ، فاذا كان تحت رعاية سليمة وتربية قيمة واراد الله بره خيرا اتجه في الانشغال بما يجلب عليه النفع والفائدة 0(/6)
واذا كان غير ذلك انزلق الى الافعال الخبيثة ومنها عادة التدخين حيث يثبت رجولته المزعومة ، ولا يعلم ـ المسكين ـ انه بذلك اصدر على نفسه حكما بالانتخار البطيء ، اذ يبدأ التبغ في تسميم جسده وعقله ، ويسبب اعختلاطه مع الاراذل فانه يكتسب من صفاتهم الخبيثة ، وياليت الامر يقف عند حد التدخين ، بل يجره اصدقاء السوء الى ماهو اشد ، الى المسكرات والمخدرات وقد يسرق ويقطع السل حتى يوفر الاموال التي يشتري بها هذه السموم ، والنهاية معلومة ، موت مفاجيء واو سجن ابدي او حياة ملؤها الشقاء والالم واضطراب 0
كيف نواجه التدخين
يمكن مجابهة التدخين من خلال عدة مسارات :
اولا : على مستوى المجتمع :
1ـ نصيحة المدخنين بترك التدخين وبيان حكمه الشرعي ، واشعار المدخنين بعدم رضا المجتمع عن تعاطيهم للدخان 0
2ـ عد م تاجير المحلات التجارية لمن يبيع الدخان ويتاجر فيه 0
3ـ وعلى اصحاب الاعمال ان يامروا موظفيهم وعمالهم بترك التدخين مع تشجيعهم على ذلك عن طريق رصد المكافات والهدايا لمن يقوم بترك التدخين 0
4ـ وعلى الوالدين ان يراقبا سلوك ابنائهما ويحسنا ترتبيتهم ، ويضحا لهم خطورة التدخين واضراره
5ـ وعلى الوالدين توجيه ابنائهما الى صحبة الاخيار وترك صحبة الاشرار ، وكذلك ربط الابناء بالمساجد وحلقات تحفيظ القرآن الكريم 0
ثانيا : على المستوى الفردي :
على الفرد ان يكون طبيب نفسه ، ولا ينتظر علاجا من الاخرين ، فان العلاج امامه وبين يديه لو صدقت نيته في الاقلاع عن هذا الخبيث القاتل ، ويمكن ذلك باتباع الخطوات التالية :
1ـ اعرف الحكم الشرعي للتدخين ، وانه حكرام شرعا ، وانك لا تزداد بشربه الا اثما وبعدا من الله تعالي وطردا من رحمته ، فان ذلك مما يزهد العقلاء فيه ، فاي عاقل يصر على التدخين بعد ذلك ؟!
2ـ تمثل مضاره الكثرة امام عينيك فان الانسان السوي ينفر بطبعه من الضار المؤذي ، ويحب النافع المفيد 0
3ـ تعبد الله تعالى بتركه ، لان ترك المحرم من اجل نهي اله عنه عبادة 0
4ـ جاهد نفسك دائما للتخلص منه ، ولاتيأس من قدرتك على هزيمة هذا الداء الخبيث 0
5ـ جدد التوبة دائما والعزيمة على ترك جميع المعاصي ومنها الدخان ، ولو عدت اليه فلتجدد التوبة مرات ومرات حتى تنتصر على الدخان في النهاية 0
وشروط التوبة هي :
أ ـ الندم على مامضى من الذنوب والمخالفات ومنها التدخين 0
ب ـ الاقلاع الفوري عن هذه المخالفات وعدم التسويق في ذلك 0
ج ـ العزيمة الصادقة على عدم العودة الى أي ذنب في المستقبل 0
6ـ اعلم ان اعدى اعدائك هما شيطانك وهواك ، وانهما يزينان لك كل خبيث ضار ، وانك ممتحن بمخالفتهما ، فان اطعت شيطانك واتبعت هواك فقد اشمت بنفسك عدوك ، واعنته على كسرها ودحرها وهذا هو بعينه جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماته الاعداء 0
7ـ اذا كنتت ممن تمكنت منه هذه العادة الخبيثة فعليك بمسايسة نفسك ومجاهدتها والانتصار عليها حتى تستطيع كبح جماحها وتعويدها طاعة ربها سبحانه وترك مخالفته ، والواجب عليك بمقتضى عبوديتك لله تعالى ترك التدخين فورا دون تاجيل والتوبة من تعاطيه ، فاذا لم تستطع فلا تترك نفسك فريسة لهذا العدو القاتل ، ويمكنك الاستعانة على تركه بالخطوات الاتية :ـ
أ ـ اقلل من التدخين يوما بعد يوم حتى نقطعة كلية 0
ب ـ حدد لنفسك زمنا معلوما لا تتجاوزه الا وانت تارك له 0
ج ـ ذكر نفسك حال تدخينك انك على معصية ، وانك لومت وانت تدخن لبعثت على الحال التي مت عليها 0
د ـ ابتعد عن مجالسة شاربي الدخان ، فان البعد عنهم يوجب الامتناع منه ، او يقلل من شربه ، اما القرب منهم فانه يذكر دائما بتعاطيه 0
هـ ـ لا تبدأ يومك بالتدخين ، لاى تشغل فكرك به ، بل حاول الانشغال بامور اخرى نافعة 0
و ـ ابتعد عن المجاهرة بالتدخين في الشارع والاماكن العامة واماكن العمل ، وكذلك لاتدخن في المنزل امام الزوجة والابناء حتى لا تكون قدورة سيئة لاهل بيتك وللناس الاخرين 0
ز ـ اشغل وقتك بالقراءة والاطلاع ، ومارس بعض الرياضة النافعة كالجري والمشي والسباحة وغيرها 0
ح ـ اكثر من صيام النوافل ، فان من اعانك على الامتناع عن التدخين بالنهار يعينك على ذلك بقية اليوم 0
9ـ تدبر عواقب الامور ، فان العاقل من تدبرعواقب الامور ولم تغره ظواهرها 0
قال ابن الجوزي رحمه الله : اعلم ـ وفقك الله ـ ان المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى ، وهي وان سر عاجلها ضر اجلها ، ولربما تعجل ضرها ، فمن اراد طيب عيشه فليلزم التقوى 00 وتفكر وفقك الله في ان الذنوب تنقضي لذتها وتبقى تبعتها :
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الاثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لاخير في لذة من بعدها النار
10 ـ تذكر انك متعرض بمعصيتك لغضب الله تعالى واليم عقابه ، فعن ابي حريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : (ان الله يغار ، وان المؤمن يغار ، وغيرة الله اني اتي المؤمن ماحرم عليه ) "متفق عليه "(/7)
11ـ ثم تفكر في حال السلف الذين كانوا يتركون سبعين بابا من الحلال خشية الوقوع في حرام واحد ، وانت لا تقدر على ترك الحرام البين 0
* قال الحسن : مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثرا من الحلال مخافة الحرام 0
* وقال ابوالدرداء : تمام التقوى ان يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض مايرى انه حلال خشية ان يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام 0
* وروي عن ابن عمر انه قال : اني لاحب ان ادع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا اخرقها 0
نعم يا اخي هؤلاء هم الرجال اذين ينبغي ان نتشبه بهم ، لانهم تلاميذ مدرسة النبوة ، الذين استضاءوا بنور الوحي ، ونهلوا من معين السالة الخالدة 0
12ـ حافظ على الاذكار المطلقة والمقيدة ، واجعل لسانك دائما رطبا بذكر الله تعالى فان الله تعالى انيس من ذكره ، ومحال ان يكون الله انيس عبد ثم هو يستوحش ويطلب الانس بغيره وان علا قدره فضلا عتن ان يطلبه في دتخان سيجارة متعفن
13ـ اكثر من الدعاء الصادق ، فانه من انفع الوسائل لدفع البلاء ، قال تعالي : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ) " غافر : 60"
14ـ اشغل نفسك بكتاب الله تعالى ، تلاوة ، وحفظا ، وتدبرا ، وتفسيرا ، ومعرفة احكام وغير ذلك فان القرآن هو حبل الله المتين ، من تمسك به نجا ، ومن فرط فيه هلك 0
15ـ تحل بالصبر والشجطاعة وعلو الهمة والارداة القوية ، واعلم ان الشجاعة صبر ساعة ، وان سلعة الله الجنة وانها ماخلقت الا لاصحاب الهمم العالية والارادات القوية 0
ثالثا : على المستوى الرسمي :
1ـ السعي لمنع استيراد الدخان بشتى انواعه 0
2ـ السعي لمنع تصنيعه محليا 0
3ـ واذا لم تكن الاجراءات السابقة ممكنة الان فيمكن زيادة الضرائب بصورة كبيرة على استيراد التبغ ، لان رخص اسعار الدخان يؤدي الى زيادة استهلاكه ، فالحدث لن يجد صعوبة في توفير خمسة ريالات يشتري بها علبة من السجائر 0
4ـ اقامة حملة اعلامية في اجهزة الاعلام المختلفة من اذاعة وتليفزيون وصحافة توضح اضرار التدخين ، ومنع أي برامج اعلامية وافدة تدعو الى التدخين او تحسن من صورة المدخنين 0
5ـ اقامة حملة دينية في المساجحد تبين الحكم الشرعي للتدخين ، وتكشف للناس عن اضراره ، ولو ان الخطباء تناولوا ذلك على المنابر في خطبهم لكان حسنا 0
إعداد :
القسم العلمي بدار الوطن(/8)
التدرج في الإصلاح والتغيير
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . وبعد :
روى لنا صاحب الحلية أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه عمر بن عبد العزيز فقال : (يا أمير المؤمنين ! إن لي إليك حاجة ، فأخْلِني وعنده مسلمة بن عبد الملك
فقال له عمر : أسِرٌّ دون عمك ؟ فقال : نعم ! فقام مسلمة وخرج ، وجلس بين يديه فقال له : يا أمير المؤمنين ! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال : رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها ، أو سنة لم تُحْيِها ؟ فقال له : يا بني أشيء حَمَّلَتْكَهُ الرعية إليَّ ، أم رأي رأيته من قِبَل نفسك ؟ قال : لا ، واللهِ ، ولكن رأي رأيته من قِبَل نفسي ، وعرفت أنك مسؤول ؛ فما أنت قائل ؟ فقال أبوه : رحمك الله وجزاك الله من ولد خيراً ؛ فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير . يا بني ! إن قومك قد شدُّوا هذا الأمر عقدة عقدة ، وعروة عروة ، ومتى ما أريدُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء ، واللهِ لَزوالُ الدنيا أهون عليَّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم ، أَوَ ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة ، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين ؟ ) [1] .
وبعد هذا الحوار الجميل الحكيم بين خليفة المسلمين العادل وابنه الورع الزاهد رحمهما الله تعالى يمكن لنا تسجيل الدروس الآتية :
1- دور البطانة الصالحة للحاكم المسلم وبخاصة إذا كانت من قرابته كما هو ظاهر في نصح هذا الابن البار المشفق على أبيه الخليفة العادل ، وهذا من علامة توفيق الله عز وجل للحاكم المسلم . ولكن متى يظهر أثر البطانة الصالحة ؟ إنها لا تظهر إلا إذا وجد الاستعداد الصادق عند الحاكم ؛ بحيث يظهر عليه حب أهل الخير والسعي إلى تقريبهم ، وبُغض أهل الشر والنفاق والنفور منهم ، وأما إذا وجد العكس من ذلك فإن الأثر سيكون ضعيفاً ؛ بل وربما كان معدوماً .
2- التماس العذر لمن لم يتمكن من أهل الخير من الإصلاح السريع وتغيير كل الفساد الذي يقوم به مَنْ تحت أيديهم ، ويكفينا أن نرى السعي الجاد للتغيير من قِبَلهم ، وأن نرى الخير يزداد والشر يتناقص يوماً بعد يوم ولو كان ذلك قليلاً . وهذا الكلام يسري من باب أوْلى على من تولى من أهل الخير الحكم في بلد من بلدان المسلمين وأراد صادقاً أن يحكم بشريعة الله عز وجل وأن يحارب الفساد العظيم في مرافق الحياة الذي ورثه ممن سبقه ، فهنا يجب أن نطبق ما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لابنه حينما طالبه بالتغيير السريع الشامل ، ونلتمس العذر فيما يقوم به الحاكم الصادق من التغيير المتدرج ، ويكفي أن نلمس الصدق والإرادة الحازمة منه في التغيير ، وأوضح القرائن على ذلك الصدق في العزيمة والبدء في إبعاد البطانة الفاسدة عن مواقع التأثير ، وتقريب البطانة الصالحة . أما أن يبقى أهل السوء والفساد في مواقعهم ويظل أهل الصلاح مبعدين فإن هذا يدل على عدم المصداقية وكذب ما يعلن ؛ وإنما هو للاستهلاك وكسب عواطف المسلمين . وهذا يذكرنا بما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن حاكم البلد الفلاني قد أعلن تطبيق الشريعة وتحكيمها فيغتر بهذا الادعاء من يغتر من المسلمين مع أن القرائن تدل على كذبه ونفاقه ؛ وذلك لأنه لو كان صادقاً لبدأ أول خطوة في التغيير ألا وهي تغيير البطانة الفاسدة ، وإبدالها ببطانة صالحة تستلم مواقع التغيير ، وهنا يُلتَمَسُ العذر له في التدرج وعدم العجلة في التغيير . أما أن يبقى أهل الشر في تسلطهم ، ويظل أهل الخير مبعدين أو مغيبين في السجون ، والشر والفساد في زيادة واستفحال ؛ وهو أبعد ما يكون عن الإسلام فإن هذا لا يجدي شيئاً وإنما هو مجرد نفاق ولعب على جهلة المسلمين ومغفليهم ، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ حيث يقول : (لست بالخِبِّ ، ولا الخِبُّ يخدعني) .
3 - التدرج في دعوة الناس ، وعدم مطالبتهم بالتغيير السريع في أنفسهم ؛ وذلك لما ألفوه وتلبسوا به دهراً طويلاً من الزمان من المنكرات والمخالفات ، وضرورة أخذهم بالرفق والبدء بالأهم فالمهم .
