وعهد الله والعهد مع الله يتطلب الوفاء بالتكاليف كلِّها كُلٌّ قَدْر وسعه الصادق الذي سَيُحاسِبه الله عليه. وحتى تَتَّضِحَ لك الصورةُ أَيُّها المسلم فانظر كيف يكون حال المسلمين وحال الناس في الأرض لو أنّ المسلمين جميعهم اكتفوا بأداء الشعائر، وتركوا ميدان الدعوة، والتربية والبناء، والتدريب والإعداد، وما يتبع ذلك من تكاليف نصّ عليها الكتاب والسنّة. من سيملأ الميدان عندئذٍ ؟ ! سيملؤه المشركون، فَيُفْتَن الناس عن دينهم تحت ضغط دعاوي المشركين والفاسقين والظالمين، فيكون إثم المتخلّفين عن الدَّعوة وما يتبعها من المنتسبين إلى الإسلام إثماً كبيراً، فينزل العقاب من الله بما كسبت أيدي الناس.
بين يديك أيها المسلم نهجٌ يجمع لك التكاليف الربّانيّة كلها على أساس من منهاج الله، وعلى أساس خُطة تحمل النظريّة وتفصيلاتها، والنهج وتفصيلاته، والنماذج والمناهج التطبيقية، والنظام الإداريّ.
النهج واضح جليّ. أساسه الالتزام بمُصاحبة منهاج الله مصاحبة عمر وحياة. ومنهاج الله هو : القرآن والسنّة واللغة العربيّة. وهذه المصاحبة القائمة على صدق الإيمان والتوحيد هي الحماية الرئيسة للنهج كله، وهي الحماية لكل مسلم بهداية من الله وتثبيت. فيها يستطيع المسلم أن لا يُخدَع بضلالة ولا فتنة، وما دام هو يَردّ الأمرَ كله إلى منهاج الله عن إيمان وعلم وتدريب وخبرة.
إِن الأهواء إذا ثارت وتملّكت الإنسان، تتيه به في كلّ واد، فَيُغَشّي على بصيرته وتعمى، ويضطرب فؤاده ويضلّ، فلا يعود يرى الحقَّ حقّاً ولا الباطل باطلاً. إن الأهواء تعصف بالتفكير ونهجه، وتثير الأماني والأحلام، وتلهب الشهوات، حتى لا يبقى مجال لإقناع، ولا فسحة لنُصْح، فَتُسَدُّ الآذان وتعمى الأبصار وتُغلَقُ القلوب.
الإِلحاح بالاستغفار والدعاء، والتوبة والإِنابة، والخشوع في أداء الشعائر وتلاوة كتاب الله، عسى أن يدفع ذلك كله إلى الصراط المستقيم بهداية من الله، لينطلق المسلم على صراط مستقيم، فيلتزم النهج بأمانة.
نقول هذا وندعو إليه بكُلِّ ثقة واطمئنان. وأساس ذلك ما يفرضه النهج من أول الأمر وأهمه وأخطره، أَلا وهو قضيّة الإيمان والتوحيد، القضيّة التي تظل مصاحبة لجميع الخطوات والمراحل، نظريّاً وعمليّاً. وكذلك مصاحبة منهاج الله مصاحبة منهجيّة، مصاحبة عمر وحياة، وردّ الأمور كلها إليه. فأثناء المسيرة يستطيع المسلم أن يكتشف الخلل والتقصير مادام مصاحباً لمنهاج الله، يزداد علمه به كل يوم، وينال رحمة ربه كل يوم. إنه سياج محكم يسّره الله لعباده المؤمنين حتى لا يُخدَعوا بباطلٍ، ولا يخدَعوا بزُخرفٍ كاذبٍ ولا زينةٍ عابرةٍ، ولا يفتنهم منافق ولا كاذب ولا دجال، وإنه ميزان صادق أمين :
• إِيمان بالله وتوحيد له عن علم ويقين.
• مصاحبة منهاج الله مصاحبة منهجيّة، مصاحبة عمر وحياة.
• ثمّ النهج كله بنظريته ومناهجه ونماذجه ونظامه الإداري.
2-أسس الالتزام :
القضيّة الأولى : هي قضيّة الإيمان والتوحيد : تبليغها من خلال منهاج الله وبيانها، ومعالجة نواحي الخلل في الواقع من حيث التصوّر والبذل لها، حتى تستقرّ في القلب يقيناً وحتى يكون الولاء الأول لله، والعهد الأول مع الله، والحب الأكبر لله ورسوله، ثمّ تعهّد الناس عليها بالرعاية المنهجيّة والنصح والتذكير، حسب النهج والخطة العامة المقرّرة.
القضيّة الثانية : المرتبطة بالقضيّة الأولى هي تدبّر منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ صحبة عمر وحياة، صحبة منهجيّة : تلاوةً وتدبراً، حفظاً وتعهّداً، وممارسةً في واقع الحياة.
قضيّة الإيمان والتوحيد إذا صدقت في قلب المسلم تدفعه دفعاً إلى تدبّر منهاج الله ودراسته، وتدبّر منهاج الله تدبّراً منهجياً صحبة عمر وحياة يُغذِّي الإيمان وينميه وينقّيه من الشوائب.
من أجل ذلك يقوم عهد الله ليذكِّر بالعهد مع الله، عهداً يحاسَب عليه الإِنسان يوم القيامة. فيدفعه ذلك كلّه إلى وعي الواقع من خلال منهاج الله، وعياً يُعينه على صدق الممارسة، ممارسة منهاج الله في الواقع وردّ الأمور كلها، صغيرها وكبيرها إِليه.
القضية الثالثة : هي هذه السلسلة من الكتب والدراسات لتقديم النهج للفرد المسلم والأُسرة المسلمة، والأُمة والناس كافة، لتعين المسلم على الوفاء بعهده مع الله، والوفاء بالأمانة التي خُلِق الإنسان للوفاء بها، وبمسؤولياته التي سيحاسَب عليها بين يدي الله، وللنجاة من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، ذلك لمن صدقت نيّته وصدقت عزيمته، ومضى على الصراط المستقيم إِلى أهداف ربّانيَّة محدّدة.
وموجز ذلك أن هذا النهج :
1ـ يُذكِّر بما أمر الله به سبحانه وتعالى.
2ـ يُرِتَّب ذلك على صورة نهج متماسك يقوم على نظرية عامة، نابع من منهاج الله، وملبٍّ لحاجة الواقع، وله مناهج عمليّة ونماذج تطبيقية، وأهداف ربّانيّة محدَّدة، ونظام إداري مفصّل.(/2)
3ـ يُدرَّب المسلم على الالتزام والممارسة والتطبيق، وعلى عدة قضايا إيمانيّة أساسية مثل : التفكير، معالجة المشكلات، الرأي وحدوده وشروطه، اللغة العربيّة الفصحى، محاسبة النفس، التقويم، النصيحة، وغير ذلك مما سبق ذكره، ومما هو مفصّل في كتب الدعوة.
القضية الرابعة : هي النظام الإداري الذي يحدّد المسؤوليات والواجبات والصلاحيات، ويوفر الإشراف والتوجيه والمتابعة، ويوفر التنسيق بين مختلف المستويات. ويكون النظام الإداري، بذلك محور النهج وجامعه، والتزامه واجب كوجوب التزام النهج.
وكلّ ذلك يتطلب من المسلم : صدق النيّة الخالصة لله، والعزيمة الأكيدة، والبذل الأمين بالتزام أمين. والله يهدي من يشاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
لا فائدة تُرجى من أي نهج مهما كان مفصّلاً ودقيقاً إذا كانت النية غير صافية ولا خالصة لله، وإذا كانت العزائم مسترخية والأهواء هائجة ثائرة، وحبّ الدنيا والسمعة فيها ومصالحها وشهواتها هي الغالبة. لذلك فإن أُسس الالتزام نوجزها بنقاط :
• صفاء الإيمان والتوحيد يدفع لتدبّر منهاج الله.
• تدبّر منهاج الله تدبُّراً منهجيّاً يُغَذِّي الإيمان وُينَقّيه.
• وعي الواقع على الأساسين السابقين ومن خلالهما.
• تذكُّر العهد مع الله من خلال ذلك كله والتزامه والوفاء بتكاليفه.
• تذكُّر عهد الله المرتبط بذلك كله والنابع منه والتزامه والوفاء به.
• دراسة كتب الدعوة المنهجية التي وُضِعت لهذا النهج.
على هذه الأُسس يقوم الالتزام بالنهج النابع من صفاء الإيمان والتوحيد، ومن منهاج الله ووعي الواقع من خلاله، ومن العهد مع الله. بغير هذه الأسس لا يقوم التزام بالنهج ولا يستقر.
فلابد للدعوة الإسلامية أن تحقّق هذه الأسس في قلوب من تدعوهم، حتى يتيسَّر بعد ذلك عرض النهج والتدريب عليه، وحتى يستطيع المسلم أن يردّ النهج إِلى منهاج الله ليطمئنّ قلبه أنه على حق، وأنه على خير.
3- مراحل الالتزام ووسائله
ـ الخطوات والمراحل :
من أجل ذلك لا بد من خطوات يمضي بها المسلم بنيّة خالصة لله، وعزيمة صادقة.
الخطوة الرئيسة والانطلاق : مع المصاحبة المنهجيَّة لمنهاج الله صحبة عمر وحياة، يُدْرَس هذا النهج من كتبه ومراجعه دراسةً منهجيّةً جادة، ويعيد ليتأكد ويتدبّر، وليصبح قادراً على اتخاذ قرار بنفسه، قرارٍ سيحاسَب عليه أيضاً بين يدي الله، قرار بقبول النهج لمن شرح الله صدره إلى ذلك، بنِيّة صادقة لله، بوعي ويقظة، دون إكراه، ولا سعي وراء دنيا ولا فتنة ولا أذى. وتكون هذه الدراسة الزاد الأول الذي ينمو مع الداعية. وخلاصة ذلك أربع مراحل يجب تحقيقها والتزامها :
• دراسة النهج كُلِّه دراسةً مصاحبةً لتدبر منهاج الله، دراسة جادة مع تدبُّر وفهم، ودراسة النظام الإداري.
• الإيمان بالنهج.
• التزام النهج كُلّه ونظامه الإداري وممارسته وتطبيقه دون اللجوء إلى أعذار كاذبة واهية، مع التعهّد والتدريب حسب النهج المقرر.
• الانطلاق والدعوة إليه.
إذن هي :
• دراسة وتدبّر وفهم.
• إيمانٌ.
• التزام.
• دعوة وتبليغ.
• التعهّد والتدريب.
ـ وسائل الدراسة المنهجيّة الجادة :
من أجل الدراسة الجادة والالتزام والبلاغ والدعوة ومحاسبة النفس يجب التزام ما يلي :
o المنهاج الفرديُّ وبيان الإشراف.
o منهج لقاء المؤمنين، مع تقويم أ، وتقويم ب.
o الخطة اليومية لكل مسلم.
o الخطة الأسبوعية لكل مسلم.
o الخطة السنوية لكل فصل.
o تقويم الداعية مرّة على الأقل كلّ سنة.
o تقويم منهج لقاء المؤمنين مرة على الأقل كل سنة.
o التدرّب على تطبيق ميزان المؤمن مرَّةً كلّ سنة على الأقل.
o التزام النظام الإداري بكل جزئياته وتفصيلاته.
ـ وسائل الإشراف والمتابعة والتوجيه :
من أجل الإشراف والتوجيه والتعاون على البرّ والتقوى، يجب رفع ما يلي، كلٌّ في موعده المقرر :
o التقرير الدوري الشهري.
o بيانات الإشراف.
o تقويم الداعية مرة قبل نهاية السنة.
o تقويم منهج لقاء المؤمنين مرة قبل نهاية السنة.
o ميزان المؤمن كلما طلب أو كان ضرورّياً حسب النظام، والتدرّب عليه، مَرَّة على الأقل كل سنة.
o الاتصال الدوري والشورى والتعاون.
ـ للمراجعة والتذكير :
من أجل المراجعة والتذكير يجب دراسة الكتب التالية دراسة جادة بالإضافة إلى الكتب المقررة لكل مرحلة :
o حتى نتدبّر منهاج الله.
o حتى نغيّر ما بأنفسنا.
o هذا هو الصراط المستقيم فاتبعوه.
o النيّة إشراقة في النفس وجمال.
o حرية الرأي في الميدان.
o كيف ضُيِّعت الأَمانة.
o وكتب أخرى يختارها المسلم.
ـ محاسبة النفس :
من أجل محاسبة النفس ومعالجة الأَخطاء يجب اتباع ما يلي :
o الالتزام.
o تطبيق نموذج النهج والخطة لمعالجة الأخطاء والخلل والتقصير
o التقويم الدوري بجميع نماذجه.
o اتباع الوقفة الإِيمانيّة حسب ما هو مبيّن في كتاب : " حتى نغيّر ما بأنفسنا ".(/3)
o تظل محاسبة النفس ومجاهدتها عملاً ممتداً لا يتوقَّف في حياة المسلم حتى يلقى الله.
ـ الأخطاء ومعالجتها :
لا بدّ من معرفة الخطأ في الممارسة والبذل، على أساس من ميزان ثابت نابعٍ من منهاج الله ونهج الدَّعوة الذي يقوم عليه.
يجب دراسة الخطأ وتحديد أفضل الوسائل لمعالجته، كما هو مبيّن في منهاج الله، وفي النهج القائم عليه المفصّل في كتب هذه المدرسة ودراستها.
جميع وسائل معالجة الخطأ وأساليبها تبتدئ باللجوء إلى الله، والتوبة والاستغفار، والدعاء لمن أخطأ في ظهر الغيب. ثم تأتي خطوات ومراحل مفصّلة في كتب الدعوة.
يجب الحرص على عدم تجمع الأخطاء والعيوب والخلل، فإن ذلك مهلك للناس. إذا تجمعت تصبح أكواماً تحجب الرؤية، وقد يعتادها الناس حتى يحسبوها صواباً ومن الدين.
كما يجب اتباع النهج والتزامه ففيه معالجة حقيقية للأخطاء خارج النهج.
كما يجب اتباع النظام الإداري بمختلف قواعده. فهو يوفر النصيحة والإِشراف والتوجيه والتنسيق والتعاون. وكل ذلك ضروري للمعالجة.
ومحاسبة النفس بصورة مستمرة ومجاهدتها باب رئيس من أبواب معالجة الأخطاء. والنصيحة والتذكير، والتعاون على تزكية النفس وتطهيرها، والعقوبة عند الضرورة.
وفي الكتب التالية من كتب الدعوة نجد خطوطاً هامة لمعالجة الأخطاء، علماً أن النهج كله والتزامه أهم وسائل معالجة الأخطاء :
ـ " التربية في الإسلام ـ النظرية والمنهج " :
الباب الرابع : الفصل الثاني ـ البند السابع : ص : 254
الفصل الثاني : البند الخامس :الفقرات : أ، ب، ج، د، هـ.
ـ " فقه الإدارة الإيمانية " :
الفصل الثالث جميعه.
ـ " النهج الإيماني للتفكير " :
الباب السادس : الفصل الرابع ـ ص : 331 ـ 341.
ـ إعطاء الرأي وبيانه وضوابطه الإيمانيّة وآدابه :
يجب التدريب على ممارسة حق إبداء الرأي بضوابطه المفصّلة في منهاج الله، والمبيّنة في كتب الدعوة. ونشير إشارة سريعة إلى أهم ذلك :
o إخلاص النيّة لله والتبرؤ من الهوى والمصالح والعصبيات الجاهلية.
o العلم الصادق بالموضوع الذي يُبْدى من أجله الرأي، " ولا تقفُ ما ليس لك به علم ".
o من حسن إِسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فعليه أن يعرف ما يعنيه وما لا يعنيه.
o توافر الحجّة والبيّنة من الكتاب والسنة والواقع الذي يُردّ إليها.
o اختيار المكان المناسب والوقت المناسب والأسلوب المناسب حتى لا يتحوّل الرأي إلى إشاعة وفتنة.
o اتباع أدب بيان الرأي من وضوح ودقّة والتزام ما سبق أعلاه، وأدب مخاطبة الكبير والمسؤول.
o اتباع ميزان المؤمن عند بيان الرأي بأشخاص وتقويمهم على أساسه.
o اتباع النظام الإداري.
o عدم اتباع الظنّ المنهيّ عنه، فلا بدّ من التبيّن كما أمر الله .
o اتباع خطوات النظام الإداري في بيان الرأي وتقديمه : مكان عرضه حسب موضوعه، كتابته، تقديمه بالأسلوب المناسب إلى الجهة المتخصصة.
o أي رأي في النهج لا يجوز أن يعرضه صاحبه بين الناس ولا يشيعه حتى يبلغ الجهة المختصة ليصدر من عندها القرار على دراسة وشورى.
o لا يبحث في أيّ مجلس إلا بنود ذلك المجلس، حتى لا تتحوّل قضايا المسلمين إلى إشاعات ونجوى، أو غيبة ونميمة، أو فتنة وفساد، أو أخطاء تتوالى لا يكاد يُجسُّ بها أحد.
o عدم تأويل الآيات والأحاديث تأويلاً فاسداً، أو استخدامها في غير موضعها.(/4)
الالتزام ليس دوراً يؤديه الإنسان أمام الله تعالى ثم يعود إلى ما كان فيه!
القاهرة: محمود خليل
كانت على قمة النجومية، تسعى إليها أكثر العقود إغراء وأرقاماً، ويضعها المنتجون والمخرجون في مقدمة الأسماء اللامعة في عالم المال والجمال والنجومية.. ثم التزمت بهدوء وسلكت طريق الطاعة في صمت، وتنازلت عن عالم "الأضواء الكاذبة".. إلى عالم "النور المبين".. إنها الفنانة "سهير رمزي" ابنة الفنانة "درية أحمد".. أشهر الأمهات في السينما العربية.. اعتزلت بعد أكثر من 50 فيلماً سينمائياً.. وأخيراً لم تجد سعادتها إلا في رحاب الله عز وجل.
..............؟
بالنسبة لي.. كان الحجاب والاعتزال متلازمين لأسباب كثيرة جداً، وأحمد الله أن أعانني عليها.
..............؟
لكي أكون مهيأة لحياتي الجديدة، فالإنسان لا يمكن أن يتناقض مع نفسه وإلا فهو غير صادق، والالتزام ليس "فقرة" أو "دور" نؤديه أمام الله تعالى، ثم نعود إلى ما كنا فيه..
..............؟
هذه صفحة كانت في حياتي، ثم انطوت بكل ما فيها.. أو كتاب قرأته وانتهيت منه، وكل ما يهمني الآن أن أستفيد بما فيه من صواب وخطأ.
..............؟
يقول الله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا (36) (الإسراء)، لذلك فأنا أركز الآن بشدة على أن أعطي هذه الملكات والقدرات والمواهب حقها من طاعة الله تعالى وشكره وعبادته.
..............؟
لا أحب "الشوشرة" و"الدوشة" على نفسي.. بأن أشغل نفسي.. بغير بغير هذا الاتجاه الذي هداني الله إليه، لذلك لا أحب إطلاقاً أن "أشتت نفسي" بالقيل والقال.. وبعدي عن الأضواء تماماً ليس تزمتاً أو انغلاقاً، ولكن لأنني أشعر بصدق أنني محتاجة إلى كل دقيقة.. ومفتقرة إلى كل لحظة، لكي أسخرها لطاعة الله تعالى.
..............؟
عندما كنت أستعد لأي "دور" جديد، كنت أقوم بعملية "تفرغ" كاملة لإتقان وتقمص واستيعاب الدور لكي أعيشه.. بلغة أهل الفن.. رغم أن معظم هذه الأدوار لا تمثل لي أي أهمية في حياتي، وقد لا يمثل أي قيمة تذكر.. فما بالك بحق الله علينا من السمع والطاعة والشكر والذكر! لذلك لابد أن أتفرغ تماماً.. لأن طاعة القلب المشغول والإنسان اللاهي.. لا ثمرة لها ألا لله الدين الخالص (الزمر:3).
..............؟
كثير جداً من وسائل العلام في عصرنا تحول إلى وسائل إلهاء وإثارة وخوض في المحظور بهدف شد الانتباه وكسب الجمهور، في ظل تسابق محموم نحو دغدغة المشاعر وإثارة الناس.. لهذا فالتعامل معها لابد أن يكون بحذر شديد جداً جداً.
طريق واحد
..............؟
هناك طريق من اثنين: إما أن أعود إلى الله أو أعود إلى الفن.. وأنا شخصياً مستريحة نفسياً جداً لطريقي الجديد، منذ أكرمني الله عز وجل بالالتزام في هذا اليوم الذي لن أنساه أبداً.. وهو يوم 5-11-1992م.
..............؟
هذه الخطوة يجب ألا تكون مجالاً للتداول الإعلامي.. لأن الإنسان طالما كانت له أمور بينه وبين الله.. فكذلك عودته يجب أن تكون بينه وبين الله.. والأضواء والشهرة مهلكة.. لأنها لا تجعل الإنسان يتذوق معنى الإخلاص الحقيقي.. بل تجعله دائماً ينظر في "مرآة" الناس، ويسقط في الرياء دون أن يدري.. علاوة على تبديد تركيزه وتشتيت مشاعره.. حيث يعمل وكأنه يطلب أجره من الناس وليس من الله عز وجل، والعياذ بالله.
..............؟
ليس في الإسلام أدنى تعصب أو تطرف.. فالإسلام كعقيدة هو بالأساس مبني على الوسطية، والإسلام كسلوك.. هو الذي وضع أصول التيسير والوسطية.. ولكن من يفهم الالتزام على أنه تعصب، أم يفهم الوسطية على أنها تسيب.. هذا هو فهمه الشخصي الخاطئ، وليس أصل الإسلام أو روح الدين..
..............؟
أمي هي الفنانة الملتزمة "درية أحمد" خير من أدى دور الأم على الشاشة بكل حنانه ورحمته وشفقته.. هي توأم روحي وحبيبة قلبي.. ونحن قد عشنا حياتنا روحاً واحدة في جسدين.
..............؟
كل من كتب عني أو عن أخواتي الفنانات التائبات شيئاً مثيراً، سيئاً أقول له: ربنا يهديك.. فلم تعد هذه الأشياء تستفزنا أو تثيرنا.. لأن الكثيرين ممن يكتبون "أي كلام" لا هدف لهم سوى الشهرة والإثارة والفضول، وتتبع الناس بشكل غير كريم.
..............؟
أنا سعيدة جداً بما وصلت إليه، وأسأل الله الكريم الحليم العظيم أن يتم علينا فضله.. اللهم إنك كريم حليم تحب العفو فاعف عنا.
..............؟
نعم.. اعتزلت وأنا في قمة النجومية والشهرة.. وعرضت على عشرات العقود المغرية جداً.. جداً.. ولكن هل هناك أي عقد في العالم، أو أية شهرة في الدنيا يمكن أن تعطيك حسنة واحدة إلا إذا كانت عملاً صالحاً...؟
وهل بمقدور الإنسان أن يشتري سعادته بالأموال والشهرة؟! وهل "الراحة" و"الأمن" و"الطمأنينة" و"الرضا" أشياء تباع أو تُشترى؟! وأظن الإجابة واضحة جداً.
ليسوا سواء
..............؟(/1)
الناس مختلفون.. "ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع".. وكل إنسان له تركيبة نفسية خاصة، يجب أن تحترم.. وأنا شخصياً تكويني يملؤه الرحمة وحب الرأفة وأحمد الله أن لدي بعداً إنسانياً مرهفاً، وقد متعني الله بفطرة طيبة.. فلا أحب "الالتواءات" النفسية، ولا الأكاذيب، ولست نرجسية، ورغم التاريخ الفني الذي يمكن أن يصيب أي إنسان بهذه الأمراض جميعاً.. إلا أنني قد أعانني الله على النجاة.
..............؟
هناك الأخوات الحبيبات الفاضلات، ياسمين الحصري، وسهير البابلي، وشهيرة، وأستطيع القول إنهن جميعاً يمثلن بالنسبة لي، أهلي وناسي وعشيرتي، ومعهن أشعر بروح الإسلام وحلاوته.
..............؟
الغنى الحقيقي في الفقر إلى الله عز وجل، والفقر الحقيقي في الاستغناء عن الله عز وجل.. وأعتقد أنه ليس هناك أتعس ممن يحيا بعيداً عن طاعة الله، مهما بدا في نظر الناس مرحاً ومسروراً، فالغني ليس عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس.
..............؟
حوالي 50 فيلماً!!
..............؟
هذا عهد مع الله تعالى.. وأسأله العون والمدد.
..............؟
أهدتني أختي الكبرى وحبيبة قلبي.. الحاجة شهيرة أحد الكتب الدعوية.. وشرحت صدري بهذا الإهداء الرقيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أختي الحبية "سهير".. التي يملأ قلبها نور الهدى ونور القرآن، أدعو الله سبحانه وتعالى أن يهديها إلى ما يحبه ويرضاه، فإنها تستحق رضاك وحبك يا الله.. فأنت بقلبها الجميل جعلتها تهفو إلى رضاك وغفرانك.. فساعدها على الفرار إليك.. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أختك شهيرة
..............؟
هذا قرار نهائي.. ولا عودة فيه.. وأسأل الله الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر.. وأسأله رضاه والجنة وأعوذ به من سخطه والنار. آمين.(/2)
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم
مقدمة :
أنزل الله القرآن الكريم ليكون كتاب هداية, وليخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأراد الله تعالى أن يكون بلسان عربي, قال تعالى:?كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ? [فصلت: 3], ولم يقتصر الأمر على كونه بلسان عربي, بل هو في قمة الفصاحة والبيان, قال تعالى: ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ?[الشعراء: 195], وقد تحدى الله تعالى العرب الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي نزل بلغتهم, قال تعالى: ?وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?[ البقرة: 23-24], وعجز العرب -وغير العرب- أن يأتوا بمثله, وما هذا إلا لأن القرآن الكريم هو المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا فإن القران الكريم اشتمل على أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة, وسنحاول أن نعرض في هذا البحث أحد هذه الموضوعات البلاغية, ونوضح من خلاله روعة البيان القرآني, وتنوع المعاني للموضوع الواحد, ومدى الفصاحة التي اشتمل عليها القرآن الكريم .
وهذا الموضوع هو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم .
تعريف الالتفات:
الالتفات لغة:
الالتفات من الفعل (لفت) وهو بمعنى اللّيّ وصرف الشيء عن جهته, يقول صاحب لسان العرب: لفت وجهه عن القوم: صرفه, وتلفت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه، واللفت ليّ الشيء عن جهته(1).
الالتفات عند البلاغيين:
هو الانتقال بالأسلوب من صيغة التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى صيغة أخرى من هذه الصيغ, بشرط أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى الملتفت عنه, بمعنى أن يعود الضمير الثاني على نفس الشيء الذي عاد إليه الضمير الأول, فمثلاً قولك:
(أكرم محمداً وأرفق به) ليس من الالتفات؛ فالضمير الأول في (أكرم) للمخاطب أي:
أنت, والضمير الثاني للغائب, ففيه انتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب, ومع ذلك لا يسمى التفاتاً؛ لأن الضميرين ليسا لشخص واحد, فالأول للمخاطب والثاني لمحمد(2).
أقسامه:
ينقسم الالتفات إلى أقسام هي:
1- الالتفات من التكلم إلى الخطاب, كقوله تعالى: ?وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[يس: 22], والأصل: وإليه أرجع, فالتفت من التكلم إلى الخطاب.
2- الالتفات من التكلم إلى الغيبة, كقوله تعالى: ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[ الكوثر: 1-2], حيث لم يقل: فصل لنا.
3- الالتفات من الخطاب إلى التكلم, كقوله تعالى: ?قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ?[ يونس: 21], على أنه سبحانه نزل نفسه منزلة المخاطب, فالضمير في (قل) للمخاطب, وفي (رسلنا) للمتكلم .
4- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة, كقوله تعالى: ?ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَاب?[الزخرف:70-71], فانتقل من الخطاب إلى الغيبة, ولم يقل: يطاف عليكم.
5- الالتفات من الغيبة إلى التكلم, كقوله تعالى: ?وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً?[ فصلت: 12], فانتقل من الغيبة إلى التكلم, ولم يقل: وزين.
6- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب, كقوله تعالى: ?وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء?[ الإنسان: 21-22], ولم يقل: كان لهم(3).
أغراضه وفوائده:
إن كثيراً من علماء البلاغة يرون أن للالتفات غرضاً رئيسياً واحداً وهو: رفع السآمة من الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب, فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة, ومن المتكلم إلى الخطاب أو الغيبة, فيحسن الانتقال من بعضها إلى بعض؛ لأن الكلام المتوالي على ضمير واحد لا يستطاب(4). ولعل هذا الغرض هو من أهم الأغراض؛ لأن النفوس تستريح ويتجدد نشاطها إذا انتقل السياق من
حال إلى حال وتغير لون الكلام, لكن من الخطأ حصر الالتفات في هذا الغرض فقط, لأن المتتبع للالتفات وخصوصاً في القرآن الكريم يجد له أغراضاً أخرى كثيرة
ومتعددة, مما يجعل الالتفات موضوعاً بالغ الأهمية في علم البلاغة.(/1)
وممن تنبه لهذا الأمر واستنبط أغراضاً أخرى للالتفات ابن جني في كتابه:(المحتسب), ففي تعليقه على قراءة الحسن لقوله تعالى: ?وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه?[ البقرة: 281], بياء مضمومة(يُرجعون)يقول: "إنه ترك الخطاب إلى الغيبة, كقوله تعالى: ?حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ?[ يونس : 22], وكأنه-والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة, فقال: ?يُرْجَعُونَ? بالياء؛ رفقاً من الله سبحانه بصالحي عباده المطيعين لأمره ...
فصار كأنه قال: (اتقوا أنتم يا مطيعون يوماً يُعذب فيه العاصون), فالسر البلاغي في هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ترفق الله بالمؤمنين بدلاً من صريح مخاطبتهم في مجال الوعيد والإنذار"(5).
ويقول الإمام النسفي عن الالتفات عند تفسيره لقوله تعالى: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة: 5]: "والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع وأحسنَ تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم"(6).
وقد ذكر جماعة من علماء البلاغة و المفسرين أغراضاً أخرى كثيرة للالتفات, وسنحاول في الفقرة التالية أن نذكر بعض هذه الأغراض والفوائد؛ ليتجلى للقارئ مدى البلاغة التي اشتمل عليها القرآن الكريم واتساع المعاني فيه.
الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم:
جاء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في مواضع كثيرة في القرآن الكريم, وقد تنوعت
أغراضه تنوعاً واسعاً, ومن هذه الأغراض البلاغية للالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم:
1- التهديد والتخويف:
جاء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في مواطن كثيرة في كتاب الله لغرض التهديد
والتخويف, ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى: ?وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[التوبة: 3], ومحل الالتفات هو في قوله تعالى: ?فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ?, ولو لم يلتفت لقال: (فإن يتوبوا), والغرض من هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو التهديد والتخويف(7), ومنهم من يجعل معنى الالتفات هنا الترغيب في التوبة(8), ولعل الالتفات في قوله?فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ? أليق بمعنى الترغيب في التوبة, والالتفات الثاني في قوله? وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ? أليق بمعنى التهديد.
ومنه قوله تعالى: ?لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ?[النحل: 55],والالتفات في قوله(فتمتعوا) من الغيبة إلى الخطاب, ولم يقل: فيتمتعوا, لأجل التهديد والوعيد(9).
2- التوبيخ والتقريع:
قد يجيء الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في القرآن الكريم وفي طياته التوبيخ والتقريع لبعض من يستحق ذلك, ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
قوله تبارك وتعالى: ?وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُون?[النحل:56], فالتفت في قوله تعالى: ?لَتُسْأَلُنَّ? من الغيبة إلى الخطاب لكي يواجههم بالتوبيخ والتقريع(10).
ومنه قوله تعالى: ?وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون?[الأعراف: 169], ومحل الالتفات هو في قوله تعالى: ?أَفَلاَ تَعْقِلُون?, فانتقل من الغيبة إلى الخطاب ليكون أوقع في توجيه التوبيخ إليهم مواجهة(11).
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً?[مريم: 88-89], فعدل عن الغيبة في(قالوا) إلى الخطاب في (جئتم), لأن من يزعم اتخاذ الرحمن ولداً لا شك أنه مفتون في دينه, ويستنكر منه هذا القول الآثم, وينبغي أن يوبخ عليه, وتوبيخ الحاضر أشد نكاية دائماً من توبيخ الغائب, وهذا سر الالتفات في هذه الآية الكريمة(12).
3- التشديد على طلب الشيء:(/2)
من المعاني للالتفات من الغيبة إلى الخطاب التشديد في طلب أمر من الأمور, ومن الأمثلة على ذلك: قوله تبارك وتعالى: ? لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً?[الأحزاب: 55], ومحل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو في قوله تعالى: ? وَاتَّقِينَ اللَّهَ?, ولم يقل: ويتقين الله, وكأنه قيل واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب وما أنزل فيه الوحى من الاستتار واحتطن فيه, وفي السياق فضل تشديد في طلب التقوى منهن(13).
4- التخفيف من شدة الأمر:
وفي الانتقال من الغيبة إلى الخطاب تخفيف من شدة الأمر, كقوله تعالى: ? أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة: 184], وموضع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ?وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ? ولم يقل: وأن يصوموا خير لهم, وفيه تخفيف من كلفة الصوم بلذة المخاطبة, يقول الآلوسي: "وأن تصوموا أي: أيها المطيقون المقيمون الأصحاء أو المطوقون من الشيوخ والعجائز أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين والمرضى والمسافرين وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبراً لكلفة الصوم بلذة المخاطبة(14).
5- العتاب:
من المعاني التي يحملها الالتفات من الغيبة إلى الخطاب العتاب, ومنه قوله تعالى: ? وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?[التحريم:3-4], فانتقل السياق من الغيبة في الآية الأولى إلى الخطاب في بداية الآية الثانية فقال: (إن تتوبا), وفي هذا الالتفات بالخطاب معنى العتاب(15).
ومن ذلك قوله تعالى: ? عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى?[عبس:1-3], وفي الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله? وَمَا يُدْرِيكَ? معنى العتاب.
6- التسجيل والمبالغة في إقامة الحجة:
ومن الأمثلة على هذا المعنى قوله تعالى: ? فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُون* أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ* وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ?[الأعراف:
190-193], ونلاحظ أن السياق انتقل من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ?وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى?؛ لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة(16).
7- التخويف والتذكير:
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ? ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ?[المؤمنون: 14-15], فانتقال السياق من الغيبة إلى الخطاب في قوله:?ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ?لأن التخويف والتذكير بالموت إنما يناسبه الخطاب(17).
8- التشريف:
ويأتي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والرفع من شأن المخاطب, كقوله تعالى: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?[النور: 62], فتوجه السياق من الغيبة إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ? تشريفاً له بهذا الخطاب(18).(/3)
ومنه قوله تعالى:? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[التوبة: 111], فنلاحظ تحول السياق من الغيبة إلى خطاب المؤمنين في قوله? فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ?لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم(19).
ومن تشريف الله لعباده المؤمنين قوله تعالى:? وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَاب* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ?[ص: 52-53], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله?هَذَا مَا تُوعَدُونَ? لتشريف المتقين بهذا الخطاب(20).
9- الامتنان:
ومن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب لغرض الامتنان قوله تعالى: ? ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ?[السجدة: 9], والالتفات إلى الخطاب في قوله? وَجَعَلَ لَكُمُ?, والغرض هو الامتنان(21).
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ?وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ?[النور: 9-10], وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب؛ للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله تعالى عليهم بتشريع هذه الأحكام(22).
10- الاختصاص والاستحقاق:
وقد يأتي الانتقال من الغيبة على الخطاب للدلالة على الاختصاص والاستحقاق كقوله تعالى: ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة: 4-5], و تقديم الضمير(إياك)مع هذا الانتقال إلى الخطاب يدل على المبالغة في الاستحقاق والاختصاص(23).
11- المبالغة في الحث:
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ?وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين?[الأعراف: 145], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله?سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين?, والغرض هو المبالغة في الحث على الأخذ(24).
12- التأكيد على الشيء:
ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ? ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً *وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا?[مريم: 70-71], والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: ?وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا?, والغرض منه التأكيد(25).
13- التعجب والاستبعاد:
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ? إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ* أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[القلم: 34-36], والالتفات في قوله تعالى: ? مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?, والغرض منه التعجب والاستبعاد(26).
خاتمة:
من خلال ما سبق رأينا تعدد معاني الالتفات من الغيبة إلى الخطاب, ويستطيع الباحث أن يستنبط معانٍ أخرى كثيرة لهذا النوع من الالتفات, وفي هذا دليل واضح على قوة الفصاحة واتساع المعاني البلاغية التي اشتمل عليها القرآن الكريم, وهذا بحق دليل واضح على إعجاز هذا الكتاب, وأنه منزل من عند الله تعالى.
إعداد/ عادل الصعدي.
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - لسان العرب 12/ 301 .
(2) - فن البلاغة لعبد القادر حسين , ص 280
(3) - فن البلاغة لعبد القادر حسين نقلاً عن كنز البلاغة لابن الأثير .
(4) - منهاج البلغاء وسراج الأدباء 348, والبرهان في علوم القرآن 3/314, والتبيان في علم البيان: 174 .
(5) - المحتسب لابن جني 1/ 145 .
(6) - تفسير النسفي 1/7.
(7) - فتح القدير للشوكاني2/484, مراقي الصعود لأبي السعود4/42, روح المعاني للآلوسي 10/48
(8) - تفسير إطفيش لأطفيش – إباضي - 3/393
(9) - فتح القدير للشوكاني3/242.
(10) - فتح القدير للشوكاني 3/242.
(11) - انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1668.
(12)- فن البلاغة للدكتور عبدالقادر حسين, ص284.
(13) - الكشاف للزمخشري 1/1007, وتفسير النسفي 3/314, وروح المعاني للآلوسي22/75.
(14) - تفسير الآلوسي2/59.
(15) - المرجع السابق 28/152.
(16) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/1693.
(17) - المرجع السابق 1/2822.
(18) - المرجع السابق 1/2940.
(19) - تفسير اللباب لابن عادل 8/379.
(20) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3639.
(21) - التحرير والتنوير لابن عاشور 1/3298.
(22) - الوسيط لسيد طنطاوي 1/3053(/4)
(23) - الكشاف 1/7, وتفسير أبي السعود 1/16.
(24) - تفسير الآلوسي 9/60.
(25) - تفسير إطفيش، 6/20.
(26) - هيمان الزاد(14/265).(/5)
الانبطاح.. أو الطريق إلى الهاوية!!
د.محمد مورو 14/11/1424
06/01/2004
هل كتب على زعمائنا وبالتالي أمتنا باعتبار أن تصرفات وقرارات الحكام لا تعود فقط على شخوصهم، بل على مجمل الأمة حاضرها ومستقبلها.. هل كتب عليهم وعلينا بالتالي الانبطاح بلا توقف ونزول السلم درجة درجة، حيث إن الذي ينزل درجة واحدة من السلم بالضرورة سينزل باقي الدرجات؛ لأنه يفقد قدرته ومناعته على الصمود ويصبح في حالة قابلية للنزول، ويتصور خطأً أنه بنزوله هذه الدرجات سيصل إلى قاع بئر الأمان وهو في الحقيقة يحفر قبره المادي والمعنوي أو يصل إلى قاع الهاوية!.
منطق الانبطاح أو المنبطحين يقوم على أساس قاعدة إرضاء الذئب والذئب لن يرضي لأنه ذئب، وبالتالي يطالب الذئب بالمزيد وبلا نهاية قريبة أو بعيدة.. ونحن أمام عدو أو أطراف دولية وإقليمية لن ترضى بغير الوليمة كاملة لأسباب تتصل بالتاريخ والجغرافيا والمصالح.. فهم يستهدفون استئصالنا كأمة وكحضارة وكوجود وكقيمة ثقافية ومصالح اقتصادية وسياسية.. إلخ. وهم- ونعني هنا أمريكا وإسرائيل- ونحن مثل نار جنهم تقول دائمًا: هل من مزيد؟ ولا تشبع أبدًا، والمنطق القرآني ذاته وهو حق ومقدس وواجب الاتباع يقول: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وقياسًا نقول: لن ترضى عنكم يا زعماء العرب والمسلمين أمريكا وإسرائيل.. عن كل شئ.. نعم كل شئ: الأرض، والعرض، والكرامة، والوجود، ثم تلقي بمن يرضى بذلك في أقرب مزبلة..
ألم تقرؤوا تجربة الأندلس؟ فالحكام الذين قبلوا بالانبطاح والتسليم بمطالب الصليبيين مقابل مجرد النجاة بممتلكاتهم الشخصية لم يحصلوا على هذا الأمان الشخصي ولا الاحتفاظ بالممتلكات؛ بل بمجرد جفاف حبر الاتفاق وربما قبل أن يجف هذا الحبر صودرت ممتلكاتهم، وطلب منهم أن يبدلوا دينهم، وهكذا خسروا الدنيا والآخرة؛ بل حتى الذين بدلوا دينهم لم يقبل منهم هذا وقتلوا بلا هوادة.
ومن لا يتعلم من التاريخ؛ فهو غافل ومن لم يتعلم من الحاضر أيضًا فهو أحمق. ليس التاريخ وحده هو من علمنا أن الانبطاح لن يؤدي إلى الأمان ورضا الأعداء وسكون الأحوال؛ بل العكس هو الصحيح على طول الخط.. نعم ليس التاريخ؛ بل الحاضر الماثل أمام أعيننا.
عبرة اعتقال صدام
مروِّجو سياسة وثقافة الانبطاح يقولون: انظروا ماذا حدث لصدام حسين.. هذا جزاء من يعارض أمريكا ويحتفظ بأسلحة دمار شامل. ونقول لهم: إن ما حدث لصدام حسين لا علاقة له بمعارضة أمريكا ولا بأسلحة الدمار الشامل؛ بل العكس هو الصحيح فصدام حسين دمر منذ التسعينات كل ما طلب منه من أسلحة وقبل بالتفتيش الدولي وانصاع لكل القرارات، ووافق على كل المطلوب، ولما أيقن الآخرون أنه لم يعد لديه أسلحة دمار شامل قاموا بغزو العراق واحتلاله، ومن ثم إنهاء حلم صدام حسين واعتقاله وإذلاله، ولو كان صدام حسين لم ينصع للقرارات والمطالب، واحتفظ بأسلحة الدمار الشامل التي دمرتها لجان التفتيش؛ ربما كان الموقف مختلفًا ولو حتى من باب الكرامة والمعنويات، وكوريا الشمالية أعلنت أنها تمتلك أسلحة دمار شامل، ولذلك فإن أمريكا تطلب الحوار معها وليس التفكير في غزوها.
المثال الآخر ياسر عرفات الذي اعترف بإسرائيل، وغيّر ميثاق المنظمة، وتخلى عمليًّا عن حق العودة للاجئين، ووقع اتفاق أوسلو، وفعل ما هو أكثر من ذلك، ومع ذلك انتهى الأمر به إلى أنه أصبح مرفوضًا من أمريكا وإسرائيل، ومعزولاً ومحاصرًا على المستوى الشخصي وعلى مستوى القضية؛ فإن إسرائيل تواصل بناء الجدار، وتعلن خططها العملية لتحويل الفلسطينيين إلى كائنات ممزقة بلا روابط!! بل إن كل المبادرات الأمريكية والإسرائيلية التي أعطت شيئًا من المكاسب جاءت عقب قيام المجاهدين داخل فلسطين وخارجها بنوع من الضغط، وأراد الأمريكيون أن يعطوا شيئًا كمخدر للجماهير حتى لا تلتف حول هؤلاء المجاهدين. فالحديث الأمريكي عن دولة فلسطينية تم لأول مرة عقب أحداث 11 سبتمبر كنوع من نزع التبرير من القاعدة وابن لادن على أساس أن الانتقام لما يحدث في فلسطين أمر مشروع وربما واجب.. وبالتالي؛ فإن على أمريكا أن تنزع هذا الأمر بادعائها (زورًا) أنها ستراعي الفلسطينيين، وكذا كان الأمر في خارطة الطريق لأسباب تتصل بمنع التضامن مع العراق ونزع جدرانه الشعبية، والأمثلة الحاضرة -فضلاً عن التاريخية- أكثر من أن تحصى.
تنازلات القذافي
هذا الكلام بمناسبة ما حدث من سلسلة الانبطاحات العربية الإسلامية أمام أمريكا وبالطبع لن نحصيها عددًا؛ بل ستضرب عليها بعض الأمثلة غير ملتزمين بالترتيب التاريخي.(/1)
من هذه الأمثلة هو ما قامت به "الجماهيرية العظمى العربية الاشتراكية" من أنها قررت من تلقاء نفسها تدمير أسلحة الدمار التي لديها من صواريخ باليستية، وأسلحة جرثومية وكيمائية، وخط لإنتاج سلاح نووي، واستعدادها لفتح أراضيها أمام أي نوع من التفتيش من الأمم المتحدة أو هيئة الطاقة الدولية أو خبراء أمريكان أو أوروبيين وكل من هب ودب. وكانت الجماهيرية العظمى سلمت من قبل اثنين من المتهمين في أحداث لوكيربي وتمت محاكمتهما، ومازال أحدهما محبوسًا في السجون الهولندية بعد صدور الحكم بإدانته، ثم قامت الجماهيرية بدفع 3.7 مليار دولار كتعويضات لضحايا الطائرة..! كل هذا لإرضاء الغرب وتبييض الصفحة، وقد فسر البعض ذلك على أن الرئيس أو الزعيم الليبي معمر القذافي عندما رأى ما حدث لصدام حسين فضل أن يقوم بكل أنواع الاسترضاء للأمريكان عملاً بحكمة الفيلسوف (بيدبا): "ما الذي جعلك تفعل هذا يا ثعلب؟ قال: رأس الذئب الطائر" ولعل أوساط الجماهيرية الليبية ترفض هذا التفسير، ولكن وزير الخارجية البريطاني جاك سترو قال: "إن الحرب على العراق وسقوط النظام العراقي قد ساعد ليبيا على اتخاذ قراراها الأخير بالتفاهم مع لندن وواشنطن".
التبرير الليبي للقرار تجاهل هذا بالطبع، واعتبر أن القرار لا علاقة له بما حدث في العراق ولا بمصير صدام، وأن ذلك يرجع إلى رغبة ليبية في نزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة، وأنها تبدأ بنفسها، وأن ليبيا تريد التركيز على التنمية الاقتصادية ومعيشة شعبها واستبدال السيف بالمنجل. وبدهي أن هذا الكلام يحمل كثيرًا من الخداع والمغالطة.. فنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة لا يكون بقرار فرديّ من ليبيا؛ بل بالتفاهم مع دول المنطقة العربية والإسلامية مثلاً ليبيا ومصر وسوريا، وربط ذلك بنزع الأسلحة الإسرائيلية المؤكدة وليست المحتملة كما في حالة العرب وإيران؛ فإسرائيل تملك على أقل تقدير 200 رأس نووي وآلاف الأطنان من الأسلحة البيولوجية والكيمائية. وهكذا؛ فإن الزعم بأن القرار الليبي يحرج إسرائيل.. هو كلام بلا رصيد؛ فمتى كان الإحراج وسيلة لانتزاع الحقوق والمواقف؟! ومتى كان الإحراج أصلاً يؤثر في إسرائيل بالذات؟!.
ثم القول بأن ذلك يضع إسرائيل في حرج أمام المجتمع الدولي هو قول ناقص؛ فالصحيح أن ذلك يضع سوريا ومصر وإيران في حرج أكبر، ليس أمام المجتمع الدولي فقط وإنما أمام أمريكا بالذات، ويضعف موقف هؤلاء تمامًا، وخصوصًا سوريا أمام التحرش الأمريكي. وهكذا فالقرار خاطئ من هذه الناحية، أما من ناحية التركيز على التنمية في ليبيا؛ فهذا الكلام لو كان حقيقيًّا؛ فمعنى ذلك أن هناك خطأ ارتكب في حق الشعب الليبي لمدة 34 سنة من حكم الثورة الليبية. ألا يحق للشعب الليبي إذًا محاكمة المسؤول عن هذا الخطأ المستمر لمدة 34 سنة، ومحاسبته على تأخير تنمية ليبيا هذه المدة، وإنفاق المليارات على مشروعات تسليح تم تضييعها بشكة دبوس فجأة؟.
ولا يفهم من كلامنا هذا أننا مع هذه الطريقة في التسليح لا.. إننا ضد التنمية بدعوى الإنفاق العسكري؛ فالصحيح أن التنمية تأخرت لأن هناك فسادًا وسوء تخطيط وديكتاتورية، وليس فقط بسبب الإنفاق العسكري، وكذلك لأن الأسلوب الصحيح للتسليح ليس اقتناء الطائرات والدبابات والصواريخ ..إلخ؛ بل تسليح كل الجماهير بالسلاح الخفيف لأن الآلة العسكرية الأمريكية قادرة على تدمير وهزيمة الجيوش الثقيلة بسهولة وبيسر وسرعة، وبالتالي فالجري وراء هذا الوهم هو سراب؛ بل هذا ما يريده بالضبط الأمريكيون، وربما يكون من الصحيح هنا أن نقول إنه تم معاقبة الحكومات والدول التي تقوم بالتنمية وترفض استيراد هذا السلاح الثقيل وأسلحة الدمار الشامل؛ لأنها تدفع فيه ثمنًا باهظًا لخبراء وصناعات الغرب، ثم تجعل نفسها أسيرة الاتهام، وإن المقاومة الشعبية وبالتالي تسليح الجماهير بالسلاح الخفيف وإطلاق حريتها في التعبير وإنهاء الديكتاتورية أسلوب لا تستطيع أمريكا ولا أقوى منها ولا أكبر أن تواجهها.
تخاذل إيران
المثال الثاني هو إيران.. وإيران حاولت استرضاء أمريكا خاصة في القطاع الإصلاحي من السلطة بمواقفها المريبة والمزرية في أفغانستان، ثم في سكوت الشيعة في العراق وعدم مشاركتهم في عمليات المقاومة، وتعاون المجلس الأعلى للثورة في العراق -وهو محسوب على إيران- مع أمريكا، و مشاركته في مجلس الحكم، وتراجع الموقف الثوري لحزب الله، ثم قبول إيران شروط هيئة الطاقة الدولية وتوقيعها على البروتوكول الإضافي.
ولكن ذلك لن يحل المشكلة؛ فالمطالب الأمريكية لن تنتهي بخصوص إيران أو ليبيا، وحادثة تعكير الحمل للماء معروفة ومشهورة ولن تقدم القريحة الأمريكية والإسرائيلية البحث عن المزيد من الطلبات والشروط، ويمكن لي شخصيًّا أن استنتج بدون عناء بعض هذه المطالب:(/2)
فبخصوص إيران؛ سيطلب منها: تسليم قيادات حزب الله للمحاكمة –مثلاً-، أو التخلي عن تعليم اللغة العربية في المدارس الإيرانية، تغيير اسم الجمهورية الإسلامية لأن فيه تعصب، إلغاء منصب مرشد الثورة، إلغاء مجلس الخبراء؛ لأن ذلك يتعارض مع الديمقراطية؛ إعطاء حكم ذاتي للأكراد ثم الآذريين ثم التركمان وهلم جرا.. !!
والنسبة لليبيا: إلغاء اللجان الشعبية، إنشاء أحزاب وتعددية وبرلمان، وتسليم العقيد القذافي نفسه للمساءلة في قضية لوكيربي، وابتداع قضايا جديدة تتصل بالإرهاب على أساس علاقة ليبيا بإرهابيين فلسطينيين، والأمثلة أكثر من أن تحصى.. وإرهابيين في أيرلندا أو أسبانيا.. إلخ.
ندم المنبطحين
الانبطاح إذًا لن يجري لا على المستوى الشخصي، ولا على مستوى الدول؛ بل هو طريق مؤكد إلى الهاوية.. وأمثلة الانبطاح ليست قاصرة على ليبيا وإيران؛ فهناك مثلاً حالات مماثلة في السودان ومصر والأردن حول مطالب جزئية أو شاملة، وكذلك في باكستان. والانبطاح ليس قاصرًا على الجانب السياسي والعسكري وأسلحة الدمار الشامل؛ فهناك انبطاح ثقافي وآخر اقتصادي وثالث تعليمي .. إلخ.
والمحصلة أن المنبطحين يجنون على أنفسهم وعلى الأمة، والمواجهة أقل خسائر من الناحية العملية؛ فهي تقلل حجم الهزيمة، وربما توقف مسلسل الهزائم، وفي أسوأ الأحوال؛ فهي تحافظ على الكرامة وعلى الجذوة مشتعلة تحت الرماد؛ لتأتي أجيال جديدة فتحمل الشعلة من جديد، أما الانبطاح؛ فخسائره المادية أكبر، وخسارته المعنوية شاملة، وفيه ضياع للكرامة وتضيع الشعلة، وبالتالي تضييع حق الجماهير والأجيال القادمة في النهوض بالعرب من جديد، ونعود إلى القرآن الكريم الذي ينسف منطق المنبطحين نسفًا.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) [المائدة].
فالذين يدعون إلى الانبطاح بدعوى أنه لا قبل لنا بقوة أمريكا وإسرائيل نقول لهم: عسى الله أن يأتي بالفتح أو بأمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. ومن المثير أن هذه الآيات تتحدث عن موالاة اليهود والنصارى و"الموالاة أعلى من التحالف"، وهو أمر لم يتحقق إلا في الخمسين سنة الأخيرة فقط. فالتاريخ كان عداءً مستمرًا بين اليهود والنصارى حتى هتلر؛ لدرجة أن مفسري القرآن الكريم كانوا يحملون الآية على أن الكفر ملة واحدة، ولكن هذه الآيات هي من الإعجاز القرآني، وهي نبوءة قرآنية تحققت، وبالتالي فهي تنطبق على حالتنا المعاصرة تمامًا، ومن هنا فإن الحل يكون قرآنيًّا، وهو عدم مولاة اليهود والنصارى، والمواجهة والاعتماد على مدد الله تعالى، وسوف يتحقق -إن شاء الله- ويومها سوف يندم المنبطحون على ما أسروا في أنفسهم.(/3)
الانتخابات البلدية .. رؤى وأفكار
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الانتخابات البلدية التي أعلن عنها في المملكة العربية السعودية تجربة جديدة، وهي أول خطوة منتظرة منذ أمد طويل؛ ولذا فإن الانتخابات البلدية خطوة إلى الأمام وإن بدت قصيرة والمشاركة في هذه الانتخابات ستكون تشجيعًا لهذا الاتجاه ودفعًا لمواصلة المسيرة نحو المزيد.
ومن المتفق عليه أن الدخول في هذه التجربة له فوائد ومكاسب عديدة، ينبغي استثمارها والإفادة منها في سبيل النهوض بالمجتمع السعودي، وانفتاحه السياسي تدريجيًا، وتحقيق المنافع والمصالح المتدرجة في هذا الشأن، وإن المشاركة من قبل التيار الإسلامي لها فوائد حتى وإن لم يتحقق الفوز بالانتخابات، بل المشاركة نافعة حتى وإن غلب الظن عدم تحقيق الفوز أو كانت هناك محدودية في فائدة المجالس البلدية في حالة الفوز.
ومن هذه الفوائد والمكاسب:
1- المشاركة في الانتخابات توفر فرصة الاحتكاك والتواصل والتعاون مع الإدارات والشخصيات الحكومية بشكل مكثف ومباشر.
2- المشاركة في الانتخابات توسع شريحة المشاركين، وتتيح مجالاً أوسع للتعامل مع شرائح المجتمع المختلفة للتعرف على حاجاتهم وهمومهم.
3- المشاركة في الانتخابات يتحقق منها اكتساب خبرة في ميدان العمل العام والميدان الانتخابي بشتى آلياته المتاحة بصورة خاصة، وهي خبرة لازمة في بلد تجرى فيه الانتخابات لأول مرة.
4- أن المشاركة في الانتخابات قد تؤدي إلى الفوز وممارسة الدور المنشود في خدمة المجتمع وتطويره، والانفتاح الإيجابي ووصول الأخيار الذي سيكون له أثر في الإصلاح المنشود، وسد أبواب الفساد والمحسوبية.
5- أن مجرد المشاركة سيؤدي إلى الكثير من المصالح؛ ومنها: استثمار الطاقات، وتوعية المجتمع، والإسهام في حل مشكلاته.
كل هذا وغيره من المنافع المتوقعة يستوجب بذل الجهد للإفادة من هذه التجربة الجديدة.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(/1)
الانتصار لأهل الفلوجة والجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله وليِ المؤمنين، الناصرِ لجُندِه المجاهدين، الموفيِ بعهدهِ لعبادهِ الموقنين، المُنْزِلِ السكينةَ على عبادهِ المقاتلين، المُمْدِدِ بالملائكةِ المُسَوِّمين، المستجيبِ لاستغاثةِ المستغيثين، الهازمِ للكفرةِ المتحزبين، القاصمِ لرقابِ الجبابرةِ المستكبرين، الفاضحِ للمنافقين المرجفين. ثم الصلاة والسلام على نبيه محمدٍ الهادي إلى النور المبين، والصراط المستقيم، المُرسَلِ رحمةً للعالمين، وبالكتاب الحكيم، ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والشك إلى التوحيد واليقين، أيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألقى الرعب في قلب عدوه القريب والبعيد. جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إلى الخير والنعيم.
أمةٌ بُغضُها وعداوتُها وقتالُها في الله ولله، تُجاهدُ مَنْ حادَّ وكفر باللهَ، وكذب وعصى رسوله، مِن الذين سلكوا سُبلَ الشيطان وأعرضوا عن سبيل الرحمن. تصبر وتصابر لأجله ممتثلةً أمرَ ربها، مطيعةً أمرَ رسولها، وتحقيقاً للعبودية والاستسلام الواجب عليها لله تعالى، وجلباً للمصالحِ العظيمة، والآثار الحميدة، ودرءً للمفاسد الكبيرة، والآثار الوخيمة. أمةٌ محبتها وولائها، وبُغضها وبرائتها، تبعا لمحبة الله تعالى وبغضه. والله تعالى أخبر أنه يحب المؤمنين ويتولاهم، وأنه يبغض الكافرين ويبرأ منهم.
أفتستقيم وتصح المحبة لله تعالى والعبد يحب من عاداه ومن آذاه؟ قد كذَّبَ اللهُ هذه الدعوى وردها، قال تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (المجادلة :22 ) .
وفي صحيح البخاري عنْ أَنسٍ رضيَ اللّه تعالى عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار)).
وفي السُنن حدثنا مُسَدَّدٌ أخبرنا خَالِدُ بنُ عَبْدِ الله أخبرنا يَزِيدُ بنُ أبِي زِيَادٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ رَجُلٍ عنْ أبِي ذَرٍّ قالَ قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أفْضَلُ الأعْمَالِ الْحُبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله)).
وروي عن البراء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((أَوْثَقُ عُرَى الإِسْلاَم الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ)).
وقيل شعرا:
تَوَدُّ عدوي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنني صَدِيقُكَ ليسَ النَوكُ عَنْكَ بِعازِبِ
فالحب في الله، والبغض في الله، هو من الدين الذي أمر الله به، وهو التولي للمسلمين، والبراءةُ من الكافرين. محبةٌ وتولٍ لها ضوابطها وقواعدها، وبغضٌ وبراءةٌ له أصول وشروط، تحقق العدل والخير وتمنع الظلم والشر. منَّ اللهُ تعالى على المسلمين فأصبحوا بنعمته إخوانا متحابين متعاونين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وحذرنا الفتنة العظيمة في الأرض والفساد الكبير متى ما اختلفنا وتفرقنا وتحزبنا وتدابرنا، قال تعالى: ((وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (الأنفال : 46) .
وقال تعالى: ((وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )) (الأنفال : 73) .
وأخبرنا الله تعالى - وقوله الحق - أن الكفار بعضهم أولياء بعض في عداوتهم وحربهم للإسلام وأهله، وأنهم يودون لو نكفر كما كفروا، وأنهم لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا، وأنهم لا يرضون عنا حتى نكفرَ بالله تعالى ونتبعَ ملتَهم وباطلهم.
هذه حقائقٌ، لا يجوز للمسلم أن يشك فيها، أو يتردد في تصديقها والإيمان بها، لأن الله تعالى هو الذي أخبرنا بها، وأمرنا الإيمانَ والتصديق بها، ولا ينقض هذه الحقيقة الكلية العامة ما يُظهرُه بعضُهم من التعاطف مع المسلمين، فكثيرٌ منه سببه عدم قناعتهم بأسلوب القتال والاعتداء طريقا لتغيير المسلمين لدينهم. وبعضهم مداهنة لمن داهنهم من المسلمين قال تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)) (القلم : 9).(/1)
واليوم ونحن نرى ما أخبرنا به رسولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحقق ويُشاهد من تداعي الكفار على المسلمين تماما كما تتداعى الأكلة على قصعتها. روى أحمد وأبو داوود، عن ثَوْبَانَ قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعى عَليْكُم كَمَا تَدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءُ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)).
حُبٌ للدنيا أشغلنا وعلقنا بها، حتى ألهت وأنست - وهي المنغصُ عيشُها، المُكدرُ نعيمُها، الفانيةُ حياتُها، الغَرورُ متاعُها – عن آخرةٍ خالدين فيها أبدا، إمَّا في جنةٍ لا يزول نعيمُها ولا تنقطع لذتُها، أو نارٍ لا يُقضى على أهلها ولا يُخففُ من عذابها. حُبٌ أضعف النفوس والقلوب، فتركت الجهاد والقتال، واشتغلت بالزرع والمال، وتفرقت واختلفت وتحاسدت، حتى أسلمَ البعضُ البعضَ الآخر للعدو الغاشم، عساه يرضى عنها فيكف بأسه وشره، ويُمْهِلُها قليلاً لتلهو مزيداً وتلعب.
عدوٌ ظالمٌ كافر، تسلط بسبب ذنوبنا علينا. فالمصيبة تصيبنا من الله بسبب كسبنا وتفريطنا، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )) ( الشورى : 30) .
عدوٌ لنْ يرضى عنا أفراداً ودولاً حتى نتبع ملته وفكره ومنهجه، أو ننسلخ من ديننا ونترك شريعتنا وملتنا. وهذه طامةٌ، القتلُ أهونُ منها، قال تعالى: ((وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة : 191) .
الفتنة الكفر بالله، قال ابن جرير في تفسيره: ((وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا عليه محقّا فيه)).
استولت الجيوش الكافرة النجسة على كثير من بلاد الإسلام، آخرها أفعانستان والعراق، تحت دعاوى باطلة ودعايات مضللة، يخفون وراءها الغلَ والحقد الذي ملأ قلوبَهم على هذا الدين العظيم. فأسرع إليهم المنافقون، والذين في قلوبهم مرضٌ، مصدقين ومروجين لكذبهم وإفكهم. فصاروا صفا معهم وجندا لهم، وجعلوا من جيوش الكفرة الملحدين مخلصةً للمسلمين، من ظلم الظالمين، وطغيان المتكبرين. فصدَقَ فيهم قول الشاعر:
والمُستَجيرُ بعمروٍ عند كُربتهِ كالمُستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ
فراعني تصديقُ بعضِ المسلمين هذا الإفك المبين والمكر العظيم. فمكرُهم مكرٌ كبيرٌ، تزول من هوله الجبالُ الراسيات. قال تعالى: ((وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)) (إبراهيم : 46) .
وقال تعالى: ((وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)) ( نوح : 22) .
بُطلان هذه الدعوى الكاذبة ظاهرٌ بينٌ للعقلاء والمؤمنين. لأنها تخالف وتناقض ما تدل عليه الآيات المحكمات، والسنن الصحيحات، من عداوة الكفار وبغضهم للمسلمين، وهذا كافٍ للمؤمنين. ثم لأنها تتعارض مع الحقائق والوقائع والآثار والنتائج التي سمعها وشاهدها الناسُ نتيجةً لهذه الحروب. فالمسلم بفطرته الصحيحة، والناسُ باختلاف شعوبهم ودياناتهم، يمجدون ويفتخرون بمن ذبَّ وقاتل، دون بلده وأهله وماله، ويخونون ويحقرون من تعاون مع المحتلين والمعتدين.
ومع ظهور زيف هذه الدعوى، فقد انبرى فريقٌ يتظاهر بالعلم والدين، بالدعوة إلى خِذلان المسلمين، وتسليمِهم لظلمِ وفتنةِ الكفرةِ المُلحدين، فنهوا عن مناصرة المجاهدين، وعن الذبِّ عن حرمات المسلمين، فقالوا لإخوانهم المجاهدين لو أطاعونا ما قتلوا وما ماتوا. وتجاوز آخرون، حتى تعدوا الخذلان إلى مظاهرة الكفار على المسلمين، جهلا منهم وغرورا، فثبطوا المجاهدين، وأرجفوا بصفوف المقاتلين، فحرَّمُوا ما أوجبَهُ الله تعالى من جهاد الكفار، وأوجَبُوا ما حرَّمَهُ الله تعالى من التسليم والانقياد للكفرة والمنافقين المرتدين.
جمعَ هؤلاء المفتونون، لتبرير هذا الفعل القبيح، والجرم العظيم، ما ظنوه دليلا يستترون به من الفسق والظلم والكفر والنفاق. فلبسوا به على الناس بعد أن زخرفوه، وأعانهم على التضليل كثرةُ الدعايةِ والترديدِ والتزيين. فوجد قبولا وتصديقا عند بعض الناس لموافقته للهوى، وداعي السلامة مِن ما يوجبُه الجهادُ من التضحية وبذل النفس والمال.(/2)
فرأيت حقاً لازماً، لمن أوجبَ اللهُ تعالى عليَّ محبتَهم ونصرتهم، أن أكتب هذا الكتاب، فمهدت ببيان ما أوجبه الله تعالى للمسلمين من الولاية، وللكفار من البراءة. ثم شرعتُ بالردِ على شبهاتٍ ستٍ واهيات، هن شبهة الوفاء بالعهود والمواثيق، وقصة الصحابي حاطب رضي الله عنه، والإكراه، والديمقراطية، والمصلحة والضرورة, واشتراط الراية.
وهي حجج كما وصفها الشاعر:
حججٌ تهافت كالزجاجِ تخالهُا حقاً وكلٌ كاسرٌ مكسورُ
وسميته، الانتصار لأهل الفلوجة والجهاد، لأن الفلوجة أصبحت علما ورمزا للعزة والجهاد، وأهلها أهلٌ لقول الشاعر:
سأَغسِلُ عَنِّي العارَ بالسيف جالباً عليَّ قضاءَ اللهِ ما كان جَالبا
وأذْهَلُ عَنْ دارِي وأَجعَلُ هَدْمَها لِعِرْضِيَ مِنْ باقِي المَذَمَّةِ حَاجِبَا
ويَصْغُرُ في عَيْني تِلادِي إِذا انْثَنَتْ يمَينِي بإدْراكِ الذي كُنْتُ طَالِبَا
فإِنْ تَهدِمُوا بالغَدْرِ دَارِي فإنها تُراثُ كَرِيمٍ لا يُبَالِي العَوَاقِبَا
أَخِي عَزَماتٍ لا يُرِيدُ عَلَى الَّذي يَهِمُ بهِ مِنْ مَقْطَعِ الأَمْرِ صَاحِبا
وقول الراجز:
لا جزعَ اليومَ على قُربِ الأجلْ الموتُ أحلى عندنا من العسلْ
والنصرُ في العراق نصرٌ على رأس الكفر وعاموده. وأردته مساهمةً أعتذر بها يوم ألقى ربي، ومناصرةً حسب جَهدي وحيلتي، لأخواني المجاهدين في سبيل الله تعالى، في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، عسى الله تعالى أن يعفو ويصفح ويجزي ويرفع.
واللهَ أسألُ أن أكونَ بذلك نلت سهما مع المجاهدين، الذين يجاهدون لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السُفلى، الذين رفعهم الله على القاعدين درجات.
التولي والمحبة للمسلمين :
المؤمن أخٌ وولي للمؤمن، لا يكمل إيمانُه حتى يحبَ لأخيه ما يحبُه لنفسه، والولي كما قال أهلُ العربية: الصديق والنصير، وهو التابع المحب. والولي ضد العدو، والوَلاية النُصرة، والموالاة المناصرة ضد المعاداة.
قال الله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) ( التوبة : 71) .
وقال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) ( المائدة : 55).
فللمسلمِ حقٌ واجبٌ على أخيه المسلم، أن يتولاه وينصره ويحبه، وأن لا يخذله أو يظلمه أو يسلمه لعدوه. حقٌ أوجبه الله تعالى وفرضه وأكده، دلت عليه الآياتُ البينات، والسننُ الصحيحات، وأمثلته المهاجرون والأنصار، حتى آثروا على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصة. فكانوا جميعا متآلفين متحابين متعاونين متناصرين، فملكوا الدنيا، ونشروا الخير، ورفعوا كلمةَ الله، حتى صارت هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السفلى.
فمن الآياتِ الكريمات الآمرة، والمقررة، والدالة، والموجهة، لهذا التآخي والتآلف والمحبة بين المسلمين:
قولُه تعالى: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) ( آل عمران : 103) .
وقوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) ( الأنفال : 63) .
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (الحجرات : 10) .
وقوله تعالى: ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) ( الفتح : 29) .
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) ( المائدة : 54) .
ومن الأحاديثِ الصحيحات، والسننِ الهاديات، ما في الصحيحين:(/3)
عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى رضيَ اللهُ عنه عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعضاً، وشَبَّكَ بينَ أصابعِه)).
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ. إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وعن قَتادةَ عن أنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأًّخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
وعنْ أبي قِلابَةَ عنْ أَنسٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار)) .
وفي صحيح البخاري: عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ سالِماً أخبرَهُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أخبرَهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظلمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسلمٍ كُربَةً فرَّجَ الله عنهُ كُربةً من كُرباتِ يومِ القيامةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِماً سَترَهُ اللهُ يومَ القيامة)).
وفيه حدَّثَنا مُسدَّدٌ حدَّثَنا مُعتمِرٌ عن حُمَيدٍ عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انصُرْ أخاكَ ظالِماً أو مَظلوماً، قالوا: يا رسولَ الله، هذا ننصُرهُ مَظلوماً، فكيفَ ننصُرهُ ظالِماً؟ قال: تأخُذُ فوقَ يدَيهِ)).
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((إِنَّ اللّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي. الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي. يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي)).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا. وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَينَكُمْ)).
وروى الترمذي - وقال حديث حسن صحيح - حَدَّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بنُ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بنُ بُرْقَانَ أَخْبَرنَا حَبِيبُ بنُ أَبي مَرْزُوقٍ عن عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ، عن أَبي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثني مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((قال الله عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ في جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)).
وفي مسند الإمام أحمد حدّثنا عبد الله حدَّثني أبي حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب حدثنا عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري جمع قومه فعلمهم صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال : ((احفظوا تكبيري وتعلّموا ركوعي وسجودي فإنها صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان يصلي لنا كذا الساعة من النهار، ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قضى صلاته أقبل إلى الناس بوجهه فقال: (يا أَيُّها النَّاسُ اسْمَعُوا واعْقِلُوا، واعْلَمُوا أَنَّ لله عزّ وجلّ عِبَاداً لَيْسُوا انْبِيَاءَ ولا شُهَدَاء، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ والشُّهَدَاءُ عَلى مَنَازِلِهِمْ وقُرْبِهِمْ مِنَ الله )) . فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، فَسُّرَ وجُه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ ونَوَازِعِ القَبَائِلِ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا في الله وتَصَافُوا، يَضَعُ الله لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الذينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون )) .(/4)
جاء فضيل إلى أبي إسحاق السبيعي بعدما كف بصره، فقال تعرفني؟ قال: فضيل؟ قال: نعم. فضمه الى صدره وقال إني والله أُحبك، ولولا الحياء لقبلتك، ثم قال حدثني أبو الأحوص عن عبد الله : ((لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال : 63) نزلت في المتحابين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ’ فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين. وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفارة، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين.‘
قال ابن المقفع: ’ إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة، أو نُزولِ بليةٍ، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمواساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار.‘
قال الشاعر:
إنَّ أخاكَ الصِدق مَنْ يَسْعَى مَعكْ ومَنْ يضُرُّ نفسَه لينفعَكْ
ومَنْ إذا ريبُ الزمان صدَّعك شتتَ شملَ نفسَه ليجْمَعكْ
الظلمُ والخِذلانُ للمسلمين
نهى اللهُ تعالى عبادَه المسلمين أشدَ النهي، وحذرهم، وأوعدهم من ظلم الناس مطلقا، ومن الظلمِ والخذلان لإخوانهم المسلمين خاصة. فالله تعالى أرادهم وأمرهم أن يكونوا إخوةً متحابين متناصرين. فمحبةُ الله تعالى تقتضى من العبد المحبةَ لكل ما يحبه اللهُ تعالى، والرضا عن كل ما يرضاه.
والله يحب المؤمنين، ويرضى ويتولى المسلمين، فوجب على العبد المسلم أن يحب ما أحبه الله ويتولى من تولاه. وقد جاءت النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة، محرضة وآمرة بذلك، وناهية ومحذرة من ضده.
ظلمُ المسلمِ للمسلم، منه ما يلتحق بصغائر الذنوب، ومنه ما يلتحق بكبائر الذنوب، ومنه ما يُخرجُ من المِلة، ويوقع في الكفر والنفاق. وقد شدد الشارع الحكيم في حقوق الناس عموما، وحقوق المسلمين خصوصا، فحقوقُ العباد - كما قال أهلُ العلم - مبنيةٌ على المشاحَّة، وحقوقُ الله تعالى مبنيةٌ على المسامحة.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهَ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَاذَا، وَقَذَفَ هَاذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَاذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَاذَا، وَضَرَبَ هَاذَا. فَيُعْطَى هَاذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَاذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن كانت لهُ مَظلمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شيءٍ فليَتحلَّلْهُ منهُ اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا دِرهمٌ، إن كانَ لهُ عملٌ صالِحٌ أُخِذَ منهُ بقدْرِ مَظلمتِه، وإن لم تكنْ لهُ حَسناتٌ أُخِذَ من سيِّئات صاحبِه فحُمِلَ عليه)).
فكان ظلمُ العبدِ لنفسِه بظلمِه للعباد، أشدَ من ظلمه لنفسه، في تقصيره بحق الله تعالى - إلا الشرك بالله والتضييعَ للأركان - من جهة ما يترتب على هذا الظلم من الحساب والعقاب، لا من جهة قبح هذا الظلم وعظمته في نفسه. وأيُ ظلمٍ للمسلم أعظمُ، من أن يُعينَ عليه مَن يفتنُه في دينه، ويستحلُ دمَه وماله وأرضه وعرضه.
اللهُ جلَّ جلالُه يقول في كتابه العزيز: ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ))(الأحزاب : 58) .
قرأها ابنُ عمر رضي الله عنهما فقال:(فكيف إذا أُوذيَّ بالمعروف،فذلك يُضاعفُ له العذاب ). يريد كيف إذا أُذيَّ لفعله المعروف، وهل الجهاد إلا من أعظم المعروف، قال قتادةُ رحمه الله في قوله تعالى: ( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)) إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له.
وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (الحجرات : 11) .
قال ابن جرير في تفسيره: قال : ((وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، فجعلَ اللامزَ أخاه لامزاً نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضُهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير.‘(/5)
وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) (النور : 19) .
وأعظمُ منهم من أراد وأحب أن يظهر الكفار على المسلمين، فيفتنوهم عن دينهم ويغلبوهم على ديارهم وأموالهم.
وقال تعالى: (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) (النساء : 93) .
قال ابن كثير: ’وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان :(( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً )) (الفرقان : 68) .
وقال تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (الأنعام : 151).
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) .
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يزال المؤمن مُعنِقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح)) .
وفي حديث آخر : (( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) .
وفي الحديث الآخر: ((من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)) .
ومن الأحاديث الصحيحات التي تعظِّمُ حقَ المسلم على أخيه المسلم، وتنهى عن ظلمه وخذلانه، ما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَكُونُوا،عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).
وفيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).
وما في الصحيحين: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((سِبابُ المُسْلمِ فُسوقٌ وَقِتالُه كُفْر)).
وفيهما عن نَافِعِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((إذَا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَاذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ)).(/6)
وفي صحيح البخاري: حدّثنا أبو اليمانِ أخبرَنا شُعيبٌ عنِ الزهري قال: حدثني عوفُ بن مالك ابن الطفيل هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشةَ زوج النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّها أن عائشةَ حُدثت أن عبدَ اللّه بن الزبيرِ قال في بيعٍ أو عَطاءٍ أعطَتْهُ عائشة: واللّهِ لتنتهينَّ عائشةُ أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا ؟ قالوا: نعم، قالت: هو للّه عليَّ نَذْرٌ أن لا أُكلمَ ابنَ الزبيرِ أبداً. فاستَشفعَ ابنُ الزبير إليها حين طالتِ الهجرة، فقالت: لا واللّهِ لا أُشفِّعُ فيه أبداً ولا أتحنَّثُ إلى نَذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلمَ المِسْوَرَ بن مَخرمةَ وعبدِ الرحمن بنَ الأسودِ بن عبدِ يَغوثَ - وهما من بني زُهرةَ - وقال لهما: أنشدُكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحلُّ لها أَن تَنذرَ قَطيعتي. فأقبلَ به المِسورُ وعبدُ الرحمن مُشتملَين بأردِيَتهما حتى استأذنا على عائشةَ فقالا: السلامُ عليك ورحمة اللّه وبركاته، أندخُلُ ؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلنا ؟ قالت: نعم ادخُلوا كلُّكم - ولا تعلمُ أنَّ معهما ابنَ الزبير - فلما دَخلوا دخلَ ابن الزبير الحجابَ فاعتنقَ عائشةَ وطَفِقَ يُناشِدُها ويبكي، وطَفقَ المسوَرُ وعبدُ الرحمنُ يُناشدانها إلا ما كلمته وقبِلْت منه، ويقولان: إن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عما قد علمتِ من الهجرة، فإنه لا يَحل لمسلم أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفِقت تذكِّرُهما وتبكي وتقول: إني نذرتُ، والنَّذرُ شديد. فلم يَزالا بها حتى كلمت ابنَ الزبير. وأعتقَتْ في نَذرِها ذلك أربعينَ رقبةً. وكانت تذكرُ نَذرَها بعدَ ذلك فتبكي حتى تَبُلَّ دموعُها خِمارَها.
وفي الصحيحين: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ. يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هاذَا وَيُعْرِضُ هاذَا. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)).
وروى أحمدُ وأبو داود عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ)) .
وعن أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةَ فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)).
وفي الصحيحين: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ. حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ. فإنَّ ذلك يَحْزِنَهُ)).
وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمرَ رضيَ الله عنهما : ((أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أيما رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)).
وعند مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِيْنَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((أَيُّمَا امْرىٍء قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا. إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ. وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ)).
وفي الصحيحين: عن أَبي هُرَيْرَةَ َقَالَ: َقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ. فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ. فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)).
وفي رواية عند مسلم عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ. حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
وفي مسند الإمام أحمد، حدثنا عبد الله، ثنا أبي، ثنا حسن بن موسى قال: ثنا زهير، ثنا عمارة بن غزّية، عن يحيى بن راشد قال: خرجنا حجاجاً عشرة من أهل الشام حتى أتيتنا مكة، فذكر الحديث قال: فأتيناه فخرج إلينا - يعني ابن عمر - فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بِالدينَارِ وَالدرْهَمِ، وَلاكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ سَقَاهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ، وَلَيْسَ بِخَارِجٍ)).(/7)
وإن الطامةَ العظيمةَ، والهلاكَ المبين، أن يُظاهرَ ويعينَ المسلمُ الكافرَ على إخوانه المسلمين قولاً أو فعلا. وجمهورُ أهلِ العلم يحكُمون بكفرِ المظاهرِ، والمعينِ، للكفار على المسلمين، دون أن يشترطوا محبةَ قلبهِ للكفار، ولدينهم. وحكى الإجماعَ ابنُ حزم وابنُ باز وغيرُهم من العلماء.
قال ابن حزم - رحمه الله - في المحلى: وصح أنَّ قول الله تعالى: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) (المائدة : 51).
إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين‘. وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: ( وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم. )
ووافق الإمامُ محمد بن عبد الوهاب الجمهورَ، فعدَّ مظاهرةَ الكفار، ومعاونتهم على المسلمين، من نواقض الإسلام. والتي لا يُعذر فيها خائفٌ ولا مستهزئٌ، إلا المُكره المطمئن قلبُه بالإيمان.
وأهل السنة والجماعة متفقون أن الإيمانَ قولٌ وعمل ونية. وكذلك الكفر يكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد. ويكون سببه التكذيبُ، أو الجحود، أو الكِبرُ، أو الإعراض، أو حُبُ الدنيا وتقديمُها على الآخرة. وليس كلُ حبٍ للدنيا كفرا، ولكنْ الحبُ الذي يصل بصاحبه لقولِ أو فعلِ الكفر. كمن سبَّ الدينَ، أو انتقص الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا اعتقادا ولكن لأجل مال يُعطاه.
قال تعالى: ((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) (النحل : 106-107) .
قال شيخ الإسلام: (ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل.
وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعة ويدفع عنه مضرة. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ)) (المائدة :51 -53) .
والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يُغْلَبَ أهلُ الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم, لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون، وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود. فقال عبد الله بن أبي: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية.‘
وقال الإمام ابن القيم: وقال:((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )) (محمد : 25- 26)
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في سورة المائدة أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار قوله: ((يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) .(/8)
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (المائدة : 51) .
وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلىِ فساد العقل والدين فقال : ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)) (المائدة : 52) .
ثمِ أخبر عن حبوط أعمال متوليهم، ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال تعالى: (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ )) (المائدة : 53).
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائهم أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) (الممتحنة : 1-2) .
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرئوا ممن ليس علىِ دينهم امتثالاً لأمر اللّه، وإيثاراً لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً)) (الممتحنة : 4) .
وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفارَ أولياء من دون المؤمنين، وحذرَهُ نفسه أشد التحذير، فقال:(( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)) ( آل عمران : 28) .
فالحاصل : أن مَنْ أعانَ الكفارَ طمعاً أو خوفا، فهو منهم، حكمُه حكمُهم، في الدنيا والآخرة، على القول الراجح الذي عليه الجمهور.
لكنْ الجزمُ بالإجماع يتعذر القول به لأن بعضاً من أهل العلم اشترط لتكفير المظاهر أن يجتمع مع مظاهرته ومعاونته محبته للكفار ولدينهم.
وقد أنكر الإمام أحمد الإجماع الذي هو عدم العلم بالمخالف. وقال شيخ الإسلام: ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين. ))
وكذلك يمنعُ القطعَ والجزمَ بكفرِ المُظاهرِ، الاختلافُ في حد الإكراه، وما يُبيحه الإكراه. فالله تعالى قد عذر المُكرهَ بالاتفاق قال تعالى : (( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)). قال ابن جرير: ( لما تقدم الخطاب في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) ( المائدة : 51) .
كأنهم أخذوا بعمومه حتى أنكروا على من كان له عذر في ذلك فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك، وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان، ثم رخص فيه لمن أكره على ذلك.‘ وسيأتي - إن شاء الله تعالى - مزيدُ بحثٍ لهذه المسألة عند بحث شبهة الإكراه.
وخلاصة القول :
أن ظاهرَ النصوص الكثيرة، والذي رجحه الجمهورُ، أن المظاهرةَ، والمعاونةَ، الصريحةَ للكفار على المسلمين، دُونَ إكراهٍ، كفرٌ، ونِفاقٌ، وردةٌ، عن الدين. أما كونُ هذا الفعل كبيرة وذنبا عظيما قبيحا، فأمرٌ مجمعٌ عليه. لو لم تدل عليه النصوص الكثيرة لدلَّ عليه العقل والفطر السليمة.(/9)
والواجبُ الحذر، وعدمُ المسارعة في تكفيرِ معينٍ أو جماعةٍ، لابست ووقعت في هذا الجُرم. وذلك لوجود شبهة الإكراه وإن كانت ضعيفة، ولعدم تحقق الإجماع الثابت بيقين.
في الصحيحين: عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ. فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا، أَصْلَحَكَ اللّهُ، بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللّهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللّهِ فَبَايَعْنَاهُ. فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: (إلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ).
زاد الإمام أحمد: (وأَنْ نَقولَ بالحقِّ حيثُ ما كُنَّا لا نَخَافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ). وكذلك فعل - رحمه الله تعالى- فقال بالحق: أن القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق. وتحمل لأجل الحق الضربَ، والسجنَ، والأذى، حمايةً للدين من التبديل والتحريف. ونهى الناس عن الخروج على الإمام القائل بخلق القرآن - الذي دعا لهذا الكفر وفتن الناس حتى يقولوه - لوجود الشبهة، وللمفاسد، والاختلاف، والاقتتال بين المسلمين، الذي يقع بسبب الخروج عليه.
قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا، ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه. فناظرهم وقال: عليكم الإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ برٌّ، ويُستراحَ من فاجر.
البراءةُ من الكفارِ وبغضُهم لكُفرِهم
البراءةُ هي التنزهُ والتباعد والتخلص، تقول العرب نحن منك البراء والخلاء. وتكون بمعنى الإعذار والإنذار، ومنه قوله تعالى: (( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ )) ( التوبة : 1) .
وهذه البراءةُ والبغضُ الواجبُ على المسلم نحو الكافر، أمرٌ أوجبه اللهُ تعالى في كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وله ضوابطٌ وقواعدٌ تمنعه أن يكون ظلما وبغيا، وتجعله لمن تأمله رحمةً للكافرين. فبالجهاد دخلت أممٌ في الإسلام فنجوا بذلك من النار، وبالجهادِ تخلصت أممٌ من الظلم والطغيان، ومن التضليل والصد عن الحق، فوصلت إليهم الدعوةُ بينةً واضحة، فمن ضلَّ منهم من بعدُ, ضلَّ عن بينةٍ وعصبية وتقليد، ومن اهتدى منهم اهتدى باختياره ورضاه دون إكراه وإلزام.
وفي الأمر ببغضهم، وعدمِ إكرامِهم وتقريبهم وتصديرهم، مصلحةٌ للمسلم، بتحقيقه العبودية لله تعالى، فلا يجتمعُ في قلبه محبةُ الله تعالى ومحبة عدوه. وفيه أيضا لمَِن فقِهَ مقاصد الشارع مصلحةٌ للكافر، فيعرف ويعلم أن نقصَه وصغاره عند المسلمين سببُه كفرُه بالله العظيم، لا للونه ولا لجنسه ولا لشيء آخر. فيكون ذلك سبباً يحركه للسؤال والعلم والإيمان.
ولا يمنع هذا البغضُ الديني للكافر أن يجتمعَ معه البرُ والإحسان والعطف، إذا كان الكافرُ قريبا، أو زوجة، أو ذا وُدٍّ وإحسانٍ للمسلمين. فالكتابية العفيفة الحُرة تَحِلُ زوجةً للمسلم، ويكون بينهما المودة والرحمة، قال تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُو?اْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) ( الروم : 21) .
فلها في قلب زوجها مودةٌ ورحمةٌ سببه الزواج، وبغضٌ وكُرهٌ للكفر والشرك الذي فيها. فإذا تعارض الأمران، قُدم البغض الديني على المحبة الدنيوية. قال ابن حجر في بلوغ المرام: ( عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، تَشْتِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَعُ فِيْهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلاَ تَنْتَهِيْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخَذَ المِعْوَلَ، فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَلاَ اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)..
قد دلَّ على وجوب هذه البراءة والعداوة، الآياتُ البينات، التي تأمر وتصف المؤمنين بذلك، وتحذرهم ضده من الموالاة لهم والمحبة والمظاهرة، وتنهاهم عن الطاعة والركون والمودة، وعن اتخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، وتخوفُهم مغبَّةَ ذلك عليهم في الدنيا والآخرة، وتَسِمُ من فعله بالنفاق، وأنه معدودٌ من الكفار، وأنه ليس من الله في شيء.(/10)
منها قوله تعالى : (( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ )) ( الممتحنة : 1) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ )) ( الممتحنة : 13) .
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) ( التوبة : 23) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )) ( المائدة : 57) .
وقوله تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) ( المجادلة : 22) .
وقوله تعالى: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآ أَنْتُمْ أُوْلا?ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُو?اْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) ( آل عمران : 118-120)
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ)) ( آل عمران : 100) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناًً)) ( النساء : 144) .
وآياتٌ تَسِمُ المنافقين وتصفهم بتولي ومحبةِ الكافرين، ومظاهرتهم على المسلمين. بغضا للدين والإسلام والمسلمين عند قوم، وهذا الكفر الصريح، والدرك الأسفل من النار. وخوفا ومحبة للدنيا عند آخرين، وحب الدنيا وتقديمها على الآخرة قد يُوصل صاحبَه إلى الكفر. قال تعالى: (( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) ( النحل : 106-107) .
فالكفرُ كفرٌ سببه الكِبرُ والعلو، ككفر إبليسَ وفرعونَ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الجحود والتقليد والتعظيم للسادة والإباء، ككفر قريشٍ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الإعراضُ والجهل، ككفر عبدةِ الأضرحة والقبور يسمعون القرآن والسنة والنذير من العلماء والدعاة، فيعرضون عن التعلم والتفقه والسؤال. وكفرٌ سببه تقديمُ الدنيا على الآخرة، فيعتقد أو يعمل أو يقول الكفر ليتزوج كافرةً أعجبته، أو ليكسب جاها ومالا.(/11)
قد ملكَ حُبُ الدنيا قلبَه، فكان إلهه هواه. قال تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )) ( الجاثية : 23) .
وقال تعالى: (( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)) ( الشورى : 20).
هذا الحبُ والاغترارُ بدار الغُرورِ، أنسى صاحبَه الآخرة، والجنة والنار، ككفر الذي آتاه اللهُ الآياتِ، والعلمَ، والبينات، فانسلخ منها واتبع الشيطان. قال تعالى: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )) ( الأعراف : 175) .
قال ابن جرير في تفسيره: ( عن ابن عباس قال: لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه. أتاه - يعني بلعم - بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه قال: إني إن دعوت اللهَ أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه اللهُ مما كان عليه، فذلك قوله: (( فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)) ‘. وقال أيضا:
( اختلف أهل التأويل فيه فقيل رجل من بني إسرائيل اسمه بلعم أو بلعام، وقيل هو أمية بن أبي الصلت ).
ومنها قوله تعالى: (( بَشرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً)) (النساء :138 -139) .
وقوله تعالى: (( يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ منكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـ?ؤُلا?ءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ)) ( المائدة : 51-53) .
وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )) (محمد : 25-26).
وقوله تعالى: (( تَرَى كَثِيراً منْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً منْهُمْ فَاسِقُونَ )). ( المائدة80- 81)
قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين، وقال غيره بني إسرائيل، والعبرةُ - كما قال أهل التفسير - بعموم اللفظ لا خصوص السبب. فلكلِ مَنْ أتصف بتولي الكافرين نصيبٌ من هذا الذم والوعيد.
قال ابن كثير:( وقوله: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال: أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فسر بذلك ما ذمهم به، ثم أخبر أنهم وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )) يعني يوم القيامة.‘(/12)
وفي قصة إبراهيمَ والذين معه - قيل هم أتباعه، وقيل هم الأنبياء، وكلاهما صحيحٌ - عبرةٌ وأسوة حسنة للمؤمنين، قال تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي? إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ منْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً للَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )) ( الممتحنة : 4-6) .
قال ابن كثير في تفسيره للآيات: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى? إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي وأتباعه الذين آمنوا معه (( إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ، أي تبرأنا منكم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ )) ، أي بدينكم وطريقكم وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً )) ، يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد.
وقوله تعالى: (( إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأًّبِيهِ لأّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) .
أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ )) . ( التوبة : 113-114)
ولنا أيضا عبرةٌ وأسوةٌ حسنةٌ في أصحاب الكهف مع قومهم، وفي عبيدة بن الجراح مع أبيه، ومصعب بن عمير مع أخيه، وغيرهم كثير ممن نفى حبُ الله تعالى من قلوبهم حبَ وموادةَ من عادى الله وكفر به.
ومن المهم جدا في ختام هذا الفصل، التذكيرُ والتأكيدُ على أن هذه العداوةَ والبغضاء للكفار، يصاحبها العدلُ والإنصاف، والنُصحُ ومحبة الهداية والإيمان للناس أجمعين. والبرُ والإحسان لمن لم يحاربْ منهم ويظلم ويعتدي على الإسلام وأهله.
ففي الصحيح: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينا رجلٌ يَمشي فاشتدّ عليه العَطَشُ، فنَزَلَ بِئراً فشَرِبَ منها، ثمّ خرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثّرَى مِنَ العَطَشِ، فقال: لقد بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي. فمَلأَ خُفَّهُ ثمّ أمسَكَهُ بفيه، ثمّ رَقِيَ فسَقَى الكلْبَ، فشَكَرَ اللهُ لهُ فغَفَرَ له. قالوا: يارسول الله، وإنّ لنا في البهائِمِ أجْراً ؟ قال: في كلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجر).
والمؤمن لا يظلم ولا يخون ولا يغدر، قال تعالى: (( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) ( الممتحنة : 8) .(/13)
قال ابن جرير: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ )) من أهل مكة وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ )) ، يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم. واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية، فقال بعضهم عُني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم ... وقال آخرون: عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر ... وقال آخرون: بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم، قال: ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم ... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزَّ وجلَّ عمَّ بقوله الَّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بِرَّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرَّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها، وقوله:
( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم ) .
وقال القرطبي في تفسيره: ’ قال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا: بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تَصلُ أمّها حين قدِمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) خرَّجه البخاري ومسلم.‘
فالشارع الحكيم الرحيم يريد للناس الخير والهداية، والنجاة من الكفر والنار. قال تعالى: (( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَينَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَففَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) ( النساء26- 28) .
يقول ابن كثير في تفسيره: ’ يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين ((عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً )) ، أي محبةً بعد البغضةِ, ومودة بعد النفرة، وأُلفةً بعد الفرقة وَاللَّهُ قَدِيرٌ، أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة.‘
وقال البخاري في صحيحه: ’ بابُ إِثمِ مَنْ قَتلَ مُعاهِداً بغير جُرمٍ‘. وذكر فيه حديث مجاهدٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً).
قال الفقيه شمس الدين ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في كتابه الشرح الكبير: ’ أن الأمانَ إذا أُعطيَّ لأهل الحرب حَرُم قتْلُهم ومالهم والتعرُّضُ لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا .. ولنا ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري .(/14)
وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم رواه سعيد .. قالت عائشة إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن أم هانىء أنها قالت يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ إنما يجير على المسلمين أدناهم رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قال: ومَنْ لَقِيَ عِلجاً فقال له قف أو ألق سلاحك فقد أمنه ... فصل: وإذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان نظرت فإن كان معه متاعٌ يبيعه في دار الإسلام وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يُعرضْ لهم وقال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجارٌ مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شيء ... ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا قال لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له أنس قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ... ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولأن تجويزه لغير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الإمام.
فإن هادنهم غيرُ الإمام أو نائبه، لم يصح، وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان، ويُردُ إلى دار الحرب، ولا يقر في دار الإسلام، لأن الأمانَ لم يصح.‘
فانظر - رحمك الله تعالى - إلى هذا الاستدلال بالأدلة الصحيحة، والفقه والاستنباط السليم منها، وإلى النظر الدقيق في المصالح والمقاصد. لتعلم الإثمَ العظيمَ، والخطأَ البينَ، الذي وقع فيه من تعدى فظلم أو قتل الكافر المستأمن. فأساء إلى نفسه بارتكاب الكبيرة, وإلى خُلقه ومروءته بارتكابه الغدر والخيانة، وإلى مصالح المسلمين جميعا برأيه وتقديره.
فكما لا تفريطَ وتهاونَ في البراءة والعداوة، فكذلك لا إفراطَ وغلوَ فيها، يعارض ويصادم النصوص الصريحة الدالة على تحريم الغدر والخيانة وقتل المعاهد. ويسوق صاحبَه إلى معارضة المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة المرعية فيوقعه في الإثم والحرج.
شبهة الوفاء بالمواثيق مع الكفار
هذه شبهةٌ أُسِستْ على التصحيح والرضا بميثاق باطل ظالم. فإن زعموه عقداً صحيحاً مُلزما، قيل فقد نقضوه هم ونكثوه، وخالفوا ما ألزموا به المسلمين ظُلما. فإن غالط بالباطل أحدٌ فقال ما نقضوه ولا نكثوه، قيل فقد وجب إذن نقضُه على المسلمين، بعد الذي فعلوه من احتلال البلاد واستحلال الدماء.
قال تعالى: (( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّو?اْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) ( التوبة :4) .
فهل هؤلاء الكفرة لم ينقصونا شيئا، هل يقوله عاقلٌ وهم لم يُبقوا شئيا إلا وقد فعلوه، من غزو وقتل ونهب وظلم. حتى حقَّ عليهم قوله تعالى: (( وَإِن نَّكَثُو?اْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُو?اْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُو?اْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ))
( التوبة : 12-13) .
فزعموا أنْ بيننا وبين الكفار عهود ومواثيق، فليس لنا أن نخلفها ونقطعها، والله تعالى يقول: (( وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)) (الإسراء 34) .
ويقول تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (الأنفال : 72).(/15)
فاستدلوا بهذه الآية الكريمة على أن الوفاء بالعهد للكفار يُوجبُ عدمَ مناصرة المسلمين المعتدى عليهم في العراق وأفغانستان وغيرها من البلاد. بل ذهب بعضهم يسوقها مستدلا بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار وأعانهم على المسلمين.
هذه هي شبهتهم التي استدلوا بها، وفرحوا بها وقعدوا، عن نُصرة المسلمين المستضعفين، الذين غزاهم الكفار في بلادهم فاستلبوها منهم، وسفكوا دماءهم، وهتكوا أعراضهم، واستلبوا أموالهم. ويسعون جاهدين ليولوا عليهم مَنْ يفتنهم عن دينهم، ويحكم فيهم بالكفر والطاغوت، ويظهر ببلادهم الكفر والشرك والفجور.
فسبحان الله كيف يُستدلُ بالآية الكريمة في مثل هذا الوضع والواقع والحال. وهل يستدل به إلا من كان في قلبه زيغٌ وهوىً وإيثارٌ للدنيا على الآخرة. أو من كان مصدقا للكذب والتضليل الذي تلقيه شياطين الإنس من الكفرة والمنافقين.
إن من التلبيس والتحريف الاستدلال بهذه الآية للتخذيل والنهي عن مناصرة المسلمين، أو الإرجاف والفتنة في صفوفهم بدعوتهم إلى ترك الجهاد والتسليم للكفار. أو التشكيك في صدقهم وقوتهم وصلاح دينهم، فهذا فعل المنافقين. قال تعالى: (( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) ( آل عمران : 186) .
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ))( الأحزاب : 148) .
وقال تعالى: (( لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) ( التوبة : 47) .
قال ابن جرير: ((لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم ... يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه.‘
أما مَن استدل بالآية للقعود عن مناصرة المسلمين معتذرا بعهده معهم. فاستدلالٌ بعيدٌ كُلَّ البعدِ عن ما دلت الآية عليه، مخالفٌ لما اتفق عليه المفسرون في تفسيرهم لها، مجانبٌ لأصول الاستدلال الصحيح، والفقه والفهم السليم. فالذي يفهمه القارئ للآية من ظاهرها، والذي اتفق المفسرون عليه، أن الذين آمنوا وهاجروا - وهم المهاجرون - والذين آووا ونصروا - وهم الأنصار - بعضُهم لبعضٍ أولياءٌ في وجوب النُصرة والمظاهرة. والذين آمنوا ولم يهاجروا، وهم الأعراب الذين بقوا بباديتهم وبدار الحرب، فهؤلاء الأعراب، ومن في حكمهم، ممن لم يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، إن استنصروا المسلمين في قتال الكفار المعاهدين، فلا تجب نصرتهم.
ومن المعلوم أن الهجرة لا تكون إلا من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. فهل المجاهدون اليوم في العراق أو فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان، بلادهم بلاد كفر تجب الهجرة منها، فقصروا في ترك الهجرة حتى نُسقطَ حقهم في وجوبِ النُصرة لهم من بقية المسلمين ؟
وهل يقبلهم بلدٌ مسلم فينحازوا إليه ويقاتلوا منه ؟ أو يُهاجروا إليه حتى يسلموا من الفتنة في دينهم، ويحفظوا دمائهم وأعراضهم وأموالهم؟
وهذه أقوال أئمة التفسير أسوقها ليظهر شذوذ هذا القول وبعده عن الحق والصواب. قال ابن جرير: ( يعني بقوله تعالى ذكره: والَّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله، ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب، مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني: من نصرتهم وميراثهم، وقد ذكرت قول بعض من قال معنى الولاية هاهنا الميراث، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعد. مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام. وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ )) يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا في الدين، يعني بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، يعني عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه).(/16)
وقال القرطبي في تفسيره: ( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ، يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب، عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدّته. قال ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء، مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرِف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدوّ وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوّة والجَلَد ... ثم قال: ((إِلاَّ تَفْعَلُوهُ )) ، وهو أن يتوَلّى المؤمنُ الكافرَ دون المؤمنين(( تَكُنْ فِتْنَةٌ))، أي محنة بالحرب، وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر. والفسادُ الكبير ظهور الشرك.‘
وقال ابن كثير: (( مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ )) ، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال.
وكذلك قاله الشوكاني، والبغوي، والثعالبي، والشوكاني، والشنقيطي، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
هذا هو تفسير الآية الكريمة الذي أتفق عليه أئمة التفسير. فكيف ساغ لهؤلاء المتحذلقين أن ينزلوا أهل الجهاد في العراق وغيره منزلة من آمن ولم يهاجر ؟
لا أظنهم وهم يستدلون بالآية لترك المناصرة، بل وللتخذيل عنهم، وللمظاهرةِ عليهم، يجهلون ما أتفق عليه أئمة التفسير. ولكنْ هوىً وركونٌ إلى الأرض، وخوفٌ على دنياً تزول، أذهل عن الحق وصرف عنه.
وأهلُ العلم متفقون أن النُصرةَ واجبةٌ للمسلمين، متى لم تكن منهم كفاية وقوة على رد الكفار عن بلادهم. فالجهاد فرض عين على من نزل العدو ببلده. وفرضُ كفايةٍ على الآخرين، ينقلب ويصير فرضَ عينٍ عليهم إذا لم تحصل الكفاية والقوة والمنعة بأهل البلد حتى تتحقق الكفاية لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجهاد وأنه يكون تارة طلبا، وتارة دفعا: (يجب ابتداء ودفعاً. فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى: (( لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً))
( النساء : 95).
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم، كما قال الله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَليَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) ( الأنفال : 72) .
وكما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن ، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج. بل ذم الذين يستأذنون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)) ( الأحزاب : 13) .
فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار : للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها).(/17)
وقال رحمه الله تعالى مبينا أن ترك المناصرة، والخوف من الكفار نوع من الشرك: ( وكلما قوي التوحيد في قلب العبد قوي إيمانه وطمأنينته، وتوكله، ويقينه. والخوف الذي يحصل في قلوب الناس هو الشرك الذي في قلوبهم، قال الله تعالى: (( سَنُلْقِى في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّاالِمِينَ)) ( آل عمران : 151).
وكما قال الله جل جلاله في قصة الخليل عليه السلام : (( وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّو?نِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)) ( الأنعام : 80).
إلى قوله:(( الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ )) ( الأنعام : 82).
وفي الحديث الصحيح، ( تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! تعكس وانتكس! وإذا شيك فلا انتقش).
فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) ( الأنعام : 81)
يقول: إن تطيعوا غير الله، وتعبدون غيره، وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: (( الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ )) ( الأنعام : 82).
أي: هؤلاء الموحدون المخلصون، ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحداً.‘
فحبُ الدنيا والخوف عليها، يُضعفُ العبوديةَ الواجبة لله تعالى، ويصرفه عبودية للدنيا. ومقدار ما ينصرف من عبودية الله إلى عبودية الدنيا يتناسب مع مقدار هذه المحبة للدنيا ولزُخرفها في قلب العبد، حتى إذا غلبت جرت إلى الإثم، فإذا زادت أوقعت في الكبيرة ثم الشرك والكفر. قال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً )) ( الإسراء : 18)
. قال قتادة: ( من كانت الدنيا همّه وسَدَمَه وطلبته ونيته، عجَّل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطّره إلى جهنم ) .
شبهة قصة الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة
القصةُ المشهورة للصحابي البدري حاطبِ بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، والتي نزل بسببها قولُ الحق تبارك وتعالى: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ)) ( الممتحنة : 1) .
حُمِّلت القصةُ من أهل الأهواء ما لا تحتمله، ووضعت في غير موضعها، وقيس عليها ما لا يُشابهها ولا يُماثلُها. معرضين عن النصوص الصريحة الكثيرة التي تجعل المظاهرَ للكفار منهم، وأنه ليس من الله في شيء، وأنه من أهل النفاق ومرضى القلب. ومتغافلين عن ما خصَّ اللهُ به أهلَ بدرٍ من مغفرة الذنوب، وما خُصَّ حاطبٌ من تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له حين اعتذر بعذره. بل تعدى بعضُهم فلم يكتفي بالاستدلالِ بها على عدم كفر المظاهر، بل للإعتذار للمظاهرِ والتهوينِ من قبيحِ صنيعِه.
هذه شبهتُهم أسوقها، ثم أبينُ - بعون الله تعالى - بطلانَ الاستدلالِ بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار بنفسه، أو ماله، أو قوله، مظاهرةً يتقوى بها الكفارُ، ويضعفُ بسببها أهلُ الإسلام. قالوا هذا الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أفشى سرَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث إلى أهل مكة يُنذرهم بعزم المسلمين على غزوهم. فكان بفعله مظاهراً للكفار على المسلمين، معيناً لهم عليهم، ومع هذا لم يكفره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عذره وصفح عنه.(/18)
وقال لأصحابه لا تقولوا له إلا خيرا حينَ أعتذر حاطبٌ بأن ما فعله ليس رغبةً عن الإسلام، ولا رضاً بالكفر، ولكنْ أرادَ بذلك يداً عند الكفار يحمي به قرابتَه وأهله، من بطشهم وانتقامهم. فظاهرَهُم لحظٍ دنيوي، وقلبُه مطمئن بالإيمان. فكان فعلُه معصيةً وذنباً لا يصِلُ به إلى الكفر والارتداد. هذه شبهتُهم التي استدلوا بها على عدم كفر المظاهر, والمناصرِ, للكفار على المسلمين.
فشرطوا اقترانَ هذه المظاهرة والمناصرة بالمحبةِ للكفار ولدينهم، والرغبةِ في ظهورهم وعلوهم. فإن انتفت هذه المحبةُ، وكان القلبُ مطمئناً بالإيمان، والمحبةَ للمسلمين، والبغض للكافرين، انتفى الحكم بكفر المظاهر. لأن المظاهرةَ لم تكن إلا لحظ دنيوي، رغبة أو خوفا من الكفار.
وقبلَ الشروعِ في الرد على هذه الشبهة، التي لبسوا بها على البعض. أبدأُ بالقول بوجوب التفريق بين أمورٍ ثلاثة، يحاولُ بعضُهم - قصدا أو خطأ - الجمعَ بينها فيحصل التشويشُ والتلبيس.
الأمر الأول: الاعتذارُ بهذه الشبهة لجواز المظاهرة.
وهذا أمرٌ باطلٌ لم يقلْهُ أحدٌ من المسلمين. فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن مظاهرةَ الكفارِ على المسلمين معصيةٌ وأثمٌ وذنبٌ عظيم. وهو محلُ إجماعٍ من علمائهم، واتفاقٍ من عامتهم. ولا يقول بجوازها إلا من ردَّ القرآنَ الكريم، والسنة الصحيحة، وإجماعَ المسلمين، وهذا كفرٌ وردةٌ عن دين الإسلام بالإتفاق.
فإذا كانت كذلك فلا تجوز الطاعةُ لأحدٍ – كائنا من كان - في ملابستِها والوقوع فيها.
فالطاعةُ لا تكون إلا في المعروف، وفي ما ليس بمعصيةٍ لرب العالمين. روي البخاريُ في صحيحِه: حدَّثنا الأعمشُ حدَّثنا سعدُ بن عُبيدَةَ عن أبي عبد الرحمنِ عن عليّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيةً وأمَّرَ عليهم رجلاً من الأنصارِ وأمرَهم أن يُطيعوه، فغضبَ عليهم وقال: أليس قد أمرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى قال: قد عزمتُ عليكم لما جمعتم حَطَباً وأوقَدْتم ناراً ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً، فلما همُّوا بالدخول فقاموا يَنظرُ بعضهم إِلى بعض فقال بعضهم: إنما تبِعنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِراراً من النار أفندخُلُها؟ فبينما هم كذلك إذ خَمَدَتِ النارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فذُكرَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو دَخَلوها ما خَرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف).