ومما يدخل في ذلك ما ينبغي أن يقوم به المربون في تربيتهم لأولادهم وطلابهم ، وأن لا يطالبوهم في بداية تربيتهم بما يطالبون به أنفسهم أو من أمضى سنوات في التربية والتزكية ، ولذلك قيل : على الزاهد أن لا يجعل زهده عذاباً على أهله وإخوانه .(/1)
ومما يلحق بذلك أيضاً : التدرج في دعوة الداخلين في الإسلام حديثاً ، وأن يبدأ معهم بالأهم وهو توحيد الله عز وجل وبيان ما يضرهم من الشرك بجميع أنواعه ، ثم إعلامهم بواجبات الإسلام العينية ومنهياته . ولا يعني هذا التسويف واتخاذ التدرج وسيلة للإبطاء بالالتزام بأحكام الله تعالى ؛ وتطبيق شرعه ، بل المقصود الرفق بالمدعو وأن يبدأ بالأهم الذي هو الأصل في النجاة من عذاب الله تعالى ؛ إذ ما قيمة أن يصلي الداخل في الإسلام أو يحج أو يصوم وهو لا يعرف التوحيد ، أو لا يزال متلبساً بما كان عليه في ديانته السابقة من شرك بالله تعالى ؟
_____________
(1) حلية الأولياء 5/382 .
مجلة البيان / العدد (148) التاريخ- ذو الحجة / 1420هـ .(/2)
التدين الجديد مناورة حضارية
د. صلاح عبد المتعال / إسلام أون لاين
نستطيع أن نعرف "التدين" بأنه نمط سلوكي وأسلوب حياة، بغرض التمسك والالتزام بأفكار المعتقد الديني وتعاليمه تجاه الخالق والمجتمع؛ إذ يتميز بالإرادة لتعديل السلوك استجابة لمضمون العقيدة الدينية. وينطبق ذلك على معظم الأديان والمعتقدات منذ استجاب الإنسان عبر التاريخ لنداء الفطرة الدينية.
ويمكن أن يُنعَت "التدين الجديد" بأنه عملية اجتماعية يؤدي انتشارها وعموميتها إلى اتخاذ شكل الظاهرة بشروط نشأتها وتطورها، فضلا عن العمومية، مثل القهر والإلزام والتأثير المتبادل مع الظواهر الاجتماعية الأخرى: السياسية، والاقتصادية، والتربوية، والأسرية، والمناخ الثقافي السائد.
وهي مثل غيرها من العمليات والظواهر الأخرى، تسري عليها سنن وقوانين التغير الاجتماعي، وتتأثر بالأبعاد المكانية والزمنية والثقافية، وحركة المجتمع في تقدمه أو تخلفه.
وتخضع عملية التفسير للتدين الجديد أو "المستحدث" إلى نفس القواعد المنهجية في عملية الاستقصاء والبحث بمستوياته المختلفة، بدءا من الأسلوب الانطباعي Common sense methodology. إلى المنهج التجريبي المباشر أو غير المباشر، أي المنهج المقارن، أو التاريخي التوثيقي. كما تخضع أيضا عملية تفسير ظاهرة التدين المستحدث إلى مبدأ التعدد في التفسير، بسبب تعدد الخلفيات الفكرية والأيديولوجية للمفسرين.
لذلك اختلفت التفسيرات من قبل المفكرين اللبراليين والاشتراكيين أو اليساريين، والإسلاميين بمختلف أطيافهم المذهبية.
نظرة على التاريخ
وقد ارتبط ظهور "التدين المستحدث" وتطوره أو "المتدينين الجدد" وكذلك الدعاة، بالمرحلة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، خاصة العربية منها، وذلك من حيث إنهم جزء لا يتجزأ من مراحل الدعوة الإسلامية، منذ سقوط الخلافة العثمانية والفترة السابقة لها المهيئة لذلك السقوط، حيث حاول الدعاة استنهاض الأمة بعد بياتها الحضاري الذي تسبب في تخلفها، ثم استقطب نحوها الغزاة والمستعمرين.
فبعد بزوغ الحركة الوهابية التي أُجهضَت عسكريا ولكنها استمرت ثقافيا، ظهر دعاة الإصلاح مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، ثم حسن البنا الذي يُعتبر من الدعاة الجدد في زمنه، وتمحورت دعوته بإعلاء شأن فريضة الجهاد التي جمدتها دعوى فصل الدين عن السياسة، التي تبناها الفكر الغربي المسيحي، ومن تبعه من رواد الفكر العربي المعاصر، خاصة في مصر والشام.
لقد كانت تلك انعطافة تاريخية للتيار الإسلامي الجديد الذي دفع به حسن البنا وجماعته، مما أثر بشدة في الأحداث التاريخية التي صاحبت حركة "الإخوان المسلمين" التي نزلت بها نوازل المحن والاضطهاد من قبل عملاء المستعمر الغربي وأضرابهم من الحكام العلمانيين.
وأفرزت هذه النوازل بالحركة الإسلامية الأم العديد من "الجماعات" الإسلامية التي أعلنت رفضها وتمردها على الأوضاع السياسية والاجتماعية، وطال تمردها الحركة الأم ذاتها لاختلاف هذه الجماعات معها حول منهج التغيير، حيث رأى هؤلاء أن أمر التحرر من قبضة الحكام المُكَفرين لا يحتمله الزمن الذي يجب اختصاره بمختلف أساليب القوة التي ألبت عليهم الأهل والأصدقاء، فضلا عن الحكام الذين اتخذوا من إرهاب هذه الجماعات غير المشروع مبررا لفرض الطوق والحصار على رغبة شعوبهم نحو التطور والتقدم، أو على الأقل تجاوز التخلف.
ثم تظهر بالضرورة من بين ثنايا المناخ السياسي للاستبداد - حتى لو اتشح بثوب الديمقراطية المزعومة - طلائع من الدعاة الجدد، فضلوا الابتعاد عن الصدام السياسي وتغيير لغة وأسلوب الخطاب الديني بشكل يتوافق مع مهادنة الدولة والبعد عن الصدام معها، كذلك هجر الأسلوب التقليدي في الوعظ والإرشاد وانتقاء محاور في العقيدة والسيرة النبوية التي تدور حول أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل البيت، مما كان يدغدغ مشاعر المحبة والذوبان في محبة الرسول واستنبات دوافع الالتزام بسنته وتعاليم القرآن الكريم.
نوعية الخطاب وتأثيراته
كان يغلب على الخطاب الديني لهؤلاء الدعاة الجدد السمت الوجداني أكثر من مقارعة الحجج الفكرية للأفكار العلمانية المضادة، مما جعل الانتعاش القلبي للمستمعين والمشاهدين يحلق بهم في آفاق الجمال والمتعة القلبية التي من شأنها أن تنسيهم هموم الدنيا وأعباء الحياة، وقد تُشكل لهم طاقة وقوة دافعة لتعديل ضروب سلوكهم وتصرفاتهم غير الملتزمة إلى أخرى ملتزمة، كان أبرزها التزام الفتيات بالحجاب وإقبال الشباب على إطلاق اللحى، ثم حرص البعض على صلاة الجماعة وصلوات القيام في رمضان وختم القرآن في العشر الأواخر منه.(/1)
وقد أخذت مساحة العبادات حيزا أكبر مما شغلته مساحة الالتزام الدقيق في المعاملات والتصرفات التحررية في مظاهر المناسبات الاجتماعية الوافدة من ثقافة الغرب، فلا مانع من الابتهاج بالرقص الجماعي في مناسبة زفاف أو عيد ميلاد وأمور أخرى مسكوت عنها في اجتهادات الفقه المعاصر.
الأمر الآخر هو الجمهور المخاطب الذي تنوع في باكورة نشاط الدعاة الجدد بين أبناء الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة وبين بعض أبناء النخب من الطبقة الأعلى، ثُم اتسعت الدائرة بعد الانتشار الإعلامي لبعض الدعاة الجدد الموهوبين لتشمل الكثير من شباب طبقة البسطاء من الناس الذين تمكنوا من مشاهدة الفضائيات، خاصة بعد انتشار استخدام الوصلات السلكية في القرى والأحياء الشعبية.
قد يكون انتشار تأثير الدعاة الجدد بين أبناء الطبقة الوسطى من وسائل تدعيم بنية هذه الطبقة، ومحاولة غير مقصودة - أو مقصودة - لرد الاعتبار لهذه الطبقة بعد أن أخذت في التآكل وغياب دورها في النهضة الفكرية والسياسية والاقتصادية، مما أدى إلى حدوث فراغ اجتماعي بين طبقة الأثرياء وطبقة البسطاء في الوظائف الاجتماعية فضلا عن البنية الاجتماعية.
وبالرغم من الذكاء السياسي الذي اتسمت بها ظاهرة المتدينين والدعاة الجدد، وعدم احتكاكها بالسلطة والميل إلى مهادنتها، فإن واقعها يحمل مضمونا سياسيا مستترا ستظهر آثاره في الزمن الآجل، مما يقلق النظم السياسية خاصة في مصر ويدفعهم للإعلان عن هواجسهم المريضة التي توشي بعدم ثقتهم بأنفسهم، واعتبارهم التدين المستحدث - رغم اعتداله - هو محاولة لاختراق العقول النيرة من الشباب المتعلم وصبغها بالسمت الإسلامي الذي سيُظهر هويته بالضرورة بعد أن يتبوأ هؤلاء الشباب مراكز اجتماعية مرموقة من شأنها أن تؤثر في صنع القرار الذي قد يكون ضد التيار المحافظ الذي يحرص النظام الحاكم على جريانه للحفاظ على مصالح قممه وحراسه.
مناورة حضارية!
إن التدين الجديد منهج مستحدث للتغيير الاجتماعي، ومناورة حضارية للوصول إلى أسلمة المجتمع، وقد يمثل خلفية مساندة للحركات الإسلامية المعاصرة دون الظهور في الصورة أو محاسبته سياسيا، مثل الأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية التي تضع المشاركة السياسية في الحسبان.
وهذا المنهج الدعوي يضع نصب عينيه دعوة جميع أطراف البنية الطبقية، والصعود إلى قمة الهرم السياسي، من خلال شبابه، والنزول إلى قاع القاعدة الهرمية بين بسطاء الناس، ومرورا بطبيعة الحال بأبناء الطبقة الوسطى، وهذا المنهج سينعش بالضرورة اتجاهات الشباب نحو التغيير.
وبالرغم من عدم التنسيق بين مجهودات هؤلاء الدعاة، فإن أغلبهم يسير على مسارات متوازية مع حركة "الإخوان المسلمين" في مصر ونظيراتها في العالم العربي، رغم اختلاف البعض مع توجهاتها أو منهجها في العمل.
التطور واستشراف المآلات
وإذا رصدنا عملية وظاهرة التدين الجديد، نجد أنها تطورت عند عمرو خالد من السرد القصصي المشوق لسير الأنبياء وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته وصحابته، إلى الاقتراب من فرص المشاركة في عملية التنمية وصناعة الحياة، وهذا هو الهدف الحضاري المشترك بين المنهج الذي أصبح يدعو إليه وبين حركة الاستنارة الحديثة التي ينادي بها منهج الحركة الإسلامية الأم لتحقيق الغاية من رسالة الإنسان لاستخلافه على عمران العالم والتقرب إلى الله تعالى وهداية الناس لعبادته.
ولكن التدين الجديد الذي أخذ ينتشر على رقعة اجتماعية واسعة يمكن أن يتعثر إذا عمل بمفرده ولم يأخذ في اعتباره جهود العمل الإسلامي المستنير في شتى جوانب الحياة. وقد ينحرف عن طريقه إذا تحول عند بعض الدعاة الآخرين إلى مجرد مشروعات تجارية أو استثمارية بسبب ثورة الاتصال ووسائلها الإلكترونية المتاحة.(/2)
التدين المغشوش.. "نفاق بلا عنوان ... العنوان
السلوكيات ... الموضوع
أبحث عن دين غير الإسلام؟ نعم.. لأن الدين المعاملة، وحصل معي أشياء لا يعملها إنسان مسلم مع مسلم أبدا، وشفت العجب العجاب من الملتزمين، إنه إمام وخطيب مسجد، ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسرق أموالي وكل ما املك؛ 300.000 ألف ريال، وبقيت مفلس، وهو يتنعم بأموالي وأموال غيري، فهل هذا مسلم؟!، إذا كانت الإجابة بـ"نعم" فأنا غير مسلم. ... السؤال
الأستاذ همام عبد المعبود
المستشار
الرد
الأخ الحيران
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك، وشكر الله لك ثقتك بإخوانك في شبكة "إسلام أون لاين.نت"، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظا،...آمين... ثم أما بعد:
وصلتنا رسالتك، وعلمنا بما فيها، وأقول لك أخي الحبيب: لقد سميت نفسك الحيران، وما أراه أنك أنت الذي حيرتنا معك، فقد صدرت رسالتك بعبارة (أبحث عن دين غير الإسلام؟؟؟)، ثم حكيت الحكاية المؤسفة، ثم سألتنا عن هذا الرجل الذي أخذ مالك فقلت: هل هذا مسلم؟!، وختمت رسالتك قائلاً:(إذا كانت الإجابة بـ"نعم" فأنا غير مسلم)!.
وأستعين بالله – أخي- وأقول لك :
* سارع بالاستغفار: بداية فإنني أطالبك بالاستغفار عن قولك الذي صدّرت به رسالتك وجعلته عنوانا لها وهو: (أبحث عن دين غير الإسلام)، نعم أطالبك بالمسارعة بإعلان توبتك لله عز وجل، فاستغفر ليل نهار، لعل الله يغفر لك، فمهما بحثت فلن تجد أفضل ولا أعز ولا أكرم ولا أكمل ولا أتم من الإسلام دينا، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. فالمشكلة ليست في الإسلام؛ وإنما في المسلمين.
* احذر منافقي العصر: دعني أضم صوتي لصوتك، فالدين المعاملة حقا، بهذا أعلمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وللأسف فإن كثيرا من المسلمين، الذين يظهرون للناس التزاما وورعا وتقوى حتى إذا جئتهم لم تجدهم شيئا، ووجدت عندهم غشا ونصبا واحتيالا، فأمثال هؤلاء يا أخي الحبيب هم "منافقو العصر"، وهؤلاء يجب الحذر من التعامل معهم، وتنبيه الناس إلى خطورتهم.