وقد ذمَّ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيز طاعةَ الأمراء والعلماء في معصية الله تعالى. وسمَّى هذه الطاعة عبوديةً من فاعلها لهؤلاء الأمراء والعلماء، فقال: اتَّخَذُو?اْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً من دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُو?اْ إِلاَّ لِيَعْبُدُو?اْ الهاً وَاحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) ( التوبة : 31).
وفي مسند الإمام أحمدَ والترمذي: عن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قال: (أَتَيْتُ النَّبيَّ وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، قال: أمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ).
فإذا كانت هذه الطاعةُ عبادةً لهم من دون الله تعالى. وجب على كل مسلمٍ يخشى اللهَ تعالى، ويُقدمُ طاعتَه على طاعة المخلوق، عدمُ الرضا والقبولِ والفعلِ لهذه المعصية. وأَنْ يحذرَ أشدَّ الحذرِ من الوقوع في مظاهرة الكفار على المسلمين بقوله وكتابته وفعله وماله وقلبه. فإن الطاعة إنما تكون في المعروف. والنارٌ أهلُها أتباعٌ ومُتَبَعون، ولن يغنيَّ الذين استكبروا الذين استُضعفوا شيئا، بل يتبرئون منهم ويتنصلون. قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ )) ( البقرة : 116) .
وقال تعالى: وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?اْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?اْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ )) ( غافر : 47-48) .(/19)
وقال تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُو?اْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي? أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) 0( سبأ : 31-33) .
الأمر الثاني : الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفع العقوبة الواجبة للمظاهر للكفار على المسلمين.
فالذي يقاتلُ معهم في صفوفهم، أو يحميهم مِن المجاهدين، ويدفعُ عنهم، أو الذي يعينُهم ويمدهم بالسلاح والمال والرأي والطعام وكلِ ما فيه عونٌ لهم وإن قلَّ. كحال تلك الحكومات وجيوشها، التي نصَبَّها الكافرُ المحارب المحتل، ودربها وسلحها، لتعينه في قتال أهل الإسلام، وتمكن له في أرض المسلمين. وحال هؤلاء الذين باعوا دينَهم، وديار، ودماء، وأعراض المسلمين، من أجلِ مالٍ حرامٍ سُحتٍ، يأخذونه ليعملوا خدما وعونا وظهيرا للكفرة المعتدين.
يعتذرون لحُرمة دماءِ وأموالِ هؤلاء بهذه الشبهة. وهذا أمرٌ منكرٌ باطلٌ، فهم المعتدون الباغون، وهم الخائنون لله ولرسوله وللمؤمنين. حكمُهم حكمُ الكفار المحاربين، حكَمَ اللهُ تعالى عليهم أنهم منهم، وهو أحكمُ الحاكمين. فباتفاق واجماعِ المسلمين أن مَنْ ظاهرَهم وأعانَهم حلالُ الدم والمال. ذلك أنه هو الظالمُ الذي استحَلَّ دماءَ المسلمين المجاهدين وأموالهم وديارهم، ورضيَّ مختاراً أن يكون في صف الكفار تابعا لهم ممتثلا أمرهم ونهيهم. فحكمُه حكمُ الكافر المحارب، والمحاربُ حلالُ الدم والمال، فهو كذلك. وما ظلمهم المجاهدون، ولكنَّهُم هُمُ الظالمون.
قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْو?اْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً )). نزلت في قوم من المسلمين أُكرهوا على الخروج مع الكفار يوم بدر، فقُتل منهم مع الكفار، فتأسف المسلمون لذلك وأرادوا الاستغفارَ لهم، فنزلت الآيات تبين مآلهم ومصيرهم. وروى أهل التفسير عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكَثِّرون سواد المشركين على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدَهم فيقتله أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ )). فهؤلاء اليوم، الذين دخلوا مع الكفار طوعا دون إكراه في قتال المسلمين المجاهدين، أعظمُ أثماً وظلما، من أولئك المكرهين الذين نزلَ فيهم هذا الوعيدُ الشديد.
فالنصوصُ الصريحة، والإجماعُ المنعقد، كلُه دالٌ على أن المظاهرةَ للكفار على قتال المسلمين معصيةٌ وكبيرةٌ وإثمٌ عظيم. ذنبٌ يُبيحُ دمَ ومالَ وعِرضَ صاحِبِها. ذلك أنه خانَ اللهَ ورسوله والمؤمنين، وسعى وشارك في قتل المسلمين، والتمكين للكفار المحاربين، بفعاله أو أمواله أو أقواله. وأن لا طاعةَ لأحدٍ في فعلها، إذ من المعلوم عند المسلمين، أن الطاعةَ تكون في المعروف، وأن لا طاعة لأحدٍ في معصية رب العالمين.
الأمر الثالث: الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفعِ الحكم بكفر المظاهر مادام قلبُه مطمئناً بالإيمان.
وهذا أمرٌ تحتملُه القصة، فلغير حاطب أن يقولَ كقوله، ويعتذرَ بمثلِ عذرهِ، لينتفي عنه الكفر. والذي عليه جمهورُ أهل العلم أن العذرَ خاصٌ بحاطب لا يتعداه لغيره. فالمظاهرُ الذي تحقَقَ له ما تحقق لحاطبٍ، من تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وفضلِ حضورِ بدرٍ الكبري، يصحُ الاعتذارُ له. أما من لم يتحققْ له ذلك فحكمه ما حكمت به الآياتُ البينات من براءةِ الله تعالى منه، وأنه من جملةِ الكفار، وأنه ضلَّ سواءَ السبيل، إلا المُكرهَ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان.(/20)
ومن المعلوم أن تخصيصَ النص العام، وتقييدَ النص المطلق، لا بُدَّ فيه من النص الصحيح من جهة الثبوت والدلالة، ليصح بذلك تخصيصه للعموم، وتقييده للإطلاق، والذي يظهرُ أن التخصيص الخاص بحاطب من هذا العموم لا يصحُ الاستدلالُ به للمظاهرين اليوم للكفار على المسلمين لأمرين:
الأول: خصوصيةُ حاطب وعدم مشابهتهم له، فما جاء هذا التخصيص لحاطب إلا لتزكية رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وتصديقه لقوله، ثم لكونه من أهل بدر، وهم لهم زيادة فضل على المسلمين لسابقتهم وجهادهم، فلا يتعداهم التخصيصُ إلى غيرهم من المسلمين، فمن تولَّى الكفار، فظاهرَهم وأعانهم على المسلمين طوعا دون إكراه، حُكِّمَ عليه بالردة والنفاق.
وبالنظر والتأمل والجمع بين الروايات التي نقلت القصة نرى أن حاطب حين فعل ما فعل، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَ هذا المنافق، فأعتذرَ حاطبٌ بعذره، أنه لم يبدل دينه ولا كفر بالله ورسوله، ولكن يريد له يدا عند الكفار يحمي به قرابته بمكة، فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتفى عنه الحكم بالنفاق والارتداد. فعاد عمرُ وقال: قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَه، فإن انتفى عنه النفاقُ والارتداد فقد وقع في الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا فعلٌ يُوجبُ قتلَه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليسَ من أهل بَدر؟ فلعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم.
ففعلُه كان سبباً في حكم عمرَ عليه بالكفر والنفاق، لكنْ حصل لحاطبٍ التبرئةُ من الكفر والنفاق بتصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. وحصلَ له حَقْنُ دمه والكفُ عنه لفضل أهل بدر، وسابقتهم، وعظيم هذه الحسنة التي تغلب وترجح على كل ذنب ومعصية - إلا الشرك وقد حفظهم الله منه - روي الترمذي في سننه حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حدثنا اللَّيْثُ، عن أَبي الزُّبَيْرِ، عن جابِرٍ أَنَّ عَبْداً لِحَاطِبٍ بن أبي بلتعة، جَاءَ إلى رسولِ اللّهِ يَشْكُو حاطِباً، فقال: يا رسولَ اللّهِ لَيَدْخُلَنَّ حاطِبٌ النَّارَ، فقال رسول الله: (كَذَبْتَ، لا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَّةَ)، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
فالحاصل أن مَنْ تحققَ له ما تحقق لحاطب من تبرئة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له من النفاق، وكان من أهل بدر، صحَّ أن يُخصصَ من عموم الآيات الدالة على كفر ونفاق المظاهر.
فإن تنزلنا مع الخصم المخالف في وجود شبهة تمنع من تكفير المظاهر، وهي قول المظاهر بصحة إسلامه وبراءته من الكفر، كما قال حاطب، وأن الذي جَرهُ للمظاهرة الرغبةُ أو الرهبة من الكفار، فلا يصح أبداً القولُ بعصمة دمه وامتناع قتله، لأنه حتما ليس من أهل بدر.
يقول ابنُ القيم رحمه الله تعالى في الفوائد: ( وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب فقال: (وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم). كيف تجده متضمناً لحكم القاعدة التي اختلف فيها أرباب الجدل والأصوليون، وهي أن التعليل بالمانع هل يفتقر إلى قيام المقتضى، فعلَّلَ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصمةَ دمه، شهوده بدراً دون الإسلام العام، فدلَّ على أن مقتضى قتله كان قد وُجِدَ وعارض سبب العصمة، وهو الجس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عارض هذا المقتضى مانع منع من تأثيره وهو شهوده بدراً، وقد سبق من الله مغفرته لمن شهدها).(/21)
وهذا نقل للأحاديث التي قصت القصة, كما رواها أهل الحديث، روي البخاري في صحيحه: عن أبي عبد ِالرحمنِ السُّلَميِّ عن عليٍّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثني رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا مَرْثَدٍ الغَنَويَّ والزبيرَ - وكلُّنا فارسٌ - قال: انطلِقوا حتى تأتوا رَوضةَ خاخ فإن بها امرأةً منَ المشركين معها كتابٌ من حاطِبِ بن أبي بِلْتعةَ إلى المشركين. فأدركناها تَسيرُ على بَعير لها حيثُ قال رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها، فالتمسْنا فلم نَرَ كتاباً، فقلنا: ما كذبَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتخرجِنَّ الكتابَ أو لنجرّدنَّكِ. فلما رأتِ الجِدَّ أهْوَت إلى حُجْزَتها، وهي محتجِزةٌ بكِساء. فأخرجَتهْ. فانطلَقنا بها إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عنقَه. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ما حَمَلَك على ما صنعتَ؟ قال حاطب: والَّلهِ ما بي أن لا أكونَ مؤمناً باللَّه ورسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أردتُ أن يكونَ لي عندَ القوم يدٌ يَدفَعُ اللَّهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابِكَ إلاَّ لهُ هناكَ من عَشيرتِه مَن يَدفَعُ اللَّهُ بهِ عن أهلهِ وماله. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدقَ، ولا تَقولوا لهُ إلا خيراً . فقال عمرُ: إنهُ قد خانَ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِبْ عُنُقَه. فقال: أليسَ من أهل بَدر ؟ فقال: لعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم).
وفي رواية فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ياحاطبُ ما حملكَ على ما صنعتَ ؟ قال: يا رسولَ الله، ما لي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسولهِ، ولكني أَردتُ أن يكون لي عندَ القومَ يَدٌ يُدفعُ بها عن أهلي ومالي، وليس من أَصحابكَ أحدٌ إلا له هنالكَ من قومهِ من يَدفَعُ الله به عن أهله وماله. قال: صَدَق، لا تقولوا له إلا خيراً. قال فعادَ عمرُ فقال: يارسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضربْ عنقه قال: أَوليس من أهل بَدر ؟ وما يَدريك لعلَّ الله اطلعَ عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم).
والأمر الثاني: عدمُ التشابُهِ والتماثُلِ بين فعل حاطب ومظاهرته، ومظاهرة من أعان الكفار اليوم على المسلمين، فحاطبٌ كان يريد يدا عند الكفار يحمي بها قرابته وأهله بمكة من بطش وانتقام الكفار منهم، وهو يعلم أن الله ناصرٌ رسوله والمؤمنين على الكفار، وأن فعله لن يقوي الكفار، ولن يُضعفَ المسلمين، بل في رسالته لهم التخويف من جيش المسلمين.
ففي مسند الامام أحمد، حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حُجَيْنُ ويونسُ قالا: ثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد غزوهم، فدل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها، فأخذ كتابها من رأسها وقال: (يا حاطِبُ أَفَعَلْتَ ؟) قال: نعم أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله. وقال يونس: غشاً يا رسول الله، ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهرٌ رسولَه ومتمٌ له أمرَه، غير أني كنت عزيزاً بين ظهريهم، وكانت والدتي منهم فأردت أن أتخذ هذا عندهم، فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا ؟ قال: (أَتَقْتُلُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).
والمظاهرون اليوم يريدون ويسعون جاهدين، أنْ يحكُمَ بلادَ المسلمين مَن يُظْهِرُ ويدعو إلى الشرك والكفر والفساد، ومن يحكمُ بالطاغوت. فلا يُحقق ببلاد المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. هذا مع تسخيره لثروات المسلمين لمصالح الكفار، وامتثاله واتباعه لأمرهم ونهيهم.(/22)
فالذي فعله حاطبٌ ليس بمظاهرة ومناصرة للكفار على المسلمين، وإنما هو موادةٌ لهم واتخاذُ يدٍ عندهم، وإن كانت هذه الموادة نوعاً من التولي، إلا أنه تولي موادة، وليس تولي مظاهرة ومناصرة، وفرق بين المظاهرة التي يحصل بها تقويةُ الكفار وظهورُهم على المسلمين وبين الموادة التي لا يحصل منها ذلك. ويدل على ذلك أن الآيات التي نزلت في حاطب هي قوله تعالى : يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ)) ( الممتحنة : 1) .
وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة قول حاطب: ’ وعلمت أن ذلك لا يضرك‘، لاطمئنانه بنصر الله لرسوله والذين آمنوا. قال الحافظُ في الفتح: ’ وَعُذرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ , فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَنْ لا ضَرَر فِيهِ‘. وقال أيضا: ’ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْل الْمَغَازِي وَهُوَ فِي تَفْسِير يَحْيَى بْن سَلام، أَنَّ لَفْظ الْكِتَاب: أَمَّا بَعْد يَا مَعْشَر قُرَيْش فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ , يَسِير كَالسَّيْلِ , فَوَاَللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّه وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْده. فَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ وَالسَّلام، كَذَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.‘
يقول شيخ الإسلام: ’ وقد تحصّل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانُه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.‘
شبهة جواز المظاهرة للمُكرَه
زعمُوا أن الإكراهَ عُذرٌ يُبيحُ للمسلم المُكرَهِ، أن يُظاهرَ ويعينَ الكفارَ على المسلمين، إذا وقع عليه الإكراهُ من كافرٍ قادرٍ على إيقاع المكروه. فالله تعالى يقول: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
وفي صحيح ابن حبان: عن ابنِ عباس أَنَّ رسولَ الله قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكْرِهُوا عليهِ).
وهذه الدولُ الكافرةُ المتحالفة ضدَّ المسلمين، تملكُ من القوة والعِدةِ والسلاح، ما يُمَكنُها من إيقاع الأذى العظيم بالفرد، أو الدولة المسلمة الممتنعة عن مظاهرتهم على المسلمين. وفي ذلك ذهاب الدين والأنفس والديار والأموال.
هذه شبهةُ القوم التي استدلوا بها لتجويز مظاهرة الكفار على المسلمين، وإن ذهب الدينُ والأنفسُ والأموال والديار لهؤلاء المسلمين المُعْتدَى والمُظَاهرِ عليهم. وهذا استدلالٌ باطلٌ بينُ البطلان، فليست دماءُ وأموال وبلاد هذا المسلم المتولي المظاهر للكفار، بأولى بالحفظ والصيانة من دماء وأموال وديار المسلمِ المُظاهَرِ المعتدى عليه.
فالمُكره كما عرفه أهلُ العلم، هو من حُمِلَ على أمرٍ يكرهه ولا يرضاه مطلقا. ويكون للمُكرهِ حالان :
المسألة الأولى : مُكرهٌ ملجئٌ على أمرٍ لا حولَ ولا قُوةَ له فيه، ولا تتعلق به قُدرتُه واختيارُه، بلغ الإكراهُ حدَّ الإلجاء، فلا يصح ولا يمكن منه الترك. ومثاله مَنْ أُلقيَّ من شاهق على إنسان فقتله. فهذا لا خلاف في عدم تكليفه وصحةِ عُذره.
والثانية: مُكرهٌ غيرُ ملجئٍ، وهو مَن حُمِلَ على أمرٍ يكرهُهُ ولا يرضاه، ولكن له قدرةٌ واختيارٌ في الفعل أو الترك. وهذا الإكراهُ هو محلُ البحث، وفيه تفصيلٌ وتنوعٌ ومسائلٌ لا بُدَّ من مُراعاتِها والتدقيقِ فيها حتى يُبنى الحُكمُ الصحيحُ عليها.
المسألة الأولى: نوعُ الإكراه المبيح لملابسة الأمر المُكرَهِ عليه. ذكر أهل العلم أن الإكراهَ الذي قد يُعذرُ فيه المسلمُ هو الإكراهُ من قادر على تنفيذ وعيده بذهاب النفس أو تلف الأعضاء. وليس من ذلك التخويفُ، فالخوف ليس بعذر مبيح. قال تعالى: إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ )) .
وذمَّ الله المسارعين لطاعة الكفار خَشيةً منهم فقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)) .(/23)
قال ابن جرير: ’ فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمدُ الذين في قلوبهم مرضٌ وشكُّ إيمانٍ بنبوّتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك يُسارعون فيهم، يعني في اليهود والنصارى. ويعني بمسارعتهم فيه، مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم. يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة، يقول هؤلاء المنافقون، إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدوّنا.‘
فالخوفُ ليس بعُذر ولا إكراه معتبر صحيح، ومثله الإكراهُ أو التخويفُ بذهابِ الحظوظِ الدنيوية. من المال، أو المنصب والجاه، ونحوها. فهذا كله ليس بعذر في طاعة المُكْرهِ بفعلِ المُكْرَهِ عليه.
المسألة الثانية: هل الإكراهُ الحقيقي عذرٌ صحيح للقول والفعل، أم للقول فقط؟ أي هل الإكراه عذرٌ لقول الكفر ولفعل الكفر، أم للقول فقط دون الفعل. اختلف أهلُ العلم في ذلك، والأكثر أنه عذر للقول فقط، فمن أُكرِه على قول الكفر أُبيحَ له بشرط طُمأنينة القلب بالإيمان. وإن أُكرِهَ على فعل الكفر مثل السجود للصنم فلا يجوز له ذلك، حتى وإن ذهبت نفسه، مستدلين لذلك بسبب نزول الآية الكريمة (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
قال ابن كثير: ’ هو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك، وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن عادوا فعد). ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله ما تُركتُ حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: (إن عادوا فعد).‘
وذهب آخرون إلى أن المُكْرهَ معذورٌ في القول والفعل، ما كان الإكراهُ حقيقيا، والقلب مطمئنا بالإيمان، وهذا القول أرجح والله أعلم. فالله تعالى قال: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )).
فاطلق الكفر، والكفر يحصل بالاعتقاد وبالقول والفعل، والأول لا يُتصورُ فيه وقوع الإكراه، وأما القول والفعل فيُمكنُ الإكراهُ فيه، فيكون المُكرَهُ معذورا مادام قلبه مطمئنا بالإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ’ وأما إذا أكره الرجل على ذلك، بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه، أو أخذ ماله أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه، وهو المشهور عن أحمد وغيره, ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه، ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى، وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك!. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال: ويروى ذلك عن ابن عباس ونحوه، قالوا إنما التقية باللسان، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا، وإذا أكره على مثل ذلك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى: كان حسناً، مثل أن يكره كلمة الكفر وينوي معنى جائزاً والله أعلم.‘(/24)
وقال الإمام القرطبي في تفسيره: ’ الخامسة: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصريّ، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعيّ وسُحْنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير أُسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ. ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) . وفي رواية: ويُوتِر عليها، غير أنه لا يصلّى عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحاً في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يَدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلّماً به. فقصَر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفةٌ: الإكراهُ في الفعل والقول سواءٌ، إذا أسرَّ الإيمانَ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن مَنْ أُكرِهَ على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع.‘
المسألة الثالثة : باتفاقِ وإجماعِ أهل العلم، لا يجوزُ للمُكرَه أن يقتل نفسا معصومةً لاستنقاذ نفسه. فليست نفسُه بأولى من نفس غيره. فمن فعل أثم بفعله، واستحق العقوبة الشرعية الدنيوية المترتبة على فعله، واستحق الوعيدَ الأُخرويَ المتوعد به.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: ’ السادسة: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدامُ على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحلُّ له أن يَفْدِيَّ نفسَه بغيرِه، ويسألَ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة.‘
والصبرُ على الأذى - نُصرةً للدين، وغيضا للكفار والمنافقين، واحتسابا للأجر من رب العالمين - أفضلُ وأعظم درجة، في الغالب. قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )) .
وفي قراءةٍ: قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُون.
وفي صحيح ابن حبان: أخبرنا الفضلُ بنُ الحُبَابِ ، حَدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّار، حَدَّثنا سفيانُ، عن بيانِ بنِ بشر، عن قيسِ بنِ أبي حازم عن خبَّابِ بن الأرَتّ، قال: أَتَيْنا النبيَّ وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً في ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَد لَقِينا مِنَ المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَلا تَدْعُو اللَّهَ لنا، فَجَلَسَ مُغْضَباً مُحْمَرَّاً وَجْهُهُ، فقالَ: (إنَّ مَنْ كان قَبلَكُمْ ليُسْأَلُ الكلمةَ فما يُعطيها، فيُوضَعُ عليه المنشارُ، فَيُشَقَّ باثنينِ، ما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ وإنْ كانَ أحدهُمْ ليُمْشَطُ ما دونَ عِظامِهِ من لَحْمٍ أو عصبٍ بأمشاطِ الحَديد، وما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ، ولكنَّكُمْ تَعْجَلُونَ، ولَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هاذا الأمْرَ حتى يَسِيرَ الراكبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إلا اللَّهَ والذئبَ على غَنَمِهِ).
قال البغوي في تفسيره: ’ وأجمع العلماءُ على أن مَنْ أُكرِهَ على كلمةِ الكفر، يجوز له أن يقولَ بلسانه، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً، وإن أبى أن يقوله حتى يقتلَ كان أفضل.‘(/25)
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه: أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفة عين ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماةَ فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تُلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفسٌ تُعذَّبُ هذا العذابَ في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك: فقبل رأسي، وأنا أُطلقُك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم، فقبل رأسَه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
وخلاصةُ القول: أن الحكمَ بجواز استجابة المُكرَهِ للمُكرِه، وللأمر المُكرَهِ عليه، لا بُدَّ فيه من مراعاة أمور ثلاث، الأولى: قدرةُ المُكرِهِ على إيقاعِ الإكراه. الثانية: نوعُ الإكراه الذي سيوقعه المُكرِه. الثالثة: نوعُ الأمرِ الذي يطلبُ المُكرِهُ فعلَه.
فمن الإكراه ما يجوز فعلُه ولو كان الإكراهُ بالسوط والسوطين، ومنه ما لا يجوز ولو ذهبت الأنفسُ والأموال.
شبهة الديمقراطية
الديمقراطةُ، الدعوى التي أطلقتها أمريكا، وجعلت منها ذريعةً لحربها وغزوها لبلاد المسلمين. وأخفت خلفَها مقاصدها، وأهدافها الحقيقية، من هذه الحروب. فجعلت من دعوى تصدير الديمقراطية - بعد أن روجت لها بنفوذها السياسي والإعلامي والاقتصادي - وسيلةً لكسب التعاطف والتأييد لها من قبلِ شعبِها، وشعوبِ العالم، بل ومن قِبلِ شعوبِ تلك البلاد الاسلامية المنكوبة المحتلة.
فاستعانت بهذه الكذبة، دولٌ وحكوماتٌ، لتبرير تحالفها مع هذا العدوان والظلم أمام شعوبها. ودافعُهُ الحقيقيُ عند أغلبها الحقدُ والغل على الاسلام وأهله. والطمعُ والمشاركةُ في الغنيمة عند آخرين. والخوفُ من الضغوط الأمريكية العسكرية والاقتصادية والسياسية عند الباقين. فاستخفَوا جميعاً خلف هذه الكذبة الظاهرة، مظهرين الشفقة والإنسانية، مبطنين العداوة والهمجية.
وفَرِحَ بهذه الفِرْيةِ في ديار المسلمين، مَنْ كان يستخفي بنفاقه ولا يبديه، ومَنْ يبطنُ العقائدَ الباطلة المخالفة لما يقتضيه الاسلام من الاستسلام لأمر الله تعالى وأمر رسوله. مِنَ الذين يريدون لبلاد الاسلام أن تحيى حياةَ الغرب في كفره ومجونه وأخلاقه. وتعلق بها أيضا مَنْ أصابَ قلوبَهم الوهنُ والضعفُ والمرضُ لحبهم للدنيا وتعلقهم بها.
فروجوا جميعاً لهذه الدعوى، ونافحوا عنها، وتعللوا بها، في اعانتهم وتعاونهم مع الكفرة المعتدين. فدعوا إلى التسليم والاستسلام والكف عن القتال والجهاد. وهؤلاء قومٌ يقلبون الأمورَ، ويخلطون الباطل بالحق، ويزخرفون القول، ويستغلون ما يقعُ ببلاد الإسلام من الظلم والتعدي والانحراف المخالف للإسلام، لترويج باطلهم ودعوتهم. تماما كما أخبر الله تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )).
وقال تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ )) .
فسموا جيوشَ الكفرة النجسة جيوشَ تحريرٍ وحرية. وجيوشَ المرتدين والخونة جيوشَ الوطن وشُرَطَه. وسموا المجاهدين الأحرار الشرفاء إرهابيين ومجرمين، واستخفى واستحيا آخرون فسموهم مقاتلين ومسلحين.
قال البخاري في صحيحه: عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. وأخرج البزار من طريق عاصم عن أبي وائل، قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر، إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(/26)
وهذه الدعوى بينٌ عوارُها وزيفُها، لمَنْ آمنَ بالقرآن وصدق أخبارَه، فالله تعالى يقول فيه: (( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ )) .
وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْل?ـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْل?ـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) .
وقال تعالى: (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً)) .
وقال تعالى: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ )). قال ابن جرير: ’ يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتلِ مؤمنٍ لو قدورا عليه إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً. يقول: فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم. وأوُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.‘
والله تعالى ينهانا أن نطيعَهم ونرتضيَهم: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)) .
قال ابن جرير: ’ فتأويل الآية: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيُهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين، يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض.‘
وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )) .
قال القرطبي: ’ قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء.‘
وبينٌ بُطلانُها لكل من كان له عقلٌ يعقلُ به، أو بصرٌ يُبصرُ به، أو سمعٌ يسمعُ به. بعدَ أن رأى وسمِعَ العالمُ كُلُه القتلَ والتعذيب للأطفال والنساء والشيوخ والجرحى والأسرى. وشاهد كلَ هذا الهدم، والتدمير، والتخريب، للمدن والقرى والبيوت بأسلحة دمار ممنوعة، محرمةٍ على المسلمين، حلالٍ على الكفرة المعتدين. وما اشتهر مِنْ ما نهبوه وسرقوه من الثروات والأموال. وهذا قليلٌ ظهر وبان من همجيتهم وظلمهم وعدوانهم وما خفيَّ منه أعظم وأطم.
ويكذب دعاواهم ويفضح نواياهم حصارهم الظالم الذي منع الدواء والغذاء عن الأطفال حتى هلك منهم في العراق الآلاف. وهذه القنابل والمدافع والصواريخ والدبابات والطائرات التي تقتل وتهدم وتخرب وتحرق وتعيث في بلاد المسلمين ظلما وفسادا. حتى جاوز عددُ القتلى مئاتِ الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين العزل الآمنين في بيوتهم وأسواقهم.
ويكذب دعواهم تناقضُهم، فهم يرضون ويعينون ويحالفون من الحكامِ مَنْ سلَّمَ لهم كلَّ شيء، وجمعَ لهم بين محاربة الإسلام والتخلي عن أسباب القوة والمنعة. فمن شذَّ وخالفَ فسيشنون عليه الغارة تلو الغارة، وسيثيرون الفتن والاضطرابات ببلاده، معتذرين بصناعة الديمقراطية. فالخوف من الإسلام، دينا يعتقده المسلمون ويمتثلونه ويدعون إليه. ومن قوة عسكرية في بلاد المسلمين، ولو كانت محكومةً من ظالم أو كافر، تدفعهم لشن الحروب واحتلال البلاد، فهم لا يأمنون أن يتغيرَ ويتوب، أو يُغيرَّ ويُخلع.(/27)
ويكذب دعواهم خوفُهم الذي ظهر في فلتات ألسنةِ قادتهم، وصرَّحَ به رهبانُهم وذوو الشأن والأمر فيهم، من عودة المسلمين لقرآنهم وسنة نبيهم. فسعوا لمنعه بالتغريب والإفساد، والتمكين للمنافقين والعلمانيين لإشاعة الشبه والشهوات، عسى أن يصدوا المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم. فمن خلال الدعاية والتمكين والفرض بالقوة لنمط الحياة الغربية، خصوصا جانب الانحلال الخُلقي، والانهماك في الشهوات والملذات يحصل لهم ما يريدونه ويسعون له في بلاد المسلمين.
يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )).
فلم يبقى مصدقٌ لهذه الكذبة إلا من كانت عقيدتُهُ ومصلحته تدعوه إلى احتلال بلاد المسلمين، وإضعاف قوتها، ونهب ثرواتها، وإذلال أهلها. أو كان عنده هوىً وشهوةٌ في متابعة الغرب الكافر والتقليد له.
وليعلم المغرورُ الذي لا يزالُ مصدقاً لأكاذيبهم، مؤملاً ما منَّوه به، من رغد العيش، والأمن، والتطور والازدهار، أن ما سيأتون به من المفاسد العظيمة، التي تَمُسُّ الدين والأخلاق، تربو وترجح بالمصالح الدنيوية الموعودة المزعومة. وليعلم أنهم يأملون من خلال فرض منهج الحياة الغربية على المسلمين سلخَهم عن دينهم واعتقادهم، وما يوجبه الله عليهم من الدعوة إلى الدين الصحيح والجهاد حتى تكون كلمةُ الله العليا، وكلمةُ الشيطان وأحزابه السُفلى.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن – رحمه الله – في قوم زينوا حكم الكفار لبلاد المسلمين: (( وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال: إنه حصل بهم راحةٌ للناس، وعدمُ ظلم وتعدٍ على الحضر، وهذا الصنف أَضَلُّ القوم، وأعماهُم عن الهدى، واشدُهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتُقى. لأنه لا يعرف الراحة التي حصلت بالرسل وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة، والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة، في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له، وجهاد أعداء دينه وأعداء رسوله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة، في الدور الثلاث)).
هذه الديمقراطية التي زينوها وزخرفوها، ما حقيقتُها، وهل توافق الشرع المطهر أم تعارضه وتناقضه ؟
المؤمنُ حريصٌ على دينه، يَزِنُ ما يأتيه بالميزان الشرعي، فما وافق أو أباحه الشرعُ قبِلَه. وما خالف وحرَّمه الشرع رفضه ورده. لأن دينَه عزيزٌ عليه، مقدمٌ على كل شيء. فالمسلم لا يرضى الكفر أبدا، وأن يُلقى في النار أحبَّ إليه من أن يرتد كافرا. ولا يرضى ولا يُحسِّنُ ولا يُحللُ الحرامَ والإثم، حتى وإن غلبته نفسُه والشيطان فوقعَ في الحرام فهو يكره إثمَه وذنبَه، ويرجو سِترَ وعفوَ ربِه. فالفرقُ عندَه بين الوقوع في الحرام وبين تحليل وتزيين الحرام، هو الفرق بين المسلم المذنب الذي مآله إلى الجنة بعد العفو أو التمحيص، والمسلم المرتد الذي مصيره الخلود في النار.
الديمقراطية كما عرفها أهلُها: حكمُ الشعب، أو حكمُ الغالبية من الشعب. وهذا الحكم من الشعب يعني حقه في اختيار الحاكم، والنظام السياسي الحاكم للبلد، كما يشمل حقَ الشعب في اختيار القوانين والأنظمة والأحكام التي يتحاكم إليها ويعيش بها.
وتباينوا واختلفوا في حدود الحرية الفردية للأشخاص والأقليات، خوفا من استبداد الأكثرية. فمنهم مَنْ غلَّبَ الحريةَ الفردية للأشخاص ما لم تصل إلى حد الأذى الحسي للآخرين، فمن أراد أن يعبُدَّ الشيطانَ فهو حر في عبادته، ومَنْ أرادَ الِلواطَ فهو حر في ممارسته، وليس للآخرين أن يمنعوه من ما جعلوه حقا له. ومنهم مَنْ غلَّبَ مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية فربما منع بعض التصرفات الشخصية لمعارضتها لمصلحة الجماعة وضررها للمجتمع.
لكنَّ جميعَ هذه التعاريف والمفاهيم للديمقراطية تتفق في حق الشعوب في التصويت والاختيار للحاكم والنظام الذي يحكمُها وتتحاكمُ إليه، وتتفق أيضا في حق الشعب من خلال التصويت في سَنِّ الأنظمة والقوانين التي يختارُها ويرتضيها. فإن اختارت الأغلبية تجويز الزنا جاز، وإن اختارت تحريم ومنع الحجاب صار حراما ممنوعا.
وهذا الاعتقاد لا يصحُ أبداً من مسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا ورسولا. لا يصح أبدا أن يعتقد جواز وصحة القبول والرضا لما تختاره الأغلبية إن عارض الدين، كما لا يصح أن يمتنع عن الإنكار بيده أو لسانه أو قلبه حسب وسعه وقدرته لمنكر اختارته الأغلبية، وهذا أصل من أصول الدين، وهو من معاني العبودية والتسليم لله تعالى، والرضا بحكمه والتسليم لأمره.
قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )).(/28)
وقال تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )).
قال ابن كثير: ’ أي فليحذرْ وليخشَ مَن خالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً. أن تُصيبهم فتنة أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.‘
وقال ابن كثير ((وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. وعن عبد الله بن عمرو ، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يُؤْمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبَعاً لِما جئتُ به). قال النووي هذا حديث صحيح.‘
وقد حمل الظلمُ والطغيان الذي يمارسه الكثيرُ ممن وليَّ أمر المسلمين بعضَ الدعاة والعلماء إلى الدعوة للديمقراطية سبيلاً للخلاص من حكم الظلمة. ذلك لظنهم واطمئنانهم أن الغالبية في الشعوب المسلمة لن تختارَ لحكمها إلا مَنْ ترتضي دينَه وصلاحه وتقواه. وهذا ما حصل في الجزائر، حين فازت الأحزاب الإسلامية في انتخاباتها، وسيحصل لغيرها من بلاد المسلمين إن عُمل به. ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن الخلل العظيم الذي يصيب عقيدة المسلم حين يقبل ويرضى بالديمقراطية.
دارت مناظرةٌ بين داعية مسلمٍ يدعو إلى الديمقراطية, وعلماني يدعو إلى الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة. فيقول العلماني له: أتقبل لو نتج عن التصويت والانتخاب حاكمٌ كافر، أو قانونٌ يعارض الدين ؟ فأجاب المسلمُ: نعمْ. وهذه سقطةٌ عظيمةٌ ومخالفة كبيرة، أوقعه فيها التزامُه ما لا يلزم إلتزامُه. تماما كما أخطأ الأشاعرةُ من قبلُ في مسائلَ عَقَديةٍ حين التزموا مع المعتزلة إلتزامات لا يصح إلتزامها.
فالمؤمن لا يرضى بحكم الكافر له، أو أن يتحاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: (( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )).
وقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُو?اْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُو?اْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً)) .
فواجبٌ على المسلم التغييرُ أو الهِجرةُ من بلد يحكمها كافر أو تغلب فيها شعائر الكفر، إلا من استثناه وعذره الله تعالى من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وإن في شريعة الإسلام التامة الكاملة غنى ومندوحة، عن بعض العدل الذي تأتي به الديمقراطية ويستلزم أن يصاحبَه الكفر والباطل.
وخروجا من هذه المخالفة الصريحة للعقيدة الصحيحة، حصرَ بعضُ الدعاة الديمقراطيةَ في حق الشعب في اختيار الحاكم والأنظمة والقوانين التي لا تعارضُ الدين والشريعة، وتسير وفق ضوابطها وأصولها. فوقع في مصادمة أصول الديمقراطية، فتناقض معها, وجعل منها نظاما إسلاميا حصر تعيينَ الولاة والأمراء بطريق واحد وهو إختيار الأغلبية من الشعب. فهيأت هذه المخالفة لأصول الديمقراطية الغربية، للعلمانيين والليبرالين مدخلا وحجة يحتجون بها عليهم، فقالوا أنتم لا تستحقون الحكم من خلال الديمقراطية لأنكم تعارضون مبادئها وأصولها.
شبهة المصلحة والضرورة
اعتذر الذين خَذَلوا المسلمين، وخذَّلوا عنهم، والذين ظاهروا عليهم، عن فعلِهم المَشِين، دينا وخُلقا. فالدينُ ينهى ويحرِّمُ ذلك، والأخلاقُ والمرؤة والشهامة تأنف منه وتأباه. قال الشاعر:
إذاً لقام بِنَصْرِي معشرٌ خُشنٌ عندَ الحفيظةِ إنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشَّرُ أبدى ناجذَيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووُحْدانا
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهم في النائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرهَانَا
لَكِنَّ قَوْمِي وإِنْ كانوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ في شيءٍ وإن هَانَا
يجزُونَ مِن ظُلمِ أهلِ الظُلمِ مَغْفِرَةً ومن إِساءَةِ أَهلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
فقالوا هذا عدو يملك من الآلة العسكرية والعُدَّةِ والعِدَّةِ ما لا قِبَلَ لنا به، ويملك من القوة الاقتصادية والسياسية ما لا طاقة لنا عليه. وفي مواجهته وقتاله تعريضُ المسلمين للهلاك، وتعريضُ البلاد إلى المزيد من الدمار والخراب.(/29)
فالمصلحةُ العامة للإسلام والمسلمين, تقتضي عدمَ قتاله، أو حتى الاعتراض عليه، إبقاءً للبقية الباقية من بلاد المسلمين، بعيدة آمنة من سطوته وجبروته، فلا نُصرةَ للمسلمين والحال كذلك، بل ربما الاستجابة لتخويفه ومعاونته عليهم. فهذه مصلحة يجب مراعاتها وواقعة دعت الضرورةُ إليها.
هذا ما اعتذروا به !
فهل يستقيم لهم هذا العذر في الميزان الشرعي ؟
وهل يتوافق مع أقوال أهل العلم، وما عرفوا به المصلحة المرعية والضرورة الملجئة ؟
هذا ما أستعين الله تعالى لبيانه وتوضيحه، مبتدئا بتعريف المصلحة والضرورة، ثم ما يجوز مراعاته منها وما لا يجوز، ووجه معارضة هذه المصلحة والضرورة للشرع الحنيف، ثم النظر في حقيقة هذه المصلحة، مستشهدا بالنصوص البينات وما قاله أهلُ العلم والذكر الراسخون.
المصلحة هي: الوصفُ الذي يُظَنُّ في ترتيب الحكم عليه جلبُ منفعة للناس، أو درءُ مفسدة. فإذا شهد الشارع لها واعتبرها صارت مصلحة حقيقية شرعية، وإذا شهد الشارع بإلغائها وعدم اعتبارها صارت مصلحة متوهمة، هي مفسدة في الحقيقة، أو الأمر الذي هو ضِدُها أصلحُ منها. ومصلحة لم يتطرق لها الشارع باعتبار ولا إلغاء.
فمن المصلحة التي شهد الشارع لاعتبارها مصلحةُ صلاح المجتمع بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصلحةُ التآلف والمحبة بين المسلمين بأداء النصرة والنصيحة والتعاون وإفشاء السلام، فهذه مصالح أعتبرها الشارع وأمر بها.
ومصلحةٌ شهد الشارع لإلغائها، لأنها في الحقيقة والنظر الصحيح مفسدةٌ لا مصلحة. فالسلامة من القتل بترك الجهاد مصلحة مظنونة ملغاة بقوله تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )).
وهي مفسدة في الحقيقة، قال القرطبي: ’ قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه, كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار, فاستولى العدوُّ على البلاد، وأيَّ بلاد ؟ وأَسَر وقتَل وسبَى واسترقَّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدَّمتْ أيدينا وكسبته.‘
وكذلك ترك النهي عن المنكر، لأجل حُسن الخلق والتأليف والاجتماع، مصلحةٌ مظنونةٌ ملغاة لقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي? إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) . وللأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحذرت أهمالَه وتضييعه. فالحقيقة أنها مفسدةٌ تؤول بالمجتمع إلى الفساد والضلال.
ومصلحة لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء، وهي ما يسميه أهل العلم والأصول، المصالح المرسلة، والتي هي محل النظر والاجتهاد، من قبل أهل العلم الراسخ والنظر الصحيح، مثل كتابة المصحف وجمع الناس على حرف واحد، ومهادنة الكفار بل ودفع المال لهم ليكفوا، حال ضعف المسلمين وقوة الكفار. هذه المصلحة الجمهور لا يعتبرها حجةً ودليلا صحيحا، والمالكية وكثيرٌ من الحنابلة والمحققون يعتبرها حجة ودليلا، إذا بُنيت على الأصول والقواعد الشرعية المرعية، لأن الله تعالى كما أخبر عن نفسه ودينه قد أكمل الدين وارتضاه لنا، وأتم علينا النعمة بتمامه وصلاحه، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً)) .
فليس خيرٌ إلا وقد دلت الشريعة عليه، إما بالنص عليه عيناً، وإما استنباطا من الأصوال والقواعد التي دلت عليها النصوص. ثم شددوا لاعتبارها خوفا من تسلط الأهواء والشهوات، فاشترطوا لاعتبار مثل هذه المصلحة أن تكون متحققة لا مظنونة، كلية لجميع المسلمين لا جزئية، دينية لا دنيوية.
هذا التأصيل والتفصيل في المصالح يضع هذه المصلحة المظنونة المزعومة التي يترتب عليها خِذلانُ المسلمين - وأعظم منه المظاهرةُ عليهم - في صف المصالح الملغاة. ذلك بسبب معارضتها للنصوص الصحيحة الصريحة، ولإجماع المسلمين، في وجوب نصرة المسلمين، وتحريم خِذلانهم، أو مظاهرة الكفار عليهم، بل رتبت النصوص الإثم العظيم على الخِذلانِ والتسليم، وجعلت المظاهرَ عليهم معدودا في الكفار قد تبرأَ اللهُ تعالى منه.
فلا يُقبلُ - والحال هذه - من أحدٍ الاعتذارُ بهذه المصلحة الملغاة، ومن فعله فهو مخالف لإجماع واتفاق أهل العلم، مقدم لرأيه وعقله على أمر الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنَّ فَتحَ هذا الباب هو التعطيلُ العظيمُ لشرع الله تعالى. فلكل صاحب هوىً وشهوةٍ ونفاقٍ ورأيٍ سقيمٍ أَنْ يزعمَ المصلحةَ فيما يظنه ويراه، فيُعطلَ الأحكامَ، ويُغيِّرَ ويُبدِّلَ الشرعَ.(/30)
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في روضة الناظر: ’ الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح وهو اتباع المصلحة المرسلة، والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة, وهي ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع، القسم الثاني ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على المَلِك، إذ العتق سهل عليه، فلا ينزجر, والكفارة وضعت للزجر, فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص. وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع. الثالث: ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين.‘
وقال الرازي في المحصول: ’ أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها، ما شهد الشرع باعتباره .. وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه، مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أُنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة، قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته. واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عُرِفَ ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.‘
فتبين أن هذه المصلحةَ المزعومةَ مصلحةٌ ملغاةٌ لمعارضتها النصوص القطعية والإجماع. وهي أيضا مضنونة لغيرهم برأيه أن يعتبرها مفسدة لا مصلحة. فالتعاون مع الكفرة المعتدين يعينهم في تنفيذ وتحقيق أهدافهم الخبيثة في بلاد المسلمين، وسيجرئهم لغزو وحرب من لا يعطيهم كلَّ ما يريدونه. وحربُه ومقاومتُه وإلحاقُ القتل والضرر بجنده وعتاده سيصدُه بإذن الله تعالى عن المضيِّ قُدُماً في ظلمه وبغيه، وسيُخرجُه إن شاء الله تعالى صاغرا مهزوما من بلاد المسلمين.
أما الضرورة فهي الحالة التي تجيز للمسلم فعل المحظور عند خشيته هلاك نفسه أو تلف أعضائه أو لحوق العنت العظيم به، مثل أكل الميتة لدفع مفسدة الموت بسبب عدم توفر الطعام الحلال، أو شرب الخمر لدفع الغصة المهلكة، أو التلفظ بكلمة الكفر لدفع القتل والضرر العظيم على النفس. فالذي يجيز فعل الحرام والمحظور الضروريات، وليست الحاجيات ولا التحسينيات.
فالضرورة تدفع وتزال، لكنها لا تزال بضرر مثله، أو أعظم منه. فدفعها له ضوابط وقواعد، فلا يجوز - باتفاق أهل العلم - دفعُ الضرر عن النفس بإيقاع مثله على النفس المعصومة الأُخرى، مثل أن يَقْتُلَ النفسَ المعصومة، أو يُعينَ على قتلها، لبقاءِ نفسه، فليست نفسه أولى من نفس الآخر. كما لا يجوز دفع الضرر بضرر أعظم منه، وضررُ الفتنة في الدين وعلو الكفار واستيلاءهم على بلاد المسلمين أعظمُ من فتنة فوات الأنفس والأموال بجهاد وجلاد الكفار. قال ابن جرير: ’ والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل.‘
قال جُندبُ بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: ’ عليكم بالقرآن فإنه نورٌ في الليل وهدىً في النهار، فاعملوا به على ما كان من فقرٍ وفاقة، فإن عَرضَ بلاءٌ فقدم مالَكَ دونَ نفسِك، فإن تجاوز البلاءُ، فقدم نفسَكَ دونَ دينِك، فإن المحروب من حُرِبَ دينُهُ، والمسلوبَ مَنْ سُلبَ دينُهُ، وإنه لا فاقةَ بعدَ الجنة، ولا غِنَا بعد النار، إنَّ النارَ لا يستغني فقيرُها، ولا يُفكُ أسيرُها.‘
فالمجاهد يتربص أحدى الحسنين، والبلاء بنقص الأنفس والأموال أمرٌ كتبَهُ اللهُ تعالى ليتبيَّنَ الصادقونَ الموقنون، الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، الذين ما زادَهم ما أصابهم إلا إيماناً وتسليما. ويتبيَّنَ الكاذبون المرتابون، الذين يقولون ما وعدَنَا اللهُ ورسولُه إلا غرورا، الذين يتربصون الفريقين، فإن كان فتحٌ للمؤمنين قالوا ألم نكن معكم، وإن كانت الدائرةُ للكافرين قالوا ألم نُخذلْ ونمنعْ المسلمين عنكم.
قال الله تعالى: ((إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) .
وقال تعالى: (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) .
وقال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا? إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) .(/31)
وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ)) .
فالآياتُ الدالةُ على وجوبِ الصبرِ والجهادِ وتقديمِ الآخرةِ على الدُنيا أكثرُ من أن تُحْصى. فما أبعدَ مَنْ جعلَ مِنْ مجاهدةِ الكفار وقتالهم ضرورةً تُبيحُ تسليمَ البلاد والعباد لهم، حتى تقعَ الفتنةُ بهم وبحكمهم وبكفرهم. ما أبعدَه عن الفقه والدين، وإنْ زعمَ حِرصَهُ على دماءِ المسلمين وأموالهم. زَعْمٌ يُكذبُه الشرُ والفسادُ الذي سيوقعُهم فيه، ويَفْضَحُهُ مخالفتُه للنصوص والإجماع. وكثيرٌ من أصحابِ هذه الدعوى، هم كما قيل: المسُ مسُ أرنب، والريحُ ريحُ ثعلب.
فالمنافقون من قبلُ قد قالوا، كما أخبرنا الله تعالى عنهم: (( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) . والكفار اليوم يألمون من هذا الجهاد ويُقتلون ويُكلمون، يرميهم الله تعالى ويقتلهم بأيدي من اصطفى من عباده، ولولا قتالُ الروافض والمنافقين والخونة معهم لما قرَّ لهم بديار المسلمين قرار، وهم أيضا يدفعون ثمنَ هذا القتال اموالاً عظيمةً، ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُو?اْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) .
قال شيخ الإسلام: (( مسألةُ التَتَرُّسِ التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهادَ هو دفعُ فتنةِ الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يُفضي إلى قتلِ أولئك المُتَتَرسِ بهم جازَ ذلك‘. فانظر- رحمك الله - كيف أجاز أهل العلم، الذين يعرفون المصالح والمفاسد، للمجاهد أن يُباشرَ قتلَ المسلم إذا تَتَرَّسَ به الكفار. واليوم يحرمون ويمنعون - وهم قليلٌ ولله الحمد لكنْ الدعاية لهم ولباطلهم كثرتهم - الجهادَ خشية أن يَقتُلَ الكفارُ المسلمين، أو أن يَقتُلَ المجاهدون الكفار والمرتدين.
وما أحسن ما قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن محرضاً المسلمين للجهاد: (( فاحذروا غاية الحذر من سطوة الله تعالى، فحقيقة الدين هي المعاملة، وسبيلُ اليقين هي الطريقة الفاضلة، ومن حرم التوفيق فقد عظمت مصيبته، واشتدت هلكته، وأنتم تعلمون معاشر المسلمين أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يُصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الرأي الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق دينارا كُتب بسبعمائة، وفي رواية بسبعمائة ألف دينار. وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خُضْرٍ تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يُغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كُرب الموت، ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة. وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضلُ من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تُبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، إلى غير ذلك من فضائل الجهاد، التي ثبتت في نصوص السنة والكتاب.
فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرُتب، ومساعدة القائم بها، والانضمام والانتظام في سلكه، فتربحوا بذلك تجارة الآخرة، وتسلموا على دينكم.‘
فرحمه الله تعالى، فكلامُه يصدقه ويفرح به المؤمن، لأنه مأخوذٌّ من كلام رب العالمين، وقول نبيه الصادق الأمين. ويَهُزُ منه المنافقُ والمرتابُ رأسَه ويقول غرَّ هؤلاء دينُهم. قال تعالى: ((أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُو?اْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)) .(/32)
وقال تعالى: (( انطَلِقُو?اْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُو?اْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)) .
وقال تعالى: (( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ))
وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُو?اْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُو?اْ إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) .
وقال تعالى: (( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)) .
شبهة وجوب الراية للجهاد
شرعَ اللهُ تعالى الجهادَ، وفرضَهُ على المسلمين، وهو كما أخبر تعالى عنه كُرْهٌ لَّكُمْ. لكنَّ خيرَه الكثير للناس مقدمٌ بتقديم الله له على الكُره الذي يلحق بسببه. فمتى قام به مَنْ يكفي سقطَ الإثمُ عن الباقين، وإذا ضُيِّعَ وتُرِكَ، أو قام به من لا يكفي، وقعَ الإثمُ على جميع المتخلفين القادرين.
قال تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) .
وقال تعالى: (( انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) .
قال ابن كثير: (( وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة: كهولاً وشباباً ما أسمعُ اللهَ عذر أحدا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل. وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية (( انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ)) .
فقال أرى ربنا يستنفزنا شيوخاً وشباناً جهزوني يا بني، فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات. فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها. وهكذا رُويَّ عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، قالوا كهولاً وشباناً وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرُ واحد. وقال مجاهد شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، يقول انفروا نشاطاً وغير نشاط.‘
وروى الإمامُ أحمد ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله: (مَنْ ماتَ ولمْ يَغْزُ ولمْ يُحدِّثْ به نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ منْ نفاقٍ).
والكفاية التي تُسقط الإثم عن المسلمين هي كما قال ابن قدامة: (( أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو قد يكونوا أعدوا أنفسهم له تبرعا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم )) .
فتحقيقُ الكفايةِ واجبٌ على إمام المسلمين خصوصا، وعلى المسلمين عموما. فرضٌ عليهم أن يُحصِّلَوا القوةَ العسكرية من جُندٍ وسلاح، مستفرغين جهدهم ووسعهم، مقدمين له على ما سواه من الحاجيات والتحسينات.
ذلك أن الله تعالى أمرنا بذلك وحرضنا عليه، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، التي لا تخفى على العاقل البصير، للمسلمين خصوصا وللناس أجمعين. ولأن الكفارَ أعداءٌ للمسلمين، لا يزالون يقاتلونهم حتى يردوهم عن دينهم، بُغضا وعداوة للحق وأهله، وطمعا في ثروات المسلمين وأموالهم وديارهم، وخوفا من اجتماع كلمتهم وتوحدهم وقوتهم.
وبالتفريط والتضييع في تحقيق الكفاية الإثم والذنب العظيم، قال تعالى: (( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).(/33)
قال ابن جرير: (( يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول: يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله. ولا تَضُرُّوه شَيْئا يقول: ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللَّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير)) .
وقال تعالى: (( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) .
قال ابن جرير: ( يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك، وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه. فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردَّدوَن يقول: في شكهم متحيرون، وفي ظلمة الحيرة مترددون، لا يعرفون حقًّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين ) .
وفي سننِ أبي داوود عن ابنِ عُمَرَ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إذَا تَبَايَعْتُمْ بالْعِينَةِ وَأخَذْتُمْ أذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُم)).
وفي ترك الجهاد علوٌ للكفار، وذلٌ للمسلمين، وهذه هي الفتنة والكفر والشرك. قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) . قال ابن جرير: (( فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ولا يُعبد إلاَّ الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لله يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره )) .
فَهُم متى ظهروا على المسلمين غيروا الدين بالقوة والإكراه حينا، وبالدعاية للباطل وتزيينه والإغراء به بالأموال والتولية والتمكين حينا.
فلو لم يكن الشرعُ قد دلَّ على تقديم تحقيق الكفاية العسكرية على تحقيق الحاجيات والتحسينات المعيشية لكان العقلُ الصحيح والنظرُ السليم دالاً وآمراً به. إذ الدين والنفس والعرض والمال والعقل، معرضٌ لبطش وسطوة الكفرة الحاقدين، الذي لن يرعى صغيرا ولا كبيرا، ولا امرأة ولا ضعيفا. وكلُ ما عُمِّر وشِّيدَ معرضٌ للتدمير والتحريق والتخريب، الذي لن يُبقيَّ قريةً ولا دارا ولا زرعا.
فمن العجب أن يوافقَهم ويرددَ قولَهم بعضُ المسلمين، في تحريمهم أسباب القوة على المسلمين، وجعلِهم أسلحة الدمار والفتك حكرا عليهم، يتسلطون بها ظلما على البلاد والعباد، وينشرون الفتنة والفساد.
هذا الركن العظيم والقطب المتين، له أحكامٌ وقواعد وضوابط، فمَن نجاهد ونقاتل ؟ ومتى نقاتل ونسالم ؟ وكيف نقاتل ونعاهد ونواثق ؟ وما الذي نغنم وكيف يُقسم ؟ وكيف نتعامل مع المحاربين والمعاهدين والأسرى والمستأمنين ؟
كل ذلك قد ذكره وبينه الله تعالى في كتابه العزيز، وبينه وجلاه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته وسيرته، وفصَّلَ ودقَّقَ وحقَّقَ فيه أهلُ العلمِ الراسخون فقهاً واستباطا وقياسا من النصوص . فمن ذلك أنهم حكموا وأوجبوا الجهاد عيناً على كل مسلم في حالات ثلاث:
الأولى : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، يحرُمُ على من حضر من أهل الجهاد - وهم الذكور الأحرار المكلفون المستطيعون لسلامة أبدانهم - الانصرافُ والفرار، قال تعالى: ((يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ)).
الثانية: إذا نزلَ الكفارُ ببلدٍ، تعيَّنَ على أهله قتالُه ودفعُه، قال المرداوي في الإنصاف: ( تنبيه: مفهوم قوله: أو حضر العدوُ بلدَه، أنه لا يلزم البعيد، وهو صحيح، إلا أن تدعوَ حاجةٌ لحضوره، كعدم كفاية الحاضرين للعدو، فيتعين أيضا على البعيد) .
الثالث : إذا استنفر الإمامُ قوماً للقتال، لزِمَهُم النفير، لعظيم حق الإمام، قال تعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)).(/34)
وفي صحيح البخاري عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: ( قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة، وإذا استُنِفرتم فانفِروا).
والحالُ اليومَ أن الكفارَ قد غزوا وأخذوا واحتلوا بلادَ المسلمين، وانتزعوها من أهلها، في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها، سواءٌ كانت تلك البلادُ محكومةً قبلَ احتلالها من منافقٍ كافر، أو مبتدعٍ ظالم، أو مسلمٍ صالح. فهذه البلاد والمدن والقرى مسلمةٌ بأهلِها، قد نزل بساحتها العدوُ الكافر، والذي يسعى لتمكين المنافقين المرتدين فيها ليحققوا له كلَّ أطماعِه ومصالحه، وليحكموا المسلمين بالطاغوت وليشيعوا بينهم الكفر والفتنة والضلال والفساد. فكان عيناً على أهلها الجهادُ والصبر عليه، حتى يأتيَّ النصرُ والفتح من الله تعالى، أو يعذروا بالقتل أو الأسر.
أو يبلغوا حداً من الضعف والقلة لا يستطيعون معه حرباً ولا غارة ولا نكاية. فلهم حينئذٍ – وهم أعلم بحالهم ممن يأخذ أخبارهم من عدوهم - أن ينحازوا إلى فئةٍ مسلمةٍ إن وجدوا لهم نصيرا ومعينا من المسلمين. فإن لم يجدوا نصيرا، كان الإثمُ على مَنْ أسلمهم، ووجبت الهجرةُ عليهم فرارا بدينهم من فتنة الكفار، فإن لم يجدوا بلدا مسلما يقبلُهم، عُذِرُوا، وكان الإثمُ على مَنْ منعهم الهجرة وصدهم عن بلاد المسلمين.
قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْو?اْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً)) .
فهل يُشترطُ للجهادِ - والحالة هذه - إمامٌ يجتمعُ الناسُ عليه، ورايةٌ يعقدُها، يُجَاهدُ تحت إمرتها وتوجيهها. هذا ما اشترطه اليوم مَنْ اعتمدَ في فتواه على أخبارٍ وأنباءٍ يأتيه بها فسقةٌ وظلمة ومنافقون. فتصورَ الأمرَ بخلاف حقيقته، واللهُ تعالى نهانا أن نقبلَ النبأَ من الفاسقِ، فكيف بالمنافق والكافر.
وانظرْ إلى الكفارِ في حربهم وهم لا يألون جهداً ولا حيلةً لإخفاء حقيقة ما يخسرونه من الأرواح الخبيثة والأبدان النجسة والعُدةِ والسلاح. وكيف يتسابق الفسقة والمنافقون، لإظهار قتلى وخسائر المسلمين، والتستر على مكاسبهم ومغانمهم، يفعلونه لإضعاف همم المسلمين وللإرجاف والتخويف. قال تعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو?اْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)).
واشترط الرايةَ آخرون لا يفقهون، ولا يدرون أنهم لا يفقهون. فوقعوا جميعا في أمور:
الأولى : أنهم لم يفرقوا بينَ جهادِ الطلب وجهادِ الدفع. بينَ جهادٍ يغزو فيه المسلمون الكفار، وجهادٍ يدفعون به الكفارَ عن بلادهم، وهذا تفريقٌ قد أجمع عليه المسلمون. فجهادُ الدفعِ فرضُ عين باتفاقهم لا يُستأذنُ فيه، ولا يُتخلفُ عنه، أما الآخر فهو فرض على الكفايه، ويكون فرضُ عينٍ على من استنفره الإمام أو حضر الصف، هذا التفريق دليله الإجماع والنصوص، والنظر الصحيح للمقاصد الشرعية.
وكلا الجهادين أمرُه موكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويلْزَمُ طاعتُه، فإن عُدمَ الإمام - وهذا يتصور حال غزو الكفار لبلاد المسلمين وقتلهم لإمامهم - وجبَ تنصيبُ إمام حسَبَ الاستطاعة، وإلا نَصَّبَ كلُ بلد أو جماعة أميرا عليهم، يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه. قال شمس الدين ابن قدامه في الشرح الكبير: (( فإن عُدم الإمام، لم يؤخر الجهاد، لأن مصلحته تفوت بتأخيره)). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (( ويقال: بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين)) .
وقال ما معناه: (( أن القولَ باشتراط الإمام للجهاد، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد، يلزمُ منه مخالفةُ أمر الله وذلك بالوقوع في ترك الجهاد وحصول الموالاة للكفار. فلما كان ما يلزم من هذا الشرط باطلا، دلَّ على أن الشرط باطل ) )، وذمَّ وسفَّه وبدَّع صاحب هذا القول. فكيف لو سمعهم يشترطونه في جهاد الدفع، ويلزم مِن شرطِهم الغريب العجيب ذهابُ بلاد الإسلام واستيلاء الكفار عليها، ووقوع الفتنةِ بهم وبباطلهم.
الثانية : ما يُدريهم أن يكونَ لهم إمامٌ أو أمير، قد اقتضت مصلحة الجهاد إخفاءَ اسمِه، وعدمَ ظهوره. بل الظاهر أن لهم في العراق وأفغانستان وغيرها قيادة، ولديهم تنظيم وتنسيق. وهذا حَسْبَ جهدهم واستطاعتهم حين لم ينصرهم إمامٌ من المسلمين فينحازوا إليه ويقاتلوا معه.(/35)
الثالثة : أن علماءَ المسلمين في تلك البلاد، وهم أعلمُ بواقع حالهم، أفتوا بوجوب الجهاد والمقاومة والمجالدة، لهذا الكافر المحتل، حتى يُخْرُجَ - بإذن الله تعالى - مهزوما صاغرا من بلاد المسلمين. أفتوا بذلك وجازفوا بأرواحهم الطيبة نُصرةً للحق، وغيرةً على الإسلام وأهلِه، فللهِ دَرُّهُمْ، وأُشهدُ اللهَ على حبِهم، وأسألُه ثباتَهم وحِفْظَهم. وأذكرهم بما رواه ابنُ الجوزي في كتابه مناقب الإمام أحمد الشيباني البغدادي قال: (( أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أحمد بن أبي سعد النيسابوري، قال: سمعت عبد الله بن يوسف يقول: سمعت أبا العباس الأصم يقول: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت الأنباري يقول: لما حُمل أحمدُ بن حنبل إلى المأمون أُخبرت، فعبرت الفُرات فإذا هو جالسٌ في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر تعنَّيت, فقلت: ليس هذا عناء، وقلت له: يا هذا، أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليُجيبنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلق الله، وإن أنت لم تُجبْ ليمتنعنَّ خلقٌ من الناس، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتُلك فإنك تموت، ولا بُدَّ من الموت، فاتَّقِ اللهَ ولا تُجبهم إلى شيءٍ ، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله، ثم قال لي أحمد: يا أبا جعفر أعِد عليَّ ما قُلتَ. فأعدت عليه، فجعل يقول ما شاء الله ما شاء الله )) .
فإن كان هذا موقفَ علماء الرافدين، فكيف يجرؤ هذا المُخذِلُ على مثلِ هذا القول ؟ الذي سرَّ وأسعدَ الكفار، واستظهروا به لإضعاف المسلمين وتفريق كلمتهم وشق صفهم. قد والله ركِبَ أصحابُ هذا الباطل شططا، وما قالوا قصدا ولا وسطا، ووقعوا في المظاهرة والمعاونة على المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
سُئل الإمام أحمد عن الرجل يقول: أنا لا أغزو ويأخذه ولدُ العباس، إنما يوفَّرُ الفئُ عليهم – يريد أن الغنيمة تذهب لهم – فقال: سبحان الله، هؤلاء قوم سوءٍ، هؤلاء القَعَدةُ، مثبطون جُهال، فيقال: أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الإسلام ؟ ما كانت تصنع الروم ؟
فكيف يقول إمامُ بغداد والدنيا في زمانه – رضي الله عنه - لو سمع مقالتهم اليوم، لا تقاتلوا الكفار وسلموا لهم الديار وارضوا بالمهانة والصغار، والفتنة والارتداد ! حتى يخرج إمام تقاتلون خلف رايته الكفار. ما أشبه مقالتهم بمقالة الروافض، حين قالوا لا قتال ولا جهاد حتى يَخرُجَ الإمامُ المهديُ المنتظر.
قال ابن قدامة في المقنع: (( ولا يجوز الغزو إلا بإذن الإمير، إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلَبَهُ )).
فقال شمس الدين في شرحه: (( إذا جاء العدو لزم جميع الناس، ممن هو من أهل القتال، الخروج إليهم .. إذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الإمير، لأن أمرَ الحرب موكولٌ إليه، وهو أعلمُ بكثرة العدو وقلتهم، ومكامنهم وكيدهم. فينبغي أن يُرجعَ إلى رأيه، لأنه أحوطُ للمسلمين، إلا أن يتعذَّرَ استئذانُه لمفاجأة عدوهم، فلا يجب استئذانُه حينئذ. لأن المصلحةَ تتعين في قتالهم والخروج إليهم، لتعين الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لِقاح النبي صلى اله عليه وسلم، فصادفهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خارجا من المدينة، تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع).‘
وقال المرداوى معلقا ومحققا للمذهب: (( هذا المذهبُ، ونصَّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب .. وقال المصنف في المغني يجوز – الجهاد دون إذن الإمام - إذا حصل للمسلمين فرصة يُخاف فوتُها)).
فلا خلافَ عندَ العُلماءِ في جوازِ بل وجوبِ الجهاد، إذا تعذَّرَ وجودُ أو نصبُ الإمام، إذا فجأهم العدو وأخذَ بلادَهم. وإنما الخلاف في جواز غزو بلاد الكفار المحاربين دون إذنه. والصحيح والمذهب عدم جواز غزوهم دون إذنه وتحت رايته، لما في ذلك من المفاسد التي قد تلحق بالمسلمين نتيجةً لهذا الغزو. فالإمام أعلم بقوة المسلمين وقدرتهم على قتال الكفار، وأعلم بقوة العدو وضعفه، فكان الإفتئاتُ عليه مضرةً ومجازفة بأرواح المسلمين وأعراضهم وديارهم.
الخاتمة
الحمدُ للهِ وحدَه، صدَقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه. أَخْتُمُ هذا الكتاب، ومعركةٌ ضروسٌ تدور بمدينة المساجد الفلوجة المجاهدة الأبية. تدور بين فئةٍ مؤمنة صادقة، قليلٌ أعدادها وعتادها، كثيرٌ صدقها وجلادها. وأحزابٍ كافرةٍ ظالمة، كثيرٌ أعدادها وعتادها، قليلٌ صِدقُها وجِلادُها. معركةٌ سيليها - بإذن الله تعالى - معاركٌ ومعارك، حتى يأتيَّ نصر الله تعالى.
ألا إنَّ نصرَه قريب، قد جعله حقا عليه للمؤمنين الصابرين الموقنين، ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ)).(/36)
وعَدَ اللهُ جلَّ جلالُه - ووعده الحق - النصرَ والتثبيت مَنْ نصره، قال تعالى : ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)).
ومَنْ نصره اللهُ تعالى فلا غالبَ له، ولو أجتمع عليه من بأقطارها، فابشروا بنصر الله، واصبروا حتى يحكُمَ الله، وتوكلوا على الله وحسبكم الله، وكفى بالله حسيبا. قال تعالى : إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
قال ابن جرير: (( إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه، والكافرين به، فلا غالب لكم من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم، وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم)).
فإن كان الله تعالى - وهو الحكيم الخبير - جعلَ هذا اليومَ تمحيصاً واتخاذاً للشهداء، فجعل الدائرةَ لهم. فإن الله تعالى قد عزى وسلى أهلَ أُحدٍ من قبلُ بآيات محكمات، هن عزاءٌ لهم، ولكلِ مجاهدٍ سلك طريقهم وأصابه ما أصابهم. قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاٌّرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى? أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَئاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) .
وقد سمِعَ ورأى المسلمون في الجزيرة والشام ومصر والسودان والمغربِ والمشرقِ قليلاً - مِنْ ما أخفوه وتواصوا بكتمه - مِنْ بأسِكم وصدقِكم ونكايتكم بعدوكم. ففرحوا ببشائر نصركم، ودعوا الله لكم، وتمنوا لو كانوا معكم، واستغفروا الله تقصيرَهم وقِلةَ حيلتِهم. فبحمد الله قد أصبتم وأثخنتم فيهم، وملأتم قلوبهم رعبا وفرقا، وقلوب المؤمنين عزة وعزما وإقداما.(/37)
وكما وعدَ اللهُ تعالى مَنْ نصرَه النصرَ والتمكين، فقد توعَّدَ من تولى وأعرضَ، وبدل وغيَّرَ، وألقى بنفسه إلى التهلكة ببُخلِه بنفسه وماله عن ما فرضه اللهُ عليه من الجهاد والقتال. قال ابن جرير: ’ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدوّ فيحمل عليهم وإنما هو وحده، أيكون ممن قال: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ ... حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفين لم أرَ صفين قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدوّ، فقال الناس: مَهْ لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة. قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يُبلي من نفسه إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. إنا لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيًّا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله الخبر من السماء: وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.‘
وحين سمع المسلمون يوم مؤته وهم ثلاثة الآف بعدة جيش الروم مئتي الف مقاتل، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ’ والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون، الشهادة. وما نقاتل العدو بعدة ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين.‘
توعد الله هؤلاء أن يبدلَّ نعمتَه عليهم نقمةً وعذابا، قال تعالى : ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ )).
وقال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)) .
ثم يختار الله ويصطفي من الناس، فيأتي بقوم غيرَهم، يؤمنون ويجاهدون لا يخافون لومة لائم. قال تعالى:((وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُو?اْ أَمْثَالَكُم)).
وقال تعالى: ((ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)).
اللهم أنصر أهل الفلوجة والعراق والمجاهدين من المسلمين في كل مكان. اللهم أنصرهم وثبتهم، وأنزل السكينة والنصر والمدد عليهم، اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد والإيمان والتقوى، ووحد صفوفهم وسدد رأيهم وضربهم ورميهم.
اللهم واشدد وطأتك على عدوك وعدوهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واقتلهم وعذبهم بأيدي عبادك المؤمنين. اللهم وأقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/38)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله وليِ المؤمنين، الناصرِ لجُندِه المجاهدين، الموفيِ بعهدهِ لعبادهِ الموقنين، المُنْزِلِ السكينةَ على عبادهِ المقاتلين، المُمْدِدِ بالملائكةِ المُسَوِّمين، المستجيبِ لاستغاثةِ المستغيثين، الهازمِ للكفرةِ المتحزبين، القاصمِ لرقابِ الجبابرةِ المستكبرين، الفاضحِ للمنافقين المرجفين. ثم الصلاة والسلام على نبيه محمدٍ الهادي إلى النور المبين، والصراط المستقيم، المُرسَلِ رحمةً للعالمين، وبالكتاب الحكيم، ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ومن الشرك والشك إلى التوحيد واليقين، أيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألقى الرعب في قلب عدوه القريب والبعيد. جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتدعوهم إلى الخير والنعيم.
أمةٌ بُغضُها وعداوتُها وقتالُها في الله ولله، تُجاهدُ مَنْ حادَّ وكفر باللهَ، وكذب وعصى رسوله، مِن الذين سلكوا سُبلَ الشيطان وأعرضوا عن سبيل الرحمن. تصبر وتصابر لأجله ممتثلةً أمرَ ربها، مطيعةً أمرَ رسولها، وتحقيقاً للعبودية والاستسلام الواجب عليها لله تعالى، وجلباً للمصالحِ العظيمة، والآثار الحميدة، ودرءً للمفاسد الكبيرة، والآثار الوخيمة. أمةٌ محبتها وولائها، وبُغضها وبرائتها، تبعا لمحبة الله تعالى وبغضه. والله تعالى أخبر أنه يحب المؤمنين ويتولاهم، وأنه يبغض الكافرين ويبرأ منهم.
أفتستقيم وتصح المحبة لله تعالى والعبد يحب من عاداه ومن آذاه؟ قد كذَّبَ اللهُ هذه الدعوى وردها، قال تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (المجادلة :22 ) .
وفي صحيح البخاري عنْ أَنسٍ رضيَ اللّه تعالى عنه قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار)).
وفي السُنن حدثنا مُسَدَّدٌ أخبرنا خَالِدُ بنُ عَبْدِ الله أخبرنا يَزِيدُ بنُ أبِي زِيَادٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ رَجُلٍ عنْ أبِي ذَرٍّ قالَ قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أفْضَلُ الأعْمَالِ الْحُبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله)).
وروي عن البراء قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((أَوْثَقُ عُرَى الإِسْلاَم الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ)).
وقيل شعرا:
تَوَدُّ عدوي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنني صَدِيقُكَ ليسَ النَوكُ عَنْكَ بِعازِبِ
فالحب في الله، والبغض في الله، هو من الدين الذي أمر الله به، وهو التولي للمسلمين، والبراءةُ من الكافرين. محبةٌ وتولٍ لها ضوابطها وقواعدها، وبغضٌ وبراءةٌ له أصول وشروط، تحقق العدل والخير وتمنع الظلم والشر. منَّ اللهُ تعالى على المسلمين فأصبحوا بنعمته إخوانا متحابين متعاونين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وحذرنا الفتنة العظيمة في الأرض والفساد الكبير متى ما اختلفنا وتفرقنا وتحزبنا وتدابرنا، قال تعالى: ((وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (الأنفال : 46) .
وقال تعالى: ((وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )) (الأنفال : 73) .
وأخبرنا الله تعالى - وقوله الحق - أن الكفار بعضهم أولياء بعض في عداوتهم وحربهم للإسلام وأهله، وأنهم يودون لو نكفر كما كفروا، وأنهم لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا، وأنهم لا يرضون عنا حتى نكفرَ بالله تعالى ونتبعَ ملتَهم وباطلهم.
هذه حقائقٌ، لا يجوز للمسلم أن يشك فيها، أو يتردد في تصديقها والإيمان بها، لأن الله تعالى هو الذي أخبرنا بها، وأمرنا الإيمانَ والتصديق بها، ولا ينقض هذه الحقيقة الكلية العامة ما يُظهرُه بعضُهم من التعاطف مع المسلمين، فكثيرٌ منه سببه عدم قناعتهم بأسلوب القتال والاعتداء طريقا لتغيير المسلمين لدينهم. وبعضهم مداهنة لمن داهنهم من المسلمين قال تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)) (القلم : 9).(/1)
واليوم ونحن نرى ما أخبرنا به رسولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحقق ويُشاهد من تداعي الكفار على المسلمين تماما كما تتداعى الأكلة على قصعتها. روى أحمد وأبو داوود، عن ثَوْبَانَ قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعى عَليْكُم كَمَا تَدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءُ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)).
حُبٌ للدنيا أشغلنا وعلقنا بها، حتى ألهت وأنست - وهي المنغصُ عيشُها، المُكدرُ نعيمُها، الفانيةُ حياتُها، الغَرورُ متاعُها – عن آخرةٍ خالدين فيها أبدا، إمَّا في جنةٍ لا يزول نعيمُها ولا تنقطع لذتُها، أو نارٍ لا يُقضى على أهلها ولا يُخففُ من عذابها. حُبٌ أضعف النفوس والقلوب، فتركت الجهاد والقتال، واشتغلت بالزرع والمال، وتفرقت واختلفت وتحاسدت، حتى أسلمَ البعضُ البعضَ الآخر للعدو الغاشم، عساه يرضى عنها فيكف بأسه وشره، ويُمْهِلُها قليلاً لتلهو مزيداً وتلعب.
عدوٌ ظالمٌ كافر، تسلط بسبب ذنوبنا علينا. فالمصيبة تصيبنا من الله بسبب كسبنا وتفريطنا، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )) ( الشورى : 30) .
عدوٌ لنْ يرضى عنا أفراداً ودولاً حتى نتبع ملته وفكره ومنهجه، أو ننسلخ من ديننا ونترك شريعتنا وملتنا. وهذه طامةٌ، القتلُ أهونُ منها، قال تعالى: ((وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)) (البقرة : 191) .
الفتنة الكفر بالله، قال ابن جرير في تفسيره: ((وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا عليه محقّا فيه)).
استولت الجيوش الكافرة النجسة على كثير من بلاد الإسلام، آخرها أفعانستان والعراق، تحت دعاوى باطلة ودعايات مضللة، يخفون وراءها الغلَ والحقد الذي ملأ قلوبَهم على هذا الدين العظيم. فأسرع إليهم المنافقون، والذين في قلوبهم مرضٌ، مصدقين ومروجين لكذبهم وإفكهم. فصاروا صفا معهم وجندا لهم، وجعلوا من جيوش الكفرة الملحدين مخلصةً للمسلمين، من ظلم الظالمين، وطغيان المتكبرين. فصدَقَ فيهم قول الشاعر:
والمُستَجيرُ بعمروٍ عند كُربتهِ كالمُستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ
فراعني تصديقُ بعضِ المسلمين هذا الإفك المبين والمكر العظيم. فمكرُهم مكرٌ كبيرٌ، تزول من هوله الجبالُ الراسيات. قال تعالى: ((وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)) (إبراهيم : 46) .
وقال تعالى: ((وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً)) ( نوح : 22) .
بُطلان هذه الدعوى الكاذبة ظاهرٌ بينٌ للعقلاء والمؤمنين. لأنها تخالف وتناقض ما تدل عليه الآيات المحكمات، والسنن الصحيحات، من عداوة الكفار وبغضهم للمسلمين، وهذا كافٍ للمؤمنين. ثم لأنها تتعارض مع الحقائق والوقائع والآثار والنتائج التي سمعها وشاهدها الناسُ نتيجةً لهذه الحروب. فالمسلم بفطرته الصحيحة، والناسُ باختلاف شعوبهم ودياناتهم، يمجدون ويفتخرون بمن ذبَّ وقاتل، دون بلده وأهله وماله، ويخونون ويحقرون من تعاون مع المحتلين والمعتدين.
ومع ظهور زيف هذه الدعوى، فقد انبرى فريقٌ يتظاهر بالعلم والدين، بالدعوة إلى خِذلان المسلمين، وتسليمِهم لظلمِ وفتنةِ الكفرةِ المُلحدين، فنهوا عن مناصرة المجاهدين، وعن الذبِّ عن حرمات المسلمين، فقالوا لإخوانهم المجاهدين لو أطاعونا ما قتلوا وما ماتوا. وتجاوز آخرون، حتى تعدوا الخذلان إلى مظاهرة الكفار على المسلمين، جهلا منهم وغرورا، فثبطوا المجاهدين، وأرجفوا بصفوف المقاتلين، فحرَّمُوا ما أوجبَهُ الله تعالى من جهاد الكفار، وأوجَبُوا ما حرَّمَهُ الله تعالى من التسليم والانقياد للكفرة والمنافقين المرتدين.
جمعَ هؤلاء المفتونون، لتبرير هذا الفعل القبيح، والجرم العظيم، ما ظنوه دليلا يستترون به من الفسق والظلم والكفر والنفاق. فلبسوا به على الناس بعد أن زخرفوه، وأعانهم على التضليل كثرةُ الدعايةِ والترديدِ والتزيين. فوجد قبولا وتصديقا عند بعض الناس لموافقته للهوى، وداعي السلامة مِن ما يوجبُه الجهادُ من التضحية وبذل النفس والمال.(/2)
فرأيت حقاً لازماً، لمن أوجبَ اللهُ تعالى عليَّ محبتَهم ونصرتهم، أن أكتب هذا الكتاب، فمهدت ببيان ما أوجبه الله تعالى للمسلمين من الولاية، وللكفار من البراءة. ثم شرعتُ بالردِ على شبهاتٍ ستٍ واهيات، هن شبهة الوفاء بالعهود والمواثيق، وقصة الصحابي حاطب رضي الله عنه، والإكراه، والديمقراطية، والمصلحة والضرورة, واشتراط الراية.
وهي حجج كما وصفها الشاعر:
حججٌ تهافت كالزجاجِ تخالهُا حقاً وكلٌ كاسرٌ مكسورُ
وسميته، الانتصار لأهل الفلوجة والجهاد، لأن الفلوجة أصبحت علما ورمزا للعزة والجهاد، وأهلها أهلٌ لقول الشاعر:
سأَغسِلُ عَنِّي العارَ بالسيف جالباً عليَّ قضاءَ اللهِ ما كان جَالبا
وأذْهَلُ عَنْ دارِي وأَجعَلُ هَدْمَها لِعِرْضِيَ مِنْ باقِي المَذَمَّةِ حَاجِبَا
ويَصْغُرُ في عَيْني تِلادِي إِذا انْثَنَتْ يمَينِي بإدْراكِ الذي كُنْتُ طَالِبَا
فإِنْ تَهدِمُوا بالغَدْرِ دَارِي فإنها تُراثُ كَرِيمٍ لا يُبَالِي العَوَاقِبَا
أَخِي عَزَماتٍ لا يُرِيدُ عَلَى الَّذي يَهِمُ بهِ مِنْ مَقْطَعِ الأَمْرِ صَاحِبا
وقول الراجز:
لا جزعَ اليومَ على قُربِ الأجلْ الموتُ أحلى عندنا من العسلْ
والنصرُ في العراق نصرٌ على رأس الكفر وعاموده. وأردته مساهمةً أعتذر بها يوم ألقى ربي، ومناصرةً حسب جَهدي وحيلتي، لأخواني المجاهدين في سبيل الله تعالى، في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، عسى الله تعالى أن يعفو ويصفح ويجزي ويرفع.
واللهَ أسألُ أن أكونَ بذلك نلت سهما مع المجاهدين، الذين يجاهدون لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السُفلى، الذين رفعهم الله على القاعدين درجات.
التولي والمحبة للمسلمين :
المؤمن أخٌ وولي للمؤمن، لا يكمل إيمانُه حتى يحبَ لأخيه ما يحبُه لنفسه، والولي كما قال أهلُ العربية: الصديق والنصير، وهو التابع المحب. والولي ضد العدو، والوَلاية النُصرة، والموالاة المناصرة ضد المعاداة.
قال الله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) ( التوبة : 71) .
وقال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) ( المائدة : 55).
فللمسلمِ حقٌ واجبٌ على أخيه المسلم، أن يتولاه وينصره ويحبه، وأن لا يخذله أو يظلمه أو يسلمه لعدوه. حقٌ أوجبه الله تعالى وفرضه وأكده، دلت عليه الآياتُ البينات، والسننُ الصحيحات، وأمثلته المهاجرون والأنصار، حتى آثروا على أنفسِهم ولو كان بهم خصاصة. فكانوا جميعا متآلفين متحابين متعاونين متناصرين، فملكوا الدنيا، ونشروا الخير، ورفعوا كلمةَ الله، حتى صارت هي العليا، وكلمةُ الذين كفروا السفلى.
فمن الآياتِ الكريمات الآمرة، والمقررة، والدالة، والموجهة، لهذا التآخي والتآلف والمحبة بين المسلمين:
قولُه تعالى: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) ( آل عمران : 103) .
وقوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) ( الأنفال : 63) .
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (الحجرات : 10) .
وقوله تعالى: ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) ( الفتح : 29) .
وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) ( المائدة : 54) .
ومن الأحاديثِ الصحيحات، والسننِ الهاديات، ما في الصحيحين:(/3)
عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى رضيَ اللهُ عنه عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعضاً، وشَبَّكَ بينَ أصابعِه)).
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ. إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وعن قَتادةَ عن أنَسٍ رضي اللَّهُ عنهُ عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأًّخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
وعنْ أبي قِلابَةَ عنْ أَنسٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمان: أَنْ يَكونَ اللَّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلاّ لله، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّار)) .
وفي صحيح البخاري: عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ سالِماً أخبرَهُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أخبرَهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظلمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسلمٍ كُربَةً فرَّجَ الله عنهُ كُربةً من كُرباتِ يومِ القيامةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِماً سَترَهُ اللهُ يومَ القيامة)).
وفيه حدَّثَنا مُسدَّدٌ حدَّثَنا مُعتمِرٌ عن حُمَيدٍ عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انصُرْ أخاكَ ظالِماً أو مَظلوماً، قالوا: يا رسولَ الله، هذا ننصُرهُ مَظلوماً، فكيفَ ننصُرهُ ظالِماً؟ قال: تأخُذُ فوقَ يدَيهِ)).
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((إِنَّ اللّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي. الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي. يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي)).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا. وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَينَكُمْ)).
وروى الترمذي - وقال حديث حسن صحيح - حَدَّثنا أَحْمَدُ بنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا كَثِيرُ بنُ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بنُ بُرْقَانَ أَخْبَرنَا حَبِيبُ بنُ أَبي مَرْزُوقٍ عن عَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ، عن أَبي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثني مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((قال الله عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ في جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ)).
وفي مسند الإمام أحمد حدّثنا عبد الله حدَّثني أبي حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب حدثنا عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري جمع قومه فعلمهم صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال : ((احفظوا تكبيري وتعلّموا ركوعي وسجودي فإنها صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان يصلي لنا كذا الساعة من النهار، ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قضى صلاته أقبل إلى الناس بوجهه فقال: (يا أَيُّها النَّاسُ اسْمَعُوا واعْقِلُوا، واعْلَمُوا أَنَّ لله عزّ وجلّ عِبَاداً لَيْسُوا انْبِيَاءَ ولا شُهَدَاء، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ والشُّهَدَاءُ عَلى مَنَازِلِهِمْ وقُرْبِهِمْ مِنَ الله )) . فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا، فَسُّرَ وجُه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ ونَوَازِعِ القَبَائِلِ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا في الله وتَصَافُوا، يَضَعُ الله لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الذينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون )) .(/4)
جاء فضيل إلى أبي إسحاق السبيعي بعدما كف بصره، فقال تعرفني؟ قال: فضيل؟ قال: نعم. فضمه الى صدره وقال إني والله أُحبك، ولولا الحياء لقبلتك، ثم قال حدثني أبو الأحوص عن عبد الله : ((لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال : 63) نزلت في المتحابين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ’ فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين. وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان، ونهى عن موالاة الكفارة، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين.‘
قال ابن المقفع: ’ إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة، أو نُزولِ بليةٍ، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمواساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار.‘
قال الشاعر:
إنَّ أخاكَ الصِدق مَنْ يَسْعَى مَعكْ ومَنْ يضُرُّ نفسَه لينفعَكْ
ومَنْ إذا ريبُ الزمان صدَّعك شتتَ شملَ نفسَه ليجْمَعكْ
الظلمُ والخِذلانُ للمسلمين
نهى اللهُ تعالى عبادَه المسلمين أشدَ النهي، وحذرهم، وأوعدهم من ظلم الناس مطلقا، ومن الظلمِ والخذلان لإخوانهم المسلمين خاصة. فالله تعالى أرادهم وأمرهم أن يكونوا إخوةً متحابين متناصرين. فمحبةُ الله تعالى تقتضى من العبد المحبةَ لكل ما يحبه اللهُ تعالى، والرضا عن كل ما يرضاه.
والله يحب المؤمنين، ويرضى ويتولى المسلمين، فوجب على العبد المسلم أن يحب ما أحبه الله ويتولى من تولاه. وقد جاءت النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة، محرضة وآمرة بذلك، وناهية ومحذرة من ضده.
ظلمُ المسلمِ للمسلم، منه ما يلتحق بصغائر الذنوب، ومنه ما يلتحق بكبائر الذنوب، ومنه ما يُخرجُ من المِلة، ويوقع في الكفر والنفاق. وقد شدد الشارع الحكيم في حقوق الناس عموما، وحقوق المسلمين خصوصا، فحقوقُ العباد - كما قال أهلُ العلم - مبنيةٌ على المشاحَّة، وحقوقُ الله تعالى مبنيةٌ على المسامحة.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهَ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَاذَا، وَقَذَفَ هَاذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَاذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَاذَا، وَضَرَبَ هَاذَا. فَيُعْطَى هَاذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَاذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ. أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ. ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن كانت لهُ مَظلمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شيءٍ فليَتحلَّلْهُ منهُ اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا دِرهمٌ، إن كانَ لهُ عملٌ صالِحٌ أُخِذَ منهُ بقدْرِ مَظلمتِه، وإن لم تكنْ لهُ حَسناتٌ أُخِذَ من سيِّئات صاحبِه فحُمِلَ عليه)).
فكان ظلمُ العبدِ لنفسِه بظلمِه للعباد، أشدَ من ظلمه لنفسه، في تقصيره بحق الله تعالى - إلا الشرك بالله والتضييعَ للأركان - من جهة ما يترتب على هذا الظلم من الحساب والعقاب، لا من جهة قبح هذا الظلم وعظمته في نفسه. وأيُ ظلمٍ للمسلم أعظمُ، من أن يُعينَ عليه مَن يفتنُه في دينه، ويستحلُ دمَه وماله وأرضه وعرضه.
اللهُ جلَّ جلالُه يقول في كتابه العزيز: ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ))(الأحزاب : 58) .
قرأها ابنُ عمر رضي الله عنهما فقال:(فكيف إذا أُوذيَّ بالمعروف،فذلك يُضاعفُ له العذاب ). يريد كيف إذا أُذيَّ لفعله المعروف، وهل الجهاد إلا من أعظم المعروف، قال قتادةُ رحمه الله في قوله تعالى: ( فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)) إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له.
وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (الحجرات : 11) .
قال ابن جرير في تفسيره: قال : ((وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، فجعلَ اللامزَ أخاه لامزاً نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضُهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير.‘(/5)
وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )) (النور : 19) .
وأعظمُ منهم من أراد وأحب أن يظهر الكفار على المسلمين، فيفتنوهم عن دينهم ويغلبوهم على ديارهم وأموالهم.
وقال تعالى: (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) (النساء : 93) .
قال ابن كثير: ’وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان :(( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً )) (الفرقان : 68) .
وقال تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (الأنعام : 151).
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) .
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يزال المؤمن مُعنِقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح)) .
وفي حديث آخر : (( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) .
وفي الحديث الآخر: ((من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله)) .
ومن الأحاديث الصحيحات التي تعظِّمُ حقَ المسلم على أخيه المسلم، وتنهى عن ظلمه وخذلانه، ما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَكُونُوا،عِبَادَ اللّهِ إِخْوَاناً. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).
وفيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)).
وما في الصحيحين: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((سِبابُ المُسْلمِ فُسوقٌ وَقِتالُه كُفْر)).
وفيهما عن نَافِعِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((إذَا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَاذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ)).(/6)
وفي صحيح البخاري: حدّثنا أبو اليمانِ أخبرَنا شُعيبٌ عنِ الزهري قال: حدثني عوفُ بن مالك ابن الطفيل هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشةَ زوج النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّها أن عائشةَ حُدثت أن عبدَ اللّه بن الزبيرِ قال في بيعٍ أو عَطاءٍ أعطَتْهُ عائشة: واللّهِ لتنتهينَّ عائشةُ أو لأحجُرَنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا ؟ قالوا: نعم، قالت: هو للّه عليَّ نَذْرٌ أن لا أُكلمَ ابنَ الزبيرِ أبداً. فاستَشفعَ ابنُ الزبير إليها حين طالتِ الهجرة، فقالت: لا واللّهِ لا أُشفِّعُ فيه أبداً ولا أتحنَّثُ إلى نَذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلمَ المِسْوَرَ بن مَخرمةَ وعبدِ الرحمن بنَ الأسودِ بن عبدِ يَغوثَ - وهما من بني زُهرةَ - وقال لهما: أنشدُكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحلُّ لها أَن تَنذرَ قَطيعتي. فأقبلَ به المِسورُ وعبدُ الرحمن مُشتملَين بأردِيَتهما حتى استأذنا على عائشةَ فقالا: السلامُ عليك ورحمة اللّه وبركاته، أندخُلُ ؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلنا ؟ قالت: نعم ادخُلوا كلُّكم - ولا تعلمُ أنَّ معهما ابنَ الزبير - فلما دَخلوا دخلَ ابن الزبير الحجابَ فاعتنقَ عائشةَ وطَفِقَ يُناشِدُها ويبكي، وطَفقَ المسوَرُ وعبدُ الرحمنُ يُناشدانها إلا ما كلمته وقبِلْت منه، ويقولان: إن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عما قد علمتِ من الهجرة، فإنه لا يَحل لمسلم أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفِقت تذكِّرُهما وتبكي وتقول: إني نذرتُ، والنَّذرُ شديد. فلم يَزالا بها حتى كلمت ابنَ الزبير. وأعتقَتْ في نَذرِها ذلك أربعينَ رقبةً. وكانت تذكرُ نَذرَها بعدَ ذلك فتبكي حتى تَبُلَّ دموعُها خِمارَها.
وفي الصحيحين: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ. يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هاذَا وَيُعْرِضُ هاذَا. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)).
وروى أحمدُ وأبو داود عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ)) .
وعن أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةَ فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)).
وفي الصحيحين: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ. حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ. فإنَّ ذلك يَحْزِنَهُ)).
وفي صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمرَ رضيَ الله عنهما : ((أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أيما رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)).
وعند مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِيْنَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((أَيُّمَا امْرىٍء قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا. إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ. وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ)).
وفي الصحيحين: عن أَبي هُرَيْرَةَ َقَالَ: َقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ. فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ. فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)).
وفي رواية عند مسلم عَنِ ابْنِ سِيرِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ. حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)).
وفي مسند الإمام أحمد، حدثنا عبد الله، ثنا أبي، ثنا حسن بن موسى قال: ثنا زهير، ثنا عمارة بن غزّية، عن يحيى بن راشد قال: خرجنا حجاجاً عشرة من أهل الشام حتى أتيتنا مكة، فذكر الحديث قال: فأتيناه فخرج إلينا - يعني ابن عمر - فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بِالدينَارِ وَالدرْهَمِ، وَلاكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيئَاتِ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ سَقَاهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ، وَلَيْسَ بِخَارِجٍ)).(/7)
وإن الطامةَ العظيمةَ، والهلاكَ المبين، أن يُظاهرَ ويعينَ المسلمُ الكافرَ على إخوانه المسلمين قولاً أو فعلا. وجمهورُ أهلِ العلم يحكُمون بكفرِ المظاهرِ، والمعينِ، للكفار على المسلمين، دون أن يشترطوا محبةَ قلبهِ للكفار، ولدينهم. وحكى الإجماعَ ابنُ حزم وابنُ باز وغيرُهم من العلماء.
قال ابن حزم - رحمه الله - في المحلى: وصح أنَّ قول الله تعالى: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) (المائدة : 51).
إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين‘. وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: ( وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم. )
ووافق الإمامُ محمد بن عبد الوهاب الجمهورَ، فعدَّ مظاهرةَ الكفار، ومعاونتهم على المسلمين، من نواقض الإسلام. والتي لا يُعذر فيها خائفٌ ولا مستهزئٌ، إلا المُكره المطمئن قلبُه بالإيمان.
وأهل السنة والجماعة متفقون أن الإيمانَ قولٌ وعمل ونية. وكذلك الكفر يكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد. ويكون سببه التكذيبُ، أو الجحود، أو الكِبرُ، أو الإعراض، أو حُبُ الدنيا وتقديمُها على الآخرة. وليس كلُ حبٍ للدنيا كفرا، ولكنْ الحبُ الذي يصل بصاحبه لقولِ أو فعلِ الكفر. كمن سبَّ الدينَ، أو انتقص الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا اعتقادا ولكن لأجل مال يُعطاه.
قال تعالى: ((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) (النحل : 106-107) .
قال شيخ الإسلام: (ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا أن لا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل.
وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعة ويدفع عنه مضرة. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ)) (المائدة :51 -53) .
والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يُغْلَبَ أهلُ الإسلام، فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم, لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون، وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود. فقال عبد الله بن أبي: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية.‘
وقال الإمام ابن القيم: وقال:((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )) (محمد : 25- 26)
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في سورة المائدة أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار قوله: ((يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) .(/8)
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (المائدة : 51) .
وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلىِ فساد العقل والدين فقال : ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)) (المائدة : 52) .
ثمِ أخبر عن حبوط أعمال متوليهم، ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال تعالى: (( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ )) (المائدة : 53).
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائهم أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) (الممتحنة : 1-2) .
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرئوا ممن ليس علىِ دينهم امتثالاً لأمر اللّه، وإيثاراً لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً)) (الممتحنة : 4) .
وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفارَ أولياء من دون المؤمنين، وحذرَهُ نفسه أشد التحذير، فقال:(( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)) ( آل عمران : 28) .
فالحاصل : أن مَنْ أعانَ الكفارَ طمعاً أو خوفا، فهو منهم، حكمُه حكمُهم، في الدنيا والآخرة، على القول الراجح الذي عليه الجمهور.
لكنْ الجزمُ بالإجماع يتعذر القول به لأن بعضاً من أهل العلم اشترط لتكفير المظاهر أن يجتمع مع مظاهرته ومعاونته محبته للكفار ولدينهم.
وقد أنكر الإمام أحمد الإجماع الذي هو عدم العلم بالمخالف. وقال شيخ الإسلام: ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا، فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين. ))
وكذلك يمنعُ القطعَ والجزمَ بكفرِ المُظاهرِ، الاختلافُ في حد الإكراه، وما يُبيحه الإكراه. فالله تعالى قد عذر المُكرهَ بالاتفاق قال تعالى : (( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)). قال ابن جرير: ( لما تقدم الخطاب في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) ( المائدة : 51) .
كأنهم أخذوا بعمومه حتى أنكروا على من كان له عذر في ذلك فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك، وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان، ثم رخص فيه لمن أكره على ذلك.‘ وسيأتي - إن شاء الله تعالى - مزيدُ بحثٍ لهذه المسألة عند بحث شبهة الإكراه.
وخلاصة القول :
أن ظاهرَ النصوص الكثيرة، والذي رجحه الجمهورُ، أن المظاهرةَ، والمعاونةَ، الصريحةَ للكفار على المسلمين، دُونَ إكراهٍ، كفرٌ، ونِفاقٌ، وردةٌ، عن الدين. أما كونُ هذا الفعل كبيرة وذنبا عظيما قبيحا، فأمرٌ مجمعٌ عليه. لو لم تدل عليه النصوص الكثيرة لدلَّ عليه العقل والفطر السليمة.(/9)
والواجبُ الحذر، وعدمُ المسارعة في تكفيرِ معينٍ أو جماعةٍ، لابست ووقعت في هذا الجُرم. وذلك لوجود شبهة الإكراه وإن كانت ضعيفة، ولعدم تحقق الإجماع الثابت بيقين.
في الصحيحين: عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ. فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا، أَصْلَحَكَ اللّهُ، بِحَدِيثٍ يَنْفَعُ اللّهُ بِهِ، سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللّهِ فَبَايَعْنَاهُ. فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قَالَ: (إلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ).
زاد الإمام أحمد: (وأَنْ نَقولَ بالحقِّ حيثُ ما كُنَّا لا نَخَافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ). وكذلك فعل - رحمه الله تعالى- فقال بالحق: أن القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق. وتحمل لأجل الحق الضربَ، والسجنَ، والأذى، حمايةً للدين من التبديل والتحريف. ونهى الناس عن الخروج على الإمام القائل بخلق القرآن - الذي دعا لهذا الكفر وفتن الناس حتى يقولوه - لوجود الشبهة، وللمفاسد، والاختلاف، والاقتتال بين المسلمين، الذي يقع بسبب الخروج عليه.
قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا، ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه. فناظرهم وقال: عليكم الإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ برٌّ، ويُستراحَ من فاجر.
البراءةُ من الكفارِ وبغضُهم لكُفرِهم
البراءةُ هي التنزهُ والتباعد والتخلص، تقول العرب نحن منك البراء والخلاء. وتكون بمعنى الإعذار والإنذار، ومنه قوله تعالى: (( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ )) ( التوبة : 1) .
وهذه البراءةُ والبغضُ الواجبُ على المسلم نحو الكافر، أمرٌ أوجبه اللهُ تعالى في كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وله ضوابطٌ وقواعدٌ تمنعه أن يكون ظلما وبغيا، وتجعله لمن تأمله رحمةً للكافرين. فبالجهاد دخلت أممٌ في الإسلام فنجوا بذلك من النار، وبالجهادِ تخلصت أممٌ من الظلم والطغيان، ومن التضليل والصد عن الحق، فوصلت إليهم الدعوةُ بينةً واضحة، فمن ضلَّ منهم من بعدُ, ضلَّ عن بينةٍ وعصبية وتقليد، ومن اهتدى منهم اهتدى باختياره ورضاه دون إكراه وإلزام.
وفي الأمر ببغضهم، وعدمِ إكرامِهم وتقريبهم وتصديرهم، مصلحةٌ للمسلم، بتحقيقه العبودية لله تعالى، فلا يجتمعُ في قلبه محبةُ الله تعالى ومحبة عدوه. وفيه أيضا لمَِن فقِهَ مقاصد الشارع مصلحةٌ للكافر، فيعرف ويعلم أن نقصَه وصغاره عند المسلمين سببُه كفرُه بالله العظيم، لا للونه ولا لجنسه ولا لشيء آخر. فيكون ذلك سبباً يحركه للسؤال والعلم والإيمان.
ولا يمنع هذا البغضُ الديني للكافر أن يجتمعَ معه البرُ والإحسان والعطف، إذا كان الكافرُ قريبا، أو زوجة، أو ذا وُدٍّ وإحسانٍ للمسلمين. فالكتابية العفيفة الحُرة تَحِلُ زوجةً للمسلم، ويكون بينهما المودة والرحمة، قال تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُو?اْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) ( الروم : 21) .
فلها في قلب زوجها مودةٌ ورحمةٌ سببه الزواج، وبغضٌ وكُرهٌ للكفر والشرك الذي فيها. فإذا تعارض الأمران، قُدم البغض الديني على المحبة الدنيوية. قال ابن حجر في بلوغ المرام: ( عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، تَشْتِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَعُ فِيْهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلاَ تَنْتَهِيْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخَذَ المِعْوَلَ، فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَلاَ اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)(1)..
قد دلَّ على وجوب هذه البراءة والعداوة، الآياتُ البينات، التي تأمر وتصف المؤمنين بذلك، وتحذرهم ضده من الموالاة لهم والمحبة والمظاهرة، وتنهاهم عن الطاعة والركون والمودة، وعن اتخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، وتخوفُهم مغبَّةَ ذلك عليهم في الدنيا والآخرة، وتَسِمُ من فعله بالنفاق، وأنه معدودٌ من الكفار، وأنه ليس من الله في شيء.
__________
(1) - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوَاتُهْ ثِقَاتٌ(/10)
منها قوله تعالى : (( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ )) ( الممتحنة : 1) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ )) ( الممتحنة : 13) .
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) ( التوبة : 23) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )) ( المائدة : 57) .
وقوله تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) ( المجادلة : 22) .
وقوله تعالى: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآ أَنْتُمْ أُوْلا?ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُو?اْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) ( آل عمران : 118-120)
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ)) ( آل عمران : 100) .
وقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناًً)) ( النساء : 144) .
وآياتٌ تَسِمُ المنافقين وتصفهم بتولي ومحبةِ الكافرين، ومظاهرتهم على المسلمين. بغضا للدين والإسلام والمسلمين عند قوم، وهذا الكفر الصريح، والدرك الأسفل من النار. وخوفا ومحبة للدنيا عند آخرين، وحب الدنيا وتقديمها على الآخرة قد يُوصل صاحبَه إلى الكفر. قال تعالى: (( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) ( النحل : 106-107) .
فالكفرُ كفرٌ سببه الكِبرُ والعلو، ككفر إبليسَ وفرعونَ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الجحود والتقليد والتعظيم للسادة والإباء، ككفر قريشٍ ومن شابههم. وكفرٌ سببه الإعراضُ والجهل، ككفر عبدةِ الأضرحة والقبور يسمعون القرآن والسنة والنذير من العلماء والدعاة، فيعرضون عن التعلم والتفقه والسؤال. وكفرٌ سببه تقديمُ الدنيا على الآخرة، فيعتقد أو يعمل أو يقول الكفر ليتزوج كافرةً أعجبته، أو ليكسب جاها ومالا.(/11)
قد ملكَ حُبُ الدنيا قلبَه، فكان إلهه هواه. قال تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ )) ( الجاثية : 23) .
وقال تعالى: (( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)) ( الشورى : 20).
هذا الحبُ والاغترارُ بدار الغُرورِ، أنسى صاحبَه الآخرة، والجنة والنار، ككفر الذي آتاه اللهُ الآياتِ، والعلمَ، والبينات، فانسلخ منها واتبع الشيطان. قال تعالى: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ )) ( الأعراف : 175) .
قال ابن جرير في تفسيره: ( عن ابن عباس قال: لما نزل موسى عليه السلام يعني بالجبارين ومن معه. أتاه - يعني بلعم - بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه قال: إني إن دعوت اللهَ أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه اللهُ مما كان عليه، فذلك قوله: (( فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)) ‘. وقال أيضا:
( اختلف أهل التأويل فيه فقيل رجل من بني إسرائيل اسمه بلعم أو بلعام، وقيل هو أمية بن أبي الصلت ).
ومنها قوله تعالى: (( بَشرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً)) (النساء :138 -139) .
وقوله تعالى: (( يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ منكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـ?ؤُلا?ءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ)) ( المائدة : 51-53) .
وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَْمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ )) (محمد : 25-26).
وقوله تعالى: (( تَرَى كَثِيراً منْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً منْهُمْ فَاسِقُونَ )). ( المائدة80- 81)
قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين، وقال غيره بني إسرائيل، والعبرةُ - كما قال أهل التفسير - بعموم اللفظ لا خصوص السبب. فلكلِ مَنْ أتصف بتولي الكافرين نصيبٌ من هذا الذم والوعيد.
قال ابن كثير:( وقوله: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم، ولهذا قال: أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فسر بذلك ما ذمهم به، ثم أخبر أنهم وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )) يعني يوم القيامة.‘(/12)
وفي قصة إبراهيمَ والذين معه - قيل هم أتباعه، وقيل هم الأنبياء، وكلاهما صحيحٌ - عبرةٌ وأسوة حسنة للمؤمنين، قال تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي? إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ منْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً للَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )) ( الممتحنة : 4-6) .
قال ابن كثير في تفسيره للآيات: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى? إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي وأتباعه الذين آمنوا معه (( إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ، أي تبرأنا منكم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ )) ، أي بدينكم وطريقكم وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً )) ، يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد.
وقوله تعالى: (( إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأًّبِيهِ لأّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) .
أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ )) . ( التوبة : 113-114)
ولنا أيضا عبرةٌ وأسوةٌ حسنةٌ في أصحاب الكهف مع قومهم، وفي عبيدة بن الجراح مع أبيه، ومصعب بن عمير مع أخيه، وغيرهم كثير ممن نفى حبُ الله تعالى من قلوبهم حبَ وموادةَ من عادى الله وكفر به.
ومن المهم جدا في ختام هذا الفصل، التذكيرُ والتأكيدُ على أن هذه العداوةَ والبغضاء للكفار، يصاحبها العدلُ والإنصاف، والنُصحُ ومحبة الهداية والإيمان للناس أجمعين. والبرُ والإحسان لمن لم يحاربْ منهم ويظلم ويعتدي على الإسلام وأهله.
ففي الصحيح: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينا رجلٌ يَمشي فاشتدّ عليه العَطَشُ، فنَزَلَ بِئراً فشَرِبَ منها، ثمّ خرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثّرَى مِنَ العَطَشِ، فقال: لقد بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي. فمَلأَ خُفَّهُ ثمّ أمسَكَهُ بفيه، ثمّ رَقِيَ فسَقَى الكلْبَ، فشَكَرَ اللهُ لهُ فغَفَرَ له. قالوا: يارسول الله، وإنّ لنا في البهائِمِ أجْراً ؟ قال: في كلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجر).
والمؤمن لا يظلم ولا يخون ولا يغدر، قال تعالى: (( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) ( الممتحنة : 8) .(/13)
قال ابن جرير: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ )) من أهل مكة وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ )) ، يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم. واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية، فقال بعضهم عُني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم ... وقال آخرون: عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر ... وقال آخرون: بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم، قال: ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم ... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزَّ وجلَّ عمَّ بقوله الَّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بِرَّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرَّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها، وقوله:
( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم ) .
وقال القرطبي في تفسيره: ’ قال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا: بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تَصلُ أمّها حين قدِمت عليها مشركة؟ قال: (نعم) خرَّجه البخاري ومسلم.‘
فالشارع الحكيم الرحيم يريد للناس الخير والهداية، والنجاة من الكفر والنار. قال تعالى: (( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَينَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَففَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)) ( النساء26- 28) .
يقول ابن كثير في تفسيره: ’ يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين ((عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً )) ، أي محبةً بعد البغضةِ, ومودة بعد النفرة، وأُلفةً بعد الفرقة وَاللَّهُ قَدِيرٌ، أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة.‘
وقال البخاري في صحيحه: ’ بابُ إِثمِ مَنْ قَتلَ مُعاهِداً بغير جُرمٍ‘. وذكر فيه حديث مجاهدٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً).
قال الفقيه شمس الدين ابن قدامة - رحمه الله تعالى - في كتابه الشرح الكبير: ’ أن الأمانَ إذا أُعطيَّ لأهل الحرب حَرُم قتْلُهم ومالهم والتعرُّضُ لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا .. ولنا ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري .(/14)
وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم رواه سعيد .. قالت عائشة إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن أم هانىء أنها قالت يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ إنما يجير على المسلمين أدناهم رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قال: ومَنْ لَقِيَ عِلجاً فقال له قف أو ألق سلاحك فقد أمنه ... فصل: وإذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان نظرت فإن كان معه متاعٌ يبيعه في دار الإسلام وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يُعرضْ لهم وقال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجارٌ مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شيء ... ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا قال لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له أنس قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ... ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولأن تجويزه لغير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الإمام.
فإن هادنهم غيرُ الإمام أو نائبه، لم يصح، وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان، ويُردُ إلى دار الحرب، ولا يقر في دار الإسلام، لأن الأمانَ لم يصح.‘
فانظر - رحمك الله تعالى - إلى هذا الاستدلال بالأدلة الصحيحة، والفقه والاستنباط السليم منها، وإلى النظر الدقيق في المصالح والمقاصد. لتعلم الإثمَ العظيمَ، والخطأَ البينَ، الذي وقع فيه من تعدى فظلم أو قتل الكافر المستأمن. فأساء إلى نفسه بارتكاب الكبيرة, وإلى خُلقه ومروءته بارتكابه الغدر والخيانة، وإلى مصالح المسلمين جميعا برأيه وتقديره.
فكما لا تفريطَ وتهاونَ في البراءة والعداوة، فكذلك لا إفراطَ وغلوَ فيها، يعارض ويصادم النصوص الصريحة الدالة على تحريم الغدر والخيانة وقتل المعاهد. ويسوق صاحبَه إلى معارضة المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة المرعية فيوقعه في الإثم والحرج.
شبهة الوفاء بالمواثيق مع الكفار
هذه شبهةٌ أُسِستْ على التصحيح والرضا بميثاق باطل ظالم. فإن زعموه عقداً صحيحاً مُلزما، قيل فقد نقضوه هم ونكثوه، وخالفوا ما ألزموا به المسلمين ظُلما. فإن غالط بالباطل أحدٌ فقال ما نقضوه ولا نكثوه، قيل فقد وجب إذن نقضُه على المسلمين، بعد الذي فعلوه من احتلال البلاد واستحلال الدماء.
قال تعالى: (( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّو?اْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) ( التوبة :4) .
فهل هؤلاء الكفرة لم ينقصونا شيئا، هل يقوله عاقلٌ وهم لم يُبقوا شئيا إلا وقد فعلوه، من غزو وقتل ونهب وظلم. حتى حقَّ عليهم قوله تعالى: (( وَإِن نَّكَثُو?اْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُو?اْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُو?اْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ))
( التوبة : 12-13) .
فزعموا أنْ بيننا وبين الكفار عهود ومواثيق، فليس لنا أن نخلفها ونقطعها، والله تعالى يقول: (( وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)) (الإسراء 34) .
ويقول تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (الأنفال : 72).(/15)
فاستدلوا بهذه الآية الكريمة على أن الوفاء بالعهد للكفار يُوجبُ عدمَ مناصرة المسلمين المعتدى عليهم في العراق وأفغانستان وغيرها من البلاد. بل ذهب بعضهم يسوقها مستدلا بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار وأعانهم على المسلمين.
هذه هي شبهتهم التي استدلوا بها، وفرحوا بها وقعدوا، عن نُصرة المسلمين المستضعفين، الذين غزاهم الكفار في بلادهم فاستلبوها منهم، وسفكوا دماءهم، وهتكوا أعراضهم، واستلبوا أموالهم. ويسعون جاهدين ليولوا عليهم مَنْ يفتنهم عن دينهم، ويحكم فيهم بالكفر والطاغوت، ويظهر ببلادهم الكفر والشرك والفجور.
فسبحان الله كيف يُستدلُ بالآية الكريمة في مثل هذا الوضع والواقع والحال. وهل يستدل به إلا من كان في قلبه زيغٌ وهوىً وإيثارٌ للدنيا على الآخرة. أو من كان مصدقا للكذب والتضليل الذي تلقيه شياطين الإنس من الكفرة والمنافقين.
إن من التلبيس والتحريف الاستدلال بهذه الآية للتخذيل والنهي عن مناصرة المسلمين، أو الإرجاف والفتنة في صفوفهم بدعوتهم إلى ترك الجهاد والتسليم للكفار. أو التشكيك في صدقهم وقوتهم وصلاح دينهم، فهذا فعل المنافقين. قال تعالى: (( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) ( آل عمران : 186) .
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ))( الأحزاب : 148) .
وقال تعالى: (( لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) ( التوبة : 47) .
قال ابن جرير: ((لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم ... يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه.‘
أما مَن استدل بالآية للقعود عن مناصرة المسلمين معتذرا بعهده معهم. فاستدلالٌ بعيدٌ كُلَّ البعدِ عن ما دلت الآية عليه، مخالفٌ لما اتفق عليه المفسرون في تفسيرهم لها، مجانبٌ لأصول الاستدلال الصحيح، والفقه والفهم السليم. فالذي يفهمه القارئ للآية من ظاهرها، والذي اتفق المفسرون عليه، أن الذين آمنوا وهاجروا - وهم المهاجرون - والذين آووا ونصروا - وهم الأنصار - بعضُهم لبعضٍ أولياءٌ في وجوب النُصرة والمظاهرة. والذين آمنوا ولم يهاجروا، وهم الأعراب الذين بقوا بباديتهم وبدار الحرب، فهؤلاء الأعراب، ومن في حكمهم، ممن لم يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، إن استنصروا المسلمين في قتال الكفار المعاهدين، فلا تجب نصرتهم.
ومن المعلوم أن الهجرة لا تكون إلا من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. فهل المجاهدون اليوم في العراق أو فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان، بلادهم بلاد كفر تجب الهجرة منها، فقصروا في ترك الهجرة حتى نُسقطَ حقهم في وجوبِ النُصرة لهم من بقية المسلمين ؟
وهل يقبلهم بلدٌ مسلم فينحازوا إليه ويقاتلوا منه ؟ أو يُهاجروا إليه حتى يسلموا من الفتنة في دينهم، ويحفظوا دمائهم وأعراضهم وأموالهم؟
وهذه أقوال أئمة التفسير أسوقها ليظهر شذوذ هذا القول وبعده عن الحق والصواب. قال ابن جرير: ( يعني بقوله تعالى ذكره: والَّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله، ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار، ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب، مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني: من نصرتهم وميراثهم، وقد ذكرت قول بعض من قال معنى الولاية هاهنا الميراث، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعد. مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام. وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ )) يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا في الدين، يعني بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق، يعني عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه).(/16)
وقال القرطبي في تفسيره: ( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ، يريد إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب، عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم. إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدّته. قال ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء، مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة، حتى لا تبقى منا عين تطرِف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم. كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانَهم في أسر العدوّ وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوّة والجَلَد ... ثم قال: ((إِلاَّ تَفْعَلُوهُ )) ، وهو أن يتوَلّى المؤمنُ الكافرَ دون المؤمنين(( تَكُنْ فِتْنَةٌ))، أي محنة بالحرب، وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر. والفسادُ الكبير ظهور الشرك.‘
وقال ابن كثير: (( مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ )) ، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال.
وكذلك قاله الشوكاني، والبغوي، والثعالبي، والشوكاني، والشنقيطي، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
هذا هو تفسير الآية الكريمة الذي أتفق عليه أئمة التفسير. فكيف ساغ لهؤلاء المتحذلقين أن ينزلوا أهل الجهاد في العراق وغيره منزلة من آمن ولم يهاجر ؟
لا أظنهم وهم يستدلون بالآية لترك المناصرة، بل وللتخذيل عنهم، وللمظاهرةِ عليهم، يجهلون ما أتفق عليه أئمة التفسير. ولكنْ هوىً وركونٌ إلى الأرض، وخوفٌ على دنياً تزول، أذهل عن الحق وصرف عنه.
وأهلُ العلم متفقون أن النُصرةَ واجبةٌ للمسلمين، متى لم تكن منهم كفاية وقوة على رد الكفار عن بلادهم. فالجهاد فرض عين على من نزل العدو ببلده. وفرضُ كفايةٍ على الآخرين، ينقلب ويصير فرضَ عينٍ عليهم إذا لم تحصل الكفاية والقوة والمنعة بأهل البلد حتى تتحقق الكفاية لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجهاد وأنه يكون تارة طلبا، وتارة دفعا: (يجب ابتداء ودفعاً. فإذا كان ابتداء، فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به، كما قال الله تعالى: (( لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً))
( النساء : 95).
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم، كما قال الله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَليَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) ( الأنفال : 72) .
وكما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن ، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج. بل ذم الذين يستأذنون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)) ( الأحزاب : 13) .
فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار : للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها).(/17)
وقال رحمه الله تعالى مبينا أن ترك المناصرة، والخوف من الكفار نوع من الشرك: ( وكلما قوي التوحيد في قلب العبد قوي إيمانه وطمأنينته، وتوكله، ويقينه. والخوف الذي يحصل في قلوب الناس هو الشرك الذي في قلوبهم، قال الله تعالى: (( سَنُلْقِى في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّاالِمِينَ)) ( آل عمران : 151).
وكما قال الله جل جلاله في قصة الخليل عليه السلام : (( وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّو?نِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)) ( الأنعام : 80).
إلى قوله:(( الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ )) ( الأنعام : 82).
وفي الحديث الصحيح، ( تعس عبد الدينار! تعس عبد الدرهم! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! تعكس وانتكس! وإذا شيك فلا انتقش).
فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) ( الأنعام : 81)
يقول: إن تطيعوا غير الله، وتعبدون غيره، وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: (( الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الأَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ )) ( الأنعام : 82).
أي: هؤلاء الموحدون المخلصون، ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحداً.‘
فحبُ الدنيا والخوف عليها، يُضعفُ العبوديةَ الواجبة لله تعالى، ويصرفه عبودية للدنيا. ومقدار ما ينصرف من عبودية الله إلى عبودية الدنيا يتناسب مع مقدار هذه المحبة للدنيا ولزُخرفها في قلب العبد، حتى إذا غلبت جرت إلى الإثم، فإذا زادت أوقعت في الكبيرة ثم الشرك والكفر. قال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً )) ( الإسراء : 18)
. قال قتادة: ( من كانت الدنيا همّه وسَدَمَه وطلبته ونيته، عجَّل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطّره إلى جهنم ) .
شبهة قصة الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة
القصةُ المشهورة للصحابي البدري حاطبِ بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، والتي نزل بسببها قولُ الحق تبارك وتعالى: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ)) ( الممتحنة : 1) .
حُمِّلت القصةُ من أهل الأهواء ما لا تحتمله، ووضعت في غير موضعها، وقيس عليها ما لا يُشابهها ولا يُماثلُها. معرضين عن النصوص الصريحة الكثيرة التي تجعل المظاهرَ للكفار منهم، وأنه ليس من الله في شيء، وأنه من أهل النفاق ومرضى القلب. ومتغافلين عن ما خصَّ اللهُ به أهلَ بدرٍ من مغفرة الذنوب، وما خُصَّ حاطبٌ من تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له حين اعتذر بعذره. بل تعدى بعضُهم فلم يكتفي بالاستدلالِ بها على عدم كفر المظاهر، بل للإعتذار للمظاهرِ والتهوينِ من قبيحِ صنيعِه.
هذه شبهتُهم أسوقها، ثم أبينُ - بعون الله تعالى - بطلانَ الاستدلالِ بها في الاعتذار لمن ظاهر الكفار بنفسه، أو ماله، أو قوله، مظاهرةً يتقوى بها الكفارُ، ويضعفُ بسببها أهلُ الإسلام. قالوا هذا الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أفشى سرَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث إلى أهل مكة يُنذرهم بعزم المسلمين على غزوهم. فكان بفعله مظاهراً للكفار على المسلمين، معيناً لهم عليهم، ومع هذا لم يكفره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عذره وصفح عنه.(/18)
وقال لأصحابه لا تقولوا له إلا خيرا حينَ أعتذر حاطبٌ بأن ما فعله ليس رغبةً عن الإسلام، ولا رضاً بالكفر، ولكنْ أرادَ بذلك يداً عند الكفار يحمي به قرابتَه وأهله، من بطشهم وانتقامهم. فظاهرَهُم لحظٍ دنيوي، وقلبُه مطمئن بالإيمان. فكان فعلُه معصيةً وذنباً لا يصِلُ به إلى الكفر والارتداد. هذه شبهتُهم التي استدلوا بها على عدم كفر المظاهر, والمناصرِ, للكفار على المسلمين.
فشرطوا اقترانَ هذه المظاهرة والمناصرة بالمحبةِ للكفار ولدينهم، والرغبةِ في ظهورهم وعلوهم. فإن انتفت هذه المحبةُ، وكان القلبُ مطمئناً بالإيمان، والمحبةَ للمسلمين، والبغض للكافرين، انتفى الحكم بكفر المظاهر. لأن المظاهرةَ لم تكن إلا لحظ دنيوي، رغبة أو خوفا من الكفار.
وقبلَ الشروعِ في الرد على هذه الشبهة، التي لبسوا بها على البعض. أبدأُ بالقول بوجوب التفريق بين أمورٍ ثلاثة، يحاولُ بعضُهم - قصدا أو خطأ - الجمعَ بينها فيحصل التشويشُ والتلبيس.
الأمر الأول: الاعتذارُ بهذه الشبهة لجواز المظاهرة.
وهذا أمرٌ باطلٌ لم يقلْهُ أحدٌ من المسلمين. فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن مظاهرةَ الكفارِ على المسلمين معصيةٌ وأثمٌ وذنبٌ عظيم. وهو محلُ إجماعٍ من علمائهم، واتفاقٍ من عامتهم. ولا يقول بجوازها إلا من ردَّ القرآنَ الكريم، والسنة الصحيحة، وإجماعَ المسلمين، وهذا كفرٌ وردةٌ عن دين الإسلام بالإتفاق.
فإذا كانت كذلك فلا تجوز الطاعةُ لأحدٍ – كائنا من كان - في ملابستِها والوقوع فيها.
فالطاعةُ لا تكون إلا في المعروف، وفي ما ليس بمعصيةٍ لرب العالمين. روي البخاريُ في صحيحِه: حدَّثنا الأعمشُ حدَّثنا سعدُ بن عُبيدَةَ عن أبي عبد الرحمنِ عن عليّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيةً وأمَّرَ عليهم رجلاً من الأنصارِ وأمرَهم أن يُطيعوه، فغضبَ عليهم وقال: أليس قد أمرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى قال: قد عزمتُ عليكم لما جمعتم حَطَباً وأوقَدْتم ناراً ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطباً فأوقدوا ناراً، فلما همُّوا بالدخول فقاموا يَنظرُ بعضهم إِلى بعض فقال بعضهم: إنما تبِعنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِراراً من النار أفندخُلُها؟ فبينما هم كذلك إذ خَمَدَتِ النارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فذُكرَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو دَخَلوها ما خَرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف).
وقد ذمَّ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيز طاعةَ الأمراء والعلماء في معصية الله تعالى. وسمَّى هذه الطاعة عبوديةً من فاعلها لهؤلاء الأمراء والعلماء، فقال: اتَّخَذُو?اْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً من دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُو?اْ إِلاَّ لِيَعْبُدُو?اْ الهاً وَاحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) ( التوبة : 31).
وفي مسند الإمام أحمدَ والترمذي: عن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قال: (أَتَيْتُ النَّبيَّ وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، قال: أمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ).
فإذا كانت هذه الطاعةُ عبادةً لهم من دون الله تعالى. وجب على كل مسلمٍ يخشى اللهَ تعالى، ويُقدمُ طاعتَه على طاعة المخلوق، عدمُ الرضا والقبولِ والفعلِ لهذه المعصية. وأَنْ يحذرَ أشدَّ الحذرِ من الوقوع في مظاهرة الكفار على المسلمين بقوله وكتابته وفعله وماله وقلبه. فإن الطاعة إنما تكون في المعروف. والنارٌ أهلُها أتباعٌ ومُتَبَعون، ولن يغنيَّ الذين استكبروا الذين استُضعفوا شيئا، بل يتبرئون منهم ويتنصلون. قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ )) ( البقرة : 116) .
وقال تعالى: وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?اْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?اْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ )) ( غافر : 47-48) .(/19)
وقال تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُو?اْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي? أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) 0( سبأ : 31-33) .
الأمر الثاني : الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفع العقوبة الواجبة للمظاهر للكفار على المسلمين.
فالذي يقاتلُ معهم في صفوفهم، أو يحميهم مِن المجاهدين، ويدفعُ عنهم، أو الذي يعينُهم ويمدهم بالسلاح والمال والرأي والطعام وكلِ ما فيه عونٌ لهم وإن قلَّ. كحال تلك الحكومات وجيوشها، التي نصَبَّها الكافرُ المحارب المحتل، ودربها وسلحها، لتعينه في قتال أهل الإسلام، وتمكن له في أرض المسلمين. وحال هؤلاء الذين باعوا دينَهم، وديار، ودماء، وأعراض المسلمين، من أجلِ مالٍ حرامٍ سُحتٍ، يأخذونه ليعملوا خدما وعونا وظهيرا للكفرة المعتدين.
يعتذرون لحُرمة دماءِ وأموالِ هؤلاء بهذه الشبهة. وهذا أمرٌ منكرٌ باطلٌ، فهم المعتدون الباغون، وهم الخائنون لله ولرسوله وللمؤمنين. حكمُهم حكمُ الكفار المحاربين، حكَمَ اللهُ تعالى عليهم أنهم منهم، وهو أحكمُ الحاكمين. فباتفاق واجماعِ المسلمين أن مَنْ ظاهرَهم وأعانَهم حلالُ الدم والمال. ذلك أنه هو الظالمُ الذي استحَلَّ دماءَ المسلمين المجاهدين وأموالهم وديارهم، ورضيَّ مختاراً أن يكون في صف الكفار تابعا لهم ممتثلا أمرهم ونهيهم. فحكمُه حكمُ الكافر المحارب، والمحاربُ حلالُ الدم والمال، فهو كذلك. وما ظلمهم المجاهدون، ولكنَّهُم هُمُ الظالمون.
قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْو?اْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً )). نزلت في قوم من المسلمين أُكرهوا على الخروج مع الكفار يوم بدر، فقُتل منهم مع الكفار، فتأسف المسلمون لذلك وأرادوا الاستغفارَ لهم، فنزلت الآيات تبين مآلهم ومصيرهم. وروى أهل التفسير عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكَثِّرون سواد المشركين على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدَهم فيقتله أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ )). فهؤلاء اليوم، الذين دخلوا مع الكفار طوعا دون إكراه في قتال المسلمين المجاهدين، أعظمُ أثماً وظلما، من أولئك المكرهين الذين نزلَ فيهم هذا الوعيدُ الشديد.
فالنصوصُ الصريحة، والإجماعُ المنعقد، كلُه دالٌ على أن المظاهرةَ للكفار على قتال المسلمين معصيةٌ وكبيرةٌ وإثمٌ عظيم. ذنبٌ يُبيحُ دمَ ومالَ وعِرضَ صاحِبِها. ذلك أنه خانَ اللهَ ورسوله والمؤمنين، وسعى وشارك في قتل المسلمين، والتمكين للكفار المحاربين، بفعاله أو أمواله أو أقواله. وأن لا طاعةَ لأحدٍ في فعلها، إذ من المعلوم عند المسلمين، أن الطاعةَ تكون في المعروف، وأن لا طاعة لأحدٍ في معصية رب العالمين.
الأمر الثالث: الاعتذارُ بهذه الشبهة لدفعِ الحكم بكفر المظاهر مادام قلبُه مطمئناً بالإيمان.
وهذا أمرٌ تحتملُه القصة، فلغير حاطب أن يقولَ كقوله، ويعتذرَ بمثلِ عذرهِ، لينتفي عنه الكفر. والذي عليه جمهورُ أهل العلم أن العذرَ خاصٌ بحاطب لا يتعداه لغيره. فالمظاهرُ الذي تحقَقَ له ما تحقق لحاطبٍ، من تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وفضلِ حضورِ بدرٍ الكبري، يصحُ الاعتذارُ له. أما من لم يتحققْ له ذلك فحكمه ما حكمت به الآياتُ البينات من براءةِ الله تعالى منه، وأنه من جملةِ الكفار، وأنه ضلَّ سواءَ السبيل، إلا المُكرهَ وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان.(/20)
ومن المعلوم أن تخصيصَ النص العام، وتقييدَ النص المطلق، لا بُدَّ فيه من النص الصحيح من جهة الثبوت والدلالة، ليصح بذلك تخصيصه للعموم، وتقييده للإطلاق، والذي يظهرُ أن التخصيص الخاص بحاطب من هذا العموم لا يصحُ الاستدلالُ به للمظاهرين اليوم للكفار على المسلمين لأمرين:
الأول: خصوصيةُ حاطب وعدم مشابهتهم له، فما جاء هذا التخصيص لحاطب إلا لتزكية رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، وتصديقه لقوله، ثم لكونه من أهل بدر، وهم لهم زيادة فضل على المسلمين لسابقتهم وجهادهم، فلا يتعداهم التخصيصُ إلى غيرهم من المسلمين، فمن تولَّى الكفار، فظاهرَهم وأعانهم على المسلمين طوعا دون إكراه، حُكِّمَ عليه بالردة والنفاق.
وبالنظر والتأمل والجمع بين الروايات التي نقلت القصة نرى أن حاطب حين فعل ما فعل، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَ هذا المنافق، فأعتذرَ حاطبٌ بعذره، أنه لم يبدل دينه ولا كفر بالله ورسوله، ولكن يريد له يدا عند الكفار يحمي به قرابته بمكة، فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتفى عنه الحكم بالنفاق والارتداد. فعاد عمرُ وقال: قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عُنُقَه، فإن انتفى عنه النفاقُ والارتداد فقد وقع في الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا فعلٌ يُوجبُ قتلَه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليسَ من أهل بَدر؟ فلعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم.
ففعلُه كان سبباً في حكم عمرَ عليه بالكفر والنفاق، لكنْ حصل لحاطبٍ التبرئةُ من الكفر والنفاق بتصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. وحصلَ له حَقْنُ دمه والكفُ عنه لفضل أهل بدر، وسابقتهم، وعظيم هذه الحسنة التي تغلب وترجح على كل ذنب ومعصية - إلا الشرك وقد حفظهم الله منه - روي الترمذي في سننه حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حدثنا اللَّيْثُ، عن أَبي الزُّبَيْرِ، عن جابِرٍ أَنَّ عَبْداً لِحَاطِبٍ بن أبي بلتعة، جَاءَ إلى رسولِ اللّهِ يَشْكُو حاطِباً، فقال: يا رسولَ اللّهِ لَيَدْخُلَنَّ حاطِبٌ النَّارَ، فقال رسول الله: (كَذَبْتَ، لا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَّةَ)، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
فالحاصل أن مَنْ تحققَ له ما تحقق لحاطب من تبرئة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له من النفاق، وكان من أهل بدر، صحَّ أن يُخصصَ من عموم الآيات الدالة على كفر ونفاق المظاهر.
فإن تنزلنا مع الخصم المخالف في وجود شبهة تمنع من تكفير المظاهر، وهي قول المظاهر بصحة إسلامه وبراءته من الكفر، كما قال حاطب، وأن الذي جَرهُ للمظاهرة الرغبةُ أو الرهبة من الكفار، فلا يصح أبداً القولُ بعصمة دمه وامتناع قتله، لأنه حتما ليس من أهل بدر.
يقول ابنُ القيم رحمه الله تعالى في الفوائد: ( وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب فقال: (وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم). كيف تجده متضمناً لحكم القاعدة التي اختلف فيها أرباب الجدل والأصوليون، وهي أن التعليل بالمانع هل يفتقر إلى قيام المقتضى، فعلَّلَ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصمةَ دمه، شهوده بدراً دون الإسلام العام، فدلَّ على أن مقتضى قتله كان قد وُجِدَ وعارض سبب العصمة، وهو الجس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عارض هذا المقتضى مانع منع من تأثيره وهو شهوده بدراً، وقد سبق من الله مغفرته لمن شهدها).(/21)
وهذا نقل للأحاديث التي قصت القصة, كما رواها أهل الحديث، روي البخاري في صحيحه: عن أبي عبد ِالرحمنِ السُّلَميِّ عن عليٍّ رضيَ اللَّهُ عنه قال: (بَعَثني رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا مَرْثَدٍ الغَنَويَّ والزبيرَ - وكلُّنا فارسٌ - قال: انطلِقوا حتى تأتوا رَوضةَ خاخ فإن بها امرأةً منَ المشركين معها كتابٌ من حاطِبِ بن أبي بِلْتعةَ إلى المشركين. فأدركناها تَسيرُ على بَعير لها حيثُ قال رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها، فالتمسْنا فلم نَرَ كتاباً، فقلنا: ما كذبَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتخرجِنَّ الكتابَ أو لنجرّدنَّكِ. فلما رأتِ الجِدَّ أهْوَت إلى حُجْزَتها، وهي محتجِزةٌ بكِساء. فأخرجَتهْ. فانطلَقنا بها إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر: يا رسولَ اللَّهِ، قد خانَ اللَّه ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِب عنقَه. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ما حَمَلَك على ما صنعتَ؟ قال حاطب: والَّلهِ ما بي أن لا أكونَ مؤمناً باللَّه ورسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أردتُ أن يكونَ لي عندَ القوم يدٌ يَدفَعُ اللَّهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابِكَ إلاَّ لهُ هناكَ من عَشيرتِه مَن يَدفَعُ اللَّهُ بهِ عن أهلهِ وماله. فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدقَ، ولا تَقولوا لهُ إلا خيراً . فقال عمرُ: إنهُ قد خانَ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فدَعني فلأضرِبْ عُنُقَه. فقال: أليسَ من أهل بَدر ؟ فقال: لعلَّ اللَّهَ اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شِئتم فقد وَجَبَتْ لكُم الجنة - أو فقد غَفَرتُ لكم - فدمعَت عَينا عمر وقال: اللَّهُ ورسولهُ أعلم).
وفي رواية فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ياحاطبُ ما حملكَ على ما صنعتَ ؟ قال: يا رسولَ الله، ما لي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسولهِ، ولكني أَردتُ أن يكون لي عندَ القومَ يَدٌ يُدفعُ بها عن أهلي ومالي، وليس من أَصحابكَ أحدٌ إلا له هنالكَ من قومهِ من يَدفَعُ الله به عن أهله وماله. قال: صَدَق، لا تقولوا له إلا خيراً. قال فعادَ عمرُ فقال: يارسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، دعني فلأضربْ عنقه قال: أَوليس من أهل بَدر ؟ وما يَدريك لعلَّ الله اطلعَ عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة، فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم).
والأمر الثاني: عدمُ التشابُهِ والتماثُلِ بين فعل حاطب ومظاهرته، ومظاهرة من أعان الكفار اليوم على المسلمين، فحاطبٌ كان يريد يدا عند الكفار يحمي بها قرابته وأهله بمكة من بطش وانتقام الكفار منهم، وهو يعلم أن الله ناصرٌ رسوله والمؤمنين على الكفار، وأن فعله لن يقوي الكفار، ولن يُضعفَ المسلمين، بل في رسالته لهم التخويف من جيش المسلمين.
ففي مسند الامام أحمد، حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حُجَيْنُ ويونسُ قالا: ثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد غزوهم، فدل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها، فأخذ كتابها من رأسها وقال: (يا حاطِبُ أَفَعَلْتَ ؟) قال: نعم أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله. وقال يونس: غشاً يا رسول الله، ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهرٌ رسولَه ومتمٌ له أمرَه، غير أني كنت عزيزاً بين ظهريهم، وكانت والدتي منهم فأردت أن أتخذ هذا عندهم، فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا ؟ قال: (أَتَقْتُلُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).
والمظاهرون اليوم يريدون ويسعون جاهدين، أنْ يحكُمَ بلادَ المسلمين مَن يُظْهِرُ ويدعو إلى الشرك والكفر والفساد، ومن يحكمُ بالطاغوت. فلا يُحقق ببلاد المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. هذا مع تسخيره لثروات المسلمين لمصالح الكفار، وامتثاله واتباعه لأمرهم ونهيهم.(/22)
فالذي فعله حاطبٌ ليس بمظاهرة ومناصرة للكفار على المسلمين، وإنما هو موادةٌ لهم واتخاذُ يدٍ عندهم، وإن كانت هذه الموادة نوعاً من التولي، إلا أنه تولي موادة، وليس تولي مظاهرة ومناصرة، وفرق بين المظاهرة التي يحصل بها تقويةُ الكفار وظهورُهم على المسلمين وبين الموادة التي لا يحصل منها ذلك. ويدل على ذلك أن الآيات التي نزلت في حاطب هي قوله تعالى : يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ)) ( الممتحنة : 1) .
وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة قول حاطب: ’ وعلمت أن ذلك لا يضرك‘، لاطمئنانه بنصر الله لرسوله والذين آمنوا. قال الحافظُ في الفتح: ’ وَعُذرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ , فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَنْ لا ضَرَر فِيهِ‘. وقال أيضا: ’ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْل الْمَغَازِي وَهُوَ فِي تَفْسِير يَحْيَى بْن سَلام، أَنَّ لَفْظ الْكِتَاب: أَمَّا بَعْد يَا مَعْشَر قُرَيْش فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ , يَسِير كَالسَّيْلِ , فَوَاَللَّهِ لَوْ جَاءَكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّه وَأَنْجَزَ لَهُ وَعْده. فَانْظُرُوا لأَنْفُسِكُمْ وَالسَّلام، كَذَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.‘
يقول شيخ الإسلام: ’ وقد تحصّل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانُه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.‘
شبهة جواز المظاهرة للمُكرَه
زعمُوا أن الإكراهَ عُذرٌ يُبيحُ للمسلم المُكرَهِ، أن يُظاهرَ ويعينَ الكفارَ على المسلمين، إذا وقع عليه الإكراهُ من كافرٍ قادرٍ على إيقاع المكروه. فالله تعالى يقول: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
وفي صحيح ابن حبان: عن ابنِ عباس أَنَّ رسولَ الله قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكْرِهُوا عليهِ).
وهذه الدولُ الكافرةُ المتحالفة ضدَّ المسلمين، تملكُ من القوة والعِدةِ والسلاح، ما يُمَكنُها من إيقاع الأذى العظيم بالفرد، أو الدولة المسلمة الممتنعة عن مظاهرتهم على المسلمين. وفي ذلك ذهاب الدين والأنفس والديار والأموال.
هذه شبهةُ القوم التي استدلوا بها لتجويز مظاهرة الكفار على المسلمين، وإن ذهب الدينُ والأنفسُ والأموال والديار لهؤلاء المسلمين المُعْتدَى والمُظَاهرِ عليهم. وهذا استدلالٌ باطلٌ بينُ البطلان، فليست دماءُ وأموال وبلاد هذا المسلم المتولي المظاهر للكفار، بأولى بالحفظ والصيانة من دماء وأموال وديار المسلمِ المُظاهَرِ المعتدى عليه.
فالمُكره كما عرفه أهلُ العلم، هو من حُمِلَ على أمرٍ يكرهه ولا يرضاه مطلقا. ويكون للمُكرهِ حالان :
المسألة الأولى : مُكرهٌ ملجئٌ على أمرٍ لا حولَ ولا قُوةَ له فيه، ولا تتعلق به قُدرتُه واختيارُه، بلغ الإكراهُ حدَّ الإلجاء، فلا يصح ولا يمكن منه الترك. ومثاله مَنْ أُلقيَّ من شاهق على إنسان فقتله. فهذا لا خلاف في عدم تكليفه وصحةِ عُذره.
والثانية: مُكرهٌ غيرُ ملجئٍ، وهو مَن حُمِلَ على أمرٍ يكرهُهُ ولا يرضاه، ولكن له قدرةٌ واختيارٌ في الفعل أو الترك. وهذا الإكراهُ هو محلُ البحث، وفيه تفصيلٌ وتنوعٌ ومسائلٌ لا بُدَّ من مُراعاتِها والتدقيقِ فيها حتى يُبنى الحُكمُ الصحيحُ عليها.
المسألة الأولى: نوعُ الإكراه المبيح لملابسة الأمر المُكرَهِ عليه. ذكر أهل العلم أن الإكراهَ الذي قد يُعذرُ فيه المسلمُ هو الإكراهُ من قادر على تنفيذ وعيده بذهاب النفس أو تلف الأعضاء. وليس من ذلك التخويفُ، فالخوف ليس بعذر مبيح. قال تعالى: إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ )) .
وذمَّ الله المسارعين لطاعة الكفار خَشيةً منهم فقال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)) .(/23)
قال ابن جرير: ’ فتأويل الكلام إذن: فترى يا محمدُ الذين في قلوبهم مرضٌ وشكُّ إيمانٍ بنبوّتك، وتصديق ما جئتهم به من عند ربك يُسارعون فيهم، يعني في اليهود والنصارى. ويعني بمسارعتهم فيه، مسارعتهم في موالاتهم ومصانعتهم. يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة، يقول هؤلاء المنافقون، إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى خوفا من دائرة تدور علينا من عدوّنا.‘
فالخوفُ ليس بعُذر ولا إكراه معتبر صحيح، ومثله الإكراهُ أو التخويفُ بذهابِ الحظوظِ الدنيوية. من المال، أو المنصب والجاه، ونحوها. فهذا كله ليس بعذر في طاعة المُكْرهِ بفعلِ المُكْرَهِ عليه.
المسألة الثانية: هل الإكراهُ الحقيقي عذرٌ صحيح للقول والفعل، أم للقول فقط؟ أي هل الإكراه عذرٌ لقول الكفر ولفعل الكفر، أم للقول فقط دون الفعل. اختلف أهلُ العلم في ذلك، والأكثر أنه عذر للقول فقط، فمن أُكرِه على قول الكفر أُبيحَ له بشرط طُمأنينة القلب بالإيمان. وإن أُكرِهَ على فعل الكفر مثل السجود للصنم فلا يجوز له ذلك، حتى وإن ذهبت نفسه، مستدلين لذلك بسبب نزول الآية الكريمة (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ).
قال ابن كثير: ’ هو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء معتذراً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك، وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن عادوا فعد). ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك النبيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله ما تُركتُ حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: (كيف تجد قلبك ؟) قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: (إن عادوا فعد).‘
وذهب آخرون إلى أن المُكْرهَ معذورٌ في القول والفعل، ما كان الإكراهُ حقيقيا، والقلب مطمئنا بالإيمان، وهذا القول أرجح والله أعلم. فالله تعالى قال: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )).
فاطلق الكفر، والكفر يحصل بالاعتقاد وبالقول والفعل، والأول لا يُتصورُ فيه وقوع الإكراه، وأما القول والفعل فيُمكنُ الإكراهُ فيه، فيكون المُكرَهُ معذورا مادام قلبه مطمئنا بالإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ’ وأما إذا أكره الرجل على ذلك، بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه، أو أخذ ماله أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر، فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه، وهو المشهور عن أحمد وغيره, ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه، ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى، وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك!. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال: ويروى ذلك عن ابن عباس ونحوه، قالوا إنما التقية باللسان، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا، وإذا أكره على مثل ذلك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى: كان حسناً، مثل أن يكره كلمة الكفر وينوي معنى جائزاً والله أعلم.‘(/24)
وقال الإمام القرطبي في تفسيره: ’ الخامسة: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصريّ، رضي الله عنه. وهو قول الأوزاعيّ وسُحْنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير أُسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ. ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلّي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) . وفي رواية: ويُوتِر عليها، غير أنه لا يصلّى عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحاً في السفر في حالة الأمن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يَدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلّماً به. فقصَر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالاً وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفةٌ: الإكراهُ في الفعل والقول سواءٌ، إذا أسرَّ الإيمانَ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن مَنْ أُكرِهَ على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع.‘
المسألة الثالثة : باتفاقِ وإجماعِ أهل العلم، لا يجوزُ للمُكرَه أن يقتل نفسا معصومةً لاستنقاذ نفسه. فليست نفسُه بأولى من نفس غيره. فمن فعل أثم بفعله، واستحق العقوبة الشرعية الدنيوية المترتبة على فعله، واستحق الوعيدَ الأُخرويَ المتوعد به.
قال الإمام القرطبي في تفسيره: ’ السادسة: أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدامُ على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحلُّ له أن يَفْدِيَّ نفسَه بغيرِه، ويسألَ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة.‘
والصبرُ على الأذى - نُصرةً للدين، وغيضا للكفار والمنافقين، واحتسابا للأجر من رب العالمين - أفضلُ وأعظم درجة، في الغالب. قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )) .
وفي قراءةٍ: قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُون.
وفي صحيح ابن حبان: أخبرنا الفضلُ بنُ الحُبَابِ ، حَدَّثنا إبراهيمُ بنُ بَشَّار، حَدَّثنا سفيانُ، عن بيانِ بنِ بشر، عن قيسِ بنِ أبي حازم عن خبَّابِ بن الأرَتّ، قال: أَتَيْنا النبيَّ وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً في ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَد لَقِينا مِنَ المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَلا تَدْعُو اللَّهَ لنا، فَجَلَسَ مُغْضَباً مُحْمَرَّاً وَجْهُهُ، فقالَ: (إنَّ مَنْ كان قَبلَكُمْ ليُسْأَلُ الكلمةَ فما يُعطيها، فيُوضَعُ عليه المنشارُ، فَيُشَقَّ باثنينِ، ما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ وإنْ كانَ أحدهُمْ ليُمْشَطُ ما دونَ عِظامِهِ من لَحْمٍ أو عصبٍ بأمشاطِ الحَديد، وما يَصْرِفُهُ ذاكَ عن دينِهِ، ولكنَّكُمْ تَعْجَلُونَ، ولَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هاذا الأمْرَ حتى يَسِيرَ الراكبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إلا اللَّهَ والذئبَ على غَنَمِهِ).
قال البغوي في تفسيره: ’ وأجمع العلماءُ على أن مَنْ أُكرِهَ على كلمةِ الكفر، يجوز له أن يقولَ بلسانه، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً، وإن أبى أن يقوله حتى يقتلَ كان أفضل.‘(/25)
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه: أنه أسرته الروم، فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفة عين ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماةَ فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تُلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفسٌ تُعذَّبُ هذا العذابَ في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل ؟ فقال: أما إنه قد حلَّ لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال له الملك: فقبل رأسي، وأنا أُطلقُك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال: نعم، فقبل رأسَه، فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حقٌ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.
وخلاصةُ القول: أن الحكمَ بجواز استجابة المُكرَهِ للمُكرِه، وللأمر المُكرَهِ عليه، لا بُدَّ فيه من مراعاة أمور ثلاث، الأولى: قدرةُ المُكرِهِ على إيقاعِ الإكراه. الثانية: نوعُ الإكراه الذي سيوقعه المُكرِه. الثالثة: نوعُ الأمرِ الذي يطلبُ المُكرِهُ فعلَه.
فمن الإكراه ما يجوز فعلُه ولو كان الإكراهُ بالسوط والسوطين، ومنه ما لا يجوز ولو ذهبت الأنفسُ والأموال.
شبهة الديمقراطية
الديمقراطةُ، الدعوى التي أطلقتها أمريكا، وجعلت منها ذريعةً لحربها وغزوها لبلاد المسلمين. وأخفت خلفَها مقاصدها، وأهدافها الحقيقية، من هذه الحروب. فجعلت من دعوى تصدير الديمقراطية - بعد أن روجت لها بنفوذها السياسي والإعلامي والاقتصادي - وسيلةً لكسب التعاطف والتأييد لها من قبلِ شعبِها، وشعوبِ العالم، بل ومن قِبلِ شعوبِ تلك البلاد الاسلامية المنكوبة المحتلة.
فاستعانت بهذه الكذبة، دولٌ وحكوماتٌ، لتبرير تحالفها مع هذا العدوان والظلم أمام شعوبها. ودافعُهُ الحقيقيُ عند أغلبها الحقدُ والغل على الاسلام وأهله. والطمعُ والمشاركةُ في الغنيمة عند آخرين. والخوفُ من الضغوط الأمريكية العسكرية والاقتصادية والسياسية عند الباقين. فاستخفَوا جميعاً خلف هذه الكذبة الظاهرة، مظهرين الشفقة والإنسانية، مبطنين العداوة والهمجية.
وفَرِحَ بهذه الفِرْيةِ في ديار المسلمين، مَنْ كان يستخفي بنفاقه ولا يبديه، ومَنْ يبطنُ العقائدَ الباطلة المخالفة لما يقتضيه الاسلام من الاستسلام لأمر الله تعالى وأمر رسوله. مِنَ الذين يريدون لبلاد الاسلام أن تحيى حياةَ الغرب في كفره ومجونه وأخلاقه. وتعلق بها أيضا مَنْ أصابَ قلوبَهم الوهنُ والضعفُ والمرضُ لحبهم للدنيا وتعلقهم بها.
فروجوا جميعاً لهذه الدعوى، ونافحوا عنها، وتعللوا بها، في اعانتهم وتعاونهم مع الكفرة المعتدين. فدعوا إلى التسليم والاستسلام والكف عن القتال والجهاد. وهؤلاء قومٌ يقلبون الأمورَ، ويخلطون الباطل بالحق، ويزخرفون القول، ويستغلون ما يقعُ ببلاد الإسلام من الظلم والتعدي والانحراف المخالف للإسلام، لترويج باطلهم ودعوتهم. تماما كما أخبر الله تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )).
وقال تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ )) .
فسموا جيوشَ الكفرة النجسة جيوشَ تحريرٍ وحرية. وجيوشَ المرتدين والخونة جيوشَ الوطن وشُرَطَه. وسموا المجاهدين الأحرار الشرفاء إرهابيين ومجرمين، واستخفى واستحيا آخرون فسموهم مقاتلين ومسلحين.
قال البخاري في صحيحه: عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. وأخرج البزار من طريق عاصم عن أبي وائل، قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر، إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(/26)
وهذه الدعوى بينٌ عوارُها وزيفُها، لمَنْ آمنَ بالقرآن وصدق أخبارَه، فالله تعالى يقول فيه: (( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ )) .
وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْل?ـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْل?ـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) .
وقال تعالى: (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً)) .
وقال تعالى: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ )). قال ابن جرير: ’ يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم في قتلِ مؤمنٍ لو قدورا عليه إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً. يقول: فلا تبقوا عليهم أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم. وأوُلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء.‘
والله تعالى ينهانا أن نطيعَهم ونرتضيَهم: (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)) .
قال ابن جرير: ’ فتأويل الآية: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيُهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين، يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جلّ ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غلّ وغشّ وحسد وبغض.‘
وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )) .
قال القرطبي: ’ قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء.‘
وبينٌ بُطلانُها لكل من كان له عقلٌ يعقلُ به، أو بصرٌ يُبصرُ به، أو سمعٌ يسمعُ به. بعدَ أن رأى وسمِعَ العالمُ كُلُه القتلَ والتعذيب للأطفال والنساء والشيوخ والجرحى والأسرى. وشاهد كلَ هذا الهدم، والتدمير، والتخريب، للمدن والقرى والبيوت بأسلحة دمار ممنوعة، محرمةٍ على المسلمين، حلالٍ على الكفرة المعتدين. وما اشتهر مِنْ ما نهبوه وسرقوه من الثروات والأموال. وهذا قليلٌ ظهر وبان من همجيتهم وظلمهم وعدوانهم وما خفيَّ منه أعظم وأطم.
ويكذب دعاواهم ويفضح نواياهم حصارهم الظالم الذي منع الدواء والغذاء عن الأطفال حتى هلك منهم في العراق الآلاف. وهذه القنابل والمدافع والصواريخ والدبابات والطائرات التي تقتل وتهدم وتخرب وتحرق وتعيث في بلاد المسلمين ظلما وفسادا. حتى جاوز عددُ القتلى مئاتِ الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين العزل الآمنين في بيوتهم وأسواقهم.
ويكذب دعواهم تناقضُهم، فهم يرضون ويعينون ويحالفون من الحكامِ مَنْ سلَّمَ لهم كلَّ شيء، وجمعَ لهم بين محاربة الإسلام والتخلي عن أسباب القوة والمنعة. فمن شذَّ وخالفَ فسيشنون عليه الغارة تلو الغارة، وسيثيرون الفتن والاضطرابات ببلاده، معتذرين بصناعة الديمقراطية. فالخوف من الإسلام، دينا يعتقده المسلمون ويمتثلونه ويدعون إليه. ومن قوة عسكرية في بلاد المسلمين، ولو كانت محكومةً من ظالم أو كافر، تدفعهم لشن الحروب واحتلال البلاد، فهم لا يأمنون أن يتغيرَ ويتوب، أو يُغيرَّ ويُخلع.(/27)
ويكذب دعواهم خوفُهم الذي ظهر في فلتات ألسنةِ قادتهم، وصرَّحَ به رهبانُهم وذوو الشأن والأمر فيهم، من عودة المسلمين لقرآنهم وسنة نبيهم. فسعوا لمنعه بالتغريب والإفساد، والتمكين للمنافقين والعلمانيين لإشاعة الشبه والشهوات، عسى أن يصدوا المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم. فمن خلال الدعاية والتمكين والفرض بالقوة لنمط الحياة الغربية، خصوصا جانب الانحلال الخُلقي، والانهماك في الشهوات والملذات يحصل لهم ما يريدونه ويسعون له في بلاد المسلمين.
يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )).
فلم يبقى مصدقٌ لهذه الكذبة إلا من كانت عقيدتُهُ ومصلحته تدعوه إلى احتلال بلاد المسلمين، وإضعاف قوتها، ونهب ثرواتها، وإذلال أهلها. أو كان عنده هوىً وشهوةٌ في متابعة الغرب الكافر والتقليد له.
وليعلم المغرورُ الذي لا يزالُ مصدقاً لأكاذيبهم، مؤملاً ما منَّوه به، من رغد العيش، والأمن، والتطور والازدهار، أن ما سيأتون به من المفاسد العظيمة، التي تَمُسُّ الدين والأخلاق، تربو وترجح بالمصالح الدنيوية الموعودة المزعومة. وليعلم أنهم يأملون من خلال فرض منهج الحياة الغربية على المسلمين سلخَهم عن دينهم واعتقادهم، وما يوجبه الله عليهم من الدعوة إلى الدين الصحيح والجهاد حتى تكون كلمةُ الله العليا، وكلمةُ الشيطان وأحزابه السُفلى.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن – رحمه الله – في قوم زينوا حكم الكفار لبلاد المسلمين: (( وأخبث هؤلاء وأجهلهم من قال: إنه حصل بهم راحةٌ للناس، وعدمُ ظلم وتعدٍ على الحضر، وهذا الصنف أَضَلُّ القوم، وأعماهُم عن الهدى، واشدُهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتُقى. لأنه لا يعرف الراحة التي حصلت بالرسل وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع. والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة، والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة، في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له، وجهاد أعداء دينه وأعداء رسوله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة، في الدور الثلاث)).
هذه الديمقراطية التي زينوها وزخرفوها، ما حقيقتُها، وهل توافق الشرع المطهر أم تعارضه وتناقضه ؟
المؤمنُ حريصٌ على دينه، يَزِنُ ما يأتيه بالميزان الشرعي، فما وافق أو أباحه الشرعُ قبِلَه. وما خالف وحرَّمه الشرع رفضه ورده. لأن دينَه عزيزٌ عليه، مقدمٌ على كل شيء. فالمسلم لا يرضى الكفر أبدا، وأن يُلقى في النار أحبَّ إليه من أن يرتد كافرا. ولا يرضى ولا يُحسِّنُ ولا يُحللُ الحرامَ والإثم، حتى وإن غلبته نفسُه والشيطان فوقعَ في الحرام فهو يكره إثمَه وذنبَه، ويرجو سِترَ وعفوَ ربِه. فالفرقُ عندَه بين الوقوع في الحرام وبين تحليل وتزيين الحرام، هو الفرق بين المسلم المذنب الذي مآله إلى الجنة بعد العفو أو التمحيص، والمسلم المرتد الذي مصيره الخلود في النار.
الديمقراطية كما عرفها أهلُها: حكمُ الشعب، أو حكمُ الغالبية من الشعب. وهذا الحكم من الشعب يعني حقه في اختيار الحاكم، والنظام السياسي الحاكم للبلد، كما يشمل حقَ الشعب في اختيار القوانين والأنظمة والأحكام التي يتحاكم إليها ويعيش بها.
وتباينوا واختلفوا في حدود الحرية الفردية للأشخاص والأقليات، خوفا من استبداد الأكثرية. فمنهم مَنْ غلَّبَ الحريةَ الفردية للأشخاص ما لم تصل إلى حد الأذى الحسي للآخرين، فمن أراد أن يعبُدَّ الشيطانَ فهو حر في عبادته، ومَنْ أرادَ الِلواطَ فهو حر في ممارسته، وليس للآخرين أن يمنعوه من ما جعلوه حقا له. ومنهم مَنْ غلَّبَ مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية فربما منع بعض التصرفات الشخصية لمعارضتها لمصلحة الجماعة وضررها للمجتمع.
لكنَّ جميعَ هذه التعاريف والمفاهيم للديمقراطية تتفق في حق الشعوب في التصويت والاختيار للحاكم والنظام الذي يحكمُها وتتحاكمُ إليه، وتتفق أيضا في حق الشعب من خلال التصويت في سَنِّ الأنظمة والقوانين التي يختارُها ويرتضيها. فإن اختارت الأغلبية تجويز الزنا جاز، وإن اختارت تحريم ومنع الحجاب صار حراما ممنوعا.
وهذا الاعتقاد لا يصحُ أبداً من مسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا ورسولا. لا يصح أبدا أن يعتقد جواز وصحة القبول والرضا لما تختاره الأغلبية إن عارض الدين، كما لا يصح أن يمتنع عن الإنكار بيده أو لسانه أو قلبه حسب وسعه وقدرته لمنكر اختارته الأغلبية، وهذا أصل من أصول الدين، وهو من معاني العبودية والتسليم لله تعالى، والرضا بحكمه والتسليم لأمره.
قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )).(/28)
وقال تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )).
قال ابن كثير: ’ أي فليحذرْ وليخشَ مَن خالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً. أن تُصيبهم فتنة أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.‘
وقال ابن كثير ((وقوله فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. وعن عبد الله بن عمرو ، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يُؤْمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبَعاً لِما جئتُ به). قال النووي هذا حديث صحيح.‘
وقد حمل الظلمُ والطغيان الذي يمارسه الكثيرُ ممن وليَّ أمر المسلمين بعضَ الدعاة والعلماء إلى الدعوة للديمقراطية سبيلاً للخلاص من حكم الظلمة. ذلك لظنهم واطمئنانهم أن الغالبية في الشعوب المسلمة لن تختارَ لحكمها إلا مَنْ ترتضي دينَه وصلاحه وتقواه. وهذا ما حصل في الجزائر، حين فازت الأحزاب الإسلامية في انتخاباتها، وسيحصل لغيرها من بلاد المسلمين إن عُمل به. ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن الخلل العظيم الذي يصيب عقيدة المسلم حين يقبل ويرضى بالديمقراطية.
دارت مناظرةٌ بين داعية مسلمٍ يدعو إلى الديمقراطية, وعلماني يدعو إلى الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة. فيقول العلماني له: أتقبل لو نتج عن التصويت والانتخاب حاكمٌ كافر، أو قانونٌ يعارض الدين ؟ فأجاب المسلمُ: نعمْ. وهذه سقطةٌ عظيمةٌ ومخالفة كبيرة، أوقعه فيها التزامُه ما لا يلزم إلتزامُه. تماما كما أخطأ الأشاعرةُ من قبلُ في مسائلَ عَقَديةٍ حين التزموا مع المعتزلة إلتزامات لا يصح إلتزامها.
فالمؤمن لا يرضى بحكم الكافر له، أو أن يتحاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: (( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )).
وقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُو?اْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُو?اْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً)) .
فواجبٌ على المسلم التغييرُ أو الهِجرةُ من بلد يحكمها كافر أو تغلب فيها شعائر الكفر، إلا من استثناه وعذره الله تعالى من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وإن في شريعة الإسلام التامة الكاملة غنى ومندوحة، عن بعض العدل الذي تأتي به الديمقراطية ويستلزم أن يصاحبَه الكفر والباطل.
وخروجا من هذه المخالفة الصريحة للعقيدة الصحيحة، حصرَ بعضُ الدعاة الديمقراطيةَ في حق الشعب في اختيار الحاكم والأنظمة والقوانين التي لا تعارضُ الدين والشريعة، وتسير وفق ضوابطها وأصولها. فوقع في مصادمة أصول الديمقراطية، فتناقض معها, وجعل منها نظاما إسلاميا حصر تعيينَ الولاة والأمراء بطريق واحد وهو إختيار الأغلبية من الشعب. فهيأت هذه المخالفة لأصول الديمقراطية الغربية، للعلمانيين والليبرالين مدخلا وحجة يحتجون بها عليهم، فقالوا أنتم لا تستحقون الحكم من خلال الديمقراطية لأنكم تعارضون مبادئها وأصولها.
شبهة المصلحة والضرورة
اعتذر الذين خَذَلوا المسلمين، وخذَّلوا عنهم، والذين ظاهروا عليهم، عن فعلِهم المَشِين، دينا وخُلقا. فالدينُ ينهى ويحرِّمُ ذلك، والأخلاقُ والمرؤة والشهامة تأنف منه وتأباه. قال الشاعر:
إذاً لقام بِنَصْرِي معشرٌ خُشنٌ عندَ الحفيظةِ إنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشَّرُ أبدى ناجذَيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووُحْدانا
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهم في النائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرهَانَا
لَكِنَّ قَوْمِي وإِنْ كانوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ في شيءٍ وإن هَانَا
يجزُونَ مِن ظُلمِ أهلِ الظُلمِ مَغْفِرَةً ومن إِساءَةِ أَهلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
فقالوا هذا عدو يملك من الآلة العسكرية والعُدَّةِ والعِدَّةِ ما لا قِبَلَ لنا به، ويملك من القوة الاقتصادية والسياسية ما لا طاقة لنا عليه. وفي مواجهته وقتاله تعريضُ المسلمين للهلاك، وتعريضُ البلاد إلى المزيد من الدمار والخراب.(/29)
فالمصلحةُ العامة للإسلام والمسلمين, تقتضي عدمَ قتاله، أو حتى الاعتراض عليه، إبقاءً للبقية الباقية من بلاد المسلمين، بعيدة آمنة من سطوته وجبروته، فلا نُصرةَ للمسلمين والحال كذلك، بل ربما الاستجابة لتخويفه ومعاونته عليهم. فهذه مصلحة يجب مراعاتها وواقعة دعت الضرورةُ إليها.
هذا ما اعتذروا به !
فهل يستقيم لهم هذا العذر في الميزان الشرعي ؟
وهل يتوافق مع أقوال أهل العلم، وما عرفوا به المصلحة المرعية والضرورة الملجئة ؟
هذا ما أستعين الله تعالى لبيانه وتوضيحه، مبتدئا بتعريف المصلحة والضرورة، ثم ما يجوز مراعاته منها وما لا يجوز، ووجه معارضة هذه المصلحة والضرورة للشرع الحنيف، ثم النظر في حقيقة هذه المصلحة، مستشهدا بالنصوص البينات وما قاله أهلُ العلم والذكر الراسخون.
المصلحة هي: الوصفُ الذي يُظَنُّ في ترتيب الحكم عليه جلبُ منفعة للناس، أو درءُ مفسدة. فإذا شهد الشارع لها واعتبرها صارت مصلحة حقيقية شرعية، وإذا شهد الشارع بإلغائها وعدم اعتبارها صارت مصلحة متوهمة، هي مفسدة في الحقيقة، أو الأمر الذي هو ضِدُها أصلحُ منها. ومصلحة لم يتطرق لها الشارع باعتبار ولا إلغاء.
فمن المصلحة التي شهد الشارع لاعتبارها مصلحةُ صلاح المجتمع بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصلحةُ التآلف والمحبة بين المسلمين بأداء النصرة والنصيحة والتعاون وإفشاء السلام، فهذه مصالح أعتبرها الشارع وأمر بها.
ومصلحةٌ شهد الشارع لإلغائها، لأنها في الحقيقة والنظر الصحيح مفسدةٌ لا مصلحة. فالسلامة من القتل بترك الجهاد مصلحة مظنونة ملغاة بقوله تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )).
وهي مفسدة في الحقيقة، قال القرطبي: ’ قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه, كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار, فاستولى العدوُّ على البلاد، وأيَّ بلاد ؟ وأَسَر وقتَل وسبَى واسترقَّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدَّمتْ أيدينا وكسبته.‘
وكذلك ترك النهي عن المنكر، لأجل حُسن الخلق والتأليف والاجتماع، مصلحةٌ مظنونةٌ ملغاة لقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي? إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) . وللأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أمرت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحذرت أهمالَه وتضييعه. فالحقيقة أنها مفسدةٌ تؤول بالمجتمع إلى الفساد والضلال.
ومصلحة لم يشهد لها الشارع باعتبار ولا إلغاء، وهي ما يسميه أهل العلم والأصول، المصالح المرسلة، والتي هي محل النظر والاجتهاد، من قبل أهل العلم الراسخ والنظر الصحيح، مثل كتابة المصحف وجمع الناس على حرف واحد، ومهادنة الكفار بل ودفع المال لهم ليكفوا، حال ضعف المسلمين وقوة الكفار. هذه المصلحة الجمهور لا يعتبرها حجةً ودليلا صحيحا، والمالكية وكثيرٌ من الحنابلة والمحققون يعتبرها حجة ودليلا، إذا بُنيت على الأصول والقواعد الشرعية المرعية، لأن الله تعالى كما أخبر عن نفسه ودينه قد أكمل الدين وارتضاه لنا، وأتم علينا النعمة بتمامه وصلاحه، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً)) .
فليس خيرٌ إلا وقد دلت الشريعة عليه، إما بالنص عليه عيناً، وإما استنباطا من الأصوال والقواعد التي دلت عليها النصوص. ثم شددوا لاعتبارها خوفا من تسلط الأهواء والشهوات، فاشترطوا لاعتبار مثل هذه المصلحة أن تكون متحققة لا مظنونة، كلية لجميع المسلمين لا جزئية، دينية لا دنيوية.
هذا التأصيل والتفصيل في المصالح يضع هذه المصلحة المظنونة المزعومة التي يترتب عليها خِذلانُ المسلمين - وأعظم منه المظاهرةُ عليهم - في صف المصالح الملغاة. ذلك بسبب معارضتها للنصوص الصحيحة الصريحة، ولإجماع المسلمين، في وجوب نصرة المسلمين، وتحريم خِذلانهم، أو مظاهرة الكفار عليهم، بل رتبت النصوص الإثم العظيم على الخِذلانِ والتسليم، وجعلت المظاهرَ عليهم معدودا في الكفار قد تبرأَ اللهُ تعالى منه.
فلا يُقبلُ - والحال هذه - من أحدٍ الاعتذارُ بهذه المصلحة الملغاة، ومن فعله فهو مخالف لإجماع واتفاق أهل العلم، مقدم لرأيه وعقله على أمر الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنَّ فَتحَ هذا الباب هو التعطيلُ العظيمُ لشرع الله تعالى. فلكل صاحب هوىً وشهوةٍ ونفاقٍ ورأيٍ سقيمٍ أَنْ يزعمَ المصلحةَ فيما يظنه ويراه، فيُعطلَ الأحكامَ، ويُغيِّرَ ويُبدِّلَ الشرعَ.(/30)
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في روضة الناظر: ’ الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح وهو اتباع المصلحة المرسلة، والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة, وهي ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع، القسم الثاني ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على المَلِك، إذ العتق سهل عليه، فلا ينزجر, والكفارة وضعت للزجر, فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص. وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع. الثالث: ما لم يشهد له بإبطال ولا اعتبار معين.‘
وقال الرازي في المحصول: ’ أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها، ما شهد الشرع باعتباره .. وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه، مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أُنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة، قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته. واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عُرِفَ ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.‘
فتبين أن هذه المصلحةَ المزعومةَ مصلحةٌ ملغاةٌ لمعارضتها النصوص القطعية والإجماع. وهي أيضا مضنونة لغيرهم برأيه أن يعتبرها مفسدة لا مصلحة. فالتعاون مع الكفرة المعتدين يعينهم في تنفيذ وتحقيق أهدافهم الخبيثة في بلاد المسلمين، وسيجرئهم لغزو وحرب من لا يعطيهم كلَّ ما يريدونه. وحربُه ومقاومتُه وإلحاقُ القتل والضرر بجنده وعتاده سيصدُه بإذن الله تعالى عن المضيِّ قُدُماً في ظلمه وبغيه، وسيُخرجُه إن شاء الله تعالى صاغرا مهزوما من بلاد المسلمين.
أما الضرورة فهي الحالة التي تجيز للمسلم فعل المحظور عند خشيته هلاك نفسه أو تلف أعضائه أو لحوق العنت العظيم به، مثل أكل الميتة لدفع مفسدة الموت بسبب عدم توفر الطعام الحلال، أو شرب الخمر لدفع الغصة المهلكة، أو التلفظ بكلمة الكفر لدفع القتل والضرر العظيم على النفس. فالذي يجيز فعل الحرام والمحظور الضروريات، وليست الحاجيات ولا التحسينيات.
فالضرورة تدفع وتزال، لكنها لا تزال بضرر مثله، أو أعظم منه. فدفعها له ضوابط وقواعد، فلا يجوز - باتفاق أهل العلم - دفعُ الضرر عن النفس بإيقاع مثله على النفس المعصومة الأُخرى، مثل أن يَقْتُلَ النفسَ المعصومة، أو يُعينَ على قتلها، لبقاءِ نفسه، فليست نفسه أولى من نفس الآخر. كما لا يجوز دفع الضرر بضرر أعظم منه، وضررُ الفتنة في الدين وعلو الكفار واستيلاءهم على بلاد المسلمين أعظمُ من فتنة فوات الأنفس والأموال بجهاد وجلاد الكفار. قال ابن جرير: ’ والفتنة أكبر من القتل أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل.‘
قال جُندبُ بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: ’ عليكم بالقرآن فإنه نورٌ في الليل وهدىً في النهار، فاعملوا به على ما كان من فقرٍ وفاقة، فإن عَرضَ بلاءٌ فقدم مالَكَ دونَ نفسِك، فإن تجاوز البلاءُ، فقدم نفسَكَ دونَ دينِك، فإن المحروب من حُرِبَ دينُهُ، والمسلوبَ مَنْ سُلبَ دينُهُ، وإنه لا فاقةَ بعدَ الجنة، ولا غِنَا بعد النار، إنَّ النارَ لا يستغني فقيرُها، ولا يُفكُ أسيرُها.‘
فالمجاهد يتربص أحدى الحسنين، والبلاء بنقص الأنفس والأموال أمرٌ كتبَهُ اللهُ تعالى ليتبيَّنَ الصادقونَ الموقنون، الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، الذين ما زادَهم ما أصابهم إلا إيماناً وتسليما. ويتبيَّنَ الكاذبون المرتابون، الذين يقولون ما وعدَنَا اللهُ ورسولُه إلا غرورا، الذين يتربصون الفريقين، فإن كان فتحٌ للمؤمنين قالوا ألم نكن معكم، وإن كانت الدائرةُ للكافرين قالوا ألم نُخذلْ ونمنعْ المسلمين عنكم.
قال الله تعالى: ((إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) .
وقال تعالى: (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) .
وقال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا? إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) .(/31)
وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ)) .
فالآياتُ الدالةُ على وجوبِ الصبرِ والجهادِ وتقديمِ الآخرةِ على الدُنيا أكثرُ من أن تُحْصى. فما أبعدَ مَنْ جعلَ مِنْ مجاهدةِ الكفار وقتالهم ضرورةً تُبيحُ تسليمَ البلاد والعباد لهم، حتى تقعَ الفتنةُ بهم وبحكمهم وبكفرهم. ما أبعدَه عن الفقه والدين، وإنْ زعمَ حِرصَهُ على دماءِ المسلمين وأموالهم. زَعْمٌ يُكذبُه الشرُ والفسادُ الذي سيوقعُهم فيه، ويَفْضَحُهُ مخالفتُه للنصوص والإجماع. وكثيرٌ من أصحابِ هذه الدعوى، هم كما قيل: المسُ مسُ أرنب، والريحُ ريحُ ثعلب.
فالمنافقون من قبلُ قد قالوا، كما أخبرنا الله تعالى عنهم: (( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) . والكفار اليوم يألمون من هذا الجهاد ويُقتلون ويُكلمون، يرميهم الله تعالى ويقتلهم بأيدي من اصطفى من عباده، ولولا قتالُ الروافض والمنافقين والخونة معهم لما قرَّ لهم بديار المسلمين قرار، وهم أيضا يدفعون ثمنَ هذا القتال اموالاً عظيمةً، ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُو?اْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) .
قال شيخ الإسلام: (( مسألةُ التَتَرُّسِ التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهادَ هو دفعُ فتنةِ الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يُفضي إلى قتلِ أولئك المُتَتَرسِ بهم جازَ ذلك‘. فانظر- رحمك الله - كيف أجاز أهل العلم، الذين يعرفون المصالح والمفاسد، للمجاهد أن يُباشرَ قتلَ المسلم إذا تَتَرَّسَ به الكفار. واليوم يحرمون ويمنعون - وهم قليلٌ ولله الحمد لكنْ الدعاية لهم ولباطلهم كثرتهم - الجهادَ خشية أن يَقتُلَ الكفارُ المسلمين، أو أن يَقتُلَ المجاهدون الكفار والمرتدين.
وما أحسن ما قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن محرضاً المسلمين للجهاد: (( فاحذروا غاية الحذر من سطوة الله تعالى، فحقيقة الدين هي المعاملة، وسبيلُ اليقين هي الطريقة الفاضلة، ومن حرم التوفيق فقد عظمت مصيبته، واشتدت هلكته، وأنتم تعلمون معاشر المسلمين أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يُصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الرأي الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق دينارا كُتب بسبعمائة، وفي رواية بسبعمائة ألف دينار. وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خُضْرٍ تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يُغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه آمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كُرب الموت، ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة. وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضلُ من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تُبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، إلى غير ذلك من فضائل الجهاد، التي ثبتت في نصوص السنة والكتاب.
فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرُتب، ومساعدة القائم بها، والانضمام والانتظام في سلكه، فتربحوا بذلك تجارة الآخرة، وتسلموا على دينكم.‘
فرحمه الله تعالى، فكلامُه يصدقه ويفرح به المؤمن، لأنه مأخوذٌّ من كلام رب العالمين، وقول نبيه الصادق الأمين. ويَهُزُ منه المنافقُ والمرتابُ رأسَه ويقول غرَّ هؤلاء دينُهم. قال تعالى: ((أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُو?اْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)) .(/32)
وقال تعالى: (( انطَلِقُو?اْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُو?اْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)) .
وقال تعالى: (( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ))
وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُو?اْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُو?اْ إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) .
وقال تعالى: (( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)) .
شبهة وجوب الراية للجهاد
شرعَ اللهُ تعالى الجهادَ، وفرضَهُ على المسلمين، وهو كما أخبر تعالى عنه كُرْهٌ لَّكُمْ. لكنَّ خيرَه الكثير للناس مقدمٌ بتقديم الله له على الكُره الذي يلحق بسببه. فمتى قام به مَنْ يكفي سقطَ الإثمُ عن الباقين، وإذا ضُيِّعَ وتُرِكَ، أو قام به من لا يكفي، وقعَ الإثمُ على جميع المتخلفين القادرين.
قال تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) .
وقال تعالى: (( انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) .
قال ابن كثير: (( وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة: كهولاً وشباباً ما أسمعُ اللهَ عذر أحدا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل. وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية (( انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ)) .
فقال أرى ربنا يستنفزنا شيوخاً وشباناً جهزوني يا بني، فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات. فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها. وهكذا رُويَّ عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، قالوا كهولاً وشباناً وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرُ واحد. وقال مجاهد شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، يقول انفروا نشاطاً وغير نشاط.‘
وروى الإمامُ أحمد ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله: (مَنْ ماتَ ولمْ يَغْزُ ولمْ يُحدِّثْ به نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ منْ نفاقٍ).
والكفاية التي تُسقط الإثم عن المسلمين هي كما قال ابن قدامة: (( أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو قد يكونوا أعدوا أنفسهم له تبرعا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم )) .
فتحقيقُ الكفايةِ واجبٌ على إمام المسلمين خصوصا، وعلى المسلمين عموما. فرضٌ عليهم أن يُحصِّلَوا القوةَ العسكرية من جُندٍ وسلاح، مستفرغين جهدهم ووسعهم، مقدمين له على ما سواه من الحاجيات والتحسينات.
ذلك أن الله تعالى أمرنا بذلك وحرضنا عليه، لما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، التي لا تخفى على العاقل البصير، للمسلمين خصوصا وللناس أجمعين. ولأن الكفارَ أعداءٌ للمسلمين، لا يزالون يقاتلونهم حتى يردوهم عن دينهم، بُغضا وعداوة للحق وأهله، وطمعا في ثروات المسلمين وأموالهم وديارهم، وخوفا من اجتماع كلمتهم وتوحدهم وقوتهم.
وبالتفريط والتضييع في تحقيق الكفاية الإثم والذنب العظيم، قال تعالى: (( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).(/33)
قال ابن جرير: (( يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعدهم على ترك النفر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا بترككم النفر إليهم عذابا موجعا. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْما غيرَكُمْ يقول: يستبدل الله بكم نبيه قوما غيركم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله. ولا تَضُرُّوه شَيْئا يقول: ولا تضرّوا الله بترككم النفير ومعصيتكم إياه شيئا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء واللَّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير)) .
وقال تعالى: (( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) .
قال ابن جرير: ( يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما يستأذنك يا محمد في التخلف خلافك، وترك الجهاد معك من غير عذر بين الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه. فَهُمْ فِي رَيْبهْمِ يَتردَّدوَن يقول: في شكهم متحيرون، وفي ظلمة الحيرة مترددون، لا يعرفون حقًّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين ) .
وفي سننِ أبي داوود عن ابنِ عُمَرَ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إذَا تَبَايَعْتُمْ بالْعِينَةِ وَأخَذْتُمْ أذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُم)).
وفي ترك الجهاد علوٌ للكفار، وذلٌ للمسلمين، وهذه هي الفتنة والكفر والشرك. قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) .
قال ابن جرير: (( فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ولا يُعبد إلاَّ الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لله يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره )) .
فَهُم متى ظهروا على المسلمين غيروا الدين بالقوة والإكراه حينا، وبالدعاية للباطل وتزيينه والإغراء به بالأموال والتولية والتمكين حينا.
فلو لم يكن الشرعُ قد دلَّ على تقديم تحقيق الكفاية العسكرية على تحقيق الحاجيات والتحسينات المعيشية لكان العقلُ الصحيح والنظرُ السليم دالاً وآمراً به. إذ الدين والنفس والعرض والمال والعقل، معرضٌ لبطش وسطوة الكفرة الحاقدين، الذي لن يرعى صغيرا ولا كبيرا، ولا امرأة ولا ضعيفا. وكلُ ما عُمِّر وشِّيدَ معرضٌ للتدمير والتحريق والتخريب، الذي لن يُبقيَّ قريةً ولا دارا ولا زرعا.
فمن العجب أن يوافقَهم ويرددَ قولَهم بعضُ المسلمين، في تحريمهم أسباب القوة على المسلمين، وجعلِهم أسلحة الدمار والفتك حكرا عليهم، يتسلطون بها ظلما على البلاد والعباد، وينشرون الفتنة والفساد.
هذا الركن العظيم والقطب المتين، له أحكامٌ وقواعد وضوابط، فمَن نجاهد ونقاتل ؟ ومتى نقاتل ونسالم ؟ وكيف نقاتل ونعاهد ونواثق ؟ وما الذي نغنم وكيف يُقسم ؟ وكيف نتعامل مع المحاربين والمعاهدين والأسرى والمستأمنين ؟
كل ذلك قد ذكره وبينه الله تعالى في كتابه العزيز، وبينه وجلاه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته وسيرته، وفصَّلَ ودقَّقَ وحقَّقَ فيه أهلُ العلمِ الراسخون فقهاً واستباطا وقياسا من النصوص . فمن ذلك أنهم حكموا وأوجبوا الجهاد عيناً على كل مسلم في حالات ثلاث:
الأولى : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، يحرُمُ على من حضر من أهل الجهاد - وهم الذكور الأحرار المكلفون المستطيعون لسلامة أبدانهم - الانصرافُ والفرار، قال تعالى: ((يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ)).
الثانية: إذا نزلَ الكفارُ ببلدٍ، تعيَّنَ على أهله قتالُه ودفعُه، قال المرداوي في الإنصاف: ( تنبيه: مفهوم قوله: أو حضر العدوُ بلدَه، أنه لا يلزم البعيد، وهو صحيح، إلا أن تدعوَ حاجةٌ لحضوره، كعدم كفاية الحاضرين للعدو، فيتعين أيضا على البعيد) .
الثالث : إذا استنفر الإمامُ قوماً للقتال، لزِمَهُم النفير، لعظيم حق الإمام، قال تعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)).(/34)
وفي صحيح البخاري عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: ( قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة، وإذا استُنِفرتم فانفِروا).
والحالُ اليومَ أن الكفارَ قد غزوا وأخذوا واحتلوا بلادَ المسلمين، وانتزعوها من أهلها، في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها، سواءٌ كانت تلك البلادُ محكومةً قبلَ احتلالها من منافقٍ كافر، أو مبتدعٍ ظالم، أو مسلمٍ صالح. فهذه البلاد والمدن والقرى مسلمةٌ بأهلِها، قد نزل بساحتها العدوُ الكافر، والذي يسعى لتمكين المنافقين المرتدين فيها ليحققوا له كلَّ أطماعِه ومصالحه، وليحكموا المسلمين بالطاغوت وليشيعوا بينهم الكفر والفتنة والضلال والفساد. فكان عيناً على أهلها الجهادُ والصبر عليه، حتى يأتيَّ النصرُ والفتح من الله تعالى، أو يعذروا بالقتل أو الأسر.
أو يبلغوا حداً من الضعف والقلة لا يستطيعون معه حرباً ولا غارة ولا نكاية. فلهم حينئذٍ – وهم أعلم بحالهم ممن يأخذ أخبارهم من عدوهم - أن ينحازوا إلى فئةٍ مسلمةٍ إن وجدوا لهم نصيرا ومعينا من المسلمين. فإن لم يجدوا نصيرا، كان الإثمُ على مَنْ أسلمهم، ووجبت الهجرةُ عليهم فرارا بدينهم من فتنة الكفار، فإن لم يجدوا بلدا مسلما يقبلُهم، عُذِرُوا، وكان الإثمُ على مَنْ منعهم الهجرة وصدهم عن بلاد المسلمين.
قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلا?ئِكَةُ ظَالِمِي? أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْو?اْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً)) .
فهل يُشترطُ للجهادِ - والحالة هذه - إمامٌ يجتمعُ الناسُ عليه، ورايةٌ يعقدُها، يُجَاهدُ تحت إمرتها وتوجيهها. هذا ما اشترطه اليوم مَنْ اعتمدَ في فتواه على أخبارٍ وأنباءٍ يأتيه بها فسقةٌ وظلمة ومنافقون. فتصورَ الأمرَ بخلاف حقيقته، واللهُ تعالى نهانا أن نقبلَ النبأَ من الفاسقِ، فكيف بالمنافق والكافر.
وانظرْ إلى الكفارِ في حربهم وهم لا يألون جهداً ولا حيلةً لإخفاء حقيقة ما يخسرونه من الأرواح الخبيثة والأبدان النجسة والعُدةِ والسلاح. وكيف يتسابق الفسقة والمنافقون، لإظهار قتلى وخسائر المسلمين، والتستر على مكاسبهم ومغانمهم، يفعلونه لإضعاف همم المسلمين وللإرجاف والتخويف. قال تعالى: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو?اْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)).
واشترط الرايةَ آخرون لا يفقهون، ولا يدرون أنهم لا يفقهون. فوقعوا جميعا في أمور:
الأولى : أنهم لم يفرقوا بينَ جهادِ الطلب وجهادِ الدفع. بينَ جهادٍ يغزو فيه المسلمون الكفار، وجهادٍ يدفعون به الكفارَ عن بلادهم، وهذا تفريقٌ قد أجمع عليه المسلمون. فجهادُ الدفعِ فرضُ عين باتفاقهم لا يُستأذنُ فيه، ولا يُتخلفُ عنه، أما الآخر فهو فرض على الكفايه، ويكون فرضُ عينٍ على من استنفره الإمام أو حضر الصف، هذا التفريق دليله الإجماع والنصوص، والنظر الصحيح للمقاصد الشرعية.
وكلا الجهادين أمرُه موكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويلْزَمُ طاعتُه، فإن عُدمَ الإمام - وهذا يتصور حال غزو الكفار لبلاد المسلمين وقتلهم لإمامهم - وجبَ تنصيبُ إمام حسَبَ الاستطاعة، وإلا نَصَّبَ كلُ بلد أو جماعة أميرا عليهم، يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه. قال شمس الدين ابن قدامه في الشرح الكبير: (( فإن عُدم الإمام، لم يؤخر الجهاد، لأن مصلحته تفوت بتأخيره)). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (( ويقال: بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين)) .
وقال ما معناه: (( أن القولَ باشتراط الإمام للجهاد، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد، يلزمُ منه مخالفةُ أمر الله وذلك بالوقوع في ترك الجهاد وحصول الموالاة للكفار. فلما كان ما يلزم من هذا الشرط باطلا، دلَّ على أن الشرط باطل ) )، وذمَّ وسفَّه وبدَّع صاحب هذا القول. فكيف لو سمعهم يشترطونه في جهاد الدفع، ويلزم مِن شرطِهم الغريب العجيب ذهابُ بلاد الإسلام واستيلاء الكفار عليها، ووقوع الفتنةِ بهم وبباطلهم.
الثانية : ما يُدريهم أن يكونَ لهم إمامٌ أو أمير، قد اقتضت مصلحة الجهاد إخفاءَ اسمِه، وعدمَ ظهوره. بل الظاهر أن لهم في العراق وأفغانستان وغيرها قيادة، ولديهم تنظيم وتنسيق. وهذا حَسْبَ جهدهم واستطاعتهم حين لم ينصرهم إمامٌ من المسلمين فينحازوا إليه ويقاتلوا معه.(/35)
الثالثة : أن علماءَ المسلمين في تلك البلاد، وهم أعلمُ بواقع حالهم، أفتوا بوجوب الجهاد والمقاومة والمجالدة، لهذا الكافر المحتل، حتى يُخْرُجَ - بإذن الله تعالى - مهزوما صاغرا من بلاد المسلمين. أفتوا بذلك وجازفوا بأرواحهم الطيبة نُصرةً للحق، وغيرةً على الإسلام وأهلِه، فللهِ دَرُّهُمْ، وأُشهدُ اللهَ على حبِهم، وأسألُه ثباتَهم وحِفْظَهم. وأذكرهم بما رواه ابنُ الجوزي في كتابه مناقب الإمام أحمد الشيباني البغدادي قال: (( أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا أحمد بن أبي سعد النيسابوري، قال: سمعت عبد الله بن يوسف يقول: سمعت أبا العباس الأصم يقول: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت الأنباري يقول: لما حُمل أحمدُ بن حنبل إلى المأمون أُخبرت، فعبرت الفُرات فإذا هو جالسٌ في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر تعنَّيت, فقلت: ليس هذا عناء، وقلت له: يا هذا، أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليُجيبنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلق الله، وإن أنت لم تُجبْ ليمتنعنَّ خلقٌ من الناس، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتُلك فإنك تموت، ولا بُدَّ من الموت، فاتَّقِ اللهَ ولا تُجبهم إلى شيءٍ ، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله، ثم قال لي أحمد: يا أبا جعفر أعِد عليَّ ما قُلتَ. فأعدت عليه، فجعل يقول ما شاء الله ما شاء الله )) .
فإن كان هذا موقفَ علماء الرافدين، فكيف يجرؤ هذا المُخذِلُ على مثلِ هذا القول ؟ الذي سرَّ وأسعدَ الكفار، واستظهروا به لإضعاف المسلمين وتفريق كلمتهم وشق صفهم. قد والله ركِبَ أصحابُ هذا الباطل شططا، وما قالوا قصدا ولا وسطا، ووقعوا في المظاهرة والمعاونة على المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
سُئل الإمام أحمد عن الرجل يقول: أنا لا أغزو ويأخذه ولدُ العباس، إنما يوفَّرُ الفئُ عليهم – يريد أن الغنيمة تذهب لهم – فقال: سبحان الله، هؤلاء قوم سوءٍ، هؤلاء القَعَدةُ، مثبطون جُهال، فيقال: أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الإسلام ؟ ما كانت تصنع الروم ؟
فكيف يقول إمامُ بغداد والدنيا في زمانه – رضي الله عنه - لو سمع مقالتهم اليوم، لا تقاتلوا الكفار وسلموا لهم الديار وارضوا بالمهانة والصغار، والفتنة والارتداد ! حتى يخرج إمام تقاتلون خلف رايته الكفار. ما أشبه مقالتهم بمقالة الروافض، حين قالوا لا قتال ولا جهاد حتى يَخرُجَ الإمامُ المهديُ المنتظر.
قال ابن قدامة في المقنع: (( ولا يجوز الغزو إلا بإذن الإمير، إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلَبَهُ )).
فقال شمس الدين في شرحه: (( إذا جاء العدو لزم جميع الناس، ممن هو من أهل القتال، الخروج إليهم .. إذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الإمير، لأن أمرَ الحرب موكولٌ إليه، وهو أعلمُ بكثرة العدو وقلتهم، ومكامنهم وكيدهم. فينبغي أن يُرجعَ إلى رأيه، لأنه أحوطُ للمسلمين، إلا أن يتعذَّرَ استئذانُه لمفاجأة عدوهم، فلا يجب استئذانُه حينئذ. لأن المصلحةَ تتعين في قتالهم والخروج إليهم، لتعين الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لِقاح النبي صلى اله عليه وسلم، فصادفهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خارجا من المدينة، تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع).‘
وقال المرداوى معلقا ومحققا للمذهب: (( هذا المذهبُ، ونصَّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب .. وقال المصنف في المغني يجوز – الجهاد دون إذن الإمام - إذا حصل للمسلمين فرصة يُخاف فوتُها)).
فلا خلافَ عندَ العُلماءِ في جوازِ بل وجوبِ الجهاد، إذا تعذَّرَ وجودُ أو نصبُ الإمام، إذا فجأهم العدو وأخذَ بلادَهم. وإنما الخلاف في جواز غزو بلاد الكفار المحاربين دون إذنه. والصحيح والمذهب عدم جواز غزوهم دون إذنه وتحت رايته، لما في ذلك من المفاسد التي قد تلحق بالمسلمين نتيجةً لهذا الغزو. فالإمام أعلم بقوة المسلمين وقدرتهم على قتال الكفار، وأعلم بقوة العدو وضعفه، فكان الإفتئاتُ عليه مضرةً ومجازفة بأرواح المسلمين وأعراضهم وديارهم.
الخاتمة
الحمدُ للهِ وحدَه، صدَقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه. أَخْتُمُ هذا الكتاب، ومعركةٌ ضروسٌ تدور بمدينة المساجد الفلوجة المجاهدة الأبية. تدور بين فئةٍ مؤمنة صادقة، قليلٌ أعدادها وعتادها، كثيرٌ صدقها وجلادها. وأحزابٍ كافرةٍ ظالمة، كثيرٌ أعدادها وعتادها، قليلٌ صِدقُها وجِلادُها. معركةٌ سيليها - بإذن الله تعالى - معاركٌ ومعارك، حتى يأتيَّ نصر الله تعالى.
ألا إنَّ نصرَه قريب، قد جعله حقا عليه للمؤمنين الصابرين الموقنين، ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ)).(/36)
وعَدَ اللهُ جلَّ جلالُه - ووعده الحق - النصرَ والتثبيت مَنْ نصره، قال تعالى : ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو?اْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)).
ومَنْ نصره اللهُ تعالى فلا غالبَ له، ولو أجتمع عليه من بأقطارها، فابشروا بنصر الله، واصبروا حتى يحكُمَ الله، وتوكلوا على الله وحسبكم الله، وكفى بالله حسيبا. قال تعالى : إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
قال ابن جرير: (( إن ينصركم الله أيها المؤمنون بالله ورسوله، على من ناوأكم وعاداكم من أعدائه، والكافرين به، فلا غالب لكم من الناس، يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم من بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عددكم، وكثرة عددهم، ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم)).
فإن كان الله تعالى - وهو الحكيم الخبير - جعلَ هذا اليومَ تمحيصاً واتخاذاً للشهداء، فجعل الدائرةَ لهم. فإن الله تعالى قد عزى وسلى أهلَ أُحدٍ من قبلُ بآيات محكمات، هن عزاءٌ لهم، ولكلِ مجاهدٍ سلك طريقهم وأصابه ما أصابهم. قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاٌّرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى? أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَئاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) .
وقد سمِعَ ورأى المسلمون في الجزيرة والشام ومصر والسودان والمغربِ والمشرقِ قليلاً - مِنْ ما أخفوه وتواصوا بكتمه - مِنْ بأسِكم وصدقِكم ونكايتكم بعدوكم. ففرحوا ببشائر نصركم، ودعوا الله لكم، وتمنوا لو كانوا معكم، واستغفروا الله تقصيرَهم وقِلةَ حيلتِهم. فبحمد الله قد أصبتم وأثخنتم فيهم، وملأتم قلوبهم رعبا وفرقا، وقلوب المؤمنين عزة وعزما وإقداما.(/37)
وكما وعدَ اللهُ تعالى مَنْ نصرَه النصرَ والتمكين، فقد توعَّدَ من تولى وأعرضَ، وبدل وغيَّرَ، وألقى بنفسه إلى التهلكة ببُخلِه بنفسه وماله عن ما فرضه اللهُ عليه من الجهاد والقتال. قال ابن جرير: ’ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدوّ فيحمل عليهم وإنما هو وحده، أيكون ممن قال: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة؟ فقال: لا، ليقاتل حتى يقتل، قال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ ... حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفين لم أرَ صفين قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدوّ، فقال الناس: مَهْ لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة. قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يُبلي من نفسه إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. إنا لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيًّا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله الخبر من السماء: وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَة الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.‘
وحين سمع المسلمون يوم مؤته وهم ثلاثة الآف بعدة جيش الروم مئتي الف مقاتل، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ’ والله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون، الشهادة. وما نقاتل العدو بعدة ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين.‘
توعد الله هؤلاء أن يبدلَّ نعمتَه عليهم نقمةً وعذابا، قال تعالى : ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ )).
وقال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)) .
ثم يختار الله ويصطفي من الناس، فيأتي بقوم غيرَهم، يؤمنون ويجاهدون لا يخافون لومة لائم. قال تعالى:((وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُو?اْ أَمْثَالَكُم)).
وقال تعالى: ((ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)).
اللهم أنصر أهل الفلوجة والعراق والمجاهدين من المسلمين في كل مكان. اللهم أنصرهم وثبتهم، وأنزل السكينة والنصر والمدد عليهم، اللهم واجمع كلمتهم على التوحيد والإيمان والتقوى، ووحد صفوفهم وسدد رأيهم وضربهم ورميهم.
اللهم واشدد وطأتك على عدوك وعدوهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واقتلهم وعذبهم بأيدي عبادك المؤمنين. اللهم وأقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والريب والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/38)
الانتصار للشيخ بن جبرين والرد على السذّج والمخدوعين .
للشيخ حامد بن عبدالله العلي
( إنّ المرجعية الدينية هناك ـ في إيران ـ تشكل الغطاء الديني ، والشرعي ، لكفاحنا ونضالنا ) حسن نصر ـ مجلة المقاومة .العدد 27 ص 15ـ 16
(نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران ) إبراهيم الأمين ، الناطق باسم حزب حسن نصر ، صحيفة النهار 5/3/1987
(فلم تكن الحرب بضواحي البصرة وعلى ساحل شط العرب ، إلاّ مقدمة حروب كثيرة ، أوكلت إليها القيادات الخمينية الشابة ، التمهيد لفَرَج المهدي صاحب الزمان ، من غيبته الكبرى، ولبسطه راية العدل ، على الأرض كلها، وتوريثه ملك الأرض للمستضعفين ) دولة حزب الله ص 231
ليس حزب حسن نصر سوى أحد صور المؤامرة الخمينية على العالم الإسلامي ، ما انبغي له ، وما أستطاع أن يكون غير هذا
أما لبنان فقد وجدت فيه إيران ، هدفا مهّما واستراتيجيا ، لتحويله إلى أحد توابعها ، وتسخير أرضه لمؤامراتها ، مستفيدة من الوجود الشيعي في الجنوب ، هذا الوجود الذي بدأ الصفويون بتجنيده ، واستمر توظيفه لسياسة لأطماع الأنظمة المتعاقبة على إيران ، إلى أن حولته الثورة الخمينية إلى جيش تابع لدولة داخل دولة .
ومعلوم أنّ لبنان موزَّع بين طوائف متعدِّدة ، جعلت من الدولة فيه مجرد غطاء شكلي، لكيان هو أخصب أرض للتدخَّلات الخارجية ، ففي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض مناطق البقاع والهرمل ، دولة حزب حسن نصر ، وفي ضواح أخرى من بيروت، وجزء من جنوب لبنان ، دولة قوات أمل ، وفي الجبل سيطرة جزئية للقوات اللبنانية المارونية ، ودولة الدروز في الشوف ، وشمالا قوّات المردة المارونية ، وهكذا تتشكل بقية الخارطة السياسية فيه .
ولهذا وجدت الثورة الخمينيّة ، ما قد أسسّه الشاه البهلوي من قبلها في جنوب لبنان من امتداد سياسي ، عندما دعم الشاه حركة موسى الصدر في لبنان ـ كما دعم حركة الدعوة التي أسسها محمد باقر الصدر في العراق ، وقد ذكر شهبور بختيار أن الشاه كان يحلم بتوسيع سيطرة إيران لتهيمن على العراق ولبنان ـ وجدت أرضا خصبة لإقامة نظام خميني آخر فيها .
(النظام اللبناني غير شرعي ومجرم" و "من الضروري تسلُّم المسلمين الحكم في لبنان كونهم يشكلون أكثرية الشعب ) دولة حزب الله ص 342
ونذكر فيما يلي السياق السياسي والتاريخي لحزب حسن نصر ، لنرى الصورة الكبيرة التي يجهلها السذج ، والمغفلون ، والمخدوعون بهذا الحزب :
1ـ قيام الدولة الصفوية ـ أوائل القرن السادس عشر الميلادي ـ التي اضطهدت السنة في إيران ، وتآمرت على دولة الخلافة ، وفرضت المذهب الرافضي ، فقدم إليها مراجع الشيعة ، من لبنان ،والعراق ، والبحرين وغيرها ، وألبست الأطماع التوسعية الساسانية العنصرية لباس دين الرافضة .
2ـ انتقال الفكر الرافضي السياسي من طور الغيبة والانتظار حيث تحرم الثورة ، والإمامة ، وإقامة الدولة قبل ظهور المهدي : ( كل راية تُرفع قبل راية المهدي فصاحبها ، طاغوت يُعبد من دون الله) .. و (كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة) .. (واللهِ لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم، إلاّ كان مثله ،كمثل فرخ طار من وكره ، قبل أن يستوي جناحاه ، فأخذه الصبيان فعبثوا به) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 271 ـ 272
إلى طور ولاية الفقيه ، التي تعني أن يتولّى الفقيه النيابة عن الغائب ، فيقيم الدولة ، والثورة : ( إن الفقهاء "هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك، وعلى كلٍ فقد فوَّض الله إليهم جميع ما فوض إلى "الأنبياء" وائتمنهم على ما ائتمنوا عليه ) الحكومة الإسلامية للخميني ص 80
3ـ انتهاج نهج تصدير الثورة : ( وإذا غدا استمرار الثورة ،ودوامها ، من بعد حدوثها ، إنجاز الثورة الأعظم أوجب تجديد الإعجاز كلّ يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يُرتب تجديد الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية ، بين كربلاء ، وبين ظهور المهدي، إلا إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين الاضمحلال والضعف ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالإقامة على الحرب وفي الحرب، وينبغي لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة، ولو طالت قروناً؛ لأنهّا تؤذن بتجديد العالم كلّه، وبطيِّ صفحة الزمان ) كتاب دولة حزب الله ص276
5 ـ الترويج بأنّ ثورة الخميني تمهّد لمهديهم ، وأنّ مهديهم سينجح فيما فشل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ـ تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ـ(/1)
(الأنبياء جميعاً جاؤوا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم لكنهم لم ينجحوا ... وحتى النبي عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في ذلك في عهده ... وأن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في أنحاء العالم ويقوم الانحرافات هو الإمام المهدي المنتظر ...) !! من خطبة الخميني في عيد المهدي عام 1400هـ .
(نقل موقع "انتخاب" الإيراني، أنّه في اجتماع أخير للوزراء الإيرانيين، وبناء على اقتراح من نائب الرئيس برويز داو ودي، وقعّوا ورئيس الجمهورية ، على ميثاق بينهم وبين المهدي المنتظر!!
ولأنّ أيّ اتفاقية لا بد من أن تحمل توقيع الطرفين، اتفق الجميع على أن يحمل وزير الثقافة الإسلامية صفار هارندي الرسالة ، ويذهب ، ويرميها في بئر في جامكاران القريبة من قم، حيث يلقي الحجاج طلباتهم كل يوم أربعاء.
ويقول مراقبون إيرانيون إن مثل هذا التفكير في ازدياد ، منذ مجيء احمدي نجاد، وأن الأشخاص المتطرفين حوله ، يقنعونه «بأن هناك مؤشرات إلى قرب ظهور المهدي، إلى درجة إقناعه بأن المسألة النووية الإيرانية مرتبطة بشكل مباشر مع ظهور إمام الزمان».
وحسب مصدر على إطلاع عما يجري، فإن هؤلاء الأشخاص في الاجتماعات المغلقة ، والعلنية، يصرون على ضرورة أن تتخذ الحكومة الإيرانية موقفاً صلباً ضد الضغوط الدولية، للحصول على حقها في التكنولوجيا النووية، «لأن هذه المسألة هي واحدة من الوسائل التي تُهيئ لظهور المهدي وأثناء الحملة الانتخابية ، ومن أجل دعم فوز أحمدي نجاد ، كرر آية الله محمد تقي مصباح يزدي وهو من المتشدّدين ، أن المهدي اختار أحمد نجاد وإنّه لواجب ديني انتخابه
) نقلا عن الشرق الأوسط 3/11/2005م
6ـ نشر عقيدة تكفير السنة ، واستحلال دماءهم :
في كتاب الأنوار النعمانية ج 2 ص 307 " وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن علامة النواصب تقديم غير عليّ عليه ، ثم قال " ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله ، مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له انقطاع إليهم ، وكان يظهر لهم التودد .. ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن إدريس قدس الله روحيهما ، وبعض مشايخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين ( أي السنة ) كلهم ، نظرا إلى إطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة ، فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق ، ولأنك قد تحققت أن أكثرهم نواصب بهذا المعنى .
الثاني في جواز قتلهم واستباحة أموالهم ، قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات ، وحكمه عندهم كالكافر الحربي في أكثر الأحكام ) .
7ـ البدء بطور التنفيذ المسلّح ، لتصدير الثورة واستحلال دماء المسلمين ، وخوض حرب الخليج الأولى ، وعمليات التخريب وتصدير الفتن الواسعة في البلاد المجاورة لاسيما في فترة الثمانينات الميلادية ، وقد شرحنا ذلك كلّه في مقال سابق ذكرنا فيه الأحداث مفصلة بتواريخها .
8ـ تراجع الثورة الخمينية أمام ردة الفعل الإسلامية ، وانشغالها بالأعداء لطور الدسائس ، والكيد الخفي ، على محورين :
أحدهما : تقوية الأحزاب السريّة التابعة للثورة الخمينية ، وإمدادها بالسلاح ، وتسخير السفارات الإيرانية لدعمها ، وتطوير جاهزيتها للانقضاض في الوقت المناسب ، لتحقيق الحلم الصفوي الخميني التوسّعي .
مع التركيز على تبنّي القضية الفلسطينية ، إذ هي شعار فعّال لحشد التعاطف الإسلامي للثورة الخمينية ، وفروعها في البلاد الإسلامية .
الثاني : استغلال الحملة الصهيوصليبية على الأمّة الإسلامية ، تحت تأثير الأحلام بالمرور تحت عباءتها إلى تحقيق المشروع الصفوي التوسّعي .
9ـ التآمر مع الحملة الصهيوصليبية لاحتلال أفغانستان ، والعراق .
10ـ الإسراع في تكوين دولة خمينيّة في وسط وجنوب العراق ، في ضمن حلف يشكل هلال يمتد من طهران إلى بنت جبيل في جنوب لبنان .
11ـ استغلال غطاء الاحتلال الصهيوصليبي للعراق ، لتهجير أهل السنة من الجنوب والوسط ، بعد إشاعة أعمال القتل والتعذيب فيهم على نطاق واسع .
12ـ الإسراع في تطوير البرنامج النووي الإيراني .
13ـ استغلال الجيش الإيراني في جنوب لبنان ـ حزب حسن نصر ـ في عمل دعائي يفيد الموقف الإيراني ، في الملف النووي .
14ـ انقلاب الإحداث إلى هجوم صهيوني كاسح على حزب حسن نصر ، لتدمير بنيته التحتية ، وإنهاء وجوده في الجنوب ، تمهيدا لإلغاء هذه الورقة التي جعلتها الثورة الخمينية ، في سياق الضغوط التي تعزز موقفها في صراعها مع الغرب .
15ـ تسبّب الثورة الخمينيّة ، عن طريق متعهّدها ـ حزب حسن نصر ـ في تدمير لبنان ، وتحويله إلى ساعة صراع ، وقتل المئات من أبناءه ، من أجل أطماعها التي تهدف إلى السيطرة والتوسع لتحقيق أحلام صفويّة ، عنصريّة ، بغيضة .(/2)
16ـ تطبيل السذّج ، والمغفّلين ، والملدوغين ألف مرّة من غير أن يتعلموا ، مع صواريخ حزب حسن نصر الإيرانيّة ، متوهّمين أنه يخوض حرب تحرير لفلسطين ، من أجل إرجاعها إلى أمّتنا !!
17ـ انكشاف أن الشيخ بن جبرين ـ حفظه الله ـ يقف على أرض راسخة ، ويتكلَّم بواقعية سياسية ، ذات خلفية عقديّة سليمة ، وليس كمن طاشت عقولهم ، وانساقوا وراء عواطفهم ، مع الصواريخ الخمينية في جنوب لبنان ، فنسوا المنطلق العقدي ، والخلفية التاريخية، والمساق السياسي للأحداث ، في صورتها الكبيرة .
والله الموفق ..
الشيخ حامد بن عبدالله العلي(/3)
الانتصار واللاءات الثلاث 9/8/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إن أسباب الانتصار التي أشارت إليها سورة يوسف كثيرة، قد مضت الإشارة إلى نذر منها، وفي هذه المقالة أستكمل ما بدا لي من أهمها، فمن أعظم أسباب انتصار يوسف: اطراده في منهجه اطراداً عجيباً من أول لحظات حياته حتى آخر لحظة، وهو يمشي على خط مستقيم، نقول هذا ونحن نرى الاضطراب في حياة بعض الدعاة، نرى الاضطراب في حياة ومناهج بعض المؤسسات والجماعات الإسلامية، تنشأ الجماعة على منهج، بعد عدة سنوات فإذا هي تغير، بعد ثلاثين أو أربعين سنة فإذا الجماعة التي نشأت ليست هي الجماعة اليوم في منهجها وإن بقي اسمها وإن بقي بعض الرموز، بعض الدعاة يجلس عدة سنوات يدعو الناس إلى منهج سليم، وعندما يعرف وتبدأ انتصاراته، يبدأ التغير أو بعد أن يبتلى أو غير ذلك من الأسباب. يوسف _عليه السلام_ لم يتغير أبداً من أول لحظة في حياته إلى آخر لحظة، مطرد "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (الزخرف:43). هذا الاطراد من أقوى عوامل الانتصار، وهذا يغفل عنه كثير من الدعاة، ولذلك يقولون: لماذا فشلنا؟ لماذا لم ننتصر؟
لأنكم لم تنتصروا على أنفسكم، لم تلتزموا بالمنهج الحق كما التزم به محمد _صلى الله عليه وسلم- صاحب المنهج الذي لا يتغير لا في السراء ولا في الضراء، لا تزيده المحن إلا قوة وثباتاً واطراداً "الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" (العنكبوت:2) "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة:214) نصر الله قريب. المشكلة فينا وفي التزامنا بهذا المنهج.
ومن أعظم مقومات الانتصار، عدم الاستعجال أو التنازل أو اليأس والقنوط، وأسمّيها، اللاءات الثلاث، فإذا أردت الانتصار فلا للاستعجال، ولا للتنازل، ولا للقنوط، وقد درست واقع كثير من الجماعات الإسلامية، وتساءلت لماذا لم تحقق ما كانت تعد به؟ فوجدت أن لذلك أسباباً كثيرة، ولكن من أبرزها أن هناك فئة مستعجلة، تريد أن تحقق الانتصار في مدة قياسية، فترتكب أعمالاً تتنافى مع المنهج بسبب الاستعجال.
ومن أمثال هؤلاء الذين يدعون قومهم وبعد أن يدعوهم مدة من الزمن ولا يلمسوا استجابة منهم يقوموا عليهم فيواجهونهم بالسلاح فتنشب حرب في غير مكانها وغير زمانها، وكم أضر الأمة أمثال هؤلاء المتعجلين! بينما صبر ألوا العزم من الرسل حتى جاء نصر الله.
أما التنازل، فكم أوقع من أناس، تقوم جماعتهم وترسم منهجها وما تريد أن تربي الناس عليه، وبعد مرور الزمن تلاحظ أنها لم تحقق ما وعدت به أتباعها، فيبدأ التنازل وتبدأ المساومة مع الظالمين، حتى تنتهي تلك المؤسسة أو تلك الجماعة أو ذلك الفرد إلى شكل دون حقيقة، ونجد في النهاية أنه لا فرق بينهم وبين الظالمين إلا في أمور يسيرة، وهذا تنازل في دين الله، وركون إلى الذين ظلموا.
وفئة ثالثة عملت في الدعوة –وغالباً يكون هذا على مستوى الأفراد- ومرت عليهم الأيام والأعوام، لم يستعجلوا ولم يتنازلوا، ولكنهم لما لم يروا استجابة الناس لهم يئسوا وقنطوا فانسحبوا من الساحة!
أما يوسف _عليه السلام_ فقد حارب كل هذه الأشياء، "إنه من يتق ويصبر" فلا استعجال ولا تنازل ولا يأس أو قنوط.
أيها الدعاة، يا أصحاب المؤسسات الدعوية، ما مقدار التزامكم بهذه القضايا الكبرى؟ هل أنتم تتعجلون؟ إن نجوتم من هذا فهنيئاً لكم، هل أنتم تتنازلون باسم المصلحة العامة، إن كنتم لا تتنازلون فهنيئاً لكم، هل دب اليأس والقنوط إلى قلوبكم؟ إن لم يكن كذلك فهنيئاً لكم.
فهذه مقومات مهمة في انتصار المسلم، وما أخذ بها فرد أو مؤسسة أو أمة إلا انتصرت، الانتصار بمعناه الحقيقي، وليس الانتصار هو الحصول على الملك، بل الحصول على الملك نوع من أنواع الانتصار، وأعظم الانتصارات هو انتصار المنهج، ولذلك يأت النبي يوم القيامة ومعه الرهط والرهيط، ويأت النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأت النبي ليس معه أحد، كما في الحديث الصحيح، ويقول _صلى الله عليه وسلم_ : "رأيت نبياً من الأنبياء ما آمن معه إلا رجل واحد".(/1)
ومن اليقين أن كل الأنبياء قد انتصروا "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51) "وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"(الروم: من الآية47)، فكل نبي قد انتصر، وانتصاره في ثباته على منهجه، في اطراده، في التزامه بالأصول والمنطلقات التي يدعو إليها، هذا هو الانتصار الحقيقي، فإن تحقق بعد ذلك استجابة الناس فهو انتصار، إن تحقق الملك فهو انتصار، لكن أعظم الانتصارات انتصار المنهج وما بعده نافلة.
فما أحوجنا إلى هذه العوامل المهمة من أجل أن نحقق الانتصار لأنفسنا وأمتنا في العاجل والآجل، إننا بحاجة إلى محاسبة النفس وإلى نقد الذات بصدق وصراحة، لماذا لم ننتصر؟ ولماذا لم تنتصر الأمة مع ما قدمته من جهود جبارة في تاريخها، منذ سبعين سنة ونحن نرى الجماعات الإسلامية، ونرى المؤسسات الإسلامية، وقد بذلت جهوداً مشكورة لا تنكر، وقدمت تضحيات أصبحت مضرب المثل في التاريخ فداء لدينها وعقيدتها، ولكننا نلحظ أنها لم تحقق الانتصار، لا الانتصار في المنهج، ولا الانتصار على ظهر الواقع، لماذا؟
لأنها لم تتكامل فيها مقومات الانتصار التي أخذ بها يوسف _عليه السلام_، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – عندما سأل هرقل أبا سفيان، قال: هل أتباعه يزيدون أم ينقصون، قال: يزيدون، قال: وهكذا الأنبياء حتى يكتملوا، وهكذا أيضاً الدعاة وهكذا الجماعات، هل تزيد أفرادهم أو ينقصون، بعض الجماعات أفرادها ينقصون، يزيدون في مدة من الزمن ثم ينقصون بعد ذلك، فمن أسباب عدم الانتصار عدم توافر هذه المقومات في سيرة الداعية أو سيرة تلك الجماعة أو سيرة الأمة، وبعد ذلك نأتي ونقول: لماذا لم ننتصر؟ "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ "(آل عمران: من الآية165)) .. " وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"(الروم: من الآية47) "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51) "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ "(يوسف: من الآية110).
آيات الانتصار صريحة وواضحة، والله لا يخلف وعده، إذن الخلل في أنفسنا، سواء أكان فرداً أو كان جماعة أو مؤسسة أو مجتمعاً، فإذا لم تحقق الانتصار فاسأل نفسك، ارجع إلى الكتاب والسنة، "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي"، لو أننا التزمنا بهذا لحققنا الانتصار العظيم في العاجل والآجل، فيا أيها الداعية، أيها العالم، أيها المسلم، التزم بهذه المقومات التي أشرت إليها في سيرة يوسف لتحقق الانتصار في العاجل والآجل _بإذن الله_ إذا انتصرت على نفسك وعلى شهواتك وعلى رغباتك وعلى هواك، إذا كان منهجك سليماً بعيداً عن البدع ومحدثات الأمور، إذا لم تستعجل، إذا لم تتنازل، إذا لم تيأس، أو تقنط، فأبشر فإن وعد الله لا يتخلف "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"(يوسف: من الآية90)، أسأل الله أن يحقق لهذه الأمة الانتصار الذي نرجوه لها على أيدي علمائها ودعاتها ومؤسساتها، وأسأل الله أن يقر أعييننا برفع راية هذا الدين وراية الجهاد في سبيل الله لتنتصر على أعدائها لا بالأماني ولكن بالحقائق.(/2)
الانتظار والأبعاد التقدمية في حياة الإنسان
يبدو أن فكرة المخلص أو المنقذ فكرة كامنة في اللاوعي الإنساني ومستحكمة في ذاته بالملازمة وعدم الانفكاك، فهو وإن كابر في اللامبالاة فلا يلبث حتى يعود خاضعاً ملتمساً الخلاص في نكبته من اللاشيء إلا أنه مقتنع في داخله من وجود قوة قادرة على إنقاذه.