* الإسلام حجة: غير أني أود أن أوضح لك أن الإسلام حجة على الناس، أما تصرفات الناس وأقوالهم فليست حجة على الإسلام، مهما كانت مناصبهم الدينية، أو مظاهرهم الشكلية، فلا ينبغي أن تنخدع بمظاهر الناس، بل الواجب عليك أن تكون منتبها ويقظا، ولا تولي ثقتك لكل أحد، بل أعطها لمن يستحقها فقط، وهؤلاء – أهل الثقة – موجودون، لكنهم قلائل فابحث عنهم.
* النصح قبل الفضح: مثل هذا الرجل- إن كان ما جاء في رسالتك عنه صحيحا- يجب يكشف أمره للناس، حتى لا ينخدع به آخرون، وقد طالعت الرابط الذي أرسلته مع الرسالة، ولاحظت كم يشتاق كثيرون إلى معرفة اسمه وعنوانه وتجارته، وأعجبني فيك صبرك وتمهلك. ولكن قبل أن تنشر أمره وتفضحه على الإنترنت، فإنني أوصيك بأن تدعوه لتصحيح مساره والعودة إلى الله، وأن ينتهي عما يفعل، وأن تنصحه بإعادة المال لأصحابه، وتخبره بأن هذا أفضل له من نشر الخبر وإذاعته عبر وسائل الإعلام، وتذكره بأنه رجل أعمال؛ ورجال الأعمال رأسمالهم ثقة الناس بهم وسمعتهم، فإن انتهى فخيرا وإن أبى فقد وجب نشر خبره وإذاعة أمره.
* لا إفراط ولا تفريط: أنصحك بعدم التعميم، فلا تقل كما قلت في رسالتك: (شفت العجب العجاب من الملتزمين)، فليس كل الملتزمين هكذا، بل القاعدة أن كل الملتزمين يحافظون على التزامهم، ويتقون الله تعالى في كل ما يقولونه، وكل ما يفعلونه، والاستثناء هو حالات فردية شاذة، ومن ثم فإني أرجو أن تبتعد عن داء التعميم الذي ابتلينا به كعرب ومسلمين، فالواحد منا لو دخل قرية وصادف رجلا بخيلا يقول ( أهل هذه القرية بخلاء)، ولو صادف رجلا كريما يقول (كل رجال هذه القرية كرماء) !!، فلنتخلق بخلق الإسلام العظيم، فنضع الأمور في نصابها الصحيح، بلا إفراط ولا تفريط، وأن يكون ميزاننا في الحكم على الأشياء والظواهر والأشخاص هو التوسط والاعتدال، هذه نصيحتي إليك وإلى عامة المسلمين.(/1)
* أين كنتم طوال هذه المدة؟، لماذا انتظرتم كل هذا حتى سرق أموالكم، نصب عليكم باسم الإسلام، واستولى على كل ما تملكون. كيف أخذ منك، بمفردك، (300.000) ألف ريال دون أن تشك فيه، حتى بقيت مفلسا، كما قلت، كان لابد أن تسأل عنه، وتتوثق منه، قبل أن تتعامل معه بالدرهم والدينار. ألم تقرأ هذه القصة؟!، فقد رُوي أن رجلاً جاء يُزَكِّي شاهدًا عند عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال له عمر: هل عاملته بالدرهم والدينا ففيهما يظهر دين الرجل؟، هل سافرت معه، ففي السفر يظهر خلق الرجل؟، هل أنت جاره الذي يعلم مدخله ومخرجه؟؟، فقال الرجل : لا .. لا ..لا. فقال له عمر رضي الله عنه: أنت إذًا لم تعرفه، لعلك رأيتَه في المسجد يَهُزُّ رأسَه بالقرآن، ويفعل كذا وكذا من أنواع العبادات، فوقع في قلبك أنه رجل صالح عَدْل في الشهادة. فقال الرجل نعم، فلم يقبل عمر تزكيتَه.
* دروس وعبر: اعلم فقهك الله بدينك أن الإنسان عرضة لمثل هذه الموقف، ولولا الخطأ ما كان الصواب، ولولا الذنب ما كان الاستغفار، غير أنه ينبغي علينا أن نستخلص من هذه القصة الدروس والعبر والعظات، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ومن هذه الدروس المستفادة:
* ألا تغتر بالشكل: فلا يجب أن ننخدع بشكل الرجل، أو لباسه، أو طول لحيته، أو طلاقة لسانه، أو كونه خطيبا بارعا أو داعية مشهورا، فكل هذه صفات طيبة ولا بأس بها، غير أنها إذا اقترنت بإنسان أو اتصف بها أحد فلابد أن يتقي الله، وألا يكون سببا في صرف الناس عن الإسلام وعن الالتزام، حتى لا نجعلهم يبحثون عن دين غير الإسلام كما تريد أن تفعل أنت !!.
* أن نتناصح فيما بيننا: فالدين النصيحة، والناس بخير ما تناصحوا، والواجب على المسلم أن ينصح أخاه بالخير وأن يحذره من الوقوع في الشر، وأن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يكره لأخيه ما يكرهه لنفسه، فإذا وقع مسلم في فخ أو أصابه مكروه فعليه أن يحذر إخوانه من أن يقعوا في نفس الفخ.
* أن نحذر مكر الشيطان: فلا يدفعنا أمر أصابنا بسوء إلى اليأس والقنوط، والكفر بكل خير مخافة أن يكون وراءه الشر، بل يجب أن نثبت ونصبر ونحتسب الأمر عند الله، ولا نضعف فنكون لقمة سائغة للشيطان، فيبغضنا في ديننا، ويضيق الدنيا في عيوننا، ولنعلم أن هذه محنة، وما علينا – بعد بذل الجهد الممكن - إلا الصبر، وسؤال الله أن يعوضنا عن مصيبتنا خيرا. لكن إياك واليأس؛ فقد قال تعالى:{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(يوسف:12).
وختاما؛
شكرا الله تواصلك الكريم، وعوض عليك خسارتك، ورد إليك مالك، وحفظك من كل مكروه وسوء، وغفر الله لنا ولك.. وتابعنا بأخبارك.. وبشرنا برد مالك.(/2)
التدين الموسمي
________________________________________
من المهم أن ننقد ذاتنا، لا لنجلدها ونلتذ بتعذيبها، ولكن لنصحِّح مسارها، ونتلافى وجوه تقصيرها، فالصامت عن عيوبه لا يمكن أن يعالجها، ومُغمِض العين عن ثغرات نفسه سيظل حاملاً أثقالاً وأعباءً غير هينة. ومن عيوب حياة المسلمين المعاصرة: هذه الألوان العديدة والمنتشرة من التدين الزائف:
كأنْ يؤمن لسان الإنسان ولا تؤمن بقية جوارحه، فتسمع من الرجل كلامًا جميلاً، لكن لا ترى منه إلا أقبح الفعال.
وكأنْ يؤمن ظاهر الإنسان ولا يؤمن باطنه، فيبدو للناس حَسنَ القول والفعل في الظاهر، فإذا خالطوه أو ائتمنوه على عِرض أو مال كان غير ذلك.
ومثل أنْ يرتبط تدين الإنسان بالمواسم والمناسبات، وهذا هو موضوع هذه السطور.
هدايا من الله: مواسم العبادة السنوية هدايا من الله لعباده، يتيح لهم فيها أن يصححوا مسار حياتهم، ويستأنفوا توجههم بشكل قويم إلى ربهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام: ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) [ رواه البخاري ومسلم ]، وعن الحج: ( مَنْ حَجّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لهُ ما تقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) [ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ].
فالهدف الأكبر من العبادات الموسمية هو إخراج الإنسان من أسر عاداته إلى نوع من التجديد والتغيير، تنتعش به حياته العقلية والقلبية، وتتجدد مسيرته في إطار المغفرة التي ينعم الله بها عليه، بعد أن حمل أوزار أشهر عدة.
هذا المعنى هو الذي يجعل الصلاة في قلب شعائر الإسلام الأربع، فهذه العبادة الجليلة تلازم المسلم طوال العام، فليست هناك إجازة من الصلاة أو توقف عنها، ما دامت الروح والعقل في جسد صاحبهما، فهي تأتينا بالليل والنهار، والصبح والمساء: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى" غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }[ الإسراء : 87 ]، وأما بقية الشعائر الكبرى (الزكاة والصيام والحج) فهي عبادات موسمية، تأتي كل عام، وهدفها التجديد وبعث الحيوية من جديد.
ومن هنا تتكامل الصورة في العبادة، فصلَة المسلم بربه لا تنتهي ما دام حياً، إلا أن الطرق والوسائل التي تتحقق بها هذه الصلة لابد فيها من التنوع، حتى لا يمل العابد، ولابد فيها من التغيير حتى لا تصيب العادةُ أعماله بالجمود وفقدان الروح، فكانت الصلاة تحقيقًا للصلة المستمرة بالله تعالى، وبقية الشعائر للتجديد والتطهير من شتى وجوه التقصير؛ لتتواصل المسيرة بحيوية أعظم.
هذه الهدايا الموسمية التي تفضَّل الله بها على عباده، يحسد المرضى عليها الأصحاء، ويحسد غيرُ المستطيعين لها من استطاع إليها سبيلاً؛ لأن المحروم أكثر إدراكًا للخير، وأعمق شعورًا بقيمته.
ولا حجة للأحياء ولا الأصحاء ولا المستطيعين تمنعهم من إحسان العبادة وإكمال الطاعة؛ شكلاً ومضمونًا، إلا أن تكون الغفلة قد حجبت القلوب، أو تكونَ الذنوب قد أصابت الأفئدة بالقسوة، وحالت دون شعورها بمعنى الشعائر التي وضع الله فيها أعظم الحكم وأرقى المعاني.
إن الشعائر التي يؤديها المسلم تجارب شخصية للعبد في ميدان الطاعة؛ بمعنى أنها حلاوة يُتاح له أن يتذوقها بنفسه، لا أن يحكي الناس له عنها، أو يتذوقوها نيابة عنه.. إلا أن القلب لا يتذوق حلاوة الطاعة لمولاه إلا إذا سَلِم من الأدواء القتَّالة، ولم يتركه صاحبه فريسة بين يدي الشياطين والأهواء، بل سعى صاحب هذا القلب للهدى جادًا صادقًا، مستعينًا على ذلك بمولاه الذي لا يخيِّب من طلب منه الهدى بصدق وإخلاص للحق: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17].
كشف حساب
الظاهرة التي نشكو منها هي أن يتحول تديننا إلى تدين مناسبات، يرتبط بزمان معين، دون أن تبقى من هذا التدين إلا ظلال أشبه بالأوهام والخيالات، تصحبنا بقية العام حتى يعاود الموسم المبارك زيارته من جديد!
ولا تقف وراء هذه الظاهرة قلةُ ما نأتي من عمل في المواسم، بل إن حصاد شهر رمضان المبارك مثلاً يبدو في العادة - لدى المسلم العادي - كبيرًا جدًا وبشكل لافت للنظر. وهذه محاولة لتقريب الصورة من خلال نموذج لمسلم متوسط الأداء لعباداته، على اعتبار أنه صام الشهر كاملاً، وصلى ركعات الفرائض، وأضاف عليها خمس عشرة ركعة من السنن في اليوم (القيام + ركعات أخرى)، واعتكف يومًا وليلة فقط، وختم القرآن مرة واحدة خلال الشهر، واستمع إلى عشر دقائق من العلم كل يوم، إضافة إلى أربع جمعات (30 دقيقة للخطبة مثلاً):
وهذا النموذج في الحقيقة فيه ميل إلى التبسيط والأخذ بالأقل، فكثير من المسلمين تتضاعف أكثر الأرقام السابقة بالنسبة إليهم أضعافًا كثيرة، فيختمون القرآن مرات، ويعتكفون العشر الأواخر كاملة، ويصلون ما لا يُحصَى من النوافل، ويمكثون الساعات الطوال في صلاة التراويح.(/1)
لكن النموذج السابق يكفي لبيان المعنى المراد، وهو أن المسلم يصلي في شهر رمضان حوالي ألف ركعة، ويمتنع فيه عن أنواع عديدة من المباحات (شهوتي الفرج والبطن) أثناء النهار بما يقارب خمسة عشر يومًا كاملاً بليله ونهاره، ويمكث مع القرآن والذكر ثماني عشرة ساعة، ويبقي في المسجد ما مجموعه ثلاثة أيام ونصف يوم تقريباً، ويستمع لحوالي ثلث يوم كامل من العلم..
إذن ما يقوم به المسلم عادة في شهر رمضان عمل ضخم وكبير، ويستحق أن تكون له آثار هائلة في حياة صاحبه، تصل إلى درجة إحداث ثورة في حياته. وقد عنون الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يرحمه الله إحدى مقالاته الشهيرة التي كتبها منذ سبعين سنة كاملة (سنة 1353هـ) باسم "شهر للثورة فلسفة الصيام"..
لكن ما يحدث عادة هو أننا لا نجد أثرًا كبيرًا لهذه الأعمال في حياة صاحبها! فما سبب هذا؟ ما سبب أن يتحول جبل من العمل إلى ركام من الرماد، فلا يترك إلا أثرًا ضئيلاً ينمحي بمرور الأيام والابتعاد عن رمضان؟
أسباب متنوعة
هذه ظاهرة مركبة، ففيها عناصر من ظروف العصر، وعناصر من حال الثقافة الإسلامية عند أصحابها، وأخرى من فهم طبيعة هذا الدين المتكامل، وغير ذلك..
وبسبب هذا التركيب لن نستطيع رد الظاهرة برمتها إلى سبب واحد، بل هناك أسباب عدة، لعل أهمها ما يلي:1- دخولنا في موسم العبادة دون وضوح الهدف الذي نستهدفه من التزامنا فيها بما أُمرنا به من الطاعة وهجر العصيان، ويمكن أن يكون هدفنا هنا ما يأتي:
أ- مجرد إعلان الخضوع والتسليم لله فيما أمر، مع الاستعداد لأن نسحب هذا الأمر على بقية مناحي حياتنا وأيام عمرنا.
ب- بلوغ "المغفرة" من الله تعالى؛ حتى تكون قلوبنا أكثر عافية وقدرة على الاستمرار.
ج- استئناف الطريق إلى الله تعالى، على أن يكون الموسم هو البدء وما بعده استمرار له، لا أن يكون الموسم بدءًا للعودة إلى الله وختامًا لها معًا.