ومنه ذهاب الأديان جميعاً إلى أنه في نهاية كل مرحلة من مراحل التاريخ يتجه البشر صوب الانحطاط المعنوي الهابطة نحو الأسفل، فلا يمكنهم أنفسهم أن يضعوا نهاية لهذه الحركة التنازلية والهبوط المعنوي والأخلاقي. إذن لا بد من يوم تظهر فيه شخصية معنوية على مستوى رفيع تستلهم مبدأ الوحي وتنتشل العالم من ظلمات الجهل والضياع والظلم والتجاوز.
ونحن الآن في عصر الأنوار والتكنولوجيا التي تجردنا من إنسانيتنا عصر النهايات نهاية كل ما هو إنساني، عصر السيطرة الاستهلاكية وتعليب العقول عصر إشباع اللذات والسُعار الجنسي عصر دشدشة العالم ضمن إطار الاستهلاك المادي والانحلال المعنوي والأخلاقي.
وفي هذا العصر يتطور عالم القمع بكل أشكاله المنظم منه والعشوائي في جميع مجالات الحياة، القمع الذي يعيشه إنسان هذا اليوم.. وهو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على (حيونة الإنسان) أي تحويله إلى حيوان كما عليه الكتاب المفكرون.
فحين نلتمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية، سندرك أنه سينتهي بنا الحال إلى أن نصبح مخلوقات من نوع أخر كان اسمه (الإنسان) من دون أن يعني هذا تغييراً في شكله، فالتغيير الأكثر خطورة هو الذي جرى ويجري في بنيته الداخلية، العقلية والنفسية.. طالما أن عمليات القمع والإذلال والاستغلال قائمة ومستمرة، وإذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني، وإحساسنا بإنسانيتنا حتى صرنا نتعود على الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا، وحتى صرنا نقبل هذا العنف والتعامل غير الإنساني الذي نعامل به نحن أو يعامل به غيرنا على مرأى منا. وينعكس تعودنا على هذا الإذلال في أننا صرنا نعتبر تعذيب السجين أمراً مفروغاً منه، لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب من السجين الضحية، حتى بعد خروجه من السجن، كما أننا لم نعد نتساءل عن أثر التعذيب في منفذه، وهل يستطيع أن يعود بسهولة إلى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب.. يكتب عالم الروبوتات رودين بروكس: العالم يتغير، وتتغير بشريتنا داخله، وقوى التغيير لا تقاوم وقد استمرت طوال الخمسمائة عام الماضية).
ويجادل بعض المتعصبين للتكنولوجيا، في محاولة لإنهاء الجدل قبل أن يبدأ. بأن وقت رسم الخط الفاصل قد فات: فنحن قد هُنْدِسْنا بالفعل، يؤكدون أن كل من يستخدمون وسائل سمعية مساعدة أو مفاصل اصطناعية هم روبوتات أولية. إذا كنت تعمل على حاسب متصل بشبكة، فستكون بذلك قد باشرت بالفعل توصيلاً مفصلياً مزدوجاً ينكر يعلن عن نهاية الهوية التقليدية.
ولقد نستسلم ببساطة وننتهي إلى أن المسالة مفرطة في تعقيدها، وأن غاية ما نستطيع أن نأمله هو (أن نترك السوق يقرر) لكنا قد لا نفعل هذا، يمكننا أن نتخيل سياسة تظهر، تأخذ التكنولوجيا مأخذ الجد، سياسة نبدأ في معاركتها بذكاء، سياسة تتحد، سياسة توّلد مع الوقت شبكة من القوانين – ومن ثم من المحرمات تبقي علينا بشراً بشكل أو بآخر، أبداً لن نحرز نصراً مستديماً – تماماً مثلما يمكنك أن تنقذ منطقة برية مرة كل عام، تماماً مثلما تعجز أعتى المعاهدات عن أن تنسي الفيزيائيين كيف يصنعون القنبلة الذرية، كذا ستبقي هندسة الخط الجرثومي دائماً تغري العلماء. ثمة جزء جديد مما يعنيه أن نكون بشراً، هو أن نحيا مع هذه الأمكانيات وأن نرشدها وأن نوجّهها، وأن نوقفها إذا لزم الأمر.
ولا يمكننا أن نرشد ونوجّه هذه الإمكانيات العلمية الفائقة دون الاقتناع بفكرة المخلّص والمنقذ إذ انتظار المخلص مما يعطينا دفعاً نحو المواجهة لكل ما هو غير إنساني وقوة للاستعداد من كل النواحي أخلاقياً وإيمانياً وسياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً ثقافياً لاستقبال المخلص العظيم الذي ننتظره فهو الوحيد القادر على تغيير مجرى الظلم والاعتداء والفساد إلى النهاية الحتمية وإظهار العدالة والحرية والإنسانية والعزة والكرامة.(/1)
الانحراف العاطفي
د. يوسف بن عبدالله الأحمد 27/1/1427
26/02/2006
قصة مؤثرة من واقع انحراف العاطفة بين الشباب والفتيات .
أسباب وقوع الفتاة في الانحراف العاطفي .
طرق العلاج من خلال دراسة واقعية استمرت أكثر من سنتين .
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم . أما بعد:
فهذا الرسالة نص محاضرة ألقيتها، ونشرت في الأشرطة المسموعة، وقد أشار علي كثير من الأفاضل أن تنشر في كتاب، لما اشتملت عليه من نقاط تفصيلية وكثيرة، حتى تعم الفائدة . وأسأل الله الكريم أن يبارك فيه، وأن ينفع به المسلمين .
لم أكن أرى قبل خمس عشرة سنة طرح هذا الموضوع علناً بهذا الوضوح ؛ لأن المرأة كانت غافلة، والغفلة صفة مدح وثناء للمرأة العفيفة كما قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [النور:23] . أما الآن فقد تغير الحال، وأصبح الانحراف العاطفي ظاهرة في المجتمع، وقيام الهيئات بضبط القضيا لا يكفي في العلاج، فلم يزل عدد القضيا في ازدياد مستمر، بل لابد من الطرح النظري الذي يحقق التحصين والتحذير من هذا الانحراف للآباء والأمهات والمربين والمربيات والشباب والفتيات .
لقد ترددت كثيراً في طرح هذا الموضوع بهذه التفاصيل، وشاورت عدداً كبيراً من المشايخ وطلاب العلم، فمن كان منهم له دراية بخطر الموضوع أو كان عاملاً في الهيئات فإنه لم يتخلف واحد منهم عن القول بأهمية طرح هذا الموضوع بهذه التفاصيل وزيادة، ومع ذلك فقد حذفت قدراً مهماً من التفاصيل، وحرصت على انتقاء العبارة التي تؤدي الغرض وتحفظ حق احترام مسامع الناس .
ثانياً : هذا الموضوع موضوع حساس، وقد يجرح مشاعر بعض الناس وخصوصاً ممن خطا في طريق الانحراف، أو كان له تجربة فيه، ولذا فإني أعتذر إليهم، وأجد نفسي مضطراً بعدما استفحل المرض إلى العرض الصريح للموضوع حماية للعفاف وإنقاذاً لمن زلت به القدم، ومع ذلك فإني سأسعى جاهداً في انتقاء الجمل والكلمات وربما أترك بعض القصص وبعض التفاصيل مراعاة لمشاعرهم .
ثالثاً : أحببت ألا أطرح هذا الموضوع إلا بعد الإعداد المتين له، وقد مضى على إعداده قرابة السنتين، التقيت خلالها بعدد كبير من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة الشرقية والوسطى والغربية، والتقت كذلك بعدد كبير ممن وقع في الانحراف العاطفي من الشباب التائب وعدد ممن لم يزل في طريق الانحراف، وكان من مصادري في ذلك استبانة وزعتها على جميع هذه الفئات.
رابعاً : أرجو بطرح هذه المحاضرة أن تكون سبباً مؤثراً في صيانة الفضيلة والحد من ظاهرة الانحراف العاطفي بين الشباب والفتيات بتوعية المجتمع و تحصين الفتاة وأهلها وعلاج من وقع في أسر الانحراف العاطفي .
خامساً : ما أذكره من قصص كله ثابت دون مبالغة، فهي قصص باشرتها بنفسي، أو أخذتها من عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي باشر القضية، أو من شاب أدرك حياة الجاهلية ثم من الله عليه بالتوبة والاستقامة .
سادساً : زرت أحد مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان عندهم قضية اختلاء لفتاة في السنة الأولى ثانوية، وعمرها ست عشرة سنة، بدأت علاقة هذه الفتاة مع الشاب منذ سنة .
ويحرص الإخوة الأفاضل في ذلك المركز أن يعطوا المرأة المخالفة إذا دخلت المركز العباءة الإسلامية لتجعلها فوق العباءة المتبرجة، ويعطونها القفاز والشراب الأسود، ووضعِ ستارة بينهم وبينها أثناء الحديث معها .
كان لهذه الفتاة بطاقتان للخروج من المدرسة : الأولى لركوب الحافلة، والثانية لركوب السيارة الخاصة، وكانت تستغل البطاقة الخاصة للركوب مع ذلك الشاب وخلال فترة وصول الحافلة إلى منزلها، تبقى في تجول بالسيارة مع ذلك الشاب، وربما ذهبا إلى مطعم عائلي .
وحينما طلب أعضاء الهيئة من هذه الفتاة رقم هاتف والدها رفضت وبكت بكاءً مراً، وكانت تتوسل لهم ألا تخبروا أبي . تأثر أعضاء الهيئة بسبب استمرار الفتاة بالبكاء، وهم أحرص الناس على الستر عليها، ولكنهم يدركون أنه من مقتضى الستر عليها أن يُخبر والدها بالموضوع، ويدركون أيضاً أن هذه الفتاة ربما لا تزال متعلقة بذلك الشاب فترجعَ إليه، وربما صدقت توبتها إلا أن ذلك الشاب يمارس الضغط عليها بقوة العاطفة، وربما هددها بالأشرطة والصور التي لديه، فإذا كانت هذه الفتاة تتوسل إلى أعضاء الهيئة حتى لا يعلم والدها فكيف سيكون رضوخها أمام تهديد عشيقها .(/1)
استطاع أعضاء الهيئة الوصول على رقم والدها، فاتصلوا به وأخبروه برغبتهم في حضوره، فجاء مسرعاً، وأُخبر عن ابنته بأسلوب هادئ، فتأثر تأثراً عظيماً، ورأيت التغير على وجهه، وأظن أن هذا الأب لم يمر عليه ولن يمر عليه موقف هو أخزى من هذا الموقف، فقد مرغت تلك الفتاة وجه أبيها في تراب الفضيحة والعار .
هذه القصة وأمثالها هي موضوع هذه الرسالة وهي قصة تتكرر كل يوم بعدد كبير، ومتوسط حالات المعاكسة والخلوة المحرمة التي ضبطت عام 1421 في المملكة ( 116 قضية ) تتكرر كل ليلة . ومما يؤكد خطورة الموضوع أن خط الانحراف العاطفي انحرف إلى الطالبات .
وهنا إحصائية مهمة في معرفة أكثر الفتيات اللواتي يقبض عليهن في خلوة محرمة، والإحصائية هنا في فئة الطالبات .
أكثر الفتيات اللواتي يقبض عليهن في خلوة محرمة هن طالبات المرحلة الثانوية، ثم طالبات المرحلة المتوسطة ثم الجامعية ثم طالبات السادس ابتدائي، وأسوق إليكم هذه الإحصائية لمركز هيئة واحد ولفترة زمنية محددة وفق الجدول الآتي :
1. طالبات السنة السادسة الابتدائية ( 6 ) ست طالبات .
2. طالبات المرحلة المتوسطة ( 75 ) خمس وسبعون طالبة . قبض عليهن في خلوة محرمة .
3. طالبات المرحلة الثانوية ( 91 ) واحد وتسعون طالبة . قبض عليهن في خلوة محرمة .
4. طالبات المرحلة الجامعية ( 38 ) ثمانٍ وثلاثون طالبة . قبض عليهن في خلوة محرمة .
أحببت أن أقدم بهذه القصة وهذه الأرقام حتى يدركَ الجميع خطر الموضوع وأهميةَ بيانه .
وبعد هذه المقدمة أنتقل إلى المظاهر ثم الأساب ثم العلاج .
والسؤال هنا : كيف يستطيع الشباب استدراج الفتيات ؟
والجواب : عادة ما تمر علاقة الشاب بالفتاة بثمان مراحل . وما سأذكره من مراحل يعرفها الشباب المنحرف حق المعرفة، ولكن المشكلة جهل الأبوان بها وكذلك الفتاة التي يتم استدراجها وهي لا تعلم، وهنا تأتي أهمية بيان هذه المراحل، ولا يمكن أن نستبين سبيل هؤلاء المجرمين إلا بكشفها . ومصالح ذكر هذه المراحل الآن تربو على مفاسد السكوت عنها .
المرحلة الأولى : الحصول على رقم هاتف الفتاة والاتصال بها، وهذه أهمُّ وأخطر مرحلة ؛ لأن الفتاةَ هنا تكون هي الأقوى، وإذا أغلقت الباب ولم تستجب له نجت بإذن الله تعالى .
المرحلة الثانية : البدء بالمكالمات، ولا يريد الشاب من الفتاة في هذه المرحلة أكثرَ من أن تقبل الاستماع إليه . فيجري الحديث بينهما على حياء منها بأسلوب هادئ ولغة نظيفة، والهدف كما ذكرت هو أن يجري بينهما كلام فقط، وأن تتكرر هذه المكالمات، ويتحدث الشاب معها غالباً باسم مستعار .
المرحلة الثالثة : تكوين العلاقة العاطفية .
إذا تكررت المكالمات فإن الميل العاطفي يقع في قلب الفتاة بكل سهوله، وليس ثمت أقوى في تقوية العلاقة العاطفية من تكرار المكالمات، ويستعمل الشاب في هذه المرحلة وسائل أخرى كسماع مشاكلها المدرسية أو العائلية والسعي في حلها، وإشعارها بصدقه وأمانته حتى تطمئن إليه، وأنها محلَّ اهتمامه الخاص، حتى تتعلق الفتاة عاطفياً بهذا الشاب وربما أهداها هاتفَ جوال، أو رقمَ شريحةِ بطاقةٍ مسبوقةِ الدفع، حتى تكلمه بجوال آخر لا يعلم عنه أحد من أهل البيت .
المرحلة الرابعة : إذا تعلقت الفتاة بهذا الشاب يكثر الحديث بينهما عن جانب المحبة والارتياح والرغبة في الزواج، فتعيش الفتاة حينها في الأوهام، ولا ترى في هذا الشاب إلا صفاتَ المدح والثناء ولا ترى العيوب، ولا تطيق الصبر عنه، وتكون حينها في غاية الضعف أمامه.
المرحلة الخامسة : الخروج معه بالسيارة للمرة الأولى، ويكون هدف الشاب منها هو كسر حاجز الخوف، ولذلك فإنه يكتفي بالتجول بالسيارة قليلاً، ثم يعيدها بسرعة، ومع ذلك فهي خطوة جريئة تخطوها الفتاة بسبب التعلق العاطفي الذي أعمى بصرها .
المرحلة السادسة : تكرار الخروج معها بالسيارة والنزول معها في المطاعم العائلية، وربما ذهب بها إلى بعض الأماكن العامة كالمنتزهات والملاهي والحدائق . ومن علامات الريبة دخول شاب وفتاة في مطعم عائلي في الفترة الصباحية وقبيل صلاة الظهر في أيام الدراسة .
وخلال المرحلتين السابقتين يُكثر فيها الشاب من كلمات المديح والثناء والإعجاب، وأنه يريد الزواجَ منها، ويصحب ذلك تقديم الهدايا، ولا تكاد أن تسلم أي علاقة من هدية الجوال، ويحاكي الشاب فيها نفسيةَ وميولَ الفتاة، فيكون مهتماً كثيراً بمظهره، ونوعِ الجوال والرقمِ المميز، واختيار السيارة المناسبة والتي قد يستعيرها أو يستأجرها . والشباب المتمرس في استدراج الفتيات غالباً ما يكون لديه أكثر من جوال، ويخسر خلالها أموالاً كثيرة بسبب فاتورة الهاتف .(/2)
وخلالَ المراحلِ السابقةِ أيضاً يستميت الشاب في الحصول على ما أمكن من المستمسكات على الفتاة بدأً بستجيل جميع المكالمات، والاحتفاظ بما يأخذه منها من صور أو غيرها، وربما قام بتصويرها بالتصوير الفتوغرافي أو الفديو من خلال كمرة الجوال، أو بعض الكمرات الصغيرة التي يخفيها في السيارة أو في المكان الذي يختليان فيه .
وهذه المستمسكات عبارة عن ضمانات يضعها الشاب في يده ضد هذه الفتاة، حتى يضمنَ استمرار العلاقة بها، ويضمن عدم تبيلغها عنه لو تابت من فعلها، وأهم أهدافه هو أن يهددها بإيصالها إلى أهلها ونشرها في الأنترنت إن رفضت الخروج معه والخلوة به . وبعض الشباب ينشر في الإنترنت كل صورة لفتاة يحصل عليها . ولما ضبط أحد الشباب في حالة اختلاء وجد في سيارته ألبوماً مليئاً بالصور لفتيات كثيرات وهن في أوضاعٍ مختلفة .
المرحلة السابعة : الاختلاء الأشد إن صح التعبير، ويكون في مكان خاص ؛ كالمنزل أو الفندق أو الشقق المفروشة أو الاستراحة . وكل فتاة رضيت بأن تختلي مع شاب في مثل هذه الأماكن، فقد أعلنت تركها للعفاف، ولحوقها بركب البغايا والمومسات . ويستعمل الشباب حينها عدداً من الوسائل التي لا أرى من المناسب ذكرها والتي يتحقق بها اغتيال الفضيلة .
المرحلة الثامنة : بعد المرحلة السابعة تدخل الفتاة في نفق مظلم، وتعاني من آلامٍ نفسية، وتدخل في دوامةٍ مليئةٍ بالمشاكلِ المعقدة . وقد وقفت على عدد كبير من هذه المشاكل من خلال أسئلة الهاتف ولا يدرك كربها إلا من عايشها : مشكلةُ حمل السفاح، ومشكلةُ ستر الفضيحة بالزواج، وحينما يتخلى الشابُ عنها، وحينما يتقدمُ لخطبتها فيرُفض بسبب الأعراف الاجتماعية . وتبقى هذه الفتاة بلا زواج أو تتزوج وتعيش معاناة أخرى تنتهي غالباً بالطلاق .
والفتيات اللواتي يبادرن الشباب بالاتصال، وتركب مع أي شاب منحرف دون المقدمات السابقة هن في الحقيقة ممن مررن بالمراحلِ السابقة وتجرأن على الفساد .
وغالباً ما تكون عرضة للتعرف على الشباب والاتصال المحرم متى ما سنحت لها الفرصة .
إن تلك الفتاة لم يخطر ببالها حينما كانت عفيفةً أنها ستخلو بشاب أجنبي عنها في يوم من الأيام، ولكن اتباعها لخطوات الشيطان أوقعها في جريمة العلاقة مع شاب أجنبي عنها . قال الله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" [النور: 21 ] .
إن أخطرَ المراحلِ السابقة هي المرحلةُ الأولى وهي قضية الاتصال الهاتفي ونظراً لغفلة كثير من الناس عن مخاطره فسأبين موضوع الاتصال الهاتفي عند الذئاب البشرية في استدراج الفتيات :
أهم ما لدى الشباب المنحرف من أجل اصطياد الفتاه هو الحصول على رقم هاتفها، ولديهم وسائلُ كثيرة من أجل الحصول على رقم الهاتف ؛ ومن وسائلهم : الاتصال العشوائي حتى يقع على صوت فتاه، فتغلقُ السماعةَ في المرة الأولى، ثم يستمر في معاودة الاتصال وإرسال رسائل الجوال حتى تضعف.
ومن وسائلهم : ما يسمى بالترقيم وهي الطريقة الشائعة بين الشباب، وهو أن يكون لدى الشاب أوراقٌ صغيرةٌ وضع فيها رقمه واسمه المستعار، ويرميه على الفتيات المتبرجات في الأسواق والأماكن العامة وربما وضعه في الحقيبة أو كيس الأغراض ونحو ذلك . فتأخذه الفتاة وهي لا تريد الاتصال عادة ولكن قد تأتيها لحظات ضعف فتتصل، أو أنها تعطي الرقم لزميلتها فتتصل .
ولهؤلاء الشباب الساقط تفنن في كيفية صيد الفتيات بالترقيم، فهذا شاب عرض رقم جواله للبيع في جريدة جامعية ؛ لأنه يبدأ بـ(055) وهذا له دلالة عند كثير من الساذجات، فاتصلت إحدى طالبات الجامعة بكل بساطة من أجل شراء الرقم، واستطاع الشاب استدراج الفتاة وبعد شهرين فقط من الاتصال الأول استطاع أن يأخذها من الجامعة أيام الاختبارات وأن يركبها في سيارته، وضبط مختلياً بها في بيت أحد أقاربه .
ومن الطرق أيضاً حصول الشاب على الرقم عن طريق إحدى زميلاتها، وربما أخذ الرقم من دفتر تلفونات قريبته . ومن أشهر طرق الوصول إلى الهاتف هو شبكة الأنترنت من خلال برنامج المحادثة ( الشات ) ولا يدخله الشباب إلا بحثاً عن الفتيات، فيمكث عدة ساعات فإذا تعرف على فتاة نقلها من الغد على المسنجر وتبدأ العلاقة بينهما عبر المسنجر أو البريد الاكتروني ويستمر التواصل بينهم على هذه الحال عدة أسابيع حتى يتحقق من ميل عاطفة الفتاة إليه وتعلقها به، ثم يأخذ منها رقم الهاتف .
والشيطان يستدرج الطرفان، بل يأتي الحديث أحياناً من الشاب بالرغبة في التوبة إلى الله ويسأل عن بداية الطريق فتسعى الفتاة في دلالته على بعض الكتب والأشرطة النافعة، وربما كان العكس هو الذي يبدأ بدلالتها على الخير ؛ لأن هدف الشاب تكوين العلاقة وأن يجري الحديث بينهما حتى تقع في شراك العلاقة العاطفية، وأذكر هنا قصة مؤثرة :(/3)
قدمت مرة محاضرة في إحدى المدارس الثانوية للطالبات : وكان من ضمن الأسئلة المكتوبة : أن فتاة تعلقت بشاب من خلال الهاتف، واستمرت الاتصالات بينهما وكان يحثها دائماً على طاعة الله، وذكرت أنها حافظت بسببه على صلاة الوتر وأذكار الصباح والمساء، ولكنه في النهاية دعاها للخروج معه .
ومن القصص المؤثرة قضية ضبطها أعضاء الهيئة، وهي أن شاباً سيئاً كان يتصل اتصالاً عشوائياً، فوافق أحد الاتصالات هاتف امرأة فلما أجابت علمت أنه من المعاكسين فأغلقت السماعة، ثم عاودها مراراً وكلما رفعت السماعة أغلقتها حتى اتصل مرة فقال اسمعي مني فقط ولا تتكلمي . فبين لها أنه شاب يبحث عن فتاة عفيفة وأنه لا يبحث عن غير ذلك وشكرها على إغلاق الهاتف وأن هذا دليلٌ على عفتها، وأخبرها بأنه سيأتي لأبيها من أجل خطبتها، وتوالت الاتصالات بعد في متابعة مشروع الزواج، وأخبرها بأنه قد بنى بيتاً وأنه على مشارف الانتهاء ودعاها لأن تراه، ودعاها الفضول أن ترى البيت بعدما تعلقت بذلك الشاب النظيف في نظرها، وحتى لا تقع في الخلوة المحرمة جاءت مع زميلتها فركبتا معه، ثم أدخلهما منزله الجديد، وعند المرور على الغرف دخلت إحداهما غرفةً فدفعها فيه وأغلق الباب، ثم دفع الثانية إلى الغرفة الأخرى وأغلق الباب، واعتدى على الأولى ثم اعتدى على الثانية .
ومن طرق الاتصال الذي يسبب الانحراف، هو الاتصال الرسمي إن صح التعبير : فهذه امرأة اتصلت على وكيل مدرسة أهلية من أجل متابعة ابنها . تكرر الاتصال واستطاع استدراجها بكلمات الثناء والتقدير، وتكونت العلاقة بينهما، وبعد مضي سنة ضبطا من قبل الهيئة في خلوة محرمة .
وقصة مشابهة لشاب منحرف اتصل على إدارة مدرسة أهلية من أجل السؤال عن أخته التي تدرس بها، تكرر الاتصال بهذه الإدارية فتمكن من استدراجها، وضبطا بعد مدة في خلوة محرمة .
ومن صور الاتصال أن يتصل الشاب بزميله في المنزل فتردُّ أختُه على المتصل، ويتكرر الاتصال في أوقاتٍ مختلفة و يطرح المتصل فيها بعض الأسئلة : أين فلان ؟ متى سيأتي ؟ إذا جاء أخبروه بأن فلان زميله اتصل به . فتتعرف على صوته ويتعرف على صوتها، والعلاقة دائماً لا تحدث إلا مع التكرار، وربما تعمد بعد فترة اختيار الأوقات المناسبة التي لا يكون زميله موجوداً في المنزل، ويبرر اتصاله بالمنزل بأن جواله مقطوع أو لأنه أقلَ في التكلفة . وكثيراً ما يقبض الشاب مع فتاه وتكون أختاً لصديقه الحميم .
ومن القصص المؤثرة أن اثنين من الشباب كان بينهما صداقة قوية وتفاني، وكانا يجتمعان على معاكسة النساء . وفي يوم من الأيام اتصلت الهيئة بأحدهما لاستلام أخته التي قبض عليها في خلوة محرمة مع أحد الشباب، تأثر الشاب كثيراً، وكانت الصاعقة عليه حينما علم أن الذي اختلا بها هو صديقه الحميم .
اتصلت مرةً فتاةٌ في المرحلة المتوسطة على زميلتها فرد أحد الشباب في البيت وتبين أنها قد أخطأت في الرقم . انتهت المكالمة وراجعت الرقم ثم اتصلت على الرقم الصحيح لزميلتها، وأخبرتها بالاتصال الأول وأنها لقيت ارتياحاً من صوت ذلك الشاب وأدبه في الرد، فأشارت عليها زميلتهُا أن تعاود الاتصال، رفضت الفتاة بشدة ثم ضعفت واتصلت مرة أخرى، يقول هذا الشاب : عرفت الرقم فكانت تتصل وهي ساكتة ولا تتكلم بحرف فكنت أتحدث لوحدي، وأعلم بأنها رافعة للسماعة بحركة السماعة، ومضيت على هذه الحال مدة من الزمن، وبعد ذلك بدأت تخرج بعض الكلمات مثل كلمة نعم ونحو ذلك . تطورت الأحوال وتكونت العلاقة بيننا مدت ثمان سنوات، وبسبب انشغال ذهني بها انخفض معدلي تركت دراستي، وبسببها ساءت علاقتي بأهلي . وهو الآن يعيش حالة نفسية بسبب ما أصابه .
هنا موضوع مهم، إذا تكونت العلاقة المحرمة بالهاتف فكيف يلتقي الشاب بالفتاة والمجتمع محافظ ويرفض هذه العلاقات ؟
والجواب : تتحقق اللقيا عادة عن طريق الاحتيال على أهلها .
كثيراً ما تتم اللقيا بين الشاب والفتاة في الأسواق فينزلها والدها أو السائق إلى السوق وتكون قد تواعدت معه عند محل معين وساعة معينة، فتركب معه . وأحيناً تنزل مع بعض أهلها وإذا نزلوا إلى السوق تفرقوا بحكم أن هذه تريد سوق الذهب، والأخرى تريد الأقمشة، فتخرج مع ذلك الشاب في مدة التسوق .
وليس الأمر مختصاً بالأسواق بل كل مكان تذهب إليه المرأة ينزلها فيه وليها ثم يعود إليها في وقت لاحق، ولذلك فإن كثيراً ما يضبط أعضاء الهيئة قضايا الخلوة عند المنتزهات والملاهي وصالات الأفراح والمشاغل والمستشفيات والمستوصفات والمدارس والجامعات .
وتكثر حالات الاختلاء في أوقات الانفلات في الدوام ؛ كأيام الاختبارات، وأيام التسجيل، و كم هو مؤسف أن أقول بأنه يكثر أيضاً في شهر رمضان بسبب كثرة تسوق النساء فيه .(/4)
وهذا النوع من اللقيا يكون في المرات الأولى ثم يتطور الأمر فتكون اللقيا في المنازل أو الاستراحات، وبعض الشباب يكون لديه شقة أو استراحة مخصصة لهذا الغرض، وربما اشترك فيها مجموعة من الشباب .
ويأتي بعضهم بالفتاة إلى منزله في أوقات غيبة أهله، كوقت الصبح، أو في حال سفرهم . وربما دعت الفتاة الشاب إلى منزلها في غيبة أهلها .
ولدى بعضهم حيل وجرأة عجيبة فيلتقيان حتى مع وجود أهل المنزل :
تعلقت إحدى الفتيات بشاب وتطورت العلاقة، وكانت قد أخبرت زميلتها بتعلقها بذلك الشاب، فاقترحت زميلتُها وهي متزوجة أن يكون اللقاء في شقتها الصغيرة، وأخبرت زوجها بأن زميلاتها سيأتينها، وبما أن الشقة صغيرة فإنه لابد أن ينشغل مدة بقائهم عندها خارج المنزل، جاء هذا الشاب إلى هذه الشقة، واجتمع بالفتاة .
فانظر كيف استغفلت صاحبة الشقة زوجها، وكيف استغفلت الفتاة أهلها، وجعلت وليها هو الذي يوصلها إلى مكان الجريمة الآمن .
أسباب وقوع الفتاة في الانحراف العاطفي، وهي كثيرة وأهمها الآتي :
السبب الأول : ضعف الإيمان بالله، وقلة سماع المواعظ وقلة حضور مجالس الذكر .
السبب الثاني : القنوات الفضائية التي تنشر الرذيلة ؛ ويتفق العاملون في الهيئات أن القنوات الفضائية من أبرز الأسباب التي تهيج الشباب والفتيات وتدعوهم إلى الانحراف .
وليعلم الذي أدخل القنواتِ الفضائية المحرمة في بيته أنه : يشحذ السكين التي يتم بها اغتيال الفضيلة في بيته وهو لا يشعر .
السبب الثالث من أسباب الانحراف العاطفي : سماع الغناء، و هو بريد الزنا كما قال أهل العلم ؛ لأنه يهيج العواطف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري _ . وقد صححه جم غفير من العلماء منهم البخاري والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر .
وثبت عن عبدالله ابن مسعود _ أنه قال : " الغناء ينبت النفاق في القلب " أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي بسند صحيح .
وما أجمل كلام ابن القيم رحمه الله في حديثه عن حكمة الشرع في النهي عن سماع الغناء حيث قال : " فاعلم أن للغناء خواصاً لها تأثيرٌ في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع في الماء .
فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان .
والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه، ويهيِّجُ النفوس إلى كل شهوات الغيّ .. " إلى أن قال : " فيميل برأسه، ويهِزُّ منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وَثبات الدِباب، ويدور دورانَ الحمار حولَ الدولاب .. وتارةً يتأوهُ تأوهَ الحزين، وتارةً يزعقُ زَعقاتِ المجانين .. " إلى أن قال : " فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج في النفاق ". انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
ويتأثر النساء كثيراً بشكل المغني ولباسِه وحركاتهِ، تقول إحدى النساء وهي ممن يشاهد الغناء في التلفاز، تقول : " إذا رأيت المغني يغمز بعينه أشعر بأنه يقصدني " وهذا كلام امرأة متزوجة تجاوزت الثلاثين فكيف سيكون حال الفتيات الصغيرات .
السبب الرابع من أسباب الانحراف العاطفي : ضعف متابعة الأبوين لأبنائهم وبناتهم، فالأب لا يدري أين ذهبت ابنته، ولا من أين جاءت ؟ ولم يطلع يوماً على جوال ابنته وما فيه من رسائل وأرقام مخزنة، ولا يعرف حال صديقاتها وعلى ماذا يجتمعن ؟ والسائق يقوم بالمهمة .
وقد ذكر بعض التائبين أن بعض الآباء لا يسأل عن ابنته مطلقاً وربما باتت في غير المنزل وهو لا يعلم. و أعضاء الهيئة يدركون تماماً أن هذا ليس فيه مبالغة .
ذكر لي أحد أعضاء الهيئة : أن فتاة تعرفت على شاب وهما من سكان المنطقة الشرقية، وصعب عليهما اللقاء، وفي الإجازة الصيفية سافرت هذه الفتاة مع أهلها إلى مكة، وأخبرت صديقها بذلك، فسافر إلى مكة وكان يلتقي بها يومياً بحجة ذهابها إلى السوق، أو بقائها في الحرم بين المغرب والعشاء، وفي أحد الأيام استأجر سيارة وذهب بها إلى جدة، وتم القبض عليهما هناك وكانت في غاية التبرج والزينة، ولما تم استدعاء أبيها كان يؤكد بأن ابنته في الحرم . فانظر إلى غفلة الأبوين إلى ماذا تؤدي .
ومن المناسب أن أذكِّر هنا بتساهل كثير من الآباء والأمهات مع بناتهم إذا ذهبوا إلى مكة، فيترك البنات هملاً يذهبن إلى الأسواق والساحات وهن متبرجات، حتى أصبحت ظاهرة يتأذى منها الكثير، إنني والله أتعجب كيف تأتي المرأة إلى مكة لتعتمر فتطوف وتسعى بالعباءة المتبرجة عباءةِ الكتف والعباءةِ المخصرة ونحوها، التي لا يفهم منها الرجال إلا شيئاً واحداً وهو أن هذه المرأةَ ضعيفةُ العفة والحياء .(/5)
وأتعجب أكثر من ضعف رجولة وغيرة أبيها وزوجها وأخيها ؛ فيرضى بأن تكون قريبته مثاراً للفتنة عند الرجال الأجانب ؟ .
السبب الخامس من أسباب الانحراف العاطفي: جهاز الجوال الخاص، والإنترنت .
السبب السادس: خروج الفتاة إلى الأسواق والمحلات بلا محرم . إن أخطر الأماكن كلها على النساء هي الأسواق المختلطة، والخطر يأتي من بعض الباعة والشباب المتسكع، الذين يتعرضون للنساء بالمعاكسات والترقيم، والدخول في الأماكن المزدحمة من أجل الاحتكاك بالنساء، وربما تابع المرأة المتبرجة مدة طويلة حتى يحاسب عنها، أو يطلب حمل الأغراض عنها، وغير ذلك من الطرق السيئة في إيذاء النساء ؛ وإن كان هؤلاء الفساق يتفقون على عدم التعرض للمرأة العفيفة، وقد حدثني عدد من التائبين بأن المرأة التي تلبس عباءة الرأس وتلبس القفاز والشراب الأسود لا يمكن أن يتعرض لها أحد . فإذا تعرضت امرأة لموقف من قبل هؤلاء الشباب فلتعلم أنها قد قصرت في حجابها .
و السوق أيضاً أنسب مكان للمواعيد الأولى للشاب والفتاة، ولذلك فإن (70 % ) من عمل الهيئات تقريباً يكون في الأسواق .
ومن مخاطر السوق أن كثيراً من الباعة لديه مقدرةٌ عالية على استدراج النساء، والقرب منها بحجة تقريب البضاعة، والحديث معها بطريقة تفصيلية عن اللباس، و كثير من العمالة في هذه المحلات يأتي أولَ ما يأتي إلى هذا العمل بهيئة رثة ثم لا يلبثُ شهراً، إلا وقد غير هيئته ولباسه، وفتح صدره وقص شعره بطريقة معينة .
ومن الفتن الواضحة في الأسواق مجسم المرأة الذي توضع عليه الملابس والذي يسمى بالمانيكان، وهذا المجسم يبرز مفاتن المرأة وكثيرٌ منها يصف تفاصيلَ العورة، وأعتذر أن أصرح بهذا ولكنه واقع يراه النساء والرجال في المحلات، وهذه المجسمات لا يجوز نظر الرجال إليها لأنها مثيرة للفتنة، فكيف إذا وضع عليها الملابس الضيقة والملابس الخاصة ؟ ولك أن تتصورَ الآثارَ السلبيةَ حينما تقهرُ المرأةُ حياءَها وتدخل هذه المحلات لتسأل وتشتري تلك الملابس من أولئك الرجال .
لقد علمت واقع الأسواق والوقت يضيق عن ذكرها، ولدي قناعةٌ فقهيةٌ بأنه لا يجوز للمرأة أن تذهب إلى هذه الأسواقِ بغيرِ محرم لما في ذهابها بدونهِ من المفاسد التي سبق ذكرها، ولما فيه من الاختلاط المحرم وقد نبه إلى ذلك فضيلة الشيخ حمود التويجري وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله .
ومن القضايا التي ضبطت من قبل الهيئة قصة امرأة كانت تذهب دون محرم إلى محل حلويات من أجل الشراء، وكان البائع وسيماً وهو من إحدى الدول العربية، ومع كثرة مجيئها إلى المحل استدرجها وتكونت العلاقة، وارتقت إلى الاتصال بالهاتف، ومع مضي المدة بدأت تدعوه إلى منزلها أثناءَ غَيابِ زوجها، واستمرت الأمور على هذه الحال مدة طويلة، ثم جاء البلاغ عنه من قبل صاحب المحل الذي كان قد وضع جهاز تسجيل لضبط مكالمات المحل، فقدم شكوى رسمية إلى الهيئة ووثقها بهذه الأشرطة، ضُبط على إثرها العامل، وكذلك المرأة .
السبب السابع : الخلوة بالسائق، وأحياناً تكون الخلوة خفية، كالحال في الحافلات التي تقوم بتوصيل المعلمات والطالبات، فتحصلُ الخلوةُ حينما تكونُ هي أولُ مَن يأخذها، أو آخر مَن يُنزلها .
فهذا شاب متزوج يعمل على إيصال الطالبات إلى الجامعة في حافلة صغيرة . لَحظ حارس إحدى الإدارت الواقعة أمام شقة هذا السائق أنه يأتي إلى منزله كل يوم بفتاة تختلف عن الأخرى وذلك بعد خروج زوجته إلى العمل . فاتصل في أحد الأيام على الهيئة وأخبرهم بأن امرأة دخلت معه شقته الساعة السابعة، وضبطت الفتاةُ مع هذا الشاب بعد خروجهما من المنزل في الساعةِ الثانيةَ عشرة، وتبين أنها إحدى الطالبات اللواتي يوصلهن إلى الجامعة، وكانت هذه الطالبة تدرس بنظام الساعات في السنة الثالثة، وتبين أنه ليس لديها ساعاتٌ دراسيةٌ صباحَ يومِ الثلاثاء، وأنها قد ضللت أهلها بذلك، وتم إحالتها إلى سجن الفتيات .
ومن القصص أنه في أثناء تجول الهيئة في الصباح وجدوا على الشاطئ سيارة على حال مريب فقربوا منها، ووجدوا فتاة مع سائق هندوسي في حالة سيئة، وبعد إحضارهم إلى المركز ذكرت أن حصول ذلك متكرر على التناوب بينها وبين أختها، وكان الأب في غاية الغفلة عن بناته .
السبب الثامن من أسباب الانحراف العاطفي : السفر إلى الخارج ؛ إلى بلاد الفسق والفجور من البلدان العربية والأوربية وغيرها الذي يربي الفتيات على التكشف وضعف الحياء .
تعرف شاب بفتاة في لندن، وكانا قد ذهبا إلى لندن مع اسرتيهما، وبعد رجوع الأسرتان إلى هذه البلاد استمرت العلاقة المحرمة بين الشاب والفتاة، وعلمت بهذه القصة حينما جاءني اتصال بالهاتف عن حكم اسقاط جنينها بعدما ظهر عليها حمل السفاح، ثم أسقطت جنينها ظلماً وزوراً، ووالداها وأهلها لا يزالون في غفلتهم .
السبب التاسع : تبرج الفتاة إذا خرجت إلى الجامعة أو السوق أو غير ذلك . .(/6)
السبب العاشر : إطلاق النظر إلى ما حرم الله من قبل الرجل أوالمرأة في القنوات الفضائية أوالأسواق وغيرها .
السبب الحادي عشر : الصحبة السيئة . وهذا من أهم أسباب فساد الشباب والفتيات، وصديقة السوء هي التي تتحدث مع زميلاتها في المدرسة أنها تتصل بأحد الشباب، أو تعطيهن أرقام الشباب، ومن أسوء السيئات التي تعرف بعض الشباب على زميلاتها . وكم من فتاة دخلت الجامعة وهي عفيفة، فلا يمضِ عليها إلا شهر واحد حتى تلحق بركب العباءات المتبرجة بسبب ما تشاهده من حال رفيقات السوء .
السبب الثاني عشر : كثرة غَياب الأب أو المسؤول عن المنزل وانفلات إدارة المنزل .
السبب الثالث عشر : اختلاط الرجال بالنساء في الأعمال والدراسة، كالمستشفيات وكليات الطب.
حدثني أحد الاستشاريين في أحد المستشفيات الكبرى بأن طبيباً مقيماً وطبيبة مقيمة وكلاهما من أهل هذه البلاد تكون العلاقة العاطفية بينهما في العمل، وأصبحا يغلقان عليهما الباب كل يوم في إحدى غرف المستشفى فترة الغداء .
السبب الرابع عشر من أسباب الانحراف العاطفي : الاختلاط الأسري . فتسكن أكثر من أسرة في بيت واحد، أو أن يختلط الرجال والنساء في الصالة أو المجلس عند الزيارات، أو أن تفتح المرأة الباب للرجل في غيبة رب الأسرة لأن الطارق ابن عم ولا يغلق الباب دونه، فتفتح له الباب وتدخله المجلس وتقومُ بضيافته، و مع الغفلة وتغليب حسن الظن تحدث المأساة .
اتصل بي رجل ليسألني عن مشكلة حصلت له، ومع كثرة سماعي للأسئلة المؤلمة إلا أن هذا السؤال كان صدمة قوييييية، وملخص القصة : فتاةٌ سافرت إلى مدينة أخرى من أجلِ الدراسةِ الجامعية، وسكنت عند أختِها المتزوجة ومكثت عندهم أربعَ سنوات، وأثناء سنواتِ الدراسة تكوَّنت العلاقة بين الفتاةِ وزوجِ أختها، وأصبح يخرج معها كثيراً دون علم زوجته، ثم ظهر الحمل ولم تتمكن من إسقاطه، ولما جاءت ساعة الولادة ذهب بها إلى المستشفى على أنها زوجته، ونسب الولد إليه وأن أمه هي زوجته، وقد بذلا شيئاً عجيباً من أجل إخفاء هذه الحقائق، وأوهمت الزوجة بأن أختها حملت من شخص آخر وأن الزوج سعى في الستر عليها بنسبة الولد إليه وأن تقوم زوجته بتربيته، وإضافة إلى كل هذا يريد أن يطلق الأولى وأن يأخذ أختها، لقد أخذت هذه المشكلة عدداً من المكالمات المطولة عانيت من سماعها . ومنشؤها هو التساهل في جانب الاختلاط، وأن الحمو أشد خطراً من البعيد .
السبب الخامس عشر : الضعف العاطفي من الأبوين وكثرة المشاكل في البيت . والإشباع العاطفي من الأبوين لا يعالج أصل الفراغ العاطفي للفتاة ولكنه يساعد في العلاج . وأكثر الفتيات اللواتي يقبض عليهن وهن في سن المراهقة يبررن خروجهن مع الشباب بسبب الضغط الذي تعانيه من والديها . ولذلك فإنه من المهم أن يدرك الأبوان طبيعة سن المراهقة، وأنه لا يكاد أن يسلمَ المراهقون من كثرةِ لومِ الأبوين، فيشعر المراهق كثيراً بأنه مظلوم ومضطهد . فإذا أدرك الأبوانِ ذلك عرفوا كيف يتعاملون مع أبنائهم وأولادهم بلغة المحبة والعاطفة والتفاهم والحوار والإقناع .
ومن القضايا المؤلمة : فتاةٌ عمرها ثمانيةَ عشرَ عاماً، كانت تعاني من أهلها ومشاكل بيتها، ثم تعلقت بأحد الشباب، وعلقت عليه جميع الآمال، وظنت أن حياةَ الراحةِ والاستقرار لن تكون إلا معه، ولشدةِ هِيامهِا بذلك الشاب اتخذت قرار الهروب من بيت أهلها إليه وهو في مدينة أخرى، ولما استقرت عنده، تحول من حمل وديع إلى ذئب مفترس وأسكنها في عزبة للشباب، واعتدى عليها، ولدناءته وسوء طويته، مكن بعده سبعة من أصحابه ليعتدوا عليها تباعاً . ثم تحولت حياتها إلى مأساة، ولم تضبطِ القضيةُ في الهيئة إلا بعد أن تمكنت من الهروب من هذه العزبة . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وبعد عرض الأسباب أبدأ بالعلاج :
طرق علاج الانحراف العاطفي :
إن أهم جانب في علاج الانحراف العاطفي هو حماية الفتاة وتحصينها حتى لا تقع، وهذا هو الهدف الأساس من هذه المحاضرة، وحتى التي وقعت أو بدأت فسأذكر بإذن الله تعالى طرق العلاج .
أولاً : أول الحلول وأهمها هو الزواج المبكر للفتيات والشباب كذلك، و ينبغي أن نعلم أن الله تعالى خلق العاطفة في الرجل والمرأة، حتى يسعى الإنسان إلى تكوين الحياة الزوجية، وحتى يتحقق الاستقرار والسكن والرحمة والمودة في هذه الحياة الزوجية، وحفظاً لبقاء النسل . قال الله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" [سورة الروم آية: 21].
ومن المهم أن نعلم أيضاً أن هذه العاطفة تظهر في سن المراهقة عند وصول الإنسان إلى سن التكليف الشرعي . وتصل المرأة إلى سن التكليف عادة قبل الرجل بمتوسط سنتين ونصف، ويكون الجانب العاطفي لديها أقوى من الرجل، وأغلب الفتيات يصلن إلى سن التكليف الشرعي قبل أن تنهي المرحلة الابتدائية .(/7)
والله تعالى هو العليم الخبير الذي جعل الفتاة في هذا السن مهيأة لأن تكون أماً وزوجة، فإذا تزوجت استقرت العاطفة وكانت سبباً في تحقيق السكن والرحمة والمودة بين الزوجين، وقد كانت الفتاة تتزوج في سن الثانية عشر والثالثة عشر والرابعة عشر والخامسة عشر من عهد الرسول ‘ والصحابة وإلى ما قبلَ أربعين سنة من الآن، وفي وقتنا المعاصر تغيرت المفاهيم وتأخر سن الزواج قرابة العشر سنين .
فهذه أمُّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- دخل بها النبي – صلى الله عليه وسلم - وعمرُها تسعُ سنوات، ولو تقدم شاب لخطبة فتاة عمرُها أربعَ عشَرةَ سنة ولا أقول تسع سنوات لقيل إنها طفلة صغيرة لا تستطيع تحمل المسؤولية.
والجواب عن هذه الشبهة : في حديث جابر _، فعن جَابِرٍ _ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : مَاذَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا ؟ قُلْتُ : لَا بَلْ ثَيِّبًا . قَالَ : فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُكَ . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنِ امْرَأَةً تَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ . قَالَ : أَصَبْتَ " أخرجه البخاري ومسلم . والجارية هي الصغيرة من النساء . والخرقاء هي التي لا تحسن التصرف . فالنبي – صلى الله عليه وسلم- يعلم أن الجارية خرقاء لا تحسن التصرف، ومع ذلك حث جابراً أن يتزوج جارية ؛ لأن ذلك هو الأصلح لها ولزوجها .
فالسن الذي ينبغي أن تتزوج فيه الفتاةُ شرعاً، هو لمن تكون في المرحلة المتوسطة، وإذا نظرنا في طالبات المرحلة المتوسطة، فإنه لا يكاد أن يوجدَ فيهن طالبةٌ متزوجة، وكذا الحال في المرحلة الثانوية فإنه يندر فيها المتزوجة . فهذه المخالفةُ الصريحةُ للفطرة من أهم أسباب انحراف الطالبة عاطفياً سواءٌ فيما يسمى بالإعجاب بين الفتيات، أو الاتصال بالشباب . أما المرحلة الجامعية فالمتزوجات منهن لا يتجاوزن الخمسة بالمائة، وقد ذكرت مجلة الأسرة إحصائية مخيفة، وهي أن مليون ونصف امرأةً سعودية تجاوزت الثلاثين وهي لم تتزوج .
إن هذه الظاهرة الخطيرة لم تعطَ بعد حقها من الاهتمام والعلاج .
ومن أهم طرق العلاج :
أولاً : أن نرجع إلى ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من الزواج المبكر للفتيات، وكسرِ العوائق والرواسب الاجتماعية التي تخالف هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- وسنته .
ثانياً : إذا تقدم العمر بالفتاة فإنها ترفض من يأتي لخطبتها غالباً ؛ لأنه غيرُ كفئ لها في دينه واستقامته أو غيرِ ذلك، ولأجل هذا فإني أرى أهمية أن تسعى المرأة في تزويج زميلتها أو قريبتها من خلال البحث عن الكفئ لها من ذوي الدين والاستقامة . والشاب المستقيم المعدد خير لها من غير المستقيم وإن لم يكن معدداً، ولدي قناعة بذلك من خلال معرفتي بالمشاكل الزوجية التي تصلني عبر الهاتف .
ثالثاً : الزواج مقدم عى إكمال الدراسة أو الوظيفة . يتقدم شاب لخطبة فتاة وهي في الأولى ثانوية فيمنعها أهلها وربما دون علم ابنتهم بحجة إكمال الدراسة، وهذه جناية يرتكبها الأبوان في حق ابنتهما وهما لايشعران .
تحدثت إحدى الفتيات عن معاناتها فقالت : تقدم إلي الخطاب وأنا في سن مبكرة فكانت والدتي تصر على عدم الزواج حتى أنتهي من الدراسة، جاء الخطاب من أهل الدين والاستقامة ممن ترجوهم كل فتاة مستقيمة، فكانت والدتي تردهم دون إخباري، وربما أُخبرت أحيناً مع طلب عدم الموافقة ؛ لأن الدراسة أهم، فأوافقها في الظاهر ؛ لأن حيائي يمنعني أن أقول خلافَ ذلك . انتهيت من المرحلة الثانوية وتخرجت من الجامعة، ولم يأتني بعد ذلك إلا قلة من الخطاب الذين لا أرجوهم من ضعاف الدين والخلق، ثم دخلت بعد ذلك في دوامة الحرج الاجتماعي والمعاناة النفسية، أدافع نفسي دائماً حينما أنظر إلى والدتي نظر بغض وكراهية كلما تذكرت أن والدتي هي التي تسببت في تدمير حياتي الاجتماعية. وإن كنت أعلم بأنه نوع من العقوق .
رابعاً : السعي في تيسير أمور الزواج، بدأً بالمهر والوليمة فتقاطع الفنادق وقصور الأفراح، ويكتفى بوليمة مختصرة في البيت فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ . قَالَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " أخرجه البخاري ومسلم . يسر في المهر ويسر في الوليمة، وينبغي أيضاً أن يمتنع النساء عن التكلف في التجهيز والمباهاة في ليلة الزفاف .(/8)
إن واقع الشباب اليوم الذي تخرج من الجامعة وتوظف على أحسن وظيفة وأعلى مرتب لا يستطيع أن يتزوج إلا أن يكون والده ثرياً، أو بالزكوات والديون فكيف بمن دونهم .
ثانياً ( من طرق العلاج ) :
نشر الوعي في المجتمع حتى يصل إلى كل أم وأب، ونشر الوعي بين المعلمات حتى تكون على إحاطة بهذا الموضوع، أما الطالبات فهن الأهم في نشر الوعي بينهن من خلال توزيع الأشرطة والكتب المناسبة ووضع المسابقات عليها وأن تكون الجوائز مما يعود على الفتيات بالنفع والفائدة كالكتب النافعة والمجلات الإسلامية، ونشر الوعي أيضاً من خلال التوجيه المستمر من قبل المعلمات خلال الدقائق الخمس الأولى من الحصة، ومن خلال حصة النشاط وغير ذلك، وخصوصاً في المرحلة المتوسطة، مع ذكر القصص التي تحقق الوعي والتخويف . وما المانعُ أيضاً أن يدرجَ هذا الموضوعُ ضمنَ أحدِ المناهج أو أن يفردَ بمادة مستقلة، فتربية الفتاة على الفضيلة وتحذيرها من الرذيلة أهم من دراسة الفيزيا والرياضيات.
وكذا الحال أيضاً في نشر الوعي بالنسبة للطلاب .
ثالثاً ( من طرق العلاج ) :
مقاطعة الإنترنت، وأغلبُ الطالباتِ اللواتي يدخلن الإنترنت إنما يردن بذلك التسلية، ومن كان هذا هدفها فإنه في الغالب أنها لا تسلم من الانحراف، وقد تصل إلى درجة إدمان المواقع الإباحية وبرنامج المحادثة . وسندرك أهمية ذلك حينما نعلم أن الإنترنت تسبب في اغتال عفاف عدد كبير من الفتيات .
حدثني أحد الشباب التائبين بأنه يعمل في صيانة أجهزة الكمبيوتر، وأنه قبل التوبة كان يقوم بالتفتيش في أجهز الزبائن، ويقول إن أغلب الشباب يوجد لديهم في أجهزتهم ملفات خاصة للصور الإباحية . وهذا يكشف حقيقة استعمال الشباب لهذه التقنية .
وهنا خمس ضوابط مهمة في استعمال الفتاة للأنترنت :
1. وجود الحاجة لاستعمال الإنترنت في الدعوة إلى الله.
2. أن يكون الجهاز في مكان مفتوح في المنزل ؛ كالصالة ويشاهده الجميع، أو في غرفة مشتركة لعدد من العاملات في مكتب خيري ونحو ذلك .
3. ألا تظهر فيه شخصية الفتاة بأنها امرأة حتى في المنتديات الإسلامية .
4. ألا تظيف إلى المسنجر أي رجل ليس من محارمها .
5. ألا تظهر بريدها الاكتروني إذا ظهر لها مشاركة .
رابعاً (من طرق العلاج) :
الحذر من الجوال للفتيات قدر المستطاع، والبعد عن مهاتفة الرجال كذلك، ويتأكد المنع إذا كانت الفتاةُ ذاتَ صوت رخيم، فإن ذلك سبب في طمعِ مَن في قلبهِ مرض . قال الله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (الأحزاب 32)
و ينبغي الحذر أيضاً من أن تختلي الفتاة بالهاتف حتى لو كانت تتحدث مع صديقتها أو ابنة عمها وابنة خالتها ؛ بل ينبغي أن تتحدث أمام أهلها وأمها حتى ولو لم تأخذ راحتها في الحديث كما يقال .
وأي فتاة اتصل بها أحد الشباب المعاكس فيجب أن تغلق الهاتف فوراً، وألا تتحدث معه مطلقاً، حتى بالنصح، ولابد أن تقهر فضولها فلا ترفعِ السماعةَ لتسمع دون أن تتحدث، فهكذا كانت بداية سقوط الفتيات .
ولو فرضنا أن امرأة وصلتها رسالة جوال أو اتصال من شاب معاكس فيجب أن تخبر أحدَ محارمها المناسبين، حتى يخبر الهيئة .
وقد حصل هذا لإحدى الفتيات العفيفات، فأخبرت محرمها، وأخبر أحد أعضاء الهيئة وتم الاتصال به واستدعاؤه وأخذ التعهد عليه واعتبرت سابقة في ملفه .
خامساً ( من طرق العلاج ) :
التخلص من التلفاز والقنوات الفضائية عاجلاً، ومن احتاج للبديل فهي قناة المجد الإسلامية بجهازها الخاص الذي لا يستقبل أي قناة غيرها . والسعي في تنظيف البيت من المنكرات كأشرطة الأغاني والمجلات السيئة، والصور المعلقة . واستبدالها بالأشرطة والمجلات الإسلامية، وعلى رأسها مجلة أسرتنا، والمتميزة والشقائق والأسرة، ومن المجلات الطيبة التي تخاطب الفتاة في المرحلة المتوسطة مجلة حياة . وأدعو كل أسرة إلى اشتراك ثابت في بعض هذه المجلات النافعة .
سادساً ( من طرق العلاج ) :
الضبط الشديد لجانب تغيب الطالبات في جميع المراحل الدراسية، وخصوصاً في الأيام التي يكثر فيها الانفلات كالأسابيع الثلاثة الأخيرة التي تسبق الاختبارات، وأيام الاختبارات .
سابعاً ( من طرق العلاج ) :(/9)
التزام الحجاب الشرعي، وكثير من يتصور أن الحجاب هو لبس العباءة، وهذا مفهوم ناقص، فأول درجات الحجاب هو القرار في البيت، قال الله تعالى : "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى"، ولنتأمل أيضاً حديث ابن مسعود _ قال : " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" أخرجه الترمذي بسند صحيح فلاحظ قوله : المرأة عورة فإذا خرجت، ولم يقل فإذا كشفت عن وجهها أو ساقها ونحو ذلك، وهذا يعني أن الستر الحقيقي للمرأة هو عدم الخروج إلا عند الحاجة. وأما قوله استشرفها الشيطان فقد جاء في بيان معناه أن المرأة تقول : لعلي أعجبت فلاناً لعلي أعجبت فلاناً . وهذا هو الذي يفسر ظاهرة تبرج الفتيات إذا خرجن أمام الرجال، وإذا تبرجت الفتاة أصبحت مهيئةً نفسياً لتقبل المعاكسات، وتسببت في طمع الشباب بها .
ثامناً ( من طرق العلاج ) :
إنشاء الأسواق النسائية (المغلقة) التي لا يدخلها إلا النساء، لدفع المفاسد التي سبق ذكرها، وأن يتولى ذلك أهل الخير والصلاح من التجار أو الجمعيات الخيرية، فهذه جمعية البر بعنيزة قد أنشأت مستشفى نسائي لا يدخله إلا النساء وبطاقم نسائي متكامل حفظاً لعورات المؤمنات . وإنشاء السوق النسائي أيسر وأسهل من المستشفى، ولابد أن يشتمل هذا السوق على المحلات الراقية، والتسجيلات الإسلامية، ومطاعمِ الوجباتِ الخفيفة، وألعابِ الأطفال، وأماكنَ واسعةً للجلوس والمشي وغير ذلك، ومن أراد أن يبدأ بهذا المشروع فلابد أن يحيط بأسباب النجاح فيه والاستفادة من التجارب السابقة مع وجود لجنة شرعية تشرف عليه، وقد سبق أن فصلت ذلك كله في ملف مختص بهذا الموضوع، وأرى أن البداية الناجحة في هذا المشروع خطوة أساسية في دفع الانحراف .
تاسعاً (من طرق العلاج):
شغل الوقت بما ينفع، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فتنشغل المؤمنة بحفظ كتاب الله، و الأعمال الدعوية وهي كثيرة جداً ؛ إعداد مجلة أو ترتيب مسابقة وغير ذلك، والانشغال بالأعمال المباحة كأعمال المنزل وغيرها . المهم أن تسلم من الفراغ ؛ لأن الفراغ مفسدة .
عاشراً (من طرق العلاج):
غض البصر عما حرم الله، فلا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال إذا كان في النظر فتنةٌ أو مظنةُ الفتنة . كالنظر إلى المغنين واللاعبين والممثلين ونحوهم، وينبغي أن تحذر من فضول النظر، وأن تجاهد نفسها قال الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن" [النور آية: 30-31].
حادي عشر ( من طرق العلاج ) :
إذا وقعت الفتاة في التعلق العاطفي مع الشاب، فليس أمامها أي حل غيرُ قطع العلاقة به وأن تجعل ذلك توبة صادقة إلى الله، ستشعر بعدها بآلام عاطفية بسبب الفراق ولابد حينها من الصبر قليلاً ثم يذهبُ ذلك كلُّه ويعوضُها الله بلذة الطاعة والإيمان .
إذا عَلِم أحدٌ بوجود علاقة محرمة بين فتاة وشاب ؛ كأن تعلم بذلك زميلتها، أو المعلمة أو إدارة المدرسة، أو إدارة الجامعة .
فما الموقف الصحيح هنا ؟ أهم حل هنا، إضافةً إلى مناصحتها : إخبار أبيها أو من يقومُ مقامَه من محارمها، ويكون الإخبار بطريقة مناسبة حتى يتحققَ به ضبطُ الفتاة وحفظها . وهذا الحل مع ما فيه من حدوث ردة فعل للأب غالباً، إلا أنه ثبت من خلال التجربة والدراسة أنه لابد منه في العلاج، وقد جرى عليه عمل الهيئة بناءً على خبرتهم الطويلة في هذا الموضوع .
وسأبين لكم السبب في أهمية هذا العلاج . وهو أن الفتاةَ في سن المراهقة تكون شديدة العاطفة وسريعةَ التعلق، وإذا تعلقت عاطفياً أي وصلت إلى درجة العشق تكون في غاية الضعف ولا يهدأ ذهنها من التفكير في ذلك الشاب، و تخرج معه وتختلي به وهي تظن أنها لا تستطيع أن تترك الحديث إليه والخروج معه . فهي إذا خرجت معه تعلم أنها مخطئة وأنها تدخل بذلك نفقاً مظلماً ومع ذلك تخرج معه وتستمر في هذا النفق . والفتيات اللواتي يعرضن مشكلتهن على المرشدة في المدرسة إذا قيل لها اقطعي الاتصال به والخروج معه من الآن، قالت الطالبة لا أستطيع . فهذه طالبة تعلم أنها تفعل جريمة بشعة، وتأتي إلى المعلمة أو المرشدة في المدرسة وهي تريد التوبة إلى الله وتطلب حلاً لمشكلتها، ومع ذلك تقول لا أستطيع تركه .
فكثير من الفتيات تعلم أنها تقوم بعمل محرم وتعلم أنه قد يقبض عليها وتصبح بعد ذلك فضيحةً وعاراً عليها، وربما سمعت موعظة مؤثرة وتريد التوبة منها فلا تستطيع بسبب ضعفها الذي جعلها أسيرة لهذه العلاقة العاطفية، فنضطر حينئذ إلى استعمال الكي في العلاج، والكي مؤلم ويُبقي أثراً في المكان لكنه علاج لمرض قد يُودي بالحياة، والكي هنا هو إخبار الأب أو من يناسبُ إخبارُه بحسب حال تلك الأسرةِ وظروفِها، فربما كان الأنسبُ إخبارَ الأخ بدل الأب، كل ذلك بالنظر إلى ظروف وحال تلك الأسرة .(/10)
وبهذا تندفع شبهة القول بأن مقتضى الستر عدم إخبار والدها . والصواب أن يقال : إن من مقتضى الستر الحقيقي هو إخبار والدها حتى يعيد النظر في تفريطه في تربيته ومتابعته لأهله فيحفظَها ويسترَ عليها، وإلا بقيت الفتاة غالباً في عَلاقة محرمة مع ذلك الشاب .
ثاني عشر ( من طرق العلاج ) :
من بدأت في هذه العلاقة المحرمة ثم أرادت التوبة، وبدأ الشاب بتهديدها بالصور والمكالمات فماذا تفعل ؟ الموقف الصحيح هنا ألا تستجيب له مطلقاً مهما بلغ حجم التهديد، وعليها أن تخبر مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتم حيال ذلك ضبطُ هذا الشابِ وإحالتهُ إلى القضاء، وتهديدُ الشابِّ لها بالصورِ والأشرطة حتى تمكِّنه من الحرام جريمةٌ كبرى وفيها معنى الحرابة، وإذا ضبط فإنه يحال إلى القضاء وتكون عقوبته التعزيرية بالغة . ومن القصص التي حصلت في المنطقة الشرقية : أن فتاة تعلقت بشاب، ثم تابت فبدأ يهددها بصورها التي لديه فكادت الفتاة أن تخنعَ له، ولكنها اتصلت بالهيئة وأخبرتهم بقصتها، فرُتب الأمرُ بطريقتهم الخاصة وتم ضبط الشاب، وأُخذ الإذن الرسمي بتفتيش المنزل، ووجد عنده صور لعدد من النساء، وأحيل إلى الشرطة وطلب إحالته إلى القضاء، أما الفتاة فلم يعلم بأمرها أحد .
ثالث عشر (من طرق العلاج):
العقوبة التعزيرية الرادعة لكل شاب سافل يسعى في اغتيال العفة والفضيلة باستدراج الفتيات بالترقيم والمعاكسة وتكرار الاتصال ورسائل الجوال أو الوقوع في الخلوة المحرمة في السيارة أو غيرها . فكما نظر العلماء في عقوبة مروج المخدرات لما انتشر الترويج ورأوا أن يكون التعزير بالقتل، فكذلك لابد أن ينظر العلماء في عقوبة تعزيرية مؤثرة توقف هذا المد المخيف من الذئاب البشرية . فسرقة الأعراض لا تقل عن سرقة المال وتلف العقل .
أُقيم في بعض المناطق ـ في الطائف ومكة والمدينة ـ تعزيرٌ خفيف للمعاكسين، وهو جلدهم في المكان الذي ضبطوا فيه وهم يعاكسون النساء ؛ كالأسواق وبوابات المدارس فكان له أثر بالغ في انخفاض عدد المعاكسين في تلك المناطق إلى أقل من عشرة في المائة مما كان عليه عددهم، فكيف إذا كان التعزير قوياً مع التشهير باسمه .
وأخيراً أختم هذا الموضوع بخمس رسائل :
الرسالة الأولى : إلى طالبة المرحلة الثانوية والمتوسطة : اعلمي أن كل فتاة تحدثك عن اتصالها بشاب، أو عن تعلقها ببعض المغنين واللاعبين، أو تدعوك إلى حفلة ديجيه أو غيرها من الحفلات الغنائية، أو تخبرك عن سفرها إلى بلاد الفسق والفجور، أو ترين منها لبس العباءة المتبرجة . فاعلمي أنها صديقةُ سوء وأن النبي ‘ مثَّلها بنافخ الكير . وتذكري دوماً قول الله تعالى : "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا *" [سورة الفرقان 27-29] .
اقطعي العلاقة بهذه الصديقة، والتحقي بالصحبة الصالحة بجماعة المصلى، ودور تحفيظ القرآن الكريم. وكم هو مؤلم حينما نعلم أن جميع الطالبات إلا ما قل تخرج من المدرسة وقد انكشفت يدُها وجزءٌ من ساعدها وربما قدماها، فاتقي الله تعالى واتخذي قرار الستر الكامل من الآن وبادري بلبس القفاز والشراب الأسود، فإن فعلتِ ذلك فاعلمي أنك قهرت الشيطان والنفسَ الأمارةَ بالسوء، وإن لم تفعلي فاعلمي أنك المهزومة.
الرسالة الثانية : إلى طالبة المرحلة الجامعية : أيتها الأخت الكريمة . استمعي إلى هذه القصة كنت مع بعض طلاب العلم في زيارة للتجمعات الشبابية على الأرصفة والأسواق، وألقيت كلمة على تجمع كبير للشباب المنحرف، ولما انتهيت من الكلمة لحقني بعض الشباب فكلمني أحدهم وهو يبكي، ويقول كلما توجهت للتوبة انتكست بسبب ما أشاهده من تبرج الفتيات في الأسواق وعند بوابة الجامعة .
وأحيناً تكون الفتنة بالعباءة المخصرة أشدُّ من التي لا تلبس العباءة بالكلية .
وهنا بعض الأسئلة التي لابد أن تجيب عليها كل فتاة لبست العباءة المتبرجة وأن تتأمل في جواب كل سؤال .
السؤال الأول : ما الذي تريده المرأة من لبسها للبنطلون وعباءة الكتف المتبرجة إذا خرجت إلى السوق ؟ والسؤال الثاني : ما الذي سيفهمه الرجال والمعاكسون من هذا اللباس ؟ والسؤال الثالث : إذا كنتِ في السوق وأنتِ على هذه الحال ثم مرَّتْ بجوارك امرأةٌ تلبس عباءَة رأسٍ واسعة، ومخيطة من الأمام وقد سترت وجهها بالكلية ولبستِ القفاز والشراب الأسود، اطرحي على نفسك هذا السؤال دائماً وهو : ما الفرق بيني وبينها ؟ وأيتنا أكثُر عِفةً وحياءً ؟ وأصرح من هذا السؤال ما الذي جعل الشباب يتعرض لتلك المتبرجة ويترك المتسترة المحتشمة ؟(/11)
والجواب على ذلك كله في قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" [الأحزاب 59] . ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ؛ أي أقرب أن تعرف بالعفاف والستر فلا تؤذى من قبل الفساق .
الرسالة الثالثة : إلى كل معلمة وموجهة ومرشدة وإدارية : أنتن القيادات التربوية الحقيقية للفتاة، وأظن أن المشايخ لن يستطيعوا القيام بالإصلاح وحدهم، ونتفق سوياً أن المعلمةَ مربيةٌ قبل أن تكون معلمة، وقد قرر التربويون أن التربية الميدانية بالقدوة أقوى من الطرح النظري، فأولى الناس بكل ما سبق ذكره هن القدوات، لقد أدركتُ ذلك تماماً من أسئلة طالبات المرحلة المتوسطة والثانوية وحتى الجامعية : في الجانب الإيجابي، أو في الأثر العكسي حينما لا تكون قدوةً حسنة في دينها أوخلقها أوحجابها أو زينتها .
ومما يؤكدُ أثرَ القدوةِ العملية حديثُ قصةِ أمِّ سلمة –رضي الله عنها- في الحديبية، فالنبي ‘ قدِم مع أصحابه محرماً بالعمرة، ولما مُنع من دخولِ مكةَ والطوافِ بالبيت وتم الصلح بين النبي ‘ وكفارِ قريش على أن يرجعوا ويأتوا من العام القادم، أمر ‘ أصحابه أن ينحروا بُدْنهم وأن يحلقوا رؤوسَهم حتى يتحللوا من العمرة، ولم يستجب أحد من الصحابة رغبةً منهم في إتمام العمرة، ونص الحديث أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِأَصْحَابِهِ : قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا . قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا " أخرجه البخاري .
الرسالة الرابعة :
إلى الأب والزوج والأخ : أنا لا أدعوك إلى التخون، فالنبي ‘ نهى أن يتخون الرجل أهله كما ثبت ذلك عن جَابِرٍ _ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ " أخرجه مسلم .
ولكنني أدعوك إلى حفظ أهلك وحمايتهم كما أمر الله تعالى عباده : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم 6] .
كثيراً ما نسمع من الأب أو الزوج حينما يُناصح في تبرجِ مَن مَعه فيقول : أنا أثق في ابنتي أو زوجتي . وأنها متربيه . فاستمع إلى جوابي : أيها الأب والزوج الكريم : الثقةُ مطلوبة والتخونُ لا يجوز، ولكنَّ الحقيقةَ أنك قد وثَقْتَ بالشيطان والنفسِ الأمارةِ بالسوء، وتركت الحبل على الغارب كما يقال فلا تعلم متى خرجت ؟ ومع من كانت ؟ ولا تعلم هل هي تحافظ على الصلوات الخمس في أوقتها أو أنها تجمعها في وقت واحد ؟ .
أما التربية فقد أوكلتَ بذلك القنواتِ الفضائية التي أدَّت دورها بنجاح في مسرح اغتيال الفضيلة، وإراقة دم العفة والحياء، وأنت لا تزال في سُباتِك العميق وثقتك العمياء . وأي تربية أسوأُ من أمرك لها بكشف وجهها ولبس العباءة المتبرجة، وسفرك بها إلى بلاد الفساد والرذيلة .
الرسالة الخامسة :(/12)
إلى كل شاب وقع في جريمة المعاكسات والترقيم والاتصال بالفتيات : أخاطبك بلغة مقنعة كما أقنع النبي ‘ ذلك الشاب فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ _ قَالَ إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ . قَالُوا : مَهْ مَهْ . فَقَالَ ‘ : ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا . فَجَلَسَ . قَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ . قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ . قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ . قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ . قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ " أخرجه أحمد بسند صحيح .
فاجعل في مخيلتك دائماً إذا دعتك نفسُك إلى معاكسةِ النساء أن تلك المرأةَ هي إحدى محارمك، وأن شاباً أجنبياً مريضَ القلب قد طمعَ بها ويسعى في استدراجها . واستحضر أيضاً ما هي نظرة الناس إليك ؟! .
أحضر في بعض مجالس العامة أجد من بعضهم رأفة وعاطفة لبعض المفرطين في دينهم، ولكني وجدتهم قد أطبقوا على احتقار وكراهية الذي يعاكس النساء في الأسواق، أو في غيرها، فكيف تقبل أن تكون محل احتقار الناس . فهل أدركت ما هي نظرة الناس إليك ؟ .
وختاماً : فليتذكر كل من بدأ في طريق الانحراف العاطفي مجيء الملائكة إليه لقبض روحه، وليتذكر ماذا سيكون حاله إذا دفن في المقبرة وانصرف الناس عنه، فهل هو في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النيران .
وليتذكر أهوال يوم القيامة، وليتذكر دائماً حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ( وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) " أخرجه ابخاري ومسلم
ولنتذكر أن هذه الدنيا إنما خلقنا فيها لعبادة الله وحده لاشريك له، وأنها دار ابتلاء وامتحان . قال الله تعالى : "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" [المؤمنون: 115]
وأكرر مرةً أخرى أن هذا الكتاب أعد ليكون سبباً في نشر الوعي بين الناس، وتنبيهاً للآباء والأمهات، وحتى تحذر المرأة من انحراف العاطفة . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أسئلة لقياس مدى استيعاب القارئ للبحث
1. هل قرأت الكتاب كاملاً ؟. نعم ( ) . لا ( ) .
2. ذكر في الكتاب عدة صفات لصاحبة السوء فاذكر ثلاث صفات منها .
3. ما الضوابط الخمسة لاستعمال الفتاة للإنترنت؟ .
4. اذكر أسباب الانحراف العاطفي وطرق العلاج على هيئة نقاط مختصرة .
5. ما الأسئلة الثلاثة التي طُلب فيها من كل مَن لبست العباءة المتبرجة أن تجيب عليها(/13)
الانضمام لمنظمة العفو الدولية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 9/3/1424هـ
السؤال
أرغب في الانضمام إلى عضوية منظمة العفو الدولية، غير أني متردد في ذلك بسبب أن المنظمة تعارض عقوبة الإعدام وهي عقوبة شرعية في الإسلام وعقوبات شرعية أخرى كقطع يد السارق، كما أنها تدافع عن الحق في ممارسة سلوكيات تعتبر محرمة في الدين كممارسة الشذوذ الجنسي.
فهل يجوز لي كمسلم الانضمام إلى هذه المنظمة من باب التعاون على الدفاع عن المظلومين؟
الجواب
نعم يجوز لك الدخول في منظمة العفو الدولية – إذا كنت قادراً ومتمكناً من الدفاع لرفع الظلم عن المظلومين مسلمين كانوا أو غير مسلمين، لأن الظلم حرام على الخلق جميعاً وعواقبه عظيمة في الدنيا والآخرة، ومن شدة تحريمه أن الله حرمه على نفسه، مع أنه سبحانه حكم عدل لا يظلم أحداً "وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ" [ق: 29]، فقال في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" رواه مسلم (2577) ، وفي الحديث الآخر الذي أوصى فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل – رضي الله عنه - لما أرسله إلى اليمن، وكان فيهم أهل كتاب قال له: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" رواه البخاري (2448-4347)، ومسلم (19).
ولا شك أن منظمة العفو الدولية يشتمل نظامها على مخالفات صريحة لبعض أحكام الشريعة الإسلامية، ولكنها مع هذا منظمة إنسانية انتفع بها كثير من آحاد الناس، والمظلومين مسلمين كانوا أو كفاراً، وعمل المسلم ودخوله في مثل هذه المنظمة قد يتنازعه من الناحية الشرعية لأول وهلة أمران:
(1) مفسدة في الدخول في منظمة في بعض نظامها ما يخالف الشرع.
(2) مصلحة الدخول من أجل رفع الأذى ودفع الظلم عن المظلوم وإعادة الحقوق الشرعية إلى أصحابها، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدمت المصلحة على المفسدة، لا سيما إذا كانت المصلحة واقعة والمفسدة مظنونة، فإن المصلحة حينئذ ترفع المفسدة أو تخفف منها، وهذا ما تقرره القواعد الشرعية المبنية على الكتاب والسنة كقاعدة "ارتكاب أخف الضررين"، و"تقديم أدنى المفسدتين دفعا لأعلاهما"، هذا كله لو قيل إن المفسدتين حاصلتان بالفعل، ولعل مرجحات دخولك في هذه المنظمة إذا كنت مؤهلاً قادراً هو أن المسلم مطالب بتحقيق العدل ورفع الظلم عن المظلومين لا سيما المسلمين منهم، فالأقربون أولى بالمعروف، ودخولك في هذه المنظمة هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنكار باللسان والقلم أوسط درجات إنكار المنكر كما هو معلوم لكل مسلم، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
الانقطاع الحضاري
الأستاذ أنور الجندي
تجرى محاولة خطيرة ترمي إلى ردة العالم الإسلامي إلى كيان وهمي قديم، وإعطائه صفة الاستمرار التاريخي تحت اسم: حضارة السبعة آلاف سنة الفرعونية والفينيقية والفارسية والهندية وتجرى محاولة لإحياء هذه الحضارات القديمة.
والحق أن هذه الدعوة تتجاوز حقيقة تاريخية أكدها المؤرخون المنصفون، وهي أن الإسلام بظهوره وانتشاره قد قطع العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين هذا التاريخ الوثني القديم، وكل ما يتصل به من لغات وأديان وحضارات. ولقد قرر الباحثون الثقات بأن الإسلام كان عامل التصحيح الحضاري مع هذه الحضارات القديمة، وبين الأمة التي دخلت بعد ذلك في الإسلام.
استمرار الحنيفية:
والواقع أن الاستمرارية الموهومة التي يحاولون جمع خيوطها ليست هي استمرارية الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها وإنما هي استمرارية (الحنيفية الإبراهيمية) التي بدأت بها الدعوة إلى التوحيد، والتي كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ختاماً لها، وانقطاعية عما سواها، هذه الانقطاعية الواضحة في تاريخ البلاد العربية كلها منذ جاء الإسلام، وبعد ألف سنة من اليونانية والرومانية الوثنية.
لقد كان الإسلام هو الخط الفالص الحاسم في تاريخ الإنسانية، فقد قطع الامتداد الفكري والاجتماعي والثقافي بين ما قبل الإسلام وما بعده، قطعه عن العرب أولاً ثم في كل مكان ذهب إليه، وقد ذهب الإسلام إلى كل مكان وأثر في جميع النحل والأقطار. قطع امتداد الوثنية في العالمن كله من ناحية العقائد والملل، وقطع امتداد العبودية في العالم كله في الحضارات والأمم. فقضى على استرقاق العبيد في حضارات البراهمة والفرس والفراعنة والرومان. وقضى على قيصر وكسرى جميعاً.
ماذا تعني العودة:
وبعد، فماذا تعني العودة إلى ما قبل الإسلام: هل هي ممكنة؟؟ وما هو مفهومها؟؟
إن الباحثين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو غيرهما، لم يجدوا أي خيوط يمكن أن تشكل تراثاً أو لغة أو ثقافة أو "فكروا" كما يقولون.
بل تبين لهم أن كل الحضارات البابلية والآشورية وغيرها هي حضارات عربية حنيفية الأصل، وقد كشفت بين الفراعنة والعرب، أو الفينيقيين والعرب. وذلك في سبيل تمزيق المسلمين إلى أمم وعناصر، وكشفت الأبحاث الجادة عن زيف هذه الإدعاءات، وتعينن أن المصريين الأولين وفدوا من بلاد العرب وعبروا البحر الأحمى، ونزلوا عند حدود الحبشة ثم تدرجوا إلى أن هبطوا وادي النيل، وأسسوا دولتهم. وقد أحصى المرحوم الأثري الكبير أحمد كمال باشا ما يزيد على خمسة آلاف كلمة متصلة الجذور بين العربية والفرعونية.
وما يقال عن الفراعنة يقال عن الآشوريين والبابليين والفينيقيين، فهم جميعاً موجات خرجت من الجزيرة العربية وإنماعت في هذه المنطقة الممتدة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا، وإن هذه الموجات توالت في خلال فترات طويلة من القرون المتوالية قبل الإسلام، وكانت ممهدة للموجة الإسلامية الضخمة التي حملت لواء الإسلام والتي وجدت – عندما تمددت – جذوراً لها في هذه المنطقة.
الإسلام حول مجرى التاريخ:
أما الانقطاع التاريخي بين ما قبل الإسلام وبين عصر الإسلام فإن أمره واضح ويعترف به حتى من هو أشد المؤرخين الأوربيين تعصباً فإن (هنري بيرين) مؤلف كتاب (محمد – صلى الله عليه وسلم - وشارلمان) يقرر: "أن الإسلام هو القوة الهائلة التي حولت مجرى التاريخ الأوربي، وأن العصر الوسيط والنهضة الحديثة، ثمرتان من ثمار الإسلام، وإن ما يقال من أن سقوط الامبراطورية الرومانية هو العامل المؤدي إلى هذا التحول في التاريخ هو قول خاطئ فإن هذه الشعوب كانت من هوان الشأن، وضيق الحياة، إلى درجة تجعلها تنظر إلى الرومان نظرة العبيد إلى السادة، فما كان يخطر لها – بل ما كانت ترغب أبداً – في أن تناوئ روما وتقضي عليها".
أما المسلمون فكانوا يعتقدون أنهم أرقى وأسمى من الرومان في جميع أساليب الحياة، ولاسيما من الناحية الدينية التي كانت مبعث قوتهم ومصدر تربيتهم، فلم يحجموا عن منازلة الرومان ليقضوا على سطوتهم وسيادتهم وقد ظلت الدولة الرومانية قائمة، وظلت حضارتها باقية، وكل ما حدث أن انتقل مركزها الرئيسي من روما إلى بيزنطة "القسطنطينية" وأصاب حياتها العقلية والمادية شيء من الركود والفساد.
ولكن لم تكد تهب (رياح الإسلام) وتسير ركائبه إلى أراضي اليونان، حتى تلاشى ما كان لهم من المعالم والآثار، وقامت دول جديدة وظهرت حضارة جديدة، حاصرت أوربا من الشرق والجنوب والغرب "بعد فتح الأندلس". فاضطرت ملوكها إلى أن يوجهوا أنظارهم إلى الجزء الشمالي من أوربا حيث قامت المعارك التي كتبت تاريخ أوربا في العصر الوسيط. وإبان العصر الحديث.
أما الجزء الجنوبي من أوربا فلم تقع فيه – في تلك العهود – معارك إلا معركة (بواتيه) التي انتصر فيها شارل مارتل على جيش الأندلس بالخيانة والغدر لا بالقوة والبأس.(/1)
فلولا ظهور الإسلام لظلت الامبراطورية الرومانية قائمة، وأن انتقل مركزها من الغرب إلى الشرق، ولظل البحر الأبيض المتوسط بحراً رومانياً – بل قد سمى فترة بحر الروم – ولما قامت الثورات القومية التي خلقت أوربا الحديثة ولا الثورات الفكرية التي تمخضت عنها الحضارة الراهنة.
وهكذا نجد أن الإسلام قد غير العالم كله.
صفحة جديدة:
لقد فتح الإسلام – حين جاء – صفحة للبشرية، من حيث "عالمية" الرسالة وخلودها، ودعا الأمم القائمة إلى الدخول في دين الله: لأنه هو الدين الحق، بعد أن زيف رؤساء الأديان مفهوم التوحيد، ولقد أعلن الإسلام وحدة الدين، ووحدة البشرية، والتوحيد الخاص، فحطم الوثنية والأصنام، وعبادة غير الله، وقدم للبشرية منهج الإخاء الإنساني، فقضى على العبودية الفرعونية والقيصرية، ودعا المسلمين إلى النظر في الكون فأنشأ (المنهج العلمي التجريبي) الذي هو قاعدة الحضارة العالمية اليوم، ولقد استطاع الإسلام لأنه الفطرة والحق، وضياء النفس البشرية الأصيل، أن يزحف في خلال قرن ولا يزيد، حتى سيطر على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوربا: من الصين إلى حدود نهر اللوار على اللغات والأديان، ونقل العالم كله إلى نور التوحيد، ونفذ بأشعته إلى قلب أوربا، فحررها من الوثنية والرهبانية والمادية، وأدخلها إلى عصر النهضة. وبذلك كان الإسلام هو العامل الأكبر. الذي أدخل العالم كله إلى العصر الحديث.
وعبر الإسلام الشاطئ الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط فأدخله في السلم كافة، وقامت فيه كلمة التوحيد وامتدت نحو آسيا فأخرجت القبائل التركية فيما وراء النهر من الوثنية. وواصلت زحفها إلى الصين، وفي الغرب اقتحم الإسلام الأندلس، ووصل إلى نهر اللوار ثم لم يلبث أن اقتحم من البلقان حتى وصل إلى أسوار فينا. بل تعداها إلى جبال الصرب والكروات.
ودخل الناس في دين الله أفواجاً:
من هذا كله نجد أن الغسلام كان عامل انقطاع حضاري عميق المدى. بين حضارات الفراعنة والرومان والفرس والهنود. فبعد ألف سنة عاشتها هذه المنطقة بين يدي اليونان والرومان. انداح فيها الإسلام، ولم تلبث بعد عقود قليلة من الزمان، أن تحولت إلى رسالة التوحيد فنسيت لغاتها وأديانها ونحلها القديمة وأقبلت على الإسلام إقبالاً تاماً، ومع أن الإسلام حين سيطر على هذه المناطق لم يفرض عليها دينه، وإنما أقام حكمه العادل، وأفسح أهل الكتاب الحرية الكاملة في حياتهم الدينية، وحمى معابدهم وفتح لهم آفاق العمل في مختلف المجالات في سماحة ورحمة، غير أن الطوائف العربية الداخلة في هذه البلاد سرعان ما انصهرت في البيئات التي عاشت فيها، ولم تستعمل عليها استعلاء سلطان أو استعمار، وإنما تآخت معها وأصهرت إليها، ومن ثم فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، عندما تبينوا أن ذلك الحكم السمح العادل الذي حررهم من مظالم الرومان، هو من عند الله، لذلك فقد دخلوا في الإسلام الذي كانت جذوره موجودة في أعماقهم وضمائرهم. منذ رسالة الحنيفية الإبراهيمية. التي جددها محمد صلى الله عليه وسلم، واتصل بها بعد أن انحرفت.. في مرحلة ما بينهما (ثم اوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً) النحل: 23.
ومن هنا فإن الانقطاع ليس إلا عن المرحلة القصيرة التي تعثر فيها طريق الحنيفية العنصرية، وكان هذا أمراً طبيعياً في التاريخ فمصر العربية قد انقطعت عن مصر الإبراهيمية، وكذلك فإن سوريا العربية قد انفصلت عن سوريا الفينيقية، والعراق العربي قد انفصل عن العراق الآشوري والبابلي، وبالإسلام عادت سيرتها الأولى إلى الربط بين الحنيفية الإبراهيمية والحنيفية المحمدية.
الجري ضد تيار التاريخ:
وحين جرت المحاولات في العصر الحديث لإعادة البلاد العربية إلى تاريخها قبل الإسلام بإحياء الفرعونية والفينيقية والآشورية، فشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، لأنها كانت تجرى ضد تيار التاريخ.
ويصور هذا المعنى العلامة علال الفاسي حين يقول "إن العمليات التاريخية التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا تمهيداً لإبلاغ الإنسان رشده عن طريق إكمال الدين، بوجود محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، فقد سبقته نبوات ورسالات، كما سبقته دعوات ربانية تشمل كل بقاع العالم، ولكنها لم توفق إلى البقاء، وأصابها الانحراف الذي يستوجب أن تجدد وتصلح ثم انفتحت آفاق التقدم الإنساني ففكان لابد أن يبعث الله الرسول الخاتم. وكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع الناس في جو الرشد المبني على العققل والروح، على القاب والجسم، ومن هنا فإن كل ما سبق من عمليات التاريخكان يهدف لغاية واحدة هي وجود الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، وبذلك يصبح الماضي وكأنه ما قبل التاريخ، أما التاريخ الصحيح فيبدأ بالمجتمع الإسلامي، والبشرية كلها مخاطبة لتسير وفق ما ترشد إلى ناموس الكون وما بني عليه هذا المجتمع.(/2)
هذه هي قصة الاستمرارية والانقطاع في تاريخ العربية الإسلامية، انقطاعية ألف سنة عن اليونان والرومان والوثنية، والحقيقة أن الاستمرارية هي استمرارية دين إبراهيم أبي الأنبياء. وانقطاعية كل ما سواه من محاولات عنرصةي وقبلية وعرقية وقومية. حاولت أن تخرج بالرسالة الخالدة عن هدفها الأصيل وغايتها الكبرى.
ولذلك فليست هناك استمرارية فرعونية، أو بابلية، أو آشورية، أو فينيقية وإنما هناك استمرارية التوحيد الخالص وميراث إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وكلها على طريق الله الحق.
وذابت الأعراق:
لقد ذابت كل القوى التي حاولت أن تسيطر على المنطقة الحنيفية الإبراهيمية، لقد ذهبت العنصرية وبقيت العقيدة الخالصة، وانصهرت القبلية والعرقية كلها في دعوة الله الخالصة. وأن الوحدة التي التقى عليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. هي وحدة العقيدة والفكر والتوحيد الخالص ولغة القرآن. ولقد انهزمت كل عوامل العنصرية. والعرقية أمام قوة العقيدة والفكر، التي غلبت على فكرة الدم والنسب. وغلبت لغة القرآن على كل اللغات القديمة. حتى اضطر النصارى إلى ترجمة أناجيلهم إلى اللغة العربية بعد أن ماتت القبطية والسريانية والآرامية التي كان المسيح عليه السلام يتحدث بها إلى معاصريه.
إن الارتباط بين الحنيفية الإبراهيمية والرسالة المحمدية هو التصحيح السليم للاستمرارية. بل هو التفسير الأصيل للترابط الأكيد الجامع بين عصور هذه المنطقة وأجزائها الجغرافية والتاريخية، وهو ما تعمد المحاولات التغريبية واليهودية إلى التأثير فيه، وذلك حين تشكك المصادر اليهودية: في مجيء إبراهيم إلى مكة وبنائه البيت الحرام مع إسماعيل وذلك بسوء نية. وهم يهدفون إلى نفي الرابطة الجامعة بين إبراهيم وإسماعيل، وبين محمد عليهم الصلاة والسلام ورسالة الإسلام الجامعة الخاتمة. التي هي رسالة الإسلام الممتدة منذ آدم عليه الصلاة والسلام ونوح.
لقد عمد الاستشراق إلى تزييف العلاقة بين الحنيفية الإبراهيمية وبين الغسلام، وإثارة الشكوك حول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، على النحو الذي قال به الدكتور طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل، بالرغم من ثبوت وجودهما في التوراة والقرآن وإن كانت الأحداث لم تلبث إن كشفت زيف ما دعا إليه طه حسين حرياً وراء الصهيونية في دعواها بعد ظهور الحفريات التي كشفت عن كثير من آثار إبراهيم وإسماعيل وأبناء إسماعيل في شمال شبه الجزيرة العربية وحول الكعبة.
ومن الأسباب التي تدعو إلى إنكار الحنيفية الإبراهيمية، أنها يدخلها الكردي والرشكسي والبربر والمسيحيون، وهم يهدفون إلى إعلاء العنصريات للقضاء على هذه الوحدة التي هي "عربية اللسان" ولقد أكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه في قوله:
"ليست العربية بأجدهم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي إلا أن الالعربية اللسان إلا أن العربية اللسان" رواه الحافظ ابن عساكر بسنده من مالك.
دعوة البغضاء:
إن الدعوة المسمومة إلى إعادة بعث الإقليميات والعنصريات القديمة، إنما تهدف إلى إذكاء البغضاء والأحقاد بإثارة الفرقة، بينما تقوم استمرارية الحنيفية السمحاء على وحدة الفكر والعقيدة، وهي الوحدة الحقيقية وليست دعوى اللغة والتاريخ والأرض التي يحمل أواءها العلمانيون الشعوبيون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور الجندي(/3)
الانهيار آية ونذير وعبرة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
طائرتان تندفعان نحو مبنيي مركز التجارة العالمي في نيويورك , فيتهاوى
المبنيان في وقت قصير. كلُّ مبنى مئة وعشرة طوابق, وفيهما بحدود خمسين ألف موظف . وطائرة ثالثة تنفجر على البنتاجون في واشنطن, فتندلع فيه النيران, وتذهب بجزء هام منه . وطائرة رابعة تنفجر في بنسلفانيا , وسيارة مفخخة تنفجر
عند وزارة الخارجية . ذلك مع صباح يوم الثلاثاء 23/6/1422هـ الموافق
11/9/2001مـ
الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت واشنطن, حين يتدافع الموظفون إلى أعمالهم في مركز التجارة العالمي, وينطلق النشاط في كل مكان , والناس يحسبون أنهم آمنون ويمضون مطمئنين , لا يقلقهم إلا السعي اللاهث وراء الدنيا وزينتها وتنافسها, وهم أبعد ما يكونون عن تصور هذا الحادث المروع أو توقعه , في هذا الوقت انفجرت أمريكا والتهبت في أخطر مواقعها التجارية والسياسية والعسكرية : مركز التجارة العالمي والبنتاجون ووزارة الخارجية .
ستبدأ الأجهزة تبحث عن الفاعلين , وستضع كل إمكاناتها وفكرها وأعصابها للكشف عن الذين نفذوا هذه العملية الرهيبة . وسيقوم بذلك أكثر من بلد وقطر , ليس أمريكا وحدها , فإنكلترا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي ودول أخرى , كلها أعلنت عن استعدادها للمشاركة في البحث والتنقيب , وبناء حلف يعلن الحرب على" الإرهاب " في العالم كله .
سيمضي الناس يُشْغَلون في البحث والظن والتخمين , وستمضي الإشاعات
تمتد وتنتشر بين مؤيد ومنكر, وستهيج العواطف هنا وهناك تخوض في ميادين كثيرة من الظنون والاستنتاجات .
ولكن كثيراً من الناس قد يغيب عن بالهم التفكُّر بقضاء الله وقدره , قضاؤه النافذ , وقدره الغالب , وحكمته البالغة . فما من شيء في الكون , صغير أو كبير ,إلا وهو خاضع لقضاء الله وقدره وحكمته , سبحانه وتعالى:
"والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير " [ غافر:20 ]
العاقل يقف ليتأمل ويتدبر , ليرى في هذا الحادث الرهيب آية من آيات الله ينذر بها الله الناس جميعاً, وينذر الظالمين في الأرض جميعاً , وليرى أن قضاء الله نافذ لا يفلت منه أحد أبداً , مهما استعصم بالبروج والناطحات والأجهزة والعلم :
" أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون . أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ."] الأعراف :97-99 [
هي غفلة الناس وهم يمضون في حياتهم الدنيا , يمضون بظلمهم وإفسادهم واتباع أهوائهم مبتعدين عن شرع الله ودينه :
"وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ." [ يوسف :105-107]
ويمضي قدر الله على سنن لله ثابتة , نعلم بعضها مما علَّمنا الله أو هدانا إليه , ونجهل بعضها مما هو مخفيٌّ عنا . ومن سنن الله في هذه الحياة الدنيا نماذج شتى من صراع الشعوب والأمم : فحرب بين المؤمنين والظالمين , وحرب بين الظالمين بعضهم ببعض , وحرب بين المؤمنين :
" قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ......." [29]
" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ................." [الحجرات :9]
" وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون" [الأنعام:129]
قوى الكون كله , إنسه وجنه وملائكته , سماؤه وأرضه , كلها بيد الله الذي لا إله إلآ هو , كلها جنود الله :
".. وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر" [ المدثر:31 ]
العاقل ينظر في آيات الله ,فيخشع ويتوب ! يجب على أمريكا أن تكون أول من يقف ليتدبر , ولترى كم أخذها الكبر والغرور والصلف , حتى بلغ بها الذروة , وظنوا أنهم في مأمن من أي عادية من عوادي الأيام .
لقد قال نيكسون في كتابه : نصر بلا حرب : "إنا أمسكنا بناصية المستقبل وزمامه بأيدينا ...." ! نسي الله , ونسي أن الله وحده يملك المستقبل والماضي والحاضر :
"..نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون " [ الحشر:19 ]
لقد اعتبروا أن العلم وحده هو الذي يحميهم وينصرهم ,فجعلوا منه وثناً يعبد من دون الله , وسموه :"العِلمانية Scientism” . وجعلوا الدنيا كذلك والعالم المادي غاية آمالهم وميدان علمهم , وجعلوا منه وثناً آخر يعبدونه من دون الله ,
وسموه " العَلمانية Secularism” . فرحوا بالدنيا وبما عندهم من العلم , وظنوا أن لا أحد يقدر عليهم :
"فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون " [ غافر :83-85 ](/1)
لو أنهم يقفون هنيهة يتأملون موقفهم في مؤتمر "ديربان " الأخير لمحاربة العنصرية , أو موقفهم من قضية فلسطين , وكيف آزروا الظلم وقاوموا الحق والعدل , وما هزهم مصرع الأطفال , وتشريد العائلات من بيوتهم ,وهدم البيوت على أصحابها , والاختطاف والاغتيال وسائر الجرائم الوحشية التي ترتكب كل يوم , أو يتذكرون دموع الثكالى وأنات الجرحى وصيحات الاستغاثة , لو فعلوا ذلك لذهب بعض كبرهم وتراجعوا عن كثير من غيهم وظلمهم .
لو أنهم يقفون هنيهة يتذكرون ما ارتكب من مآسي ومجازر وانقلابات في نواحي متعددة من الأرض , وما سببوا من كوارث , سواء في العالم الإسلامي , وأمريكا اللاتينية , وبعض بلدان آسيا , واليابان , وغيرها وغيرها مما يصعب حصره الآن , وما فعلوه بالمسلمين الأفارقة حين ساقوهم بالسلاسل عبيداً يستذلونهم , ويستحلون إذلال كل كرامة وضعها الله في الإنسان , أو ما فعلوه بالهنود الحمر أصحاب البلاد الشرعيين , أو ما فعلوه في شعوبهم حين خدروهم بشعار الحرية المتفلتة الكاذبة , وحرية الجنس والفاحشة والخمور وسائر الموبقات , لو يقفون هنيهة ليتذكروا مآسي الجرحى والمشوهين , وصيحات الهلع والاستغاثة , وأشلاء الأطفال والشيوخ والنساء والرجال , منثورة في الأرض كلها , لو يقفون قليلا ليحاسبوا أنفسهم , لعلهم يُفيقون من سكرة الكبر والغرور , وفتنة العلم وزينة الدنيا وزخرفها .
في باطن الأرض رفات الملايين من البشر المظلومين , غابوا تحت الثرى , ولكن لم تزل كلُّ حبة تراب أو بقية من رفات مرتبطة بأرواحهم في عالم الغيب , تشكو إلى الله ما لاقته من ظلم وقهر وذل على أيدي الظالمين .
لتقف أمريكا ولتقف الدول الأوروبية ولتقف روسيا وكل الدول التي اعتدت في تاريخها على شعوب أخرى , فظلمتها ونهبت خيراتها وتركتها فقيرة نهب الجوع والمرض , ولينظروا ما كسبته أيديهم من مظالم في الأرض . هل يمكن لإنكلترا أن تنسى ما فعلته في الهند وغيرها من بقاع الأرض ؟ هل يمكن لفرنسا أن تنسى ما فعلته في شمال أفريقيا ؟ وما فعلته إيطاليا؟ وهل تنسى روسيا ما فعلته سواء في العهد القيصري أو العهد الشيوعي ؟ كلُّ الدول ممن ذكرنا وممن لم نذكر
يجب أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها قبل فوات الفرصة :
" وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون .واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون . أن تقول نفس يا حسرتَى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . " [ الزمر :54-56 ]
من أجل أبنائكم وذرياتكم ومستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة , تجب هذه الوقفة اليوم مع هذه الحادثة المروعة , وليعلموا أن الله لن يفلت أحد من عقابه, وإنما يأخذ الناس , كل الناس , بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير :
" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ." [ الروم :41 ]
" ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ." [ السجدة:21 ]
والقضية الأخرى أنَّ الظالمين في الأرض والمجرمين قد لا يجدون من ينصحهم أو يذكِّرهم أو يدعوهم إلى صفاء الإسلام وصفاء الإيمان والتوحيد , كما أُنزل عل محمد صلى الله عليه وسلم ,أو ينذرهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة , حين يصمت المسلمون , أو يخشى الصالحون , أو ينحرف المصلحون , أو يهون المستضعفون . وفي جميع الحالات , ستظل سنن الله ماضية , ابتلاء منه سبحانه وتعالى , حتى تقوم الحجَّة يوم القيامة على كل إنسان وكل شعب وكل أمة .
لحظات يقف فيها المستكبرون في الأرض والظالمون مع أنفسهم , ليراجعوا ما صنعته أيديهم من شقاء للإنسان في ظل الحضارة العلمانية والعولمة والديمقراطية والحداثة ومذاهبها . لحظات يسترجعون فيها التاريخ ليروا كم حملت أنفسهم من شهوة الظلم والعدوان والاستعلاء , وليتأمَّلوا في آيات الله البيِّنات :
" قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذِبين ." [ الأنعام:11 ]
ولن يفيد الضعفاءَ المستضعفين شيءٌ من الندامة يوم القيامة . سيؤخذون كما أخذ أسيادهم :
"وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار." [ غافر:47 ]
إن هذه الحادثة العاصفة على أمريكا , الحادثة التي تجاوزت خيال المظلومين في الأرض , نقف أمامها خاشعين لله في رهبة وإنابة أمام عظمة الله وجلاله . لقد جاءت نذيراً للناس كلِّهم , للظالمين والمظلومين . وقد تكون هذه نذيراً للبشرية كلها , حين يأخذ الله الناس والقرى بعذاب أشد :
"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد." [ هود:102 ]
"وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليَّ المصير " [ الحج:48 ]
وهذه سنة الله ماضية في جميع العصور , وستظلُّ ماضية مع الزمن كله :(/2)
"فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "]العنكبوت:40[
ولا عاصم من أمر الله , ولا ملجأ منه إلا إليه . والذين يعتصمون بغير الله
فلا عاصم لهم , وكل ما يعتصمون به من دون الله هو أوهن من بيت العنكبوت:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ." [ العنكبوت:41 ]
وإني لأعجب أشد العجب لماذا تصر أمريكا على استثارة الشعوب ضدها بظلمها وكبرها وغرورها , وعدوانها الظالم . لماذا تزرع هنا حقداً عليها وهناك حقداً عليها ,حين تعتبر أن مصلحتها وحدها فوق كل مصلحة , وحين تتخذ كل يوم ميزانا مختلفاً , وحين تنصر الباطل وتقاوم الحق . لقد تعرضت أمريكا إلى هجوم بعد هجوم خلال العشرين سنة الماضية . فانظر إلى هذه القائمة من الحوادث التي تعرضت لها :
1-انفجار بإحدى القواعد الأمريكية في بيروت , أسفر عن مقتل 340 ضابطاً وعسكرياً , سنة 1983.
2-تفجير طائرة فوق لو كربي , لقي 270 راكباً مصرعهم معظمهم أمريكيون سنة 1988 .
3-انفجار قنبلة في موقف للسيارات عند مركز التجارة العالمي أسفر عن مصرع ستة أشخاص وإصابة ألف آخرين .
4-انفجار بمدينة أوكلاهما قام به يموثي ماكفاي , أسفر عن مقتل 168 شخصاً , سنة 1995 .
5-انفجرت شاحنة أمريكية , أسفرت عن مقتل 19 أمريكياً .
6-تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام , أسفر عن مقتل224 شخصاً وإصابة آلاف , سنة 1998 .
7-حادثة المدمرة كول في اليمن , ومقتل 17 شخصاً .
ولا يقتصر الأمر على أمريكا , فسنن الله ماضية على الجميع . ولكنَّ أمريكا تفردت بالزعامة الدولية , فأصبحت هي المسؤولة الأولى عن المظالم بما اتخذته من مكاييل متعددة غير عادلة , وبما حملته من كبر وغرور وعدوان ظالم .
لا ندري من قام بالتخطيط والتنفيذ لهذا العمل المفجع , الذي راح ضحيته كثير من المدنيين . ولكنها السنة التي سنَّها الظالمون في الأرض , حين أزهقوا أرواح الملايين من المدنيين في الأرض , من نساء وأطفال وشيوخ ممن لا علاقة لهم بالصراع في مناطق كثيرة من العالم .
قد تفلح أمريكا بالقبض على من يُتَّهمون بهذا الحادث . أما المنفذون فقد ذهبوا مع سائر الضحايا . أما المخططون فلو قبض عليهم فهل سينتهي ما يسمونه الإرهاب ؟ لو قُتلوا أو سجنوا أو مزِّقوا إرباً , فهل سينتهي الإرهاب ؟
لو اجتمعت دول أوروبا كلها وروسيا واليابان والصين وغيرها من الدول لتتعقب من يتَّهمونهم بالإرهاب , فلن يتوقف ما يسمونه الإرهاب , لأسباب عدة :
أولاً : يجب أن يوقفوا الإرهاب أولاً في أنفسهم , فإن أيديهم ما زالت تقطر من دماء ضحاياهم .
ثانياً :يجب أن يوقفوا إثارة الأحقاد وزرعها في نفوس شعوبهم ضد الشعوب الأخرى بغير حق .
ثالثاً :يجب أن يوقفوا أعمال الإرهاب التي يمارسونها في الأرض هم أنفسهم ,
في نواحي كثيرة من الأرض .
رابعاً : يجب ان يكون لديهم ميزان عدل أمين يزنون به الأمور كلها , حتى ا لا يظلموا قوماً على حساب قوم آخرين .
لقد غرسوا الإرهاب في الأرض ورعوه ونمَّوه حتى أعاده الله عليهم . وليس أمامهم من سبيل إلى إيقاف الإرهاب وشهوة الظلم في أنفسهم إلا سبيل واحد , سبيل الإسلام الحق , دين الله الواحد , دين نوح و إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وعيسى وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام , ودين خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله علي وسلم . إنه الدين الواحد الحق الذي لا يقبل الله من أحد سواه :
"إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ." [ آل عمران:19 ]
وإني لأعجب أشد العجب من كبر الظالمين بعامة , يأتيهم النذير بعد النذير
ليقرع آذانهم وقلوبهم , فلا تجد من سامع ولا واع : الطوفان بعد الطوفان والفيضانات التي تبتلع الآلاف من الضحايا , والبراكين بعد البراكين , والزلازل التي تبتلع الأرض بها العمائر والمخلوقات , والأعاصير التي تقتلع الأشجار وتسحق كلَّ ما تلقاه في طريقها , والحرائق التي تمتد فتأكل الأشجار في مساحات واسعة جداً . نذر من عند الله تمتد في أحداث الكون وحياة الناس , وكتاب الله يحفظه الله ليكون النذير الممتد إلى يوم القيامة ! ثمَّ لا يفيق الظالمون المجرمون من سكرتهم وكبرهم .
إذا كان الدافع لهذا العمل هو الحقد والغيظ , فإن الأسلوب المعلن عنه أسلوب ممتلئ بالحقد والكراهية العمياء , كما تكشف وسائل الإعلام , الغضب والحقد والغيظ . حقد يدفع حقداً , وتظل المصائب تتوالى دون توقف . السبيل الوحيد أن توقفوا الظلم كله . ولن يوقفه إلا الإسلام كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ولا تبديل ! أوقفوا الظلم في أنفسكم وفي أعمالكم .(/3)
انظر إلى هذه المجتمعات العلمانية الغربية التي تغنت طويلاً بالشعارات كيف كان أول ردِّ فعل لها ! هذه المجتمعات التي تخفَّت وراء زخرف الشعارات ,
من حقوق الإنسان و والعدالة , والحرية , والإخاء والمساواة , والديمقراطية, انظر كيف تنهار كل هذه الشعارات في لحظات وتدوسها شعوبهم تحت أقدامهم ,
لينطلقوا في عدوان أثيم بعد عدوان على المسلمين والعرب في ديارهم , حتى أولئك الذين يحملون جنسياتهم , والذين خدموا مجتمعاتهم طويلاً ! انظر إلى التهديدات والمطاردات والاعتداءات على المساجد في أمريكا وإنكلترا وألمانيا وغيرها . ولم تُجْدِ كثيرا خطبة الرئيس بوش وهو يعظ قومه بضرورة احترام السلمين .
انظر إلى مستوى العدالة والقضاء في أمريكا لدى قمة المسؤولية :يحددون المتهم ويصدرون الأحكام قبل أي محاكمة وقبل استكمال التحقيق . ويأخذ القضاء في أمريكا إجازة طويلة ! يتهمون أناساً طواهم الردى , وأناساً لم يدخلوا أمريكا ,
وأناسا في أعمالهم في بلادهم ربما لم يكن قد وصلهم النبأ بعد . اتهامات تلقى يمينا وشمالا استهتاراً بكل حقوق الإنسان والقوانين والشرائع .
ما هو الإرهاب الذي يريدون محاربته ؟ حتى الآن لم يُحَدَّدْ معنى ثابت للإرهاب , مما يفتح المجال لارتكاب أبشع الجرائم وأبشع أنواع الإرهاب تحت هذا المصطلح العائم . وربما تتحول القضية إلى غزو عدواني ظالم للعالم الإسلامي , وتنفيذ مخطط كان مطوياً ينتظر التنفيذ .
يتحدث بعض الكتاب الغربيين عن تردِّي الواقع الاقتصادي في أمريكا وفي معظم دول أوروبا واليابان . وتحدث بعضهم متهما بعض المسؤولين الأمريكان بالتخطيط لإثارة حرب واسعة ضد الإسلام , كوسيلة لمعالجة الواقع المتردي الذي يعانون منه . لقد كتب" ليتدون لاروش" في الإنترنت وفي محاضرة له في نيويورك حول هذا الموضوع بشيء من التفصيل عن العلاقة بين تدهور الوضع الاقتصادي وبين نزعة الحرب لدى بعض المسؤولين في أمريكا وأوروبا . وقد نشرت كلمته :"Executive Intelligence Review EIR” .
من الذي خطط لهذا العمل ؟ من الذي نفَّذه ؟ حتى الآن لم يكشف إلا عن اتهامات وظنون لا تحمل معها البيِّنة والدليل . ويكاد يشعر الإنسان أن الذي يعمل الآن هو الظنون والأهواء والرغبات الدفينة في النفوس , والاعتزاز بقوة السلاح المدمر يرهبون به العالم , وأن العدل والقضاء والقيم في إجازة طويلة , وأن هذه الإجازة كانت قد بدأت منذ عهد بعيد .
إذا كنا نريد أن نحكم بالظن وحده , كما يبدو أنهم يفعلون , فإننا نتَّهم العصابات القوية المدرَّبة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأوروبا واليابان , ممن أصبحوا متغلغلين بقوة في مجتمعاتهم , عارفين بدقائق الأمور فيها وفي أجهزتها . لقد نشرت إحدى الصحف قبل أيام من حادث التفجير صورة أحد قادة عصابات تهريب المخدرات , ونشرت معها قوله : إن حوكمت وسجنت فسأحرق أمريكا ! وأعتقد أن أشد الناس حقداً على أمريكا وكبرها هم أمثال هؤلاء . هؤلاء لا ينالهم التحقيق , فهم في حمى قوى متنفِّذة كثيرة في أمريكا وأوروبا .وهذا كار لوس يدعو من سجنه في فرنسا إلى هجمات ضد إسرائيل وأمريكا , وذلك في جريدة الشرق الأوسط الخميس 30/8/2001مـ العدد 8311 . وإن أكثر من أمر يشير بإصبع الاتهام إلى هؤلاء وإلى دولة اليهود والحركة الصهيونية وأجهزتها التي ترتكب الجرائم في الأرض كلها وفي قلب أمريكا نفسها . إن دولة اليهود هي من أشد الدول إجراماً وعدواناً , وهي الدولة التي يرعاها الإرهابيون في العالم .
إن انهيار البرجين من ذروتهما حتى القاع , وانهيار أسس العدالة والقضاء , والتهديد بقوة سلاح التدمير الشامل الذي يحرِّمونه هم أنفسهم , نذير بانهيار حضارة الجنس والفساد والفاحشة والخمور , الحضارة التي تنمو وتترعرع في حضن العلوم والصناعة ومبادئ العلمانية والحداثة والديمقراطية !
إننا نأسى ونحزن حين تصل البشرية إلى هذا الدرك من الانهيار والصراع الوحشي , واستباحة كل القيم في فلسطين بجرائم اليهود التي تجاوزت كل حد , تحت رعاية أمريكا ودعمها وتشجيعها , ورعاية سائر الدول الكبرى . لقد امتدت الجريمة في الأرض حتى أصبحت جرائم فردية وجماعية ودولية , تنمو في رعاية دولية , يغذيها تنافس الدنيا بين الظالمين , وتنافس المصالح المادية والشهوات الإجرامية والأهواء المجنونة المتفلتة من كل رباط .
الانتقام الأعمى والتسرع وردود الفعل , يذهب بالعدالة والحق ويضاعف الجرائم والكوارث في الأرض . وليس للبشرية من منجى إلا بالإسلام والتوبة الصادقة إلى الله .
فإلى الإسلام أيها الغافلون !
إلى صفاء الإيمان والتوحيد أيها الجاهلون !
إلى الحق والعدل أيها المستكبرون !
إلى التوبة إلى الله أيها الظالمون !(/4)
من الذي زرع الأحقاد في القلوب , ومن هو المسؤول عن ذلك ؟! إن الظلم الممتد في التاريخ البشري , الظلم الذي تقوده عصابات الإجرام , هي المسؤولة عن ذلك . إنهم المستكبرون الظالمون المجرمون المعتدون , كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين . إنه الإعلام الإجرامي الذي غرس الحق على الإسلام والمسلمين في قلوب جاهلة قروناً طويلة , وكأنه كان يعطى للوليد مع الرضاعة .
لم يعرف التاريخ البشري أرحم من الإسلام, ولا أعدل منه , الإسلام الذي غسل القلوب بالإيمان والتوحيد , والذي حدَّد قواعد القتال والجهاد في سبيل الله تحديداً دقيقاً , حتى يظل الجهاد في سبيل الله شرعا ربانيا ينشر الحق والعدل والأمن في حياة الناس جميعاً , ولا يأخذ إلا الظالمين على ميزان رباني دقيق عادل أمين .
إن الظلم في غياب المنهاج الرباني والشرع الرباني هو أساس الفساد والفتنة والإجرام في الأرض . والظلم هو أساس الشرك بالله , وهو الذي يحرك الأحقاد ويثير الحروب .
وما زالت وسائل الإعلام تردِّد التهديدات على العرب والمسلمين , وتثير الأحقاد والكراهية ضدّهم , وكأن القضاء ما زال في إجازة .
مهما كان هول هذا الحادث , فإنه أهون بكثير من أهوال يوم القيامة , ومن أهوال نار جهنم , لا يصلاها إلا الظالمون ! إلى هناك يجب أن تتَّجه القلوب والأنظار , قلوب الجميع وأنظارهم , لتنمو الخشية من الله , ويحسب لكل خطوة حسابها .
وإذا كان هذا الحادث المروع نذيراً لهؤلاء وهؤلاء وآية وعبرة لهم , فإنه نذير للمسلمين وآية لهم وعبرة كذلك . بل المسلمون يجب أن يكونوا أول من يعتبر ويقف ويتأمل ! يجب على المسلمين أن يقفوا وقفة طويلة , ليروا كم خالفوا منهاج الله , وكم قصَّروا في جنب الله . يرى المسلمون أنفسهم اليوم في ضعف وذلَّة وهوان , مستهدفين من كثير من الدول , ومعرضين لكثير من أنواع الأخطار والإذلال والعدوان والاجتياح الظالم , وحسبك ما حدث وما يحدث في فلسطين والبوسنة والهرسك وكشمير والشيشان وغيرها . يجب أن يقفوا لينظروا ما كسبته أيديهم من فرقة وتمزق وصراع , مخالفين بذلك أمر الله إليهم . لقد ظلم المسلمون أنفسهم ظلماً كبيراً , حين لم يتمسكوا بالكتاب والسنة ,وتفرقوا شيعاً وأحزاباً ومذاهب شتى تتناحر , فتخلفوا علماً وصناعة وقوة وإعداداً , وأصبح كل حزب بما لديهم فرحين , فرحة لم تغن عنهم من الله شيئاً , ولم تورثهم إلا المذلة والهوان .
في هذه اللحظات الحرجة , نعيد ما سبق أن نصحنا به طويلاً , نعيد ونؤكد أن علينا أن نحاسب أنفسنا , ونغيِّر ما فيها من انحراف عن الصراط المستقيم , ومن اتباع الهوى , والتقصير الكبير بأداء الأمانة التي نحملها . يجب أن يتذكر المسلمون أنهم حملة رسالة ربانية , أُمِروا بأن ينهضوا ليبلِّغوها إلى الناس كافة ويتعهدونهم عليها , وأن هذه هي جوهر الأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها , وجوهر العبادة التي أُمِروا بها , والخلافة التي جُعِلت لهم , والعمارة التي كُلِّفوا بها .
إن هذه الأمانة والعبادة والخلافة والعمارة تفرض على المسلمين أن يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً , وأن يعودوا إلى الكتاب والسنة عودة صادقة كريمة :إيماناً وعلماً والتزاماً وممارسة في الواقع البشري , في كل شؤون الحياة , ودعوة وبلاغاً وتعهدا , وجهاداً صادقاً واعياً في سبيل الله , ليكونوا , كما أمرهم الله , صفاً واحداً كالبنيان المرصوص , قبل أن يؤخذوا بعذاب من الله اليم .
إننا ننصح ونذكر بأن الإسلام حين يرفض الظلم بجميع أشكاله ومن أي جهة كانت , فإنه قد وضع ميزاناً عادلاً أميناً ليفرق بين الظلم والعدل , حتى لا يختلط الأمر على أحد إلا إذا كان صاحب هوى . وحين يرفض الإسلام الظلم كله , فإنه يرفض الأسلوب الذي تتبعه أمريكا ومن معها في معالجة هذه الحادثة , بإطلاق التهم والأحكام جزافاً دون تثبت ودون تحقيق عادل , وبالتهديد المستمر باستخدام أسلحة الدمار الشامل الذي يُحَرِّمونه ! وإن هذا الأسلوب انعكست آثاره السيئة على المسلمين أولا بالإيذاء والاعتداء , وسينعكس بالسوء على البشرية كلها .
ومهما بلغت أمريكا من قوة باطشة , فإنا نَوَدُّ أن نذكِّرها بأن قوة الله أكبر وبطشه أشد وأخطر , وأنه يمهل ولا يهمل , وأن أخذه أليم شديد :
" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " [ هود :102 ]
وأخيراً فإننا نتساءل : هل سأل الرئيس بوش وحكومته أنفسهم لِمَ كان هذا الهجوم ؟ وما هي بواعثه وأسبابه ؟ وأين جذوره ؟ ومن الذي يرعاها ؟ لعلهم لو سألوا أنفسهم هذا السؤال وفكروا وتدبروا وعرفوا الإجابة الأمينة , لو فعلوا ذلك لوفَّروا على أنفسهم وعلى العالم شيئا كثيراً !(/5)
الاهتداء إلى حكم حضور الجمعة على المسافر القار في بلد أو مار إذا سمع النداء
الشيخ/أبي محمد عبد الله بن مانع العتيبي 27/5/1424
27/07/2003
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.......
فهذا بحث متعلق بمسألة حضور الجمعة للمسافر النازل في البلد هل يجب عليه حضور الجمعة أم لا ؟ وقد أسميته(الاهتداء إلى حكم حضور الجمعة على المسافر القار في بلد أو مار إذا سمع النداء)
وقبل الشروع في هذه المسألة أقول إن المسافر له حالتان :-
-حال استقلال بجماعة المسافرين وانفصاله عن البلد .
-حال استقرار في بلد لا يقطع حكم السفر.
ففي الصور ة الأولى :-
هل تجب الجمعة على المسافرين وحدهم ؟
والجواب يقال إن الجمعة لا تجب على المسافرين بل لوصلوها جمعة لا تصح منهم والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر أسفاراً كثيرة في حياته عليه الصلاة والسلام ولم ينقل عنه حرف واحد أنه جمع بأصحابه، وقد صادفته الجمعة في أسفاره كثيراً ولو صلى الجمعة في أسفاره لكانت الهمم متوافرة على نقل ذلك.
ولا أدل على ذلك من سفره لحجه عليه الصلاة والسلام فقد وافق يوم عرفه يوم الجمعة ومع ذلك فقد صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً وقد سماها جابر الظهر كما في صحيح مسلم (1218) ولم يجهر بالقراءة وأيضاً خطب قبل الأذان خطبة واحدة ثم أذن وصلى وهذا العلم به ظاهر لأهل العلم لا يكادون يختلفون في ذلك(1).وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
وإنما محل البحث في:-
الصورة الثانية :-
وهي إذا كان المسافر مستقراً في بلد استقراراً لا يقطع أحكام السفر فهل يجب عليه حضور الجمعة أم لا ؟
وسيأتي الكلام على هذه المسألة لاحقاً.
وقد وردت آثار في نفي وجوب الجمعة عن المسافر لا بأس بذكرها مع الكلام على أسانيدها ثم نذكر إن شاء الله كلام أهل العلم .
أولاً :- حديث تميم الداري.
أخرجه البيهقي (3/184) من طريق محمد بن طلحة عن الحكم عن ضرار بن عمرو عن أبي عبد الله الشامي عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر " وهذا الحديث واه جداً فضرار بن عمرو منكر الحديث كما قال البخاري وأورد له العقيلي هذا الحديث في ضعفائه (2/222) وقال : لا يتابع عليه وأبو عبد الله الشامي لا يعرف كما قال الذهبي في الميزان . والحديث قال عنه أبو زرعه الرازي عبيدا لله بن عبد الكريم قال : هذا حديث منكر (علل ابن أبي حاتم (2/212) ).
ثانياً :- حديث جابر.
أخرجه الدار قطني في السنن (2/3) والبيهقي (3/174) وابن عدي في كامله (2425) وابن الجوزي في التحقيق (788) من طريق ابن لهيعه عن معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد " وهذا الحديث كسابقه واه جداً.
ابن لهيعة ضعيف ومعاذ بن محمد قال العقيلي في حديثه وهم ، وقال ابن عدي منكر الحديث وذكر حديثه هذا وضعفه الحافظ في التلخيص (2/65) ، وقال ابن عبد الهادي لا يصح ، وكذا قال الذهبي .انظر التحقيق لابن الجوزي ( 4/121).
ثالثاً:- حديث أبي هريرة.
أخرجه الطبراني في الأوسط (2/196) من طريق إبراهيم بن حماد بن أبي حازم المديني ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم " خمسة لا جمعة عليهم المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية " قال الطبراني لم يروه عن مالك إلا إبراهيم .
والحديث أخرجه الدار قطني في غرائب مالك كما ذكره الحافظ في لسان الميزان (1/268) قال الدار قطني تفرد به إبراهيم وكان ضعيفاً.
رابعاً :- حديث ابن عمر.
أخرجه الدار قطني في السنن (2/4) والطبراني في الأوسط (882) من طريق عبد الله بن نافع عن أبيه عن أبن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على المسافر جمعة " وهذا إسناده ضعيف جداً كذلك فعبد الله بن نافع قال أبو حاتم فيه منكر الحديث وهو أضعف ولد نافع وقال البخاري منكر الحديث ، والمحفوظ في هذا الحديث الوقف على ابن عمر، أخرجه البيهقي (3/184) من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال لا جمعة على مسافر قال البيهقي هذا هو الصحيح موقوف ورواه عبد الله بن نافع عن أبيه فرفعه.أ.هـ. وقد رواه ابن المنذر(4/19) وعبد الرزاق (5198) (3/172) موقوفاً.
خامساً:- مرسل الحسن :-(/1)
روى عبد الرزاق (3/174) عن ابن عيينة عن عمرو (هو ابن دينار) عن الحسن قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم " ليس على المسافر جمعة " وهو ضعيف لإرساله ، والحسن هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي مدني تابعي ثقة ، وأبوه هو ابن الحنفية.
وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فمنها أثر ابن عمر المتقدم وهو صحيح ثابت
أثر علي :-
أخرجه ابن المنذر في الأوسط (4/19) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال ليس على المسافر جمعة ، والحارث واه . وروى عبد الرزاق (3/168) وابن أبي شيبه ( 2/101) وغير هما من طريق سعد بن عبيده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قال " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع" إسناده صحيح.
أثر عبد الرحمن بن سمرة :-
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه ( 4352) وابن المنذر في الأوسط (4/ 360) من طريق هشام بن حسان عن الحسن قال : كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلاد فارس سنتين وكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين . وإسناده صحيح ، وأخرجه البيهقي (3/185) من طريق يونس بن عبيدة عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بخراسان نقصر الصلاة ولا نجمع . قال البيهقي هكذا وجدته في كتابي ولا نجمع بالتشديد ورفع النون.
أثر أنس : -
وأخرج ابن المنذر (4/20) من طريق يونس عن الحسن أن أنساً أقام بنيسابور سنه أو سنتين وكان يصلي ركعتين ولا يجمع ، إسناده صحيح .
أثر عمر ابن عبد العزيز :-
وأخرج ابن أبي شيبه من طريق رجاء بن أبي سلمة عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك قال : خرج عمر بن عبد العزيز من دبق وهو يومئذ أمير المؤمنين فمر بحلب يوم الجمعة فقال الأمير ؟ " جمع فإنا سفر" وإسناده لأبأس به.
أثر مسروق وعروة بن المغيرة وجماعة من أصحاب ابن مسعود :-
وأخرج ابن أبي شيبه (2/104) عن أبي أسامة عن أبي العميس عن على أبن الأقمر قال : خرج مسروق وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله فحضرت صلاة الجمعة فلم يجمعوا وحضروا الفطر ولم يفطروا . إسناده ثابت.
وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم ( وهو النخعي ) قال : كانوا لا يجمعون في سفر ولا يصلون إلا ركعتين. صحيح ، ورواه ابن أبي شيبه عن أبي الاحوص عن المغيرة به بلفظ كان أصحابنا يغزون فيقيمون السنة أو نحو ذلك يقصرون الصلاة ولا يجمعون.
أثر طاووس :-
وأخرج عبد الرزاق ( 3/172) عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال " ليس على المسافر جمعة".
أثر الزهري:-
وأخرج عبد الرزاق ( 3/174) برقم (5205) عن معمر عن الزهري قال : سألته عن المسافر يمر بقرية فينزل فيها يوم الجمعة ؟ قال" إذا سمع الأذان فليشهد الجمعة ". صحيح.
وعلقه البخاري في صحيحه من رواية إبراهيم بن سعد عنه ويأتي الكلام عليه وله سياق آخر عند عبد الرزاق برقم (5188) بالإسناد نفسه.
فصل في أقوال أهل العلم
قال الشافعي في الأم (1/327)" وليس على المسافر أن يمر ببلد جمعة إلا أن يجمع فيه مقام أربع ، فتلزمه الجمعة إن كانت في مقامه " أ. هـ .
وقال ابن المنذر رحمه الله (4/20) في الأوسط :- ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر به في أسفاره جمع لا محالة فلم يبلغنا أنه جمع (2) وهو مسافر بل أنه ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد بكتابه فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالاً بفعل النبي عليه الصلاة والسلام وهذا كالإجماع من أهل العلم لأن الزهري مختلف عنه في هذا الباب حكى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه قال لا جمعة على المسافر وإن سمع المسافر أذان الجمعة وهو في بلد فليحضر معهم يحتمل أن يكون أراد استحباباً ولو أراد غير ذلك كان قولاً شاذ خلاف قول أهل العلم وخلاف ما دلت عليه السنة.أ.هـ.(/2)
قلت وقول الزهري علقه البخاري في صحيحه تحت باب (المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره"فاسعوا إلى ذكر الله ") وعلق آثاراً ثم قال وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد.قال الحافظ ما نصه(2/391) لم أره من رواية إبراهيم وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري وقال إنه أختلف عليه فقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على المسافر كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري . قال ابن المنذر : وهو كالإجماع من أهل العلم على ذلك لأن الزهري أختلف عليه فيه .أ.هـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالتين : فحيث قال " لا جمعة على المسافر" أراد على طريق الوجوب وحيث قال " فعليه أن يشهد" أراد على طريق الاستحباب(3)ويمكن أن تحمل رواية سعد بن إبراهيم هذه على صورة مخصوصة وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء(4)لها لا إنها تلزم المسافر مطلقاً حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازاً مثلاً وكأن ذلك رجح عند البخاري ويتأكد عنده بعموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) فلم يخص مقيماً من مسافر وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة على المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على إنه لا جمعة على المسافر فهو عمل صحيح إلا انه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. أ. هـ
وقال الموفق (3/216) وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك قاله مالك في أهل المدينة والثوري في العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وحكي عن الزهري والنخعي أنها تجب عليه لان الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر وجمع بينها ولم يصل جمعة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. وقد قال إبراهيم كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين لا يجمعون ولا يشرقون ( ثم ذكر أثر أنس وعبد الرحمن بن سمرة وتقدما) ثم قال : وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته .... إلى أن قال (3/220) والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أفضل
ونقل ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 76) الإجماع على أنه ليس على المسافر جمعة.
قال ابن حزم في المحلى (5/49) :-
وسواء فيما ذكرنا في وجوب الجمعة للمسافر في سفره والعبد والحر والمقيم إلى قوله ( ص51) قال تعالى " يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" قال علي : فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أ . هـ .
وقال البغوي في شرح السنة (4/226) :-
ولا تجب على المسافر وذهب النخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء(5)فعليه حضور الجمعة.
وقال النووي في المجموع(4/351) :-
لا تجب الجمعة على المسافر هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وحكاه ابن المنذر وغيره عن أكثر العلماء وقال الزهري والنخعي : إذا سمع النداء لزمه قال أصحابنا ويستحب له الجمعة للخروج من الخلاف ولأنها أكمل هذا إذا أمكنه .... أ . هـ .
قال العمراني في البيان (2/543) :-
ولا تجب الجمعة على المسافر وبه قال عامة الفقهاء ، وقال الزهري والنخعي إذا سمع النداء وجبت عليه ، دليلنا حديث جابر ، ولأنه مشغول بالسفر ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها.
وقال ابن هبيره في الإفصاح (2/93) :-
" واتفقوا على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا عبد ولا مسافر ولا امرأة إلا رواية عن أحمد رواها في العبد خاصة " أ .هـ. ونقل الاتفاق صديق حسن خان عن صاحب المسوي ....انظر الروضة الندية(1/341).
وقال المجد في المحرر(1/142):-
" ولا تجب على مسافر له القصر" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (24/184) :-
" وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعاً للإمام كذلك تجب عليهم الجمعة تبعاً للمقيمين.... لأن قوله تعالى " إذا نودي للصلاة " ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلى الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض والمحبوس وهؤلاء قادرون عليها . لكن المسافرون لا يعقدون جمعة لكن إذا عقدها أهل المصر صلوا معهم وهذا أولى من إتمام الصلاة خف الإمام المقيم" أ . هـ . ونقله عنه في الاختيارات ملخصاً (ص119).
وقال في الفروع (2/74) :-(/3)
ويحتمل أن يلزمه تبعاً للمقيمين خلافاً لهم قاله شيخنا وهو متجه. أ. هـ . يعني بشيخنا شيخ الإسلام ونقله ابن قاسم عن الشيخ وصاحب الفروع قال وهو من المفردات.
وقال الحافظ ابن رجب في شرحه على البخاري المسمى فتح الباري
(1/403) :-
على قول البخاري " باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب " لقول الله عز وجل ( إذا نودي للصلاة يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) وقال عطاء إذا كنت في قرية جامعة ، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة ، فحق عليك أن تشهدها ، سمعت النداء أو لم تسمعه .
وكان أنس ابن مالك في قصره ، أحياناً يجمع ، وأحياناً لا يجمع ،وهو بالزاوية على فرسخين.
قال :- تضمن الذي ذكره مسألتين :-
المسألة الأولى / أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة ، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة ، وشهودها سواء سمع النداء أو لم يسمعه ، وقد حكاه عن عطاء .
وهذا الذي في القرية ، إن كان من أهلها المستوطنين بها ، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له ، وسواء سمع النداء أو لم يسمع ، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد ، ونقل بعضهم الاتفاق عليه. وإن كان من غير أهلها ، فإن كان مسافراً يباح له القصر ، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعة عليه . وحكي عن الزهري والنخعي ، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية . وروي عن عطاء ـ أيضا ًـ ، أنه يلزمه.
وكذا قال الأوزاعي : إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب .........الخ.
وقال الصنعاني في سبل السلام (2/157) :-
في شرح حديث ابن عمر " ليس على مسافر جمعة" ما نصه : " والمسافر لا يجب عليه حضورها وهو يحتمل أن يراد به : مباشر السفر وأما النازل فتجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة والى هذا جماعة من الآل وغيرهم ، وقيل لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر واليه ذهب جماعة من الآل أيضاً وغيرهم وهو الأقرب لان أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه ، ولذا لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافرا ، وكذلك العيد تسقط صلاته على للمسافر ، ولذا لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد في حجته ، وقد وهم ابن حزم رحمه الله فقال إنه صلاها في حجته ، وغلطه العلماء " أ .هـ.
وقال في مطالب النهى في شرح غاية المنتهى (1/758):-
( ولا تجب على مسافر أبيح له القصر) لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير ، وكما لا تجب عليه لا تلزمه بغيره نص عليه فلو أقام المسافر ما يمنع القصر لشغل أو علم أو نحوه . ولم ينوا استيطاناً لزمه بغيره لعموم الآية والأخبار. أ .هـ .
وفي الدرر السنية (5/6) :-
سئل الشيخ عبد الله بن محمد عن المسافر إذا أدركته الجمعة ؟ فأجاب المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان فهذا لا جمعة عليه بحال فإذا صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته والأفضل في حقه حضورها إذا لم يمنع مانع فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. أ.هـ.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (5/15) :-
بعدما قرر عدم وجوب الجمعة على المسافر بل بعدم صحتها من المسافرين قال ما نصه : " أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة كما لو مر إنسان في السفر ببلد ودخل فيه ليقيل ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى (يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) وهذا عام ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى الجمعة يتركون صلاة الجمعة بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم. أ هـ . وقرر في فتاويه مثله (16/74) .
وحاصل ما قيل في هذه المسألة : -
1-وجوب حضور الجمعة وأدائها وقال به النخعي والزهري وعطاء والأوزاعي والبخاري وابن حزم وشيخ الإسلام وابن حجر وصاحب الفروع وابن عثيمين وغيرهم.
2-عدم وجوب حضور الجمعة وقال به جماهير الأمة كما نقله ابن المنذر وابن رجب وغيرهم .
3-استحباب حضور الجمعة لأنه أولى وأكمل وخروجاً من الخلاف ومما قال به الموفق (3/220) ونقله النووي عن بعض أصحابه من الشافعية وقال في الإنصاف (5/175) . فائدة كل من لا لم تجب عليه الجمعة لمرض أو سفر أو اختلف في وجوبها عليه كالعبد ونحوه فصلاة الجمعة أفضل في حقه وذكره ابن عقيل وهذا القول لا ينافي ما قبله .
وخلاصة حجج الموجبين :-
·عموم قوله تعالى " يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.....الآية " وهذا في البلد يسمع النداء ، فهذا العموم يتناوله وليس له عذر في التخلف .(/4)
·أن الصحابة في المدينة كانوا يفدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها...... وبينوا ذلك فقالوا : - لما كان مسافراً جاداً به السير كان له الترخص بكامل رخص السفر من القصر والجمع والفطر والتنفل على الدابة ، وإذا نزل في مكان فإن جماعة من أهل العلم يقولون يقصر مع التوقيت إما وجوباً وإما استحباباً. ويمنعونه من التنفل على الدابة ومع ترخيصهم له بالفطر والقصر ويقولون إن الفطر والقصر مشروع له في الاقامات التي تتخلل في السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حالة السير ، ولأن الله علق الفطر والقصر بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة ، فليس فيه لفظ عام بل فيه الفعل الذي لا عموم له ، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقاً .وقالوا أيضاً : إن نزول المسافر في مصر ومكثه مدة لا تمنع القصر ، فما الذي يخرجه من عموم قوله تعالى " يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" وهو من الذين آمنوا وهو شاهد يسمع النداء معافى ، فما الذي يحجزه عن شهود هذا الخير وامتناعه من السعي إلى ذكر الله؟ قالوا : وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد بخروج العواتق وذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ، وأيضاً والجمعة عيد المسلمين في الأسبوع ، وهي عيد بالنص والإجماع ، فلا بد أن يخرج لها من كان بالمصر من الذكور البالغين غير المعذورين والمسافر المستقر غير معذور ، وكيف يأمر النساء بالخروج من خدورهن والحيض ليشهدن العيد ويدع المسافرين فلا يأمرهم بشهود الجمعة ؟ بل أمرهم بشهود الجمعة أولى ، وأيضاً لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخلفون عن الجمعة معه ، وقد أخرج مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال : قال أبو رفاعة : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال فقلت : يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه ؟ قال فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً قال فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم أخرها " ومسلم أخرجه في أبواب الجمعة (6)وهذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه ،وقالوا إن من القواعد المقررة عند علماء الملة أنه يثبت تبعاً مالا يثبت استقلالا ، وهذه قاعدة صحيحة عند جماهير علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم وقد اختلفت تعبيراتهم عنها، فعند الحنابلة ما قدمناه من لفظ القاعدة وعند الشافعية يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها ، وعند الأحناف الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعا وحكماً وإن كان قد يبطل قصدا ، وقد ضرب العلماء لهذا القاعدة أمثله كثيرة في العبادات والمعاملات وقد دلت عليها الأدلة الشرعية وجاءت بتقريرها ومسألتنا فرد من أفراد تلك القاعدة:فلما كان المسافر قاراً في البلد ، كان حكمه في إجابة نداء الجمعة حكم المقيمين كما لو صلى المسافر خلف من يتم كان عليه أن يتم تبعا للإمام، كذلك يجب عليهم الجمعة تبعاً للمقيمين،بل شهودهم الجمعة أولى من إتمامهم الصلاة خلف المقيم(7).
قال المسقطون : مهلاً مهلاً فقد أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم وقد قلتم فأكثرتم وأحسنتم فأنصفونا فإنا نقول إن الله قد علق أحكاماً كثيرة بمسمى السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثاً على الخفين ، والعفو عن الجمعة والاستعاضة عنها بالظهر مقصورة رحمة من الله وتخفيفاً ، وكل ذلك صدقة من الله على عباده فاقبلوا صدقته واكلفوا من الأعمال ما تطيقون فو الله لا يمل الله حتى تملوا .........وهذه المسامحة والعفو والتخفيف لا يحل رفعها عن عباد الله والاشقاق عليهم إلا بحجه بينه من كتاب الله وسنة نبيه أو أجماع متيقن أو قياس صحيح يجب المصير إليه ، وأين هذا في مسألتنا ؟
فأما قولكم عموم الآية وشمولها للمسافر القار فنحن نمنع ذلك . فكما لم يجب عليه الصوم ولم يدخل في قوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " كذلك لم يدخل في عموم آية الجمعة ، وسبب سقوط الصوم عنه السفر بنص الآية قال تعالى " ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من عدة أخر " فكذا في مسألتنا ونحن معنا فهم السلف وجمهورهم فهذا ابن عمر يقول" لا جمعة على مسافر" فهذا عذرهم الذي عذرهم به السلف، وأنتم أبيتم ذلك.!!
وأما قولكم إن المسافر إن مكث بمكان لا يقطع حكم السفر فإنه لا يتنفل على الدابة ما دام نازلاً وتتوصلون بهذا إلى أن أحكام المسافر القار تتبعض! فنعم فلا حاجة له إلى ركوب دابته والتنقل عليها ما دام نازلاً ، وإنما رخص له في حال السير وهكذا ثبتت به السنة . فكان ماذا ؟ !!(/5)
وأما قولكم فكيف يأمر الحيض وذوات الخدور بالخروج للعيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ، فكيف لا يشهد المسافر القار الخير في الجمعة ودعوة المسلمين وذكر الله ؟ فالجواب أننا نحاكمكم إلى أنفسكم فالعيد أنما هو مرتان في السنة ومجمعه أكبر مجامع المسلمين بعد مشهد عرفة فشرع لعامة المسلمين شهوده ومنهم المذكورات لقلة دورانه في الحول ، أما الجمعة فإنها تتكرر في السنة نحواً من خمسين مرة ، وأيضاً العيد لو لم تشهده المرأة فإنه لا بدل له ، والجمعة لها بدل مفروض فلم يستويا.
وأما قولكم لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ويفدون إليه أنهم كانوا يتخلفون عن التجميع معه ، فنعم فلعمرو الله لقد كانوا يشهدونها ويحرصون عليها ، فلقد كان نظرهم إليه وسماع كلامه أحب أليهم من آبا ئهم وأمهاتهم والناس أجمعين ، ونحن نشهد الله على ذلك فإنه أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا والناس أجمعين ولو خيرنا بين لقياه عليه الصلاة والسلام وبقاء الأهل و الأولاد والأموال وأهل الأرض كلهم لاخترنا لقياه عليه الصلاة والسلام على ذلك بأبي هو وأمي ، على أن الصحابة رضي الله عنهم كان لزاماً عليهم إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، قال تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم " النور (آية 62) . وقد فسر الأمر الجامع بشهود الجمعة أو كانوا في زحف ، صح التفسير بذلك عن الزهري وابن جريج كما رواه ابن جرير عنهما واختاره وهذا يعم أصحابه المقيمين والوافدين إليه وقد التزم نظير ذلك بعض أهل العلم في مسألتنا فقالوا : إذا حضر المسافر المسجد الجامع لزمته صلاة الجمعة وقد لام النبي عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد ولم يصل وقال : ما منعكما أن تصليا معنا . مع أنهما قد صليا في رحالهما .... وهذه المسالة أخص من المسالة المتنازع فيها.
وأما قولكم إنه يثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً وأن المسافر يأخذ حكم المقيم إن كان ماكثاً نازلا في وجوب إجابة النداء فنحن نسلم بصحة هذه القاعدة ولكننا نقول إن محلها مالم يكن استقل التبع بحكم آخر يمنع إلحاقه بالمتبوع واعتبر هذا بالبهيمة المذكاة إن وجد جنين في بطنها أنه إذا خرج ميتاً فهو كجزء من أجزائها وإن خرج حياً فلا بد من تذكيته ولا يتبع أمه ، وفي مسألتنا فإن المسافر مستقل بأحكام خاصة تناسب حاله فلا يخرج عنها إلا بدليل ، وإنما يثبت تبعاً هنا أهل مصر ممن لا يسمع النداء ومن كان حوله وحده كثير منهم بفرسخ.
فهذا نهاية إقدام الفريقين وغاية سجال الطائفتين ، وأنا على مذهب جماهير الأمة(8) من عدم الوجوب والإلزام ، نعم يستحب شهودها من غير حرج وانحتام . قال الشاطبي في الموافقات (1/443) : وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الانحتام بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا ً إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره وتركه الجمعة وما أشبه ذلك . أ.هـ. والله يهدينا إلى صراطه المستقيم.
وهنا مسائل مهمة أنبه عليها على الإيجاز في ختام هذا البحث.
مسائل مهمة :-
1-السفر يوم الجمعة : الصحيح جواز السفر يوم الجمعة ما لم يؤذن لها وهذا قول جمهور أهل العلم فإذا أذن لها الأذان الذي تليه الخطبة فلا بد من شهودها ، ما لم يتضرر بترك السفر بانقطاعه عن رفقه أو فوات مركوب كما في عصرنا في فوات السفر بالطائرة ونحوها ، وكذلك يجوز له السفر إذا كان سيصلي الجمعة في بلد قريب . انظر المغني (3/247) وزاد المعاد (1/382) وغيرهما. وابن المنذر(4/21) والإنصاف (5/185).
2-يجوز للمسافر أن يؤم في صلاة الجمعة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومذهب الجمهور خلافاً للمشهور من مذهب الحنابلة واختار شيخنا ابن باز رحمه الله ونص عليه في شرح الموطأ عند باب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر(1/107) ، ونقل أبو حامد الغزالي الإجماع على صحتها خلف المسافر ... حاشية الروض (2/427).
3-من فاتته الجمعة هل يصلي الظهر في جماعة ؟
الصحيح جواز ذلك بل شرعيته لعموم فضل الجماعة ، وفعله بعض الصحابة . لكن هل يصليها جماعة في الجامع ؟ قال في المغني ( 3/224) " ويكره في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنة يفضي إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو أنه لا يري الصلاة خلف الإمام . أو يعيد الصلاة معه وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنه أو ضرر به وبغيره ، وإنما يصليها في منزله ، أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه ". أ.هـ. قلت : وهو كلام محرر متين.(/6)
4-روى مسلم في صحيحه (883) من حديث عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فقال نعم . صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال : "لا تعد لما فعلت ، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك وأن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج " وأخرجه أحمد وأبو داود. وروى أبو داود من طريق ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أيعجزكم أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو شماله يعني السبحة . وهذا الحديث ضعفه البخاري في صحيحه فقد قال في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة رفعه لا يتطوع الإمام في مكانه " ولم يصح . وقد ذكره البخاري بالمعنى ، والحديث ضعيف فيه ليث بن أبي سليم وإبراهيم مجهول وصحح البخاري إن اسمه إسماعيل بن إبراهيم (كما نقله عنه البيهقي) مع الاختلاف في سند الحديث كما قال ابن رجب في فتح الباري (5/262 )ط. طارق.ولفظ الحديث عند البيهقي (2/190) إذا أراد أحدكم إن يتطوع بعد الفريضة .وروى أبودود (616) والبيهقي (2/190) من طريق عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يصل أحدكم في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول " . قال أبو داود : عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة . وروى أبو داود (1130) من طريق الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد من أبي حبيب عن عطاء عن ابن عمر قال" كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا ، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له : فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك " وأخرجه مسلم من طريق ليث عن نافع عن عبد الله بشطره الأخير دون صلاته بمكة وسند أبي داود لا بأس به. وروى ابن أبي شيبه (2/24) من طريق شريك عن ميسره ( وهو ابن حبيب) عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن على قال إذا سلم الإمام لم يتطوع حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام . ورواه البيهقي (2/191) من طريق الأعمش عن المنهال به بلفظ : من السنة إذا سلم الإمام إن لا يقوم من موضعه الذي صلى فيه يصلي تطوعاً حتى ينحرف أو يتحول أو يفصل بكلام . ثم قال البيهقي ورواه الثوري عن ميسره عن حبيب عن المنهال بن عمرو إلا انه قال لا يصلح للإمام وفي رواية لا ينبغي للإمام . أ.هـ. قال الحافظ في الفتح : إسناده حسن كذا قال مع إن في إسناده عباد بن عبد الله وهو الأسدي الكوفي . قال البخاري فيه نظر . وقال ابن المديني ضعيف ، ونقل ابن الجوزي عن احمد الضرب على بعض حديثه . ومعنى قول البخاري فيه نظر أنه له مناكير . وقال الحافظ في بذل الماعون ( صـ117 ) وهذه عبارة البخاري فيمن يكون وسطاً. وروى البيهقي (2/190) من طريق يعلى بن عبيد ثنا عبد الملك عن عطاء : قال رأيت ابن عمر رضي الله عنه دفع رجلا من مقامه الذي صلى فيه المكتوبة وقال إنما دفعتك لتقدم أو تأخر . وروى عنه بمعناه في الجمعة .
وروى البيهقي أيضاً من طريق الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن حفص بن غياث عن ابن عمر كان إذا صلى تحول من مقامه الذي صلى فيه " وقد روى عن ابن عمر خلافه فقد روى البيهقي من طريق ابن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يصلي سبحته في مقامه الذي صلى فيه وكذلك رواه شعبه عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال البيهقي وكأنه كان يفصل بينهما بكلام أو انحراف أو فعل ما يجوز فعله . وطريق شعبه ذكره البخاري في صحيحه تحت باب : مكث الإمام في مصلاه بعد السلام قال لنا آدم حدثنا شعبه فذكره. قال حرب(9): حدثنا محمد بن آدم ثنا أبو المليح الرقي عن حبيب قال كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم. وروى الشافعي عن ابن عيينه عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم . قال ابن رجب : وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة ، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق قاله بعض أصحابنا فكرهت طائفة تطوعه في مكانه بعد صلاته وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك واحمد وإسحاق ، وروى عن على انه كرهه ، وقال النخعي كانوا يكرهونه ورخص فيه ابن عقيل من أصحابنا كما رجحه البخاري ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمد فأما المروي عن ابن عمر فإنه لم يفعله وهو إمام بل كان مأموماً، كذلك قال الإمام احمد.وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك وهو قول مالك وأحمد وانظر المغني(3/250).
قلت : خلاصة ما تقدم من أحاديث وآثار وما نقله الحافظ ابن رجب ما يأتي :-
#(/7)
كراهة تنفل الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة بل ينبغي التحول المكاني ، وأيضاً ينبغي الاشتغال بالذكر بعد المكتوبة خلافاً للمشهور عند الأحناف من البداءة بالتطوع ولان هذا التحول هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الراتب وهذه الكراهة محكيه عن أكثر أهل العلم.
#
أما المأموم فإن تحول عن مكانه بعد الفريضة أو أتى بالذكر المشروع بعد الفريضة ولم يتحول أو فصل بينهما بكلام مباح فكل ذلك كاف ، ودل على هذا حديث معاوية عند مسلم ، نعم الجمع بين التحول والفصل بالذكر أبلغ وهو ظاهر المروي عن ابن عمر ، وصلاة العبد في مكانه بعد الفصل بذكر أو كلام بعد الفريضة لاكراهة فيه عند أكثر العلماء وجميع ما ذكر إنما هو بين الفريضة والنافلة ، وإما فعل ابن عمر بمكة في تحوله من موضع إلى موضع في النافلة فمن اجتهاده وهو مباح وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرد صلاة الليل في موضع واحد.
وهنا مسألة اختم بها
وهي مسألة تحويل الغير عن مكانه لأجل فعل السنة الراتبة بعد الصلاة سواء كانت الجمعة أو غيرها ، ففي هذا نظر فلا يجوز أن يقيم المسلم أخاه ويقعد أو يصلي مكانه وهذا إن كان روي عن بعض السلف كما ذكر ذلك أبن أبي شيبه في مصنفه في آخر أبواب الجمعة إلا إن عبد الرزاق رحمة الله في مصنفه فطن لهذا فقد عقد في مصنفه(3/268)باب إقامة الرجل أخاه ثم يختلف في مجلسه وذلك في أخر أبواب الجمعة.
وذكر حديث جابر ابن عمر والحديثان وما جاء في معناهما وإن كانا جاءا في الجلوس إلا إن النهي اعم فيشمل إقامة الرجل من مكانه لأجل الصلاة أو القراءة أو غير ذلك والعلة جلية وهي العدوان على الغير بإقامته من مكان سبق إليه فلا يحل ذلك إلا بطيب نفس ومادام الشخص يريد هذا الفعل لتحقيق الفصل(10)بين الفريضة والنافلة فالأذكار كافيه أو البحث عن مكان ليس فيه أحد أحرى من تحويل مسلم وإزعاجه وقطع ما هو فيه من ذكر أو فكر .
وهنا أضع القلم وأسال الله أن يضع عنا الأوزار . وصلى الله وسلم على نبينا محمد
(1)-انظر الموطأ (1/107) ومجموع الفتاوي (17/480) وكذلك (24/ 177) فما بعدها ( مهم جدا) و(ج/16) من فتاوى ابن عثيمين .
(2)-قلت ذكر ابن الهمام فتح القدير (2/33) ما نصه :" وفي الكافي صح أنه صلى الله عليه وسلم أقام الجمعة بمكة مسافراً " ا.هـ. وفي بدائع الصنائع (1/430) مثله. قلت : فإن كان انتزعه من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة كما ثبت في البخاري عن ابن عباس فقد أطلق جماعة من أهل العلم عدم إقامته الجمعة في سفره ولو قدر أنه أقام الجمعة فغاية ما في الأمر أنه إمام فيها وإلا فهي قائمة مفروضة على أهل مكة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم شاهدا لها فمن الذي سيتقدم بين يديه في إقامتها وكذلك هو عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين ولهذا قال السر خسي في المبسوط (2/130) ما نصه " ولو أن أمير الموسم جمع بمكة وهو مسافر جاز لأنه فوض إليه أمر المسلمين " أ.هـ. ومراده في " الموسم " الحج والجهاد مثله ومعلوم أنه شهود المسافر المستقر للجمعة أفضل وأعظم أجراً حيث لا مشقة لكن الكلام في الوجوب وقد عقد عبد الرزاق(3/360) باب الإمام يجمع حيث كان وذكر آثاراً عن السلف والصحيح في هذا المسألة أن الإمام له أن يتولى إقامة الجمعة في البلد الذي يمر به أو ينيب غيره لا أنه تلزمه الجمعة حيث كان إذا كان مسافراً .
(3)-هذا الحمل من الحافظ ضعيف غريب وكلام الزهري واضح من نقله عن ابن المنذر فالمسافر عند الزهري له حالتان :-
أ - أن يكون حاضرا فيسمع النداء فعليه الحضور( وهو محل البحث) ونقول الأئمة عن الزهري إنما في هذه الصورة .
ب – إلا يكون كذلك فليس على المسافر جمعة.
وقد فطن ابن المنذر وحمل قول الزهري فليحضر معهم يعني إذا كان في بلد على الاستحباب حتى لا يخالف قول أهل العلم في إسقاط الجمعة عن المسافر فافهم .
(4)-قلت : هذا صريح فتوى الزهري لمعمر عند عبد الرزاق والحافظ لم ينسبه له وتقدم.
(5)-سماع النداء محله :-
أ. إذا كان المؤذن صيتاً.
ب. والأصوات هادئة .
ج. والرياح ساكنه.
د. والموانع منتفية . أ.هـ.من الإنصاف (5/66) زاد في المغني .(3/244 – 245).
هـ. والمستمع غير ساه ولا غافل.
و. وفي موضع عال ، ولم يذكر الموفق الموانع فحاصل ما ذكر ستة وحدوه بفرسخ. قلت : الفرسخ خمسة كيلو مترات.
(6)-برقم (876).
(7)-انظر كلام شيخ الإسلام المتقدم.
(8)-قال القرافي في الفروق (2/557) :- والحق لا يفوت الجمهور غالباً
(9)-بواسطة فتح الباري لابن رجب ( 5/264)(/8)
(10)-وهذا هو التعليل الصحيح لأصل المسألة ، وهو الفصل بين الفرض والنافلة حتى لا يزاد في الفرض ما ليس منه كما نص عليه جماعة من العلماء كابن القيم في إعلام الموقعين في الوجه الثلاثين والوجه الخمسين في أمثلة سد الذرائع ، وابن رجب في اللطائف في وظائف شهر شعبان وأما تعليل التحول لشهود البقاع فمنقوض بين النافلة والنافلة ، وبالفصل بالذكر بعد الفريضة.(/9)
الباب الذي لا يُغلق في وجه سائل
الشيخ/علي طنطاوي
يقول الشيخ على الطنطاوي: « أسرد عليكم قصة أسرة أمريكية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قويّ الجسد ماضي العزم، وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة.
وخرج الصغير يومًا يلعب، وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولد مثله، ولكنه احتمله وصبر عليه، ولم يخبر أحدًا وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد وهو يزداد صبرًا عليه، حتى مضى يومان فظهر الورم في رجله وازرقَّ، وعجز أن يخطو عليها خطوة واحدة، فاضطربت أمه وجزع أبوه وسألاه عن خبره؟ فأخبرهما الخبر فأضجعوه في فراشه وجاءوا بالطبيب فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج وأنها إن لم تُقطع فورًا مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همسًا، يحاذر أن يسمع الولد قوله، ولكنّ الولد سمع، وعرف أنها ستقطع رجله، فصرخ: لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي، أبي أنقذني، حاول أن يقفز على رجل واحدة ويهرب منهم فأمسك به أبوه وردَّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: أمي، أمي، أنقذيني، أمي ساعديني، لا يقطعوا رجلي، ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق؛ قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها ويفيض حنانًا عليه وحبًا له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله، ولم تدر ماذا تصنع؟ فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه، فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه [إِدغار] بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟أسرع فساعدني ،إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي،إدغار إدغار، وسمع أخوه إدغار ـ وهو أكبر منه بقليل ـ صراخه، فأقبل مسرعًا، فشد قامته ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّرًا مستأسدًا، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحدًا يقترب منه، وكلمه أبوه، ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده، واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب.
ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخه؟ والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها وتبدي مخالبه؟ إن الدجاجة تتحول صقرًا جارحًا، والقطة تغدو ذئبًا كاسرًا، و [إدغار] صار رجلا قويًا، وحارسًا ثابتًا، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ، فيبعد عن أخيه ولكنه لم يتزحزح، وبقي يومين كاملين واقفًا على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات، قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورمًا، فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعًا أمام الخطر المحدق.
ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟! إن كل إنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له: [كافر]، والكافر في لغة العرب [الساتر] ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر.
قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى، إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلا منها، فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف، بدأ الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك [ المَسْخرات]، ولكن دعت الله رب الأرض والسماوات، وعندما تغرق السفينة وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله. هذا فرعون الذي طغى وبغى، وتكبّر وتجبر، حتى قال أحمق مقالة قالها إنسان قال: ? أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ? ... [النازعات:24] لما أدرك الغرقُ فرعون قال: ? آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? ... [يونس:90].
وعندما تضل في الصحراء، ويحرق العطش جوفك، وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله!، وعندما تتعاقب سنوات القحط، ويمتد انقطاع المطر. وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يشرف المريض ويعجز الأطباء يكون الرجوع إلى الله. هنالك ينسى الملحد إلحاده، والماديُّ ماديته، والشيوعيّ شيوعيّته ويقول الجميع: يا الله !.(/1)
لما ذهب الطبيب واستحكم اليأس وملأ قلوب الجميع: قلب الولد الخائف، وأخيه المستأسد المتنمّر، وأبيه وأمه، واستشعروا العجز، ولم تبق في أيديهم حيلة، وبلغوا مرتبة [المضطر]، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، ويطلبونه بلا سبب يعرفونه. لأنها قد تقطعت بهم الأسباب، والله الذي يشفي بسبب الدواء والطبّ، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: يا الله!! يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقًا، ولو كان كافرًا، ما دام قد التجأ إليه، واعتمد عليه، ووقف ببابه، وعلق أمله به وحده، يُجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة.
هؤلاء كفار قريش لما دعوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم ونجاهم إلى البر، بل هذا شرّ الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر، قال: ? رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? ... [الحجر:36]، قال له: ? فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ? ... [الحجر:37].
ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إِخبارًا أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهد معلوم، ولكن ذكره حجة على المشركين فقال: ? أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ?60? أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ?61? أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ? ... [النمل: 60 - 62].
يا أيها القراء إنهم لما دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخف والزُّرقة تمحى والألم يتناقص، ثم لم يمض يومان حتى شفيت الرِجل تمامًا، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه!!.
ستقولون هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها، فما قولكم إن دللتكم على صاحبها، إن هذا الولد صار مشهورًا ومعروفًا في الدنيا كلها، وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو: أيزنهاور القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا بعد ذلك!!.
وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتُها وعشتُها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتُها وتحققت منها. سنة 1957، مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي، وضع لي جرثومة يسمونها العصيّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلامًا لا يعرف مداها إلا من قاساها، فانضممت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها، وقضيت في المستشفى؛ مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب بضعة عشر شهرًا، أقيم فيه، ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه، فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر، توجهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين، الشفاء إن كان الشفاء خيرًا لي، أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي ـ وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء ـ فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصًا له نيتي، واثقًا بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم، فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه وعجب الأطباء واندهشوا، اجتمعوا يبحثون. فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم، إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء.
ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض، ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن، كان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيمًا في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان، كرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله [أي حقائبه وأشياءه] إلى المطار فسلمه إلى الشركة وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر.
ورجا أمه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقى لموعد قيام الطيارة ثلاث أرباع الساعة، فقام مسرعًا وأخذ سيارة وحثَّ السائق على أن يبلغ به المطار ويضاعف له الأجر، وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير، ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها، فلم يسمع هذا النداء وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو، وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يستجب له؟.(/2)
وجعلت أهون الأمر عليه، وأقول له: إن الله لا يردّ دعوة داعٍ مخلص مضطر أبدًا، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه، وأهمّ الغضب والحزن عن إدراك ما أقول. أفتدرون ماذا كانت خاتمة هذه القصة؟ لعل منكم من يذكر طيارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة، وهلك من كان فيه؟ هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته.
إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه، وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة، فيوصله إليه، ويطلب الشُّكولاته فيشتري له ما يطلبه فإذا مرَّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء، فأعجبه لونه، فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟ إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده، فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم ومن ذويهم » .... [ كتاب الباب الذي لا يغلق في وجه سائل ص 1 – 20: الشيخ على الطنطاوي].(/3)
الباقية لا الفانية * ومصعب بن عمير
الدكتور محمد أديب الصالح
ـ 1 ـ
كان من حوافز الجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله عند البررة الأخيار من أبناء أمتنا ـ بجانب رسوخ الإيمان واليقين بما وعد الله ورسوله ـ زهادتهم في الدنيا ، ووضع متاعها ـ إن وجد ـ موضعه الطبيعي في حياة المؤمن ، وسيلة لا غاية ، وفي الأكف لا في القلوب .. وعلى محور السلوك أخذت هذه القضية أبعادها وانعكاساتها .ولقد كانوا في ذلك ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ على قدم إمام الأنبياء وسيد المجاهدين والربانيين محمد عليه الصلاة والسلام ، فلقد بين بقوله وفعله وكريم تقريره وإرشاده هوان الدنيا على الله ، وإنها للمؤمن وسيلة إلى الآخرة ، وما هي ـ على الحقيقة ـ إلا متاع الغرور .
فالدنيا فانية والآخرة خير وابقى ، وأين الفانية من الباقية !! روى مسلم عن المستورد بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الدنيا في الآخرة مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، لينظر بم يرجع " ؟(2)
وروى مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفتيه ـ أي عن جانبيه ـ فمر بجدي أسك ـ صغير الأذن ـ ميت ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب إنه لنا بشيء وما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حياً ، كان عيباً أنه أسك ، فكيف وهو ميت !! فقال أهون على الله من هذا عليكم " (3).
ومما لا ريب فيه أن هذا وأمثاله من رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق في ظل آيات كثيرة في هذا الباب منها قوله تعالى في سورة الحديد [اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابُ شديد ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] (4)
من أجل هذا شهدت الإنسانية في واحد من أبهى معالم الحق في الدنيا منها ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه ، قلنا : يا رسول الله لو اتخذت لك وطاء ، فقال : مالي وللدنيا !! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح (5).
وعلى هدي هذا المنهج النبوي في السلوك ، شهد تاريخ هذه الأمة أمة تبني حضارة الإسلام ـ فيما شهد ـ شاباً يانعاً ، ربي على الرفاهية في الطعام ، واللين الملبس ، ونشيء على ما يزهو به الشباب الناعم في العيش ويصبوا إليه ، وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه ، شهد تاريخ الرفاهية ولكن الشاب يترك كل هذا بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه ، ويتجاوزه إلى الانصراف إلى الدعوة ، والجهاد في سبيل الله ، والرضى بما يتبلغ به من المأكل والملبس ، لأنه بات في شغل شاغل بما هو أعلى وأغلى من تلك الملذات ونعومة العيش .
ولقي مصعب ـ جزاه الله من أمة الإسلام والبشرية كل خير ـ مصرعه شهيداً يوم أحد فكان إخوانه لا يجدون ما يكفي لتغطية جسده كله .. حيث لم يجدوا ما يكفي لتغطية هذا الجسد الذي ما عرف قبل الإسلام إلا نعومة الحياة في المطعم والملبس في ظل تلك القيم الفانية . وأين حماة الجاهلية من جنات السموات والأرض ، خاتمة للبذل الصادق والعطاء في سبيل الله .
روى البخاري ومسلم (6) عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : " هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله تعالى ، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مات لم يأكل من أجره ـ يعني في الدنيا ـ شيئاً ، منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، قتل يوم أحد ، وترك نمرة ، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ، ونجعل على رجليه شيئاً من الأذخر، ومنا من أينعت له نمرته فهو يهذبها "
والنمرة كساء ملون من الصوف ـ يهذبها : يقطفها .
هكذا استطاع هؤلاء الرجال حين تخففوا من حب الدنيا وكراهية الموت ، وصدقوا في طلب الآخرة ، أن يتقدموا في ميادين الشهادة ، باسمة شفاههم مرفوعة رؤوسهم خفاقة بالشوق إلى لقاء الله قلوبهم ، يجدون عند أرض المعركة ريح الجنة التي وعد المتقون ، ويتنسمون عبير الحياة التي كتبت للشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون .
ومصعب بن عمير ـ رضي الله عنه وأكرم نزله ـ أنموذج لأولئك الذين صدقوا الله فصدقهم ، وتخففوا من الدنيا والانغماس بمتاعها ولذاتها ، فكانوا أقدر على المسارعة إلى جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفازوا بمرضاة الله التي هي السعادة !!(/1)
لقد اختصروا المسافة بينهم وبين الشهادة بهذا السلوك الذي كانوا فيه على إرث من منهج المصطفى عليه الصلاة والسلام . ومن لم يرزق الشهادة منهم عاش سعيداً ، بنفس مطمئنة ، وحظي عند الله بما لا يكاد يوصف من الخير [يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي].
وأخيراً : وهذا ما أذكر به نفسي قبل الأخوة القراء راجياً من الله عونه
ـ 2 ـ
حاجة الأمة إلى التبصر في سيرة من صنعوا تاريخها ، حاجة لا يذهب اختلاف الأحوال صعوداً إلى القمة أو هبوطاً إلى القاع ، خصوصاً أولئك الذين شاء الله لهم أن يشهدوا تنزل الوحي وأن يرتادوا الطريق . وإذا ذكر هؤلاء ذكر مصعب بن عمير رضي الله عنه ... صحيح أن الحقبة الزمنية التي أمضاها الرجل المجاهد الداعية في العمل تحت راية الدعوة كانت قصيرة بعض القصر لما أنه قد استشهد ـ أكرم الله مثواه ورحمه ـ في " أحد " ، ولكنها كانت عظيمة متسعة الأرجاء عطاء وعمق دلالة في صناعة تاريخ الإسلام ، والتفاني للدعوة أن تأخذ مكانها الطبيعي في قيادة المجتمع الأمثل وإعداد الفرد الإعداد القادر على مواجهة الحياة بالعقيدة الصافية والسلوك المستقيم .
هذا : وقد سعدنا بالحديث عن هذا الصحابي الجليل في واحد من الأعداد الماضية ، ولكن مآثره رضي الله عنه أغزر من أن تتسع لها صفحة من الصفحات .
***
لقد كان أبو عبد الله فتى مكة شباباً وجمالاً وسناً ، وكان أبواه يحبانه غاية الحب ، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون الثياب ، وكان أعطر أهل مكة وروى بعض أصحاب السير أن رسول الله كان يذكره فيقول : " ما رأيت لمه ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير" فلما أسلم أصابه من الشدة وحمل هموم الدعوة في مواجهة المشركين ، ما غير لونه ، وأذهب لحمه ، وأنهك جسمه ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر السهيلي ـ ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها فيبكي لما كان يعرف من نعمته .
هذا : وكان رضي الله عنه ممن هاجر إلى الحبشة ثم عاد ، وبعد أن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بيعة العقبة الأولى ، وحان انصراف القوم إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير يعلم من أسلم منهم القرآن والشرائع وسمي لهذا رضي الله عنه بـ " المقرئ " .
وانظر أي مقرئ هذا الرجل الذي تولى شؤون تعليم القرآن والشرائع ، وهي مهمة لا نقدرها حق قدرها إلا إذا كنا على تصور تام لطبيعة المجتمع هناك وسلطان يهود وما كان من رواسب الجاهلية ، ولكن مصعباً كان قوياً بقوة الله وقام بالمهمة خير قيام وهو أهل لما قام به كيف لا وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بهذا الفتح العظيم . وقد جمع بالمسلمين ـ كما في بعض الروايات ـ أول جمعة في المدينة وكانوا أربعين رجلاً .
***
غير أن أبا عبد الله لم يقف عند حد تعليم القرآن والشرائع بل أدرك واجباً عليه أن يفتح القلوب بكلمة التوحيد ، وأن يفسح للقرآن والشرائع في تلك القلوب والعقول ، فاستنفد الطاقة في الدعوة إلى الله مستعلياً على حطام الدنيا غير آبه بما قد يفوته من زخرفها بعد أن أكرمه الله فذاق حلاوة الإيمان ، ووقف على المحجة ، وشرع يرتاد للأمة الطريق داعياً إلى الله والدعوة إلى الله إرث من إرث النبوة [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين] [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين] . وبأسلوبه الحكيم وصدقه مع الله ، واستعلائه على حطام الدنيا ، أسلم على يده خلق كثير من الأنصار، فأسلم في جملتهم سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء ،يقول ابن حزم رحمه الله : ما نعلمه تأخر عن الإسلام أحد منهم ، حاشا الاصيرم ، وهو عمرو بن ثابت بن قيس ، فإنه تأخر إسلامه إلى " أحد " فأسلم ، فاستشهد ، ولم يكن من بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة ، كانوا كلهم مخلصين رضوان الله عليهم . وكم لمصعب من الأجر والمثوبة عند الله ثمرة الدلالة على الخير والدعوة إلى الله .
وهكذا لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها مسلمون رجالاً ونساء ، حاشا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة .. على تفصيل العلماء في شأنهم .(/2)
إن هذا الذي صنعه أبو عبد الله مصعب رضي الله عنه أمر له ثقله في ميزان الدعوة وتاريخ الإسلام ، فالمدينة التي استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحلته من القلوب والنفوس ما هو معلوم ـ والحمد لله ـ كانت تتجه بأبنائها ومن عليهم من إخوانهم المهاجرين صوب المفهوم الجديد للتاريخ ، بل صوب تغيير خريطة العالم ، واستبدال المفاهيم الجاهلية ، والمصطلحات المغلوطة بمفاهيم ومصطلحات بدأ المسلمون من خلالها يملون على التاريخ ما يريدون . ولقد كلفهم ذلك ألواناً من العطاء ، ليس أقلها بذل الأموال والأنفس في ساحات الجهاد تحت راية الدعوة ، يوم حملوا للإنسانية مقومات وجودها الذاتي ، وقدموا لها أسمى حضارة عرفها الإنسان .
وإذا ذكرت ذلك كله فلابد أن نذكر مصعباً رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل من هجرته إلى الجنة وتعليمه القرآن والشرائع ، وصبره على الدعوة واستشهاده تحت رايتها في " أحد " مناراً يهدي الأمة إلى السبيل الأقوم فيما تنشده من عودة ظافرة إلى أن تكون لها ذاتيتها وأصالتها في العالمين وثمن ذلك إخلاص يحركه الإيمان وبذل لا يعصب به الرعب والره(/3)
البث المباشر حقائق وأرقام
المقدمة
تمهيد: أهمية الإعلام في الحياة المعاصرة
البث المباشر:مقدمة لابد منها
تعريفه
الجديد في البث المباشر
آثار البث المباشر
منافع البث المباشر
الوقاية
الخاتمة
أولاً: المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70، 71).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).
أما بعد:
فقرابة عام 1400هـ قام د / محمد عبده يماني -وكان وزيرا للإعلام وقتئذ بإلقاء محاضرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكان مما ذكر أنه بعد حوالي سبع سنوات سيستطيع المشاهد للتلفزيون أن يرى عددا من القنوات العالمية عبر الأقمار الصناعية، كما يستمع الآن إلى بعض المحطات الإذاعية العالمية. وكان كلامه وقتئذ كأنه أحلام، ولكنه ظل عالقا في ذهني، أفكر فيه مرة بعد أخرى، ولم أجد حينها من الكتابات ما يؤيد ذلك أو ينفيه.
وفي عام 1408هـ بدأ الحديث عن هذا الموضوع، ومع مطلع عام 1409هـ أصبح الحديث أكثر جدية، وبدأت الندوات والتحليلات، مما يدل على أن الأمر واقع لا محالة.
هنا رأيت لزاما علي أن أولى هذا الجانب بعض ما يستحقه من اهتمام، ودعيت إلى إلقاء محاضرة عن الموضوع في رمضان 1409هـ فشمرت واجتهدت، وجمعت المصادر والمراجع، واستمعت إلى ندوة عقدت حول الموضوع، ثم ألقيت المحاضرة ولم أكن أتصور بعد إلقائي للموضوع أنني كمن ألقي حجرا في ماء راكد، حيث أحدثت المحاضرة صدى كبيرا، وتوالت الأسئلة والاستفسارات، ودعيت لإلقاء المحاضرات حول الموضوع داخل المملكة وخارجها، فألقيت ثمان محاضرات وشاركت في ندوتين(1).
وكنت خلال تلك المدة أتابع ما يستجد وأتلقى الرسائل حول هذه القضية. وكانت هناك رغبة في إخراج هذا الموضوع في رسالة أو كتاب، وكلما هممت في إخراجه جاء ما يؤجل ذلك، وبخاصة أنني أشعر أنه لم يكتمل بعد.
ومع بداية عام 1412هـ شعرت أن تحقيق هذه الرغبة أصبح أمرا لازما بعدما رأيت الحلم حقيقة، والخيال أصبح واقعا.
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... حاضرت قومي وكتبت مخبرا
وها هو الكتاب بين أيديكم، فما كان فيه من حق وخير فمن الله، وما كان فيه من تقصير أو قصور فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله.
ولي أمل في إخوتي الكرام أن يراعوا ما يلي:
1- أن الموضوع على جانب كبير من الأهمية، وخطورته لا تخفى، ولكن القضية أن أثره لا يظهر بين عشية وضحاها، وإنما على مر الشهور والسنين، ولذا قد يتصور البعض أن الموضوع لا يستحق هذا الجهد وهذا الاهتمام، وتجربتنا مع الأفلام والتلفزيون كافية، مع الفرق بينهما.
2- اعتمدت في بيان أثره على ما كتب وألقي في الموضوع، ونتيجة الدراسات التي أعدت حول أثر التلفزيون والأفلام، حيث استخدمت (قياس الأولى) وذلك أن ما سيرد في هذا البث أشد مما يعرض في بعض التلفزيونات العربية، بل وأشد مما في الأفلام، ودعوكم من الكلام الذى يقال خلاف ذلك (2) فقد ثبت لدي أن الأمر أدهى وأمر، ولا يصح إلا الصحيح.
__________
(1) - الأولى في الرياض بجامع الملك خالد تحت إشراف مكتب الدعوة التابع لإدارات البحوث العلمية، والثانية في جامعة أم القرى بدعوة من اللجنة الثقافية، وكلاهما عام 1410هـ.
(2) - نعم هناك أفلام قد تكون أشد سوءا كأفلام (سكس) ولكن هذه لا تشكل من الأفلام إلا نسبة قليلة مما هو منتشر بين الناس ويباع في الأسواق.(/1)
3- قد يتعجل البعض فيتصور أني بالغت في الموضوع، وبخاصة عند بيان الأثر، وهذا الأمر غير صحيح، فقد تحاشيت المبالغة، وابتعدت عن العاطفة المجردة من الحقائق، ولذلك حرصت أن أجعل الأرقام والدراسات وكلام العقلاء والمختصين هو الذي يتحدث، ونوعت مصادر الدراسة والاستشهاد، دفعا لهذا التوهم، وأقول كما قال الأول:
أرى خلل الرماد وميض نار
فإن لم يطفها عقلاء قومي ... ويوشك أن يكون لها ضرام
يكون وقودها ذمم وهام
4- قد يستغرب بعض الأحبة استشهادي بعض الأقوال لأشخاص كان الأجدر عدم ذكرهم، فأقول: مهلا، إن ذكري لهؤلاء ليس ثناء ولا توثيقا لهم، وإنما هو من باب "وشهد شاهد من أهلها" و "الحق ما شهدت به الأعداء" ولأبين أن خطر هذا الداء حقيقة يشترك في معرفتها أغلب العقلاء.
5- ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ومن هنا فقد اجتهدت في بيان العلاج وسبل الوقاية، ووقفت مع أغلب الحلول المطروحة، مناقشا، ومؤيدا، ومخالفا. ثم بينت تصوري حول ما أراه من علاج لهذه القضية، ومع ذلك فالموضوع يحتاج إلى مزيد من بيان سبل العلاج "وفوق كل ذي علم عليم".
6- وأخيرا: أتقدم بشكري -بعد شكر الله- لكل من ساهم في الإعداد لهذا الموضوع برأي أو كتاب أو سؤال (1) والحمد لله أولا وأخيرا على توفيقه وإعانته، وأسأله أن يجعل هذا العمل متقبلا، وأن يتجاوز عن خطأي وتقصيري وأقول بعد ذلك:
ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا
فلا تؤخذاني إن زل اللسان وما ... نفثت يوما شكاه القلب عن كرر
شيء سوى الحمد بالضراء يجمل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أ.د.ناصر بن سليمان العمر
الدمام: يوم الجمعة 12/3412هـ
ثانياً: تمهيد
أهمية الإعلام في الحياة المعاصرة
منذ عشرات السنين قال الشاعر حافظ إبراهيم:
لكل زمان مضى آية ... وآية هذا الزمان الصحف
أما اليوم فلم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها،،واتخذت أشكالا عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشارا للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة. فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب، أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دورا مهما في حياة الناس،،ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة،،وتؤثر تأثيرا واضحا.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عددا من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت أحداث الخليج تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومما يذكر في هذا الشأن أن رجلا اشترى راديو من أحد المحلات في الرياض، وطلب من البائع أن يحدد له موجات تلك الإذاعات، ويثبته عليها، كما ذكرت ذلك إحدى الصحف. ورجل آخر اشترى عدة راديوهات وجعل كل راديو على موجة من هذه الموجات، حتى لا يفوته خبر منها.
ولم أر أن العرب أجمعوا على شيء كإجماعهم على الاستماع لإذاعة لندن، مع اختلافهم في تقويمها.
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمنا طويلا، حتى أصبحت في فترة من الفترات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيرا أقوى، حتى أصبح الملوك، والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفا، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يوميا، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
ويكفي أن أدلل على أهمية الصحافة بالتأمل فيما يلي:
(أ) يطبع في المملكة ثمان صحف عربية يومية، توزع أكثر من مليون نسخة.
(ب) يدخل إلى سوق المملكة عدد من الصحف العربية اليومية توزع أكثر من مليون نسخة.
(جـ) يطبع في المملكة عدد من الصحف اليومية باللغة الإنجليزية، توزع مئات الآلاف من النسخ.
__________
(1) - وأخص الأخ عمر بن عبد الله العمر المحاضر بجامعة الملك فيصل والذي يحضر الدكتوراه بقسم الإعلام بجامعة الإمام، حيث ساهم مساهمة متميزة في تيسير الحصول على الكتب المتخصصة.(/2)
(د) يطبع في المملكة عدد من المجلات الأسبوعية توزع مئات الآلاف من النسخ.
(هـ) يدخل إلى سوق المملكة شهريا أكثر من أربعمائة مطبوعة، بين جريدة، ومجلة دورية، توزع أكثر من عشرة ملايين نسخة.
فإذا قارنا هذه الأرقام بعدد سكان المملكة ندرك الدور الذي تلعبه الصحافة في حياتنا.
3- التلفزيون والفيديو:
وهذا بيت القصيد، ومربط الفرس؛ فبالرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى حسب ما بينت سابقا، فإن تأثيرها -رغم قوته - لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلوا منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر د / حمود البدر (1) أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير (2) أي في حالة كونه مواظبا على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.
(جـ) طول مدة البث يوميا، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث إن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغبا للمشاهدة مستعدا للتلقي، متلذذا بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلما غريزيا، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مبارة من مباريات كرة القدم.
وقد قامت جريدة عكاظ (3) بإجراء تحقيق مع عدد من الطلاب الذين يشاهدون الأفلام فكان مما قالوه:
1- قال الشاب سلطان الدوسري: إنني أشتري كل أسبوع ثلاثة أشرطة، أو أكثر وأحرص على مشاهدتها منفردا حتى أستطيع أن أحس بالمتعة، والارتياح، وأرتاح كثيرا لهذه الأفلام التي لا أمل مشاهدتها، إذ يمكنني إذا شدتني أن أستمر في مشاهدتها لأكثر من ست ساعات دون أن أحس بأي ملل.
2- قال الطالب بسام العقيل: إنني أحرص دائما على اقتناء أشرطة عديدة من خلال اشتراكي في العديد من محلات الفيديو، وذلك لضمان الحصول على عدد معقول من الأشرطة الجديدة، وخاصة ذات الطابع العنيف، والتي أستمتع بها كثيرا، ولذا فقد أمضي النهار كله في مشاهدة الفيديو دون أن أحس بملل.
3- ويقول عبد الله الحمداني: أنا أشاهد أعدادا كبيرة من الأشرطة تصل غالبا إلى عشرة أشرطة في الأسبوع، حيث أقضي حوالي أربع ساعات يوميا في مشاهدتها. كما أحرص على اقتناء الأفلام ذات الطابع العنيف، والمغامرات والتي تجعلني أستمتع بها كثيرا.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، والتمثليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيرا لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر. ولقد تطور التلفزيون تطورا مذهلا، ووصل إلى تقنية عالية الجودة، وانظر إلى هذه الأرقام (4) لتعي ما أقول:
عام
1920م بدأت محاولات إنتاج التلفزيون.
1927م بدأ الإرسال التجريبي.
1951م بدأ إرسال التلفزيون الملون.
1962م أطلقت أمريكا القمر الصناعي (تليستار).
1968م بدأ إنتاج مسجلات الفيديو.
1975م اخترعت شاشة التلفزيون المسطحة.
1979م بدأ عرض التلفزيون ثلاثي الأبعاد.
1989م بدأ البث التلفزيوني المباشر.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدودا إذا قورن بالمرحلة المقبلة، والانفتاح المذهل.
__________
(1) - وكيل جامعة الملك سعود سابقأ، وأستاذ جامعي حاليا.
(2) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي ص 13.
(3) - عكاظ العدد (9186) ملحق عكاظ.
(4) - الإعلام المعاصر- د. فائق فهيم ص 287.(/3)
4- وهناك وسائل إعلامية كثيرة: كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
وبهذا نستطيع أن نقول إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالميا، ومحليا حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها.
ومن هنا، ولما للإعلام بعامة والتلفزيون بخاصة من تأثير على الأمم، والمجتمعات، ونظرا لما يتوقع أن يحدثه البث المباشر من آثار وبخاصة في عالمنا الإسلامي وأخص منه بلادنا نظرا لما تتمتع به من قيم ومبادئ حاول الأعداء اختراقها ففشلوا.
لهذا كله -وللأسباب التالية- جاء هذا الكتاب إعذارا وإنذارا.
وأوجز أسباب تأليفه بما يلي:
1- الآثار السلبية لهذا الأمر على المدى القريب والبعيد.
2- الجهود الجبارة التي يبذلها الأعداء في هذا المضمار، من صناعة الأقمار والأجهزة، وإعداد البرامج،والمؤتمرات استعدادا لهذا الحدث الضخم.
3- أن الموضوع لم يعط حقه من الدراسة والتحليل، وما قدم في هذا المجال لا يعدو محاولات جزئية تفتقر إلى العمق، والشمول.
4- وجود بعض الأصوات المهونة من شأنه، والمقللة من خطورته، بل والمرحبة به (1).
5- المقارنة الخاطئة بين أثر الراديو عندما تم البث العالمي، وبين أثر البث التلفزيوني، حيث سوى الكثيرون بين الأمرين.
ثالثاً: البث المباشر:مقدمة لابد منها
بعد أن قمت بإلقاء المحاضرة الأولى عن البث المباشر -وكانت تكاد تخلو من التفصيل في الناحية الفنية لعملية البث المباشر- اتصل بي عدد من الإخوة، ورغبوا الإجابة على كثير من الأسئلة في هذا الجانب.
وعندما ألقيت محاضرتي الثانية في هذا الموضوع ضمنتها تفصيلا لهذا الجانب، فجاءتني بعض الأسئلة، وفيها عتب علي في ذلك، وأن الواجب عدم التفصيل حتى لا يستغلها ضعاف النفوس.
وفي هذه الرسالة سأفصل في هذا الموضوع للأسباب التالية:
1- أن معرفة الشر وطرقه من أجل عدم الوقوع فيه، وتحذير الناس عنه أمر مشروع، فإن حذيفة - رضي الله عنه - يقول: " كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه".
وقد أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، بل أجاب على أسئلته.
2- أحاديث الفتن، وفيها بيان الشر وكيف يقع، وذلك من تحذير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأمته.
3- أن تجاهل الشر لا يحول دون انتشاره، بل قد يكون سببا لذلك، لغفلة الدعاة عنه.
4- أن ما سأذكره ليس من الأسرار الخاصة، بل هي معلومات متاحة، ومنشورة ولذا آمل من الإخوة الكرام مراعاة هذه الحقائق، وألا نكون كما قال الشاعر:
كن جاهلا أو فتجاهل تفز ... للجهل في ذا الدهر جاه عريض
رابعاً: تعريفه
هو قيام الأقمار الصناعية بالتقاط البث التلفزيوني في بلد من البلدان، وبثه مباشرة إلى أماكن أخرى تبعد عن مكان البث الأصلي مسافات بعيدة، تحول دون التقاط البث دون وسيط.
كيف يتم البث المباشر
من خلال التعريف السابق نلحظ أن مرتكزات البث تعتمد على ثلاث ركائز:
1- القناة التلفزيونية التي تبث البرنامج،أو الحدث.
2- القمر الصناعي الذي يتولى التقاط البث، وإعادة بثه مباشرة للمشاهدين.
3- المتلقي، وهو جهاز التلفزيون العادي، مضافا إليه جهاز التقاط مخصص للبث التلفزيوني المباشر، حيث يتلقى ما يبثه القمر الصناعي مباشرة دون وسيط.
ولمزيد من الإيضاح أشير إلى ما يلي:
إذا أعلن التلفزيون الأمريكي -مثلا- عن برنامج من البرامج، أو حدث من الأحداث كنقل مباراة عالمية تقام في لوس أنجلوس،،ورغب المشاهدون في السعودية رؤية هذه المباراة أو مشاهدة هذا الحدث، فإنه لا بد من الخطوات التالية:
__________
(1) - انظر مجلة الدعوة عدد رقم (1181) ومجلة الحرس الوطني العدد (96) وجريدة الرياض عدد (8450).(/4)
تقوم وزارة الإعلام ممثلة بالتلفزيون بالاتصال بوزارة البرق، والبريد، والهاتف حيث يتم عن طريقها الاتفاق مع قمر من الأقمار الصناعية لحجز قناة تلفزيونية، ثم يتصل بالتلفزيون الذي يريد بث المباراة، ويتفق معه على نقلها فيقوم التلفزيون الأمريكي بالبث للقمر الصناعي، ويقوم القمر الصناعي بالبث للمحطة الأرضية التي تستقبل من الأقمار الصناعية كالمحطة الموجودة في ديراب (1) ثم تقوم المحطة بتحويل ما تتلقاه إلى التلفزيون السعودي الذي يقوم بدوره ببث ما يريد إلى المشاهدين عبر إحدى (2) القناتين التلفزيونيتين العاملتين حاليا، ولا بد من اتخاذ الإجراءات الفنية، والمالية اللازمة لدى كل من - القناة الأمريكية، القمر الصناعي - وزارة البرق والبريد والهاتف - وزارة الإعلام (التلفزيون). وبهذا يتم بث الحدث مباشرة.
أما ما سيحدث مستقبلا -والعلم عند الله- فإن المشاهد سيرى ما يبثه: التلفزيون الأمريكي مباشرة دون تدخل من التلفزيون السعودي، فكما يرى القناة السعودية سيرى القناة الأمريكية إن كانت منقولة، ومع ما سبق فإن هناك عوامل فنية تتحكم في البث المباشر، ولأهمية هذه العوامل فقد قام د/ محمد عبد المنعم فطيم (3) بشرح واف لها حيث قال:
جميعنا يشغله موضوع البث التلفزيوني المباشر من الأقمار الصناعية، وأهم التساؤلات المطروحة تتعلق بإمكانية الاستعاضة عن الهوائيات ذات الأقطار الكبيرة بأخرى صغيرة، وهل استقبال برامج هذه الأقمار بواسطة هوائي التلفزيون المنزلي ممكن أم لا ؟
وللرد على ذلك يجب معرفة بعض البيانات مثل الموقع المداري للقمر المعني، والموقع الجغرافي للراصد، قيمة القدرة المشعة للإرسال، وقطاع التغطية الأرضي لبث هذا القمر، بالإضافة إلى تردد الإشارة المستقبلة (4). أولا: الموقع المداري للقمر،والموقع الجغرافي للراصد (5).
توضع الأقمار الصناعية في مواقع مدارية تتحدد بخط الطول وهي (العنوان الذي نستدل منه على صاحبه) وبالتالي يلزمنا قبل الحديث عن أي قمر،أن نعرف عنوانه (خط الطول الذي يشغله) إذ سيحدد لنا ذلك إمكانية التعامل معه من عدمه، فضلا عن كونه يدخل في حساب اتجاه زاوية النظر الرأسية لهوائي الاستقبال باتجاهه.
أما الموقع الجغرافي للراصد (خط الطول وخط العرض)،فترجع أهميته إلى كونه أحد العوامل الرئيسية التي تحدد قطاع الرؤية، بمعنى أنه مسؤول عن تحديد الأقمار المدارية التي يمكننا التعامل معها من موقع الرصد.
فمثلا باعتبار أن موقع الرصد هو الرياض (خط الطول 46.5 درجة شرقا و 24.5 شمالا)،فإن القوس المداري الذي تقع عليه الأقمار التي يمكن التعامل معها هو (332 درجة شرقا إلى 360 درجة شرقا) فوق المحيط الهندي، ويعني ذلك أن الأقمار التي تقع على القوس المداري فوق المحيط الباسفيكي (من 120 درجة شرقا إلى 80 درجة شرقا) والتي تقع على القوس المداري من (280 درجة شرقا إلى 332 درجة شرقا) فوق المحيط الأطلنطي لا يمكن التعامل معها من أراضي المملكة. ثانيا: القدرة المشعة:
ونعني بها شدة الإشارة التي يبثها القمر عند استقبالها بموقع الرصد، وهذه يتم حسابها في مرحلة تصميم القمر وفقا للمنطقة المطلوب تغطيتها، وتكون لها قيمة عظمى عند المركز كما تقل كلما بعدنا عنه، وبالتالي تعتبر قيمة القدرة المشعة عاملا رئيسيا في تحديد قطر الهوائي.
(فكلما زادت القدرة المشعة قصر طول الهوائي وكلما ضعفت زاد طول الهوائي) فمثلا إذا كانت قدرة القمر المشعة منخفضة في حدود (34 ديسيبل وات) فإنه يحتاج إلى محطة استقبال لا يقل قطر الهوائي عن (3) متر، أما إذا كانت القدرة المشعة مكثفة (65 ديسيبل وات) فأكثر فإنه يحتاج إلى هوائي قصير بين (45 إلى 90 سم) فقط حسب الموقع. ثالثا: قطاع التغطية الأرضي:
لا يكفى أن يكون القمر في موقع مداري يمكن للراصد أن يتعامل معه، بل يجب أن تغطي هوائيات الإرسال له موقع الراصد، فمثلا: رغم أن القمر الفرنسي (TDF) يقع على خط الطول (314) درجة شرقا، مجاورا لقمر الانتلسات الواقع على (342) درجة شرقا، وتتعامل معه محطة الرياض (4) إلا أن رصده من المملكة غير ممكن نظرا لعدم تغطية هوائياته لها (6). رابعا: تردد استقبال الإشارة، تردد الإرسال من القمر:
__________
(1) - منطقة زراعية قرب الرياض، فيها محطة أرضية تستقبل من الأقمار الصناعية.
(2) - انظر البث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون ص47، وانظر الشكل التوضيحي رقم (1، 2، 3).
(3) - خبير الأقمار الفضائية بالإتصالات السعودية.
(4) - نشرة النافذة (رجب 1410هـ) من إصدارات الاتصالات السعودية.
(5) - انظر الشكل التوضيحي رقم (4).
(6) - انظر الشكل التوضيحي رقم (5) و (6).(/5)
تعتبر الترددات - عموما سواء المستخدمة في القطاع الأرضي (1) أم الفضائي من المصادر الطبيعية التى ينتج عن عدم حسن استخدامها صعوبات ومشكلات هائلة، ولذلك فإن دول العالم ممثلة بالاتحاد الدولي للاتصالات وجهاته المختلفة تولي اهتماما بالغا بتقسيمها، وفقا لطبيعة الاستخدامات، وتضع قيودا على الترددات.
وأقمار البث المباشر قد حدد لها تردد معين، يختلف باختلاف الموقع للقمر والموقع للراصد (2) حيث إن التردد له تأثير على أي إرسال لاسلكي آخر، وعدم التحكم فيه يؤثر على غيره، فنجد أن التردد الذي تستخدمه روسيا للبث في سيبيريا، والذي تستخدمه اليابان للبث إلى جزرها، لا يصلح في أوربا وآسيا لتأثيره على بقية الاتصالات اللاسلكية، بل لا يصلح للبث في وسط اليابان أو وسط روسيا للسبب نفسه (3) .
أقمار البث المباشر :
تطورت الأقمار الصناعية للاتصالات تطورا مذهلا خلال سنوات محدودة، ولقد كانت الأقمار الصناعية تطلق في الفضاء لعدة أغراض (4) فنجد أن القمر يحتوي على عدد من الخطوط الهاتفية وبعض القنوات التلفزيونية، وهذه القنوات لا يمكن التقاطها من المشاهد العادي، بل لا بد أن يكون عبر المحطات الأرضية الضخمة، وبعد اتفاقيات دولية مسبقة. ولقد كانت ساعات البث من تلك الأقمار إلى المحطات الأرضية محدودة جدا ثم زادت شيئا فشيئا حتى بلغت الذروة تبعا لتطور الاتصالات والحاجة إليها. ففي عام 1965م كان مجموع ما بثته الأقمار الصناعية إلى المحطات الأرضية من البرامج التلفزيونية (80) ساعة فقط، ثم ارتفع ارتفاعا مذهلا حتى بلغ عام 1981م، مجموع ما بثته الأقمار الصناعية (26.658) ساعة، ووصل عام 1982م إلى (45.000) ساعة، وفي العام 1984م وصل إلى (75.000) ساعة (5).
أما الآن ... للبث التلفزيوني. وتعتبر أهم أقمار البث التلفزيوني المباشر والمسجلة بالاتحاد الدولي للاتصالات حتى الآن هي (6) شبكة أقمار ( TDF فرنسا ) و (TV-SAT ألمانيا) و ( TELEالسويد) و (BSB انجلترا) وفي الطريق عدد من الأقمار التي ستطلق قريبا.
ولمزيد من الإيضاح حول الأقمار الصناعية للبث المباشر أوضح ما يلي: (7)
1- القمر الصناعي يقع على ارتفاع شاهق يصل إلى 36 ألف كيلو متر عن الأرض.
2- يغطي القمر الواحد ثلث مساحة الكرة الأرضية.
3- يعمل القمر على مدار (24) ساعة.
4- كل قمر يحتوي على عدد من القنوات تصل في بعض الأقمار إلى (120) قناة.
5- أعلنت وكالة الفضاء الأوربية أن عدد سواتل البث المباشر -الأقمار الصناعية- سيبلغ عام 1990م (24) قمرا، بالإضافة إلى (60) قمرا للخدمات الأخرى.
6- ستعتمد هذه الأقمار على مواصفات جديدة تتفوق على الأنظمة المعمول بها حاليا كـ (بال وسيكام) وغيرهما، حيث ستمنح الصورة صفات نوعية من ناحية الألوان، وكذلك الصوت والتقنية.
7- وأخيرا فإنه من الصعب في الوقت الراهن الحكم على فاعلية أقمار البث التلفزيوني المباشر مستقبلا، نظرا لظهور الكوابل البصرية كمنافس قوي لها من حيث التكلفة ومخاطر الإطلاق (8) وهذا يعني أن الشر قادم، ولكن عن الطريق الأشد (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: من الآية30).
خامساً: الجديد في البث المباشر
1- بدأ البث المباشر يستقبل في تونس، حيث نشرت الصحف أن القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي بدأت تستقبل في تونس عن طريق بث القمر الصناعي الفرنسي (تلكوم) وعلى امتداد عشرين ساعة في اليوم من 6 صباحا إلى ما بعد منتصف الليل (9). ومن الجدير بالذكر أن تونس تستقبل التلفزيون الإيطالي منذ عدة سنوات (10).
2- نشرت جريدة الأهرام أن مصر على وشك استقبال البث الفرنسي، ولكن عبر محطة أرضية، ويبث مباشرة إلى المشاهدين وإلى عدد من الدول، وقد تم توقيع اتفاقية بين الدولتين بهذا الشأن، وسيكون البث يوميا، وعبر قناة مستقلة (11).
__________
(1) - كالراديو والهاتف السيار ولاسلكي الخدمات والأمن ونحوها.
(2) - انظر نشرة (النافذة) التي أصدرتها الاتصالات السعودية بالرياض (رجب 1410هـ).
(3) - وانظر لما سبق البث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون، ففيه توثيق لما ذكر، وبخاصة ص60، 61.
(4) - انظر البث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون ص10، فالأقمار على أنواع: منها أقمار الإتصالات ونقل المعلومات مثل أقمار المنظمة العالمية للأقمار (انتلسات)، وبعض أقمار الطقس والرياح مثل القمر الأوربي (ميتوسات) ومنها الأقمار الإقليمية مثل (عربسات) أو الأقمار الوطنية مثل الاقمار الكندية والأمريكية.
(5) - انظر مجلة البيان عدد (34).
(6) - انظر نشرة (النافذة) رجب 1410هـ.
(7) - انظر مجلة اليمامة عدد (1038) عام 1409هـ والبث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون.
(8) - انظر نشرة (النافذة) رجب 1410هـ، وجريدة الرياض عدد (8450).
(9) - انظر الأهرام في 27/ 6/ 1989م، ومجلة البيان عدد (34).
(10) - انظر مجلة البيان عدد (34).
(11) - الأهرام 27/ 6/ 1989.(/6)
3- من المتوقع أن يتم إطلاق مزيد من الأقمار الصناعية خلال السنوات القادمة، إذا سار البرنامج حسب ما رسم له من قبل مخططيه، ولم تعترضه عوائق جديدة، فقد ذكرت مجلة اليمامة أن قنوات البث ستبلغ خلال التسعينات (120) قناة (1) وأن إسرائيل على وشك إطلاق قمرها في الفضاء.
4- بدأ التنافس، والسباق بين أمريكا، واليابان،وأوربا الغربية، بل وبعض دول شرق آسيا مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج، وذلك لتصنيع أجهزة الاستقبال من الأقمار الصناعية، ويعتمد التنافس على أيهما أصغر حجما وأقل كلفة وأعلى تقنية، وقد طرح في الأسواق العالمية عدد من هذه الأجهزة بسعر عشرة آلاف دولار أو تزيد قليلا (2).
5- ذكر المهندس عبد المحسن عبد الله أحد الفنيين الكويتيين أن تكاليف هذه الأجهزة ستنخفض خلال ثلاث سنوات، حتى إن جهاز الاستقبال سيكون جزءا من التلفزيون (3).
6- أعلنت الشركات الفرنسية أنها ستشرع في توزيع أجهزة وهوائيات استقبال، ولن يزيد ثمنها عن (6000) فرنك ودخول منافسين سيقلل من قيمتها (4).
7- ذكرت مجلة اليمامة أنه سيكون في المستقبل من الممكن صناعة أجهزة الاستقبال محليا، بل استطاع أحد المهندسين الكويتيين صناعة جهاز استقبال محلي والتقط به البث بنجاح (5).
8- أعلنت شركة (فديوثرون) البريطانية أنها ستبدأ في نقل البث التلفزيوني المصري وتبثه مباشرة إلى المشاهدين في بريطانيا ولكن عن طريق الاشتراك بالخطوط الهاتفية (6).
9- قد تكون هناك مرحلة وسيطة قبل اكتمال البث، وذلك عن طريق المحطات الأرضية التي تبث مباشرة يوميا عبر قناة خاصة، وعن طريق الكيابل السلكية كما في مصر وشركة (فديوثرون) وشبكة (SNN) الأمريكية (7) أو عن طريق أجهزة استقبال خاصة ومكلفة حاليا.
10- تخطط دولة العدو الإسرائيلي لإطلاق قمرين صناعيين يحوي الأول منهما على (17) قناة قمرية للاتصالات والبث التلفزيوني بقدرة أشعة فعالة بينما يصل الآخر إلى ست قنوات قمرية، وسيغطي القمر بالإضافة إلى فلسطين الحدود الشمالية للمملكة، والدول العربية الواقعة شمال المملكة (الأردن -سوريا -لبنان -العراق وجزء من مصر). ومن المحتمل أن يحدث تداخل موجي مع أنظمة عربسات وذلك عن طريق إطلاق القمر مستقبلا، وقد تمت الموافقة على موقع القمرين من الاتحاد الدولي، وستكون على (15) درجة شرق خط غرينتش (8)
11- وأحب أن أشير إلى الظاهرة التي انتشرت أخيرا، وهي تركيب أجهزة استقبال وهوائيات كبيرة، وذلك للتمكن من مشاهدت بث الدول المجاورة، فإن هذا الأمر يتم دون الحاجة إلى أقمار صناعية فضائية، وإنما يعتمد على قوة بث محطة التلفزيون من البلد المعني، ثم على قوة الهوائي المستقبل واحتوائه على مواصفات معينة، أصبحت الشركات وبعض المؤسسات تعلن عنها، وتؤمن تركيبها.
والخطورة التي تشتمل عليها هذه القنوات لا تبعد كثيرا عن خطورة ما يتضمنه البث المباشر. بل قد تكون أشد في بعض الجوانب لكونها باللغة العربية.
12- كما أشير إلى ظاهرة أخرى، وهي أن بعض الناس بدأ يستقبل بعض القنوات العالمية بعد وضع جهاز استقبال عادي ويضيف إليه بعض المقويات للموجات، ثم يتصور أنه يستقبل من القمر مباشرة، وهذا غير صحيح، وإنما الذي يحدث هو أن أحد السكان يستقبل من القمر عن طريق محطة أرضية صغيرة خاصة توضع في الفلل أو على أحد الأسطح، وهنا يستطع كثير من الجيران الاستقبال نظرا لأن هذه المحطة يتعدى بثها إلى مسافات تطول وتقصر حسب مواصفات معينة، ولا يقتصر بثها على صاحبها فقط، إلا إذا اتخذت احتياطات خاصة، ولو تعطلت هذه المحطة مثلا لتوقف الاستقبال عن جميع الجيران الذين يستقبلون منها دون أن يعلموا عن السبب (9).
13- والكتاب في مراحله النهائية أعلن (مركز تلفزيون الشرق الأوسط) عن بدء البث التلفزيوني وذلك يوم 18 سبتمبر 1991م كما يلي:
(أ) لالتقاط البث في أوربا عبر القمر الصناعي الأوربي (EUTELSAT_2_F1) - 13 درجة شرقا.
(ب) لالتقاط البث في العالم العربي عبر القمر الصناعي العربي- عربسات- (IB-S.BAND) - 26 درجة شرقا.
وسيكون البث من الساعة الخامسة عصرا حتى الحادية عشرة بتوقيت غرينتش (10).
سادساً: آثار البث المباشر
أي آثار أتحدث عنها، ماذا آخذ وماذا أدع؟
__________
(1) - انظر مجلة اليمامة عدد (1038).
(2) - انظر مجلة المجتمع (عدد 957).
(3) - مجلة المجتمع (عدد 957).
(4) - اليمامة عدد (1038).
(5) - انظر اليمامة عدد (1038) والمجتمع (عدد 957).
(6) - جريدة الشرق الأوسط (6/ 2/ 1412هـ).
(7) - انظر جريدة الرياض عدد (8450) ومجلة البيان (34).
(8) - انظر البث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون ص65، وانظر الشكل التوضيحي رقم (7) ورقم (8).
(9) - انظر البث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون ص71.
(10) - جريدة الشرق الأوسط في 20/ 3/ 1412هـ عدد (4676) وانظر الشكل التوضيحي رقم (9).(/7)
إن الحديث عن آثار البث المباشر لا ينفصل عن الحديث عن أثر الإعلام الخارجي وماذا جنى على أمتنا خلال العقود التي مضت.
والحديث عن البث المباشر هو الحديث عن الأفلام وما خلفته من ركام، ولا تزال تعبث في أجساد وعقول أمتنا شبابا وشيبا. وقبل الدخول في تفصيل ذلك أضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:
1- ذكر الدكتور محمد عبده يماني (1) أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس) و (يونايتدبرس) و (وكالة الصحافة الفرنسية) و (رويتر) و (تاس السوفيتية). والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
وانظر إلى هذا الجدول (2) لترى الأمر العجب وموقعنا بين الأمم:
م ... اسم الوكالة ... عدد البلدان المستفيدة ... عدد الكلمات المبثوثة يوميا
1 ... أسوشيتدبرس ... 108 ... (17) مليون كلمة
2 ... يونايتدبرس ... 92 ... (11) مليون كلمة
3 ... وكالة الصحافة الفرنسية ... 152 ... (3,351,000) كلمة +(50) صورة
4 ... رويتر ... 147 ... (1,500,000) كلمة
5 ... وكالة الشرق الأوسط ... 25 ... (185) ألف كلمة فقط
ويلحظ ما يلي:
(أ) إن هذه الدراسة قديمة وقد زادت بتطور الإعلام.
(ب) انظر إلى عدد البلدان مع الرقم.
(جـ) تم اختيار وكالة الشرق الأوسط لأنها من أقدم وأشهر الوكالات العربية.
ألقى الشيخ سلمان العودة (3) محاضرة عن أخطار الأفلام وتأثيرها، وذكر خمسة عشر خطرا وقال هي إلى المائة أو إلى المائة والخمسين أقرب، كما قال ابن عباس عن الكبائر عندما سئل هل هي سبع؟ فقال: هي سبعون أو إلى السبعمائة أقرب.
وجميع هذه الأخطار متوافرة في البث المباشر، بل الأمر أعظم من ذلك كما سيأتي.
3- عندما تحدث د / عوض منصور عن البث المباشر (4) اقتبس جملة من حديث مشهور، استدل بها على خطورة البث المباشر وهي: " ويل للعرب من شر قد اقترب" (5).
أما مجلة اليمامة فقد اختارت للدراسة التي قامت بها عن البث المباشر عنوانا معبرا حيث قالت: (اختراق يقصم الظهر) (6).
ويقول عبد الرحمن واصل معبرا عن بعض الأخطار: (يبنون ناطحات السحاب على أنقاض صروح الفضيلة) (7). وهذه العناوين والاختيارات تعبر بالجملة عما سأذكره لاحقا -إن شاء الله-.
على رسلكم:
فوجئت -كما فوجئ غيري- ببعض الأقلام تخرج علينا في عدد من صحفنا ومجلاتنا، لا محذرة من خطورة البث المباشر، ولا طارحة بعض الحلول الوسط كما فعل الكثيرون، وإنما لتهدئ من روعنا، وتخفف من مخاوفنا، وتبشرنا بأن البث المباشر لا يحمل الشر كما نتوقع، وليس فيه ما يعكر صفو الحياة والمبادئ والقيم، كما وصل إليه علمنا. وتقول إننا نهول ونولول على غير هدى وبصيرة. وكما فعلنا بالأمس عندما جاء الراديو، ها نحن نعيد الكرة مرة أخرى، وهذا دأبنا عند كل جديد، وستزول هذه المخاوف عندما تصبح الحقيقة ماثلة أمام أعيننا، جاثمة داخل بيوتنا.
بهذه البساطة طرح أولئك القوم أفكارهم، وأثبتوا أنهم وصلوا إلى مرحلة من النضج لا يفرقون فيها بين تأثير الراديو وتأثير آخر صيحات التلفزيونات العالمية. ولا يدركون الفرق بين مستوى وعي العامة منذ سبعين سنة (8) وبين وعي طلاب العلم في القرن الخامس عشر.
وسأختار نموذجين من هذه الأصوات لأبين إلى أي مستوى وصل إليه بعض مثقفينا، ولأنبه إلى أنه في الوقت الذي يجب أن نعالج فيه مشكلات البث المباشر، يجب أن نباشر معالجة البث الغربي بيننا، وفي داخل صفوفنا، ممن يتكلم لغتنا وينتسب إلى بني جلدتنا:
تكاثرت الضباع على خراش ... فلا يدري خراش ما يصيد
فهذا أولهم يأتينا بما لم تأت به الأوائل ويخبرنا عن بني الأصفر ومدى ارتفاع مستوى أخلاقهم، مما جعلنا نعيد النظر فيما جاءنا عن الثقات، وما رأيناه بأم أعيننا عن أولئك القوم. اقرؤا ما يقول - هداه الله: (9) (إن التقدم الذي يجري على وسائل الاتصال ليس كله شرا، ودول العالم التي تملك هذه التقنية ليست كلها متجردة من القيم والأخلاق والمبادئ، ولعل من يراقب برامج التلفزيون في بعض دول الغرب -مثلا- يجد أنها تضع حسابات دقيقة لمواقيت (10) بعض البرامج، مراعاة للأطفال والمراهقين وغير ذلك من الاعتبارات).
__________
(1) - وزير الإعلام السعودي السابق.
(2) - وسائل الإعلام والدول المتطورة- يماني ص11.
(3) - المحاضر بجامعة الإمام بالقصيم والداعية المعروف.
(4) - انظر كتاب: التلفزيون بين المنافع والأضرار لعوض منصور.
(5) - جزء من حديث، وانظر التلفزيون بين المنافع والأضرار ص40.
(6) - اليمامة عدد (1038).
(7) - انظر عاطفة الحب لعبد الرحمن واصل.
(8) - مع أن العامة كانوا على الفطرة، وتحققت بعض مخاوفهم، فلا يخطأون في كل ما قالوا، ولكن (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
(9) - انظر مجلة الدعوة عدد (1181).
(10) - خشيت أن يأخذه الاندفاع فيقول: (لمواقيت الصلاة) فيخطئ من شدة الإعجاب.(/8)
أما الثاني: فقد بين كيف كانت حالته في قريته التى ولد فيها على الفطرة، وكيف أصبح بعد ذلك، بعد أن هدم سور القرية، وذكر كيف انزعج الناس من الراديو عندما قدم، وكيف ارتفعت أصواتهم، وإذا به يصبح أمرا عاديا، وأشار إلى الأصوات التي ترتفع الآن ضد البث المباشر، وكان مما قال (أعتقد لو أن البث الإذاعي المباشر تأخر قرنا آخر لقامت الأصوات ضده حين يشاع عن بدئه، كما تقوم الأصوات الآن ضد البث التلفزيوني العالمي المباشر، الذي نأمل أن يثري ثقافتنا، ويفتح عيوننا وعقولنا، وينقل العالم كل العالم إلى غرفنا الخاصة، وبالألوان وبالمجان) (1).
وتحدث في مقاله الذي عنون له بما يزلزل القلوب الحية (أهلا بالبث العالمي المباشر)، وقلنا لعل العنوان للإثارة، ولكن كما قال المثل: (تحت السواهي دواهي).
ها هو يقول- رده الله إلى الحق-: (إن الأمم التي سوف ترسل بثها التلفزيوني إلينا عبر الأقمار الصناعية، ليست أمما فالتة من الأخلاق، خارجة عن القيم... كلا (2)... بل هي أمم لها أخلاقها وقيمها، لقد شاهدت التلفزيون الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والهولندي واليوناني -عبر سفريات- فلم أجدها يخدش الأخلاق الأصيلة) (3).
هكذا كتبا، وكتب غيرهما قريبا من ذلك، ولهذا فإني أوضح ما يلي:
1- لن أرد على ما ذكرا، فمن خلال الصفحات التالية ستتضح الحقيقة إن شاء الله.
2- أذكرهما وأمثالهما بقوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219).
وأذكرهما بقاعدة (دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة)،وقاعدة (سد الذرائع) بل أذكرهما بمثل يعرفه أهل القرى (الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح).
3- وأخيرا أقول لهما، ولأمثالهما: على رسلكم، فلن يصح إلا الصحيح و (قل خيرا،أو فاصمت) و (قل خيرا تغنم،أو أمسك عن شر تسلم).
يصعب حصر آثار البث المباشر المتوقعة، ولكن سأكتفي بأبرز ما يتوقع من آثار بناء على الحقائق والأرقام التي سأذكرها، فنحن لا نرجم بالغيب، ولا ننطلق من عاطفة خالية من الحقائق، ولا يجوز أن نسكت حتى يأتي لنرى أخطاره وآثاره.
أولاً: الأثر العقدي :
من أخطر ما يتوقع أن يجلبه البث المباشر زعزعة عقيدة الإسلام في نفوس كثير من الناس، فاليهود والنصارى قد جعلوا من أهدافهم إخراج المسلمين من دينهم وزعزعة العقيدة في نفوسهم، وقد تحقق شيء من ذلك عبر وسائل كثيرة من أبرزها التلفزيون، ولننظر في هذا التقرير الذي صدر عن اليونسكو:
................. ... والحق ما شهدت به الأعداء
"إن إدخال وسائل إعلام جديدة، وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن" (4).
ويمكن تلخيص الآثار العقدية بما يلي:
خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها:
وذلك عبر وسائل، وأساليب متعددة حتى يعيش المسلم في حيرة، واضطراب، ويصبح كما أصبح الخيام ذات يوم، عندما عبر عن حالته قائلا:
لبست ثوب العمر لم أستشر
وسوف أنضو الثوب عني ... وحرت فيه بين شتى الفكر
ولم أدر لماذا جئت أين المفر
وكما عاش سيد رحمه الله قبل الهداية:
وقف الكون حائرا أين يمضي
عبث ضائع وجهد غبين ... ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء، والبراء، والحب، والبغض في الله :
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق،والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات،والمسلسلات سيخفف، ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس. والله جل وعلا يقول: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة: من الآية22) [الآية].
ومن أمثلة ذلك، حب وتعظيم كثير منهم كلاعبي كرة القدم، وخذ مثلا (مارادونا) (5) وبعض المغنيين كـ(مايكل جاكسون) الذي تعلق به كثير من الشباب، والفتيات. و (ستيف) الذي أعجب به حتى الأطفال، وأصبح الواحد منهم يقوم ببعض الحركات ويقول: أنا (ستيف). ناهيك عن حب كثير من الممثلات وعارضات الأزياء، وهلم جرا.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم :
__________
(1) - صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
(2) - أي والله هكذا كتب!! وأقرأ الباقي.
(3) - انظر مجلة الحرس الوطني العدد (96) 1411هـ.
(4) - أصوات متعددة ص238.
(5) - أتمنى أن يقوم قسم من أقسام الاجتماع أو علم النفس أو التربية في جامعاتنا بدراسة ظاهرة مردونا، وتأثيره على شبابنا، وماذا كانت حقيقة مردونا، يصلي عند حائط المبكى، ويتعاطى المخدرات، ومطلوب لشرطة نابولي بتهمة الدعارة، هذا هو المثل عند كثير من شبابنا.(/9)
وذلك "باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة، والخاصة. ولو نظرنا إلى بعض المسرحيات التي يقوم بها بعض أبناء المسلمين، كيف أن الممثل عندما يخرج إلى الجمهور يصفقون له ثم، ينحني لهم بما يشبه الركوع مما لا يجوز صرفه إلا الله، وهو تقليد غربي. وقس على ذلك ما عداه... ومن ذلك التشبه، حيث رأينا القصات العالمية، قصة مايكل جاكسون وقصة (ديانا)، وكذلك التشبه باللباس، وطريقة الأكل، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة " ومن تشبه بقوم فهو منهم " و " من أحب قوما حشر معهم ".
4- إظهار بلاد الكفر بأنها بلاد الحرية، و الديموقراطية والعدالة: وذلك بما يتاح للفرد فيها ما لا يجده في بلاد المسلمين، كحرية الكتابة، وإبداء الرأي، والمظاهرات، وأسلوب المحاكمات، وبعض هذه الأمور أوجه حسنة- ولا شك- وفي ديننا ما هو أفضل منها، ولكن إبراز هذا الأمر يعطي صورة غير حقيقية عن تلك البلاد، مما يجعل بعض المسلمين يتعلق بها، بل ربما يدخل في روعه أن سبب ذلك بسبب عدم تمسكهم بدين، وأن تأخر المسلمين بسبب دينهم، وقد سمعنا مثل ذلك ممن ذهب إلى الغرب، وفتن بحضارته.