2- العيش مع العبادة في شكلها وهيئتها، دون معايشة لها في روحها وحقيقتها، فالقيام طويل، ولكن الخشوع قليل، والصيام جوع وعطش، ولكن الجوارح تَسْرح حرة حيث شاءت، وقراءة القرآن كثيرة، ولكنها رطانات وسباقات للوصول إلى "الختمة"، وأصوات متداخلة تخطئ القراءة المتدبّرة الواعية.
3- تميُّز أيام المواسم، وكثرة البركة فيها دفعتا الناس في حال السلب إلى الفصل بينها وبين بقية شهور السنة، فانتزعوا الأيام من سياقها الزمني الذي رتبها الله عليه، ونسوا أن تميز هذه الأيام نابع من الخير الذي وضعه الله فيها، ومن الأثر الكبير الذي يمكن أن تتركه في حياة صاحبها طوال العام، وربما طوال العمر.(/2)
التديّن والمقاييس الاختزالية! ... ...
يشترك المسلمون في أصل التوحيد وقاعدة الإيمان، وعلى ما بينهم من هذا القدر المشترك إلا أنهم متفاوتون فيما بينهم تديّناً وصلاحاً، أو ظلماً وتفريطاً (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، لكنه تفاوت لا يُخرِج أحداً منهم من دائرة الولاء والمحبة، ولا يرفع عنه حرمة المسلم، فكلهم موعود بجنة الله ورضوانه؛ إذ يقول الله في الآية التي تليها: (جنات عدن يدخلونها) حتى الظالم لنفسه منهم، فمآله للجنة (يُحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير).
وكما أن ظلم الناس لأنفسهم تتعدّد صوره بتعدّد صور الكبائر، فكذا صلاحهم لا يأتي في صورة واحدة، وإنما يدخلونه من أبواب متفرقة. وكما للنار سبعة أبواب، فللجنة منها ثمانية، من كل باب يُنادى أناس، وآخرون يُنادَون من كل باب.
إذاً ليس للصلاح وجهٌ واحدٌ لا يُعرف إلا به، ولا مظهر واحد لا تتشكل صورة الصلاح إلا منه، ولا مقاييس شكلية تقوم بظاهر بدن الرجل وهيئته فتُختزل فيها صورة الصلاح.
واختزال التديّن في مقاييس شكلية -نسبة إلى الشكل لا إلى ما يقابل الجوهر، بحيث تكون هي المؤهل الوحيد لاستحقاق وصف التدين، فتغني عن غيرها في إضفائه، ولا يغني غيرها عند عدمها- هو من جملة تلك الأخطاء التي وُلِدت مع ميلاد الصحوة.
لقد أحدثت الصحوة تغييراً في المجتمع تجاوز تغيير السَّمت والمظهر، فقد كانت -مذ ظهرت- صحوةً في العقيدة، وفي الفكر، وفي المنهج، وفي السلوك، وفي الشعور، بيد أن الألقاب التي وُلدت معها كـ(التديّن) لم تمتدّ امتدادها، ولم تَسَعْ ما وسعته الصحوة من الناس في تأثيرها، بل بقيت كما هي مذ وُلدت ألقابَ تزكيةٍ اختزلت التديّن في هيئة، وجعلته منوطاً بها، فمن حقّق الشعائر المتعلقة بالهيئة خُلع عليه هذا اللقب، وأُضفيتْ عليه شارة الصلاح، فلا يضيره بعدُ أن يقصِّر في غيرها، ومن تخلّفت فيه صفة من صفاتها خُلع عنه اللّقب، وجُرّد من ذلك التشريف، ثم لا يشفع له أن يكون فيه من دلائل الصلاح ما هو أوجب وأعظم منها. فهي -كما ترى- أحكام مرتجلة، تمنحها نظرة خاطفة إلى مظهر الرجل وهيئته، بل -في الحقيقة- إلى (مشهد صامت) ليس فيه فعل ولا قول -واللذان هما المعيار والمحك- فيتلقف هذه الأحكام فماً عن فم؛ حتى يصبح هذا معياراً عاماً يُسبر صلاح كل شخص من خلاله.
نعم ليس للناس إلا الظاهر، كما قال عمر -رضي الله عنه-: "وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم"، غير أنه يجب أن يُفهم أن الظاهر المقصود هو ما ظهر للناس من فعل الإنسان وقوله وسلوكه، لا مجرّد ما ظهر من هيئته، فهذا ظاهرٌ لا يدل إلا على نفسه، ولا دلالة له على غيره، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا مدحاً ولا ذمّاً. وعمر قال: "ما ظهر لنا من أعمالكم" ولم يقل: "من هيئتكم أو مظهركم".
ليس التدين محصوراً ببضع شعائر تقوم بظاهر البدن، بل هو مشاعر إيمانية يفيض بها القلب، وسلوك طاهر يقوم بالجوارح. وإنَّ تحجيمَ الولاء في دائرة ضيقةٍ تحكمُها سماتٌ ظاهرة يُفضي إلى تشطير المجتمع إلى فئاتٍ متنافرةٍ، أو على أقل تقدير غيرِ متعاونة، تتسع بينها الفجوةُ والجفوة، وتصبح كأنّها لا تلتقي على شيء!
فيجب أن تُوضع هذه السماتُ الظاهرة حيث وضعها الشّرع، بلا تهويل ولا استهانة، والذي يعني أنها شعيرة من الشعائر فحسب، المحقق لها مطيع، والمقصّر فيها عاصٍ، لا شارةَ كمال تُضفي على صاحبها الصلاحَ المطلق، ولا أن تُجعلَ أصلاً من أصول الإسلام يُجعل فرقاناً بين الولاء والبراء، والمحبّة والبغضاء. وإذ لم يجُز لأحد الاستهانة بها؛ فلا يجوز له أن يقدّرها فوق قدرها، فإنها إن أُعطيت فوق ذلك تواردتْ عليها اللوازمُ الباطلة، من إطلاق الصلاح لمن تحقّقت فيه بإطلاق، أو نفيِه عن غيره بإطلاق.
من الحقائق التي لا يختلف فيها عاقلان أن وجود بعضِ سِمات الصلاح الظاهرة لا يدلّ على كمالِ صلاحِ الباطن بالضرورة، وعدمُ وجودها لا يدل بالضرورة على فساد الباطن، فلماذا يجعلها بعضُنا حَكَماً يُملي عليه طريقةَ التعامل ويصرِّف له بها ولاءاته؟ ولماذا تتعامى بصائرنا عن هذه الحقيقة البسيطة؟!
إنك قد تفتقدُ في بعض الناس بعضَ السمات الظاهرة للصلاح، لكنّك لا تفتقد فيه معالم أخرى للصلاح هي أهم وأوجب؛ كسلامة الصدر، وعِفَّة اللسان، واستقامة الفكر، ولين الجانب، وبذل المال في سبيل الله، وتعظيم قدر الصلاة، والتذمُّم للناس، وأداء حقوقِهم. فهل تُلغى هذه المعالم العظيمة للصلاح لأجل افتقاد شيءٍ من السمات الظاهرة!
أليس هذا بأولى بمزيد من البشاشة والمحبّة من ذلك الذي تتامّت فيه تلك الهيئة المانحة لوسام (التديّن) وبدت منه قبائح لا يسترها جمال هيئة ولا حسن سَمْت؛ كالاستطالة في الأعراض، وبذاءة اللسان، وتضييع الحقوق، وخفر الذمم، وغلبة الحسد والحقد وسوء الظن؟!(/1)
يجب أن يُصحّح مفهوم التديّن لدى الناس، حتى يدركوا أن وصفَ التديّن لا تحتكرُه سماتٌ خاصةٌ بالمظهر، ولا يختصّ بطائفة تتميَّز بمظهرها، وكي لا ينخدعوا بهيئاتٍ يتلبّسها رجال خدّاعون؛ لتزكيهم بها العيون، وتأمن خيانتهم القلوب.
ويجب أن يُصحّح مفهوم التديّن كي تزول تلك النفرة التي قد تبدو من بعض الناس تُجاه آخرين بسبب نظرة خاطفة لا تجاوز ملامح الوجه.
وأخيراً أرجو ألاّ يُفهَم من هذا تهويناً من بعض الشعائر، أو تسويغاً للتقصير فيها، إنما قصدتُ الإنكارَ لتقديرها فوق قدرها، ولتهوينِ شأن غيرها.
كاتب المقال: سامي الماجد
المصدر: الإسلام اليوم(/2)
التديُّن المزدوج!
علي صالح طمبل*
الفتاة التي تغطي شعرها في الشارع وتؤمن بأنها محجبة قد تكون هي ذات الفتاة التي تراها تقف مع صديقتها أمام باب المنزل بشعر مكشوف. والفتاة التي تراها ترتدي العباءة السوداء والقفاز في المواصلات العامة قد تجدها هي نفس الفتاة التي تجول متبرجة في عرس شقيقها أو صديقتها المقربة وهي تتذرع بأن العرس مناسبة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر!
والرجل الذي تراه يصلي في المسجد الصلوات الخمس قد يكون هو ذات الرجل الذي تراه يصطحب زوجته وبناته بكامل زينتهن إلى حفل ساهر يختلط فيه الحابل بالنابل. والشاب الذي يضع المسبحة على عنقه لعله يكون هو نفس الشاب الذي يسهر مع الأفلام الماجنة حتى يتسلل إلى نافذته أول خيط من الفجر!
هذه الازدواجية في التدين تحصر الدين في مواضع معينة وتقصيه عن المواضع الأخرى، وتضع الدين في رهان خاسر مع العادات والتقاليد المنافية له، وتقدِّم رضا النفس على رضا خالقها؛ وكأن الدين ما جاء لينظم كافة مناحي الحياة دون تمييز ما دامت كلها في النهاية تؤدي إلى الهدف الأسمى وهو عبادة الله عزّ وجلّ. قال تعالى: (قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أولُ المسلمين) (الأنعام: 162).
ومشكلة البشرية كلها مع الدين منذ القدم وحتى قيام الساعة ـ على حد قول الشيخ محمد سيد حاج ـ هي الخوف على المصلحة الخاصة؛ لذلك نجدها تُقدّم المصلحة الخاصة في كثير من الأحيان على الدين عندما يتعارض الدين معها، مع أن الخالق عز وجل قد شرع الدين لما فيه المصلحة والسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. ولا شك في أن خالق العباد أعلم بمصلحتهم منهم. قال تعالى : (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) (طه: 123-124).
والذين يريدون تطبيق الدين على هواهم بأخذ ما يتماشى مع مصالحهم وترك ما يتعارض معها، هؤلاء سيظل الدين بالنسبة إليهم مظهراً من المظاهر الاجتماعية يجارون به موجة النفاق الاجتماعي التي تفشت في مجتمعاتنا، ولن ينفذ الدين أبداً إلى أعماقهم؛ لأن الدين في حقيقته قول وعمل، ومظهر وجوهر، ولا يمكن الاستغناء عن جانب من جوانبه دون الآخر. قال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) (البقرة: 85).(/1)
التذكير بالله والتآخي في الله من أهم القربات ومن أفضل الطاعات
القسم : إملاءات > رسائل
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن سلك سبيله واتبع هداه إلى يوم الدين .
أما بعد : أيتها الأخوات في الله ، أشكر رئيسة الجمعية على دعوتي إلى هذا اللقاء ، وأسأل الله أن يوفقها والعاملات معها لما فيه صلاح الجمعية واستمرار نفعها ، ولما فيه أيضا صلاح المسلمين جميعا .
أيتها الأخوات في الله : إن التذكير بالله والتآخي في الله من أهم القربات ومن أفضل الطاعات ، وهو من التناصح والتعاون على البر والتقوى ، ومن التواصي بالحق الذي أثنى الله على أهله ، وأخبر أنهم هم الرابحون ، قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[1] وقال عز وجل : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[2]
أمر سبحانه في الآية الأولى بالتعاون على البر والتقوى ، ويدخل في ذلك النصيحة والتوجيه إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبر الوالدين ، وغير ذلك مما ينفع العباد في العاجل والآجل ، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان ، ويدخل فيه التعاون على كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى ، كالتعاون على المعاصي كلها كالمسكرات وظلم الناس ، وغير ذلك مما يدخل في التعاون على الإثم والعدوان . فلا يجوز لمسلم أو مسلمة أن يعين على معصية الله عز وجل ، وينبغي للمؤمن والمؤمنة ألا يتأخرا عن التعاون على البر والتقوى .
وأخبر في سورة العصر أن من صفات الرابحين الناجين السعداء : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر .
هذه أيتها الأخوات في الله صفات الرابحين ، صفات السعداء : الإيمان بالله ورسوله إيمانا صادقا ، ثم العمل الصالح ، وهو ثمرة الإيمان وهو موجب الإيمان ، وهو أداء فرائض الله والكف عن محارم الله ، والمسارعة إلى الخيرات والازدياد من أنواع القربات .
والأمر الثالث : التواصي بالحق ، ويدخل فيه التناصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسائر وجوه الخير .
والرابع : التواصي بالصبر فإن الأمور المهمة لا تحصل إلا بالله ثم بالصبر ، فلهذا أخبر سبحانه عن صفات الرابحين أنهم يتواصون بالصبر .
هذه العناصر الأربعة هي أسباب الوصول إلى السعادة ، والوصول إلى الربح ، وهذه العناصر إذا توافرت للمجتمع صار مجتمعا صالحا ، سواء كان رجاليا أو نسائيا ، كل مجتمع تتوافر فيه هذه الأمور الأربعة وهي : الإيمان الصادق بالله ورسوله ، إيمانا يتضمن توحيد الله ويتضمن الإيمان بالرسل جميعا ومنهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، ويتضمن الأصل الثاني وهو العمل الصالح ، وهو أداء الفرائض وترك المحارم ، والمسارعة في الخيرات ، ويتضمن العنصر الثالث وهو التواصي بالحق والتعاون على الخير والتناصح ، ويتضمن العنصر الرابع التواصي بالصبر .
ووصيتي لكن أيتها الأخوات العناية بهذه الأصول والحرص عليها ، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الشرور ، وغلب فيه الجهل بأمور الدين ، وقل فيه العلم .