5- نشر الكفر، والإلحاد: حيث إن كثيرا من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. ومن ذلك أفلام السحر، حيث تكثر في تلفزيونات أوروبا، وأمريكا، بل وصلت إلى بعض التلفزيونات العربية، وقد ذكر أحد الدعاة أنه قد رأى ذلك في أحد تلفزيونات الخليج، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
6- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية: عبر البث المباشر واقرأ هذه الأخبار لتعرف الحقيقة:
(يستعد الفاتيكان لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار صناعية تسمى بمشروع نومين (1) (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الأرضية.
(عقد في هولندا اجتماع عالمي للتنصر حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام بيلي، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير) (2).
ويقول الأستاذ: د/ عمر المالكي:
(والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل شبكة البث المسيحي (3) (NBN) وشبكة (CBN) والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من (17) مليون عائلة عن طريق الكابلي (vATC) وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي (SATC 3) وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف (4).
هذه بعض آثار وأخطار البث المباشر على عقيدة المسلمين، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر، حيث يقول الأستاذ - عبد الرحمن العبدان (5) وهو يصنف أنواع البرامج في البث المباشر، حيث ذكر عددا منها ثم قال ومنها: البرامج الموجهة للصغار، وفي رأيي أن هذه أكثر أنواع البرامج الوافدة خطورة، لأن الطفل أكثر تعلقا بالبرامج الجذابة، وأسرع تأثرا بها، وأقل تمييزا لما يقدم من خلالها، إذ أن تأثيراتها السلبية قد تطال سلامة العقيدة أو صفائها إلى جانب السلوك (6).
وأذكر المقللين من خطورة البث المباشر الذين يحسنون الظن بالغرب أذكرهم بقوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120).
ثانياً: الأثر الثقافي والعلمي :
لم أكن أتصور قبل القيام بهذه الدراسة أن واقع البلاد العربية في هذا المستوى من الأمية، والجهل، وارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية له تأثير سلبي أثناء التلقي من الحضارة الوافدة، سواء كانت عن طريق البث المباشر، أو غيره.
وإلقاء نظرة سريعة على هذه الأرقام تغني عن محاضرات وبحوث:
في ندوة (ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدت في الرياض عام 1402 هـ تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج، جاءت دراسة مهمة أذكر بعضا منها:
يوجد أكثر من 33% من أطفال البلاد العربية ما بين سن 6 - 14 خارج المدرسة، ويقدر هذا العدد بأكثر من خمسة عشر مليون طفل.
يوجد 75% من شباب البلاد العربية ما بين سن 15- 17 خارج المدرسة الثانوية بمختلف أنواعها.
يوجد حوالي 90% من شباب البلاد العربية من 18- 24 دون تعليم عال، أو جامعي.
__________
(1) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل. إعلامي- حمود البدر ص 19.
(2) - مجلة رابطة المالم الإسلامي (290).
(3) - الصحيح أن يقول: النصراني، لأن هذا هو الاسم الصحيح لهم في القرآن الكريم.
(4) - مجلة البيان عدد (34).
(5) - أمين المجلس الأعلى للإعلام في المملكة.
(6) - جريدة الرياض عدد (8450).(/10)
يوجد قرابة 50% من أفراد المجتمع العربي فوق سن (15) من الأميين (1). بل إن مما يزيد الوضع صعوبة، وتعقيدا، ما يقضيه الطالب- بين حجرات الدراسة وما يقضيه أمام التلفزيون، فقد ذكر د/ حمود البدر أن الأبحاث، والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون (15.000) ساعة، بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من (10.800) ساعة على أقصى تقدير (2).
هذا مع أن هؤلاء التلاميذ لا يشاهدون إلا قناة أو، قناتين، فكيف إذا أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات، دون حسيب،أو رقيب. لهذا فإن البث يشكل خطورة على ثقافة الأجيال التالية، متمثلا بما يلي:
ا- إضعاف مستوى التعليم لدى أفراد الأمة، وقد أجريت دراسة عن أثر التلفزيون على تحصيل الطالب فأفاد 64% ممن شملتهم الدراسة أنه يشغل عن التحصيل، والاستذكار.
2- تلقين مفاهيم جديدة.
3- ربط الناس بمناهج غربية، يساعد على ذلك شيوع تعلم اللغات الأجنبية.
4- شيوع الخمول، والكسل، وعدم الجدية، وبخاصة أن أشد البرامج إغراء ليلتي السبت،والأحد، وهما من أيام الدراسة في البلاد العربية، أضف إلى ذلك السهر الذي سيؤثر على بعض الطلاب؛ لأن وقت عرض البرامج المغرية في أول الليل هناك، يكون الوقت عندنا متأخرا، كان يجري أثناء نقل المباريات العالمية التي تجري عندهم بعد العشاء مباشرة، تكون عندنا قرب الفجر (3).
5- إضعاف مستوى التلاميذ في اللغة العربية، ونحن الآن نشكو من الضعف في هذا الجانب دون بث مباشر، فماذا سيحدث بعد ذلك.
وأختم هذا الجانب بهذه الحقائق:
(شكت وزيرة الثقافة اليونانية (ملينا يركورى) من أن بلدها قد دهمته الثقافة الأمريكية (4)
وفي فرنسا صرح وزير الثقافة الفرنسي في السبعينات أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار- الثقافي الأمريكي (5).
وجاء وزير الثقافة الفرنسي الجديد (جاك لانق) وشن حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية، وقال إنها أصبحت صنابير تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، فقد لاحظ أنه في يوم الأحد، وفي الساعة الواحدة ظهرا، تجد خمس قنوات فرنسية تبث مسلسلات أمريكية، مع أن عدد القنوات الفرنسية ست قنوات فقط، أي أكثر من 80% تبث الثقافة الأمريكية (6).
وشكا رئيس وزراء كندا (بيار ترودو) من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي (7).
إذا كانت هذه حال أولئك القوم وشكواهم مع أنهم في وضع سياسي متقارب، ودينهم واحد، ومناهجهم متشابهة، فكيف بنا، وماذا ستكون حالنا مع الثقافة الوافدة، يقول الأستاذ/ عبد الرحمن العبدان، وهو يتحدث عن البث المباشر، وخطورته في الجانب الثقافي (ثم البرامج الثقافية الموجهة، والتي يمكن أن نسميها بالغزو الفكري، وهذه سوف تسيئ لكثير من مفاهيم الشعوب المستهدفة وقيمها، ولا بد من مراقبتها، وتبصير المتلقين بأهدافها، وتحصينهم من آثارها) (8).
ثالثاً: الآثار السياسية :
كانت الدول الكبرى في الماضي تسيطر على الدول الصغرى عن طريق القوة العسكرية، وبهذا تخضعها لنفوذها، وتستعمر أراضيها.
وقد عانت الدول الكبرى، والصغرى من ويلات وآثار الاستعمار الحديدي، أما اليوم فقد انتهى الاستعمار العسكري تقريبا، وأصبحت الدول تتحاشى مجرد. وجود قواعد عسكرية في أراضيها، إلا إذا اتخذ شكل الحماية لتلك الدولة من عدو مجاور، أو قريب.
وبما أن الدول الكبرى لا يمكن أن تتنازل عن مطامعها ومصالحها، حتى لو كانت على حساب الغير، فقد توصلت إلى عدة وسائل تستطيع بها أن تحافظ على نفوذها السياسي، وتستمر هيمنتها وتبعية الدول لها، واستعمار العقول أخطر من استعمار الأراضي.
ومن هنا فقد بدأ ما يسمى بالاستعمار الإلكتروني، والبث التلفزيوني سيساهم بأفلامه، وبرامجه، ومسلسلاته في تحقيق أهداف القوى الاستعمارية، فقد صرح وزير خارجية كندا عام 1976 م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة (9)
وأثبتت بعض الدراسات أن هناك بعض الأطفال الكنديين لا يعرفون أنهم كنديون؛ لتأثرهم بالبرامج الأمريكية التي تبث إلى كندا مباشرة، (10).
وفي فرنسا عندما شعر الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) بخطورة تأثير الأفلام الأمريكية، قام بعدة إجراءات منها:
1- إلغاء الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية.
2- الإنسحاب من الحلف الأطلسي.
3- إعادة النظر في العلاقات الثقافية، والسياسية مع أمريكا.
__________
(1) - انظر بحوث ماذا يريد التربويون من الإعلاميين ص 75.
(2) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوى ص 13.
(3) - وقد يقول قائل: إن كثيرا من الناس لن يسهر حتى الفجر، فأقول: سينام كثير ويسهر الكثير.
(4) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(5) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 59.
(6) - مجلة اليمامة عدد (1038).
(7) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(8) - جريدة الرياض عدد (8450).
(9) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(10) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.(/11)
وقد أعلن صراحة أن تلك الإجراءات (حماية لفرنسا من الاستعمار الثقافي الأمريكي) (1). وما أحسن مما عبر عنه فهمي هويدي (2) معلقا على دخول البث التلفزيوني إلى تونس حيث قال:
خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956 م، ولكنه رجع إليها عام 1989 م، لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا.
رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب، والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الأجيال الحاضرة، والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء، والأمهات. وقال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956 م وعادوا إليها عام 1989 م ليقتحموا كل بيت،،وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة،والأخلاق، والفكر، والوعي، عند الصغار والكبار، والنساء والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر أكبر يهدد الجيل الجديد كله (3).
وأختم هذه الحقائق بما ذكره أحد الغربيين مشيرا إلى أسلوب صناعة الفكر الشرقي.
(كنا نحضر أولاد الأشراف، والأثرياء، والسادة من أفريقيا،وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثم نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثم نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا.
ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثم أرسلناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري وكانوا يرددون ما نقوله، كنا حين نصمت يصمتون، لأننا واثقون أنهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم) (4) .
وقد يقول قائل: ما علاقة هذا الكلام بالبث المباشر؟ فأقول: إذا كان هذا أسلوبهم قديما، فكيف بالأسلوب المعاصر؟ وبخاصة إذا نظرنا إلى تأثير الأفلام الأمريكية على الفرنسيين، والكنديين وغيرهم. ومما لفت نظري أن البث المباشر بدأ مع طرح موضوع النظام العالمي الجديد، وهذا النظام له أبعاد سياسية معروفة، فهل كان هذا التوافق عارضا؟ لا أظن ذلك.
ومما تجدر الإشارة إليه في موضوع الأثر السياسي، أن لكل دولة سياسة إعلامية، تسير عليها، وتخطط في ضوئها، والبث المباشر سيؤثر تأثيرا بارزا على تلك السياسات، بل سيخترقها دون إذن أصحابها، ولذلك يقول د/ على النجعي (5) وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره (6).
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو جاء فيه: (إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلا حقيقيا للمعلومات) (7). ومن الأمثلة على ذلك أن إذاعة (NBC) وزعت في فترة واحدة (125) مسلسلا تلفزيونيا، أذيع في (300) محطة تلفزيونية في (83) بلدا في وقت متقارب (8).
رابعاً: الأثر الأمني :
إذا كان للأفلام تأثيرها السلبي على الأمن في بلد من البلدان، فكيف تكون الحال مع أفلام الغرب المنحل والشرق الملحد، عبر البث التلفزيوني المباشر؟! وإذا كانت الدول تعتبر أن سقوط الإذاعة يعني سقوط الدولة؛ ولذلك أول ما يحرص عليه الذين يقومون بالانقلابات السيطرة على الإذاعة والتلفزيون.
وتحارب الدول الإذاعات الموجهة ضدها حربا لا هوادة فيها، بكل الوسائل السياسية والمالية والفنية.
كل ذلك للأثر السلبي الذي ينشأ عند استخدام الإذاعة والتلفزيون ضد أمن بلد من البلدان.
ويتخذ الأثر الأمني عدة صور منها:
ا- الارتباط بالمخابرات الأجنبية:
فقد كشف تقرير للجنة المواصلات الفيدرالية الأمريكية، أن (60) إذاعة بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرتبطة ارتباطا مباشرا بالمخابرات المركزية الأمريكية (9).
__________
(1) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 59- 60.
(2) - كاتب سياسي له شطحات فكرية معروفة.
(3) - الأهرام 27/6/1989 م.
(4) - استمع إلى شريط الندوة التي عقدها الحرس الوطني عن البث المباثر على هامش الجنادرية عام 1409 هـ.
(5) - وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون التلفزيون.
(6) - انظر جريدة الرياض (8450).
(7) - أصوات متعددة ص 303.
(8) - تدفق المعلومات ص 75.
(9) - أقمار الفضاء غزو جديد ص 25.(/12)
وقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكين وكان يعمل في سفارة بلاده في إحدى الدول العربية، أن السفارة قد سيطرت على القناة التي تبث باللغة الإنجليزية، حتى قال: إن القناة تدار من السفارة بدلا من إدارة التلفزيون في ذلك البلد.
2- الاضطرابات:
فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي:
إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة (1) .
3- الجريمة:
قال الطبيب النفسي (ستيفن بانا) الأستاذ بجامعة كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف (2).
وتوضح دراسات العالم الفرنسي (جان خيرو) أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين ترجع إلى مشاهدة أفلام العنف.
وتدل الإحصائيات الأخيرة التي أجريت في أسبانيا أن 39% من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية (3).
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر الباحث أن 41% ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و 47 يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال (4).
وذكر د/ حمود البدر أنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود (168) مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في (13) فيلما فقط (73) مشهدا للجريمة (5).
وقد قام د/ تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن 27.4% منها تتناول الجريمة (6).
ألا تكفي هذه الحقائق لبيان الخطورة الأمنية لهذا الغول القادم، ولكن: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46).
خامساً: الأثر الأخلاقي :
من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلّفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل في أخلاق الرجال وأعراض النساء.
ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
ا- شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، حتى أصبحت أمرًا عاديا في بعض المجتمعات.
2- تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها، وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح، مع اختيار أجمل النساء للقيام بأدوار معينة في الأفلام، حتى إن بعضهن لا دور لها إلا عرض مفاتنها.
3- تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة، وسبيل إليها، كالخلوة، و الاختلاط، و المغازلة.
4- الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5- بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج، مع ما يحدث هناك بعد ذلك.
6- بعض الأفلام التي تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن الأدلة على ذلك فيلم "الباطنية" المشهور.
ومما يساعد على ذلك شيوع الأمية في العالم العربي، فضلا عن بقية العالم الإسلامي، حيث تصل إلى 70% في الدول العربية، و 90% في دول العالم الإسلامي.
ولعل التأمل في الأرقام التالية يوضح ما سبق بيانه:
يقول الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون) (7).
وذكر د. حمود البدر أنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها (8).
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات يتوزع كما يلي:
من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية.
من 5% إلى. ا% برامج ثقافية ووثائقية.
5% تخصص للمعلومات.
من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب ورياضة (9).
وفي دراسة ذكرها د. محي الدين عبد الحليم عن (الدراما)- وهي من برامج الترفيه والتسلية- توصل فيها إلى ما يلي:
23% من الذكور يرون أنها مفيدة (10).
__________
(1) - أصوات متعددة ص 338.
(2) - الإعلام والبيت المسلم ص 113.
(3) - الإعلام والبيت المسلم ص 115- 118.
(4) - التلفزيون بين المنافع والأضرار ص 65.
(5) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 14.
(6) - بصمات على ولدي، طيبة اليحى.
(7) - بصمات على ولدي، طيبة اليحى.
(8) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 14.
(9) - مجلة اليمامة عدد (1038).
(10) - لا تنظر إلى من هلك كيف هلك ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا. لا تعجبن من هالك كيف هوى بل فاعجبن من سالم كيف نجا.(/13)
77% يرون أنها تؤدي إلى الانحراف وتدعو إلى الرذيلة، وتتنافى مع عادات المجتمع.
أما الإناث -وهنا الخطورة- فقد رأى قرابة 45% أنها مفيدة (1).
و 55% يرين أنها تؤدي إلى الشر والفساد والانحراف (2).
(ويلحظ الفرق بين النساء والرجال لسرعة التأثر).
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق (3)
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان (4).
(برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة.
ويواصل قائلا: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك) (5).
وفي تحقيق أجرته جريدة عكاظ مع بعض مدمني مشاهدة الأفلام اعترف عدد منهم بخطورة هذه الأفلام (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) (يوسف: من الآية26). وكان مما قالوه:
ا- قال الشاب نايف الودعاني: إن هذه الأفلام عديمة الفائدة، والتي تعتبر مضيعة للوقت بالإضافة إلى كونها الطريق إلى اكتساب عادات وأفكار سيئة تؤدي إلى انحراف بعض الشباب، خاصة في مرحلة المراهقة.
2- أما الشاب عادل الخليوي فقد اعترف بأن بعض هذه الأفلام قد تتسبب في انحراف الشباب الذين ليس لديهم وعي كامل بخطورة ما تحتويه.
3- ويقول أيمن عبد العزيز: رغم أن لهذه الأفلام سلبيات، منها ضياع الوقت، واكتساب أفكار قد تكون سيئة (6).
ومما تجدر الإشارة إليه -بل الوقوف عنده- مما يشكل خطرا على الأخلاق، وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية، مع العلم أن هناك قنوات غربية متخصصة في الدعاية التجارية فقط.
ولندع الأرقام تتحدث:
نوقشت رسالة ماجستير بعنوان:
(صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) وذلك في إحدى الدول العربية، اعتمد الباحث فيها على ما يلي:
1- تحليل مضمون (356) إعلانا تلفزيونيا، بلغ إجمالي تكرارها (3409) خلال 90 يوما فقط.
2- مسح شامل لإدارة الإعلانات بالتلفزيون.
3- مقابلات مع عدد من مديري وكالات الإعلان.
وقد توصل الباحث إلى عدد من النتائج من أهمها:
ا- استخدمت صورة المرأة وصوتها في (300) إعلان من (356)، كررت قرابة (3000) مرة في (90) يوما.
2- 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة.
3- سن النساء اللاتي خرجن في الدعاية من (15- 30) سنة فقط.
4- 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة كالجمال والجاذبية، و 51% على حركة جسد المرأة، و 12.5 % من هذه الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
5- إن الصورة التي تقدم للمرأة في الإعلان منتقاة وليست عشوائية (7).
وإذا كان هذا الأمر في تلفزيون عربي عليه بعض الرقابة، وأغلب شعب هذا البلد مسلمون، فكيف بإعلانات دول الانحلال و الرذيلة ؟
وقام د. سمير حسين (8) بإعداد دراسة حول (برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون) توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة.
96% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة (9).
96% قالوا إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية، ويقلدون المعلن (10).
ويقول د. محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية، لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها (11).
وقد قام الدكتور تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن:
29.6% تتناول موضوعات جنسية.
27.4% تتناول الجريمة.
15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف (12).
__________
(1) - لا تنظر إلى من هلك كيف هلك ولكن انظر من نجا كيف نجا.
(2) - التلفزيون- مروان كجك ص 197.
(3) - انظر كتاب تدفق المعلومات ص 75- 76.
(4) - وبخاصة أن الأستاذ - عبد الرحمن أمين عام المجلس الأعلى للإعلام في المملكة.
(5) - جريدة الرياض العدد (8450).
(6) - جريدة عكاظ العدد (9186) الملحق.
(7) - مجلة الإصلاح في دبي العدد (134) ذي الحجة عام 1409 هـ.
(8) - أستاذ الإعلام بجامعة الإمام- كلية الدعوة والإعلام.
(9) - ونحن نعلم أي مشروبات سيعلن عنها في البث المباشر؟.
(10) - التلفزيون لمروان كجك ص 157.
(11) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 10.
(12) - بصمات على ولدي- طيبة اليحى، وماذا يقول الذين يدعون أنهم لم يروا ما يخدش الأخلاق الأصيلة، أو أنهم يراعون التوقيت لبرامج الأطفال.(/14)
ومما يزيد الأمر حزنا أنه تبين من دراسة قامت بها اليونسكو كما ذكر الأستاذ مروان كجك في كتابه عن التلفزيون ص 196:
تبين أن الأطفال في البلاد العربية يقضون ما بين 12 ساعة إلى 24 ساعة أسبوعيا أمام التلفزيون (وسترتفع مع البث المباشر).
سادساً: الأثر الاجتماعي :
لا يستطيع أحد أن يكابر ويدعي أن الأفلام والتمثيليات والمسرحيات لم تؤثر على الأنماط الاجتماعية، وكثير من السلوكيات الحميدة، وقد اعترفت اليونسكو بهذه الحقيقة في دراستها التي سبقت الإشارة إليها، حيث جاء فيها:
(إن إدخال وسائل إعلام جديدة -وخاصة التلفزيون- في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن) (1).
ولا شك أن الانفتاح على القنوات العالمية سيزيد من هذا التأثير السلبي.
ويتمثل الأثر الاجتماعي الذي يتوقع أن يحدثه البث المباشر بعدة صور من أهمها:
ا- التأخر في الزواج، وتفشي الطلاق، ومحاربة تعدد الزوجات، ولقاءات الفتى والفتاة بعد الخطبة وقبل العقد برضى الأهل.
2- انصراف المرأة للأزياء العالمية وآخر صرعات الموضة، وتقليد المرأة الغربية في كثير من أسلوب حياتها، كالخروج من المنزل ومحادثة الرجال.
3- سيطرة المرأة على الرجل، وضعف القوامة بدعوى الحرية وتساوي الحقوق.
4- دخول كثير من العادات الغربية إلى بيوت المسلمين، والإعجاب بالنمط الغربي للحياة.
5- ضعف القيام بحقوق الوالدين (2) وقطع الأرحام، وتفكك الأسر، وإهمال حقوق الجيران.
6- الأنانية وحب الذات، وضعف الروح الجماعية، وعدم نصرة المظلوم.
7- إبراز أبطال لا حقيقة لهم على حساب أبطال الإسلام، وسعي الفرد لتقليد هؤلاء.
ومثال ذلك إبراز اللاعبين والممثلين والفنانين أبطالا، حتى أصبحوا هم المثل الأعلى لكثير من الشباب والفتيات.
ومما يذكر في هذا المجال للدلالة على إبراز أبطال لا حقيقة لهم، وتصديق المشاهدين بذلك ما ذكره (جين بلر) أن الدكتور (مركوس وبلين) وهو أحد الذين يظهرون على الشاشة في دور طبيب -وهو ممثل- حيث تلقى ما يزيد على (250) ألف رسالة يطلب فيها أصحابها معونته الطبية، من مشاهدين صدقوا فعلا أنه طبيب معالج (3).
بل أخطر من ذلك إبراز بعض الأفراد أبطالا عالميين للأدوار التي قاموا بها في التأثير على سلوك المجتمع المسلم واختراق حدود الدين والفضيلة، ومن أمثلة ذلك نجيب محفوظ الذي منح جائزة نوبل، وهو أول عربي ينال هذه الجائزة، وذلك لرواياته ومسرحياته الهابطة التي تدعو إلى تغيير كثير من أنماط السلوك السوي في المجتمع المسلم، وانظر إلى ما قاله مسؤول في الأكاديمية السويدية وهو يسلم ابنة نجيب جائزة نوبل، حيث قال: (إن الأكاديمية لا تنسى تلك الرواية العالمية التي كتبها نجيب، والتي أعلن في نهايتها موت الإله) (4) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
سابعا: آثار أخرى :
وهناك آثار أخرى للبث المباشر أوجزها بما يلي:
1- الأثر الاقتصادي: ويتمثل ذلك بما يلي:
(أ) شراء الأجهزة من شاشات للعرض وأجهزة للاستقبال، مع صيانة تلك الأجهزة، وقد تم في الشهور الأخيرة من عام 1978 م بيع عشرة ملاين جهاز فيديو (5).
(ب) تأثير الدعايات في شراء بضائع لا حاجة لها، والإقبال على بضائع دون غيرها، مما قد يكون أجود منها.
(ج) إهمال المنتجات المحلية، التي يعود نفعها للمسلمين؛ لأن أغلب الدعايات ستكون لمنتجات غربية، بل قد تلجأ كثير من المؤسسات والشركات المحلية إلى الإعلان عن بضائعها في القنوات العالمية الأوسع انتشارا، مع ما يكلفه هذا من أموال طائلة ستكون على حساب المستهلك؛ حيث إن إعلانات التلفزيون باهظة التكاليف.
2- الأثر الصحي :
ويصعب حصر هذا الأثر، ولكن أشير إلى أنه في دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر 64% أن التلفزيون يؤدي إلى ضعف البصر، و 44% يرون أنه يقيد حركة الجسم ويحرمه من الرياضة.
وقد ذكر سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- في رسالته عن التلفزيون عدة أخطار صحية عن أطباء عالميين، والدراسات في هذا كثيرة ومتنوعة.
3- ومن الآثار: إهدار الوقت : ولنأخذ هذا المثل:
لو أن بلدا من البلدان عدد سكانه عشرة ملايين نسمة، وعدد الذين يشاهدون التلفزيون 25% فقط، ومعدل الجلوس ساعتان يوميا، فكم يهدر من الساعات سنويا إنها (000, 000, 750, 1)ساعة بل أكثر من ذلك وتعادل (000.000, 250) يوم عمل، تصوروا: مئتان وخمسون مليون يوم عمل.
__________
(1) - أصوات متعددة، ص 338.
(2) - وقد بثت إحدى المحطات العربية فيلما أمريكيا، قام الولد بضرب أبيه عندما أراد والده أن يؤدبه، و لم يظهر على الأب أي رد فعل لذلك.
(3) - التلفزيون لمروان كجك ص 198.
(4) - ندوة البث المباثر- الحرس الوطني، مهرجان الجنادرية عام 1409 هـ.
(5) - الإعلام المعاصر 288.(/15)
كيف لو صرفت هذه الساعات في طلب العلم، والدعوة إلى الله، ومساعدة المحتاجين، و إقامة المصانع والمعامل، والاستغناء عن الأيدي الكافرة، والتدرب على الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الأمة وحماية المقدسات.
ولا ما يقضونه من ساعات أمام التلفزيون والفيديو (1) فماذا سيحدث عند قدوم البث المباشر، والحساب هذه المرة أتركه لكم.
4- وأخيرا فإن هناك أثرا لا تجوز الغفلة عنه لعاقبته المخيفة وهو:
ارتكاب ما حرم الله، مما يكون سببا لغضب الله، وذهاب للحسنات، واكتساب للسيئات، ويتمثل ذلك في الآثام التالية:
(أ) النظر إلى ما حرم الله وبخاصة صور النساء الفاتنات المفتونات.
(ب) سماع الغناء والموسيقى ونحوهما.
(ج) تربية الأهل والأولاد على ما حرم الله.
(د) عدم إنكار المنكر مع القدرة على ذلك.
(هـ) إنفاق المال في المعاصي، وذلك كفر للنعمة وسبب لحلول النقمة.
(و) إهدار الوقت في غير طاعة الله، بل في معاصيه.
إلى غير ذلك من المعاصي والآثام التي يصعب حصرها، ويتحمل المرء وزرها يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).
ولو لم يكن له من الآثار إلا هذا لكفى؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) (الصافات:24).
وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ".
سابعاً: منافع البث المباشر
وبعد:
فقد يقول قائل: لقد فصلت في الآثار السلبية، وبيان خطورة البث المباشر، أليس له منافع ؟ ولماذا لم تذكرها؟
فأقول: إن هذا السؤال يذكرني بقصة ذكرها لنا والدي -حفظه الله- وهي أن رجلا كان يشرب الدخان، فسئل لماذا تشربه وهل فيه منافع، فقال: إن له عدة منافع ومنها:
ا- إن اللصوص لا يسرقون بيتي في الليل.
2- إن الحيات والعقارب لا تقدر عليّ.
فاستغرب السائل واشتاق للإجابة، فواصل المدخن قائلا:
أما إن اللصوص لا يقربون بيتي في الليل فلأنني دائم السعال -الكحة- فلذلك يتصور اللصوص أني مستيقظ، فلا يدخلون البيت.
وأما عدم قدرة الحيات عليّ فلأن الدخان أصابني بمرض أحوجني إلى العصا، فهي دائما معي، فإذا قربت مني قتلتها بالعصا.
ومنافع البث المباشر لا تعد شيئا في مقابل السلبيات والأخطار، ومن المعروف أنه ليس هناك شر محض، ولكن بعد التأمل في تلك المنافع، التي ضخمت أكثر من حقيقتها، وجدتها ينطبق عليها قوله -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219).
وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90).
ومن قواعد الشريعة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وكذلك من القواعد قاعدة: سد الذرائع.
وقد نهى الله عن سب الأصنام إذا كان سبها سيؤدي إلى سب الله -جل وعلا- (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية108).
ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - النساء عن زيارة القبور مع ما فيها من مصالح، لأن ذلك سيؤدي إلى مفاسد عظيمة، حيث أن المرأة ضعيفة فقد ترتكب ما حرم الله " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور "
وترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم -عليه السلام- خشية حدوث فتنة، لأن قريش حديثة عهد بالإسلام (2).
ومن هنا فإنني أقول لمن يتولى كبر التهوين من خطورة البث المباشر، ويعدد المزايا والإيجابيات اتقوا الله، وانظروا في هذه القواعد التي أشرت إليها، والله حسبنا ونعم الوكيل.
ثامناً: الوقاية
شاركت في عدد من الندوات، واستمعت إلى بعض المحاضرات والندوات، وقرأت كثيرا مما كتب حول البث المباشر، وفي هذه الندوات والمحاضرات والكتابات طرح المشاركون حلولا لمشكلة البث المباشر، وأنجح السبل لاتقاء شره، أو التخفيف من آثاره.
__________
(1) - حتى لا يتعجل أحد ويدعي أني أبالغ بما قلت فإني أحيله إلى ملحق جريدة عكاظ العدد رقم (9186) فقد أعدت تحقيقا حول مشاهدة الأفلام، ومن ذلك ما ذكره الشاب سلطان الدوسري أنه يرى الفيديو لأكثر من ست ساعات. أما بسام العقيل فقد ذكر أنه أحيانا يمضي النهار كله في مشاهدة الأفلام. وأقلهم عبد الله الحمدان الذي ذكر أنه يقضي حوالي أربع ساعات يوميا مع الفيديو هذا عدا ما يقضونه أمام التلفزيون، والله المستعان.
(2) - مع أن هذه فيها مصالح ظاهرة لا توجد في البث المباشر.(/16)
ولم أجد في شيء من تلك المحاولات حلا جذريا متكاملا لهذه المشكلة (1).
ولهذا فكرت طويلا في هذا الموضوع وتوصلت إلى ما أراه دواء لهذا الداء، مع مراعاة ما يلي:
ا- أن ما سأبينه، من علاج ليس من بنات أفكاري، بل هو خلاصة منتقاة لتلك الحلول التي ذكرها عدد ممن عني في هذا الموضوع، أضفت إليها ما توصلت إليه مما وفقني الله له.
2- أن هذه الحلول ثمرة بحث متواصل استمر قرابة سنتين ونصف، قرأت فيها كثيرا مما كتب، واستمعت إلى عدد مما ألقي، وشاركت في الحوار في بعض هذه الندوات، واتصلت ببعض طلاب العلم والمتخصصين في الإعلام، بل التقيت ببعض الفنيين في أجهزة الاتصالات والأقمار الصناعية، وتلقيت عددا من الرسائل، تتساءل وتطرح الحلول.
3- ومع ذلك فلا أدّعي أن ما سأذكره سيكون وافيا شافيا، وإنما هو أشمل طرح في رأي -حتى الآن- والمجال لا يزال مفتوحا أمام طلاب العلم والدعاة والمتخصصين، لمزيد من البيان وطرح سبل الوقاية (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: من الآية76).
4- سأجيب فيما سأذكره على بعض التساؤلات، وسأرد -بطريق غير مباشر- على بعض الحلول التي طرحت، وسأذكر حلولا قابلة للنقاش، فآمل أن تتسع الصدور، وتسلم النوايا، ويحسن القصد.
وستتركز معالجتي لهذه القضية على النقاط التالية:
ا- لماذا نحن دائما مواقفنا دفاعية؟
2- موضوع التشويش على الأقمار.
3- منع الأجهزة.
4- تطوير البرامج.
5- الإرسال المضاد.
6- مواقف الدول.
7- العلاج الممكن.
وسأوجز أو أطنب في كل مسألة حسب ما تقتضيه من إيجاز أو إطناب، فأقول مستعينا بالله ومتوكلا عليه، فهو حسبي وكافيني:
أولاً: لماذا مواقفنا دفاعية ؟
من الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سمتها، ولا خاصية من خصائصها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت في هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها. ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
فإن يكن لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، وكالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8).
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا الحيلولة بيننا وبين تحقيق الخيرية التي منحنا الله إياها.
وبهذا ستتفجر مواهبنا، وتظهر عبقريتنا، وتعم العالم مبادراتنا، وهنا يحق لشاعرنا أن يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصموا
وأعود مرة أخرى فأقول:
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم بإذن الله، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا بنبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولا بد أن ننتشل أنفسنا من هذا الذل والهوان:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
وأن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح وإلا:
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
وأن نعلو بأهدافنا وغاياتنا:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون المسلم هو المسلم الذي يصدق فيه:
يهتز (يلسن) (2) من خوفه فرقا ... على كرسيه وملوك الروم (3) تخشاه
بل يصدق فينا قول الحق -جل وعلا-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
وحتى يتحقق هذا الأمل -بإذن الله- تعالوا بنا نناقش موضوعنا في ظل واقعنا وإمكاناتنا، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
ثانياً: التشويش على الأقمار :
__________
(1) - وهذه الحلول جيدة ومفيدة، ولكنها غير متكاملة، وقد أفدت منها.
(2) - هو يلتسن- الزعيم الروسي كناية عن الشرق.
(3) - أي ملوك ورؤساء الغرب كافة.(/17)
سئل أحد المسؤولين في وزارة من وزارات الإعلام العربية عن البث المباشر؟ وما أعد لمواجهته؟ فأجاب:
أستبعد حدوث البث المباشر قريبا، وإن حصل فأمره سهل، حيث يمكن التشويش عليه ومنع أجهزة الاستقبال.
تألمت عندما نقل إلي هذا الكلام، وحملت أوراقي وذهبت لمقابلة أحد كبار المتخصصين في الأقمار الصناعية، وهو الدكتور محمد عبد المنعم فطيم، خبير الأقمار الفضائية في الاتصالات السعودية، وطرحت المشكلة أمامه، ثم أبدى رأيه في موضوع التشويش، وكانت خلاصة البحث ما يلي:
أن التشويش ممكن من الناحية الفنية، وغير ممكن من الناحية الواقعية، وبيان ذلك: أن التشويش يمكن أن يتم بإحدى طريقتين:
1- التشويش على القمر: وذلك بأن يتم توجيه جهاز مضاد يعطل إرسال القمر، ولكن هذا غير ممكن من الناحية الواقعية لسببين:
(أ) من يستطع اليوم أن يقوم بتعطيل قمر أمريكي أو أوروبي، ومن يملك الجرأة على ذلك، وبخاصة دول العالم الثالث.
إن مجرد رفع العلم الأمريكي على باخرة في أعماق البحار يعطيها أمانا، فكيف بقمر كلف مئات الملايين من الدولارات وهو سابح في الفضاء؟! وهذه هي الحقيقة المرة. (ب) التكلفة المادية الهائلة لقيمة جهاز التشويش، مع عدم ضمان فاعليته، فقد ذكر المهندس فاروق عامر أن تركيب أجهزة التشويش صعب جدا؛ لأن كل قناة تليفزيونية تحتاج إلى محطة كاملة للتشويش، وذلك مكلف جدا (1) وبخاصة إذا علمنا أن كل قمر يحمل عشرات القنوات.
2- الطريقة الثانية:
التشويش على منطقة الاستقبال، فمثلا: يمكن من الناحية الفنية التشويش على منطقة الرياض دون التعرض للقمر الذي يبث، حيث تكون منطقة الرياض غير صالحة لاستقبال البث.
وهذا أيضا غير ممكن من الناحية العملية والواقعية؛ لأن ذلك يعني قطع جميع الاتصالات الهوائية واللاسلكية في منطقة الرياض أو التشويش عليها، وهذا سيؤثر على استقبال الراديو والتلفزيون واتصالات الأمن والخدمات وغيرها (2).
وتقول د / انشراح الشال (3) وهي تتحدث عن إمكانية التشويش على الأقمار:
إن الدراسات التي أجريت في مواجهة الحرب الإذاعية من خلال الراديو أثبتت فشل عمليات التشويش، وفشل فرض العقوبات أو تجريم من يستمعون إلى هذه البرامج، وأيضا فشل الحد من دخول أجهزة الراديو التي تلتقط برامج معادية، وهذا يدفعنا إلى القول بأن عملية التشويش على بث يتم عبر الأقمار غير مجدية ومستحيلة عمليا (4).
وقد ذكر أحد المتخصصين أنه يمكن التشويش بالطريقة التالية:
إذا بث قمر صناعي قناة تلفزيونية على بلد من البلدان، فإنه يمكن التشويش بأن يقوم التلفزيون في البلد المعني ببث برامجه على القناة نفسها، وهنا سيكون الاستقبال في جهاز التلفزيون للأقوى، فإذا كان القمر يبث على موجة رقمها 11 مثلا، يقوم التلفزيون بالبث على الموجة نفسها لإلغاء البث المباشر، ولكن بشرط أن يكون بثه أقوى من بث القمر، مع بقاء التلفزيون يبث على موجته السابقة، فيصبح ييث على موجتين، فإذا أطلق قمر آخر قناة أخرى، قام التلفزيون بالبث على موجة ثالثة تزاحم هذه القناة، وهكذا.
وأختم هذا الموضوع بما قاله الأستاذ سعود الدهلوي مدير جهاز تلفزيون الخليج: "إن البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية حقيقة واقعة، والتشويش عليها كما ينادى به في بعض اللقاءات والندوات الصحفية أمر غير ممكن، والبث التلفزيوني سيصبح مثل البث الإذاعي" (5).
ثالثاً: منع الأجهزة :
ويطرح البعض قضية منع أجهزة الاستقبال الخاصة بالبث، ويعني ذلك منع بيعها واستيرادها، ومعاقبة من يمتلكها أو يهربها (6) .
وهذا جيد ومفيد لولا ما يلي:
ا- ذكر عبد المحسن عبد الله وهو أحد الفنيين في الكويت هذا الأمر ثم قال: وهذا الاقتراح جيد ولكن للأسف سوف يفقد فاعليته بعد عدة سنوات قد لا تتجاوز ثلاث سنوات، بعد تطوير أنظمة حديثة جدا صممت أخيرا، ومنها نظام (macsystem) لاستقبال بث الأقمار الصناعية، وغيرها من الأنظمة التي تطور في الشركات الكبرى الأمريكية واليابانية والأوروبية.
وتشمل عملية التطوير أيضا: تصغير الهوائي المستخدم للاستقبال، وجعله كهوائي استقبال التلفزيون العادي. وتصغير حجم مغذي الموجات، وجعله أكثر حساسية للموجات عالية التردد جدا (Ghz) لوضعه على هوائيات صغيرة الحجم (7).
2- أنه يمكن تصنيع أجهزة الاستقبال محليا، بعد الحصول على بعض القطع الإلكترونية المتوافرة في الأسواق. وقد قام أحد المهندسين الكويتيين بصنع هذا الجهاز والتقط به البث بنجاح (8).
__________
(1) - الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي ص 20.
(2) - تمت المقابلة في اتصالات المنطقة الوسطى في شهر رجب 1410 هـ.
(3) - أستاذة الإعلام بجامعة القاهرة.
(4) - مجلة اليمامة العدد (1038).
(5) - انظر البث المباشر في دول مجلس التعاون ص 85 وعكاظ العدد (8611).
(6) - انظر البث التلفزيوني في دول مجلس التعاون ص 88 وغيرها.
(7) - انظر مجلة المجتمع العدد (957).
(8) - انظر مجلة المجتمع العدد (957) ومجلة اليمامة العدد (1038).(/18)
3- إن وسائل التهريب ستقلل من فاعلية هذا الإجراء، ولن ينال مهربوا هذه الأجهزة ما يناله مهربوا المخدرات.
4- أن هذا الحل لو نجح بنسبة100% فسيبقى حلا جزئيا محدود الأثر، كيف وعوامل نجاحه محدودة، إن لم نقُلْ معدومة.
رابعاً: تطوير البرامج :
والذين ينادون بتطوير البرامج كحل من حلول مشكلة البث على صنفين:
الصنف الأول: وهم الذين يرون أن البرامج المقدمة حاليا لا تشد المشاهد ولا تغريه، نظرا لالتزامها بضوابط معينة، تجعل المشاهد ينصرف عنها إلى غيرها، كأفلام الفيديو حاليا أو البث مستقبلا.
وباختصار: هؤلاء ينادون بإباحية الأفلام والبرامج، وأن ننافس تلفزيونات أوروبا وأمريكا في فجورها وانحرافها، وإن لم يقولوا هذا صراحة. وتكمن المشكلة عند هؤلاء -إن كانت توجد عندهم مشكلة- في وطنية وقومية البرامج المبثوثة، فهم يريدونها عربية أو محلية بدل أن تكون غربية.
ويتباكون على اللغة أو ما يلحق بالاقتصاد بدل أن تكون القضية قضية حلال وحرام، أو صلاح وفساد، وكفر وإيمان، وولاء وبراء.
ولا نقاش لنا مع هؤلاء، فهم أخطر مما نخشاه مستقبلا، ولنا معهم تجربة مريرة عبر عنها عبد الله الجعيثن قائلا:
(بل إنني لا أكون مبالغا إذا قلت: إن ما يقدم في الأفلام العربية ويتلوى في فيديو كل بيت هو أبعد عن الأخلاق وأدنى إلى الانحطاط مما رأيت في تلك التلفزيونات العالمية (1)
ويعجبني ما قاله د/ عمر الخطيب (2) حول هؤلاء وهو يتحدث عن مشكلة البث المباشر إذ قال:
"إن بعض المسؤولين عن الإعلام في العالم العربي إذا سئلوا لماذا تقدمون هذه الأفلام الهابطة؟ قالوا: إن الجمهور يريد هذا، ثم قال: وهم الذين جعلوا الجمهور يريد كده (3) وعودوه على ذلك. فهم المسؤولون أولا وأخيرا (4).
الصنف الثاني وهم الذين ينادون بتطوير البرامج إلى الأحسن من حيث المادة والإخراج.
وممن طالب بذلك د- سعيد آل زعير (5) واعتبر هذا الأمر من أهم الحلول التي نواجه بها هذه المشكلة، وبين أن ضعف البرامج الإسلامية مادة وإخراجا من أهم أسباب انصراف الناس عنها (6).
وكذلك د/ عبد الرحمن الشبيلي (7) حيث يقول وهو يتحدث عن الجوانب الوقائية من سلبيات البث المباشر:
إن أفضل وسيلة للوقاية بالإضافة إلى التربية هي تحسين البرامج الإعلامية، وجعلها تصل إلى مستوى منافس لما يستقبل عن طريق البث المباشر، ومرة أخرى فإنني لا أقصد بالمنافسة الهبوط، ولكن أقصد الارتقاء، ولو أننا تتبعنا -على سبيل المثال- حالة الإذاعات لوجدنا أن الإذاعة التي تنافس إذاعتنا السعودية ليست الإذاعات الهابطة في برامجها، ولكنها الإذاعات الراقية ذات المستوى الإعلامي الجيد، والمنافسة لا تكون دائما بوسائل الترفيه فقط، فالبرنامج الجيد المدروس يمكن أن تتوافر فيه عناصر المنافسة، حتى وإن كان برنامجا جادا، أو تثقيفيا، أو توجيها، أو حتى وثائقيا (8).
وقضية تطوير البرامج وتخليصها مما شابها مسألة لا أظن أنها محل خلاف بين من يزعجهم الواقع المر والمستقبل المخيف، ولكن أحب قبل أن أتجاوز هذه النقطة أن أبين ما يلي:
ا- أن هذا الحل لا جزئيا، فليس كل الناس يريدون الجيد والطيب، بل الأكثر يريدون الأسوأ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة: من الآية100)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103) و (درهم وقاية خير من قنطار علاج).
2- أن هذه الدعوى تبقى في حدود الأماني والأحلام، فماذا فعلنا حتى يمكن أن ننافس الأفلام الهابطة في كثير من البيوت، بل ماذا فعلنا منذ ثلاثين سنة حتى ننافس ما يقدم في التلفزيونات العربية.
وإذا وجدت تلك البرامج والأفلام أيمكن أن ترى النور أم تراها النار؟
آمل ألا يكون تطوير البرامج من نوع ما يسمى بالمسرحيات الإسلامية التي تقدم في التلفزيونات العربية.
ومن أراد معرفة حقيقتها فليرجع إلى محاضرة د/ سفر الحوالي (9) بعنوان: المؤامرة على المرأة المسلمة، فقد كشف عن عوارها وبين آثارها.
__________
(1) - انظر مجلة الحرس الوطنى العدد (96).
(2) - أستاذ بجامعة الملك سعود - قسم الإعلام وصاحب البرنامج المشهور "بنك المعلومات.
(3) - قالها باللهجة المصرية، مع أنه ليس مصريا.
(4) - الندوة التي عقدها الحرس الوطني على هامش الجنادرية عام 1409 هـ حول البث المباشر.
(5) - أستاذ جامعي بقسم الإعلام بجامعة الإمام بالرياض وداعية معروف.
(6) - الندوة التي عقدت عام 1410 هـ بجامع الملك خالد بالرياض.
(7) - وكيل وزارة التعليم العالي، وعضو المجلس الأعلى للإعلام، ومدير التلفزيون سابقا.
(8) - جريد الرياض العدد (8450.).
(9) - رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى والداعية المعروف.(/19)
4- للدكتور محمد سيد ساداتي (1) رأي جيد حول مفهوم تطوير البرامج، والرؤية الصحيحة في ذلك، فأنصح بالرجوع إلى ما ذكره (2).
5- عقدت ندوة حول تطوير البرامج الإسلامية في تلفزيونات الخليج، وذلك في خدمة الإمام عام 1407 هـ وقد خرجت بتوصيات جيدة، صاغها عدد من العلماء والمختصين آمل أن تكون انطلاقة لهذا الموضوع.
خامساً: البث المضاد :
والمراد بذلك أن نقوم بالبث الإسلامي إلى أوروبا وأمريكا وغيرها، وأن نسخر هذا الاكتشاف لخدمة الدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس، فالبشرية أشد ما تكون حاجة إلى الإسلام، والظالمون يحولون بينها وبين معرفة طريق الهداية، وهذه فرصة مواتية لا يجوز التفريط فيها أو إهمالها.
وممن ينادي بذلك د/ عبد القادر طاش (3) ود/ سعيد آل زعير، ود/ عبد المحسن الداود (4) حيث كتب مقالا جيدا في جريدة الرياض فصل فيه رؤيته للموضوع مما يغني عن الإعادة لمن أراد مزيد شرح لذلك (5).
وقد ذكر أن رابطة العالم الاسلامي تفكر في إنشاء قناة تلفزيونية عالمية تصل تكلفتها إلى ألف مليون دولار، تتولى بث البرامج التلفزيونية في مجالات الدعوة والثقافة الإسلامية.
وقد طلبت الرابطة تمويل هذه القناة من الدول الإسلامية (6).
ومرة أخرى أقول إن هذا الطرح جيد ومهم، ونتطلع إليه بشوق، ولا بد أن نعي هذه الحقائق قبل أن نغرق في التفاؤل:
ا- إن القضية تبدو ردود أفعال عاطفية، فكما أن الغرب سيبث لنا ما نكره، فلنبث إليه ما يكره، وإلا فإن الدعوة إلى الله غير مرتبطة بردود الأفعال، والمعاقبة بالمثل، وإن كان ليس كل الذين يطرحون هذا الأمر يقصدون هذا الجانب، وإنما جاء طرحهم نظرا لهذا الاكتشاف الجديد ووجوب استثماره.
2- إن أمامنا تجربة مرة، وهي قضية القمر الصناعي العربي الذي كلف قرابة مليار ريال بل أكثر من ذلك، حيث عانينا من مشكلات إطلاقه، فلما انطلق واستقر في مداره تورطنا به، حيث اختلفت الدول العربية حوله، وكيفية تشغيله واستثماره، بل إن كثيرا من الدول العربية -عدا الدول الخليجية- لم تف بالتزاماتها المادية، وتراكمت الديون على مؤسسة (عرب سات) و لم يستثمر منه سوى 30% من طاقته وبلغت الديون قرابة (70) مليون دولار (7) وذكرت إحدى الصحف أنه تم تأجير جزء منه للهند، تخفيفا من ديونه؟ إذًا القضية ليست قضية أقمار، ولكن كيف تستثمر هذه الإمكانات ومتى؟
3- في الوقت الذي لا أقلل فيه من الحاجة إلى قناة، بل إلى قنوات إسلامية للدعوة إلى الله في شتى بقاع المعمورة، فإن حاجة الأمة الإسلامية، والدول العربية بخاصة لا تقل عن حاجة أولئك (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) فمتى نرى قنوات خاصة تسلم من هذا البلاء، أسوة بإذاعات القرآن الكريم التي أثبتت نجاحها وإفادة الناس منها.
4- لماذا نعلق آمالنا دائما على الجهات الرسمية، ولا نتقدم بمبادرات خاصة لها صفة الاستقلال، نساهم فيها بإيجاد الحلول العملية، ولكننا نظريون، ونلقي باللوم على غيرنا.
5- إن وجود البث المضاد -إن وجد- لا يلغي الأثر السيئ للبث المباشر في الداخل، لأننا لا نتصور أن " يتوقف الغرب والشرق عن بثه، إلا إذا كنا نتوقع أن يدخلوا في الإسلام جميعا، فيصبح بثهم بثا إسلاميا، وليس ذلك على الله بعزيز، ولكن سنن الله لا تتخلف، والواقعية سمة الرجال الصادقين، والخيال لا يلد إلا وهما.
سادساً: مواقف الدول :
قال الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).
شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر (8) وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال (9) فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:
__________
(1) - أستاذ جامعي بقسم الإعلام- جامعة الإمام بالرياض وأحد القراء الجيدين في القراءات.
(2) - انظر كتابه البرامج الإعلامية، وكذلك ندوة (كيف نتقي البث المباشر) التي عقدت بجامع الملك خالد عام 1410 هـ حيث شارك فيها.
(3) - رئيس قسم الإعلام بجامعة الإمام، ومعار لجريدة " المسلمون" حيث يرأس تحريرها بالنيابة وقد طالب بذلك في ندوة شاركته فيها بجامعة أم القرى عام 1410 هـ.
(4) - كاتب وأستاذ جامعي.
(5) - جريدة الرياض العدد (8006).
(6) - جريدة الرياض العدد (8006).
(7) - انظر جريدة الشرق الأوسط 6-2-1412 وكتاب (ندوة المنتدى العربي الأردني عن القمر الصناعي العربي) ففيه العجب !!.
(8) - وذلك في 15-8 -1410 هـ وقد شارك في الندوة كل من د/ عبد القادر طاش و د/ أحمد البناني وذلك بدعوة من رئيس اللجنة الثقافية د/ عبد العزيز العقلا.
(9) - الأستاذ بجامعة أم القرى والكاتب المعروف.(/20)
" إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء" (1).
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة، وأتفق معه على ما ذكره بالجملة، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، لأن كثيرا من المسؤولين العرب قد رحب بالبث المباشر، بل بعض الدول وقعت الاتفاقيات لتقوم بدور الوسيط، ومع هذا فأقول لو صدقت النوايا لأمكن تحقيق ذلك لما يلي:
ا- أن بعض الدول العربية لها من الثقل السياسي والاقتصادى والاستراتيجي ما يجعل جميع دول العالم بحاجة إليها، وبخاصة دول الخليج العربي، وليس هناك صداقات دائمة وإنما مصالح دائمة كما قال تشرشل.
2- أن بعض الدول قد اتخذت مثل هذه المواقف لأسباب أقل خطرا من ذلك، وأثبتت هذه المواقف فعاليتها وتأثرها، وإمكان تطبيقها.
3- يقول د/ محمد سمرقندي: (2) إن جميع دول العالم تقريبا أعضاء في الاتحاد الدولي للاتصالات وعددها (160) دولة، فعندما تريد إحدى الدول إطلاق قمر بث برامج تلفزيونية، فإنه يجب عليها عرض الموضوع على الاتحاد الدولي للاتصالات لتحديد موقع القمر في المدار، وتحديد الترددات القمرية لها.
فإذا وجد بأن البرامج المرسلة من هذا القمر ستغطي المنطقة العربية، فإن بإمكان الدول العربية معارضة مشروع هذا القمر في هذه الحالة، فالدول المختلفة لا تستطيع إطلاق أقمارها ووضعها في المدار وتوجيه برامجها كما تشاء، فهناك ضوابط وقوانين دولية تخضع لها دول العالم دون استثناء (3).
سابعاً: العلاج الممكن :
بعد أن ذكرت فيما مضى بعض الحلول المطروحة، وبينت وجهة نظري في كل نقطة، أصل إلى ما أراه ممكنا وعمليا حول هذه المشكلة، وبخاصة بعد أن تبين أنه لم يتخذ أي إجراء ذي بال على مستوى الدول العربية أو الإسلامية. (4)
وأرى أن العلاج يتمثل فيما يلي:
1- إعادة النظر في مناهج التعليم في الدول الإسلامية، وذلك لصياغتها صياغة إسلامية، تربي النشء، وتقوم السلوك.
ومما يجدر ذكره أن سياسة التعليم في المملكة سياسة جيدة، وقد أعدت بعناية، والمطلوب هو الدقة في تنفيذ تلك السياسة، والمتابعة المستمرة للموائمة بينها وبين الواقع، وبخاصة في الجامعات، حيث خرجت بعض المناهج التي تحتاج إلى إعادة نظر، وأخص ما يتعلق منها بالأدب والاجتماع.
2- إزالة الفجوة بين قنوات التربية، فإن مصادر التلقي (5) عند النشء كثيرة أهمها:
(أ) المسجد.
(ب) التعليم.
(ج) البيت.
(د) وسائل الإعلام.
ومن المؤسف أننا نجد خللا وتناقضا بين تلك الوسائل، فضلا عما يتلقاه من الوسائل الأخرى، كالشارع والقرناء.
فيتعلم في المسجد آدابا يجد مايناقضها في بعض وسائل الإعلام.
ويدرس في المدرسة أحكاما يجد ما يضادها في البيت والتلفزيون، بل إنه يجد التعارض أحيانا في المدرسة ذاتها بين ما يقوله أستاذ التربية الإسلامية، وبين ما يقوله أستاذ الرسم أو العلوم.
بل إنه يحتار -أحيانا- بين ما يقوله مدرس (الدين) وما يفعله.
وهكذا تتعدد مصادر التربية وتتعارض، وليست المشكلة في تعددها، وإنما في تناقضها.
يقول د- هاشم عبده هاشم: (6)
لا بد من إعادة النظر في موضوع العملية الإعلامية، وضرورة توافقها مع العملية التعليمية، وإزالة التناقض بينهما (7).
وقد عقدت ندوة في جامعة الإمام عام (1407 هـ) وذلك حول موضوع تطوير البرامج الإسلامية في تلفزيونات الخليج، ومن أبرز ما لحظه المشاركون في الندوة التناقض بين ما يقدم في المدارس وبين ما يقدم في التلفاز.. بل مما أشارت إليه الندوة أن هناك تناقضا فيما يقدمه الجهاز الواحد، فنجد الموعظة ثم تتلوها أغنية، ونجد موضوعا تربويا فتتلوه تمثيلية تفتقر إلى أدنى مقومات الأخلاق والسلوك.
وقد خرجت الندوة بعدة توصيات جيدة لمعالجة هذا الأمر.
__________
(1) - انظر مجلة التضامن الإسلامي عدد شوال 1410 هـ حيث نشر هذا الكلام، وقد اقتصرت على مكان الشاهد.
(2) - مدير مركز التوزيع الصوتي والتلفزيوني بكلية الهندسة بجامعة الملك سعود.
(3) - انظر مجلة الأمة عدد (1038)، والبث التلفزيوني المباشر في دول مجلس التعاون ص 61 و 87.
(4) - انظر جريدة الرياض عدد (8450) ففيها تحقيق جيد حول هذا الموضوع.
(5) - أقصد الوسائل، وإلا فإن مصادر التلقي هي " الكتاب والسنة، ثم ما عليه سلف الأمة.
(6) - رئيس تحرير جريدة عكاظ.
(7) - الندوة التي عقدها الحرس الوطني عام 1410 هـ البث المباشر على هامش مهرجان الجنادرية.(/21)
عقد مكتب التربية العربي لدول الخليج ندوة بعنوان (ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) عام 1402 هـ.
وقد قدم في هذه الندوة عدد من البحوث الجيدة لمعالجة مشكلة التعارض التي أشرت إليها، وخرجت بتوصيات آمل أن ترى النور قرييا، أو بعيدا !!
إن موضوع التربية الشاملة المتكاملة من أهم وسائل العلاج لأمراضنا، ويحتاج هذا الأمر إلى وقفة صادقة جادة، نراجع فيها أوضاعنا، ونتأمل في واقعنا دون رهبة أو خوف.
3- بذل الجهود الجماعية من قبل الهيئات والمنظمات والجامعات لوقاية الأمة من شر هذا الأمر، وتوعيتها بخطورة ما يحاك لها.
وإنني أتساءل بمرارة: ماذا عملنا لمواجهة هذا الخطر؟ وقد علموا به قبل عشر سنوات؟. (1)
ومع ذلك فلا زالت الفرصة بأيدينا، وآمل أن تبادر أقسام الإعلام في جامعاتنا، بالتنسيق حول هذا الموضوع مع المنظمات والهيئات الاسلامية.
4- وما أشرت إليه في الفقرات الماضية قد يحتاج إلى شيء من الوقت للدراسة والتنفيذ، بل قد تعترضه عقبات تحول دون تحقيقه.
ومن هنا فإنه لا بد من اتخاذ وسائل أخرى تكون علاجا لهذا الداء، وتخفيفا من هذا البلاء ويتمثل ذلك بما يلي:
(أ) " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك " (2).
لا بد أن نعي هذه الحقيقة، ونتعامل معها، فالله -جل وعلا- يقول: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: من الآية120).
ويتحقق ذلك بتقوى الله، وتقوية الشعور بمراقبة الله، وهنا لن ينظر المسلم إلى محرم، حتى لو خلا به، وسيتذكر قول الشاعر أو معناه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
فاستحِ من نظر الإله وقل لها ... والنفس داعية إلى الطغيان
إن الذي خلق الظلام يراني
وقول الآخر:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
فلا تحسبن الله يغفل ساعة ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وسيقول له وازعه:
يا مدمن الذنب أما تستحي
غرك من ربك إمهاله ... والله في الخلوة ثانيكا
وستره طول مساويكا
وعندما يهم برؤية محرم، من مشهد أو فيلم أو سماع أغنية، ويقول له شيطانه: هذه صغيرة، وماذا يضرك إذا سمعت أو رأيت، فإن المشكلة في الكبائر لا في الصغائر، ستمنعه التقوى التي عبر عنها ابن المعتز:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى ... واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
إن الذين يتقون الله -جل وعلا- لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصدق الله العظيم: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
(ب) الاهتمام بالأطفال منذ الصغر فـ " كل مولود يولد على الفطرة... " الحديث، وبخاصة أن برامج الأطفال من أخطر البرامج كما بينت سابقا.
ولذلك لا بد من تنشئتهم تنشئة إسلامية، وتوجيههم إلى حفظ كتاب الله، وملء فراغهم بما يفيد أو باللهو المباح مما هو متوافر والحمد لله.
مع المراقبة والمتابعة وبخاصة عدم التساهل مع قرنائهم حتى لو كانوا أبناء الجيران أو الأقارب، فإن ما تبنيه في سنة يهدمه القرين في ساعة.
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
إن بناء الرقابة الذاتية منذ الصغر أمر مهم، ويعين الوالدين على أبنائهم. بل إن العناية في تربية الولد الأول يساهم مساهمة فعالة في تربية بقية الأولاد.
وأهمس في آذان الوالدين ألا يتساهلا في موضوع تربية البنات، فإن الغالب على كثير من الآباء والأمهات العناية بالأولاد الذكور دون الإناث، وهن بيت الداء ومكمن الخطر، ولقد أدرك العرب في جاهليتهم هذا الأمر، ولكنهم أخطأوا في العلاج.
وأركز في هذا الجانب على موضوع القدوة، فقد تساهل فيه كثير من الآباء، فهم يقولون ما لا يفعلون، وينهون عما يأتون، والذي يقوم بزيارة لدور الأحداث يرى ما جناه كثير من الآباء على أبنائهم، فإن أول زاوية في الانحراف تبدأ من عند أحد الوالدين أو كليهما.
إن الطفل شديد الانتباه قوي الملاحظة سريع التأثر، وقد عقد مؤتمر حول برامج الأطفال في التلفزيون، وذلك في إحدى الدول العربية، وقد تركزت البحوث على مسألة: كيف يستطيع الواحد منا عندما يكتب للأطفال أن يتنازل عن مستواه العقلي ليحاكي عقلية الطفل، إلا بحثا واحدا لرجل من أوروبا الشرقية حيث تركز بحثه على: كيف نرفع من مستوانا العقلي عندما نكتب للأطفال، حتى نكتب ما يناسبهم، دون الوقوع في خلل أو خطأ يكتشفه الطفل دون الكبار، وفد فاز هذا البحث بالجائزة الأولى وأشاد به المشاركون.
إن أضعف نقطة في المجتمع ينفذ منها الأعداء هم الأطفال والنساء، فالحذر الحذر، والبدار البدار.
__________
(1) - ألقى د- محمد عبده يماني محاضرة في جامعة الإمام بالرياض في حدود عام 1400 هـ وكان وزيرا للإعلام وبين أن البث المباشر قادم بعد سبع سنوات.
(2) - جزء من حديث صحيح هو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما.(/22)
(ج) الاهتمام بالمرأة، فهي من أفتك الأسلحة التي استخدمت في حرب الفضيلة ونشر الرذيلة، وصلاحها صلاح للمجتمع، ومن سبق إليها فاز بقصب السبق، فهي مناخ من سبق.
وأحيل الإخوة الكرام إلى الرسالة التي كتبتها حول هذا الموضوع بعنوان: (بناتنا بين التغريب والعفاف)، فقد بينت فيها ما لا يدع حجة لمكابر، ولعل ما ذكرته عند الحديث عن الأثر الأخلاقي يصدق ما أقول.
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق
و:
البنت جامعة إذا أهملتها ... خرجت جيلا سيئ الأخلاق
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
(د) إعادة دور المسجد، فهو محضن من محاضن التربية، وملجأ -بعد الله- عند الملمات.
إن المسجد ليس مكانا للصلاة فقط، بل هو مكان الصلاة، وجامعة العلم، ومقر الاعتكاف، ومنطلق الدعوة، وميدان من ميادين التربية، بل قاعدة من قواعد الجهاد والدفاع عن الحرمات والأعراض.
ولقد أثبتت أحداث الكويت المواقف البطولية التي انطلقت من المساجد، بل إن إسرائيل تعلن حالة الطوارئ يوم الجمعة أثناء الانتفاضة، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير مثال لذلك.
(هـ) إذكاء روح العزة لدى المسلم، وإزالة الهزيمة النفسية، وعقدة التفوق الغربي.
يقول حمدي قنديل: " المعروف أن القردة هي التي تقلد الإنسان، ولكن إنسان العالم الثالث قد اختار أن يقلد قردة أوروبا" (1).
إن الهزيمة النفسية من أبرز أسباب تخلفنا وتفوق أعدائنا، وقد عالج شكيب أرسلان هذه القضية في كتابه الرائع: (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟) تجد حقيقة الداء والدواء، وصدق الله العظيم: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8).
إن من أهم ما نواجه به هذا الغزو المدمر إيجاد المناعة وتأصيل الانتماء لهذا الدين.
يقول الأستاذ عبد الله الحصين (2) وهو يناقش وسائل معالجة هذا الداء:
(إن العلاج بإيجاد المناعة، وذلك بتأصيل الانتماء لهذا الدين، وتكامل جوانب التربية في البيت والمدرسة والمسجد، بل في جميع وسائل التلقي، وإزالة عقدة تفوق الإنسان الغربي، فقد تجاوزها الرجل الياباني -وهو وثني- منذ عدة سنوات) (3). (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:85).
(و) وتربية الأمة على الجهاد والاهتمام بمعالي الأمور، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أننا إذا تركنا الجهاد، وأخذنا بأذناب البقر سلط الله علينا ذلا، لا ينزعه عنا حتى نعود إليه.
إننا أمة مجاهدة، والأمة المجاهدة لا وقت لديها للنظر إلى سفاسف الأمور، والولوغ في الشهوات.
" ومن لم يغز غزي". وها نحن لما تركنا الجهاد ورضينا بالدنيا غزينا في عقر دارنا بالبث المباشر، بل بالغزو المباشر.
(ز) ترسيخ مبدأ الولاء والبراء، والحب والبغض في الله، فهذا من أوثق عرى الإيمان.
إن معرفتنا بحقيقة هؤلاء الأعداء، وما يمكن أن يبثوه لنا تجعلنا في مأمن من شرهم، وهي بداية الطريق لعدم التأثر بأساليبهم: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (آل عمران: من الآية28).
إن حقيقة اليهود والنصارى قد كشفها القرآن (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية51) ، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (الأعراف:196).
وأحيل القراء الكرام إلى الكتاب الرائع الذي ألفه د- محمد بن سعيد القحطاني (4) بعنوان " الولاء والبراء في الإسلام" فقد عالج هذا الموضوع معالجة شاملة ووافية، وأنصح كل قارئ ألا تخلو مكتبته من هذا الكتاب، فضلا عن قراءته.
(ح) القضاء على الفراغ الذي يعيشه المجتمع والأفراد " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ " حديث صحيح
ولنرب الأمة على التوجيه الرباني: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7، 8).
ولقد أجاد الشاعر عندما قال:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة
__________
(1) - المنتدى العربي ص 63.
(2) - رئيس تحرير جريدة المدينة سابقا، ومستشار تعليمي سابق.
(3) - ندوة البث المباشر التي عقدها الحرس الوطني على هامش الجنادرية عام 1409 هـ.
(4) - الأستاذ بجامعة أم القرى- قسم العقيدة، والداعية المعروف.(/23)
كيف تفرغ أمة لا تزال متخلفة في كثير من شؤون حياتها، وماذا عملت حتى تفرغ، بل لو عملت ما فرغت، ولكن:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
(ط) ضمان الأمن العقلي، فهو أجدر بالأمن من أمن الأجسام والأموال والأراضي.
يقول الأستاذ زين العابدين الركابي (1) وهو يناقش هذه القضية:
إن احتلال الأراضي مكلف وغير ناجح، وأسهل منه استعمار القلوب، وهو الأبقى والأمكن والأقوى.
إن الساعات البرامجية التي تصدرها أمريكا سنويا (150) ألف ساعة برامجية، وهذه بحساب التأثير أفضل من عشرات القواعد الأمريكية العسكرية التي تكلف المال والرجال.
إن التربية أحسن وسيلة سواء وجد صاحبه عند مصادر البث أو هجم عليه البث فلا يتأثر (2).
ويؤكد هذه الحقيقة د - سيد ساداتي ويبين أهمية امتلاك هذا القلب، ووجوب العناية به، لأنه مفتاح كل خير، وكل شر (3).
" ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " حديث صحيح
(ي) التوسع في استخدام الوسائل الإعلامية البديلة كالكتاب والمجلة والشريط الإسلامي، وتعاون الدعاة فيما بينهم في هذا الشأن وغيره.
ولقد أثبت الشريط الإسلامي نجاحه بشكل أقلق الأعداء وأقض مضاجعهم، وأوحوا إلى أذنابهم بإلصاق التهم في هذا الشريط وأصحابه، و لكن:
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8).
(ك) الاستمرار في عقد الندوات والمحاضرات وإجراء البحوث والدراسات حول هذا الموضوع، وذلك لبيان خطورته وآثاره وسبل العلاج والوقاية منه، وعدم اليأس أو الملل: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55).
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:21، 22). (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (الأعلى:9- 11). (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:78- 81).
(ل) أن يقوم كل واحد منا بدوره، وأن يخطو خطوة عملية لوقاية بيته وأهله من سبل الفساد، وأن يخرج ما لديه من وسائل الشر والتدمير، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6). " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " الحديث. حديث صحيح
(م) وأخيرا.. فإن اهتمامنا بالمتلقي، في ضوء ما ذكرت من منطلقات تربوية، وعدم الاقتصار على وسيلة التلقي، يعطينا أمانا وثقة بضعف تأثير هذا الغزو على أجيالنا، وصمودا أمام محاولات الشرق والغرب لهدم كياننا، فإن الرجل إذا أصبح ماهرا في السباحة لم يغرق في البحر، وصارع الأمواج العاتية، ووصل إلى شاطئ السلامة بأمان.
والطبيب يأخذ مصل المناعة ويذهب إلى البلاد الموبوءة، فيعالج المرضى ولا يصيبه الأذى بإذن الله، بل إن بعض الأمراض الوبائية تمر على بعض البلاد فتهلك أهلها، وتمر على بلاد أخرى فلا تصيب إلا الرجل أو الرجلين، لمناعة أهلها وصحة أجسامهم، وعنايتهم بذواتهم منذ صغرهم.
ولو تعاملنا مع البث المباشر كما نتعامل مع هذه الأمراض الوبائية كالكوليرا والجدري ونحوهما، وذلك بأخذ جرعات التطعيم منذ الصغر، وإعلان حالة الطوارئ إذا علمنا أنه قدم إلى بلد مجاور، فيلزم الناس بأخذ مصل الوقاية وتشدد القيود على القادمين والمغادرين، بل نذهب لنجدة من حولنا، وقاية لأنفسنا وحماية لبلادنا، ووالله إن هذا الوباء أشد فتكا وأمضى سلاحا.
تاسعاً: الخاتمة
وبعد:
فبعد هذه الرحلة المضنية بين ثنايا هذه الرسالة، والتي استمرت قرابة سنتين ونصف السنة، بذلت فيها ما استطعت من أجل جلاء هذا الموضوع والوصول إلى ما يساعد على تجاوز هذه الغمة، أقول لإخوتي من طلاب العلم والدعاة:
__________
(1) - أستاذ جامعي بقسم الإعلام بجامعة الإمام بالرياض، ومدير تحرير مجلة المجتمع سابقا.
(2) - ندوة البث المباشر- الحرس الوطني- مهرجان الجنادرية عام (1409 هـ).
(3) - ندوة البث المباشر بجامع الملك خالد عام 1410 هـ.(/24)
إن هذا الشر القادم بلاء وامتحان للأمة، واختبار لكل فرد منا، فالناس تجاهه ثلاثة أقسام:
ا- قسم رحبوا به وفرحوا بحلوله، وعلقوا عليه الآمال الكاذبة وما أشبههم إلا بمن سبقهم: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الأحقاف:24)
(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (الأحقاف:25).
وأذكر هؤلاء بقوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: من الآية59).
2- وقسم سلبيون، كأن الأمر لا يعنيهم، ويقولون ننجوا بأنفسنا، فأذكرهم بقوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: من الآية25)، وبحديث زينب " أنهلك وفينا الصالحون فقال - صلى الله عليه وسلم - نعم إذا كثر الخبث "، وأذكرهم بحديث السفينة المشهور (1).
3- أما القسم الثالث فهو لكم يا دعاة الإسلام ويا حماة البيضة والدار، فاصبروا وصابروا وجاهدوا وتحملوا وتذكروا قوله -تعالى-: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1، 2).
وقوله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) (البقرة: من الآية214).
وقوله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا )(التوبة: من الآية16).
وغيرها من الآيات، وهنا فأبشروا بالنتيجة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117).
وقوله -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(آل عمران: من الآية120).
وأبشروا بالعاقبة الحسنة:
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: من الآية32).
وأخيرا:
ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد.
اللهم فاشهد.
اللهم فاشهد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.
__________
(1) - انظر رسالة "حتى لا تغرق السفينة للشيخ سلمان العودة" وهي رسالة قيمة جدا.(/25)
البث المباشر ـ آثار وأخطار
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،أما بعد،،،
لقد رأيت تباين الناس في البث المباشر، فمنهم من فرح بقدومه وأعد له الفراش والغطاء، وآخرون سلبيون كأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو من بعيد. والفرقة الناجية والفئة الصالحة هم الذين اقض هذا 'الغول' ، والشر الداهم مضاجعهم، فراحوا يبحثون عن سبل العلاج وطرق الوقاية، وأيديهم على قلبوهم خوفًا على أمتهم، وحماية لأنفسهم وأعراضهم. لهؤلاء كتبنا لهم هذه الكلمات، حبًا وإشفاقًا وبيانًا وإخبارًا. ولأولئك وجهن إعذارًا وإنذارًا، وعلّهم يتقون. ولليائسين نقول: [مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً] كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وابن ماجة .
أخي الكريم: نحن الآن بأمس الحاجة إلى العودة إلى الله تعالى لا إلى التمادي في العصيان لما نرى من المصائب التي تحل قريبًا منا-وما هي من الظالمين ببعيد- وما تلك المصيبة التي روعتنا وزلزلت قلوبنا عنا ببعيد!!
أخي الحبيب: هل عرفت الآثار المؤلمة، والعواقب الوخيمة التي تترتب على اقتناء هذا الجهاز؟ إن كنت لا تعرف فتلك مصيبة، وإن كنت تعرف فالمصيبة أعظم، وعلى كلٍ فقد كتبت لك هذه الآثار المفجعة؛ إشفاقًا عليك، ورحمة بك من نفسك، فالنفس داعية إلى العصيان.
آثار البث المباشر
الحقيقة أن آثار البث المباشر فوق الحد، ولكن سنذكر أبرز الآثار بناء على الحقائق والأرقام، فنحن لا نرجم بالغيب، ولا ننطلق من عاطفة خالية من الحقائق فإليك هذه الآثار:
أولاً: الأثر العقدي: من أخطر ما يجلبه البث المباشر زعزعة عقيدة الإسلام في نفوس كثير من الناس، فاليهود والنصارى قد جعلوا من أهدافهم إخراج المسلمين من دينهم، وزعزعة العقيدة في نفوسهم، وقد تحقق شيء من ذلك عبر وسائل كثيرة من أبرزها التلفاز، ولننظر في هذا التقرير الذي صدر عن اليونسكو - والحق ما شهدت به الأعداء-:'إن ادخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرسها الزمن'.
ويمكن تلخيص الآثار العقدية بما يلي:
1ـ زعزعة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها حتى يكون المسلم في حيرة واضطراب.
2ـ إضعاف عقيدة الولاء والبراء والحب والبغض في الله: إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات؛ سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري فمع كثرة الامساس يقل الإحساس، والله يقول: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...[22] } [سورة المجادلة].
ومن أمثلة ذلك: تعلق الناس ببعض مشاهير الكفار كلاعبي الكرة، وبعض المغنيين، وعارضات الأزياء والممثلين ... وكل ذلك على حساب عقيدة المسلم وتعلقه بدينه.
3ـ تقليد النصارى في عقيدتهم: وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدم في عقيدة المسلم، كالانحناء عند التحية للجمهور في المسرح، وتقليدهم في اللباس، وطريقة الأكل، وحتى قص الشعر، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة: [ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أبوداود وأحمد.
4ـ ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية عبر البث المباشر: وأقرأ هذه الأخبار لتعرف الحقيقة:
• يستعد الفاتيكان لبناء محطة تلفزيونية كبيرة للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار صناعية تسمى بمشروع نومين [2000] مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الأرضية.[ الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي ـ حمود البدر ص19.].
• عقد في هولندا اجتماع عالمي للتنصير حضره [8194] منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف [21] مليون دولار، برئاسة المنصر [جراهام بيلي]، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامر تيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير.[ مجلة رابطة العالم الإسلامي [290].] .
هذه بعض آثار وأخطار البث المباشر على عقيدة المسلمين وقد لا تبدوا تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر، وأذكرك أخي بقول الله عز وجل: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[120] } [سورة البقرة].(/1)
ثانيًا: الأثر الثقافي والعلمي: ذكر د/ حمود البدر أن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون [150,000] ساعة بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من [10,800] ساعة على أقصى تقدير.[ الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص13]. هذا مع أن هؤلاء التلاميذ لا يشاهدون إلا قناة، أو قناتين، فكيف إذا أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات دون حسيب أو رقيب؟! لهذا فإن البث المباشر يشكل خطورة على ثقافة الأجيال القادمة متمثلاً بما يلي:
1ـ إضعاف مستوى التعليم لدى أفراد الأمة، وقد أجريت دراسة عن أثر التليفزيون على تحصيل الطالب فأفاد 64% ممن شملتهم الدارسة أنه يشغل عن التحصيل والاستذكار.
2ـ تلقين مفاهيم جديدة.
3ـ شيوع الخمول والكسل وعدم الجدية، وبخاصة أن أشد البرامج إغراء ليلتي السبت والأحد وهما من أيام الدراسة في البلاد العربية، أضف إلى ذلك السهر الذي سيؤثر على بعض الطلاب، لأن وقت عرض البرامج المغرية في أول الليل هناك، يكون الوقت عندنا متأخرًا.
وأختم هذا الجانب بهذه الحقائق:
شكت وزيرة الثقافة اليونانية [ملينا ميركوري] من أن بلدها قد دهمته الثقافة الأمريكية[أقمار الفضاء غزو جديد، ص52]. وشكى رئيس وزراء كندا [بيار ترونو] من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي[السابق].
إذا كانت هذه حال القوم وشكواهم مع أن الدين واحد فكيف بنا نحن المسلمين؟! وماذا ستكون حالنا من الثقافة الوافدة؟
ثالثًا: الأثر الأمني: إذا كان للأفلام تأثيرها السلبي على الأمن في بلد من البلدان، فكيف تكون الحال مع أفلام الغرب المنحل والشرق الملحد، عبر البث التليفزيوني المباشر، وإذا كانت الدول تعتبر أن سقوط الإذاعة يعني سقوط الدولة، ولذلك أول ما يحرص عليه الذين يقومون بالانقلابات السيطرة على الإذاعة والتلفزيون، ويظهر الأثر الأمني في عدة صور منها:
1ـ الاضطرابات: فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي: إن إدخال وسائل إعلام جديدة- وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية- أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبًا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة.
2ـ الجريمة: قال الطبيب النفسي 'استيفن بانا' الأستاذ بجامعة كولومبيا:' إذا كان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف'. وذكر د/ حمود البدر أنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على [500] فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها، وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود [169] مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في [13] فيلمًا فقط [73] مشهدًا للجريمة[الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي، ص14]. ألا تكفي هذه الحقائق لبيان الخطورة الأمنية لهذا الجهاز المدمر؟!
رابعًا: الأثر الأخلاقي: من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل كبير في أخلاق الرجال وأعراض النساء، ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
1ـ شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها حتى تصبح أمرًا عاديًا.
2ـ تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها؛ وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح مع التركيز على اختيار أجمل النساء وعرض مفاتنهن.
3ـ تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة وسبيل إليها، كالخلوة والاختلاط، والمغازلة.
4ـ الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5ـ بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج مع ما يحدث هناك من أضرار.
6ـ بعض الأفلام تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، ومن الأدلة على ذلك فيلم 'الباطنية' المشهور وحتى تتضح لك الصورة جلية وواضحة:
يقول د/ بلومر: 'إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفزيون.(/2)
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات تتوزع كما يلي: من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية من 5% إلى 10% برامج ثقافية ووثائقية، 5% تخصص للمعلومات، من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب ورياضة. ومن أجل توضيح خطر برامج التسلية والترفيه لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان:'برامج الترفيه والتسلية ومعظمها ـ إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرًا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها، وعصرية إعدادها، وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة- ويواصل قائلاً-: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية على ذلك وما فيها من الهدم وتدمير السلوك'[جريدة الرياض عدد8450].
ومما تجدر الإشارة إليه مما يشكل خطرًا على الأخلاق وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية مع العلم أن هناك قنوات غربية متخصصة في الدعاية التجارية فقط، ولندع الأرقام تتحدث: قام د. سمير حسين بإعداد دراسة حول:'برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون' توصل فيها إلى ما يلي: 98,6% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة. ونحن نعلم أي مشروبات سيعلن عنها في البث المباشر
96% قالوا: إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظن نص الدعاية ويقلدون المعلق [التلفزيون لمروان كجك، ص157]. ويقول د/ محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية؛ لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها.
خامسًا: الأثر الاجتماعي: إن للأفلام والمسرحيات تأثيرها الفعال في تغير كثير من السلوكيات الحميدة، ولا شك أن الانفتاح على القنوات العالمية سيزيد من هذا التأثير السلبي، ويتمثل الأثر الاجتماعي الذي يتوقع أن يحدثه البث المباشر بعدة صور من أهمها:
1ـ التأخر في الزواج، وتفشي الطلاق، ومحاربة تعدد الزوجات، ولقاءات الفتى والفتاة بعد الخطبة وقبل العقد برضي الأهل.
2ـ انصراف المرأة للأزياء العالمية، وآخر صيحات الموضة، وتقليد المرأة الغربية في كثير من أسلوب حياتها، كالخروج من المنزل ومحادثة الرجال.
3ـ سيطرة المرأة على الرجال، وضعف القوامة بدعوى الحرية وتساوي الحقوق.
4ـ دخول كثير من العادات الغربية إلى بيوت المسلمين والإعجاب بالنمط الغربي للحياة.
5ـ ضعف القيام بحقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وتفكك الأسرة، وإهمال حقوق الجيران.
6ـ إبراز أبطال لا حقيقة لهم على حساب أبطال الإسلام وسعى الفرد لتقليد هؤلاء، ومثال ذلك: إبراز اللاعبين، والممثلين، والفنانين، على أنهم أبطال، حتى أصبحوا هم المثل الأعلى لكثير من الشباب والفتيات.
وهناك أضرار اقتصادية، وسياسية، وصحية، وأمر لا يجوز أن نغفل عنه لعاقبته المخيفة وهو: ارتكاب ما حرم الله، مما يكون سببًا لغضب الله ونقمته علينا ويتمثل ذلك في الآثام التالية:
1- النظر إلى ما حرم الله وبخاصة صور النساء الفاتنات المفتونات.
2- سماع الغناء والموسيقى ونحوهما.
3- تربية الأهل والأولاد على ما حرم الله.
4- عدم إنكار المنكر مع القدرة على ذلك.
5- إنفاق المال في المعاصي، وذلك كفر للنعمة وسبب لحلول النقمة.
6- إهدار الوقت في غير طاعة الله بل في معاصيه.
والحقيقة أن آثاره المفجعة يصعب حصرها، ولكن قد يقول قائل: لقد فصلت في الآثار السلبية، وبيان خطورة البث المباشر، أليس له منافع؟ ولماذا لم تذكرها؟
فأقول: منافع البث المباشر لا تعد شيئًا في مقابل السلبيات والأخطار، ومن المعروف أنه ليس هناك شر محض، ولكن بعد التأمل في تلك المنافع، التي ضُخِّمت أكثر من حقيقتها؛ وجدتها ينطبق عليها قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا...[219] } [البقرة]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة:90].
ومن قواعد الشريعة أن:'درء المفاسد مقدم على جلب المصالح' وكذلك من القواعد:'سد الذرائع' وقد نهى الله عن سبِّ الأصنام إذا كان سبُّها سيؤدي إلى سبِّ الله جل وعلا: { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ...[108] } [الأنعام].وامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية حدوث فتنة؛ لأن قريشًا حديثة عهد بالإسلام.(/3)
ومنهج المؤمن الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم هو ما جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ] رواه البخاري ومسلم.
فاتق الله يا عبد الله، وتذكر قول الشاعر:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فهلا تذكرت أخي يومًا قال الله فيه: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ[88]إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89] } [الشعراء].
وتذكر يوم العرض على الجبار ليس بينك وبينه ترجمان، وبدأ يقررك بذنوبك، فهل أعددت للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا؟! وتذكر يومًا تتطاير فيه الصحف مِنَّا مَنْ يأخذها بيمينه، و مِنَّا مَنْ يأخذها بشماله، فممن تحب أن تكون؟
ولا تنس أخي أننا سوف نسأل عن أربع:عن أعمارنا فيما أفنيناها! وعن شبابنا فيما أبليناه ! وعن علمنا ماذا عملنا به ! وعن أموالنا من أين اكتسبناها وفيما أنفقناها !
أخي .. إني أناشد عقلك وقلبك: إن أمتنا المنكوبة يكفيها ما أصابها من جراح وآلام، فهل من مداواتها وإنقاذها من الهلاك والدمار أن نحضر إلى بيوتنا هذا الجهاز المدمر؟! هل ستعود هذه الأمة يا أخي على مجدها وكرامتها بإحضارنا هذا الجهاز الذي عرفت آثاره وأخطاره.
إنك تعلم في قرارة نفسك أنه لن يصلح حال أمتنا إلا بما صلح به أولها، فهل صلح أولها بتخليهم عن دينهم، وانغماسهم في شهوتهم وملذاتهم؟! أم جعلوا نهارهم صيامًا، وتدربًا على الرماية، وسعيًا في الرزق، وجعلوا ليلهم دعاءً وتهجدًا واستغفارًا.
فيا أخي: إن باب التوبة مفتوح، ورحمة الله واسعة، فهل تسير في ركاب التائبين إلى ربهم؟! وهل سوف تجد هذه الكلمات مكانًا في قلبك!! أسأل الله تعالى ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من رسالة:'البث المباشر:آثار وأخطار' للشيخ/ محمد بن عبدالله بن صالح الهبدان(/4)
البحتري وصف البركة)
البحتري: هو أبو عُبادة، الوليد بن عُبيد، عربي طائي، نشأ في منبج ثم قصد بغداد، ومدح من اتصل بهم من الخلفاء والقواد والأمراء، ونال جوائزهم، ثم اختص بالخليفة المتوكل، ولازمه حتى قتل، وتكدّرت عيشة البحتري بعده حتى مات سنة 284هـ.
يمتاز شعره بالعذوبة والفصاحة والجزالة، ومعانيه من وحي الخيال والشعور، لا من العلم والمنطق، وهو يجيد سبك الألفاظ أكثر من المعنى، كما أنه وصّاف ماهر لألوان الحضارة المادية، ومصوّر بارع للعواطف الإنسانية.
والأبيات التالية من قصيدة له، يصف فيها بركة المتوكّل:
والآنساتِ إذا لاحت مغانيها
في الحٍُسْن طَوراً، وأطواراً iiتُباهيها
كالخيل، خارجةً من حبل iiمُجريها
من السبائك، تجري في iiمجاريها
مثلَ الجواشِنِ، مصقولاً حواشيها
ورِّيقُ الغيث أحياناً يباكيها
ليلاً حسبتَ سماءً رُكّبتْ iiفيها
لبُعد ما بين قاصيها iiودانيها
كالطير تنقضُّ في جوٍّ iiخوافيها
ريشَ الطواويس تحكيه iiويَحكيها ... 1 - يا من رأى البركة الحسناء رؤيتُها
2 - ما بالُ دجلةَ كالغَيرى، iiتُنافِسُها
3 - تنصبّ فيها وفودُ الماءِ iiمُعجلةً
4 - كأنما الفضّة البيضاء iiسائلةً
5 - إذا علَتها الصّبا أبدتْ لها iiحُبُكاً
6 - فحاجبُ الشمسِ أحياناً iiيُضاحكها
7 - إذا النجومُ تراءت في iiجوانبها
8 - لا يَبلُغ السَّمَكُ المحصورُ iiغايتها
9 - يَعُمْنَ فيها بأوساطٍ iiمجنَّحةٍ
10 - محفوفةٌ برياضٍ، لا تزال iiترى
الهوامش:
(1)المغاني: ج المغنى، وهو المنزل.
(5) الصبا: ريح شرقية – الحُبك: يريد تجعد سطح الماء – الجواشن جمع جوشن وهو الدرع.
(6) ريّق الغيث: أوله وأفضله.
(7) تراءت: ظهرت منعكسة.
(9) أي كالطير حينما تكسر أجنحتها للانقضاض. والخوافي: ريشات إذا ضمّ الطائر جناحيه خفيت(/1)
البدعة في عصرالعولمة
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
البدعة في عصر العولَمَة
يشي هذا العنوان - كما فهمت - بأن الحديث عن البدعة في عصر العولمة من نافلة القول أو من ساقطه، ورُبَّما كان ورود مثل هذه الفكرة الساخرة في هذه القضية وأمثالها سبباً تسويفياً في إسقاطات فكرية واجتماعية وثقافية تُمارس بلا وعي، وتدخل صاحبها والمتأثر به في فوضى وضبابية لايدري بعدها أين يتجه.
العولمة تعني عند المعجبين بها والخائفين منها من غير الواعين لها ولجذورها تعني حالة جبرية لايُمكن الانفكاك منها، وبذلك تصبح -عندهم- مفهوماً شمولياً ضارب الأطناب واسع الأرجاء، يُمكنه بكل بساطة أن يستوعب أو يضم كل مخالف له من مبدأ أو فكرة أو كيان.
وهذا تصنيم للعولمة ودينونة خضوعية لمتطلباتها وأدواتها والقوى القائمة خلفها، دينونة قائمة على الخوف منها أو الإعجاب بها والحب لها.
ومن هنا يقع الارتباك عند البعض ويبين ما يؤمن به ديناً، وما استقر في ذهنه عن العولمة فكراً وممارسة، ينتج من هذه الحالة الحالة غياب الضوابط والمعايير الشرعية، ولذلك أسباب أظهرها:
1 - المعرفة السطحية بالدين والمعرفة المفصلة بفكر وثقافة الآخر.
2 - النفسية المشحونة بالخوف والاضطراب وضعف الثقة.
3 - السلوكيات الشخصية أو الكتابية الخاطئة من بعض المتمسكين بالدين والسلوكيات المائلة نحو الانفلات من المتأثرين بالتيارات والأفكار المستعارة.
فهذه ثلاثة أسباب أحدها ذهني عقلي والثاني نفسي شعوري والثالث عملي أدت -مع غيرها- إلى هذه الحالة المركبة التي يعيشها بعض أبناء الجيل، فهو يريد المواءمة في حالة إيمانه بالدين واحترامه له بين هذا الذي يؤمن به إجمالاً ويحترمه، وبين المعطيات الحديثة .
ومِمَّا يزيد حالة الارتباك هذه الخلط الهائل والخطير بين ((مقتضيات العصر وأهواء العصر)) فمن لايعرف الفرق بين الأمرين يقع في حالات مضطربة ورؤى مشوشة وخيبات أمل كبيرة.
ومِمَّا نحن بصدده هنا قضية ((البدعة)) حيث يوجد لبس كبير عند بعض المثقفين من التيارين ((الملتزم بالإسلام، والملتزم بغيره)) وخلط عجيب بين البدعة والإبداع والتقنية والإبداع.
فهناك من يرى أن أي مسلك أو مهارة أو فكرة لايوجد عليها نص في القرآن والسنة فهي بدعة وضلالة، وبالتالي يجب أن تنفى وتطرح، وهناك من يرى أن أي مفهوم أو مذهب أو سلوك جديد ثبتت فائدته فإنه يجب أن يؤخذ ويعتنق.
وقد يستدل بعضهم في غمار تسويق الأفكار الحديثة المنافية للدين أو المخالفة له، بأننا قد استوردنا الحاسب والتلفاز والسيارة والطيارة، وأخذنا بها في المانع أن نأخذ منهم الأفكار والمفاهيم، وهنا أعود إلى التذكير بقضية الخلط بين ((لوازم العصر وأمراض العصر)).
ولقد ولدت هذه الأفكار حالات من الانفصام الشديد في المجتمعات الإسلامية أدت إلى تغيير حالة الأمة الوجدانية، ومن بين الشعارات والتعابير المتطرفة برزت ذهنية الإقصاء المتمثلة في منع المحجبات من الدراسة والعمل والملتحين من دخول الجيش وصاحب الميول الديني من الممارسات العامة ((والأمثلة كثيرة ومعروفة))، ومن المعروف اجتماعياً أن المجتمع الذي تغيب عن ذهنه الضالة المنشودة للمعنى والمقصد الذي تكون منه وتركب على أساسه هو مجتمع ميت من حيث الجوهر.
ومن خلال الخمسين سنة الماضية تمكنت تلك التيارات من تكسير بعض مفاهيم الصلب الاجتماعي وتهشيم فقاره، ولولا بقية باقية من أهل المنهج السليم لكانت الكارثة أكبر.
ومن هذه المفاهيم مفهوم ((البدعة)) التي رُبَّمَا أصبح الحديث عنها في غمار وطيس تحقيق الهوية والانتماء الأساسي من نافلة القول.
فهناك من يستبعد قضية الهوية من الأصل، ويعتبر التعلق بها سبباً للتخلف، وهناك من يعادي هوية الأمة وروحها، وهناك وهناك ممن تطرفوا في المناوأة والاغتراب.
وهناك من استقرت عنده مسألة هوية الأمة وروحها ولكن يأتيه الغبيش من مسارب الشفيرات العديدة في التفكير والمعرفة الحديثة ومن سلطان المفاهيم العلمية والتقنية وضعف معرفته بالبوصلة الأصلية.
ومِمَّا ينبغي معرفته أن قضية البدعة مرتبطة في الأصل بمفهوم الدين ومفهوم العبودية لله رب العالمين، فالدين يعني الدينونة الكاملة لما جاء من عند الله تعالى من وحي ثابت، والعبودية تعني خضوع العبد لأمر الله سبحانه في كل شأن من شؤونه ، وعلى هذا فإن أية زيادة في الدين أو نقصان منه أريد بها التعبد لله تعالى فهي بدعة مردودة على صاحبها.
وبهذا المفهوم الراسخ ينضبط نظام التدين عند الناس ، ولايبقى شيء من ذلك خارج السلطة الدينية الشاملة الكاملة ، والبدعة بهذا المفهوم تعني كل ما فعل أو ترك بقصد القربة إلى الله تعالى مِمَّا ليس له أصل في الدين سواء كان من قبيل العبادات أو المعاملات أو العقائد أو العادات.(/1)
أمَّا العبادات المحضة والعقائد الدينية فدخول الابتداع فيها واضح جليّ كمثل من يزيد ركعة خامسة في صلاة رباعية أو يعتقد أن الله تعالى ليست له صفات أو يعتقد أن الملائكة ليسوا بعقلاء.
أمَّا المعاملات والعادات فالأصل فيها الإباحة وعدم المنع إلاَّ ما دلّ الدليل الشرعي على منعه، وتختلف عن العبادات من جهة أن العبادات لها وجه واحد هو التقرب لله والخضوع له، أمَّا المعاملات والعادات فلها أوجه عديدة منها تحقيق المصالح الدنيوية وتحصيل المآرب الذاتية، ولكنها لاتخلو من تعبد، ففيها التزام بأوامر الشرع العامة، وفيها مقصد عبادي يتمثل في قول بعض العلماء: ((النيات الخالصات تحول العادات إلى عبادات)) ، وفي الحديث النبوي: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) لكن لو جاء شخص مّا - مثلاً - ولبس لوناً أخضر وقال بأن الصلاة في اللون الأخضر تقرب إلى الله نقول له حينئذٍ قد ابتدعت، ومثلاً ((حلق الرأس)) مسألة عادية لو فعلها تخففاً من مؤنة الشعر، وعبادة إذا فعلها بعد الحج أو العمرة، ومستحبة إذا كان للتطبب والبحث عن العلاج، وبدعة إذا حلق رأسه عند شيخه إعلاناً للتوبة كما تفعل بعض الطرق الصوفية.
بيد أن المعاملات والعادات تبقى على أصلها من حيث الإباحة حتى يرد عليها ما يستحق حكماً بالمنع الشرعي لبدعيته أو لمخالفته.
وعلى هذه القاعدة فإن الأمور الدنيوية والأحوال المعيشية والمنتجات التقنية والمهارات الإدارية تبقى على وصف الإباحة بل بعضها يأخذ صفة الوجوب الشرعي، بحسب الحاجة والضرورة، ولاتدخل في باب البدعة إلاَّ في حالات قليلة ونادرة.
والإسلام دعا إلى إعمال العقل وبذل الجهد لعمارة الحياة الدنيا في شتى نواحيها وتحصيل السعادة الدنيوية الحقيقية، والترقي في درجات النمو الحياتي ، كما دعا إلى الثبات على أمور الدين كما جاءت في الوحي المعصوم.
والذي حصل في حياة المسلمين -للأسف- أنهم ابتدعوا في أمور الدين، والبدعة في الدين ضلالة، وجمدوا في أمور الدنيا والجمود في أمور الدنيا جهالة.
والمخرَج من هذه الدوّامة هو بالاعتصام الصادق بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، والاجتهاد في الأخذ بأسباب التقدم الحقيقي التي هي من مقتضيات الرقي والمدنية، والفرز الصحيح بين هذه المقتنيات اللازمة والأدواء الفكرية والسلوكية والشعورية المصاحبة لها.(/2)
البدعة ...
موقع المنبر ...
...
أولًا: تعريف البدعة:
البدعة في اللغة: قال ابن فارس: «الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال».[مقاييس اللغة: بدع]
والبدعة: الشيء المخترع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: ?قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مّنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف:9]. [لسان العرب: بدع]
البدعة في الشرع: قال الشافعيُّ: «والبدعة ما خالف كتابًا أو سُنة أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-» [إعلام الموقعين: 1/80].
قال العزُّ بن عبد السلام: «فعلُ ما لم يُعهد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» [قواعد الأحكام: 2/172].
قال ابن الجوزي: «البدعة عبارة عن فعلٍ لم يكن؛ فابتدع». [تلبيس إبليس: ص 16]
قال ابن رجب: «والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة». [جامع العلوم والحكم: 2/127].
قال الشاطبيُّ: «طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى». [الاعتصام: 1/51].
- طريقة في الدين، الطريقة: ما أُعِدَّ للسير عليه، وقُيِّدت بالدين لأنَّ صاحبها يضيفها إليه.
- مخترعة: أي جاءت على غير مثالٍ سابق، لا تعرف في الدين.
- تضاهي الشرعية: تشبهها وليست منها.
- يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد: لأنه المقصود منها.
ثانيًا: قواعد عامة لمعرفة البدعة:
1. كل عبادة ليس لها مستندٌ إلاَّ حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة مثل صلاة الرغائب.
2. إذا ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا، والمانع منتفيًا؛ فإن فعلها بدعة. مثل التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة، والأذان لغير الصلوات الخمس، والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة.
3. كل تقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات من وجه لم يعتبره الشارع فهو بدعة، مثل اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقة إلى الله، والتقرب إلى الله بالصمت الدائم، أو بالامتناع عن الخبز واللحم وشرب الماء البارد، أو بالقيام في الشمس وترك الاستظلال.
4. كل تقرب إلى الله بفعل ما نَهى عنه سبحانه فهو بدعة، مثل التقرب إلى الله –تعالى- بالغناء.
5. كل عبادة يُتعبد اللهُ بِها يجب أن تتحقق فيها المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتحقق فيها ذلك إلاَّ بموافقتها للشريعة في ستة أوصاف، فتغيير صفةٍ من هذه الصفات بدعة، وهذه الصفات الست هي:
1- أن تكون العبادة موافقة للشريعة في سببها، فأيُّ عبادة ليس لها سببٌ ثابتٌ بالشرع مردودة، مثل الاحتفال بمولد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
2- أن تكون موافقة للشريعة في جنسها، فلو ضحى أحدٌ بفرس كان بذلك مخالفًا للشريعة.
3- أن تكون العبادة موافقة للشريعة في قدرها، فمَن زاد في الصلاة –الظهر مثلاً- ركعتين لم يكن موافقًا للشريعة بالعبادة في قدرها.
4- أن تكون العبادة موافقة للشريعة في كيفيتها، فمن ابتدأ في وضوئه بغسل الرجلين ثم مسح الرأس لم يكن موافقًا للشريعة في كيفيتها.
5- أن تكون العبادة موافقة للشريعة في زمانِها، فلا تصح صلاة الظهر قبل الزوال.
6- أن تكون العبادة موافقة للشريعة في مكانِها، فلا يصح في اليوم التاسع من ذي الحجة الوقوف بغير عرفة. [دروس وفتاوى الحرم المكي لابن عثيمين: 1/17-19].
ثالثًا: خطر البدعة، وما ينتج عنها من آثار:
1- إحداث في الدين. 2- البدعة بريد الكفر. 3- القول على الله بغير. 4- استدراكٌ على صاحب الشريعة. 5- تفريق الأمة. 6- هجر السنة. 7- الفتنة. 8- اتهام صاحب الرسالة. 9- مضاهاة الأنبياء في النبوة. 10- تحريف الدين وتبديله.
رابعًا: شبهات المبتدعة:
1- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بِها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بِها إلى يوم القيامة).[أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي مطولًا: 1017]
2- عن عمر -رضي الله عنه-، قال عن صلاة التراويح جماعة في المسجد: (نعمت البدعة هذه) [أخرجه البخاري في صحيحه: 2010].
3- قول ابن مسعود: «فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ». [المسند (1/379)، وحسَّن الشيخ شعيب إسناده في طبعته: 6/84]
4- تقسيم العزّ بن عبد السلام البدعة إلى واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح.
خامسًا: الردّ على الشبهات على الترتيب:(/1)
1- قال الشاطبيُّ ردًّا على المستدل بالحديث: «يلزم منه التعارض بين الأدلة، على أنَّ السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: (كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار -أو العباءة- متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بِهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذَّن وأقام فصلَّى، ثم خطب، فقال: ?يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ? إلى آخر الآية: ?إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً? [النساء:1]. والآية التي في الحشر: ?اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ? [الحشر: 18]. وبعد: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاءه رجل من الأنصار بِصُرَة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) فتأملوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سنّ سنة حسنة) تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرّة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسُرّ بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة) الحديث، فدل على أنَّ السنة هاهنا مثل ما فعل الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنّة». [الاعتصام: 1/142-145]
2- قال ابن رجب: «وأمَّا ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر -رضي الله عنه- لمَّا جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: نعمت البدعة هذه». [جامع العلوم والحكم: 1/129].
3- قال السندي: «ظاهر السَّوق يقتضي أنّ المراد بهم الصحابة، على أنّ التعريف للعهد، فالحديث مخصوص بإجماع الصحابة لا يعم إجماع غيرهم، فضلًا عن أن يعم رأي بعض، ثم الحديث مع ذلك موقوف غير مرفوع». [نقلًا عن تعليق الشيخ شعيب في طبعته للمسند: 6/85]، والسَّوق المراد منه: سياق الكلام.
4- قال الشاطبيُّ: «إنّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأنّ حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده؛ إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلًا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخيَّر فيها، فالجمع بين عدِّ تلك الأشياء بدعًا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين» [الاعتصام: 1/188-220].
سادسًا: أسباب الابتداع:
1- الجهل. 2- اتباع الهوى. 3- التعلق بالشبهات. 4- الاعتماد على العقل المجرد. 5- سكوت العلماء. 6- الاعتماد على أحاديث ضعيفة، أو موضوعة. 7- ردود الأفعال. 8- عدم التقيّد بفهم السلف الصالح. 9- التقليد الأعمى. 10- عدم اتباع العلماء الربانيين.
سابعًا: سبل القضاء على البدعة:
1- التعريف بخطر البدعة، والتحذير منها، وممّا ينتج عنها من آثار.
2- الدعوة إلى التمسك والاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهمهما كما فهمهما السلف.
3- الدعوة والعمل على تمييز صحيح السنة من ضعيفها.
4- تصفية المذاهب الفقهيّة من بدعة التعصب المذهبي.
5- نشر العلم وتصحيح المعتقدات والعبادات والمعاملات بين عامة الناس.
6- التحذير من أهل البدع والنهي عن مجالستهم، وعدم التمكين لهم.
7- الأخذ عن العلماء الربانيين، والأئمة المهديين.
ثامنًا: الآيات القرآنية :
1- ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعً? [آل عمران: 103].
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (حبل الله الجماعة) [أخرجه الطبري في تفسيره: 4/30].
قال القرطبيُّ: «فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع، ونَهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين» [جامع أحكام القرآن: 4/164].
2- ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ? [آل عمران:105].
قال القرطبيُّ: «يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين، وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة» [تفسير القرطبيّ: 4/166].
3- ?يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ? [آل عمران: 106].(/2)
قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: (تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة) [القرطبيُّ: 4/167، تفسير ابن كثير: 2/76].
قال القرطبيُّ: «فمن بدَّل أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردًا وإبعادًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضَلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيع والأهواء والبدع، كلٌّ يُخاف عليهم أن يكونوا عُنُوا بالآية والخبر كما بيَّنا» [تفسير القرطبيّ: 4/168].
4- ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً? [النساء:82].
أمر الله تعالى بالجماعة والائتلاف، ونَهى عن الفُرقة والاختلاف، والبدعة سبب من أسباب الاختلاف.
قال قتادة: «ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدىً لاجتمع، ولكنّه كان ضلالًا فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا» [أخرجه الطبريّ في تفسيره: 3/178].
5- ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرً? [النساء:115].
قال ابن كثير: «أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فصار في شقٍ والشرع في شق، وذلك عن عمدٍ منه بعدما ظهر له الحقّ، وتبيَّن له، واتضح له». [تفسير ابن كثير: 2/365].
6- ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي? [المائدة:3].
قال مالك: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?، فما لم يكن يومئذ دينًا؛ فلا يكون اليوم دينًا». [الاعتصام: 1/64].
قال ابن كثير: «هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى به لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، ولا كذب فيه ولا خلل». [تفسير ابن كثير: 3/23]
7- ?يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ? [المائدة:67].
قالت عائشة: (من حدثك أن محمدًا كتم شيئًا مما أنزل عليه فقد كذب). [البخاري: 4612].
وقالت: (لو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- كاتمًا من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: ?وَتُخْفِي فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ? [الأحزاب:37]). [البخاري: 7420].
8- ?مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ? [الأنعام: 38]، ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْءٍ? [النحل:89].
قال مجاهد: «تبيانًا للحلال والحرام» [تفسير القرطبيّ: 10/164].
قال القرطبيُّ: «أي ما تركنا شيئًا من أمر الدين إلاَّ وقد دللنا عليه في القرآن، إمَّا دلالة مبيَّنة مشروحة، وإمَّا مجملة يتلقى بيانَها من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب، قال الله تعالى: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْءٍ? [النحل:89]. وقال: ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ? [النحل:44]. وقال: ?وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو? [الحشر:7]. فأجمل في هذه الآية وآية النحل ما لم ينص عليه مما لم يذكره، فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيءٍ إلاَّ ذكره، إمَّا تفصيلًا وإمَّا تأصيلًا، وقال: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ? [المائدة:3].» [تفسير القرطبي: 6/420].
9- ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ? [الأنعام: 57].
10- ?وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [الأنعام:153].
قال مجاهد عن السبل: «البدع والشهوات». [الدارمي: 1/68، الدر المنثور: 3/386].
وقيل لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: (تركنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثمّ رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة).
11- ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعً? [الأنعام: 159].
قال البغويُّ: «هم أهل البدع والأهواء» [شرح السنّة: 1/210].(/3)
12- ?وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? [الأعراف:33].
قال ابن كثير: «وأغلظ من كلِّ ذلك، وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر، وكل مبتدع أيضًا» [تفسير ابن كثير: 1/293].
13- ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? [الإسراء:36]. عن ابن عباس: (قوله: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ?، يقول: لا تقل) [أخرجه الطبريُّ في تفسيره: 15/85].
14- ?قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً? [الكهف: 104].
روي أنّ ابن الكواء الخارجيّ سأل عن هذه الآية، فقال ابن عباس: (أنت وأصحابُك) [تفسير الطبريّ:16/34].
قال الطبريّ: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن يُقال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ عنى بقوله: ?قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالً? كلَّ عاملٍ عملًا يحسبه فيه مصيبا، وأنّه لله بفعله ذلك مطيعٌ مُرْضٍ، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائرٌ، كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيِّ دينٍ كانوا» [تفسير الطبريّ: 16/34].
15- ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ? [النور:51].
قال ابن كثير: «أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، فقال: ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ?».[التفسير 6/81].
16- ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النور:63].
قال ابن كثير: «وقوله: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ? أي عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سبيله هو، ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود وفاعله، كائنًا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)». [التفسير: 6/67].
قال ابن أبي العز: «كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولًا، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم ردّه وسمّى ردّه تفويضًا، أو حرّفه، وسمّى تحريفه تأويلًا، فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم». [شرح الطحاوية: ص: 399].
17- ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ? [القصص:50]. استفهام إنكاري بمعنى النفي، قال السيوطيُّ: "أي لا أضلَّ" [الجلالين: 515].
18- ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [الأحزاب: 36].
قال الطبريّ: «يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاءً أن يتخيروا مِن أمرهم من غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرَا أو نَهيَا ?فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينً? [الأحزاب:36]. يقول: فقد جار عن قصد السبيل سبيل الهدى والرشاد» [22/11].
19- ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ?[لقمان:21].
قال ابن تيمية: «وصار الشيطان بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه- يحدث للنّاس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ، والبكاء، والعطش، وإنشاء المراثي، وما يفضي إلى ذلك من سبِّ الصحابة، ولعنهم ... وكذلك بدعة السرور والفرح». [منهاج السنة: 4/554].
20- ?وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ? [الحديد:27]
عن أبي سعيد الخدريِّ أنّ رجلًا جاءه، فقال: أوصني. فقال: (سألت عما سألت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبلك، أوصيك بتقوى الله، فإنّه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنّه روحك في السماء وذكرك في الأرض) [المسند 11365].
تاسعًا: الأحاديث النبويَّة :(/4)
1- عن أنس بن مالك عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال : (إنَّ الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) [أخرجه الطبراني في الأوسط: 4360، والبيهقيُّ في الشعب: 2/308، وصححه الألبانيُّ في السلسلة الصحيحة: 1620].
قال سفيان الثوريُّ: «البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها» [شرح السنّة: 1/216].
2- قال -صلى الله عليه وسلم- : (إنِّي قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) [أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة: 1/93، وسكت عنه الذهبيُّ، وصححه الألبانِيُّ - عليه رحمة الله - بمجموع شواهده في السلسلة الصحيحة: 1761].
قال ابن تيمية: «وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين» [مجموع الفتاوى: 20/163].
3- قال -صلى الله عليه وسلم- : (ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [أخرجه البخاري: 5063، ومسلم: 1401، من حديث أنس بن مالك].
قال الشاطبي: «والرأيُ إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة» [الاعتصام: 2/335].
4- قال -صلى الله عليه وسلم- : (فإنَّه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) [أخرجه أحمد في المسند: 16694، وأبو داود في السنن: 4607، من حديث العرباض بن سارية، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود: 3851].
قال ابن تيمية: «ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين؛ فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب» [مجموع الفتاوى: 1/160].
قال ابن رجب: «فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين منه بريء».[جامع العلوم والحكم: 2/128]
5- قال -صلى الله عليه وسلم- : (لا تجتمع أمتي على ضلالة) [هذا جزء من حديث أخرجه ابن ماجه: 3950 ، والضياء في المختارة 7/129، من رواية أنس بن مالك، وتمامه: (...فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم)، وسنده ضعيف، ولكن موضع الشاهد منه صحيح، ورد من طرق عدة، ، فأخرج أبو داود نحوه عن أبي مالك الأشجعي: 4253، وورد عن ابن عمر نحوه أخرجه الترمذيُّ: 2167، والحاكم: 1/200، وصحح الألبانِيُّ موضع الشاهد من الحديث في صحيح الجامع:1848].
قال صاحب عون المعبود: «وفيه أنّ الإجماع حجّة، وهو من خصائصهم» [عون المعبود: 11/220].
6- عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) [أخرجه البخاريّ: 2697، ومسلم: 1718].
قال النوويُّ: «قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به». وقال: «وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات»، وقال: «وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به» [شرح مسلم: 12/16].
قال ابن رجب: «فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود». [جامع العلوم: 1/178].
وقال ابن حجر: «وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه». [الفتح: 5/302]
7- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أنا فرطكم على الحوض، وليختلجنَّ رجال دوني فأقول: يا ربِّ أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدّلوا. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقًا سحقًا لمن غيَّر وبدّل) [رواه البخاريّ: 6576، ومسلم: 2297، واللفظ للبخاريّ].
8- قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلاَّ كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم) [أخرجه مسلم: 1844، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم].
قيل لسلمان: قد علَّمكم نبيُّكم صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء؛ حتى الخراءة!!. قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) [أخرجه مسلم: 262] .
قال ابن تيمية: «بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتِهم أيضًا فوائد، وذلك لأنه(/5)
لا بدَّ أن تشتمل عباداتُهم على نوع ما، مشروع من جنسه، كما أنَّ أقوالهم لا بدَّ أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء، ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم أو نروي كلماتهم؛ لأن جميع المبتدعات لا بدَّ أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة. فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي، وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض؛ لاجتهاد أو غيره». [الاقتضاء: 2/609-610، 759].
9- قال -صلى الله عليه وسلم-: (وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاَّ هالك) [أخرجه ابن ماجه: 5، من حديث أبي الدرداء، وصححه الألبانِيُّ في السلسلة الصحيحة: 886].
قال أبو الدرداء: (صدق -والله- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تركنا -والله- على مثل البيضاء ليلها ونَهارها سواء) [سنن ابن ماجه: 1/19].
قال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمً) [أخرجه أحمد:20854]..
قال الشاطبي: «وبذلك يعلم من قصد الشارع أنه لم يكِل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدّه» [الاعتصام: 135]
10- قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تطرونِي كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنَّما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله) [أخرجه البخاريُّ: 3445، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].
11- (لا تجعلوا قبري عيدً) [أخرجه أحمد: 8586، وأبو داود: 2024].
قال شيخ الإسلام: «العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك» [الاقتضاء: 1/189].
قال صاحب عون المعبود: «والحديث دليل على منع السفر لزيارته لأن المقصود منها هو الصلاة والسلام عليه والدعاء له وهذا يمكن استحصاله من بُعْدٍ كما يمكن من قُرْبٍ وأن من سافر إليه وحضر مع ناس آخرين فقد اتخذه عيدًا وهو منهي عنه بنص الحديث، كما ثبت النهي عن جعله عيدًا بدلالة النص» [عون المعبود:6/24].
12- عن أنس بن مالك قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما. فقال: (ما هذان اليومان؟) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الله قد أبدلكم بِهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر) [أخرجه أبو داود: 1134، وصحح شيخ الإسلام إسناده في الاقتضاء: 1/433].
قال شيخ الإسلام: «فوجه الدلالة: أنّ العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: (إنّ الله قد أبدلكم بِهما يومين آخرين) والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه» [الاقتضاء: 1/433].
وقال: «وللنبي -صلى الله عليه وسلم- خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة، مثل حنين والخندق وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطبٌ له متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ولم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا، أو اليهود. وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه». [الاقتضاء: 2/614-615].
13- عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلو) [البخاريُّ: 100، ومسلم: 2673، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص].
قال ابن حجر: «وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم والتحذير من ترئيس الجهلة وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم» [الفتح: 1/195].
عاشرًا: أقوال السلف:
1- قال عمر - رضي الله عنه -: (نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها خير من التي يقومون له). وكان الناس يصلون في أول الليل.[شعب الإيمان: 3/177].
2- قال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) [الدرامي: 175].
3- وقال -رضي الله عنه-: (وكم من مريد للخير لا يدركه) [الدارمي:1/68-69].
4- وقال -رضي الله عنه-: (الاقتصاد في السنة أحسنُ من الاجتهاد في البدعة). [الحاكم في المستدرك: 11/103، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيُّ في تلخيصه].
5- قال حذيفة -رضي الله عنه-: (كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا، فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم).[الأمر بالاتباع للسيوطي:ص:62].(/6)
6- قال أبو مسعود -رضي الله عنه-: (إني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة)، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس. [عبد الرزاق: 4/383، والبيهقي في السنن الكبرى: 9/265].
قال الشاطبي: «وبالجملة: فكل عمل أصله ثابت شرعًا، إلاَّ أن في إظهار العمل به، والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة؛ فتركه مطلوب في الجملة من باب سدّ الذرائع». [الاعتصام: 2/31]
7- قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: (ما أتى على الناس عام إلاَّ أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع، وتموت السنن). [رواه الطبراني في المعجم الكبير: 10/262، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/188: ورجاله موثقون].
8- قال رجلٌ لابن عبّاس: أوصني. قال: (عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع) [شرح السنة: 214].
9- قال أبو العالية: «عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا» [تلبيس إبليس: ص8].
10- قال سعيد بن جبير: «ما لم يعرفه البدريُّون فليس من الدين» [جامع بيان العلم وفضله 1/771].
11- قال الحسن البصري: «لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك» [البدع والنهي عنها: ص50].
12- قال قتادة: «إذا الرجل ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر» [شرح أصول الاعتقاد: 256].
13- قال يحيى بن أبي كثير: «إذا لقيت صاحب بدعة في طريق، فخذ في غيره» [الشريعة: 64].
14- قال الأوزاعي: «اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم» [اللالكائي: 1/154].
15- قال مالك بن أنس: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها». [الاقتضاء 2/718].
16- قال الفضيل: «من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وأحبّ أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد» [الحلية: 8/103].
17- قال الفضيل: «أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة، وينهون عن البدع» [شرح أصول الاعتقاد 267].
18- قال الفضيل: «من زوَّج كريمته من مبتدعٍ، فقد قطع رحمها» [تلبيس إبليس: ص14].
19- قال الشافعي: «البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم». [حلية الأولياء: 9/113].
20- قال سهل بن عبد الله التستري: «علامة حبّ الله حبّ القرآن، وعلامة حبّ القرآن حبّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلامة حبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حبّ السنة، وعلامة حبّ السنة حبّ الآخرة، وعلامة حبّ الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلاَّ زادًا وبُلغةً إلى الآخرة». [الشفا: 2/571، 577].
حادي عشر: ملحقات البحث: (قصص - مراجع للتوسع):
قصص:
1- دخل أبو الدرداء على أم الدرداء غاضبًا، فقالت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ أنَّهم يصلون جميعًا. [البخاري: 650]
2- عطس رجلٌ عند ابن عمر -رضي الله عنهما-، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله. قال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال. [الترمذي: 2738].
3- طاف ابن عباس مع أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- فاستلم معاوية الأركان الأربعة، فقال ابن عباس: إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيت شيء متروك. فقال ابن عباس: ?لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ? [الأحزاب:21]. فرجع إليه معاوية. [شرح معانِي الآثار: 2/184، الاقتضاء:21/ 798-799].
4- وكان طاووس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما. فقال: إنَّما نَهى عنهما أن تُتخذ سلَّمًا يوصل إلى الغرور. فقال ابن عباس: فإنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قد نَهى عن صلاة بعد العصر، وما أدري أتُعذب عليها أم تؤجر؟ لأنّ الله –تعالى- يقول: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [الأحزاب:36]. [رواه الحاكم: 1/110، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي]
5- رأى سعيد بن المسيب رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه. فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة. [عبد الرزاق: 3/52].(/7)
6- وقال رجل لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة في هذه؟! إنما هي أميال أزيدها!! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! إني سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النور:63]. [الحلية: 6/326].
مراجع للتوسع في الموضوع:
1- الاعتصام للشاطبي
2- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية.
3- الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي.
4- إيثار الحق على الخلق لابن الوزير.
5- الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة.
6- البدع والنهي عنها لابن وضّاح.
7- تلبيس إبليس لابن الجوزي.
8- ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى لأبي الأصبع عيسى بن سهل الأندلسي. تحقيق : محمد عبد الوهاب خلاف.
9 - الحوادث والبدع للطرطوشي.
10- حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي.
11- تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح السحيمي.
12- قواعد معرفة البدع، لمحمد بن حسين الجيزانِي.
13- البدع الحوليّة، لعبد الله التويجري.(/8)
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب
خباب مروان الحمد*
حدَّثتني إحدى الصالحات أنَّ ثلاث فتيات في مدرستها اتفقن على أن يقمن الليل لمتابعة برنامج ستار أكاديمي، فهذا البرنامج خلب لبَّهنَّ ، وسحر فكرهنَّ ، ولأجل ذا فقد تواعدن على أن يقسِّمن الليل إلى ثلاثة أثلاث، كلُّ واحدة منهن تنظر في هذا البرنامج وتقوم بتسجيله ، ثمَّ تتصل بزميلتها بعد أن تنتهي نوبتها في ملازمة التسجيل لهذا البرنامج ، وتقوم الثانية بهذا الدور، وهكذا العمل مع الزميلة الثالثة إلى أن ينتهي البرنامج.
بهذا المنطق الغريب يتفاعل كثير من الشباب والفتيات المنتسبين للإسلام حين يريدون مشاهدة هذه البرامج الهابطة، والتي بثَّت أخيراً عبر الفضائيات، وجعلت لدى الشباب نوعاً من الهوس لإعجابهم بهذه البرامج المباشرة، وكأنَّها (مغناطيس) يجذبهم بقوَّة وقهر، وليس لهم إلاَّ تلبية رغبات النفس، وخطرات الروح.
أما آن للمصلحين أن يفيقوا من نومهم العميق، لإنقاذ شبابنا وفتياتنا من مأساة فكرية وشهوانية تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال ، وقد جعلتهم يتهافتون على الشَّاشات كالفراش وهم لا يشعرون!
ودعونا أيها الفضلاء نراجع أنفسنا ، ونقوِّم ذاتنا ، فجزى الله علماءنا خيراً حين أفتوا بتحريم هذه البرامج ، وبينوا بلا لبس أو غموض حكم مشاهدتها ، والنظر إليها ، فقد أثَّرت تلك الفتاوى في بعضهم وأقلعوا عن مشاهدتها ـ ولله الحمد والمنَّة ـ.
ولكن هل نكتفي بهذا، وما زال الكمُّ الهائل من شباب الأمَّة يشاهدون ويصفِّقون ، ويحلمون في منامهم ويقظتهم في ذكريات البرنامج الشبابي! ألا يوجد لدينا حلولٌ وافرة ، وأكفٌّ رفيقة ليِّنة تحتضن الشباب والفتيات في برامج إسلامية مشوقة ، ومشاريع تربوية وترفيهية ، وبدائل منضبطة بميزان الشريعة؟ أين أصحاب الحلول المنتجة ، أين أهل الثراء والمال والغنى ، أين أصحاب الأفكار الإبداعية ، والمشاريع الابتكارية؟ أين هم من الذي يحاك لشباب هذه الأمَّة ، ويخاط لهم وينسج في مواخير الفساد ، وأندية الظلام، والكواليس الخفية لتعليمهم دروساً في العربدة والشهوات؟
ترى لو أنَّ جيشاً عرمرماً أحاط ببلدة من بلاد الإسلام ، وأثخن فيها وأكثر من القتل والتعذيب لأبناء الإسلام، ثمَّ خرج علينا رجل يبيِّن خبث هذا العدو ومكره، محذراً المسلمين من استقباله أو احتضانه... ثمَّ وقف إلى هذا الحد، واكتفى بهذا القدر ؛ هل سيؤدِّي هذا إلى دحر العدو وإنقاذ النَّاس؟ أم أنَّ هناك لوازم ينبغي إضافتها على ذلك الحدث ؟!
وبعد: فإنَّ المراقب لهذه الأوضاع ، وتلك الأحداث ، ينبغي عليه أن يعرف أنَّ من أسباب وجوده في هذه الأرض دعوة الناس لدين ربِّ العالمين ، وتقريبه إلى قلوبهم ، فليست الدعوة بالمحاضرات و الخطب وحدها، وليست بالدروس أو الفتاوى فحسب ، بل لا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة والمتاحة ؛ فالدعوة إلى الله مجالها رحب ، وأساليبها المشروعة لا حدَّ لها ولا عد .
وحيث إنَّني شرعت في المقصود ؛ فإنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية ؛ الفهم الناضج لمقاصد الشريعة لدى طلبة العلم، والمشتغلين بالإصلاح الديني ، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج ملموسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته ، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء كانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية ، وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن.
والعالِمُ الحق هو من وصفه الإمام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنَّه : ( الذي يعرف الحق، ويرحم الخلق) وأنَّه : (كلَّما اتسعت معرفته بالشريعة وروحها ، كان أرحم بالعباد وأعظم الناس تيسيراً عليهم ورفقاً بهم).
وحين يتأمل المسلم الهدي الربَّاني في القرآن الكريم يجد أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما حرَّم على عباده شيئاً إلاَّ وأبدلهم عوضاً عنه ما هو خير منه ، حتَّى في مجال الألفاظ والعبارات فإنَّه تعالى قال: ( يا أيُّها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة(104) ، فقد نهاهم ـ تعالى ـ عن ذلك لأنَّ فيه شبهاً بيهود حين كانوا يقولون ذلك لنبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ويقصدون بذلك السخرية به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنهى الله صحابة رسوله أن يقولوا هذه الكلمة لنبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وأبدلهم بأن يقولوا له(انظرنا). كذلك من تدبّر سيرة المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنَّه كان إذا حرَّم شيئاً أتى بالبديل المشروع مقابل ذلك الأمر المُحَرَّم ؛ لأنَّه يعلم أنَّ النفوس ضعيفة ، ومجبولة على حبِّ العوض والبديل ، وخذ أمثلة على ذلك :(/1)
فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء بلال إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بتمر برني، فقال له: النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ : من أين هذا ؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لنُطعم النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقال ـ عليه السلام ـ: أوَّه أوَّه ! عين الربا ، عين الربا ، لاتفعل ! ولكن إذا أردت أن تشتري فَبِعْ التمر ببيع آخر ، ثمَّ اشتره) ( أخرجه البخاري : 2201، ومسلم :1593) .
أتأملت أيها المبارك كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين حرَّم فعل بلال ـ رضي الله عنه ـ نقله نقلة بديلة ومشروعة قبالة ذلك الأمر المحرم ، وهكذا العالم الرباني ، والبصير بالواقع الذي حوله ، ولهذا قال الإمام ابن القيِّم في ذلك : (من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه،وكانت حاجته تدعوه إليه ،أن يدلَّه على ما هو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح ، وهذا لا يتأتى إلاَّ من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عمَّا يضره ، ويصف له ما ينفعه ، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان ، وفي الصحيح عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنّهَ قال : (ما بعث الله من نبي إلأَّ كان حقَّاً عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ) وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم ، ورأيت شيخنا ـ قدَّس الله روحه ـ يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه ، ومن تأمَّل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها )
(إعلام الموقعين :4/121ـ 122) .
وسأنقل كلاماً للشيخ ابن تيمية في الموضوع ذاته الذي امتدح به ابن القيِّم شيخه ابن تيميَّة حيث قال ابن تيمية:(إذا أراد تعريف الطريق الَّتي يُنَالُ بها الحلال ، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له ؛ فهذا هو الذي كانوا يفتون به ـ أي السَّلف الصالح ـ وهو من الدعاء إلى الخير، والدَّلالة عليه ، كما قال ـ صلَّى الَّله عليه وسلَّم ـ (بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً) وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر الخطَّاب:( إنَّ أوراقنا تُزيَّفُ علينا ، أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها؟ قال: لا ، ولكن ائت النقيع فاشتر بها سلعة ، ثمَّ بعها بما شئت) بيان الدليل على بطلان التحليل / صـ133.
ومن الأمثلة على ذلك من هدي المصطفى ـ عليه الصَّلاة والسلام ـ أنَّه إذا منع شيئاً فتح لمن منعه باباً آخر من الأمر المشروع، والبديل المنضبط بمعيار الشَّريعة ، ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال: (قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية ، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما : يوم النحر، ويوم الفطر) أخرجه أحمد في المسند (3/103ـ178ـ235) وأبو داود (1134) والنَّسائي(3/179) بسندٍ صحيح.(واليومان اللذان يلعب فيهما أهل الجاهلية هما : يوم النيروز ويوم المهرجان . وللمزيد انظر/ عون المعبود(3/485) للعظيم آبادي.
أرأيت ـ أخي القارئ ـ إلى هديه ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ في ذلك، حيث إنَّه لا يرضى بوقوع المنكر، ولا أن يُؤْلف ، ولكنَّه ـ عليه الصلاة و السَّلام ـ يبيِّن خطر الشيء المحرَّم، ومن ثمَّ يبين البديل الشرعي عمَّا حرَّمه الله ، ومن هنا فطن علماء الإسلام لتوضيح هذه القضيَّة في مدوناتهم ، ورسائلهم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ طيَّب الله ثراه ـ فقد بيَّن بأنَّ المبتلى بالمنكر أو البدعة فإنَّه يتوجب على ناصحه أن يدعوه للإقلاع عن هذا الأمر المحرَّم ولو كان في ظاهره الخير، ومثَّل ابن تيمية لذلك بالبدعة فقال : (إذا كانت في البدعة من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلاَّ بشيء...فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنَّما الترك مقصود لغيره) اقتضاء الصراط المستقيم(2/125)(/2)
ومن هذا المنطلق فإنَّ البحث المضني من العالم أو المربي أو المفكر لما يخدم به أمَّة الإسلام من برامج جذَّابة تكون بديلاً عمَّا هو متاح ويستطاع الوصول إليه بأسرع الوسائل وأدنى السبل ؛ فإنَّ هذا النوع من البحث من الضرورة بمكان وخاصَّة في هذا العصر الراهن ؛ فأمتنا تحتاج لبدائل كثيرة في عدَّة مضمارات ، وتحتاج للبدائل المفيدة عن القنوات الفاسدة التي تنشر الغثَّ بلا سمين ، وتلهي النَّاس عن دين ربِّ العالمين ، و تجدُّ في إيقاعهم بفتن الشبهات أو الشهوات ، وما البرامج الأخيرة التي نشرت من خلال القنوات الفضائحية كسوبر ستار، وستاركلوب ، وستار أكاديمي ، وتحدي الخوف، وبج برذر ، وغيرها إلاَّ شاهد قوي على أنَّ أهل العلمنة والكفر والفجور يريدون إلهاء الأمة وشبابها عن قضاياها الكبرى ، وشؤونها المصيرية ـ وقد أعلن ذلك جهارة بعض المسؤولين عن بعض تلك القنوات ـ بل كانت بعض هذه البرامج العاهرة تعرض في الوقت الذي تضرب فيه بلاد الرافدين (العراق) بالصواريخ ، وتقصف بالطائرات ، وتجتاح بالدبَّابات والمجنزرات ، وكذلك في فلسطين المباركة في أزمة الحصار المشدد على مدنها وقراها ، وعمليات الاغتيال الصهيوني لقادة الجهاد والصمود ، في الوقت الذي كان فيه كثير من شباب العالم الإسلامي قد أطلق بصره ، وأرخى سمعه لما يعرض في هذه الفضائيات من مشاهد مخزية ، يستحيا ـ والله ـ من ذكرها.
وإذا كنَّا قد علمنا مكمن الدَّاء ، وموطن الخلل ، فليت دعاة الإصلاح والتغيير يستشعرون المسؤولية الفردية والجماعية ، والتأهل للإنقاذ وللمشاريع الإصلاحيَّة لهذا الشباب التائه، الذي قلَّ مَنْ أخذ بيده ، وبيَّن له طريق النَّجاة ، والحلول المثمرة ، والبدائل النافعة والإيجابيَّة.
في الوقت نفسه فنحن لا نريد حلولاً مستوردة من الغرب الكافر، ولا بدائل غير شرعيَّة ، أو فيها تنازلات عن سنَّة خير البرية ؛ فمعاذ الله أن يُنصح بذلك ، وقد قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شيئاً من هذا القبيل ثمَّ أعقبه قائلاً:(لكن لا يجوز لأحدٍ أن يغيِّر شيئاً من الشريعة لأجل أحد) (اقتضاء الصراط المستقيم : 2/133)
بيد أنَّ من أراد أن يحمل نفسه على تجنُّب البدائل المباحة ، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الشرعية فله ذلك ، وصاحب العزمات يأخذ بالأقوى ، وقد يكون في جانبه أفضل ، إلاَّ أنَّ عليه أن لا يقارن نفسه بغيره من الناس، و لا يفرض عزيمته على ضعفاء الدين ، وقليلي الإيمان ، ومن المعلوم أنَّه إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
ولن يستطيع الداعية مهما أوتي من فصاحة وإقناع أن يصنع ذلك المجتمع المثالي المتخيل في الذهن ، وخاصَّة أننا نعيش في هذا العصر المنفتح ، والذي تعجُّ فيه الفوضى الفكرية ، والمتنوعات الثقافيَّة ، وكلٌّ منها تضغط بطرف على العقول والأمزجة محاولة أن تقنعها بمثلها ومبادئها.
فمهمَّة الدعاة إذاً أن يأتوا البيت من بابه ، ويضعوا الحقَّ في نصابه، ويرشدوا أبناء هذا الجيل مبيِّنين لهم مخطَّطات الغرب، ووسائل المجرمين بالإطاحة بهذا الجيل عن غاياته النَّبيلة وأهدافه السَّامية.
* أمور هامَّة للدعاة إلى الله:
وثمة نقاط أحبُّ أن أذكِّر بها نفسي ومن سلك طريق الدعوة ، وكل قارئ لهذا المقال ، يجدر التنبيه إليها ، والتلويح بها:
1ـ يجدر بدعاة الإسلام وأهل التربية أن لا يخاطبوا الناس من برج عاجي ، أو صومعة فكرية ، بل عليهم أن ينزلوا إلى ميدان الناس ، وواقع البشرية ، ويتأملوه حقَّ التأمل ، فما كان فيه من خير أثنوا عليه وأشادوا به ، وما كان فيه من خطأ فلينبهوا الناس له ، ويرسموا لهم طريق الصلاح ، ويزنوا جميع الأمور بمعيار الشريعة ، ويعطوهم البدائل المباحة بقدر الإمكان ، وإيجاد الحلول والمخارج الشرعيَّة ، لا الحيل الباطلة البدعيَّة.
فأمَّا التشديد على الناس في أمورهم فهذا لا يليق بدعاة الحق والرشاد، بل هو أمر يحسنه كلُّ أحد ، وقد قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ : (إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/784) وقال الإمام أحمد بن حنبل : (من أفتى ليس ينبغي أن يحمل النَّاس على مذهبه ويشدِّد عليهم) الآداب الشرعية لابن مفلح(2/45) ولا يعني ذلك أن نكون مماثلين لدعاة العصرنة والمسايرة لهذا العصر، والتراجع تحت ضغط الواقع ، والَّذين يتبنون تتبع رخص العلماء وزلاَّتهم ويبنون عليها أحكاماً يقنِّنونها للناس حتَّى يتعاملوا بها فإنَّ هذا غير هذا ، ولا شكَّ أنَّ التفريط أخٌ للإفراط ؛ فالمطلوب أن يكون الدَّاعية وسطياً في فتاويه وآرائه على وسطيَّة أهل السنَّة والجماعة ورحم الله من قال:
عليك بأوساط الأمور فإنَّها *** نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعبا(/3)
ولهذا فإنَّ العالم الذي جمع بين العلم والتربية لن يغفل عن دراسة نفسيَّات النَّاس ، وإعطاء كلَّ ذي حقٍ حقَّه من الحكم الملائم له، ورضي الله عن الإمام ابن تيمية حين علَّق على حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ( كلُّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلاَّ رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ؛ فإنَّهنَّ من الحق) أخرجه ابن ماجه (2/940) والنَّسائي ، انظره مع شرح السيوطي(6/185) بسند صحيح.
فقد علَّق ابن تيمية على هذا الحديث تعليقاً نفيساً مبيناً خلاف ما يعتقده البعض من قارئي هذا الحديث بأنَّ كلمة (الباطل) فيه يعني (المحرَّم) فقال: (والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص للنفس الَّتي لا تصبر على ما ينفع ، الاستقامة(1/277 ، ولهذا أُثر عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: إنِّي لأستجمُّ نفسي بالشَّيء من الباطل،لأستعين به على الحق) مجموع الفتاوى(28/368)
ومن هنا نستنتج أنَّ معرفة الدَّاعية لنفسيات المدعوين وأهل المعصية ومراعاتها كلٌ بحسبه، تعتبر من أهمِّ المهمات ليتدرج معهم في إزالة ما لديهم من قصور ديني ؛ فهو خبير بأنَّ الخروج عن المألوفات من أشق الأشياء على النفوس ، ولذا فإنَّه يعطيهم من البدائل المباحة الَّتي تجعلهم يتناسون ما كانوا عليه، متدرجاً بهم بهذه الطريقة إلى مرحلة القناعة والطمأنينة بما هم فيه ، ومن أقوى ما يحتجُّ به لذلك ، ما قاله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً منكراً عليه عدم إسراعه في إزالة كلِّ بقايا الانحراف والمظالم والتعفية على آثارها ورد الأمور إلى سنن الراشدين: مالك يا أبتِ ! لا تنفذ الأمور؟ فو الله ! ما أبالي لو أنَّ القدور غلت بي وبك في الحق !) وتأمل كيف كان جواب الأب الفقيه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ : (لا تعجل يا بني ! فإنَّ الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة ، وإنِّي أخاف أن أحمل النَّاس على الحقِّ جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة) الموافقات للشاطبي(2/94) ولهذا فإنَّ التدرج في الوصول إلى الحقِّ بهذه التربية سببٌ أكيد لقناعة المدعوين ، وليأخذوا بهذه الأحكام بتمام الرضى والفهم العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية . قال الإمام ابن القيِّم : (إنَّ حكمة هذا التدريجِ التربيةُ على قبول الأحكام ، والإذعان لها ، والانقياد لها شيئاً فشيئاً) بدائع الفوائد(3/184)
2ـ التشجيع للشباب المخلصين بإيجاد البدائل الشرعية، وإنتاج المشاريع والبرامج المعينة والجذَّابة لمن ابتلي بمتابعة الصور الهابطة ، والأصوات المحرَّمة، وإنَّ من أهمِّ الأمور في ذلك بثُّ روح الإبداع والتفكير، والابتكار والطُّموح لصناعة البدائل وإيجادها والموافقة لروح الشَّريعة والاستفادة من المعطيات الجديدة، وتنمية الحس لأهمية الاطِّلاع والقراءة ، وكسر جميع الحواجز الَّتي تحول دون الإتيان بالجديد، وبورك في الشباب الطَّامحين.
وما قتل البعض منَّا إلَّا الترديد لتلك المقولتين القائلتين : (ليس بالإمكان أحسن مما كان) و(ما ترك الأولون للآخرون شيئاً) ، فإنَّ هاتين المقولتين أصبحتا حجر عثرة لكلِّ يائس أو كسول أو رجل ألف التقليد، مع الضَّحالة العلمية والعقم الفكري (وحين يكون هناك جدب ثقافي ، وضحالة فكرية فإنَّ الإنسان لا يهتدي إلى كثير من البدائل الَّتي تتاح لأهل الثَّراء الفكري) من كتاب / خطوة نحو التفكير القويم ـ ثلاثون ملمحاً في أخطاء التفكير وعيوبه لعبد الكريم بكَّارصـ59.
3ـ عدم الدوران في فلك الذات ، وإغلاق منافذ البصيرة في وجه أيِّ جديد بحجَّة أنَّ هذه العولمة المعاصرة أكثرها شرٌ وفساد ، بل ينبغي أن ننظر إلى كلِّ جديد ونزنه بالشرع ؛ فما وافقه فحيَّ هلا ، وما خالفه فإن استطعنا أن نبيد مادَّة الحرام منه فعلنا، وإن لم نستطع فلنضرب به عرض الحائط ولا نبالي، ورحم الله من قال:
والشرع ميزان الأمور كلها *** وشاهد لأصلها وفرعها
ومن جميل كلام أبي حفص النيسابوري : (من لم يزن أفعاله وأقواله كلَّ وقت بالكتاب والسنَّة ، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال) الاستقامة لابن تيمية /96ـ99.
شاهد ذلك أنَّه قبل أن نحكم على أي شيء فعلينا أن نعرف حقيقته وماهيته ، ثم يُطلق الحكم الشرعي المناسب له ، والقاعدة الأصولية تقول : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ).
4ـ لا يعني أنَّه إذا نودي بإيجاد البديل المنضبط ، أن يكون هذا ديدن الدعاة في كلِّ شيء ، بل ينبغي أن ينادي الدعاة بأنَّه ليس كلُّ شيء حرِّم يستطاع أن يؤتى ببدائل تحل عنه، وأنَّ هذا البديل الذي استهلك العقل البشري في التفكير لإيجاده ، ليس شرطاً أن يكون فيه كلُّ مظاهر اللذَّة والمتعة عن الشيء المحرَّم، إلاَّ أنَّه ينبغي أن تكون فيه مادَّة تصرف من تعلقت نفسه بالماضي ، وتكون فيه روح شفَّافة جذَّابة ليتعلق بها.(/4)
لكن من المهم جدَّاً أن يواكب هذا التغيير لتلك النفس البشرية التي نشأت من قريب على طاعة الله بأن تربى هذه النفس على طاعة الله ، وأن يكون ديدنها لأوامر الله ونواهيه بكلمة (سمعنا وأطعنا) وإذا كان البديل ليس على مستوى درجة الجاذبية لما ألفته النفس في الماضي ، أو في أيام الجاهلية فلا يعني ذلك أن ترجع النفس لماضيها ؛ لأنَّ ذلك من تبديل نعمة الله على العبد والتنكر لها. بل يكون على لسان المسلم الأثر المعروف : ( من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه) وهذا التعويض كما ذكر علماء الشريعة إمَّا أن يكون في الحياة الدنيا، أو أن يكون ذلك في دار الآخرة وجنَّة الرضوان.
5ـ أن يتعدى الدعاة والمصلحون مرحلة المدافعة والتحذير، إلى مرحلة المواجهة والتبشير، ولقد كانت هذه وصيَّة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لبعض أصحابه فقال:(بشِّروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا) أخرجه البخاري في كتاب العلم(2001) ، ومسلم في كتاب الجهاد(251) فالعقلية الإسلامية تحتاج في هذا الزمن الصعب أن تكون داعية خير وتبشير. أمَّا مجرد النقد اللاذع، والإبقاء على هذا المنهج فلن يوصل المسلمين إلى مرحلة سبَّاقة ، بل يجعلهم ذلك يرجعون للوراء ؛ لأنهم لم يعرفوا كيف يواجهون هذا العصر بتقنياته، وما هي اللغة المناسبة له ؛ ولذا فإنَّ المثل القائل : بأنَّ إيقاد شمعة خير من سب الظلام ؛ مثل رائع، يحتاجه دعاة هذا العصر، فإنَّ مجرد التشكي من أبناء هذا الزمان وهذا الدهر لن يفيد شيئاً ، والغريب أنَّ كثيراً من الشباب الصالح قد صار ديدنه في بعض اللقاءات التحدث بمآسي هذا الجيل ، على حدِّ قول الشاعر:
كلُّ من لاقيت يشكو دهره *** ليت شعري هذه الدنيا لمن؟!
لكنَّ القليل من يحاول أن ينقي الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويبين الخلل والاهتراءات التي حلَّت في وسطه ، محاولاً التغيير والإصلاح بالحكمة الحسنة والكلمة الطيبة، حتى يتم المقصود، وينال المراد.
إننا نحتاج حاجة ماسة لإعادة النظر في الطرق التربوية التي أَلِفَهَا بعض المربين أكثر من أربعة عقود من هذا الزمان ، أو وسائل الدعوة التقليدية والتي كانت منذ عشرات السنين وبقي الكثير على نمطها.
نحتاج لوسائل البلاغ المبين التي نواجه بها أبناء الجيل المسلم ، والاستفادة من المعطيات الحديثة التي تتناسب مع طبيعتنا الشرعية ، ومُثُلِنا العقدية (حيث إننا من خلال الممارسة العملية نكتشف الهائل والمترامي، وما لا يمكن الوصول إليه ، وبذلك الاكتشاف نقترب من معرفة ما هو متاح ، كما أنَّنا نوفر على أنفسنا عناء (الحرث في البحر) حيث ألف الكثيرون منَّا تبديد الجهد والوقت والمال في محاولات الوصول إلى أشياء ليس إلى الحصول عليها أي سبيل) جزء من كلام الدكتور عبدالكريم بكَّار في كتابه ( تشكيل عقلية إسلامية معاصرة ) صـ78.
* تنبيهات وملاحظات في قضيَّة البديل :
وهي في الحقيقة أمور وقع فيها بعض الإخوة ـ هداني الله وإيَّاهم ـ في قضيَّة البديل ، فالمراقب لبعض البدائل التي أتيح نشرها داخل الأوساط الإسلامية يجد أنَّها قد تجاوزت ـ وللأسف ـ الحدود الشرعية، وصار فيها من التنازلات عن الشريعة الشيء الذي ينذر بوقوع حالة كارثية ممن لهم توجهات إسلامية ؛ لأنَّ كثيراً منهم ينتج إنتاجه الإعلامي أو الاقتصادي أو التربوي ولا يستشير إلَّا قليلي العلم ، مع قلَّة استشارتهم لأهل العلم وفقهاء الشريعة الربانيين، في عرض مثل هذه المنتجات، وأخذ آرائهم تجاهها، ومن ذلك :
1ـ ما يسمى بـ:(فيديو كليب) فإنَّه يُعرض في بعضها من الأناشيد التي يصاحبها من تكسر وتميع ، وحركات لا تمت إلى الرجولة بصلة ، بل فيها من مشابهة بعض الفسقة من المغنين في حركات الرجل وضرباتها الخفيفة على الأرض ، أو حركات اليد والتي تدغدغ مشاعر الرجال فضلاً عن الفتيات ( المراهقات) ثمَّ يسمَّى هذا العمل إنتاجاً إعلامياً (إسلامياً).
فهل هذا من البديل الذي اشتُرِطَ أن يكون منضبطاً بميزان الشريعة ، ومأموناً لجميع شرائح المجتمع؟!
2ـ ما صار يصاحب بعض أشرطة الأناشيد الإسلامية من ضرب بالآلات الموسيقيَّة ، وما يرافقها بما يسمَّى بجهاز (السامبر)، وأجهزة الكمبيوتر والتي سجِّل في بعضها بعض النغمات من الكمنجة ، والبيانو، كلُّ ذلك بحجة أنَّ هذا من البديل [الإسلامي] وأنَّه إذا لم نضع مثل هذه الملحقات مع الأناشيد فإنَّ السامعين للأناشيد الإسلامية سيكون تعدادهم قليلاً!! وأنَّ أفضل وسيلة لجذبهم هي هذه الطريقة ولأجل الارتقاء بالفنِّ الإسلامي البديع!! والإجابة عن هذه الحجَّة الباطلة قد يطول ولكنَّنا نقول:(/5)
إنَّ من أراد أن يقدِّم للناس بديلاً مشروعاً فعليه بأن يتقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويرضيه قبل إرضاء أيِّ طرف من الناس، وليتذكر المرء حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط النَّاس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس) أخرجه ابن حبَّان بسند جيد ـ انظر:السلسلة الصحيحة (2311) والحقيقة أنَّ هؤلاء القوم المنتسبون للدعوة ويصاحبون في أعمالهم ما حرَّم الله بحجة اجتماع الناس عليهم وللمصلحة العقلية الموهومة فإنَّهم وكما قيل في المثل: يريد أن يطبَّ زكاماً فيحدث جذاماً ، فلا هم للبديل نصروا ، ولا للمعصية كسروا ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ.
3ـ لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي اليوم ، يحتاج لمصارف إسلامية ، وبنوك تتعامل مع الطبقات البشرية بالشريعة الإسلامية، ونحن نحمد الله ـ تعالى ـ أن صار لهذه البنوك وجود ولو كان بطيئاً في بعض الدول الإسلامية والتي تلبي رغبات التجَّار، وتعين المساكين وتقدِّم لهم البذل والمعونة ، وتقرضهم القروض الخالية من الربا ، وتتعامل مع من يريد تنمية ماله بالمعاملات المشروعة كالمضاربة والمشاركة والمساهمات التجارية.
بيد أنَّ هناك ـ وللأسف ـ بنوكاً أرادت أن تسوِّق بضاعتها بزيادة (الإسلامي) على كلمة ( البنك) للتغرير بعوام المسلمين وعقول البسطاء والمساكين ، ليتعاملوا معهم ويشتركوا في معاملاتهم المالية ؛ وأكثرها ـ عياذاً بالله ـ من أبواب الحيل الباطلة ، والتي يتمُّ معظم معاملاتها المصرفية بالتحايل على أبواب الشريعة، جاعلين زلاَّت العلماء المتقدمين ، ورخص المعاصرين المتساهلين ديدنهم في الترويج للالتحاق بهم والتعامل معهم.
فيا سبحان الله ! هل أصبحت البدائل المسماة إسلامية بهذا الشكل المرعب ، وأصبح البعض الذي ليس له من الثقافة الإسلامية رصيد ولو يسيراً، يسوِّق لما يريد فعله ويضيف عليه كلمة (إسلامية) أو(إسلامي) أو على ( الشريعة الإسلامية) على طرفة السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية ؟ ! وإذا كان البعض هكذا؛ فليحذروا من عقوبة تحلُّ بهم من الله ـ عزَّ وجل ـ ونقمة شديدة يوم القيامة إن لم يتوبوا ويتداركوا أمرهم.
4ـ ومن ذلك بعض فتاوى المنتسبين للعلم والدعوة بأنَّه يجوز للمرأة أن تشترك مع الرجل في التمثيل على شاشات الرائي (التلفاز) بحجة أن الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال : ( النساء شقائق الرجال) ، وأنَّ المرأة نصف المجتمع ولها دورها فيه ، فلا بأس عليها أن تشارك في التمثيل بشرط أن يكون (إسلامياً).
والحقيقة أنَّ هذا يفتح باباً كبيراً لأهل العلمنة والفسق في محاولة التدرج بمن أردن التمثيل من النساء المنتسبات للخير والدعوة في مهاوٍ توقعهن في الردى، هذا عدا أكثر من عشرة مخالفات شرعية في هذا الباب.
5ـ ومن ذلك ما يسمَّى بالأفلام المدبلجة ، والتي أنتجتها بعض الشركات الإعلامية الكافرة ، أو الشركات الفاسقة ، فما كان من البعض إلاَّ أن حذف منها أصوات الأغاني والموسيقي، وظّنََّ أنَّ تسمية هذه الأفلام بأفلام إسلامية هو الهدف الرئيس ، مع أنَّ بعض هذه الأشرطة فيها من التلوثات العقدية، والآراء الهدَّامة كبعض الألفاظ الشركية ، والعادات المخالفة للقيم الإسلامية ، كالشرب بالشمال، والنوم على البطن ، وعدم تشميت العاطس، والسخرية بمن ابتلي بسمنة أو داءٍ في جسده ، ومظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، وعرض بعض صور النساء كاشفات لشيء من شعورهن وإبراز بعض مفاتن جسدهن ، ومع ذلك تبقى أشرطة إسلامية !! فأين المراقبة الإعلامية المتخصصة ، وأين المراجعة والتدقيق الشرعي على مثل هذه الأشرطة المدبلجة؟ بل ظهرت بعض الأفلام الإسلامية تقوم فيها فتيات جميلات قد قارب أكثرهنَّ البلوغ في سنِّ العاشرة والحادية عشرة ، يقمن بالإنشاد الإسلامي، مع بعض حركات الرقص المرافقة لإيقاع الدف ، ويكون بالطبع معهن بعض الأحداث الفتيان ينشدون جميعاً عند بحر، أو تلٍّ ، وتقدِّم إحدى الفتيات وردة حمراء لأحد الأحداث الذكور وهي تبتسم ابتسامة ساحرة!! حدَّثني بذلك ـ والله ـ جمع من الشباب الذين كانوا على طريق الغواية ثمَّ منَّ الله عليهم بهدايته ـ سبحانه ـ فأقلعوا عمَّا حرَّم الله ، وقالوا لي جميعاً اشترينا هذه الأشرطة من التسجيلات الإسلامية! ورأينا أناساً يشترونها ! وكنَّا نتناوب على مشاهدة هذه الأفلام! لما فيها من الصور (الإسلامية)!!
بل قرأت لأحد هؤلاء المنتسبين للإسلام مقالاً كتبه في إحدى الجرائد يطالب فيه بديسكو إسلامي! وما أدري والله ماذا زوَّر أمثال هؤلاء في صدورهم بعد ذلك من البرامج(الاستسلامية للواقع). وصدق من قال في هذا الزمن:
زمان رأينا فيه كلَّ العجائب *** وأصبحت الأذناب فوق الذوائب(/6)
والآن...أسائل أصحاب هذه البدائل الظالمة...أسائلهم : بالله العظيم أذلك كلُّه من باب البديل الإسلامي المنضبط ، عن أشرطة الفسق والمعصية؟ (إنَّ هذا لشيء عجاب) ! لقد تعدى الأمر حدَّه ، وخرج عن أصله ، وبلغ السيل الزبى ، والله المستعان.. فليتدارك أمثال هؤلاء القوم منهجهم ، وليصلحوا أمرهم ، وليتوبوا إلى ربهم ، ويعودوا إلى بارئهم ، ولا يكونوا سبباً لإفساد الشباب ، وهم يظنون أنهم مصلحون.
* شيء من البدائل النافعة المأمونة في عصر العولمة:
لا ريب أنَّ عصرنا كما أنَّ فيه النقائص الشرعيَّة ، فإنَّه وبالمقابل ثمَّة بدائل إيجابيَّة كان لها الدور الكبير والنافع بعد عون الله وتوفيق في توعية الأمَّة ورجالاتها ، ومن ثمَّ الإقبال عليها وإعراض الكثير عمَّا سواها ومن ذلك :
1ـ ظهرت بفضل الله وبجهود بعض المخلصين من أبناء هذه الأمَّة بعض الإذاعات الإسلاميَّة ، والمنتجة للبرامج الإسلاميَّة على مستوى رفيع ، من ثبات على الأسس والأصول الإسلاميَّة ، وتكامل في البرامج ، وإبداع في الطرح والخطاب ، جعل كثيراً من المستمعين لهذه الإذاعات لا تفارق بيوتهم أو سيَّاراتهم ، معجبين بها ، ومتشجعين في الاستماع لبرامجها.
2ـ المؤسسات الإسلاميَّة الراعية لكثير من طاقات الشباب الإبداعيَّة وتثميرها ، و زرع روح المبادرة الذاتيَّة ، والعمل لهذا الدين على بيِّنة وعلم .
3ـ إطلاق بعض الفضائيات الإسلاميَّة ، والتي كان لها دور ـ بفضل الله ـ في تنمية روح الإسلام في قلوب المسلمين ، وغرس مكامن العزَّة في قلوبهم ، وإشعارهم بأنَّ المسلمين ليسوا أقلَّ من الكفَّار أو الفسقة في الإنتاج والإخراج الإعلامي.
إلاَّ أنَّه يجدر أن أنبِّه بأنَّه ليست كلُّ قناة منتسبة للإسلام ، تكون كما ادَّعت ، وللأسف فإنَّ بعض القنوات الإسلامية ، فيها الكثير من المخالفات الشرعيَّة ، والتنازلات العقديَّة ، والتي ينبغي تداركها ، ومن ذلك : تعظيم بعضهم لأهل الكفر والنفاق ، ورخاوة تقرير معاني الولاء والبراء ، والاختلاط بين الرجال والنساء ، وعرض الموسيقى والأغاني في برامجها ، واستضافة بعض متلوِّثي العقيدة، إلى غير ذلك ممَّا ينبغي لهؤلاء أن يتداركوه ، لتبقى برامجهم ملتزمة بأسس الإسلام وثوابته.
4ـ تفكير كثير من الشباب المسلم الواعد بإقامة مشروعات إسلاميَّة تربويَّة وترفيهيَّة ، ولا أنسى أنَّني في يوم من الأيام قد ذهبت أنا وأهلي إلى طلعة بريَّة ، وحول هذه المنطقة يوجد فيها شباب مراهقون شعروا بملل في أوقاتهم ، فراحوا يجوبون الشوارع يمنة ويسرة ، ويضيِّعون أوقاتهم بالدوران في سيَّاراتهم ، والبعض منهم كانوا قد جلسوا مع رفقائهمه وبدؤوا يضربون على العود والموسيقى !
وبعد برهة من الزمن قصيرة رأيت شباباً في العشرين من عمرهم من الصالحين ـ هكذا أحسبهم ـ قد قدموا بثلاث سيَّارات وأتوا بجهاز الحاسب الآلي و جهاز(البروجيكتر) ، ونظَّموا المجالس والمقاعد ، ثم بدؤوا يهتفون عبر الميكرفونات وينادون الشباب : هيا يا شباب إلى المسابقات الجميلة ! هيا إلى الإبداعات ! هيَّا إلى المسابقات ! وبدأ هؤلاء الشباب بالتقاطر والتحلُّق في المكان الذي تُقدَّمُ فيه برامج هؤلاء الإخوة الملتزمين ، حتَّى أنَّه بعد ساعة أحصيت نحو ما يقارب 50 سيَّارة ، وأكثر من مائة شاب ، قد جلسوا وكأنَّ على رؤوسهم الطير ، وهم يشاركون مبتهجين بهذه البرامج والمسابقات بشدَّة تفاعل ، وابتسامات تعلو محيَّاهم .
وقبل أن ينتهي البرنامج أتى أحد هؤلاء الإخوة الصالحين بإلقاء موعظة بربع ساعة ألهب فيها القلوب ، وحرَّك لها المشاعر ، ثمَّ أنهي ذاك البرنامج بتوزيع الجوائز على الفائزين .
يحدِّثني أحد الإخوة المصلحين الذين يشاركون في برامج بهذا الشكل بأنَّه لا يخلو بأن يقوم ثلاث شباب إلى خمسة بإعلان التزامهم واستقامتهم على دين الله ، ويبدؤوا بالمشاركة مع هؤلاء الشباب المصلحين في الدعوة إلى الله بالحكمة والأسلوب الحسن ، كما قال الشاعر :
قد هدانا السبيل من سبقونا *** وعلينا هداية الآتينا
5ـ استغلال كثير من الشباب الصالحين والمهتمين بالجيل الناشئ وقت الإجازة الصيفيَّة بإقامة مراكز صيفيَّة تستوعب طاقات الشباب وإبداعاتهم ، وكذا إقامة المخيمات الشبابيَّة والتي تعوِّد الشباب المسلم على روح المبادرة ، وتشجعه على إبراز مواهبه وتفعيل طاقاته في المشروع.
6ـ إطلاق كثير من مواقع الإنترنت والإتيان بشتَّى البدائل النافعة والمفيدة لأبناء الصحوة الإسلاميَّة.
فهذه البدائل ـ والحقُّ يقال ـ قد نفع الله بها كثيراً من أبناء الصحوة ، و بيَّنت أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة تستطيع إيجاد بدائل منضبطة غير منفلتة عن قيم الإسلام.(/7)
ولهذا أقول نعم للبديل ، ولكنْ بالضوابط الشرعية، والالتزامات العقدية ، وتحت استشارة أهل الشريعة، ولا للبديل المتسيب، والذي شطَّ عن الصواب ، وانخرط في دوائر الانفلات ، وأُقْحِمَ في الشبهات, فإنَّ هذا ليس له مكان في قلوب أهل الإيمان، ويبقى الحقُّ عليه دلائل الإشعاع الربَّاني ، والباطل عليه دلائل التحايل العصياني.( فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً ،وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللَّه الأمثال) ومن الله الحول والطَّوْل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين .والحمد لله رب العالمين..(/8)
البديل الإسلامي في مجال الإعلام
د. عبد القادر طاش 15/2/1425
05/04/2004
تتميز رسالة الإسلام بأنها منهج شامل للحياة بامتدادها الدنيوي والأخروي: (قُل إنَّ صَلاَتي ونُسُكِي ومَحْياي ومماتي للهِ ربِّ العالمين، لا شَريكَ له وبذلك أمِرتُ وأنا أوَّل المُسلمين) (سورة الأنعام : 162 – 163). ولقد اعتورت المسلمين في حياتهم الحاضرة أسباب الضعف والتفكك، وعوامل الانحراف والتفلت حتى ذبل في نفوسهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي ذلك التصور الشمولي للإسلام باعتباره منهجاً للحياة، ودستوراً لحركة الإنسان والمجتمع في هذا الكون.
ولعل من نعمة الله علينا - نحن المسلمين - أن تشهد الساحة الإسلامية في الآونة الأخيرة صحوة إسلامية مباركة، تنطلق من الإحساس بالحاجة إلى تطوير مناهج الإصلاح في حياة المسلمين، بما يتوافق مع أصالة المنهج الإسلامي باعتباره صالحاً لكل زمان ومكان أولاً، وبما يستوعب متغيرات المرحلة الراهنة التي يعيشها المسلمون ثانياً، وبما يتواءم مع الاستجابة الواقعية المبصرة للتحديات التي تواجه التطبيق العملي المتكامل للمنهج الإسلامي في واقع الحياة المعاصرة أخيراً.
وإن من المنطق - ونحن نشهد هذه الصحوة المباركة - أن ننادي بتحويل الإحساس بالحاجة إلى شمولية الإصلاح، وتكامل التطبيق للمنهج الإسلامي، إلى برنامج عمل واضح المعالم، مفصل الجوانب، يقدم البدائل الإسلامية في مختلف مجالات الحياة.
وتكتسب المطالبة بإيجاد البديل الإسلامي في ميدان الإعلام - بجانبيه النظري والتطبيقي - أهمية بالغة لما تتمتع به وسائل الاتصال الجماهيرية اليوم من مكانة خطيرة في توجيه عقليات الجماهير، وتشكيل سلوكياتها في الحياة، في عالم تحول إلى (قرية كونية)، قصرت وسائل الاتصال الالكترونية المسافات بين أجزائه، وربطت شبكةً معقدة من الاتصالات بين دوله وشعوبه، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية كله.
إن وسائل الاتصال الجماهيرية تعد اليوم الجهاز المركزي الذي يوجه الفرد والمجتمع، ولذلك فإنَّ صياغة منهج للإعلام الإسلامي يعمل على سد الفراغ الهائل في منظومات المنهج الإسلامي ليعتبر ضرورة ملحّة، حتىّ يمكن بلورة أنموذج جديد للإصلاح الإسلامي يقوم على الشمول والتكامل والواقعية.
وهذه الإضاءات المتواضعة محاولة لطرح بعض التساؤلات الحيوية حول الإعلام الإسلامي، ومفهومه، ودوره ومسؤوليته، في وقتٍ نحن في مسيس الحاجة فيه إلى جلاء صورته، وتحديد معالمه، والكشف عن كنوزه وذخائره، والتخطيط من أجل تحويله إلى واقع حيّ، يتعانق فيه القولُ مع العمل، وتتلاحم فيه النظرية بالتطبيق. وتتركز الإضاءات التي أحاول تسليطها حول ثلاثة تساؤلات هي:
- لماذا نحتاج إلى الإعلام الإسلامي؟
- وما الإعلام الإسلامي الذي نريد؟
- وكيف نصل إلى الإعلام الإسلامي؟
لماذا الإعلام الإسلامي؟
إنَّ المطلب القّيم لا بد أن تتوافر له مبرّرات قوية ومقنعة، تسّوغ تبنيه بإخلاص، وتدفع إلى الدعوة إليه بإلحاح، وتقوي العزائم في سبيل تحقيقه في الواقع بلا توانٍ أو هبوط. وتستند المطالبة بأسلمة الإعلام وصياغته صياغة إسلامية إلى مبررات ثلاثة هي:
1- المبرّر المنطقّي:
لقد جاء الإسلام - كما ذكرنا سابقاً - ليكون منهجاً شاملاً للحياة كلها بجميع جوانبها ومجالاتها. وقد رسم الإسلام للإنسان معالم لنظمه الاجتماعية المختلفة، لتتوافق هذه النظم مع الغاية الرئيسة لوجوده، وهي استخلاف الله له في الأرض لعمارة الكون وفق منهج الله وتحقيق عبادته وحده.
وارتباط المسلم بإسلامه ليس ارتباطاً عاطفياً روحياً فحسب، بل هو - إلى جانب ذلك - ارتباط واقعي عملي من خلال تطبيق شرائع الإسلام وهديه وتعاليمه السامية وتوجيهاته الربانية في مجموعة من النظم الإسلامية التي حكمت حياة المسلمين في شؤونهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية والعسكرية.
وعندما ضعف التزام المسلمين بمبادئ دينهم، وتكالبت عليهم القوى الاستعمارية التي استهدفت خلخلة التصور الشمولي للإسلام وتطبيقه في حياتهم، تحوّل ارتباط معظم المسلمين بالإسلام في العصر الحاضر إلى مجرد ارتباط عاطفي محدود، يكتفي فيه المسلم بإقامة شعائره والتعبديّة، وتزكية نفسه بالرياضيات الروحية والأخلاقية الفردية. وقد نتج عن هذا المفهوم المغلوط لحقيقة الالتزام الإسلامي أن حفلت حياة المسلمين بصور الازدواجية والتناقض بين الارتباط العاطفي بالإسلام في ميدان العباد والأخلاق الفردية، وبين الارتباط العلمي الواقعي بالمذهب المناقضة للإسلام في ميدان النظم والتشريعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.(/1)
إنّ حياة المسلمين المعاصرة لن تتحقق لها الصبغة الإسلامية إلا عندما ينسجم ارتباطها العاطفي بالإسلام في الجانب العقدي والروحي والفردي مع ارتباطها العلمي والواقعي بالإسلام في الجانب التشريعي والتنظيمي. ومن هنا تكتسب الدعوة إلى صياغة المعارف والنظم في حياة المسلمين صياغة إسلامية أهمية بالغة. بل إنَّ تحقيق هذا الهدف يعتبر التحدي الحقيقي الذي ينبغي على الأمة الإسلامية أن تواجهه في وقتها الراهن.
ويعتبر الإعلام فرعاً مهماً من فروع المعرفة العلمية والتطبيقية، التي تحتاج إلى العناية بتأصيل مفاهيمها ومناهجها وتهذيب أساليب وطرق ممارستها الواقعية وفقاً لهدي الإسلام وتوجيهاته. وتتعاظم أهمية صياغة النظام الإعلامي: فلسفة وغاية ومنهجاً وممارسة، صياغة إسلامية في ضوء إدراكنا لأهمية الإعلام في حياة المجتمعات، وخطورة ما يقوم به في التأثير على الأفراد والجماعات سلباً كان هذا التأثير أو إيجاباً.
إنَّ المبرر المنطقي للمطالبة بصياغة الإعلام صياغة إسلامية، يؤكد على أن هذه الصياغة نتيجة منطقية لشمول المنهج الإسلامي وتكامله.
2- المبرّر الواقعي:
يواجه المسلمون اليوم في مختلف أقطارهم ومواطنهم غزواً فكرياً وثقافياً وحضارياً رهيباً. ولم يَعُد هذا الغزو الحضاري الشامل مقصوراً على الوسائل التقليدية للغزو من كتب استشراقية، أو مذاهب هدّامة، أو مؤامرات استعمارية مكشوفة. لقد انتهى عصر الغزو الاستعماري الاستشراقي المباشر. إن الغزو الحضاري الذي تواجهه الأمة الإسلامية يستخدم وسائل جديدة، وأساليب جديدة. إن الرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة، بل إلى العقول المثقفة، عن طريق الخبر الذي تبثه وكالة الأنباء، والتحليل السياسي، أو الاقتصادي الذي تكتبه الصحيفة والصورة التي ترسلها الوكالات المصورة. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة عن طريق الفيلم التلفازي المدهش، وعن طريق شريط الفيديو، وعن طريق البرنامج الإذاعي المشوق. والرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة عن طريق فيلم الكرتون المتقن. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة والأجيال الصاعدة عبر النظريات المدسوسة في مناهج التربية والتعليم، معللة بدعاوى العلم والتقدم والاكتشافات الحديثة !!
ولقد أعجبتني كلمة معّبرة لأحد المثقفين يقول فيها: ( إن الغزو الثقافي الخطر اليوم لم يَعُد يأخذ صورة مبشَّر في كنيسة يُقنع ( المحلّيين الهمج ) باعتناق ( ديانة متحضرة) وإن كانت النشاطات التبشرية في بعض أنحاء العالم الثالث لا تزال مصدر تهديد ثقافي لا يستهان به، والغزو الثقافي الخطر اليوم يَعُد يتخذ شكل مؤامرة استعمارية تستهدف تشكيك شعب ما في تاريخه وأخلاقه وديانته، وإن كان الحديث لا ينقطع عن مؤامرات كهذه، حقيقية أو وهمية. إن أخطر ما في الغزو الثقافي المعاصر أنه أصبح ذا دافع ذاتي تلقائي، يتم دون مجهود من الجهات الغازية، ويتم دون أن يدرك ضحية الغزو أنه معرض لأي خطر، فيقدم، في حماسةٍ وبلاهة، لا على قبول الغزو فحسب، بل إلى اعتناقه واحتضانه. هنا مكمن الخطر).
إن هذا الغزو الحضاري الرهيب يعمل على زعزعة مبادئ الإسلام وقيمه وهدم أخلاقياته ومثله في نفوس أبناء المسلمين لينشأوا في غُربةٍ عن دينهم وحضارتهم وتراثهم، ويصبحوا فريسة سائغة للأفكار الغربية ونمط الحياة الغربية بكل ما فيها من انحرافات ومفاسد وأوبئة. ولقد وصل هذا الغزو إلى منازلنا ولم يعد أمامنا مفر من مواجهته، المواجهة الصحيحة التي لا تكتفي بالتنديد والصراخ والدعاء بالويل والثبور، بل بتطوير استراتيجية مُحكمة تعتمد على هدفين :
الأول: توجيه الإعلام في الدول الإسلامية نحو الأصالة والذاتية النابعة من قيم الإسلام ومبادئه، وتوفير الجو الملائم والدعم المناسب لصنع البدائل الإسلامية التي تقف في مواجهة ما يقدمه الغرب.
والثاني: تنقية الإعلام - إلى جانب التعليم - من المؤثرات الغربية العلمانية والإلحادية، وتفنيد ما تقدمه وسائل الإعلام الغربية من مفاسد وانحرافات وبيان عوارها وتهافتها بمنطق مقنع وبوسائل مكافئة.
وهذه المواجهة الواقعية للغزو الفكري والثقافي في صورتها الشاملة المتكاملة المتكافئة لن تتحقق إلاَّ عندما تتبلور في أذهان المسلمين الصورة الحقيقية للإعلام الإسلامي، وتتوالى معطياته الواقعية وثمراته العملية في واقعهم المعاصر، إذ لا يمكن أن يهزم الباطل الزائف إلا الحقُّ الأصيل: ( بَل نَقذفُ بالحَقِّ الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هُوَ زاهِقٌ ) ( الأنبياء: 18).
3- المبّرر الإنساني:
وسائل الإعلام، لسان هذا العصر. وقد أدرك أصحاب الديانات والمذاهب والأفكار أهمية استغلال هذه الوسائل في سبيل إيصال أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم إلى الناس. وكان النصارى الصليبيون أكثر الناس إدراكاً لهذه الأهمية، وأسبقهم إلى استخدامها في مجال التنصير.(/2)
وفي الوقت الذي ينشط فيه أصحاب الديانات المحرّفة والمذاهب الفاسدة لاستغلال وسائل الإعلام لخدمة أغراضهم، نجد المسلمين غائبين عن الساحة الإعلامية إلاّ بعض جهود محدودة لا أثر لها.
والبشرية اليوم قد سئمت من الدين المحرّف، وانصرفت عن المذهب الفاسد، وهي تعيش ضياعاً وقلقاً واضطراباً. وقد أثقل كاهل الإنسانية في وقتها الراهن كابوس الإلحاد والعلمانية، والفساد الخلقي، والظلم والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، وتعالت الصيحات تبحث عن مصدر للأمان والعدالة والحياة الكريمة، فأين سيجدون كل ذلك إلاّ في الإسلام ؟!!
إن البشرية اليوم بحاجة إلى الإسلام أكثر من أي وقت مضى. والمسلمون مطالبون - وفقاً للتوجيه الإسلامي بمخاطبة الناس بلغتهم ووسائلهم- بأن يستخدمون وسائل الاتصال والإعلام في سبيل الدعوة إلى الإسلام، وتوضيح صورته الناصعة، وإبراز محاسنه وثمراته للناس في كل مكان. إنَّ تبليغ رسالة الإسلام العالمية، وإيصال دعوته إلى البشرية كلها مبّررً إنساني عظيم للدعوة إلى صياغة الإعلام صياغة إسلامية حتى يمكن أن يؤدي هذا الإعلام دوره في الحياة الإنسانية.
ما هو الإعلام الإسلامي الذي نريد ؟
تختلف نظرات الناس حول الإعلام الإسلامي ما بين النظرة الجغرافية، والنظرة التاريخية، والنظرة الواقعية التجزيئية. فالنظرة الجغرافية تفهم الإعلام الإسلامي على اعتبار أنه الإعلام الصادر من دول العالم الإسلامي، أو الجهات التي تنتسب إلى الإسلام. وتكاد هذه النظرة أن تكون النظرة السائدة في الدراسات الأجنبية عن الإعلام الإسلامي. ولذل تصنف هذه الدراسات إعلام الدول التي تقع في إطار العالم الإسلامي ضمن الإعلام الإسلامي بمفهومه الجغرافي الرسمي، دون تمييز في المنهج أو الغاية أو الممارسة.
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي تكاد تحصر الإعلام الإسلامي في إطار زمني ضيق، فتوحي بأن الإعلام الإسلامي مفهوم تراثي، وممارسة محدودة في فترة زمنية معينة، مثل تلك الدراسات التي تتناول الإعلام ووسائله في عهد النبوة أو الخلفاء الراشدين.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فتستند إلى صورِ الممارسة الواقعية لبعض جوانب الإعلام الإسلامي المحدودة، وتفهم هذا الإعلام باعتباره إعلاماً ( دينياً متخصصاً ). ولذلك يغلب على من ينحو هذا المنحى أن يفهم الإعلام الإسلامي في حدود الصفحات الدينية، وركن الفتاوى، والخطب المنبرية، في الصحافة اليومية، أو في حدود تلك الصحف والمجلات التي تسمّى نفسها بالإسلامية، أو في حدود البرامج والأحاديث الدينية في الراديو، أو في حدود البرامج والأفلام والمسلسلات التاريخية والدينية، التي يشاهدونها عبر الشاشة التلفازية أو السينمائية !!
ورغم أن هنالك بعض جوانب الصحة في هذه النظرات المختلفة للإعلام الإسلامي، إلاً أنها لا تعبر عن حقيقة الإعلام الإسلامي بشموله وتكامله، ولا تمثل جوهره الأصيل، وخصائصه النظرية والتطبيقية. فالنظرة الجغرافية توهم الإعلام الصادر من دولة مسلمة يكتسب الشرعية الإسلامية بمجرد انتسابه إلى الدولة المسلمة، دون اعتبار لغاية ذلك الإعلام ومنهجه، ودون اعتبار لمضمونه وأساليب ممارسته. والمؤسف أن واقع الإعلام المعاصر في كثير من دول العالم الإسلامي لا يصور أبداً حقيقة الإعلام الإسلامي. والتحليل العلمي الموضوعي يكشف لنا أن كثيرا من منطلقات الإعلام، ومضامينه، وأساليب، ممارسته، وقواعد تنظيمه في كثير من الدول المسلمة يسير في ركب التقليد والتبعية للأنماط الغربية أو الشرقية في الإعلام، ويفتقد الهوية الإسلامية الواضحة !!
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي، نظرة قاصرة، إذ تحجّم هذا الإعلام وتصوّره على أنه إعلام تراثي عتيق، ينفصل عن الواقع، ويبتعد عن معالجة قضايا العصر والاستفادة من معطياته ومنجزاته. والحقُّ أن الإعلام الإسلامي ليس مرتبطاً بفترة زمنية، وليس محدوداً ببقعة مكانية محدودة، بل هو منهج يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويحمل في طياته بذور الملائمة لكل زمان ومكان.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فهي نظرة مجحفة، غير منطقية، وهي مثل سابقتيها تحجم هذا الإعلام، وتفصله عن الواقع، وتخصّص له جزءاً محدودا من النشاط الإعلامي الحافل. وهذه النظرة ذات أثر خطير في حياة المسلمين، لأنها تفصل الإعلام بنشاطاته الواسعة وممارساته المتنوعة، عن الهدى الإسلامي،ن وتكتفي بتحكيم الإسلام في جزءٍ من النشاط الإعلامي، ثم لا تبالي أن يناقض الإعلام مبادئ الإسلام وأخلاقه ويتعدى حدوده وضوابطه في الأجزاء الأخرى التي يطلق عليها ( الإعلام العام ) !! وكأن هذا المفهوم يقترب من المفهوم الغربي العلماني في فصل الدين عن الحياة، واعتبار الدين شأناً فردياً وعقيدة مكنونة، يخصص له جزء من النشاط الإنساني، ولا سلطان له على الواقع، ولا هيمنة له على الحياة الاجتماعية ونشاطاتها العامة.(/3)
إنَّ المفهوم البديل، بل المفهوم الحقّ للإعلام الإسلامي هو المفهوم المنهجي، الذي لا يجعل مقاييس إسلامية الإعلام مبنية على أساس الحدود الجغرافية والمكانية، أو الوضعية التاريخية المحدودة، أو الممارسة الواقعية الخاطئة للإعلام في الحياة، بل يبني تلك المقاييس والمعايير على أساس المنطلقات الرئيسة والأطر الفكرية والاجتماعية والإنسانية المنبثقة من روح الإسلام وتصوراته الكلية وقيمه السامية، وعلى أساس الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يسير الإعلام على هدي منها، ويلتزم بها في نشاطاته المختلفة وممارساته الواقعية.
إن الإعلام الإسلامي - بهذا المفهوم المنهجي - روح تسري في النشاط الإعلامي كله، تصوغه، وتحركه وتوجهه منذ أن يكون فكرةً إلى أن يغدو عملاً منتجاً متكاملاً، مقروءاً كان أو مسموعاً أو مرئياً. وبذلك يصبح الإعلام الإسلامي منهجاً قويماً تسير وفقه جميع النشاطات الإعلامية في كافة الوسائل والقنوات دون أن يحيد نشاط واحد منها عن الطريق، أو يتناقض مع النشاطات الأخرى سواء في الوسيلة الواحدة أو الوسائل المتعددة. وبذلك - أيضاً - يصبح الإعلام الإسلامي حكماً موضوعياً تتحاكم إليه جميع هذه النشاطات الإعلامية ثم لا يجد نشاط منها حرجاً في التسليم لحكمه والإذعان لتوجيهه.
وفهم الإعلام الإسلامي بهذه الصورة الشاملة، ينسجم مع الحقيقة الأصلية لهذا الدين، وهي أنه منهج شامل للحياة، وليس منهجاً جزئياً يعالج جانباً من جوانب الواقع الإنساني، ويهمل الجوانب الأخرى. وهذا المفهوم للإعلام الإسلامي، يحقق في حياة الأمة الإسلامية على الدوام الاستقرار والتوازن، ويخلصها من آثار الازدواجية والتناقض والصراع التي تعاني منها الأمة، كلما ابتعدت عن منهج الله. والنشاط الإعلامي المعاصر يعاني من هذه الأمراض الخطيرة، حيث تجد الازدواجية والتناقض في الوسيلة الواحدة فضلا عن وجودهما في الوسائل المتعددة، حيث تستمع إلى برنامج ( ديني ) يحث على الفضلة، فيعقبه مباشرة برنامج آخر يغري بالرزيلة، أو أغنية ماجنة تزين السقوط بصورة مشوقة !! وتشاهد في التلفاز برنامج ( دينيا ) يبنى في نفوس المشاهدين معاني الرجولة والصلاح والخير، ثم لا تلبث أن تصدم في الوسيلة نفسها بفيلم مثير، ينقض كل ما بناه البرنامج (الديني ) ويهدمه!! والأنكى من ذلك أن يقدم البرنامج (الديني ) في أسلوب جاف وإخراج رتيب، فلا يجذب المشاهد ولا يجوز على رضاه، بينما يخدم الفيلم غير الديني خدمة فائقة، فيقبل عليه الصغار والكبار، ويتحلق حوله الشباب والشابات في رغبةٍ وحماس!!
ولو نظرنا إلى واقع النشاط الإعلامي والنظم الإعلامية في المجتمعات المختلفة التي لا تدين بالإسلام لوجدنا ذلك النشاط في مجتمع ينبع أصلاً من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع، وينطبع بالقيم والتقاليد والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فيه، ولوجدنا أن النظام الإعلامي يخدم أساساً الغايات والأهداف البعيدة والقريبة التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها. فالإعلام في الدول الغربية ( اللبرالية ) العلمانية ينطلق من غايات المذهب ( اللبرالي ) العلماني، وفلسفته، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط العلماني الغربي للحياة الذي يفصل الدين عن واقع الحياة، ويجمد الحرية الفردية، ويعلي من قيمة الأنانية، والإنجاز الشخصي، ويعمق روح المادية والاستهلاكية. والإعلام في الدول الشيوعية يصطبغ بفلسفة الأيديولوجية الماركسية، وينطلق من غاياتها، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط الإلحادي الماركسي للحياة الذي يصور هذه الحياة بأنها صراع بين الطبقات، ويجعل الحزب ( ديكتاتورا ً) متسلطاً ومهيمناً على الناس، ويوظف الإعلام ليكون خادماً للسلطة ومجرد أداة لتحقيق رغبات الحزب وشهواته !!
وللإسلام - دون شك - فلسفته الإعلامية الخاصة به. وفي ضوء هذه الفلسفة المستقاة من المصادر الأصلية للمنهج الإسلامي، تتحدّد معالم النشاط الإعلامي داخل المجتمع الإسلامي وخارجه. ولقد وضع الإسلام أصولاً عامة وقواعد كلية لكافة جوانب العملية الإعلامية. ولكن هذه الأصول والقواعد مبثوثة في المصادر الإسلامية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي اجتهاد فقهاء المسلمين وعلمائهم عبر العصور المتعاقبة. والإعلام اليوم غداً علماً منظماً. ولذلك فإن المسلمين بحاجة ماسة إلى صياغة منظومة إعلامية ذاتية لهم، تحدّد معالم الهدى الإسلامي في النشاط الإعلامي من حيث :
أ - فلسفته الأساسية، وإطاره الفكري العام المبني على التصوّر الإسلامي للكون والحياة والإنسان وغاية الوجود الإنساني.
ب - غايته الكبرى، ومنهجه الأصيل في تحقيق تلك الغاية.
ج - وظائفه العامة والخاصة، ومدى ارتباط هذه الوظائف بالحاجات الواقعية لأفراد المجتمع، ومقدار استجابته للظروف المحيطة بهم.
د - أساليبهُ وطرقه في تقديم المضمون إلى الناس، ومدى مراعاة هذه.(/4)
الأساليب لخصائص الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، وكيفية تفاعله معه.
هـ- وسائله وقنواته المتنوعة سواء التقليدية منها والحديثة، وخصائص
الوسائل الخاصة بالإعلام الإسلامي والتي ينفرد بها عن غيره من المذاهب الإعلامية الوضعية كقنوات الاتصال الشخصي المنظم، وألوان الاتصال الجمعي والدولي المتميزة، وكيفية استثمارها وتوظيفها لخدمة أهداف المجتمع المسلم وغاياته.
و- نظمه وسياساته العامة والخاصة والأسس والضوابط التي يضعها الإسلام لتقنين تلك النظم وصياغتها، وترشيد السياسات الإعلامية التي يتبناها.
وهذا العمل الذي يستهدف صياغة منظومة إعلامية إسلامية للمجتمع الإسلامي لن يتحقق إلا خلال اجتهاد عصري يقوم به علماء يمتلكون زاداً متيناً من العلم الشرعي، ويمتلكون أيضاً زاداً متيناً من العلم الإعلامي في جانبيه النظري والتطبيقي. ولا بد من أن يعتمد هذا الاجتهاد العصري على تلاحم عنصرين هامين هما:
أولاً: دراسة المصادر الأساسية للإسلام دارسة إعلامية علمية لاستنباط الأسس والقواعد التي تنظم العملية الإعلامية أو ترشد إليها. ويردف هذه الدراسة محاولة الكشف عن ذخائر التراث الإسلامي عبر العصور مما له صلة بالممارسة الإعلامية.
ثانيا: دراسة نتاج البحوث والدراسات والممارسات الإعلامية المعاصرة واستيعابها، ثم استلهام روح التشريع الإسلامي ونتائج الدراسة الإعلامية العلمية لمصادر الإسلام وتراث المسلمين للوصول إلى رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الإسلامي في الجوانب النظرية والتطبيقية التي ذكرتها آنفاً.
كيف نصل إلى الإعلام الإسلامي ؟
إنَّ تحقيق ثمرة هذا التصور النظري للإعلام الإسلامي، بشموله وتكامله، لن يكون إلاّ بمحاولة الإجابة على هذا التساؤل الملحّ: كيف نصلُ إلى الإعلام الإسلامي؟.
وفي تصوّري أنَّ الوصول إلى الإعلام الإسلامي يحتاج منّا العمل الدؤوب في أربعة ميادين رئيسة هي:
1- ميدان الإعداد والتأهيل البشري:
إنَّ أّهم الوسائل للوصول إلى تحقيق الإعلام الإسلامي في واقع الحياة وأنجعها هو إعداد الكفايات البشرية المتخصصة في الإعلام، وتأهيلها فكرياً، وخُلُقياً، وعملياً، ومهنياً. إن الإنسان هو العنصر الأول في إحداث أيّ تغيير مقصود. والعناية بإعداد الإعلاميين الإسلاميين، وتأهيلهم حتى يكونوا قادرين على تحمل هذه المسؤولية الضخمة، ليس أمراً سهلاً قليل التكاليف، بل هو عمل كبير، يتطلب منا جهوداً عظيمة وطاقات عديدة. إن الطبيب - وهو يطّبب الأبدان- يمر بفترة صعبة ومكثفة وطويلة من إعداد والتأهيل، فما بالك بالإعلامي، وهو المعلم، والمربي، والقائد، والموجه، وصانع الرأي في المجتمع ؟! إن مهمّته- ولا شك - أعظم، ومسؤوليته أكبر، فهو يطّبب النفوس، ويؤثر في العقول، ويسهم في صياغة مواقف الناس وسلوكهم. ومن ثم، وَجَبَ أن يكون تأهيلُه موازياً لهذه المسؤولية المنوطة به ولابدّ لإعداد الإعلامي الإسلامي وتأهيله من أن يتكامل المنهج العلمي والعملي في الجوانب التالية:-
أ - الإعداد الأصولي والفكري، حيث يتعرّف الطالب على الأصول العقدية والفكرية والتشريعية للإسلام من خلال مجموعة مختارة من المقررات الشرعية والفكرية في القرآن الكريم، والتوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والثقافة الإسلامية.
ب - الإعداد اللغوي والتذوقي، فاللغة وسيلة الإعلامي، بل هي وعاء الفكر والثقافة، ولذلك لا بد له من أن يدرس بعض المقررات في اللغة العربية نحواً وصرفياً وفقهاً، وأن يسعى إلى التمكّن في فنون القول، والبيان والأسلوب، والتعبير، والتذوق الأدبي.
ج - الإعداد التخصصي والمهني، وهذا الإعداد لا بد أن يتكامل فيه الجانب النظري والجانب العملي التطبيقي حتى لا تصبح دراسة الإعلام دراسة نظرية بحتة. ولا بد من اكتساب الطالب للمهارات العملية والمهنية المطلوبة منه في واقع الممارسات الميدانية.
د - الإعداد الثقافي العام، وهذا يتطلب الإلمام بالواقع الذي يعيش فيه، من حيث قضاياه ومشكلاته، وأحداثه، وتياراته، كما يتطلب الإلمام ببعض المعارف والعلوم المُعنية له على فهم هذا الواقع وتحليله، وهي علوم وثيقة الصلة بالإعلام كعلم النفس والاجتماع، والعلوم السياسية والاقتصادية، واللغة الأجنبية.(/5)
ولا بد من التأكد هنا على أن من مستلزمات هذا الإعداد الصارم للإعلاميين الإسلاميين، أن يخضع الطلاب الذين يقبلون في أقسام الإعلام لشروطٍ موزونة سواء في المجال العلمي أو الأخلاقي. ولا بدّ أن يتوافر فيهم الحدّ الأدنى من الموهبة، والاستعداد النفسي. كذلك لا بد من التأكيد على أن يتوافر لهؤلاء الطلاب في المحيط الأكاديمي جوّ من العلاقة الحميمة بينهم وبين أساتذتهم، المبنية على الثقة والاحترام والتهذيب التربوي والتوجيه الأخلاقي عبر القدوة الصالحة التي يجدها الطلاب في أساتذتهم وموجهيهم. ويعد الجانب التربوي والأخلاقي ذا أهمية بالغة في مجال إعداد الإعلامي الإسلامي نظراً للصعوبات الجمّة والتحديات العديدة والمغريات المتنوعة التي تصادف الإعلامي الإسلامي في حياته العملية.
2- ميدان التأصيل والتنظير العلمي:
ما يزال الاهتمام بتأصيل قواعد الإعلام وأصوله وممارساته من وجهة النظر الإسلامية، محدوداً ومتناثراً. والمطلوب أن يتصاعد الاهتمام العلمي بالإعلام الإسلامي تأصيلاً وتنظيراً، وأن يركز على النوعية. وينطلقُ هذا الاهتمام من خلال إنشاء ودعم معاهد ومراكز البحوث الإعلامية، التي تهتم بالإعلام الإسلامي، واستقطاب الباحثين والدارسين الذين يتميزون بالإخلاص والوعي الإسلامي، والخلفيَّة الشرعية، والاستيعاب العلمي للتخصص الإعلامي، إلى جانب تمتعهم بالمنهجية في التفكير، والتمكن من أساليب البحث العلمي ووسائله.
ولعل من الأهمية بمكان أن تسير هذه الجهود العلمية التأصيلية وفق خطة مدروسة وتصّور سليم للأولويات، وأن تعتمد على أسلوب فرق العمل الجماعية بدلاً من الأعمال والاجتهادات الفردية المحدودة. ولا بد من أن تتوافر لهذا العمل التأصيلي العلمي إمكانية بشرية ومادية ملائمة، كما لا بد من توافر قنوات علمية تُسهم في تحريكه وبلورته وانضباطه كالندوات العلمية، والحلقات الدراسية، والمشايع البحثية، والمؤتمرات واللقاءات، التي تتلاقح فيها الأفكار، ويتبادل فيها الباحثون والدارسون الآراء، ويتناقشون فيها حول نتائج بحوثهم ومؤلفاتهم.
3- ميدان الإصلاح الواقعي :
والمقصود بهذا: الإسهام الإيجابي في إصلاح أوضاع المؤسسات الإعلامية القائمة في العالم الإسلامي، الرسمية منها وغير الرسمية، وتنقيتها من الشوائب وترشيد مسارها الإعلامي، سواء ببذل النصح والمشورة، أو دعم الأعمال التي تخدم الإعلام الإسلامي، أو المشاركة العلمية في تلك المؤسسات والهيئات في ميادينها القيادية والإنتاجية والتقويمية.
ويبدأ الإصلاح الواقعي بمحاولة إيجاد قنوات تواصل وتعاونٍ بين المهتمين بشؤون الدعوة والإرشاد والإعلام الإسلامي من جهة، وبين العاملين في المجال الإعلامي من جهةٍ أخرى، وذلك من أجل تضييق الفجوة بينهم. ولقد عانت الأمة من جرّاء انعزال العلماء وذوي الاتجاهات الإسلامية عن الوسائل الإعلامية، وعدم توثيق صلاتهم وعلاقاتهم بالعاملين في هذه الوسائل. وإنَّ السعي من أجل تنظيف الإعلام من الانحرافات والتشوّهات هدف نبيل ويحتاج إلى تحمل وصبر واقعي للظروف التي يعيش فيها الإعلام. وإنَّ انتهاج أسلوب التدرج في الإصلاح ضرورة لازمة في ضوء معرفتنا أنَّ كثيرًا من المفاسد والانحرافات التي تحيط بوسائل الإعلام قد استغرق نشرُها وتكريسها زمناً ممتداً، وإصلاحها أو تخليص الإعلام منها يحتاج إلى زمن ممتد أيضاً، وما أسهل الهدم وما أصعب البناء !!
ولا أعتقد أنَّ من الإيجابية في شيء أن ننساق وراء الدعوة إلى عدم الاستجابة لضغط الواقع في المطالبة بإنتاج البدائل الإسلامية، والغياب عن الساحة الإعلامية، بدعوى انتظار نضوج الرؤية النظرية للإعلام الإسلامي، أو بدعوى أن الإنتاج الإعلامي الإسلامي والمشاركة المحدودة في وسائل الإعلام القائمة لن تجد نفعاً خضم التيار الجارف، وأنها ستكون صرخة هائمة في وادٍ سحيق. إن هذا الاتجاه السلبي- في نظري- لن يحقق ما يصبو إليه المخلصون للإعلام الإسلامي. والجهود الصغيرة المتواضعة عندما تجتمع وتتراكم وتتواصل، لا شك أنها ستثمر -بإذن الله تعالى- ثمرات يانعة تفيد الناس وتبقى في المجتمع: ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ ) ( إبراهيم : 24-25).
4- ميدان الإنتاج العملي المتميز:(/6)
إنّ صناعة البدائل الإسلامية في مجال الإعلام بمختلف فنونه وضروبه وألوانه، تحتاج إلى المبادرة إلى إنشاء مؤسسات وشركات إسلامية للإنتاج والتوزيع الإعلامي في مختلف المجالات، من طباعة، وصحافة، ونشر، وتلفاز، وفيديو، وتسجيلات صوتية، وشرائح مصورة، وأفلام سينمائية وغيرها. وإنشاء مثل هذه المؤسسات يتطلب طاقات بشرية عديدة، ويتطلب تكاليف مادية ومالية باهظة. ولكن الاستثمار في هذا النوع من الإنتاج سيحقق مكاسب معنوية ومادية لا نظير لها.
ولكن ينبغي التنبيه إلى أهمية أن يتولّى مثل هذا الإنتاج العملي الإسلامي المميّز طاقات ذات إخلاص وتقوى، وأن يستعان فيه بأهل الخبرة والمعرفة وان تكون الأعمال المنتجة، متقنةً من حيث جوانبها الفكرية والفنية، حتى لا تشوّه الإنتاج الإسلامي البديل وتعطي صورةً سيئة عنه. ولذلك لا ينبغي الاستعجال في هذا الجانب إلاّ بعد استكمال العدّة : تصوراً ومضموناً، وتوافر العناصر البشرية: إخلاصاً وتمثلاً، وإتقان العمل فنياً وحرفياً.
إن صياغة الإعلام- نظرياً وتطبيقياً- صياغة إسلامية، ليست مشروعاً سهلاً سريع التنفيذ. بل هو مشروع عملاق يمثل صورة من صورة التحدي الحضاري الشامل الذي تواجهه الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها. وإن توافر الجو السياسي والاجتماعي الملائم، والدعم المعنوي والمادي المناسب لتنفيذ مثل هذا المشروع العملاق، يُعدُّ ركيزةً أساسية للانطلاق نحو تحقيقه في واقع الأمة الإسلامية.. فالنشاط الإعلامي مرتبط دائماً بالبيئة السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها، ويتأثر بها، سلباً وإيجاباً.
ولكن لا ينبغي أن يصيبنا اليأس أو الإحباط بسبب ضخامة التكاليف المعنوية والمادية، بل ينبغي أن يكون ذلك دافعاً قوياً لنا لنروّي الأمل المتفتح في قلوبنا وواقعنا بماء الإخلاص، والعزيمة الصادقة، والتخطيط المدروس، والعمل الجادّ، والسعي الدؤوب المتواصل حتى يثمر الأمل ويتحقق الحلم. وقد يكون من المناسب أن نلقي نظرة على واقع الإعلام العالمي والإعلام العربي المعاصر، والمأمول الذي نتطلع إليه حتى يؤدي الإعلام العربي الإسلامي دوره ويبلغ رسالته إلى الإنسان(/7)
البراء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1]، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[آل عمران:100-101].
أيها الإخوة المؤمنون يحذرنا الله عز وجل من أعدائنا اللدودين المتربصين بنا بشرورهم: اليهود والنصارى ويحذرنا من أن نقع في شباكهم ومخططاتهم وذلك بطاعتهم والتلقي عنهم، واتباعهم في مناهجهم وأوضاعهم ومحاكاتهم في عاداتهم وتقاليدهم، والسير خلفهم في كل شيء، وما يفعل ذلك مؤمن صادق الإيمان أبداً لأن اتباع اليهود والنصارى وطاعتهم يدل على الضعف والخور والهزيمة النفسية ، كما يدل على الشك وعدم اليقين في أن دين الله هو الحق وأن القرآن حق وأن الرسول حق. إن هذا الشعور إذا تسرب إلى نفس فقد دب إليها دبيب الكفر الذي يحرص أهل الكتاب حرصاً شديداً على أن يوقعوا المسلمين في هذا الفخ ، إنهم يعملون بكل خبث ودهاء على إضلال المسلمين عن دينهم وعقيدتهم ، إن اليهود والنصارى يدركون جيداً بأن دين الإسلام هو حبل النجاة للمتمسكين به، وهو خط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة الإسلامية، ولهذا فإننا نرى اليهود والنصارى يبذلون جهوداً جبارة قديماً وحديثاً في سبيل تحويل الأمة عن دينها وشريعتها. إنهم يبذلون كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ومن قوة وعدة من أجل هدم مقومات الأمة الإسلامية ومحو وجودها وحين تستعصي عليهم الأمة وتقاومهم ، وحين يعجزون عن تحقيق أهدافهم بأنفسهم فإنهم يلجئون إلى تجنيد المنافقين المتظاهرين بالإسلام وهم أعداؤه المتربصين به في صورة أصدقاء ـ قاتلهم الله أنى يؤفكون ـ هؤلاء المنافقون يجندهم اليهود والنصارى لينخروا في جسم الأمة الإسلامية يهدمون من الداخل، يهدمون العقيدة ويخربون الشريعة ويشيعون الانحلال في مجتمعات المسلمين، يزينون لنا الباطل ويسوقون أفكار اليهود والنصارى في ديار الإسلام ويعملون على تنفيذ أوامرهم وفرض مناهجهم.
إن اليهود والنصارى قد وجدوا في المنافقين المتظاهرين بالإسلام زوراً وبهتاناً بغيتهم وضالتهم المنشودة، إنهم يحركونهم من الخلف ويدفعون بهم دفعاً لتحقيق أهدافهم وغاياتهم الشريرة وإخراج المسلمين وإيقاعهم في الكفر والضلال.
لقد قامت رموز في عالم العروبة والإسلام صنعها اليهود تحط من شأن الدين وتطعن فيه وتهون من قيمته ومكانته في النفوس وتجفف منابعه بل ووجد من يتطاول على الله عز وجل وعلى رسوله وعلى القرآن والشريعة ، ويفتح باب الارتداد عن الإسلام عن الإسلام على مصراعيه بحجة الحرية حتى قال القائل:
يقاد للسجن إن سب المليك وإن سب الإله فإن الناس أحرارُ
ووجد في ديار المسلمين من يدعوا إلى الإباحية الجنسية وإقامة مراكز ومؤسسات وأحزاب وتنظيمات تروج للفواحش والمنكرات وتدعوا إلى الفجور من التبرج والاختلاط وإلى الزنا واللواط وإلى الخمر والمخدرات تحت مسميات وهمية من تحرير المرأة وإنصافها ومساواتها. إنه تدمير أخلاقي للأمة المسلمة وهذا هو هدف من أهداف أهل الكتاب إنهم يسعون إلى تحطيم كيان الفرد والأسرة والمجتمع وذلك بتحطيم أخلاقه وتدمير ونسف الفضائل والقيم التي يتمتع بها المسلمون، إنهم يسيرون على هذا النهج منذ قرنين من الزمن مستخدمين المنافقين ممن يتظاهرون بالإسلام لتنفيذ أهداف وغايات الكافرين.(/1)
ولهذا يحذر الله عز وجل المؤمنين تحذيراً حاسماً ويناديهم بنداء الإيمان قائلاً لهم: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ?[ آل عمران:100]، إن أعز شيء وأغلى شيء وأعظم شيء لدى المسلم هو إيمانه بربه وخالقه واتباعه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته إلى الصراط المستقيم، وإن أخشى ما يخشاه المؤمن أن يفقد هذا الإيمان وأن ينتكس إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ولهذا فإن المؤمنين الصادقين الذين تذوقوا حلاوة الإيمان يتضرعون إلى ربهم وخالقهم في أن يثبتهم على دينه حتى يلقوه وهو راض عنهم فهم يقولون كما أخبر الله عنهم: ? رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ?[ آل عمران:8].
ويقولون كما كان رسولهم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ".
وإن المؤمن الصادق إذا خُيُِّرَ بين القتل والكفر فإنه يفضل القتل والحرق بالنار ولا يتخلى لحظة واحدة عن دينه كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
وعجيب بل وغريب أن يتخلى مسلم عن دينه وكتاب الله بين يديه غضاً طرياً وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظة معلومة وطريقته مرسومة وأعلام الهداية مشروعة مرفوعة ولهذا يقول الله سبحانه: ? وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ...?[آل عمران:8] ، ثم قال: ?... وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[ آل عمران:101].
نعم أيها المؤمنون إنه لا نجاة لنا ولا عزة ولا نصر ولا سعادة ولا عصمة إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله جعل عصمة هذه الأمة بتمسكها بالكتاب والسنة إن تمسكت بها لا تضل ولا تسقط ولا تشقى ولو كادها أهل الأرض جميعاً وحين تعرض عن كتاب الله وسنة نبيه فإنها تسقط وتذل وتخزى ولو دعمها أهل الأرض أجمعون.
إن اليهود والنصارى هم الأعداء والخصوم الذين يتربصون بنا الدوائر ويكيدون ويمكرون .. يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة الثابتة التي قررها الله وأخبرنا بها وحذرنا من نسيانها لأن طاعتهم والتلقي عنهم والأخذ بمناهجهم وطرقهم يفضي بنا إلى الردة والكفر والضلال.
إنه لا مانع من أن نأخذ عنهم ما برعوا فيه من الصناعات والعلوم الحياتية ونتبادل المنافع الدنيوية ، أما العقيدة والشريعة وأما الأخلاق والقيم والآداب وأما التصورات والمبادئ فلا يجوز أن نفرط في دين الله وشرعه قيد أنملة ولا يجوز أن نأخذ عنهم شيئاً من ذلك فإنهم عن الصراط لناكبون وفي الكفر واقعون وعن الآخرة غافلون، قال تعالى: ? ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ?[ الجاثية:18]. وقال: ? وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْك ?[ المائدة:49].
وحكم الله تعالى على من يطيع الكافرين ولو في شيء يسير بالردة والمروق عن الإسلام كما قال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ?[محمد:25-26].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله وثبتنا على الصراط المستقيم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: إن أمة الإسلام مستهدفة مستضعفة قد تكالب عليها أهل الكفر جميعهم ألا ترون ماذا يصنعون بالمسلمين ، أنظروا ماذا يفعلون بهم في فلسطين، وما فعلوا بهم في البلقان والقوقاز وفي الشيشان وما جاورها وفي كشمير وغيرها، ألا ترون أيها المسلمون إلى الغبن والظلم الواقع على المسلمين كيف يتعامل المجتمع الدولي الكافر ومؤسساته مع قضايا المسلمين ، يتدخلون في أندونيسيا بقواتهم لحماية السكان ، زعموا وقرروا منح تيمور الشرقية الاستقلال ولا يفعلون شيئاً في مناطق أخرى من العالم مثل كشمير وجزر مورو في الفلبين الذين يطالبون بالاستقلال منذ نصف قرن فلا يسمح لهم ولا يستجاب لمطالبهم لأنهم مسلمون.
ألا ترون إلى ما يصنع العسكريون في تركيا من تسلط وإلغاء للديمقراطية وتسلط على الحياة العامة ومحاربة الإسلام وخنق الصوت الإسلامي وتجفيف منابع الدين ثم لا ينكرون عليهم ولا يتكلمون في ذلك.(/2)
أما حين يتدخل الجيش الباكستاني لإنقاذ البلاد من السقوط والضياع والوقوع في فخهم وشباكهم، فإنهم يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور، يتباكون على الديمقراطية والحكم المدني ويهددون ويتوعدون وصدق الله القائل في كتابه الكريم: ? قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ?[آل عمران118].
أيها المسلمون هذه الأخطار المحدقة بالأمة الإسلامية كيف نواجهها ونتغلب عليها وكيف نحصن أنفسنا وأمتنا من الاختراق الفكري والعقائدي والأخلاقي والعسكري الذي يشنه علينا الأعداء بكل الوسائل:
يمكن أن ألخص لكم طريق الخلاص والنجاة في أمور:
أولها وأهمها: هو الإيمان العميق بالله عز وجل وبدينه ونبيه إيماناً يقوم على علم ويقين ودليل وبرهان ، فإذا تحقق الإيمان فأبشروا بالنصر والتمكين والسعة في الرزق والحياة الطيبة: ? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[الروم:47].
ثانياً: الاتصال الوثيق برب العالمين وعبادته تعالى حق عبادته بإقامة فرائضه واجتناب محارمه والتضرع إليه واللجوء إليه والاستعداد للقائه.
وثالثاً: التيقظ الدائم وعدم الغفلة واستشعار المخاطر ثم العمل الجاد المتواصل، بتوعية الأمة توعية شاملة وبناء الإيمان والأخلاق في النفوس وتحصين الأسر من الانحرافات والضلالات التي يروج لها الكافرون.وصيانة المجتمعات من الاختراق الفكري والعقائدي عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى ثم تحريض الأمة على مجاهدة أعدائها ومقاومتهم وبيان مكائدهم ومخططاتهم حتى لا تخدع الأمة من قبل أعدائها كما خدعت من قبل ، كفى خداعاً وسذاجة ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين".
إن الأعداء لا يريدون لنا خيراً وإنما يضمرون لنا الشر والحقد والحسد فلا بدَّ من إدراك الأمور على حقائقها ومعرفة الأشياء بطبائعها. فكونوا عباد الله حذرين متنبهين، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على ربكم فيومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ سنن الترمذي ، ج5 أبواب الدعوات عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسَلَّم.الحديث رقم: 3657 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج5 ص 126 رقم الحديث: 2091 .
ـ صحيح البخاري، ج4. باب: من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر الحديث رقم: 6542 و صحيح مسلم.ج1
كتاب الإيمان. باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.الحديث رقم15
ـ صحيح البخاري، ج4 باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.الحديث رقم: 5782 و صحيح مسلم.ج4 - باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. الحديث رقم: 2998(/3)
البراءة من البدع و أهلها
من أصول أهل السنّة و الجماعة
الدكتور أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد :
فإن الولاء و البراء أصل أصيل من أصول الإسلام ، و دعامة من دعائمه ، فلا يستقيم إسلام المرء حتى يوالي في الله و يعادي في الله ؛ يوالي أهل الحق ، و يعادي أهل الباطل ، غير آبه بما يعترضه في سبيل ذلك من المثنيات و المثبطات .
و قد جعل أهل السنة و الجماعة الولاء و البراء قاعدة عقدية كبرى ، ( و مفهوم هذه القاعدة الشريفة لديهم هو : الحب و البغض في الله ، فهم يوالون أولياء الرحمن ، و يعادون أولياء الشيطان ، كلّ بحسب ما فيه من الخير و الشر ... و من أولى مقتضياتها التي يثاب فاعلها و يعاقب تاركها البراءة من أهل البدع و الأهواء ) .
[ هجر المبتدع ، للدكتور بكر أبو زيد ، ص : 18،19 ] .
و يلزم من الولاء الحب في الله ، كما يلزم من البراء البغض في الله تعالى .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( المراد من قول لا إله إلا الله ، مع معرفتها بالقلب محبتها و محبة أهلها ، و بغض من خالفها و معاداته ) .
[ تفسير كلمة التوحيد ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ( ضمن مجموعة المؤلفات الكاملة ) : 1/363 ] .
و حقيقة الحب في الله كما قال يحيى بن معاذ : ( أن لا يزيد بالبر و لا ينقص بالجفاء ) .
[ فتح الباري ، للحافظ ابن حجر : 1/62 ] .
و إذا كانت الأشياء تتميز بضدها فإن حقيقة البراء و البغض في الله أن لا يزيد بالجفاء ، و لا ينقص بالبر .
يقول الدكتور إبراهيم الرحيلي وفقه الله : ( قررنا أن المحبّة في الله ينبغي أن يراد بها وجه الله ، فلا يحب الشخص إلا لله ، و أن لا تزيد تلك المحبّة ببر المحبوب للمحب ، و لا تنقص بجفائه إياه ، فإن البغض ينبغي أن يراد به وجه الله أيضاً ، و أن يكون لله لا لسبب آخر .... بل يبغض الشخص إمّا لكفره ، أو ابتداعه ، أو معصيته ، فإن هذه هي أسباب البغض في الله ) .
[ موقف أهل السنة و الجماعة من أهل الأهواء و البدع ، للدكتور إبراهيم الرحيلي ، ص : 462 ، و فيه الإحالة على الإحياء ، للغزالي : 2/166،167 ].
و هذه القاعدة الجليلة الشريفة ، مؤصلة عند أهل العلم بما دلّ عليها من الكتاب و السنّة و الأثر ، بل بانعقاد الإجماع على تقريرها ..
فمن الكتاب قوله تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) [ المجادلة : 22 ].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( من أطاع الرسول ، و وحد الله ، لا يجوز له موالاة من حاد الله و رسوله ، و لو كان أقرب قريب ، و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
[ ثلاثة الأصول ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ( ضمن مجموعة المؤلفات الكاملة ) : 1/183 ، و ثلاثة مسائل ، له أيضاً : 1/375 ].
و الآية دالة على قطع حبال المودة بين من آمن بالله و اليوم الآخر ، و بين من حادّ الله و رسوله ، و لو كان من أقرب المقرّبين ، و هذه الآية الكريمة تنزل على أهل البدع و الأهواء فيلزم منها بغضهم و معاداتهم ، و عدم التودد إليهم ، لأن في الابتداع محادّة لله و رسوله ، فما من بدعة إلا و هي مصادمة للشريعة ، مخالفة لها ، حتى قال السيوطي رحمه الله في تعريفها : ( البدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة ، أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان ) .
[ الأمر بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 24 ].
و هذا هو معنى المحادّة المذكورة في الآية الكريمة .
و قد فهم السلف الصالح منها ما فهمنا ، قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره : ( استدل مالك رحمه الله بهذه الآية على معاداة القدريّة ، و ترك مجالستهم . روى أشهب عن مالك : لا تجالس القدرية ، و عادهم في الله ، لقوله تعالى : ( لا تجد قوماً ) الآية ) .
[ الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 17/308 ].
أما في السنة ، فقد ورد غير حديث مدللاً على اقتضاء الشرع الحنيف الموالاة في الله ، و معاداة المبتدعة و أهل الأهواء و البراءة منهم ، فعن أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ » .(/1)
[ الحديث أخرجه البخاري ( كتاب الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ) و مسلم ( كتاب الإيمان ، باب خصال من اتصف بهن ، برقم 43 ) و أحمد في المسند ( 3/103، 174،230 ) و ابن حبان في صحيحه ( 285 ) و الترمذي ( 2624 ) و لبن ماجة ( 4033 ) و غيرهم ].
فإذا تقرر وجوب أن يكون الحب في الله و لله ، عُلم ضرورةً خطر محبة المبتدع أو موالاته ، لأنّها محبة لغير الله .
و لا يقول عاقل : إنّ حب المبتدع - على ما فيه من مخالفةٍ و محادّةٍ للشرع – حبٌّ لله تعالى !!
و عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ » .
[ الحديث رواه الترمذي ( 521 ) و قال : هذا حديث حسن ، و الحاكم ( 2/164 ) و صححه و وافقه الذهبي ، و للحديث طريق أخرى عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، بدون قوله ( أنكح لله ) رواه أبو داوود ( 4681 ) و الطبراني في المعجم الكبير 8/159،208 ، و البغوي في شرح السنّة ، و الخطيب في المشكاة .
و صحح الألباني الحديث بمجموع الطريقين . انظر : السلسلة الصحية (380) ].
قلتُ : فإن يكن المرء لا يستكمل الإيمان حتى يبغض في الله ، كان عليه أن يبغض الكفرة و المبتدعة و العصاة في الله ، لأن الكفر و الابتداع و المعصية أسباب البغض في الله ، كما تقدم .
و على ضوء ما دلت عليه نصوص الكتاب و السنة قرر أهل العلم أتباع السنّة تنزيل قاعدة ( الولاء و البراء ) على أهل البدع و الأهواء .
فقال الإمام الطحاوي رحمه الله : ( نسأل الله أن يثبتنا على الإيمان ، و يختم لنا به ، و يعصمنا من الأهواء المختلفة ، و الآراء المتفرقة ، و المذاهب الرديّة ، من الذين خالفوا السنّة و الجماعة ، و حالفوا الضلالة ، و نحن منهم براء ، و هم عندنا ضلال و أردياء ) .
[ شرح الطحاوية ، لابن أبي العز ، ص : 520 ]
و قال الإمام البغوي رحمه الله : ( و قد مضت الصحابة و التابعون ، و أتباعهم ، و علماء السنن على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع و مهاجرتهم ) .
[ شرح السنّة ، للبغوي : 1/227 ]
و قال الشاطبي : ( إن فرقة النجاة ، و هم أهل السنة ، مأمورون بعداوة أهل البدع ، و التشريد بهم ، و التنكيل بمن انحاش إلى جهتهم ، و نحن مأمورون بمعاداتهم ، و هم مأمورون بموالاتنا و الرجوع إلى الجماعة ) .
[ الاعتصام ، للشاطبي : 1/120 ].
و قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني رحمه الله حكايةً عن أهل السنّة : ( و يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ، و لا يحبونهم ، و لا يصحبونهم ) .
[ عقيدة السلف أصحاب الحديث ، للصابوني ، ص : 118 ].
و وصفهم بأنهم ( يحابّون في الدين ، و يتباغضون فيه ، و يتقون الجدال في أصول الدين ، و الخصومات فيه ، و يجانبون أهل البدع و الضلالات ، و يعادون أصحاب البدع و الأهواء المرديات الفاضحات ) .
[ عقيدة السلف أصحاب الحديث ، للصابوني ، ص : 117 ].
و قد تحقق معنى البراءة من أهل الأهواء عند سلفنا الصالح فأعرضوا عنهم ، و أعلنوا البراءة منهم ، و أذاعوا بين الناس كراهيتهم و بغضهم .
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ( ما في الأرض قوم أبغض إليّ أن يجيئوني فيخاصموني من القدريّة في القدر ، و ما ذاك إلا أنّهم لا يعلمون قدر الله ، و أنّ الله عزّ وجل لا يُسأل عمّا يفعل و هم يُسألون ) .
[ رواه الآجري في الشريعة برقم 213 ].
و عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال في أهل القدر : ( أخبرهم أني بريء منهم ، و أنهم مني براء ) .
[ رواه البغوي في شرح السنّة ( 1/227 ) و روى نحوه عبد الله بن الإمام أحمد في شرح السنّة ( 2/420 ) و رواه الآجري في الشريعة ، ص : 205 ، و اللالكائي ( 2/588) و غيرهم ] .
و قال الفضيل بن عياض : ( الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف ، و لا يمكن أن يكون صاحب سنّة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة ( 2/456 ) و اللالكائي ( 1/138 ) و في كلام الفضيل تضمين لحديث ( الأرواح جنود مجنّدة ... ) المخرّج في صحيحي البخاري ( كتاب أحاديث الأنبياء ، باب الأرواح جنود مجندة ) و مسلم ( كتاب البر و الصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ) و الحديث رواه أحمد أيضاً و غيره ]
و قال رحمه الله أيضاً : ( من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمَله ، و أخرج نور الإسلام من قلبه ) .
[الإبانة الكبرى ، لابن بطة ( 440 ) و اللالكائي ( 263 ) و الحلية لأبي نعيم ( 8/103 ) و البربهاري ، ص : 138 و إسناده صحيح ]
و كان يقول : ( أحب أن يكون بيني و بين صاحب بدعةٍ حصن من حديد . آكل عند اليهودي و النصراني أحب إليّ من صاحب بدعة ) .
[ رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد : 2/638 ] .(/2)
و عن أوس بن عبد الله الربعي أنّه كان يقول : ( لأن يجاورني القردة و الخنازير في دار ، أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء ) .
[ رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد : 1/131 ، و ابن بطة في الإبانة الكبرى : 2/ 467 ].
و قال عبد الله بن عون : ( لم يكن قومٌ أبغض إلى محمّدٍ من قومٍ أحدثوا في هذا القدر ما أحدثوا ) ، يريد محمد بن سيرين .
[ الشريعة ، للآجري ، ص : 219 ].
و دُعي أيوب السختياني إلى غسل ميّت ، فخرج مع القوم حتى إذا كشف عن وجهه عرَفه ، فقال : ( أقبِلوا قِبَل صاحبكم ، فلست أغسله ، رأيته يماشي صاحب بدعة ) .
[ رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى : 2/ 467 ].
قلتُ : إن البراءة من أهل الأهواء و البدع ليست قاصرةً على اعتقادٍ قلبيٍ ، أو مقال باللسان ، بل هي منهج حياةٍ له ، معالمه و دلائله .
و من دلائل البراءة من القوم مخالفتهم ، فلا يكون المرء متبرّئاً بحق ما لم يخالف المتبرَّأ منه في نهجه ، و مسلكه .