ويجب على المؤمن والمؤمنة التعاون على البر والتقوى دائما ، ولا سيما في هذا العصر الذي لا تخفى حاله وما كثر فيه من المغريات وأسباب الشقاء ، وما حصل فيه من الاختلاط بالكفرة والفسقة ، وما حصل فيه أيضا من الرفاهية وتطور الأحوال في كل شيء . فالمؤمن والمؤمنة في أشد الحاجة للتواصي بالحق والتناصح والتعاون على الخير والصبر على ذلك . فالمؤمن ينصح أخاه إذا رأى منه تقصيرا ، وأيضا المؤمنة تنصح أختها في الله وأخاها في الله : زوجها وأباها وابنها وابنتها وأختها وجدتها وأمها وغيرهم ، في كل شيء : في الصلاة ، في الصوم ، في الحج ، في بر الوالدين ، في الكف عن محارم الله ، في صلة الرحم ، إلى غير ذلك .
والناس بخير ما تناصحوا وتواصوا بالحق ، فإذا أهملوا وضيعوا وتقاعسوا عن هذا الأمر العظيم ، ظهرت بينهم المنكرات ، وقلت بينهم الخيرات ، وانتشرت الرذائل .
محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في جمعية الوفاء الخيرية بالرياض ضمن برامجها الثقافية في مستهل شهر رجب عام 1404ه ونشرت بالجزيرة العدد 4210 الصادر يوم الأحد 7 رجب عام 1404ه .
أخلاق المؤمنين والمؤمنات :
ومما ورد في كتاب الله العظيم فيما يتعلق بهذا الأمر العظيم قوله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[3](/1)
هذه صفة المؤمنين والمؤمنات ، وهذه أخلاقهم ، بعضهم أولياء بعض لا حقد ولا حسد ، ولا غش ولا خيانة ولا تنابز بالألقاب ولا لمز ، ولا غير ذلك مما يؤذي ومما يسبب الشحناء والعداوة والفرقة ، بل هم أولياء يتحابون في الله ، ويتناصحون ويتواصون بكل خير . ولذلك يأمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر فيما بينهم ، هكذا المؤمنون والمؤمنات .
وبهذا تصلح مجتمعاتهم ، وتستقيم أحوالهم ، ثم مع هذا يقيمون الصلاة كما شرعها الله بالطمأنينة ، وبالخشوع والإقبال عليها ، والمحافظة عليها في أوقاتها ، وأداء ما يلزم فيها من شروط وأركان وواجبات ، أي أن تقام كما شرع الله ، يؤدونها كما شرع الله في كل وقت . {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ويعطونها إلى المستحقين لها كما أمر الله ، ثم قال : {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من صفات أهل الإيمان ذكورا وأناثا طاعة الله ورسوله في جميع الأمور . وهذه أسباب السعادة ، وهذه سبل النجاة ، هذا ما أوصيكم به ونفسي : تقوى الله جل وعلا ، والقيام بهذه الأمور وتدبرها وتعقلها ، كما أوصيكن بكتاب الله القرآن الكريم ، بتدبره وتعقله ، والإكثار من تلاوته والعمل بما فيه ، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، كتاب الله الذي قال فيه سبحانه : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[4] وقال فيه عز وجل : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[5] وقال فيه تبارك وتعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[6] فأوصيكن بهذا الكتاب العظيم تلاوة وتدبرا ، وتعقلا وعملا ، التي تقرأ عن ظهر قلب تحمد الله وتقرأ عن ظهر قلب ، كيفما شاءت مضطجعة وجالسة وماشية ، والتي تحتاج إلى مصحف تقرأ منه على طهارة وتدبر وتعقل ، فيه الهدى والنور ، وفيه الدعوة إلى كل خير : الدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، فيه الترهيب من مساوئ الأخلاق ، وسيئ الأعمال .
كما أوصيكن بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والحرص على سماع الأحاديث فيما بينكن : من ( رياض الصالحين ) ، أو ( بلوغ المرام ) ، أو ( منتقى الأخبار ) ، أو غيرها من كتب الحديث المعتبرة كالصحيحين والسنن الأربع .
وننصح بهذا كل مسلم ومسلمة في أنحاء المعمورة ، فإن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تدعو إلى الهدى ، وكلها تفسر كتاب الله ، وتدل على معناه . فالتي تقرأ وتطالع الكتب تستفيد ، ومن أحسن ما يقتنى ( رياض الصالحين ) ، فهو كتاب جيد ، و ( بلوغ المرام ) ، و ( منتقى الأخبار ) و ( عمدة الحديث ) ، هذه كتب جيدة ومفيدة وعظيمة .
وإذا كانت لا تقرأ فيمكن أن تقرأ عليها ابنتها أو أختها أو ابنها أو أخوها في مجالس مرتبة ، في أوقات معينة للفائدة والتعاون على الخير والتفقه في الدين .
أسأل الله بأسمائه أن يوفقنا وإياكن إلى الخير ، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يزيدنا وإياكن علما نافعا ، وعملا صالحا .
أما موضوع هذا اللقاء وهو الكلام على ( الاستهلاك ) ، وما يترتب على الوقوع فيه من التبذير ، والإسراف ، فكلمتي هنا أقول : قد أنزل الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم آيات فيها ذكر الإسراف والتبذير ، والنهي عنهما ، والثناء على المقتصدين والمستقيمين في تصرفاتهم في أكلهم وشربهم وسائر نفقاتهم .
فلا إسراف ولا تبذير ، ولا بخل ولا تقتير ، ولا غلو ولا جفاء . هكذا شرع الله بالتوسط في الأمور كلها ، ومن ذلك النهي عن الغلو ، فالعباد منهيون عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) .
والله سبحانه وتعالى يقول : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}[7] ونهيه سبحانه لهم هو نهي لنا أيضا ، والجفاء والتقصير منهي عنهما ، بل يجب أن نؤدي الواجبات وندع المحرمات ونسارع في الخيرات من غير غلو ولا جفاء .
والغلو هو : الزيادة فيما شرع الله ، مثل الذي لا يكفيه الوضوء الشرعي ، بل يزيد ويسرف في الماء ، فلا يكتفي بغسل يديه ورجليه ثلاثا بل يزيد على ذلك ، فهذا نوع من الغلو فيما شرع الله ، وهكذا في الأذان ، وهكذا في الإقامة ، وهكذا في الصوم إلى غير ذلك .
فالزيادة في الشرع تسمى غلوا وإفراطا وبدعة ، والتقصير في الصلاة بالنقص وعدم الكمال يسمى جفاء وتفريطا . وهكذا النقص في الصوم أن لا يحفظه من المعاصي كالغيبة والنميمة وسيئ الكلام والفعال حال صومه ، فهذا جفاء في الصوم ونقص .
ومن الغلو في الصيام : كونه لا يتكلم أو لا يجالس الناس فهذا غلو .(/2)
ولكن نصلي كما شرع الله ، ونصوم كما شرع الله ، ونبتعد عما حرم الله ، وهكذا في النفقات لا إسراف ولا تبذير ولا بخل ولا تقتير ، ولكن بين ذلك خير الأمور أوسطها ، كما قال سبحانه وتعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}[8] فالشرع جاء بالتوسط في الأمور كلها ، وعدم الغلو ، وعدم الجفاء ، وعدم التشدد . قال الله سبحانه : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[9] أمر الله سبحانه بأخذ الزينة لما فيها من ستر العورات ، ولما فيها من الجمال كما قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَريشَاً}[10] الريش : ما يتجمل به الإنسان ، فالله خلق لنا شيئا نستر به العورات ، ثيابا تستر العورات ، وخلق لنا ثيابا جميلة وهي الرياش فوق ذلك للتجمل بين العباد ، ثم قال : {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}[11] لباس التقوى : الإيمان بالله ، وتقوى الله : بطاعته واتباع ما يرضيه ، والكف عن محارمه ، هذا اللباس الأعظم ، وهذا هو لباس التقوى.
ثم قال سبحانه وتعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}[12] أمر بالأكل والشرب لما فيهما من حفظ الصحة والسلامة ، وقوام البنية؛ لأن ترك الأكل والشرب يفضي إلى الموت ، وذلك لا يجوز ، بل يجب الأكل والشرب بقدر ما يحفظ الصحة ، ويكون الإنسان متوسطا في ذلك حتى يحفظ الصحة ، وتستقيم حاله ، فلا يسرف فيؤدي ذلك إلى التخمة والأمراض ، والأوجاع المتنوعة ، ولا يقصر فيضر بصحته ، ولكن بين ذلك ، ولهذا قال : {وَلا تُسْرِفُوا}
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) وهذا الحديث الصحيح يدل على أن الإسراف في الأكل والتوسع فيه أمر غير مرغوب فيه ، بل وخطير ، بحسب ابن آدم ما يقيم صحته ، ويقيم صلبه من اللقيمات التي تناسبه صباحا ومساء ، وفي غير ذلك من الأوقات التي يحتاج فيها إلى الطعام والشراب . فإن كان لا بد ولا محالة من الزيادة فلا يسرف ، فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس والراحة ، للقراءة والتهليل والنشاط الاجتماعي ، ومخاطبة الناس ، إلى غير ذلك ، والإسراف هو الزيادة ، وهو في الأكل يؤدي إلى التخمة ، وهو في الملابس يفضي إلى إضاعة المال ، وعدم الاهتمام بحفظه ، وفي الكلام يفضي إلى ما لا تحمد عقباه ، أو إلى ما حرم الله من الكلام .
الإسراف من شرور الحياة :
وهذا الإسراف في كل شيء من شرور هذه الحياة ، فالمؤمن يتوسط في أموره كلها ، والمؤمنة تتوسط في كل الأمور ، وقد أخبر جل وعلا عن منزلة المبذرين بقوله : {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا }[13]
فالمبذر مضيع للمال ، لا يؤمن على مال ، والمال له شأن عظيم ، والمال الصالح نعم العون للرجل الصالح ، ينفقه في سبيل الله .
فالواجب حفظ المال وعدم إضاعته ، ولذلك جاء التشديد في شهادة الزور لما فيها من أخذ الأموال بغير حق ، وسفك الدماء بغير حق ، وهتك الأعراض بغير حق ، فقال صلى الله عليه وسلم : ((ألا أخبركم بأكبر الكبائر)) ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال (( الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور)) فكررها عليه الصلاة والسلام . لأن شهادة الزور شرها عظيم وعواقبها وخيمة ، تؤخذ بها الأموال بغير حق ، وتزهق بها الأرواح ، وتنتهك بها الأعراض بغير حق . ولهذا حذر منها عليه الصلاة والسلام .
وجاء في كتاب الله العزيز ما يفيد التحذير منها ، كما قال جل وعلا في سورة الحج : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[14] أما عقوق الأمهات فهو كبيرة عظيمة ، وجريمة شنيعة يجب الحذر منها ، والتواصي بتركها ، وأما الشرك بالله فهو أعظم الذنوب وأكبرها كما قال سبحانه : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[15] وقال سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[16] نعود إلى إكمال البحث في التبذير ، يقول سبحانه وتعالى : {وَلا تُبَذِّرْ تبْذيرَاً}[17] يحذر سبحانه من التبذير وهو الإنفاق في غير الوجه الشرعي ، كإنفاق الأموال في ظلم الناس ، وقصد الإضرار بهم ، أو في ظلم النفس كإنفاقها في المسكرات والمخدرات ، وفي التدخين وفي الزنى وسائر المعاصي كالقمار والربا ونحو ذلك ، وهكذا إتلافها من غير سبب كالإفراط في شراء الأغراض التي لا حاجة إليها . هذا من إضاعة المال ، ومن التبذير ، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال .(/3)
فالتبذير هو : صرف الأموال في غير وجهها ، إما في المعاصي ، وإما في غير فائدة لعبا وتساهلا بالأموال .
أما الإسراف فهو : الزيادة التي لا وجه لها ، يزيد في الطعام والشراب بلا حاجة ، يكفيه مثلا كيلو من الطعام أو كيلو من اللحم ، أو ما شابه ذلك فيزيد طعاما ولحوما لا حاجة لها ، تلقى في التراب وفي القمائم ، هذا يسمى إسرافا .
وأما إتلاف الأموال بغير حق وصرفها في غير حق فيسمى تبذيرا ، وبين سبحانه أن المبذرين إخوان الشياطين . لأنهم شابهوهم في اللعب والإضاعة والمعاصي .
التأدب بآداب الله :
فالواجب على المؤمنين والمؤمنات جميعا أن يتأدبوا بآداب الله ، وأن يحذروا مما نهى الله عنه ، فلا إسراف ولا تبذير لا في المآكل ولا في المشارب ولا في الملابس ، ولا في غير ذلك ، ولا في الولائم العامة ، ولا في الولائم الخاصة ، بل بالمقدار المناسب ، فإذا صنع طعاما لجماعة ولكن تخلفوا أو تخلف بعضهم فليس بإسراف لكن يجتهد في صرف الطعام لمن يحتاجه ، وفي نقله إلى من يحتاجه ، أو في حفظه حتى يؤكل بعد ذلك ، ولا يلقى في القمائم والمواطن القذرة .
وإن كان ولا بد فليحمل إلى جهة بعيدة سليمة حتى تأكله الدواب ، وإذا تيسر نقله إلى من يستفيد منه من العمال والفقراء وجب ذلك حتى لا تضيع هذه الأموال ، وحتى لا يقع الإسراف والتبذير .
وقد مدح الله سبحانه عباده المقتصدين ، وهم عباد الرحمن ، فقال في أوصافهم عز وجل : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }[18]وهذا هو الحد الفاصل ، لا إسراف ولا تقتير ، وما بين ذلك هو القوام والعدل ، يمدحهم سبحانه فيقول : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}[19] الإسراف الزيادة ، والتقتير البخل ، والبخيل والبخل مذمومان ، وهكذا الإسراف والتبذير مذمومان أيضا ، فلا هذا ولا هذا ولهذا مدح الله عباد الرحمن بقوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً}[20] كان عدلا وسطا .
فالوصية لكن أيتها الأخوات ولكل مسلم التخلق بهذا الخلق الكريم ، والحرص في البيت وعند الولائم على التحري في هذه الأمور ، والتوسط فيها ، والحذر من إضاعة الأموال بغير حق ، وكثرة الطعام بلا حاجة إليه ، فإن المال ينفع إذا حفظ ، والمحتاجون إليه كثيرون في هذه البلاد وفي غير هذه البلاد ونعلم من سكان هذه البلاد أمما لا يحصيها إلا الله ، في حاجة إلى المال ، وفي حاجة إلى الطعام ، وفي حاجة إلى اللباس .
وإن كانت بلادنا بحمد الله من خير البلاد قد أفاء الله عليها خيرا كثيرا في دينها ودنياها . لكن مع ذلك موجود فيها من هو محتاج ، إذا طلب وجد في هذه البلاد في المدن وفي القرى ، وفي كل مكان محتاجون لأن تصل إليهم المساعدات من الزكاة وغيرها . بواسطة المحاكم والأعيان المعروفين بالثقة والأمانة ، حتى توزع بينهم وينظر في شأنهم لأنهم في حاجة ، وفوق ذلك في بلدان كثيرة في أفريقيا وفي آسيا ، وفي كل مكان حاجات كثيرة وفقراء لا يعلم حالهم إلا الله ، في أشد الحاجة إلى المال .(/4)
وهناك المجاهدون الأفغان ، واللاجئون في باكستان في أشد الحاجة إلى المال ، فكيف نضيعه ، وكيف نسرف فيه ، وكيف نبذر ، وعندنا في بلادنا وغير بلادنا من هو محتاج ، هذا لا يجوز أبدا ، بل يجب التثبت في الأمور والحرص على التوسط فيها ، في جميع الأمور من أكل وشرب ولباس ، في وليمة عرس وغيرها . وولائم الأعراس فيها خطر عظيم . لأن كثيرا من الناس يباهي ويصرف نفقات باهظة ، وربما وصلت إلى الدين والتكلف ، فينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يلاحظ هذا الأمر ، فالمرأة تلاحظ زوجها ، وتلاحظ أباها وأخاها ، ولا تكلف زوجها ولا غيره ما لا يطيق ، بل تعينه على الخير ، وتعينه على الاقتصاد ، وهكذا تعين ولدها وأخاها على الاقتصاد ، وتعين أباها على ذلك ، وتنصح إذا رأت من أبيها أو أخيها أو من زوجها أو من ابنها ميلا إلى الزيادة والإسراف والتبذير ، تنصح وتقول : اتق الله ، لا حاجة إلى هذا ، ولا موجب لهذا ، إذا كنا موسرين فلنتصدق ولنحسن إلى عباد الله ، وإلا فلنبدأ بأنفسنا وسد حاجاتنا . روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة)) أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أي من غير إسراف ولا تكبر ، فبعض الناس يلبس ويصنع ولائم زائدة ، تكبرا وتعاظما وفخرا وخيلاء ، وذلك لا يجوز بل يشرع له أن يصنع الطعام بقدر الحاجة ، ويلبس الإنسان ما يناسبه لا فخرا ولا تكبرا ، ولكن للجمال ، إن الله جميل يحب الجمال ، والله يقول :{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[21] فلا بأس بالزينة المعتادة ، ولا بأس بالطعام المعتاد والمناسب ، ولا بأس بأكل الطيبات ، فالله سبحانه وتعالى قد أحل الطيبات ، لكن بقدر الحاجة ، لا تلقى في الأسواق والقمائم ، ولا تضيع الأموال بغير حق ، ولا يلبس الإنسان ما يضره ، ولا حاجة له به ، ولا يجر ملابسه في الأوساخ والنجاسات .
وللمرأة أن ترخي من ثيابها ما يناسب حتى تستر قدميها ، والرجل يرفع ثيابه فوق الكعب ، ولا يجوز للرجل أن يرخي تحت الكعب ، والمرأة عليها أن ترخي . لأنها عورة فتستر قدميها بإرخاء ثيابها ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار)) رواه البخاري في الصحيح ، وهذا في حق الرجال ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان فيما أعطى والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) خرجه مسلم في الصحيح . نسأل الله السلامة من كل ما يغضبه .
وقال عليه الصلاة والسلام : ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) متفق عليه . وذلك يدل على أن الواجب على الرجل أن يرفع ثيابه فوق الكعب من نصف الساق إلى الكعب ، ولا يجعلها تحت ذلك . أما المرأة فإنها عورة ، ويجب أن ترخي ثيابها حتى تستر أقدامها في مشيها ، أو تلبس الجوارب من أجل الستر .
والخلاصة : من هذا كله أن الواجب علينا جميعا رجالا ونساء ، التوسط في الأمور ، في النفقات وفي الملابس والولائم ، وفي كل شيء فلا غلو في العبادات ولا في غيرها ، ولا إسراف ولا تبذير لا في المآكل ولا في المشارب ، ولا في الولائم ولا في غير ذلك ، وعلينا أن نتحرى التوسط في الأمور كلها ، قال تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُوراً}[22] وهذا هو التوسط المأمور به ، لا بخل ولا إمساك ، ولا إسراف ولا تبذير ، ولكن بين ذلك ، كما قال ربنا عز وجل في وصف الأخيار من عباده : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً}[23] وأرجو أن يكون فيما ذكرته مع اختصاره الكفاية ، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه ، ولما فيه صلاح قلوبنا ، وصلاح أعمالنا ، وأن يمنحنا جميعا الفقه في الدين ، والثبات عليه ، وأن يصلح ولاة أمرنا ، وأن يوفقهم لكل خير ، وأن يصلح لهم البطانة ، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها في الدنيا والآخرة .
كما أسأله سبحانه أن يصلح عامة المسلمين في كل مكان ، وأن يولي عليهم خيارهم ، وأن يصلح قادتهم ، وأن يمنحنا وإياهم العلم النافع ، والعمل الصالح ، وأن يوفق حكامهم للحكم بالشريعة وتطبيقها فيما بينهم ، والسلامة مما يخالفها إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
________________________________________
[1] - سورة المائدة الآية 2.
[2] -سورة العصر كاملة .
[3] - سورة التوبة الآية 71.
[4] - سورة الإسراء الآية 9.
[5] - سورة النحل الآية 89.
[6] - سورة ص الآية 29.
[7] - سورة النساء الآية 171.
[8] - سورة البقرة الآية 143.(/5)
[9] - سورة الأعراف الآية 31.
[10] - سورة الأعراف الآية 26
[11] - سورة الأعراف الآية 26.
[12] - سورة الأعراف الآية 31.
[13] - سورة الإسراء الآيتان 26-27.
[14]- سورة الحج الاية30.
[15] - سورة لقمان الاية13.
[16] - سورة النساء الاية 48.
[17] سورة الإسراء الاية26.
[18] - سورة الفرقان الآية 67.
[19] - سورة الفرقان الآية 67.
[20] - سورة الفرقان الآية 67.
[21] - سورة الأعراف الآية 31.
[22] - سورة الإسراء الآية 29.
[23] -سورة الفرقان الآية 67(/6)
الترابي ...استخف قومه فأطاعوه
علي صالح طمبل*
وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ
وأمشي ولو أن النهار صوارم *** وأسري ولو أن الظلام جحافلُ
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم *** بإخفاء شمس ضوءها متكاملُ
هذا هو حال لسان الترابي وهو يطلق فتاواه الصاروخية العابرة للقارات ليأتي (بما لم تستطعه الأوائل)، وكأن جميع من سبقوه قد فات عليهم أن يأتوا بهذه الفتاوى المبتكرة؛ ليأتي بعبقريته المعهودة؛ فينفخ فيها الروح، ويبعثها للعالم!.
وليت فتاوى الترابي تتعرض لأمور تقبل الاجتهاد والقياس، ولكنها تمس ثوابت لا يختلف فيها اثنان؛ فتحاول بذلك أن تزعزع ثوابت ومسلمات لا يختلف فيها اثنان، وتفتح بابا من الفتنة من العسير أن يوصد.
ولست بصدد مناقشة فتاوى الترابي من إمامة المرأة للرجال، وزواج المسلمة من الكتابي، واقتصار حجاب المرأة على تغطية الصدر، وشهادة المرأة التي تعدل أربع شهادات، وغيرها من الفتاوى المضللة؛ فقد تصدى لذلك نفر كريم من العلماء والدعاة الأفاضل؛ لذلك رأينا أنه من الأجدر بنا أن نناقش محورا آخر يتعلّق بالمرامي والأهداف من إطلاق هذه الفتاوى، وفي هذا التوقيت بالذات!!..
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نجد أن المحور الطاغي على فتاوى الترابي هو المرأة؟!.
لقد أهدى الترابي بفتاواه - (المتبرجة) من كل دليل، و(المتزينة) بكل ما لا يقبله عقل أو منطق - للدعاة العلمانيين، والملاحدة، ودعاة حرية المرأة المزعومة ما لم يخطر لهم على بال؛ ليختصر الطريق أمام مآربهم للنيل من هذه الأمة وعقيدتها؛ فالمدخل الحقيقي لأعداء الأمة هو المرأة التي كرمها الإسلام، وجعلها جوهرة مصونة، ومنحها من الحقوق ما لم تمنحها إياه كل الأعراف والقوانين الغربية الوضعية؛ لذلك جاءت مقولة اليهود الشهيرة: (كأس وغانية يفعلان في الأمة الإسلامية ما لا يفعله ألف مدفع)!!..
وهذه الفتاوى تمثل في مجملها تنازلات واضحة للفكر الغربي!!.. فهو يرفع هذه الأيام لواء الديموقراطية التي يفتقدها، وينادي بضرورة مساواة المرأة للرجل و يدعي منحه حقوقها لها، بينما يظلمها وينظر إليها نظرة شهوانية محضة!!.. علاوة على أن هذه الفتاوى تمثل استجابة للضغوط التي يتعرض لها المسلمون في كل كان من العالم وهم يقاومون الحملة الشرسة التي تقودها الأفعى الأمريكية على الإرهاب الذي تصدّره من بلادها إلى كل أصقاع العالم!!..
والعجيب في الأمر أن من أتباع الترابي من يذود عن فتاواه، ويزعمون أن له خطابا صفويا، ولغة رفيعة لا يفهمها إلا العباقرة من أمثاله، وغير ذلك مما يدل على سذاجة قائله، وخفة عقله، كما فعل فرعون من قبلُ بقومه: (فاستخف قومه فأطاعوه) الآية!!..
لكن حين أنشد المعرّي الأبيات سالفة الذكر قال له صبي: إن الأوائل قد أتوا بثمانية وعشرين حرفا؛ فهل تستطيع أن تأتي بحرف آخر؟!.. فبهت، وسُقِطَ في يده، وكانت تلك الحادثة أخزت غروره من حدث، و(الغرور مقبرة الأبطال) كما يقولون!!..
وحين استخف فرعون قومه فأطاعوه كانت عاقبته الخزي مع قومه في الدنيا والآخرة، وكانت النتيجة أن أورد نفسه وقومه المهالك.!!..
من السهل أن تعمد إلى القرآن فتفسره على الهوى، وتجاوز إجماع الفقهاء والمعنى المراد من النصوص؛ وتتبع ما تشابه منه، لكن العبرة: هل تستند أفكارك إلى دليل علمي أو منطقي؟!.. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الألْبَابِ) (سورة آل عمران: 7).(/1)
الترابي.. في مواجهة امطار غزيرة ....!
مواقع أخرى*
نعم ...هى طريقته التى تميزه عن غيره من السياسيين والمفكرين, فتصنف
عند البعض بأنها ''ميزة افضلية '' على الآخرين, وبعض آخر ينظر اليها كواحدة من الاسباب التى تعيق انطلاقه السياسى وتجعله يبدد مكاسبه السياسية بسهولة ويسر, على ما انفق فيها من جهد وسعى..!
الدكتور حسن عبد الله الترابي.. يلقى آراءه وافكاره المثيرة للجدل والاشتباك فتقوم الدنيا عليها احتجاجاً وتجلس مختصمة بين رافض ومؤيد..والرجل لايدير رأسه الى الوراء, اذ انه يمضى من محطته تلك , ليثير قضية أخرى فى محطة جديدة..!
فقبل ان تزول آثار حديثه السياسي عن محاولة اغتيال الرئيس المصرى حسنى مبارك وما صاحبها وتكتمل دائرة ردود فعل ما قال,اذا بالترابي ينتقل بقاطرته الى مجالات الفقه ,فتتعدى ردود فعلها النطاق المحلى لتأتى الردود من مجمعات الفقة من المملكة العربية السعودية ومن الشيخ يوسف القرضاوى وحزب العمل الاسلامى بالاردن .وقبل هؤلاء تصدر بيانات الحركات السلفية بالخرطوم التى لا تبدأ بالشيخ محمد عبد الكريم الذى اعتقل فى مستهل التسعينات بعد اصداره لشريط كاسيت حمل عنوان ''اعدام زنديق'' -ويقصد الترابي- ولا تنته البيانات بفتاوى الشيخ سليمان ابو نارو زعيم فصيل من جماعات الاخوان المسلمين المنقسمة على نفسها عدة مرات..وبين هؤلاء تقف الكيانات الدينية الرسمية على حياد متأهبة للحديث اوللصمت معاً...!
سرقة الكاميرا
وبهذه المزية يستطيع الترابي على قول أهل الدراما ان يسرق الكاميرا من القضايا والاشخاص فلا يغادر مانشتات الصحف ولا شاشات الفضائيات ولا مجالس المدينة الا ليأتى اليها أكثر اثارة!
آراء الترابى التي اطلقها عن امامة المرأة للصلاة وعن جواز تزويجها من المسيحى واليهودى وعن ان شرب الخمر لا يصبح امراً قانونياً الا اذا تحول لعدوان وان شهادة المرأة تعادل شهادة الرجل وقد تفوق، وكون الحجاب يقصد به خمار المرأة الذى يغطى صدرها فقط .. وألا عودة اخرى للمسيح وان انتظار المهدى لا جدوى منه...فهى أغلبها آراء ادلى بها الترابي من قبل, لكنه قام بذلك فى دوائر شبه مغلقة, ولم يتسرب منها الا القليل منقولةً عنه من شانئيه ,الامر الذى كان يضع الفتاوى بين الشك واليقين. ورغم ذلك فقد كانت تتشكل حول فتاويه امواج من ردود الفعل تتراوح بين النقد والتجريح والعتاب والقبول...!
هجمات سابقة
من قبل قوبلت هذه الآراء بنقد شرس من الدكتور عصام احمد البشير، في أواخر السبعينات ولكن دكتور عصام عاد ووافق الترابي فى بعض آرائه وسكت عن البقية.. وتصدى لآراء الترابي زعيم انصار السنة الشيخ المرحوم بن باز.. واعتبرها الداعية السعودى سفر الحوالى في شريط تعليمى مسجل انها العلمانية فى ثوبها الجديد... واخرج فى مستهل التسعينات الشيخ القادم من المملكة العربية السعودية بعد ابعاده من هنالك محمد عبد الكريم- رئيس الرابطة الشرعية للدعاة- شريطه الشهير ''اعدام زنديق'' الذى قام بمنتاجه فنياً احد اعضاء حركة الجهاد المصرية, وتردد ان الاجهزة السودانية قد قامت بتسليمه للسلطات المصرية بعد ان كان محبوساً لسنوات هو وعبد الكريم بسجن كوبر..واثناء الخلاف الذى نشب بين الشيخ الترابي والرئيس البشير فيما عرف صحفياً بصراع القصر والمنشية قامت مجلة ''الدستور'' السودانية بنشر مادة الشريط على صفحاتها , الامر الذى اعتبره البعض محاولة لوضع الترابي فى مواجهة صدامية مع المجموعات السلفية تصرفه عن منازلة القصر الجمهورى بالبرلمان فى ما عرف وقتها بأزمة التعديلات الدستورية..!
وفى منتصف التسعينات قبل اضعاف وضع الترابي داخل السلطة, كان قد تعرض الدكتور جعفر شيخ ادريس- اشرس الناقدين للترابى- لاعتداءات لفظية وتعبيرية لاذعة بمسجد جامعة الخرطوم, من عدد من شباب الاسلاميين بعد الهجوم الذى شنه ادريس على الترابي وافكاره معاً في الصحف والندوات... وانتقل الرد على شيخ ادريس الى قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم حيث الدكتور امين حسن عمر والاستاذ المحبوب عبد السلام والدكتور التجاني عبد القادر تصدوا دفاعاً عن الترابي وآرائه وهجوماً على شيخ ادريس ,الذى وصف من قبل المحبوب ''بطائر البطريق'' فى عدة مقالات نشرها الاخير بصحف الخرطوم..!!
اين هؤلاء؟(/1)
وما تجدر ملاحظته ان الترابي كان لا يرد معقباً على منتقديه, ويترك ذلك اما للمحبوب عبد السلام او امين حسن عمر او الدكتور التجاني عبد القادر وفى مرات الاستاذ احمد كمال الدين المحامى او الاربعة معاً.. وتمر الآن كثير من المياه تحت الجسر, حيث لم يعد الدكتور امين حسن عمر وان كان على وفاق مع الترابي فى أغلب آرائه لكنه لم يعد له حماسة الدفاع، بعد انقسام الرابع من رمضان, وذهاب امين بعيداً عن الترابي... اما الدكتور التجاني عبد القادر فهو بالولايات المتحدة الامريكية في عالمه الاكاديمي منكفياً عليه, و المحامى احمد كمال الدين المقيم حالياً بدولة البحرين تشغله الكتابة عن ازمة دارفور عن اشياء كثيرة, فهو يغرد قريباً من سرب حركة العدل والمساواة, نعم ..لم يعد الا المحبوب عبد السلام وحده يطارد ناقدى الترابي وافكاره ويتصدى لهم بحجج نصية وتفسيرية مساقة بأسلوب صحفي جاذب... ولكن ذلك لا يكفى فى صد الهجوم على الترابي الذى يأتيه من عدة جبهات.. حيث لم يقصر الامر على المجموعات السلفية ومشايعيها فقط..حيث هنالك هجمات متكررة ظلت تأتى للترابى من اعداء آخرين وهم من المدرسة الصوفية على اختلاف طيفها حيث اصدر الشيخ علي زين العابدين كتاباً تحت عنوان (الصارم المسلول في الرد على الترابي شاتم الرسول) ..وهنالك كتاب آخر اصدره شيخ صوفى من موريتانيا وهو من اصل سعودي الشيخ ابراهيم ملا خاطر وكان تحت عنوان (سهام الاصابة على من انكر حديث الذبابة) أضف إلى كل هؤلاء مجموعات من العلمانيين تكفيهم الشماتة عليهم...!
امطار غزيرة
اذاً هى حرب على جبهات عديدة تواجه الترابي في كل مرة يتم فيها الاتحاد عليه بين اعداء استراتيجيين لبعضهما(السلفيون والصوفية)..وعلى غير بعيد تنتظر الحكومة فى شقها الايمن المؤتمر الوطني على ضفة النهر....!
كثافة الآراء الفقهية التي اطلقها الترابي اخيراً وتتابعها الزمنى المتقارب.. جعلت المراقبين يبحثون عن دلالة للتوقيت او ان كانت ترقد تحت هذه الآراء بعض من اجندة سياسية...؟
هنالك تفسيرات مختلفة:
اولها/ ان هذه الآراء للترابي آراء قديمة ولكن لتقدير منه او لتدبير ممن هم معه في ايام جبهة الميثاق والجبهة الاسلامية والانقاذ لم يكن يصرح بها في دوائر مفتوحة تحسباً لخسائر سياسية قد تترتب عليهم, عندما تستغل جماهيرياً ضدهم من قبل الخصوم..وهنا يفسر التوقيت على وجهين:
1/ ان الترابى تخلص من عبء الحسابات السياسية واصبح يتحرك بطاقة وطلاقة المفكر.. الذى كانت تقيده التقديرات السياسية!
2/او انه وصل لقناعة بلوغه سقف تجربته السياسية حاكماً ومعارضاً وحتى لا تنحسر عنه الاضواء, اراد الانتقال الى مربع آخر وهو مربع الفقة كي يحتفظ بنجوميته هنالك...!
ثانياً/هنالك من يرى في التوقيت محاولة للدخول للملعب السياسي عبر باب جديد..بمعنى ان الترابي ادرك بان سبباً اساسياً من اسباب اقصائه من السلطة هو العامل الخارجي, فاراد عبر اطلاق هذه الفتاوى على العلن ان يقدم نفسه فى نسخة جديدة للغرب على مقاس احتياجه الراهن- في الوجه الثقافي والاجتماعي - لفتاوى جديدة تدعم مشروع الشرق الاوسط الكبير..ومن هنا خرجت اشاعة ان اتصالاً هاتفياً قد تم بين الترابي والرئيس الامريكي جورج بوش...!
ثالثاً/ ترجع مصادر مقربة للترابي توقيت اطلاق الفتاوى الى تأملات وقراءات قام بها الشيخ ابان فترة اعتقالاته الاخيرة جعلته يستوثق اكثر من سلامة آرائه.. ويضيف اليها آراء جديدة...!!
كيف النهاية؟
اخيراً تبدو المواجهة مع الترابي فى سبيل ان تنتقل من مواجهة فكرية وصحفية (عبر الصارم المسلول وسهام الاصابة) الى مواجهة اعتدائية كما يلوح البعض او قانونية وهى ما طالبت به الجماعات السلفية بالخرطوم والتي اصدر ابرز قادتها الشيخ محمد عبد الكريم من قبل شريط ''اعدام زنديق''...
-------------------------------
بقلم ضياء الدين بلال نقلا عن الرأي العام(/2)
التراث الأصيل والتراث الزائف
بقلم : الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي المصري رحمه اللّه
في مواجهة المحاولة الجديدة للتآمر على عقيدة الإسلام ومنهجه وتراثه، التي تتخفي وراء مظاهر الشعر، والبيان، والفنون الأدبية، والتاريخ؛ بهدف تدميرالقاعدة الأساسية، للفكر الإسلامي القائم على مصدريه الأساسيين (القرآن والسنة)، والمتصل بمناهج العلوم الإسلامية التي شكلها علماء المسلمين استمدادًا من القرآن الكريم وأبرزها: المنهج العلمي في التحقيق التاريخي (الرواية والدراية) المستمَدُّ من تحقيق الحديث النبوي، والذي شمل من بعد مجموعة العلوم الإنسانية والتجريبية .
هذا، والقرآن، والسنة، وما يتصل بهما؛ من تراث أصيل يقوم على أساس مفهوم أهل السنة والجماعة، هو الركيزة الحقيقية لإعادة بناء الأمة الإسلامية على مفهوم الإسلام الصحيح بوصفه منهج حياة، ونظام مجتمع، وهو الخطر الماثل أمام القوى الأجنبية (غربية، ويهودية، وماركسية) الذي ظلت هذه القوى تحاربه وتزيفه، وتخدع أهله، أكثر من قرن، ونصف قرن من الزمان من خلال قانون نابليون بديلاً عن الشريعة الإسلامية، ومن خلال تعليم دنلوب، ومن خلال عمليات التبشير الغربي التي قادها "زويمر" ومن بعده في محاولة (لتغريب) هذه الأمة المؤمنة بالله – تبارك وتعالى – خالقاً ورازقًا ، وإخراجها من جوهر مفهومها، فلما أن انكشفت الأستار، وتبين فساد المؤامرة، وعاد المسلمون إلى منهجهم في جولة جديدة هي الصحوة الإسلامية، كان لابد من تدبير مؤامرات جديدة لعلّ أخطرها اليوم هي مؤامرة هدم التراث الأصيل وإعداد التراث الزائف .
ويجري اليوم تنفيذ هذه المؤامرة عن طريق مجموعة جديدة من الأدعياء يعملون في حقل بعيد تماماً عن موضع الخطر وتتبناه جماعة من الشعوبيين، والماركسيين الحاقدين الذين تَدَثَّرُوا بدثار البحث في التراث الإسلامي؛ حيث لايثير عملهم المحاذير التي قد تعلق بالعاملين في حقل الفكر السياسي أو الاجتماعي، سواء عن طريق الليبرالية أو الماركسية، وهم في الأساس يرفضون التراث الأصيل ويتهمونه بالجمود والضعف ويعنون بتراث المتآمرين على الإسلام وأهله، من دعاة الحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، والإشراق، وإحياء تراث المجوسية، والبوذية، والغنوصية، وتضمين الشعر الحر، والقصص تلك الأساطير لإذاعتها، وإعطائها مكانة الأصل الغائب المهجور على النحو الذي نراه ممثلاً فيما يسمونه إحياء التراث بمقاييس الهدم والتدمير من خروج على الأسلوب العربي الأصيل، ومن هدم لقيم البلاغة العربية وأصولها، وتغليب جانب الفللكلور الذي يمثل طفولة البشرية على البيان العربي الأصيل في محاولة لإعطاء الفن القصصي حرية محسوبة تحت اسم حرية الإبداع ، وحرية الإبداع هذه التي يتشدقون بها هي اسم مضلل لما قام به الزنادقة في القديم وحاولوا به تحطيم أصالة البيان العربي، والأسلوب القرآني، وهي اليوم تمثل محاولة أشد خطورة عندما يزيفون النصوص التاريخية في محاولة إيجاد صورة فنية مضطربة لا تقيم وزنًا للقيم الأخلاقية، والإنسانية، وتذهب بعيدًا في الكشف والإباحة وتدمير الثوابت على النحو الذي نجده في محاولات القصة الماجنة التي تتخذ من دعوى حرية الإبداع منطلقًا لتقديم إباحيات جديدة تحت صور قديمة من التاريخ .
إن هذه الرسالة رسالة القلم أمانة ومسؤولية، ليست للأهواء والمتاع الرخيص وقد حَذَّرنا الإسلام من التفريط في حماية هذا القلم من الهدف الذاتي أو المطمع القريب، وأنه موضع حساب شديد، ولن يستطيع هذا الهدف الغرير أن يحقق شيئًا لأنه معارض للفطرة ولقوانين اللغة والفكر والأدب وسوف تتحطم هذه الدعوة كما تحطمت من قبل دعوات "جبران خليل جبران" و"يوسف الخال" و"لويس عوض" و"ادونيس" و"صلاح عبد الصبور".
إن إحياء التراث الزائف، والمسموم، ومحاولة منحه الحياة مرة أخرى من خلال قصة أو قصيدة لن يحقق شيئًا إلا أن يضع أصحاب هذه الدعوات في خانة الزنادقة والشعوبيين، ولن يستطيع أن يبلغ هذا العمل شيئًا في النفس المسلمة التي عرفت بلاغة القرآن الكريم، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم وما حمل التراث الإسلامي من عطاء ثر يملأ النفوس إيمانًا وتشع منه أضواء الهدى والضياء .
إنهم يركزون الحملة على التراث الأصيل ويدعون إلى التراث الزائف الذي كتبه الشعوبيون، والباطنية، وخلفاء المجوس، والهيلينة، والغنوصية .
ومن حقنا أن نكشف أوراقهم ونفضح دخائلهم في مواجهة شاملة ترمي إلى تحديد الفوارق بين التراث الأصيل والتراث الزائف .
* * *
ركزت الحملة على التراث في محاولتين :
الأول : تزييفه والتشكيك فيه أو اتهامه بالقصور والضعف والتخلف وعدم الحاجة إليه بحجة تخطي الزمن له، وإثارة جو من الكراهية والاحتقار له بين أهله ، في نفس الوقت الذي يعلى فيه من شأن تراث الوثنية اليونانية، والرومانية، والفرعونية، وتزيين تراث الغرب، وإبرازه بصورة الريادة والبطولة .(/1)
الثاني : إحياء الجوانب الزائفة والمضطربة والفاسدة من التراث على النحو الذي عُرِفَ في تراث التصوف الفلسفي والفكر الباطني ، ولقد ركز الاستشراق على الجوانب المضطربة وأعلى وجعلها في الصدارة ، فقد عمد إلى إحياء التراث الفلسفي اليوناني الذي ترجم في القرنين الثاني، والثالث، بعد أن فقده المسلمون وكشفوا زيفه، وأعلنوا براءة الفكر الإسلامي المستمَدّ من التوحيد الخالص منه ، فأعادوه مرة أخرى وركزوا على مجموعة من الكتابات التراثية المسمومة؛ فأذاعوا بها وجعلوها مصادر للأبحاث والأطروحات وعلى رأسها ألف ليلة وليلة والأغاني وكتابات "ابن عربي" و"ابن سبعين" و"الحلاج" في التصوف الفلسفي وماكتبه "الفارابي" و"ابن سينا" في الفلسفة .
وهكذا نجد أن الباحثين العصريين التغريبيين للتراث اليوم يُولُّون وجوههم شطر هذه الجوانب المضيئة ويحبونها ويهتمون بها ويوجهون الباحثين إلى إحيائها. ومن هنا كانتْ أطروحات الماركسيين حول المزدكية، والبابكية، والقرامطة، والزنج وغيرهم؛ من الفرق الباطنية تحت اسم أصحاب العدل والحرية.
ولم يتوقف أمر الباحثين في التراث عند هذا الحد؛ بل هم يذهبون إلىتدمير مقومات ودعائم تفسير القرآن الكريم، فيهاجمون الشعر الجاهلي ويدعون أنه منتحل؛ وذلك لأنه قاعدة فهم اللغة العربية التي جاء القرآن مطابقًا لهاوقد توسع البعض في هذا، فدعا إلى هدم مناهج اللغة وخاصة البلاغة واستقطاب مناهج اللغات دون تقدير للفوارق العميقة بين اللغات التي نشأت حديثًا من عاميات اللاتينية واليونانية؛ وذلك على النحو الذي احتضنه "الشيخ أمين الخولي" .
ولعلّ أخطر ما يحاول الاستشراق والغزو الفكري استغلاله في هدم اللغة العربية ما ذهب إليه في دعوى الحداثة، ومايتصل بها من نظرية البنيوية وغيرها من النظريات التي ترمي إلى القضاء على الجذور والثوابت للغة العربية في محاولة لهدم قوانين النظم العربي؛ وذلك بالدعوة إلى أساليب مدمرة تستوحي آثار الفلسفة اليونانية القديمة في شعر ذلك العصر بشار، وأبونواس، وغيرهم؛ في محاولة لإحياء الفكر الباطني والقضاء على التيار الأصيل : تيار أهل السنة والجماعة .
وهكذا يصيب التغريب اللغة والتاريخ وتفسير القرآن من خلال دعوى عريضة ، هي أن كل علوم العربية تأثرت بالفكر اليوناني، واعتمدت عليه وهي دعوى باطلة مذمومة ، فقد نشأت هذه العلوم وتشكلت أساسًا قبل ترجمة الفلسفة اليونانية على أرجح الأقوال ، وأن الفكر اليوناني حين ترجم استهجنه المسلمون، وقاوموه، وكشفوا زيفه، وكان الإمامين "الغزالي" و"ابن تيمية" في مقدمة هؤلاء الذين بينوا الفوارق العميقة بينه وبين المفهوم الإسلامي القائم على التوحيد الخالص كما بين الامام "ابن تيمية" أن للقرآن منطقاً مختلفاً عن منطق أرسطو والفكر اليوناني القائم على علم الأصنام، وعلى مفهوم عبودية الإنسان للإنسان، واعتماد الرق أساسًا ركينًا لكل حضارة وهو ما هدمه الإسلام وقال فيه الربيعي بن عامر:
(جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلىعبادة الله الواحد القهار)
كذلك في أمر التصوف الفلسفي فقد كشف أهل السنة والجماعة أن هذه المصطلحات التي نقلها ابن عربي، والحلاج، وابن سبعين، والسهروردي وغيرهم؛ من الفكر اليوناني ومن الأفلوطينه والاشراقية لا يقرها الإسلام ولا يعترف بها .
ومن هنا فإن إعادة البحث عنها على أنها جزء من التراث الإسلامي وإحيائها هي محاولة مضللة يجب الكشف عنها .
أما التراث الفلسفي فهو جزء من التراث الزائف جملة وتفصيلاً ، فإن المسلمين لم يعتبروه من أساس فكرهم ، وقد وضح أن الفلسفة الإسلامية الحقة قد بدأت بكتاب (الرسالة) للإمام الشافعي، والذي قعد القواعد للفكر الإسلامي .
أما أن يعتبر البعض رسائل إخوان الصفا مرجعاً للتراث السياسي الإسلامي فهذه دعوى باطلة منقوضة؛ ذلك أن رسائل إخوان الصفا قد تأكدت أنها من تراث الباطنية المجوسية ، والقرامطة وغيرهم فهي مرفوضة تمامًا . لقد آن الأوان أن يتحدد الموقف تمامًا بين التراث الأصيل والتراث الزائف ، وقد حان وقت القول بأن خدعة التعريبيين بإعلاء شأن التراث الزائف والالتفاف حوله والاهتمام به ومحاولة جعله أساساً وفرضه على الدراسات الجامعية والثقافية هذه الخدعة لن تستمر طويلاً .
فالمثقف المسلم يعرف الآن حدود البدعة المضللة التي يراد إشاعتها للقضاء على الأصالة الحقيقية ، هذه البدعة الضالة التي تتمثل في دعوى عريضة كاذبة بأن التراث الإسلامي أو الفكر الإسلامي في عصر التكوين قد اعتمد على مترجمات الفلسفة اليونانية .(/2)
فهذا الادعاء لم يعد يصدقه أحد؛ لأن كل الدلائل تكشف الآن عن أنه لايمثل إلا مغالطة خطيرة فقد اكتمل مفهوم الإسلام قبل أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى، وأن الفكر الإسلامي قد تشكل قبل ترجمة الفلسفة اليونانية وأنه ماكادت الفلسفة اليونانية تُتَرْجَم، ويكشف سمومها حتى هب علماء المسلمين لمقاومتها، وإبراز فسادها، ولطالما أشار الباحثون المسلمون إلى أن هناك فوارق عميقة بين التراث الغربي والتراث الإسلامي ، هذه الفوارق مدعاة لاختلاف النظرة والتعامل مع التراث. فالتراث الغربي هو في جملته تراث بشري من ناحية، وتراث وثني من ناحية أخرى، والجانب الديني المرتبط بأصول من وحي السماء قليلة جدًا ، مغيبة في داخل الركام الكثير المختلط بين أصوله وحواشيه، وبين عصوره المختلفة وهو في غالبه تراث أساطير ليس لها جذور ثابتة أو أصول أصيلة، ومن هنا فقد عامله الغربيون على هذا النحو ، حتى كتبهم المقدسة عندما تكشفت حولها ظاهرة الفكر البشري ، بدأ النقاد والباحثون ينظرون إليها على أنها نص إنساني يجوز نقده وتدوينه في مسرحيات وقصص ، وقصائد شعرية ، دون أي تحوط من تغيره أو تحوله بعد الإضافة والحذف .
أما التراث الإسلامي فيختلف اختلافًا واسعًا ، فالجزء الأكبر منه وهو الميراث يتمثل في القرآن والسنة ، والقرآن نص موثق محفوظ لم يعتوره أي تغيير، وكذلك السنة فقد كان أهلها والقائمون عليها هم الذين أنشأوا المنهج العلمي لدراسة النص ومعرفة رجاله وهو المنهج الذي اصطنعه المؤرخون من بعد، وقام عليه المنهج العلمي الغربي .
أما القسم الآخر الذي كتبه علماء المسلمون فقد كان استمدادًا من النص القرآني والسنة يجري كله في مجرى تفسير، وتوضيح، وبناء، وتطوير؛ لكل ما يتصل بعلوم الفقه، والسياسة، والاجتماع والنفس، والأخلاق، والتربية، ومن هنا اختلفت النظرة إلى التراث بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، ويجب أن يختلف ، فأصوله ليست موضع شك ولم يدحضها فكر بشري، أما تفسيراته وإضافاته فإنها قامت على أصول أصيلة محكمة ، ولم يبق بعد ذلك إلا هذا التراث الزائف التي كتبه المجوس والباطنية والشعوبيون من تلك الفرق الزائفة التي كانت ترمي بكتاباتها إلى هدم المجتمع الإسلامي والتشكيك في القيم الإسلامية والتي واجهها أهل السنة والجماعة منذ اليوم الأول بالرد على أضاليلها وكشف زيفها ونقص دعاواها الباطلة.
وقد حاولت المدرسة العلمانية المضللة منذ اليوم الأول أن تجد تراث الوثنيين اليونانية والفكر الباطني القديم، وإحياء كتبه بعد أن اندثرت فدعا "طه حسين" وجماعته إلى اتخاذ كتاب الأغاني مرجعًا أساسيًا لدراسة المجتمع الإسلامي وهو على ما به من تصوير زائف للقرن الأول والثاني الهجري وخاصة فيما يتصل بالخلفاء في عصر بني أمية وبني العباس واتّجه تلاميذهم إلى الهجوم على أساسيات الفكر الإسلامي فكتب "فريد رفاعي" عن عصر "المأمون" (المامون الذي دعا إلى فرية خلق القرآن وحشد لها الحشود) وكتب "زكى مبارك" عن (الغزالي) الذي حطم الفلسفة اليونانية وكشف زيف دعاواها (وإن كان قد اعتذر عن ذلك فيما بعد).
وكتب "أحمد أمين" (ضحى الإسلام) عن المعتزلة ووصفهم بأنهم حكماء الإسلام وأحيا "طه حسين" في كتابه (هامش السيرة) الأساطيرَ التي دحضها مؤرخو السيرة النبوية بدعوى إنشاء (ميثولوجيا إسلامية) كما أحيا كثيرون تراثَ التصوف الفلسفي والفكر الباطني؛ فكتبوا عن الحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، والسهروردي ؛ وكتب غيرهم عن ابن سيناء والفارابي، وكتب غيرهم عن القرامطة والمزدكية والبابكية .
هذا فضلاً عن ترجمة كثير من الأساطير اليونانية القديمة التي رفضها مترجمو المسلمون في القرن الثالث ، وبذلك انفتح المجال في العصر الحديث إلى توسع دائرة التراث الزائف وخاصة التراث اليوناني القديم ، وكان ذلك من المتناقضات الشديدة الخطر ، إذ أن أصحاب الدعوة إلى التنكر للتراث الإسلامي القريب المتصل بنا في الأربعة عشر قرنًا الأخيرة ، هم أنفسهم الذين يدعون إلى إحياء تراث اليونان، والرومان، وفارس، والفراعنة السابق لذلك الذي انقطعت الصلة بيننا وبينه
ولكن قوى ذات نفوذ كبير كانت وراء هذه الموجة وهي التي مكنت لتدريس اليونانية واللاتينية في الجامعات المصرية بينما حالت من ناحية أخرى دون حفظ القرآن الكريم في الأزهر، والدعوة إلى تطوير اللغة العربية، والتنكر لأساسياتها في النحو والبلاغة.(/3)
التربية الأسرية مطلب ملح
لقد أسهم انفتاح العالم الإسلامي اليوم على المجتمعات الأخرى في انتشار ألوان من المؤثرات والمغريات، ولم يعد البيت ذاك الحصن الذي يتحكم راعيه فيما يدخله ويخرج منه، بل أصبح معرضاً متنوعاً لما ينتجه العالم بأسرة من نتاج فكري، أو مادي لايخلو هو الآخر من أبعادٍ فكرية، مما يفرض تحديات تربوية أكبر، ويزيد من عبء أولئك الذين يعنون بتربية أبنائهم ورعايتهم.
وفي المقابل أفرزت التغيرات الاجتماعية نتائج أسهمت في تقليص دور الأسرة؛ فالأسرة التي كانت تسكن في بيت صغير يجتمع أفرادها فيه ويتحلقون ساعات عدة ويتبادلون ألوان الحديث، تفرقوا في منزل شاسع يحتاجون معه لأجهزة اتصال داخلية.
واستولت أجهزة الإعلام على جزء لايستهان به من وقت الأسرة، حتى الوقت الذي يتناولون فيه الطعام أو الشاي، صاروا ينصتون فيه لما تبثه تلك الوسائل.
وأدى الاعتماد على السائقين والخدم إلى تبديد جزء من الوقت الذي يقضيه الأولاد مع آبائهم وأمهاتهم.
كل تلك المؤثرات أدت إلى تضاؤل وقت الأسرة ودورها، وصار من المألوف أن نرى هوة واسعة بين سلوك الآباء والأبناء.
وهذا يدعو إلى إعادة النظر في دور الأسرة ومهمتها، وهل الأسرة المسلمة اليوم تترك أثرها في رعاية أبنائها؟
إننا نحتاج إلى أن يعتني الدعاة بأسرهم، ويوفروا لها جزءاً من أوقاتهم، ولايسوغ أن تكون أسرهم ضحية لبرامجهم وانشغالاتهم الدعوية، ولابد يفكروا بجد في تخصيص أوقات يشاركون فيها أبناءهم ويعايشونهم.
ونحتاج إلى أن نعيد النظر في كثير مما أفرزته التغيرات الاجتماعية، وألا نستسلم ونستجيب لها بغض النظر عن آثارها، بل نقبل منها ونرفض وفق ما يحقق مصالحنا الشرعية، ويدرء عنا المفاسد.
ونحتاج إلى أن يتعاون الدعاة بينهم، من خلال تنظيم برامج وزيارات أسرية مشتركة، فهم يعيشون واقعاً متقارباً، وتطلعات واحدة، وأن يتعاونوا من خلال مقترحات وبرامج متبادلة.
ونحتاج إلى ترتيب برامج وأنشطة على مستوى الأسر والعائلات، وأن تدعم هذه اللقاءات ويسعى لإحيائها.
ونحتاج إلى بذل جهود واقتراح أفكار وبرامج تسهم في تطوير دور الأسرة التربوي، ولعل مثل هذه الدراسات العملية أولى بالاعتناء من كثير مما يطرح في الساحة من نتاج مكرر أو لايرقى إلى مستوى النشر.
ونحتاج قبل ذلك كله إلى تصحيح الفهم حول الدور التربوي للأسرة الذي صار يقتصر –لدى فئة كبيرة من الناس- على الحماية والرقابة والأمر والنهي فقط، إلى أن يكون لها دور في تربية النفوس على الإيمان والتقوى، وأن تعمر بذكر الله وما يرقق القلوب، وهاهي قصة لقمان وحواره مع ابنه تبقى قدوة للناس أجمع، وهاهو النبي صلى الله عليه و سلم يولي هذا الجانب أهميته، فيعنى بتربية من تحت يديه وتوجيههم عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال علمني رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمات أقولهن في الوتر : » اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت..«([1]).
ومن بعده سار السف على هذا المنوال، فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهم قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة:» اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن نرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر«.([2])
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) والنسائي (1745) وأحمد (1720)
([2]) رواه البخاري (6390)(/1)