و أعظم المخالفة للمبتدعة التمسك بالسنّة التي نبذوها ، و اتخذوها وراءهم ظِهريّاً ، قال العلامة البربهاري : ( و من عرف ما ترك أصحاب البدع من السنّة ، و ما فارقوا فيه فتمسك به ، فهو صاحب سنّة ، و صاحب جماعة ، و حقيق أن يتبع ، و أن يُعان ، و أن يحفظ ، و هو ممّن أوصى به رسول الله صلى الله عليه و سلّم ) .
[ شرح السنّة ، للبربهاري ، ص : 107 ].
و قد كان من مخالفة السلف الصالح للمبتدعة ترك مالا بأس به ، خوفاً مما به بأس ، و كانوا يتحرّزون عن العمل و إن لم يكن به بأس ، خوفاً ممّا به بأس .
[ انظر : الأمر بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 25 ].
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه : ( كنّا نضحي عن النساء و أهلينا ، فلمّا تباهى الناس بذلك تركناها ) .
[ انظر: الحوادث و البدع للطرطوشي ، ص : 25 ].
فانظر – رحمك الله – كيف تركوا الأضحية عن النساء و الأهلين – و هي سنّة على أقل الأقوال – لمّا أحدث الناس المباهاة بها .
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى : ( اقتحم الصحابة ترك السنّة حذراً ، أن يضع الناس الأمر على غير وجهه ) .
[ الحوادث و البدع للطرطوشي ، ص : 25 ].
و من دلائل البراءة من المبتدعة انتقاصهم و احتقارهم و التعرّض لهم بالإهانة و هتك الأستار ، و بيان ما يحذرهم الناس بسببه ، و عدم توقيرهم كي لا يغتر بهم العامة فينزلوهم منزلاً ليسوا أهلاً له .
لذلك كان أئمة السلف يحتقرون المبتدعة ، و يهينونهم ، و حكى الإمام الصابوني أنّ أهل السنة اتفقوا على القول بقهر أهل البدع و إذلالهم و إخزائهم و إبعادهم و إقصائهم و التباعد منهم و عن صحبتهم و عن مجادلتهم ، و التقرّب إلى الله ببغضهم و مهاجرتهم ) .
[ عقيدة السلف أصحاب الحديث ، للصابوني ، ص : 130 ].
و من علم وجه تحقير المبتدعة و عدم توقيرهم و عظم ما يستلزمه عدّه من الواجبات ، قال الإمام الشاطبي رحمه الله في تعظيم صاحب البدعة و المشي إليه : ( إن المشي إليه و التوقير له تعظيم له لأجل بدعته ، و قد علمنا أن الشرع يأمر بزجره و إهانته و إذلاله ، بما هو أشد من هذا ، كالضرب و القتل ، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام ، و إقبالاً على ما يضاده و ينافيه ، و الإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به و الإيمان بما ينافيه ، و أيضاً فإن توقي صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام :
إحداهما : التفات العامّة و الجهّال إلى ذلك التوقير ، فيعتقدون في المبتدع أنّه أفضل الناس ، و أن ما هو عليه خيرٌ ممّا هو عليه غيره ، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته ، دون اتباع أهل السنّة على سنّتهم .
و الثانية : أنّه إذا وُقّر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كلّ شيء ، و على كلٍّ حال ، فتحيا البدع ، و تموت السنن ، و هو هدم الإسلام ) .
[ الاعتصام ، للشاطبي : 1/114 ].
و لذلك قال إبراهيم بن ميسرة : ( من وقر صاحب بدعة ، فقد أعان على هدم الإسلام ) .
[ رواه اللالكائي ، برقم 273 . و نسبه أبو شامة في الباعث ، ص : 17 ، و السيوطي في الأمر بالاتباع ، ص: 18 إلى محمد بن أسلم ، و الشاطبي في الاعتصام : 1/113 إلى هشام بن عروة ، و رواه الذهبي في الميزان مرفوعاً عن ابن عبّاس بإسناد فيه بهلول بن عبيد الكندي الكوفي ، و هو ضعيفٌ ذاهب الحديث ، راجع الميزان : 1/355 ].
و قال سفيان الثوري رحمه الله : ( من سمع مبتدعاً لم ينفعه الله بما سمع ، و من صافحه فقد نقض الإسلام عروةً عروةً ).
[ الأمر بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 19 ].
و من هذا المنطلق قال طاووس لمّّا رأى مَعبد الجهني يطوف بالبيت : ( هذا معبد فأهينوه ) .
[ رواه اللالكائي : 1/114 ] .
فلا توقير ، و لا مصافحة ، بل يهان المبتدع ، و لو كان في أقدس الأماكن ، و لو تحت أستار الكعبة ، فما أعظم جريرته !!(/3)
و لو تبرّأ أهل السنة من المبتدعة و أعرضوا عن توقيرهم و احترامهم لخنس هؤلاء ، و صار حالهم كحال بني إسرائيل إذ ( ضربت عليهم الذلّة و المسكنة ) .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ( كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته ، و إن ظهر لبادئ الأمر في عزّه و جبروته ، فهم في أنفسهم أذلاء ، ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، و فيما بعد ذلك ؟! حتى تلبسوا بالسلاطين و لاذوا بأهل الأرض ، و من لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته ، و هرب بها عن مخالطة الجمهور ) ,
[ الاعتصام ، للشاطبي : 1/126 ].
و لمّا تبرأ الخيار من أهل البدع و دعاتها ضنوا عليهم بالسلام و المجالسة و التوقير ، و كلّ حقوق المسلم ، بل ذهبوا أبعد من ذلك فتبرأوا من علومهم ، حتى لم يكونوا يعلّمونهم أو يتعلّمون منهم خشية تسلل شبهاتهم و أهوائهم إلى من سواهم .
و خشية من هذه المفسدة ، و درءاً لها أعرض السلف عن علوم المبتدعة ، و لم يأتمنوهم على شيء من دين الله ، و هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله : ( إنّ الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ، و لا يصلى خلفهم ، و لا يؤخذ عنهم العلم ) .
[ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 28/205 ].
قال يوسف ابن أسباط : ( ما أبالي سألتُ صاحب بدعة عن ديني ، أو زنيت ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/459 ].
و عن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني : ( يا أبا بكر ! أسألك عن كلمة ) ؟ قال أيوب – و جعل يشير بإصبعه - : ( و لا نصف كلمة ، و لا نصف كلمة ).
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/447 ، و شرح السنّة ، للبغوي : 1/227 ].
و عن أسماء – جدة سعيد بن عامر – قالت : دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين فقالا : يا أبا بكر : نحدثك بحديث ؟ قال : ( لا ) .
قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟
قال : ( لا ، لتقومان عنّي أو لأقومنّ ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/446 ].
و لمّا كانت شبه القوم و ضلالاتهم و أقوالهم الفاسدة مبثوثة في كتبهم حتى تكاد تغص بها ، و تفيض من بطونها ، تبرّأ سلفنا من كتب أهل البدع ، فذمّوها و نفّروا منها .
قال ابن قدامة : ( كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع ، و النظر في كتبهم ) .
[ الآداب الشرعيّة ، لابن مفلح : 11/232 ].
و قال العلاّمة ابن القيّم : ( لا ضمان في تحريق الكتب المضلّة و إتلافها . قال محمد بن نصر المروزي : قلت لأحمد : استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة أترى أن أخرقه أو أحرقه ؟
قال : نعم ! فأحرقه ، و قد رأى النبي صلى الله عليه و سلّم بيد عمر كتاباً اكتتبه من التوراة ، و أعجبه موافقته للقرآن ، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلّم ، حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه ... و كلّ الكتب المتضمنة لمخالفة السنّة غير مأذون فيها ، بل مأذون في محقها و إتلافها ، و ما على الأمّة أضرّ منها ، و قد حرّق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لِما خافوا على الأمّة من الاختلاف ، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف و التفرّق بين الأمّة ؟! ) .
[ الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة ، لابن قيّم الجوزيّة ، ص : 275 ].
فانظر – رحمك الله – كيف أنّ البراءة من البدعة و المبتدعة استلزمت التبرؤ حتى من علومهم و كتبهم ، لما بث فيها من السموم و الضلال .
و لكي نكون منصفين في مذهبنا إلى البراءة من أهل الأهواء و البدع لا بد من ضبط ذلك بضابط على قدر من الأهميّة و هو :
وجوب العدل و الإنصاف في الحكم على المبتدعة
أمرنا الله تعالى بلزوم العدل مع الخصوم و المخالفين ، فقال : ( يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ].
و إذا كنّا عادلين في باب البراءة من المبتدعة و بغضهم و مباينتهم ، فلا بد أن يكون ذلك بحسب البدعة المتَلبَّس بها ، مع موالاتهم و محبتهم لما فيهم من الخير و البر من جهات أخرى ، هذا في حال كون البدعة غير مكفّرة ، و غير منافيةٍ لأصول أهل السنّة و الجماعة المتفق عليها ، فيكون ( الحب و البغض بحسب ما فيهم من خصال الخير و الشر ، فإنّ العبد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و الحب و البغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم للغالب ) .
[ شرح العقيدة الطحاويّة ، لابن أبي العز الحنفي ، ص : 434 ].(/4)
و هذا مقتضى العدل ، و قد قرره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في قوله : ( إذا اجتمع في الرجل الواحد خير و شر ، و فجور و طاعة و معصية ، سنة و بدعة ، استحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير ، و استحق من المعاداة بقدر ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام و الإهانة ، فيجتمع له من هذا و من هذا ، كاللص الفقير نقطع يده لسرقته ، و يُعطى من بيت المال ما يكفي حاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنّة و الجماعة ) .
[ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 28/209 ]
و أختم هذه الرسالة بما أدين الله تعالى به و هو قولي :
إنّ أهل البدع ليسوا على درجةٍ واحدةٍ ، ففيهم المبتدع الكافر ببدعته ، و فيهم الفاسق بتلبسه بها ، و فيهم الداعية إليها ، و غير الداعية ، و فيهم المعذور بجهله أو اجتهاده ، و غير المعذور ... شأنهم في ذلك شأن أهل الإيمان عند من قال إنّه يزيد بالطاعة و ينقص بالعصيان [ و هو مذهب جمهور أهل السنة خلافاً للحنفيّة . انظر : شرح الطحاويّة ، ص : 335 و ما بعدها ] ، فلا بد أن يُنزل كلّ إنسان منزلته ، و يُحلَّ محلَّه ، و يأخذ حقّه من المعاملة ولاءً و براءً .
و هذا هو الميزان السليم ، و الصراط القويم ، و القسطاس المستقيم ، و بالله التوفيق .(/5)
البراءة من الجاهلية
قال الله - تعالى -: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيمَ والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرءَاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبَدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قوْلَ إبراهيمَ لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من اللهِ من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولَّ فإن الله هو الغنيُّ الحميد} [الممتحنة: 4 ـ 6].
يصعب هذا الموقف على الكثير من الناس وهو أن يتبرأ الإنسان من قومه المتنكّبين عن طريق الله الذين نشأ بينهم وعاش معهم، وقد تكون البراءة من الأهل والأقارب وهذا موقف لا يستطيعه إلا الأشدّاء من الرجال. ولكن المتفحِِّص لحقيقة الأمور بدوافعها وخلفياتها يجدها سهلة عند أولئك القوم الذين رسخت في نفوسهم معاني العقيدة وتأصَّلت في ضمائرهم تشريعاتها ومتطلباتها فأصبحت الدنيا ومَن فيها من حولهم ليس لها قيمة وليس لها وزن أمام ما تتطلّبه العقيدة من أمور، خاصةً أن الذي أمر بهذه العقيدة وفرضها إنما هو خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان والمانح لجميع القوى الموجودة في الإنسان ومَن حوله.
إنها العقيدة التي أمر الله بها أنبياءه وأنزلها عليهم فعملوا على تربية المؤمنين عليها. فهذا عبد الله بن أُبَيّ حين تكلم بحق النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين من المسلمين رضوان الله عليهم أجمعين فقال ـ في جملة ما قال ـ: ".. لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذَل.. " ووصل الخبر إلى ابنه عبد الله بأن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يريد قتله لمقولته هذه فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنتَ لا بد فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبَرّ بوالده مني وإني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبَيّ يمشي بين الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.. ".
إنها كلمات سجّلتها سطور التاريخ في بناء العقيدة للرجال وفي إعطاء الولاء على أساسها والبراءة على أساسها وهذه هي مسيرة الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه الذين نظروا إلى قومهم وما فيهم من جاهلية تحيط بهم فنصحوا وبيّنوا وأقاموا الحجة وأظهروا البرهان... ولكنها الجاهلية بكبريائها وعنادها ومقاومتها لكل دعوة خير وكل دعوة حق. فالجاهلية هي الجاهلية إن كان في زمن الخليل إبراهيم أو كانت في زمن الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - أو كانت في أيّ زمانٍ ومكان. إنها تعمل على تعبيد العباد بعضهم لبعض وتصدهم بكل وسيلة عن أن يتوجهوا بعبادتهم لرب العباد. فهذه جاهلية واجبٌ على أتباع الأنبياء والمرسلين البراءة منها، البراءة من عقائدها، والبراءة من تشريعاتها ومبادئها والبراءة من أفكارها وفلسفاتها وألفاظها المعبِّرة عنها والعاملة على تقويتها ودعمها والتي تعتبر من أساسيات وجودها.
ولا نعني بالبراءة من الجاهلية بدايةً الانعزال الحِسّي عنها والانزواء جانباً، إلا في بعض المواقف والمواضع ـ وقد بيّنها أهل العلم ـ إذ القدوة هي حياة جميع الأنبياء، فقد كانوا دعاةً بين أقوامهم وبين أهلهم يوجِّهون إليهم النصح والإرشاد ويبيّنون لهم وجوب توحيد الألوهية وحقيقة الربوبيّة وخطورة الفساد الذي هم عليه في الاعتقاد والتشريع والعبادة ولكنهم مع ذلك كانوا دائماً في حالة مفاصلة عقائدية نفسية شعورية.
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم... إنها الكفر بهم والإيمان بالله. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستوفي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيحة العقيدة وآصرة الإيمان.
فأتباع الأنبياء في زماننا وخاصة الذين يَسعَوْن لتعبيد العباد لرب العباد بحاجة ماسّة للنظر والاعتبار بموقف الخليل إبراهيم - عليه السلام - وهو يوجه قومه ويُعلن البراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، ويكفر بما يؤمنون هم به من دون الله ثم يعلن لهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يتركوا ما هم عليه من الكفر والإلحاد ويعودوا لعبادة الله وحده.
إنها قمة التحدي للجاهلية بما نملك من إمكانيات وقوى وبما نملك من إيمان وقوة اعتقاد ولو كانت الجهة المقابلة: الكون بأسره.(/1)
فالذين يريدون الله واليوم الآخر ولا ينظرون إلى الدنيا إلا أنها جسر عبور للآخرة عليهم أن يتأسِّوا بهذا الرهط من الأنبياء والصالحين، وأن يوطِّنوا أنفسهم بما وطنوا هم أنفسهم عليه من تحملٍ لتبِعات العقيدة التي يحملونها بعد إعلانهم عنها بمفهومها الشامل، لأن الجاهلية لن تقف مكتوفة الأيدي عديمة الحركة. فها هي تجمع الحطب في زمن الخليل إبراهيم من أجل إجراقه. وها هي تتحرك في زمن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتأتمر لقتله، وهي في كل زمان ومكان تتحرك من أجل القضاء على الثُّلّة المؤمنة التي تدعو البشرية لعبادة الله وتحكيم شريعته والكفر بما سواه.
ولكنها مهما عظمت ومهما كبرت ومهما جمعت من عُدَدٍ من أجل القضاء على المؤمنين فهي لا تدري أنها تواجه القدرة الربانية التي لا تتساوى معها في شيء والتي تتدخل في اللحظات الحرجة لنصرة عباد الله كما حصل مع الخليل إبراهيم - عليه السلام -:
{قالوا حَرِّقوه وانصروا آلهتَكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} [الأنبياء: 68 ـ 70].
ومن أهم الإرشادات والتوجيهات في الآيات ما يلي:
1 ـ الجاهلية هي كل أمر حُكم فيه بغير ما أنزل الله وكل مجتمع ساد فيه غير حكم الله.
2 ـ البراءة من الجاهلية واجبة وهي عمل الأنبياء والصالحين وأتباعهم.
3 ـ على الدعاة العمل على تصحيح المفاهيم وتبيان فساد العقائد والمفاهيم الجاهلية أولاً.
4 ـ المجتمع الجاهلي لا يعني أن جميع أفراده على الجاهلية.
5 ـ الجاهلية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تبيان حقيقة أمرها وإظهار اعوجاجها.
6 ـ على الدعاة الصبر والثبات والثقة التامة بنصر الله مهما اشتدّت المِحَن وعَظُمَ التضييق والإيذاء(/2)
البرامج المعربة وصناعة نجوم الضياع
ماجد بن عبد الرحمن الفريان (*)
إن من أبرز مراكز التحدي التي تواجه الأمة بمكوناتها الحضارية، ما أتيح لها في هذه الأزمنة المتأخرة من تقنية البث الفضائي، وهو في حقيقته نعمة لو استغل في الخير، ولكنَّ نظرةً سريعة في تحركات هذه الفضائيات يتيح لنا معرفةً واضحةً لحقيقة الاتجاه الذي تسير فيه، وهو اتجاه يصطدم في جانب كبير منه مع توجهات الأمة، وقيمها، وثوابتها، ولو لم توقظ في ضميرك إلا خلية واحدة لاكتشفت أن كثيرًا مما يبث عبر الفضاء العربي إنما هو تأكيد للتفاهة، وتكريس للتبعية للغرب، وقد كنا نظن أن الغزو الثقافي سيأتي على يد غيرنا من أعدائنا الذين يتربصون بنا في الخارج، وإذا نحن نفاجأ -مع كل أسف- بما لم يكن في الحسبان، وهو أن التسابق في عالم الإفساد بما فيه إفساد القيم والأخلاق جاء من قنوات عربية صرفة!!، ولا أدل على ذلك من هذه الموجة العارمة من البرامج الغربية المعرّبة والتي تهدف كما يقولون إلى صناعة النجوم، وتنسب إلى تلفزيون الواقع، والتي لا تحتاج إلى إعداد، ولا تحضير، وإنما تعتمد اعتمادًا كليًّا على مخاطبة الغرائز، والعواطف، واستنهاض الفضول لدى المشاهد، وذلك من خلال تسليط البث على لحظات اختلاء محرم بين رجال ونساءٍ يجمعهم صفة التفاهة، وعدم البراءة، يقوم اجتماعهم من أوله إلى آخره على الفوضى الأخلاقية، والتحلل من روابط الإسلام، والقيم والعادات والتقاليد التي نشأت وتربت المجتمعات العربية عليها، ثم وضعوا أرقامًا للهواتف ليتصل بهم الشباب، والشابات ليصوتوا على أفضل نموذج من هؤلاء النجوم في عالم الضياع، وهذا أمر مهم جدًّا عند صاحب القناة لأنه يحقق له الهدف الآخر من هذه البرامج، وهو المال.
الأهداف من وراء هذه البرامج:
أول ما يجب أن نعرفه هو أن هذه البرامج لا علاقة لها من ناحية الأهداف لا بصناعة النجوم، ولا باكتشاف المواهب، ولا غير ذلك، وليس لها إلا هدفان رئيسان عند من يقوم بعرضها وتسويقها:
الهدف الأول: لا أجد في بيانه عبارة أبلغ، ولا أروع، ولا أخصر من عبارة القرآن، وهو: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، إن الإنسان لو أعمل ذرة واحدة من عقله لاكتشف أن الهدف الرئيسي من هذه البرامج هو إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وإرادة الميل لأمة سارت في منهجها على صراط مستقيم، وليس شيءٌ أدل على ذلك من مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب الذي حرصت عليه هذه القنوات، ثم تشجيعُهم على التفاعل البيني، وكسر الحواجز، ثم يضيفون على ذلك الملابس الفاتنة للفتيات، مع التشجيع وغض الطرف عن حالات الالتماس الصريح بين هؤلاء المختلطين، بالضم، والقبلات، والنظرات، والغمزات، والضحكات.. ثم النقل الفضائي الموجه على مدار الساعة، وهذه الأمور لا تدع مجالاً للشك في أن الأمر ما هو إلا إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا، وليس هناك أهداف مجردة، وإنما هو مشروع تقويضي لمكتسبات الأمة يمثل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعمَ، والشباب المشاهد الهدف.
الهدف الثاني: تحقيق المكاسب المالية الكبيرة، والسريعة بأعمال غير مكلفة دنيويًّا، وإن كانت تكلفهم كثيرًا عندما يقفون عند رب عظيم نهى عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وضاعف العقوبة على دعاة الضلال.
وأما كيف يحققون هذه المكاسب؟ فعن طريق فتح اعتماد خطوط الهاتف في كل دولة والحصول على الأرقام، وبعدها يتم اقتسام عوائد المكالمات بين فاتح اعتماد الخط وهو القناة، وبين مقدم الخط وهو شركة الاتصالات، وهكذا تفنن أصحاب هذه الفضائيات في الطريقة التي ينظفون بها جيوب الجمهور، ولا عزاء للمتصلين المغفلين والذين يدفعون فواتير هواتفهم لهذه القنوات.
والذي يدلك على صحة هذه الكلام الحرص المستميت من هذه القنوات أن توجد أفرادًا من كل الدول ليناصر التافهون من كل دولة صاحبهم وتضمن أكبر عدد ممكن من الاتصالات التي تعود عليها بالربح الوفير.(/1)
إن ما نشهده اليوم من الولادات المتتالية لأمثال هذه البرامج، في وقت تشهد الأمة فيه مواجهة تاريخية مع أعدائها، يعتبر دليلاً صارخًا على خيانةٍ جليةٍ من بعض القائمين على هذه الفضائيات، وما هي إلا طعنة غادرة، توجه للشعوب العربية من الخلف، وإذا كان اليهود يعبدون المال ويتاجرون في المحرمات دون اهتمام بالمتضررين ولو كانوا من أهلهم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر كما في الصحيحين أن في الأمة المحمدية من سيتشبه بأهل الكتاب في كل شيء، حتى ولو كان العقلاء يتنزهون منه، بل حتى ولو ترك الآدميون من أهل الكتاب بيوتهم العامرة، وقصورهم الفارهة، وسكنوا جحر ضب لوجد في أمة محمد من يحاكيهم في سكنى جحر الضب، بل قال صلى الله عليه وسلم في رواية الحاكم "وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه" وما هذه البرامج الهابطة إلا مصداقًا لما أخبر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهي محض تقليد مقيت للإعلام الغربي، والذي يشتكي منه عقلاؤهم ومفكروهم فكيف بأمة الفضيلة والعفاف.
مخاطر هذه البرامج:
أولاً: إن هذه الفضائيات غزت كثيرًا من البيوت، وهذه البرامج اكتسبت من المشاهدين من الجنسين شيئًا كبيرًا، فوجب التحذير منها، ذلك أنها مدار الحديث عند كثير من الشباب، وجمع غفير من الفتيات؛ بل إن الكثير من المعلمات والمديرات والمسؤولات يعانين من هذه الظاهرة المنتشرة بين الطالبات، وكل واحدة تروي القصص الكثيرة عن الطالبات، ولذا وجب التنبيه والتحذير.
ثانيًا : هذه البرامج تعتمد على أسلوب سحق الفضيلة والأخلاق الكريمة في نفوس الشباب والبنات، وتهدم المفاهيم الصحيحة عندهم، وتزيل حاجز النفرة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، وهي تختزن رسالة إعلامية موجهة بعناية، وهدفها الرئيس تنمية الاندماج بين الجنسين، وإشعار النشء أن لا إشكال في بناء العلاقات والصداقات بين الجنسين، وأن قضية تحسس الفتيات من الفتيان وطقوس الفصل بين الجنسين، والحدود في علاقاتهم هي أمور لا صحة لها، ومع كثرة مشاهدة الشباب والفتيات لهذه الرسالة الإعلامية الخطيرة يألفونها، ثم قليلاً قليلاً يعتاد المشاهدون على رؤية الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادوا العيش بنفس الطريقة التي تقدم لهم، وهم بهذه الطريقة السافلة يجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كل هذه القبل، والرقصات، والضم، والاختلاء الآثم والمشاهد الفضائحية على مرأى ومسمع من العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة .. ومع هذا يصوت الناس لهم ويشجعهونهم فما بالنا نحن لا نفعل مثلهم ولو سرًّا؟ لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية!?، وهكذا يسعون لتتفيه الشباب وتفسيقهم، والفتاة تتعلم أصول العهر والفجور بالمجان، وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تنحر كل فضيلة في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة إلا الشعارات الجوفاء، يقدم هذا وبمساعدة من بعض الآباء لمجتمعٍ يعلِّم بنياته منذ نعومة أظفارهن أن نظر الرجل إلى المرأة وخلوته بها حرام، ثم ترى هذه البنت المسكينة هذا السيل الجارف من الفساد !!
ثالثًا: تعتمد هذه البرامج على أسلوب التتفيه والتخدير لطاقاتٍ تستطيع بالإيمان أن تعمل الكثير، وتسعى لتغييب عقول بهدايتها تنفع مجتمعها الكثير، وأي جيل سيتخرج لنا في المستقبل إذا ربيناه على الليالي الحمراء، وعودناه على مسابقات الرقة، ونجومية التعري؟!!، كيف يراد لهذا الجيل أن يحرر الأقصى.. وأن يطرد الغزاة؟!!
إن هذه الفضائيات تربي شبابنا وفتياتنا ليكونوا قنواتٍ لعبور العدو، وأدواتٍ لخدمته، تريد أن تخرج تافهين يشتاقون لمن يمسك بخطامهم، لن يناصروا قضية، ولن يطلبوا حقًّا، ولن يحفظوا شرفًا ... سيتربى على مثل هذه البرامج حتمًا جيلٌ يسلم للعدو مفاتيح الحصون الأخيرة للإسلام ..ويرحب به في دياره وعند أهله وشرفه كما فعل أشياعهم من قبل!! جيل يدافع عن أمته بلبس الجلود، ومصاحبة العلوج، ويتترس بالكريمات والدهانات..ماذا ترجو منه؟!! ألا وا أسفا على الدين ..ووا أسفا على الرجولة إذا تركنا هذا العهر يدخل بيوتنا.(/2)
رابعًا: هذه البرامج تجعل هؤلاء النجوم قدوات يتأثر بها الشباب فتتخلخل المثل العليا عند أجيالنا، وهذا يحصل شئنا أم أبينا عند أبنائنا إذا شاهدوا قناة كاملة تنقل نقلاً مباشرًا لإقامة مختلطة لمجموعة من النساء وأشباه الرجال، وتنقل بالصوت والصورة سلوكهم الرخيص غير الهادف، وغير البريء، وأكلهم ونومهم وكل شيء في حياتهم، إلا في دورة المياه فتنقل صوتهم فقط، وهكذا كأنها في بنك مركزي تنتقل بين الغرف لتنقل تصرفاتهم، فإذا شاهد الإنسانُ الغرُّ هذه العناية بهؤلاء الأفراد سيظن أنهم جاؤوا من كوكب آخر، وأن لهم مزية تجعلهم يستحقون هذا، فيحاكونهم ويعجبون بهم، وهكذا ينشرون الفساد في المجتمعات، والشريط الإخباري أسفل الشاشة يعزز هذا الإفساد فهو يحمل رسائل غرام لا تقل مجونًا عما تحمله الكاميرا، وإذا كانت هذه البرامج تبث من أجل صنع النجوم؛ فمن حقنا أن نتساءل ما هذه النجومية التي يريدون؟ ما هي ميزة هؤلاء؟ هل حرروا بلدًا؟ أم اخترعوا برنامجًا يسهل معيشة الناس؟ أم اكتشفوا دواءً لمرض الإيدز أو السكر؟ أم هم علماء في الفلك أو الجيولوجيا؟ أم لهم ميزة في العلم والدعوة ؟ أم ماذا؟ ما هي نجوميتهم التي يسوَّق لها؟ هل يعقل أن تكون النجومية عند العرب والمسلمين محصورة في السخف وقلة الحياء؟ هل نحن في حاجة إلى زيادة نجوم الضياع؟ من حقنا أن نعرف! ومن حقنا أن نستنكر هذا التتفيه لعقول الشباب وهذا التسخيف لاهتماماتهم.
خامسًا: دعم بعض دوائر التوجيه في بعض البلدان العربية لمثل هذه البرامج لإشغال الشعوب عن قضاياها الحقيقية، شعوبٌ ومؤسسات تستنفر جهدها ووقتها ومالها.. لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر (بسالةً) في الصمود حتى آخر السباق! وتحتفل البلاد التي يقترب (نجومها) من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمة قائدًا ربانيًّا، أو فاتحًا عظيمًا!
مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكت عليه الأمة كما لم تبكِ سقوط بغداد!
سادسًا : أنها كما تفسد الشباب مفسدتها أيضًا بالغة على الفتيات، وتقدَّم شيءٌ من ذلك لكني أنقل للقارئ الكريم رسالة فتاة وجهتها لكاتبٍ غيور قال في عنوان مقاله أنها تخنث الشباب فأبلغته؛ أن الفتيات أشد ضررًا... تقول: إنا فتاة أبلغ السابعة عشرة من عمري، استمعت من زميلاتي في الثانوية عن برنامج يعرضون فيه مجموعة من الفتيات والشباب يجلسون معًا في مكان واحد ليل نهار, وقالت لي صديقتي: يا فلانة أنت دائمًا تقولين ما أعرف أكلم شابًا.. ما أعرف كيف أبدأ معه.. أشعر برهبة من إقامة علاقة مع أحدهم.. والآن يا صديقتي تابعي هذا البرنامج لكي تتعلمي منه فنون العلاقات الشبابية..! ركزي في هذا البرنامج جيدًا لمدة يومين فقط، وستكتشفين أن الرهبة والخوف والحياء الذي يتملكك من إقامة علاقة مع الشباب ما هي إلا رهبة التخلف.. وما حياؤك إلا عبارة عن عقدة نفسية..! انتظرت أن أخرج من المدرسة بفارغ الصبر في ذلك اليوم, ولما وصلت البيت جلست ليس لي شغل سوى مشاهدة ما يحصل على الهواء مباشرة .. (ووصفت ما لا يليق ذكره ).. وأصبحت بعد أيام فقط من متابعتي لهم على الهواء أشعر بأنني فعلاً فتاة متخلفة ومحرومة من الحياة الرومانسية المليئة بالحب ودفء المشاعر.. ثم أصبحت أتمنى في كل لحظة أن أكون مكان أولئك الفتيات لأحظى بالجلوس ساعات طوال مع المشارك الفلاني في هذا البرنامج الرائع"، وتبين لها الوضع بحمد الله بعدما قرأت مقال هذا الكاتب الغيور جزاه الله خيرًا (1).
فتاة أخرى في الثانية عشر من عمرها صرخت في وجه أبيها تريد الزواج !! صدم الأب من ذلك !! فما الذي دفعها إلى هذا الفعل؟؟
إنه هذا البرنامج الذي تتابعه. . . .لقد كانت هذه الفتاة إحدى ضحايا هذه البرامج الرذيلة..
ووالله إن الإنسان ليحزن مما يرى من تفاعل الناس مع هذه البرامج . أكل هذا يحصل من أحفاد الصحابة؟ وأبناء المؤمنين ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس »، وقالت: « لو رأى رسول الله من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد، كما منعت بنو إسرائيل نساءها». وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزنا كشفناه"، هذه هي مُثُل العفة والطهر والنقاء تُركت اليوم إلى غيرها، واستبدل شباب الإسلام وفتياته الذي هو أدني بالذي هو خير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مدافعة هذه الظاهرة وعلاجها :
يتساءل البعض وما هو الحل؟ وكيف نوقف هذا الغزو الجارف والذي يدخل بيوتنا دون استئذان؟ والعلاج نذكره في النقاط التالية:(/3)
أولاً: الوعي بهذه الظواهر المؤلمة، ونتائجها، وأخطارها المؤلمة على أمة الإسلام.
ثانيًا: القيام بالواجب الشرعي بإنكار هذه المنكرات في أنفسنا وفي بيوتنا ومع من حولنا، إنها مسؤولية الأب مع أولاده، والأخ مع إخوانه، والطالب مع زملائه، والجار مع جيرانه.
ثالثًا: تنقية بيوتنا ومنازلنا منها، والحذر من استدراج الشيطان لنا باسم الثقافة والوعي، أو الغفلة عن أولادنا بحجة أن التربية لا تتحقق بالمنع والحجز، وأن الأصلح لهم أن يعرفوا الخير من الشر، فلا نحن حميناهم من المفاسد، ولا فقهناهم بالخير والشر.
نعم فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته، لا بد أن نتقي الله فيمن تحت أيدينا، لا بد أن نعلم أنها أمانة عظيمة، تذكر يومًا تكون فيه في أمس الحاجة إلى مثقال ذرة من حسنة، فإذا بك تسأل عن أسباب فساد أبنائك وبناتك، يوم يتعلقون بك يوم القيامة ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا رب لقد أضاع الأمانة، يا رب كان سببًا في انحرافنا، يا رب كان سببًا في ضياعنا، وذلك كله بسبب ما جلبته لهم من وسائل ترفيه وتسلية محرمة، وأنت ـ يا أيها الأب ـ لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، فأقرب الناس لك هم خصماؤك، هم الذين يبحثون عن مثقال ذرة من حسنة ليأخذوها منك كي ينجوا من عذاب الله، فتلتفت يمينك فلا ترى إلا النار، وتلتفت شمالك فلا ترى إلا النار (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) نسأل الله العافية
وأنتم أيها الشباب والشابات، اتقوا الله -تبارك وتعالى- واعتصموا بكتابه وبسنة نبيه، واعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الأمة، وأن هدفكم في هذه الحياة أسمى مما يراد بكم، فأعيدوا النظر مرتين، وارجعوا البصر كرتين، وإياكم ثم إياكم أن يكون قدوتكم هؤلاء الذين ما لهم من خلاق، فقدوتنا جميعًا محمّد -صلى الله عليه وسلم-، والمرءُ يحشر مع من أحب، حشرنا الله وإياكم في زمرته وتحت لوائه.
رابعًا: إن هذه البرامج ليست إلا حلقة من سلسلة طويلة تستهدف تغريب مجتمعاتنا، وتوجه سهامها نحو ناشئتنا، مما يجعل مسؤولية التربية مسؤولية جسيمة، إنها لن تتحقق بمجرد أن نشعر بأنها مهمة، ولا بمجرد أن نتحدث عنها في مجالسنا، إن انفتاح مجتمعاتنا على هذا العالم بما فيه يجعل الأسرة المسلمة أمام تحديات جسام، فاستنساخ التجارب السابقة، أو تكرار ما فعله معنا آباؤنا لم يعد كافيًا، إننا بحاجة لأن نتعلم فنون التربية، وبحاجة لأن نتملك القدرة على إقناع أولادنا وعلى حوارهم والتأثير عليهم، وبحاجة لأن نمتلك القدرة على كسب قلوبهم وعقولهم.
وهذا يفرض علينا أن نقرأ ونسمع ونتحاور ونتباحث في أمور التربية وسنبقى مع ذلك نحتاج إلى المزيد.
خامسًا: أين دور مدارسنا؟ وأين رسالة معلمينا ومعلماتنا؟ إن ضخامة التحديات وتعاظم المخاطر يفرض علينا أن نتجاوز الوقوف عند لوم المدرسة على التقصير، ونتجاوز الحديث عن الدور الغائب للمعلمين والمعلمات لنشعر أن هذه المسؤولية مسؤوليتنا جميعًا، فالمعلمون إخواننا وأولادنا وجيرانا، والمعلمات لم يفدن إلينا من كوكب آخر، لنتجاوز مرحلة التلاوم إلى العمل الإيجابي وأن يأخذ بعضنا بيد بعض للنهوض بهذه المهمة.
سادسًا: لا بد من التفكير في برامج تواجه هذا العفن وتشغل أولادنا عن متابعة السوء، برامج إعلامية جادة، وبرامج ترفيهية محافظة، في الحي، والمدرسة، ووسائل الإعلام، ولن تنجح هذه البدائل إن كانت باهتة لا تغري الناشئة بمتابعتها والتفاعل معها.
وهي مهمة يشترك فيها التربويون، والإعلاميون، وأصحاب المال، وأصحاب القرار.
سابعًا: لا بد من تطوير الخطاب الدعوي الموجه للناشئة وتنويع أدواته والسعي لتجاوز النمطية والأداء الممل، ونحيي هنا ما قام به أحد الدعاة من تقديم برنامج دعوي منافس لهذه البرامج؛ فنسأل الله له ولمن سار على هذا الطريق السداد والتوفيق.
ثامنًا: إن هذا يؤكد خطورة الإعلام في تشكيل مستقبل الأمة وتوجيه ناشئتها، وهذا يفرض علينا أن نسعى جميعًا لتنقية إعلامنا وجعله معبرًا عن هوية الأمة ورسالتها، كما يفرض علينا البحث عن حلول عملية لتقليل أثر هذا الغزو الذي يخترق أسوار بيوتنا، وإن النتائج المرة لهذا العفن والإفساد تبرر اتخاذ قرارات جريئة في حجب هذه البرامج السيئة، وفي تنادي رجال القرار في الأمة لتدارس هذه الأزمات بجدية.
كما أنها تفرض علينا السعي الجاد لتعزيز دور الإعلام الإسلامي النقي، من خلال دعم القنوات القائمة، والسعي لإنتاج المزيد.
أيليق بهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس أن تملك عشرات القنوات التافهة، بينما القنوات الجادة التي تعبر عن رسالتها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟!(/4)
إننا نملك قدرات في الإنتاج المرئي والمقروء وفي الإخراج والكتابة وفي التقنية والأدوات، وأموالاً هائلة، أفلا يمكن توظيف جزء من هذه الإمكانات لإنتاج ما يربي أولادنا وناشئتنا؟ أفلا يمكن توظيف جزء من الأموال التي تهدر في الترفيه والسياحة، وفي الترف والتباهي؟ أفلا يمكن توظيف جزء من ذلك في خدمة قضايا الأمة الجادة؟!
عسى أن يكون ذلك قريبًا.
ستار أكاديمي .. وجحر الضب
--------------------------
(*) معيد في قسم الفقه (كلية الشريعة بالرياض).
(1) هو محمد المليفي في صحيفة السياسة الكويتية
المصدر : الإسلام اليوم(/5)
البراهين
على ألا بدعة حسنة في الدين
والرد على شبه المخالفين
جمع وإعداد/أبي معاذ السلفي
sasb@ayna.com
المقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد(، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه لا يخفى على متمسك بالسنة أن من أهم ما دعا إليه الرسول ( بعد التوحيد التمسك بالسنة ومحاربة البدعة، ومن الأدلة على ذلك تحذير الرسول ( من البدع في خطبة الحاجة التي كان يبدأ بها خطبه عليه الصلاة والسلام، وهي التي بدأت بها مقدمتي لهذه الرسالة والحمد لله.
ورغم ذلك كله فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت فيها وللأسف في مجال العقيدة والعبادات والمعاملات المختلفة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع اعتقاد الكثير أن البدع تنقسم إلى قسمين!! بدع سيئة وبدع حسنة!!
وقد واجه كثير من أهل العلم جزاهم الله خيرا تلك البدع فحذروا منها في خطبهم وكتبهم بل ألفوا كتب خاصة في التحذير من البدع عموماً، ومن بعض البدع خصوصا.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من بعض تلك الكتب في هذه الرسالة والتي رأيت من المفيد أن أجمعها حتى يسهل مراجعتها، وحرصت قدر الإمكان أن تكون سهلة العبارة، وسميت هذه الرسالة بـ "البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين".
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله أن ينفعني بهذه الرسالة؛ ومن يطلع عليها، كما أسأله أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم؛ موافقة لهدي نبينا محمد(.
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة: قد عزوت بعض الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأساسية بواسطة بعض المراجع، وذلك بسبب عدم توفر تلك المراجع الأصلية عندي أثناء جمع مادة هذه الرسالة، ورأيت أنه من الأمانة العلمية أن أبقيها كما هي.
مدخل:
معنى البدعة
(قال الإمام الطرطوشي- رحمه الله - في "الحوادث والبدع" (ص40):
"اصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غيرِ أصلٍ سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } ]البقرة: 117[، وقوله: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } ]الأحقاف:9[؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
أما تعريف البدعة شرعا فهي:
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
كذا اختاره الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/51)، وهو من أجمع تعاريف "البدعة" وأشملها)(1).
وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة "الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية، وسيأتي زيادة بيان لذلك فيما بعد إن شاء الله.
الفصل الأول:
البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن
إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!
وهاك البيان على وجه التفصيل:
(أولاً: إن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها، أن الإِسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ "السمع والطاعة" وهذا أمر أدلته ظاهرة)(2).
(يقول الله تعالى ممتناً على عباده: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } ]المائدة:3[.
فهذه الآية الكريمة تدل على تمامِ الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق الذين أنزل الله قوله فيهم: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ]الذاريات:56[.
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (2/19):
"هذه أ كبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أ كمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليِه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاَ ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أنَّ الشريعة لم تكف، ولم تكتمل!، فاحتاجت إلى إحداثه وابتداعه!!
__________
(1) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي - حفظه الله - (23 –24) بتصرف.
(2) البدعة أثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي - حفظه الله - (ص7) بتصرف.(/1)
وهذا ما فهمه تماما أصحاب النبي (والأئمة من بعدهم؛ فقد صح عن ابن مسعود (أنه قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة" (1).
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان (انه قال:"يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا".
وخلاصة القول:"إن المستحسِن للبدعِ يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد،
فلا يكون لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } معنى يعتبر به عندهم" (2).
"فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال الإمام الشوكاني في "القول المفيد" (ص38) مناقشاً بعض المبتدعين في شيء من آرائهم:"فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه ( فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟!
إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم (!) وهذا فيه رد للقرآن!
وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين ؟!
وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي،وترغم به آنافهم،وتدحض به حججهم".
إذ " كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية؛ فهو فضلة، وزيادة، وبدعة" (3) (4).
ثانياً:(إنَّ النبي (كان لزاما عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[ ولقد فعل ( وإلا فما بلغ رسالته - وحاشاه - فما أنتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة) (5).
وقد أشار إلى ذلك رسول الله (بقوله: { إنه لم يكن نبي قبلي إلاَ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } رواه مسلم.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير"(1647)بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري ( قال: قال رسول الله (: { ما بقي شيء يقّرب من الجنة ويباعد من النار؛ إلا وقد بين لكم } .
وقال أيضاً (: { قد تركتكم على البيضاء،ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } رواه ابن ماجة (6).
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"من حدثك أن النبي (كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } ]المائدة:67[" رواه البخاري مسلم.
ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي (:"إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟
قال: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، وأن لا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وقال ابن الماجِشون: سمعت مالكا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدا (خان الرسالة؛ لأن الله يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فما لم يكن يومئذ دينا؛ فلا يكون اليوم دينا"(7).
ثالثاً: إنَّ التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر، (لأن الله الذي وضع الشرائع، ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندا لله، حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف باباً ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع)(8)قال الله عز وجل: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } ]الأعراف:3[.
وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } ]الشورى:21[.
وقال عز وجل: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ]الأنعام:153[.
__________
(1) واه اللالكائي في "السنة"(1/96) والمروزي في "السنة"(ص28) وابن وضاح (ص43) وغيرهم وانظر "البدعة وأثرها السيء" لسليم الهلالي فقد توسع في تخريجه وبيان صحته (ص23- 24).
(2) الاعتصام" (1/147).
(3) سير أعلام النبلاء"(18/509) .
(4) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص17-21) بتصرف.
(5) البدعة أثرها السيئ" للشيخ سليم الهلالي (ص13-14) بتصرف.
(6) صححه الإمام الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن ابن ماجة" (1/32).
(7) الاعتصام" للشاطبي (1/64-65).
(8) البدعة وأثرها السيء في الأمة" لسليم الهلالي (ص16) بتصرف يسير.(/2)
قال الإمام مجاهد- رحمه الله - وهو من كبار التابعين في تفسير قول الله تعالى: { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } :"البدع والشبهات"(1).
وقال: { من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
وقال رسول الله (: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(والرسول (وهو من هو معرفة وحكمة وعلما لم يكن يحكم باستحسانه ويشرع بنفسه؛ قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه } ]النساء:105[،
وقال الله عز وجل: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[؛ وقال:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } ]النجم:3- 4[)(2).
وقال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي... } ]الأعراف:203[.
وقال تعالى: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ]الأنعام: 106[.
وقد ذم رسول الله (قوما يفعلون أموراً لم يأمرهم بها الله ولم يحثهم عليها رسول الله (ففي "صحيح مسلم" عن عبدالله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: { ما من نبي بعثه الله في أمة قبل، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.ثم إِنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن،ومن جاهدهم بِقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } .
(فمن ابتدع عبادة من عنده - كائنا من كان -؛ فهي ضلالة ترد عليه؛ لأن الله وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
لذا؛ فإن صحة الاستدلال بالقواعد العلمية تقتضي أن نقول كما قال العلامة ابن القيم في كتابه العجاب "إعلام الموقعين" (1/344):
"ومعلوم أ نه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمرِ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة (3)حتى يقوم دليل على النهي".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى " (31/35):
"باب العبادات والديانات و التقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة؛ إلا بدليل شرعي".
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (4/401) مناقشاً مسألة إهداء ثواب
القراءة للموتى، حيث جزم بعدم وصولها،معللاً سبب المنع:"إنه ليس من عملهم، ولا كسبهم،
ولهذا لم يندب إليه رسول الله (أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء،
ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً؛ لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" وعلى هذا جرى السلَف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين)(4):
(فعن علي بن أبي طالب (قال:"لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخفأولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله (يمسح على ظاهر خفيه"رواه أبو داود(5) .
وقال عمر بن الخطاب (لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله (يقبلك؛ ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
فقالت رضي الله عنها:"أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي (فلا يأمرنا به،
أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266) وغيرهما بسند حسن عن نافع أن رجلا عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله! قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله ( علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
فهذه أحاديث نبوية وآثار سلفية من صحابة كرام، تبين المنهج الصحيح في تلَقي الشرع،
وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه كالغزالي في "المنخول" (ص374)، والمحلي في "جمع الجوامع-2/395 بحاشيته": "من استحسن فقد شرع ") (6).
__________
(1) :أخرجه البيهقي في "المدخل" والدارمي وغيرهما كما في "علم أصول البدع" للحلبي (ص40).
(2) :"شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي (ص24).
(3) هو ما يعبر عنه بعض الفقهاء: "الأصل في الأشياء الإباحة ".
(4) :"علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص70-73) بتصرف.
(5) :وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/160) والألباني في "صحيح أبي داود" (1/53).
(6) علم أصول البدع" للحلبي (ص119-121) بتصرف.(/3)
رابعاً: إنَّ الابتداع (اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في أتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى قول الله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } ص:26[.
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك.
وقال: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } ]الكهف:28[ فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر؛ واتباع الهوى، وقال: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه }
]القصص:50[)(1).
وقال الله عز وجل: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ
لا يَعْلَمُونَ } ]الجاثية:18[.
وعن عبد الله بن مسعود ٍ (قال:"خطَّ رسول الله (لنا خطا، ثم قال: { هذا
سبيل الله } ، ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: { هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إِليه } وقرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } " رواه احمد والحاكم(2).
وقال عبدالله بن مسعود (:"إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر" أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/96).
خامساً: إنَّ الإخلاص لا يكفي في العمل حتى يكون متقبلاً لأن (دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل)(3).
فشروط العمل الصالح المتقبل هي: أولاً: الإخلاص.
وثانياً: متابعة الرسول (.
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -:"إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة"(4).
وقال الإمام ابن كثير- رحمه الله - في "تفسيره"(1/572) عند تفسير قوله تعالى: { وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } ]النساء:125[:( { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد... الخ).
والأدلة على هذين الشرطين كثيرة: فمن أدلة وجوب إخلاص العبادة لله قوله تعالى:
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } ]البينة:5[.
وجاء رجل إلى النبي (فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟.
فقال رسول الله (: { لا شيء له } فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله (:
{ لا شيء له } ثم قال: { إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان له خالصاً،وابتغي به وجهه } رواه النسائي (5).
ومن أدلة وجوب متابعة الرسول (:قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ]آل عمران:31[.
وقال تعالى: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ]الأعراف:158[.
وروى البخاري ومسلم عن انس (انه قال:جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ( يسألون عن عبادة النبي (فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي (؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (فقال: { أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } .
__________
(1) :"مختصر كتاب الإعتصام" للشاطبي؛ اختصره علوي السقاف (18- 19).
(2) :وحسن إسناده الألباني في "ظلال الجنة " (1/13) وذكر ان الحاكم قال عنه: "صحيح الإسناد "ووافقه الذهبي.
(3) :"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/189).
(4) :رواه ابونعيم في "الحلية "(8/95) نقلاً من "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص61).
(5) صححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/384).(/4)
وقد صح عن معاوية (أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس ("إنه لا يستلم هذان الركنان"، فقال معاوية: "ليس شيءٌ من البيت مهجوراً" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد:فقال ابن عباس رضي الله عنهما: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ } فقال معاوية (:"صدقت".
(ولا أدل على ذلك من قصة عبدالله بن مسعود (لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم (:"فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم (متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ".
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال:" وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" رواه الدارمي في "سننه" (1/68-69) وأبو نعيم
وغيرهما، وسنده صحيح.
قلت: فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم
يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:
أ - قوم يذكرون الله تعالى، تكبيراً، وتهليلاً، وتسبيحاً.
ب - استعملوا في ذكرهم حصى كـ (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.
ج - نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به، عبادة الله، وذكره، وتعظيمه.
د - ومع ذلك؛ أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله (؛ رغم وجود المقتضي له في عصره.
هـ - رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.
و - لم يجعل - (- حسن نياتهم سبيلاً للتغاضي عن عملهم، أو دليلاً على صحة فعلهم، إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسناً، بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص: موافقة للسنة، ومتابعة للسلف) (1).
وعن سعيد ابن المسيب - رحمه الله -: أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟
قال:"لا ولكن يعذبك على خلاف السنة" (2).
قال الألباني- رحمه الله- في"الإرواء"(2/236):"وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدعِ باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" اهـ.
وقال (3) رجل للإمام مالك:يا أبا عبدالله من أين أحرم؟
قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله (.
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!!
قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصر عنها رسول الله (؟
قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ]النور:63[.
فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول (ولا الصحابة
ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول (.
سادساً: إن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة و إلى بدع سيئة مكروهة:
قال رسول الله (: { أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة؛ "وكل ضلالةٍ في النار" } أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي والزيادة له.
وقال (: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم (4).
وقال (: { من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } متفق عليه.
__________
(1) علم أصول البدع" للحلبي (ص244-245) وانظر "إحكام المباني" له، و"البدعة وأثرها السيئ" للهلالي (ص15) فقد بينوا صحة القصة، وقد استدل بها أبو شامة في "الباعث" (ص63).
(2) واه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/466)، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (147) وعبدالرزاق في "المصنف" (3/52) والدارمي (1/116) بسند جيد كما في "علم اصول البدع".
(3) واه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/148)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/326)، والبيهقي في "المدخل"(236)،وابن بطه في "الابانة" (98) كما في "علم اصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص72).
(4) قال الترمذي "حديث حسن صحيح" وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه كذلك البغوي وابن عبدالبر كما في تحقيق مشهور حسن لـ"الأمر بالاتباع" للسيوطي (ص34)،وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(3/119).(/5)
وقال (: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } رواه مسلم.
(فهذه الأحاديث لم تفرق في الحكم بين بدعةٍ وبين بدعةٍ أخرى، فالنكرة إذا أضيفت؛ أفادت العموم، والعموم لا يخص إلا باستثناء، و أين الاستثناء هنا؟! - وما قد يظنه البعض دليل على الاستثناء سيأتي الجواب عنه فيما بعد إن شاء الله - وهذا ما فهمه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنة "(1).
وقال عبد الله بن مسعود (:"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول"(2).
فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة
أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه)(3).
(وقد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي؛ إذا تكررت في مواضع كثيرة وأوقات متفرقة وأحوال مختلفة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها العام المطلق.
وأحاديث ذم البدع والتحذير منها من هذا القبيل، فقد كان النبي ( يردد من فوق المنبر على ملأ من المسلمين في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة أن { كل بدعةٍ ضلالة } ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية من العموم فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
وقد اجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها،
ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن)(4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في"مجموع الفتاوى" (10/370):(إن المحافظة على عموم قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } متعين وأنه يجب العمل بعمومه).
سابعاً:(إن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظاهره طاعة وهو
معصية وقد يكون الأمر بالعكس وقد يحسن كثير من العقول بمجر دها أن تصلي الظهر خمساً عند النشاط والرغبة في مناجاة الله ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال وهكذا يقال في سائر الفروض.
فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظاهره طاعة يكون في الواقع طاعة، ولا كل ما ظاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائراً بين أن يكون حسنا مثابا عليه، وأن يكون قبيحاً معاقباً عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب؛ أو السنة الصحيحة؛ أو الإجماع؛ فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.
وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟
وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسناً وهو قبيح، فمثلاً ما يدريك لولا ما جاء في "صحيح مسلم"عن عقبة بن عامر (أنه قال: { ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله ( ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب } أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟
وما يدريك لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أول
ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر و أتمت صلاة الحضر" أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟
وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.
وما يدريك لولا قول الرسول (بعد أن توضأ ثلاثاً ثلاثاً: { هكذا الوضوء، فمن زاد علَى
هذا فقد أساء وظلم } (5) أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمساً لا تجوز،
__________
(1) واه اللالكائي (رقم126)،وابن بطة (205)،والبيهقي في "المدخل إلى السنن"(191)،وابن نصر في "السنة" (رقم70) بسند صحيح كما في "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص92).
(2) : أخرجه الدارمي في "سننه"(1/61)،واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/77)، وصححه ابن حجر في "الفتح" (13/253) كما في "علم أصول البدع"(ص226).
(3) : "علم أصول البدع" (ص91-92) بتصرف.
(4) : "اللمع في الرد على محسني البدع " لعبدالقيوم السحيباني (49-51) بتصرف يسير وأصل الكلام للإمام الشاطبي في "الاعتصام " (1/187-188).
(5) واه أبو داود وفيه زيادة "أو نقص" وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود": (1/46): (حسن صحيح دون قوله:"أو نقص" فإنه شاذ).(/6)
وما يدريك لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (قال: { ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة بل مكروهة؛ والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه وكذلك العكس)(1).
قال عبدالله القصيمي في كتابه "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" (20- 21):
(خاطبت يوما شيخاً من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة؛ قلت له:
ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟
فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): البدعة الحسنة هي الجائزة ديناً، والقبيحة هي الممنوعة ديناً!
قلت له: ما صنعت شيئاً، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي.
فامتقع أكثر وقال: الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة!!
قلت له: هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة، إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالاً، ولا الحلال إلا بكونه حسناً، ولا القبيح إلا بكونه حراماً، ولا الحرام إلا بكونه قبيحاً.
ثم نشط عقله من عقاله وقال: البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر.
قلت له: ما تقصد بالضرر؟
أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟
إن قصدت الأول:فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمساً والمغرب أربعاً والفجر ستاً وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا أن لا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟
هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع.
وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين، فانتهى هنا.
والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالاً باطلة) اهـ.
والدليل على هذا أن كثيراً من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحسن، بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالماً آخر وهو ممن يقول
بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392):(ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله (يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله (في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اهـ.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8):(فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.
فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اهـ.
وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في "فتاوى الإمام النووي" (ص57) وعبد الله الغماري في "حسن البيان في ليلة النصف من شعبان"؛ مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها مثل ابن الصلاح وأبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو طالب المكي في "قوت القلوب" وعدوها من البدع الحسنة.
وقال أيضاً العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289):(ومن فعل طاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } ]النجم:39[ فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة:والصوم، والحج) انتهى كلامه، ومعروف أن كثيراً من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات وإن لم يرد دليل على ذلك وإنما قياساً على
ما ورد!.
__________
(1) شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبدالله القصيمي (ص13-14) بتصرف.(/7)
وقال أيضاً في (ص197- 199):(أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله (عَلم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: { قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد (نبي الرحمة } وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله (، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهاً على علو درجته ومرتبته) انتهى كلامه رحمه الله وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام
على الله بغير النبي (مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقاً(1).
2- الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" كثيراً من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258- 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138- 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134- 138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!!.
3- وأما الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في"المجموع" (8/102):(قال الشيخ أبو محمد الجويني:رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة.
قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله (.
هذا كلام أبي محمد!!
وقال أبو عمرو بن الصلاح : ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار، وقد قال الشافعي
- رحمه الله -: ليس في السعي صلاة.
- ثم قال النووي - وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم) اهـ.
وقال أيضاً في "الأذكار" (ص136):(قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله يكرهون الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية،
بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم،ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها..الخ).
4 - وأما السيوطي- رحمه الله - فقد أنكر في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" الصلاة في المساجد المبنية على القبور!وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134) وأنكر صلاة الرغائب (ص166) وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288) وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295) وغير ذلك من البدع مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة!.
5 - محمد متولي الشعراوي المفسر المصري أنكر رفع الصوت بالصلاة على النبي (
بعد الأذان كما يفعله كثير من المؤذنين في كثير من البلاد الإسلامية فقد وجه إليه سؤال
كما في "الفتاوى"(ص487):(جرت العادة في معظم المساجد أن يؤذن المؤذن وعقب الانتهاء من الآذان يقول: الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله جهراً، فهل الصلاة على الرسول ( جهراً عقب الآذان هي من صلب الآذان أم أن هذه زيادة عما ورد نرجو الإفادة؟
ج: هذا حب لرسول الله (؛ لكن أنت تحبه بمشقة، هو قال: { إذا سمعتم المؤذن وانتهى من اذانه فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي } ، وللمؤذن وللذي سمع نصلي عليه في سرنا، لكن المؤذن ليس له أن يوجد شيئاً بصوت الأذان الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصلية؛ حتى
لا يفهم الناس أن ذلك من صلب الأذان) انتهى كلامه، وفي المقابل نجده يقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي (ص544-545)!.
6 - أما حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً فيقول بمشروعية رفع الصوت
بالصلاة على النبي (من قبل المؤذنين بعد الأذان في كتابه "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية"
(ص265-267)؛ مع أنه قال في (ص290) جواباً على سؤال: هل في الشريعة الغراء صلاة تسمى صلاة الشكر؟:(لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة
لا فرادى ولا جماعة. وأمر العبادات يقتصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أثر عن النبي (السجود لله تعالى شكرا إذا أتاه
ما يسره أو بُشر به.. الخ).
فظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة - المزعومة - والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يسلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب
إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين.
ثامناً:(يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم!
وهذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها - بعد -.
__________
(1) نظر"قاعدة جليلة" لابن تيمية و"التوسل أنواعه وحكمه" للألباني و"كشف المتواري من تلبيسات الغماري" لعلي الحلبي لتعرف المعنى الصحيح لهذا الحديث وانه حجة على من يقولون بالتوسل بذات النبي (وغيره لا حجة لهم !!.(/8)
فمثلاً: لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما أن دخلوا؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار و الرد!! فاستدل عليهم المقترِح بحديث { صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل } (1)!! فافترقوا رأيين!! بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام!
فما هو القول الفصل؟
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8-9):(يجب أن يعلم أن النبي (بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ]النحل:44[ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي (عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على
حفظ البقرة عدة سنين - قيل ثمان سنين - ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }
]ص:29[.
وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ]النساء:82[ وقال: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل } ]المؤمنون: 68[.
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ]يوسف:2[، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه
فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟) اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به
ما ملخصه: "لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل.
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد ( لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ …
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة: أن النبي (نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة
لا تجتمع على خطأ.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء".
ثم قال (3/77):"فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل".
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف
ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"
(2/128 مختصره):"إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف ".
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام:"نحن رجال وهم رجال"!!
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب، وسد في وجهه الباب!!
والله الهادي إلى نهج الصواب!
قلت: فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به!
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما. فهو جرى- إذاً - على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.
ومثال آخر تطبيقي سلفي:
__________
(1) واه أبو داود،والنسائي، وفيه ضعف يسير.لكن له شاهداً يقويه، فانظر "صحيح الترغيب"(رقم 409) والتعليق عليه.(/9)
روى أبو داود في "سننه" ( رقم 538) بسند حسن عن مجاهد؛ قال:" كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة" !
و" معنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة؛ الصلاة" .
كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله يقول: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ]الذريات:55[؟!
لما قبل قوله، بل رد عليه فهمه، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.
ومثال آخر وقد مر معنا فيما سبق: وهو ما رواه الترمذي، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله (، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ " فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب:56[ تدخل فيه تلك الصلاة ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال:"اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك
ما وسعهم" (1).
وعليه نقول:"الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان")(2).
تاسعاً:(يستلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدا:
أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة - حسب زعمهم - من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم.
وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها
رسول الله (، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله (بغير علم.
الثاني: أن يكون النبي (وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله (، وأصحابه رضي الله عنهم.
الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي (، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل و دين)(3).
الفصل الثاني:
ذكر الشبه التي يستدل بها من يقول بتقسيم البدع
الشبهة الأولى: فهمهم لقول الرسول (: { من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء } رواه مسلم.
والجواب عن هذه الشبه هو (ما قاله الإمام الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام"
(1/233- 236) مختصراً مع بعض الإضافات:
"ليس المراد بالحديث: الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت بالسنة النبوية، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة؛ بدليل ما في "صحيح مسلم" من حديث جرير بنِ عبدالله (قال:" كنا عند رسول الله (في صدر النهار؛ قال: فجاءه قوم حفاةً عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف. عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله (لما رأَى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذن وأقام.
فصلى ثم خطب فقال: { { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }
]النساء:1[ إلى آخر الآية { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } والآية الَتي في الحشر: { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } ]الحشر:18[ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره } حتى قال: { ولو بشق تمرةٍ } قال:"فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس.حتى رأيت كومين
من طعام وثياب.حتى رأيت وجه رسول الله (يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله (:
__________
(1) خرجه اللالكائي في "شَرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1 /174) والبيهقي في "المدخل" (233) والآجُرَّي في "الشريعة"(2 /673- 674) بسند صحيح.
(2) :"علم أصول البدع " لعلي الحلبي (ص137-145) بتصرف.
(3) :"الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي"للشيخ حمود التويجري رحمه الله (16-17)بتصرف.(/10)
{ من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غيرِ أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنَة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده.من غير أن ينقص من أوزارهم شيء } .
فتأملوا أين قال رسول الله (: { من سن في الإسلام سنة حسنة } ؛ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ،فسر رسول الله( حتى قال: { من سن في الإسلام سنة حسنة..إلخ } . فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة.
فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعةٍ".
ووجه ذلك:(أن كل ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه بالصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص أفترون هذا الصحابي أتى ببدعة حسنة؟!.
وحث عليها - أي على الصدقة - الرسول (في القصة نفسها.
وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل به بين الناس لتركهم السنن)(1).
( ويدل على هذا حديث: { من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس؛ كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من
عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً } رواه ابن ماجة)(2).
مع ملاحظة أن النبي (أضاف السنة إليه فقال: { من سنتي } بينما أطلق الكلام في
البدعة فقال: { ومن ابتدع بدعة } ولم يقل بدعة سيئة.
ثانياً: أن قوله: { من سن في الإسلام سنةً حسنةً ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً }
لا يمكن حمله على الاختراع من أصلٍ؛ لأن كونها حسنةً أو سيئةً لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة - أعني: التحسين والتقبيح بالعقل -.
فلزم أن تكون "السنة" في الحديث: إما حسنةً في الشرع، وإما قبيحةً بالشرعِ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة.
وتبقى السنة السيئة منزلةً على المعاصي التي ثبت بالشرعِ كونها معاصي؛ كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم، حيث قال (كما في صحيح البخاري ومسلم: { لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل } (3)وعلى البدع، لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع )(4).
ثالثاً: (لا يمكن أن يكون معنى: { من سن في الإسلام سنةً حسنة ً } أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة" لأن بهذا يكون معنى قول النبي (: { كل بدعة ٍضلالة } "كل سنة
ضلالة ".
فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه)(5).
رابعاً: (لو كان هذا الذي يفهمه الناس الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي (:
{ فمن رغب عن سنتي فليس مني } تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة.
وثناءً منه على من رغب عن سنته.
فبينما يقول: { فعليكم بسنتي } داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته (وحده!)(6).
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر"ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً؛ فهو عند الله سيئ " أخرجه أحمد وغيره.
الجواب:
أولاً:هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي(، بل هو ثابت عن عبدالله بن مسعود(.
قال الزيلعي في"نصب الراية" (4/133) نقلاً من "اللمع" للسحيباني (ص28):
"غريب مرفوعا، ولم أجده إلا موقوفا على ابن مسعود".
(وقال ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم452):"هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعودٍ".
وقال ابن عبد الهادي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني (2/188):
"(وروي) مرفوعاً عن أنس بإسنادٍ ساقطٍ، والأصح وقفه على ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص61):"ليس من كلام رسول الله (، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعودٍ")(7).
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/17):"لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود" اهـ.
ثانياً:(قال الشيخ الألباني في "السلسة الضعيفة" ( 2/17):
(إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةً حسنةً،
وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!!
__________
(1) البدعة وأثرها السيئ في الامة" لسليم الهلالي (ص42–44) بتصرف.
(2) اللمع في الرد على محسني البدع" (ص18) والحديث صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة"(1/88-89).
(3) القتل كان معروف ومنهي عنه كما في قول الملائكة لله عز وجل عندما أراد أن يخلق ادم: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ولكن ابن نبي الله أدم عليه السلام هو أول من مارس القتل عملياً في بني أدم عندما قام بقتل أخيه.
(4) علم أصول البدع" للحلبي (ص122-125) بتصرف.
(5) موسوعة أهل السنة" لعبدالرحمن دمشقية (1/340) بتصرف.
(6) لمصدر السابق (1/338).
(7) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص129-130) باختصار.(/11)
ولقد صار من الأمرِ المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة، وخفي عليهم:
أ - أن هذا الحديث موقوف - أي على الصحابي - فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص المرفوعة - أي إلى النبي ( - القاطعة في أن { كل بدعةٍ ضلالة } كما صح عنه (.
ب - وعلى افتراض صلاحية الاحتجاجِ به، فإنه لا يعارِض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابنِ مسعودٍ (به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفةً (حيث قال:"إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد (خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته،ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً، فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد (1/379)، وروى الحاكم الجملة الأخيرة، وزاد: "وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر")(1).
وعليه؛ فاللام في "المسلمون" ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد.
الثاني: سلمنا أنه للاستغراق، ولكن ليس المراد به قطعاً كل فردٍ من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً؛ فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مفر لهم منه فيما أظن).
قلت: ومما يزيد كلامه - حفظه الله - وضوحاً الأمور التالية:
1 - أنه قد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في "باب الإجماع"، كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (1/81)، و "مجمع الزوائد" (1/177)، وغيرهما.
2 - استدل به كثير من العلماء على الإجماع:
قال ابن كثير:"وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية"(ص60) بعد إيراده، رداً على المستدلين به:"في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً؛ فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم! فهو حجة عليكم".
وقال ابن قدامة في"روضة الناظر"(ص86):" الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلف فيه".
وقال الشاطبي في "الاعتصام" (2/655):(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسناً؛ فهو حسنٌ، والأمة لا تجتمع على باطلٍ، فاجتماعهم على حسن شيءٍ يدل على حسنه شرعاً؛ لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً")(2).
وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197):بعد ان ذكر اثر ابن مسعود رضي الله عنه:( فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معاً، وهذا محال لا سبيل إليه) اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في "فتاوى العز بن عبد السلام"(ص379):"إن صح الحديث عن رسول الله (، فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع" اهـ.
(وهنا نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن هناك بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟
إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها ولله الحمد.
ثالثاً: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع، مع أنه (كان من أشد الصحابة نهياً عن البدع وتحذيراً منها، وهو القائل كما مر معنا
"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعةٍ ضلالة" رواه الدارمي في سننه)(3).
الشبهة الثالثة:(يقولون: ليست (كل) في حديث: { كل بدعةٍ ضلالة } على عمومها، بدليل أن الله سبحانه يقول: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } ]الأحقاف:25[ والريح لم تدمر (كل) شيءٍ، فدل على أن (كل) ليست على عمومها!.
الجواب: إن (كل) على عمومها هنا أيضاً، إذ هي دمرت (كل) شيءٍ أمرها به ربها،
لا (كل) شيءٍ في الدنيا!!
وعلى هذا قول المفسرين:
قال ابن جريرٍ في "تفسيره" (13/26/27):(وإنما عنى بقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ }
مما أرسلت بهلاكه؛ لأنها لم تدمر هوداً ومن كان آمن به) اهـ.
وقال القرطبي في "تفسيره" (16/206):"أي كل شيءٍ مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها".
وكذا قال آخرون، وانظر "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274-275).
فلا حجة في هذا الاستدلال ألبتة)(4).
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر بن الخطاب (:"نعمت البدعة هذه" رواه البخاري.
الجواب:
أولاً:(لو سلمنا جدلاً بصحة دلالته على ما أرادوا من تحسين البدع - مع أن هذا
لا يسلم - فانه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله (القائل: { كل بدعةٍ ضلالة } بكلام أحد من الناس، كائنا من كان.
__________
(1) البدعة وأثرها السيء في الأمة" للهلالي (38-39) باختصار.
(2) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص131-133) بتصرف.
(3) :"اللمع في الرد على محسني البدع" (ص30-31) بتصرف.
(4) ن بداية الشبهة إلى هنا نقلاً من "علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص93) .(/12)
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله (، وتقولون: قال أبوبكر وعمر")(1).
ثانياً: أن عمر بن الخطاب (قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح و (صلاةَ التراويح ليست بدعةً في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله (وفعله في الجماعة.. ولا صلاتها جماعةً بدعةً، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله (في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا.
وقال: { من قام مع الإمام حتى يَنصرف، فإنه يعدل قيام ليلةٍ } رواه الترمذي وابن ماجة.
كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج احمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة،
وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده (وهو يقرهم، وإقراره سنة منه ()(2).
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون التراويح في عهد عمر (قبل أن يقول كلمته هذه، فقد روى البخاري ومالك وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبدالقارى (قال:(خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذَا الناس أوزاعاً متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصَلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لَكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعبٍ. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارِئهم. قال عمر:"نعمت البدعة هذه").
ثالثاً:(إذا علمت - رحمك الله - ما تقدم، فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر، وإنما أراد - ( - بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تستخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً)(3).
(وعلى هذا حمل العلماء قول عمر (فقد قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في "تفسيره" عند تفسير (سورة البقرة:117):"البدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله (: { كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارِهم:"نعمت البدعة هذه" .
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص233):"وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية…" ثم ذكر رحمه الله قول عمر (.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/592-593):
"وأما قول عمر (:"نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا:"قول الصاحب ليس بحجةٍ!"، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله (؟!
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب.
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ، وأما البدعة الشرعية؛ فما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله (قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبوبكر (، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي (يسمى محدثاً في اللغة؛ كما قالت رسل قريشٍ للنجاشي عن أصحاب النبي (المهاجرين إلى الحبشة:"إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدينٍ محدثٍ لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة.
وقد علم أن قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد من الأعمال التي لم يشرعها هو ().
قلت: وقد سبق بيان أن رسول الله ( قد صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ليالٍ، ثم خاف أن تفرض عليهم، فتركها.
"فلما كان في عهد عمر (؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج - عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته (، فانتفى المعارض"(4) (5).
__________
(1) اللمع في الرد على محسني البدع" للسحيباني (ص20).
(2) اقتضاء الصراط المستقيم" (2/591-592) بتصرف.
(3) البدعة أثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي (40-41).
(4) الاقتضاء" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/594).
(5) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (126-129) بتصرف يسير.(/13)
الشبهة الخامسة: فهمهم لقول الله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ } ]الحديد: 27[.
الجواب:(ليس في هذه الآية دليل على استحسان البدع من كل الوجوه المحتملة، فإذا كان قوله تعالى: { إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } يرجع إلى قوله تعالى: { ابْتَدَعُوهَا } ؛ فمعناه أن الله لم يكتبها عليهم؛ إلا أنهم ابتدعوها بقصد زيادة التقرب إلى الله، وفي هذا ذم لها؛ لأن الله لم يفرضها عليهم، ويزداد التقبيح أنهم مع اختراعهم لها لم يرعوها حق رعايتها، وقصروا فيما ألزموا أنفسهم به، وهذا ضرب من التقبيح والتشنيع المضاعف.
وإذا كان راجعاً إلى قوله: { مَا كَتَبْنَاهَا } ؛ فمعناه أنهم ألزموا أنفسهم بابتداعها، فكتبها الله عليهم، أي أصبحت ديناً مشروعاً من لدن أحكم الحاكمين، وهذا ضرب من التقرير، وقد حدث مثله في ديننا، فكان الرسول (يقر أصحابه على أقوال وأفعال يأتون بها،
لم تكن مشروعة من قبل، وبتقريره لها تصبح شرعاً يعبد الله به، وأمثلة ذلك في السنة كثير.
أما بعد موت رسول الله (؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله،
ولم يترك الرسول ( شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه (.
وجملة القول أن هذه الآية من شرع ما قبلنا، والراجح في علم الأصول أنه ليس شرعاً لنا؛ لأدلة كثيرة منها قوله (: { أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي... } فذكرها، وآخرها: { وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة } أخرجه البخاري ومسلم.
وعلى فرض صحة قول من قال:"شريعة من قبلنا شريعة لنا" فذلك مشروط بشرطين:
الأول: أن يثبت أن ذلك شرع ارتضاه الله لهم بنقل موثوق.
الثاني:أن لا يكون في شرعنا ما يخالفه.
وعليه؛ فالآية لا حجة فيها لمحسني البدع، لأن الإسلام بين أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)(1).
الشبهة السادسة: جمع القران بعد وفاة الرسول (.
الجواب:
أولاً:(القرآن كان في عهد النبي (مكتوباً في الصحف؛ لقوله تعالى: { يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً } ]البينة:2[ وقول الرسول (: { لا تكتبوا عني.ومن كتب عني غير القرآن فليمحه } أخرجه مسلم، لكنها كانت مفرقة، كما يدل على ذلك قول زيد بن ثابت (في قصة جمع القرآن التي رواها البخاري:" فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
ثانياً: إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة من تلقاء أنفسهم،بل هو تحقيق لوعد الله تعالى أيضاً بجمعه؛ كما وعد بحفظه: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } ]القيامة:17[.
فإذا جمعنا بين الآيتين؛ تبين لنا يقيناً أصل عظيم وهو أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله، كذلك جمعه وسيلة بينها الله، فكان على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي العسب واللخاف وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحرَّ بالقراء يوم اليمامة؛ لجؤوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها، فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه.
ثالثاً: إن اتفاق الصحابة وقع على جمع القرآن وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب كيف وهم القوم لا يجتمعون على ضلالة؟!
وقد قال النبي (: { لا تجتمع أمتي على ضلالة } رواه الترمذي.
رابعاً: إن حاصل ما فعله الصحابة وسائل لحفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، والأمر الثاني من باب "درء المفاسد، وسد الذرائع" وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة)(2).
(فإن قيل: فلماذا لم يفعله رسول الله (؟ قلت: لوجود المانع، وهو أن القرآن كان يتنزل عليه طيلة حياته، وقد ينسخ الله سبحانه منه ما يريد، فلما انتفى المانع؛ فعله الصحابة رضوان الله عليهم باتفاق)(3).
و"ما رأى المسلمونَ حسناً؛ فهو عند الله حسنٌ ".
الشبهة السابعة: يقول البعض أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } مخصص لحديث { كل بدعة ضلالة } ومبين للمراد منها؛ إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء؛ لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً؛ فهو رد!! لكن لما قال: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد } ؛ أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدين، بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين، بأن شهد له أصل، وأيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة !!
الجواب:
__________
(1) البدعة أثرها السيئ في الأمة"لسليم الهلالي (ص46-49) باختصار.
(2) البدعة وأثرها السيئ في الأمة" (ص55-60) بتصرف.
(3) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (حاشية ص232) .(/14)
(معلوم من قواعد العلم ومبادئه أن روايات الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً، ويشرح بعضها ما غمض من بعضها الآخر.
فهذه الرواية يوضحها ويزيل لبسها المتوهم فيها ما يلي:
أولاً:الرواية الأخرى للحديث نفسه، وهي: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد } .
فهذا إيضاح جلي للرواية ذاتها، يكشف صورة العمل المحدث المردود، ويبين أنه كل عمل ليس عليه الدين؛ فهذا شامل للكيفية والصفة والهيئة إذا لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إذ إعراب { ليس عليه أمرنا } أنها في محل نصبِ صفةٍ لـ { عملاً } ، فصفة المحدَثِ أنه ليس عليه أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: أن تطبيق السلف وفهمهم - وهم القوم لا يشقى الآخذ بقولهم - لهذا الحديث
لم يكن على هذا الوجه المستنكر، وإنما كان على الجادة الموافقة لأصول اللغة، وقواعد الاستدلال.
ففي روايات كثيرة عنهم - رحمهم الله - تراهم يستنكرون أعمالاً مشروعة الأصل محدثة الكيفية والصفة، ويصفونها بالابتداع) (1).
الشبهة الثامنة: استدلالهم بما جاء عن غضيف بن الحارث (أنه قال:
"بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قلت: وما هما؟
قال:رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر.
فقال: أما انهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما.
قال: لم؟
قال: لأن النبي (قال: { ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة } فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" أخرجه احمد.
الجواب:
(أولاً: إن هذا الأثر لا يثبت، بل هو ضعيف، لأن في إسناده أبا بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، ضعفه احمد، وأبو داود، وأبو حاتم، وابن معين وأبو زرعة، وابن سعد، وابن عدي، والدارقطني، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (12/28-29)، و"تقريب التهذيب" (2/398)، و"ميزان الاعتدال" (4/498)، و"سير أعلام النبلاء"
(7/64))(2).
(ثانياً: على افتراض صحة هذا الأثر، فإنه قد سبق التنبيه على أنه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله (بكلام أحد من الناس كائناً من كان.
ثالثاً: ان غضيف بن الحارث (رفض الاستجابة لهذه البدع، وردها،
ولو كانت حسنة، لما امتنع من الأخذ بها.
رابعاً: ان قوله:"أمثل بدعكم"، أمر نسبي، أي هي بالنسبة للبدع الأخرى أخف شراً، وأقل مخالفة.
خامساً: استدل غضيف ( - على فرض صحة الأثر والحديث- على ترك هذه البدع بحديث: { ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة } فلو كانت هذه البدعة حسنة، لم يرفع من السنة مثلها، لأن رفع السنة عقوبة، والحسن لا يعاقب عليه)(3).
الشبهة التاسعة: زيادة عثمان بن عفان (للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة.
الجواب:
أولاً:(لقد فعل عثمان ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساعها وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد)(4)، يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال:"كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي (وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما. فلما كان عثمان ( وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء".
(وقد نقل القرطبي في "تفسيره" (18/100) عن الماوردي قوله:(فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان (ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها) انتهى كلامه - رحمه الله - فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان (مطلقاً لا يكون مقتديا به، بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان (ان يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده.
ولهذا قال الإمام الشافعي في كتابه"الأم"(1/173):"وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد رسول الله ( أحب إلي، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر كرهت ذلك له، ولا يفسد شيء من صلاته" اهـ)(5).
ففعل عثمان (يعتبر من المصلحة المرسلة (و"المصلحة المرسَلة" في تعريف الأصوليين هي:"الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس".
وسميت "مرسلة"؛ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع؛ أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
__________
(1) :"علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص34-36) باختصار.
(2) حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي (1/421-422) باختصار.
(3) اللمع في الرد على محسني البدع" للسحيباني (ص34-35) باختصار.
(4) إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة قصاص رحمه الله (ص40).
(5) الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للشيخ الألباني (9-12) باختصار.(/15)
والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/594):(والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.
فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه:
فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله (، لكن تركه النبي (لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث.
فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله (موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ.
وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).
وخلاصةُ القول: أن "حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين".
وليست البدع - عند من يدعيها- هكذا بيقين)(1) لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.
ثانياً: أن عثمان ( من الخلفاء الراشدين وقد قال النبي(: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثِيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } رواه أحمد وأبو داود.
الشبهة العاشرة: قول الإمام الشافعي- رحمه الله -:"البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم" واحتج بقول عمر (في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه" رواه أبو نعيم في"حلية الأولياء" (9/113).
وقوله: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه بدعة ضلالة.وما أحدث من الخير لا خلاف لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة.قد قال عمر في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه".
يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/469).
الجواب:
قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" راداً على من يستدل بقول الشافعي هذا (ص63- 66):
(أولاً: بالنسبة لما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/113) ففي سنده عبدالله بن محمد العطشي، ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخه" والسمعاني في"الأنساب" ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما بالنسبة لما أخرجه البيهقي ففيه محمد بن موسى الفضل، لم أجد له ترجمة(2).
ثانياً: قول الشافعي إن صح لا يصح أن يكون معارضاً أو مخصصاً لعموم حديث رسول الله (.
والشافعي نفسه - رحمه الله - نقل عنه أصحابه أن قول الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، ومع كون ما نسب إلى الإمام الشافعي فيه نظر بدليل ما في "الرسالة " للشافعي ( ص597- 598)، فكيف يكون قول الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟!
ثالثاً: كيف يقول الشافعي رحمه الله بالبدعة الحسنة وهو القائل: "من استحسن فقد شرع".
والقائل في "الرسالة" ( ص507):"إنما الاستحسان تلذذ".
وعقد فصلاً في كتابه "الأم" (7/293- 304) بعنوان:"إبطال الاستحسان".
لذلك؛ من أراد أن يفسر كلام الشافعي- رحمه الله - فليفعل ضمن قواعد وأصول الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وأبعد النجعة في تفسيرها.
إن المتأمل في كلام الشافعي- رحمه الله - لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي- رحمه الله - بقول عمر رضي الله عنه، وعلى هذا الأصل يفسر كلام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب (أي: البدعة اللغوية ( كما سبق بيانه) لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب، والسنة، والإجماع، والأثر) انتهى كلامه بتصرف.
الشبهة الحادية عشر: أن بعض العلماء قسم البدعة إلى خمسة أقسام، واجبة كالرد على أهل الزيغ؛ وتعلم العلوم الشرعية وتصنيف الكتب في ذلك، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول، ومكروهة زخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع في المأكل والمشرب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية.
الجواب:
أولاً: بالنسبة إلى تقسيم البدع إلى خمسة أقسام فالجواب عنه: قول النبي (: { كل بدعةٍ ضلالة } وهذا الحديث عام لم يدخله التخصيص كما سبق بيان ذلك.
ثانياً: قال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/246) عن هذا التقسيم:
__________
(1) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (227-237) باختصار.
(2) قال الشيخ علي الحلبي في "علم أصول البدع" (ص121) عنهما: "أن في أسانيدها مجاهيل".(/16)
(إن هذا التقسيم أمرٌ مخترع، لا يدل عليه دليلَ شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعةٌ، ولَكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلَة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمعٌ بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر ما أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه).
هذا بالنسبة إلى التقسيم المذكور، أما بالنسبة إلى الأمثلة التي ذكروها لهذا التقسيم فالجواب عنها ما يلي:
(أما الرد على أهل الزيغ فإنه من إنكار المنكر لأن البدع هي أعظم المنكرات بعد الشرك بالله، وهو أيضاً من الجهاد في سبيل الله ومن النصيحة للمسلمين.
قال رسول الله (: { ما من نبيً بعثه الله في أمةٍ قبلي، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته و يقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل } رواه مسلم.
وقد أنكر النبي (على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله (:
{ أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } .
وأنكر ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين اجتمعوا للذكر بطريقة غير مشروعة؛ كما سبق بيانه،ولما خرج الخوارج وأظهروا بدعتهم أنكر ذلك الصحابة وقاتلوهم، ولم يخالف أحد من الصحابة رضي الله عنهم في إنكار بدعتهم ووجوب قتالهم.وقد وردت الأحاديث الكثيرة في ذمهم والأمر بقتالهم إذا خرجوا)(1).
وأما بالنسبة للتصنيف في جميع العلوم النافعة فالأصل فيه قول النبي (: { بلغوا عني ولو آية } رواه البخاري، وقوله (: { نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلَغها، فرب حامل فقهٍ غير فقيهٍ، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه } (2)، ومن وسائل التبليغ تصنيف الكتب الشرعية.
( وقد كان بعض الصحابة يكتب الأحاديث في عهد الرسول (؛ فقد جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة (أنه قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله (أكثر حديثاً عن رسول الله ( مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"، وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله (كتاب يكتبون له الوحي وغيره)(3).
بل قد حث النبي (على كتابة العلم فقال: { قيدوا العلم بالكتابة } (4).
(أما بالنسبة لإحداث الربط فلا نقول بأنه ليس له عهد لدى سلفنا الصالح، فأين أنتم عن الصفة وأهل الصفة، فهي رباط على فقراء الصحابة، وهي أصل في مشروعية وقف الأربطة على الفقراء)(5).
(وأما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون
من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث
بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك فأين مدخل البدعة ها هنا؟!
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره والتخصيص ها هنا ليس بتخصيص تعبدي وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعيَّن سائر الأمور المحبسة، وتخصيصها ليس ببدعة،فكذلك ما نحن فيه)(6).
__________
(1) الرد القوي" للشيخ حمود التويجري رحمه الله (ص110-112) بتصرف.
(2) واه ابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح سنن ابن ماجة" (1/94).
(3) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص156).
(4) واه الخطيب في "التاريخ"(10/46) وابن عبدالبر في "جامع العلوم" (1/72) وانظر "السلسلة الصحيحة" (5/40) للألباني.
(5) حوار مع المالكي" لابن منيع (ص104) بتصرف.
(6) الاعتصام "للشاطبي (1/263-264).(/17)
(وأما الأذان على المنارة فلا يدخل في مسمى البدعة لأن البدعة في الأذان هي الزيادة في ألفاظه مثل قول الرافضة أشهد أن علياً ولي الله وقول بعضهم أشهد أن علياً حجة الله، وقولهم حي على خير العمل وتكريرهم قول لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان ورفعهم الصوت بالصلاة على النبي (بعد الآذان، فهذا هو المبتدع في الأذان. وأما الأذان على المكان المرتفع فهو مروي عن بلال (فقد روى أبو داود والبيهقي عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت:"كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر"وقد ترجم له أبو داود بقوله:"الأذان فوق المنارة" وترجم له البيهقي بقوله: "الأذان في المنارة")(1).
( وأما صنع الإحسان فإنه من المعروف وليس من البدع سواء كان معهوداً في الصدر الأول أو لم يكن معهوداً فيه.
وقد قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ] } النحل:90[ وقال تعالى: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين } ]البقرة:195[ والآيات والأحاديث الصحيحة في الحث على الإحسان كثيرة جداً، ولم يحدد صور معينة للإحسان بحيث لا يجوز فعل غيرها، وإنما يذم منه ما تجاوز الحد وكان من التبذير)(2).
(وأما زخرفة المساجد فكيف يقال أنها من البدع المكروهة، وقد نص رسول الله (على النهي عنها، وقد نهى عنها عمر أيضا، فهي منهي عنها نصاً.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: { ما أمرت بتشييد المساجد } قال ابن عباس:"لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى" أخرجه أبو داود (3) وأمر عمر ببناء المسجد وقال:"أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس")(4).
( وأما بالنسبة للتوسع في المأكل والمشرب فهذه من الأمور المباحة ولا يقصد باستعمالها أمر تعبدي، فهي مشمولة بالنص النبوي الكريم: { أنتم أعلم بأمور دنياكم } رواه مسلم؛ وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ]الأعراف:31[ فما استحدثه الناس في أمور حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص العامة في مراعاة الاقتصاد والإباحة العامة،فلا يعتبر بدعا،فقد عرف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين)(5).
وأما البدع المحرمة وهي حسب تعريفهم: ما أحدث لمخالفة السنة، ولم تشمله الأدلة العامة؛ ولم يحتو على مصلحة شرعية.
فالجواب عن ذلك: أن هذه الشروط مخالفة للأحاديث النبوية والآثار السلفية التي جاءت في التحذير من البدع عموماً دون تخصيص أو تفصيل بين ما أحدث خلاف السنة أو غيره وإليك البيان:
1 - قال رسول الله (: { كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } وهذا الحديث عام في إنكار جميع البدع كما سبق بيان ذلك.
2 - أن النبي (اخبر عن وقوع الاختلاف بعده فقال: { فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلاَفاً كثيراً } وارشد من يدرك هذا الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: { فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ } ولم يقل لهم: فعليكم بما يوافق سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ولم يخالفها مثلاً، ثم حذرهم من المحدثات عموماً فقال: { واياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة } ولم يقل: وإياكم ومحدثات الأمور المخالفة لسنتي، فإن كل محدثة مخالفة لسنتي وسنة الخلفاء بدعة؛ وكل بدعة مخالفة لذلك فهي ضلالة.
3 - قال الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:"كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنةً" ولم يخصص بدعة من أخرى.
4 - وقال عبد الله بن مسعود( :"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول".
5 - وقد مر معنا إنكار ابن عمر رضي الله عنهما زيادة الصلاة على النبي (بعد العطاس! بحجة أن النبي ( لم يعلمهم ذلك؛ وكذلك إنكار عائشة رضي الله عنها على المرأة التي سألتها عن سبب أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة بحجة أن الرسول (لم يأمرهم بقضاء الصلاة وإنما أمرهم بقضاء الصيام.
وكذلك مر معنا إنكار الإمام النووي- رحمه الله - صلاة الركعتين بعد السعي!.
فهذه الأدلة وغيرها تبين فساد تلك الشروط التي اشترطوها في البدعة المنكرة حسب زعمهم.
(والحاصل من جميعِ ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام
بل هي من قبيل المنهي عنه إما كراهةً وإما تحريماً)(6).
__________
(1) الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي" للتويجري رحمه الله (ص115) باختصار.
(2) الرد القوي" (ص117) بتصرف يسير.
(3) صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (1/133).
(4) الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لسيد الشنقيطي (ص64-65) .
(5) : "حوار مع المالكي" (ص105) بتصرف.
(6) علم أصول البدع" للشيخ علي الحلبي (ص98).(/18)
الشبهة الثانية عشر: يقول البعض: إن ترك الرسول ( للفعل لا يدل على التحريم إلا إذا جاء في ذلك دليل صريح، فكيف يحتج على إنكار البدع الحسنة - حسب زعمهم - بحجة أن الرسول ( لم يفعل ذلك؟
الجواب:
(أولاً: أن الله تعالى قال فيما امتن به على عباده: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } ]المائدة:3[ وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز إحداث البدع لأنها ليست من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.
ثانياً: أن رسول الله ( قال: { إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتتن وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدةً } قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: { ما أنا عليه وأصحابي } رواه الترمذي(1) وهذا الحديث يدل على أن إحداث البدع لا يجوز لأنها من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله (وأصحابه رضي الله عنهم)(2).
ثالثاً:("من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومةٍ لم يشرعها لنا رسول الله ( بقوله، ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفة لسنته.
لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية.
فما تركه ( من تلك العبادات؛ فمن السنة تركها.
ألا ترى مَثلاً أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنة تركها رسول الله (.
وقد فهم هذا المعنى أصحابه (، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيراً عاماً؛ كما هو مذكور في موضعه" .
ولتقرير قاعدة السنة التركية أقول: أصل قاعدة (السنة التركية) مأخوذ من عدة أدلةٍ؛ منها:
حديث الثلاثة نفر الذين جاؤوا إلى أزواج رسول الله ( يسألون عن عبادة الرسول ( … الخ وقد ذكرته فيما سبق.
فقد أنكر الرسول ( عليهم، ورد فعلهم، مع أن أصل العبادات التي أرادوا القيام بها مشروعة، ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثةُ في هذه العبادات ( متروكةً) في تطبيق رسول الله ( وغير واردةٍ فيه، أنكر ذلك عليهم.
فهذه ترجمة عملية منه ( لقوله (: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا (ولم يقل من عمل عملاً عليه نهينا) فهو رد } .
فهذا عمل مشروع الأصل، لكن ليس عليه أمر النبي (وهديه، فهو مردودٌ على صاحبه، غير مقبول منه.
وخلاصة القول:"إن الترك - مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل - دليل الكراهة" كما قاله الإمام العيني كما في "إعلام أهل العصر" للعظيم آبادي (ص95) ومن أمثلة ذلك ما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث: الأذان لصلاة العيد:
فالأذان مشروع في أصله، لكن لم يفعله رسول الله ( ولا أصحابه، وتركوه، فتركهم له سنة يجب اتباعهم فيها.
وكذا الأذان للاستسقاء والجنازة ونحوهما.
فمن فعل من التعبديات والقربات ما تركوه؛ فقد واقع البدعة، وتلبس بها.
قال الحافظ ابن رجب في "فضل علم السلف" (ص31): "... فأما ما اتفق السلف على تركه؛ فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به".
وللشيخ العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/317-320) مبحثاً ماتعاً في أن الترك فعل؛ فهذا يؤكد أن "الترك سنة" ، إذ تعريف السنة أنها: "ما وَرَدَ عن النبي ( من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ ".
فتمام اتباع السنة يكون بترك ما وَرَدَ تركه، وفعل ما وَرَدَ فعله، وإلا فباب البدعة يفتح؛ عياذاً بالله تعالى.
ولابن القيم - رحمه الله - تفصيل بديع ماتع فيما نقله الصحابة رضي الله عنهم لتركه (؛ قال رحمه الله :"أما نقلهم لتركه؛ فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم،
ولم يصل عليهم"؛ وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء"، وقوله في
جمعه ( بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ منهم" ... ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله؛ لتوفرت هممهم ودواعيهم، أو أكثرهم أو واحد منهم، على
نقله، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمعٍ أبداً؛ عُلم أنه لم يكن…".
ثم ذكر رحمه الله عدة أمثلةٍ على ذلك منها: تركه ( التلفظ بالنية عند دخول الصلاة،
وترك الدعاء بعد الصلاة على هيئة الاجتماع … وغير ذلك، ثم قال:
"… ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه ( سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه؛ كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق ")(3).
تنبيه: قال الشيخ علي الحلبي - حفظه الله - في "علم أصول البدع" (ص114- 118):
__________
(1) انظر كتاب "درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه والأصحاب" لسليم الهلالي.
(2) الرد القوي" للعلامة التويجري رحمه الله (ص126-127) بتصرف.
(3) علم أصول البدع" للحلبي (ص107–112) بتصرف.(/19)
(كتب الغماري المبتدع رسالةً موجزةً سماها "حُسْنَ التفهم والدَّرْك لمسألةِ الترْك" ، تكلم فيها بكلامٍ غير سديدٍ، خالطاً بين المسائل الأصولية خلطاً قبيحاً، يترفع عنه صغار الطلبة.
ومجال تعقبه وتحقيقِ القول في المسائل التي أوردها في رسالته كبير جدا، أفردت له رسالة خاصة، عنوانها "دفع الشك في تحقيق مسألة الترك" يسر الله إتمامها.
ولكي لا أخلي المقام هنا من إشارةٍ تكشف انحرافه وتناقضه أقول:
ذكر في مواضع من كتابه ( ص9) وغيرها تأصيل مسألة الترك؛ قائلاً:
"فمن زعم تحريم شيءٍ بدعوى أن النبي ( لم يفعله؛ فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودةً".
وقال (ص124):"ترك الشيء لا يدل على منعه؛ لأنه ليس بنهي".
وقد ذكر (ص151) أمثلةً على الترك مستحسناً لها؛ منها:
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
2- تشييع الجنازة بالذكر.
3- إحياء ليلة النصف من شعبان. وغيرها!
لكنه - من قبل و من بعد - ناقض نفسه، فعد بعض المحدثات التي هي جارية على أصوله مساق الحسن والاستحسان: بدعاً قبيحةً، ومحدثاتٍ سخيفةٍ!!
فقد قال ( ص37):"وأما المغاربة؛ فزادوا بدعةً أخرى، وهي إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب... وهذا اتساع في الابتداع، لا يؤيده دليل!!
ولا تشمله قاعدة!!".
كذا قال ناقضاً ما أصله قبل!
وماذا؟! اتساع في الابتداع!!
فأين أدلة استحساناتك وقواعد محدثاتك؟!
وقال ( ص38):"بعض الأئمة الجهلة يخطب الجمعة ويصليها في مسجدٍ، ثم يذهب إلى مسجدٍ آخر، فيخطب فيه الجمعة، ويصليها أيضاً، فيرتكب بدعةً قبيحةً، ويصلي جمعةً باطلةً، يأثم عليها ولا يثاب".
كذا!! وهو تناقض عجاب!!
وقال ( ص38- 39):"شاع في المغرب الأذان للظهر مرتين، بينهما نحو ساعةٍ، والأذان للعصر مرتين بينهما عشر دقائق، وفي تطوان يؤذن للعشاء مرتين أيضاً، وهذه بدعةٌ سخيفةٌ، لا توجد إلا في المغرب، ولم يشرعِ الأذان؛ إلا عند دخول الوقت للإعلام بالصلاة، والأذان بعده لاغٍ غير مشروعٍ".
وغير هذا وذاك من أمثلةٍ تجعل كتابه كله { عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ } ]التوبة: 109[.
فما هو الذي جعل هذه المحدثات منكرةً عندك وهي مستحسنة عند أصحابها؟!
فلماذا رفضتها أنت منهم بلا ضابطٍ؟!
ولماذا هم لا يرفضون - أيضاً - مستحسناتك؟!
ثم ألا تدخل هذه المحدَثات كلها التي أنكرتها تحت العمومات القرآنية التي أشرت إليها فيصدر رسالتك الشوهاء ( ص11) جاعلاً إياها الأصل في استحسان البدع؛ كمثل قوله تعالى: { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ]الحج: 77[... وغيرها؟!
فلماذا تصف تلك الفعال - وهي خير - بالسخافة وتشنع على أصحابها بالإنكار؟!
وأنت القائل ( ص11):"فمن زعم في فعل خيرٍ مستحدثٍ أنه بدعةٌ مذمومةٌ؛ فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عموميات الكتاب والسنة" !
فهذا حكم منه على نفسه أوقعه على أم رأسه! وإبطالٌ لكتابه من أسه وأساسه!
وأوضح من السابق كله ما قاله ( ص39) في حكم إرسال اليدين في الصلاة، حيث صرح بقوله:"لم يفعله النبي ( ولا الصحابة؛ فهو بدعة لا شك".
ووصفَها (ص40) بأنها:"زلةٌ قبيحةٌ، حيث جعلوا البدعة مندوبة، والسنة مكروهةً!!" .
قلت - القائل الشيخ علي الحلبي -: وبيان كبير زلَله في هذا الموضعِ أن ( عدم الفعل) هو عين (الترك)!!
فاستدل بمجرد ( الترك) على الحكم بالبدعية والوصف بقبح الزلة!!
وهل غير هذا نقول؟!
أم أنه الانحراف عن الجادة؟ والخلط في تخريج الفروع على الأصول!!
وما أحسن كلامه ( ص51) مقلوباً على نفسه:"وأغلب أخطاء هؤلاء المبتدعة
- وما أكثرها- تأتي من جهة جهلهم بالأصول، وعدم تمكنهم من قواعده، مع ضيقِ باعهم، وقلة اطلاعهم" !!
فلا قوة إلا بالله، ولا رب سواه.
وصفوة القول في هذه المسألة العظيمة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى تقعيداً وتأصيلاً كما في "فتح الباري" (3/475):"ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركاً" ) انتهى كلام الشيخ علي الحلبي جزاه الله خيراً.
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد فعلوا أمورا تعبدية ولم يكن فيها دليل خاص؛ ومع ذلك أقرهم الرسول (؛ ولم ينكر عليهم ذلك، كقصة خبيب بن عدي ( التي رواها البخاري وفيها ان المشركين لما أرادوا أن يقتلوه طلب منهم أن يتركوه لكي يصلى ركعتين قبل القتل فقال أبو هريرة راوي القصة:" فكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً"، وقصة بلال ( عندما كان يصلي ركعتين بعد كل وضوء.
فدل ذلك على جواز إحداث أمور تعبدية وإن لم يفعلها الرسول (.
الجواب:
(ان فعل الصحابة موقوفاً على إقرار النبي ( له، وكان فعلهم قبل نزول آية كمال الدين وتمام النعمة.
وأما بعدها مما ابتدعه الخلف فمن أين لهم أن يعلموا إن كان النبي ( يقره أو ينهى عنه؟
أبالكشف الصوفي؟!(/20)
ولئن اقر النبي ( فعل خبيب وبلال في الصلاة بعد كل وضوء فإنه لم يقر البراء بن عازب على خطئه في الدعاء الذي علمه إياه النبي ( وفيه: { آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت } فقال البراء:"فجعلت استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت"،فقال النبي (: { لا، وبنبيك الذي أرسلت } رواه البخاري ومسلم.
ولم يقر النبي ( عثمان بن مظعون على التبتل وسماه رهبنة، ولم يقر الصحابة الذين سألوا عن عبادةِ النبي ( فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي (؟
قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً،
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (فقال: { أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني } رواه البخاري وقد مر معنا سابقاً.
فمن أين تضمنون إقرار النبي ( لبدعكم وقد مات؟ وقد بلغكم قبل موته أن كل بدعة في الدين مردودة؟)(1).
وكل هذا يدل على ان ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول (لا بمجرد فعل الصحابة.
وقد قال عبد الفتاح أبو غده(2)؛ بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي (:
( قال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (5/165):"وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع ( واستحسنه".
وقال أيضاً (5/261):"وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته ( فاستحسنه و اقره".
وقال أيضاً(6/314):"واستشكل قوله: "أول من سن"، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله ( وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته ( واستحسنهما"انتهى كلام القسطلاني.
- ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه:
"أن لفظ ( السنة) ولفظَ ( سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ "سن"، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ "سن" بلا ريب وهو إقرار الرسول ( لفعله)(3).
الخاتمة وتحتوي على طريق الخلاص من البدع
(بعد أن ظهر جلياً أن { كل بدعة ضلالة } ، فما هو طريق الخلاص من البدع التي هي مفتاح الضلال؟
فالجواب هو ما قاله الرسول الأعظم (: { تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي } رواه مالك في "الموطأ" والحاكم.
وقال الموفق ابن قدامة في "ذم التأويل" (ص35) بعد أن ذكر أدلةً كثيرةً في لزوم اتباعِ السلف الصالح:"قد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجبٌ وركوب الخطأ حرامٌ، ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراطِ المستقيم ومخالفهم متبعٌ لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم،وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ]الأنعام:153[.
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحاً في حق الإسلام كله؛ لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا؛ جاز خطؤهم في غيره من الإِسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي ( التي رووها، فتبطل الرسالة، وتزول الشريعةُ ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا أو يعتقده".
إذن؛ "الطريق الوحيد للخلاص من البدع وآثارها السيئة هو الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعِلماً وعملاً" محوطاً ذلك كله بالاهتداء بهدي السلف وفهمهم ونهجهم وتطبيقهم لهذين الوحيين الشريفين؛ فهم - رحمهم الله - أعظم الناس حباً وأشدهم اتباعاً، وأكثرهم حرصاً، وأعمقهم علماً، وأوسعهم درايةً.
بهذا الطريق - وحسب - يتمسك المسلم بدينه مبرءاً من كل شائبة، بعيداً عن كل محدثةٍ ونائبة.
__________
(1) "موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية (1/329) بتصرف.
(2) هو رجل له مخالفات عديدة متعلقة بالعقيدة والفقه وقد بين شيء من حاله الشيخ الألباني رحمه الله في " كشف النقاب عما في كلمات أبي غدة من الأباطيل والإفتراءات" وفي مقدمته لـ "شرح العقيدة الطحاوية"، وممن بين حاله كذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في "براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة" وقد كتب الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مقدمة قوية لكتاب الشيخ بكر أبو زيد، وقد نقلت عنه هنا إقامة للحجة على أتباعه الذين يقعون في كثير من البدع بحجة أن الصحابة أحدثوا أموراُ لما يفعلها الرسول (!!
(3) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي" لعبدالفتاح أبو غدة (ص16-17) بتصرف يسير.(/21)
فـ { عضوا عليه بالنواجذ } ؛ تهتدوا وترشدوا.
وهذا الطريق يسيرً على من يسره الله له، وسهل على من سهله الله عليه، لكنه يحتاج إلى جهودٍ علميةٍ ودعويةٍ متكاتفةٍ متعاونةٍ، ساقها الصدق، وأساسها الحب والأخوة - بعيداً عن أي حزبيةٍ أو تكتلٍ أو تمحورٍ -، ومنطلقها العمل بأمرِه تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ]المائدة:2[.
والله الهادي - وحدَه - إلى سواءِ السبيل)(1) والحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- "الاعتصام" للإمام الشاطبي تحقيق سليم الهلالي. دار ابن عفان بالخبر ط1
2- "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية.تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل. مكتبة الرشد بالرياض ط5.
3- "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
4- "الباعث على إنكار البدع والحوادث" للإمام أبي شامة تحقيق مشهور حسن آل سلمان.دار الراية بالرياض ط.
5- "ما جاء في البدع" للإمام محمد بن وضاح القرطبي تحقيق بدر البدر. دار الصميعي بالرياض ط1.
6- "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" للسيوطي تحقيق مشهور حسن آل سلمان. دار ابن القيم بالدمام ط1.
7- "علم أصول البدع" للشيخ علي بن حسن الحلبي. طبعة دار الراية بالرياض ط2
8- "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي.دار الهجرة بالدمام ط3.
9- "اللمع في الرد على محسني البدع" لعبد القيوم السحيباني. مكتبة الخضيري ط1
10- "حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي. مكتبة الرشد بالرياض ط2.
11- "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي. مطبعة المنار بمصر ط1
12- "الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لمحمد بن أحمد مود الشنقيطي. مكتبة الأقصى بالدوحة ط1.
13- "إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة القصاص.المكتب الإسلامي ببيروت
14- "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للعلامة الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
15- "مختصر كتاب الاعتصام" لعلوي بن عبد القادر السقاف.دار الهجرة بالرياض ط1.
16- "حوار مع المالكي في رد منكرته وضلالاته" للشيخ عبدالله بن منيع ط2.
17- "الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للعلامة حمود التويجري. دار اللواء بالرياض ط1.
18- "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالسعودية الأولى.
19- "مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة" بتحقيق الألباني والشاويش.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
20- " موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية.دار المسلم بالرياض ط1
21- "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب.المكتبة السلفية بالقاهرة ط5.
22- "الأذكار" للإمام النووي.طبعة المكتبة العلمية ببيروت ط2.
23- "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير. دار المعرفة ببيروت ط9.
24- "المجموع شرح المهذب"للإمام النووي تحقيق محمد المطيعي دار إحياء التراث العربي.
25- "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي تحقيق سالم بن أحمد السلفي.مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت ط1.
26- "السنة" للإمام ابن أبي عاصم تحقيق الشيخ الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط3
27- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي تحقيق أحمد بن سعد الغامدي.دار طيبة بالرياض ط5.
28- "فتاوى الإمام النووي" تحقيق محمد الحجار دار البشائر الإسلامية ببيروت.
29-"فتاوى العز بن عبد السلام" للعز بن عبد السلام تحقيق محمد جمعة كردي.مؤسسة الرسالة ببيروت ط1.
30- "الإحكام في أصول الأحكام" للإمام ابن حزم. دار الكتب العلمية ببيروت.
31- "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض.
32- "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
33- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" للعلامة الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
34- "صحيح سنن أبي داود" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
35- "صحيح سنن ابن ماجة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
36- "صحيح سنن النسائي" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
37- "السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني" لعبد الفتاح أبو غدة.مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ط1.
38- "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" حسنين محمد مخلوف. دار وهدان ط4.
39- "الفتاوى" لمحمد متولي الشعراوي. دار الندوة الجديدة ببيروت.
فهرس المحتويات
المقدمة............................................
مدخل يحتوي على معنى البدعة لغة وشرعاً.......................
__________
(1) علم أصول البدع" لعلي الحلبي (ص313-315).(/22)
الفصل الأول: البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن.......
البرهان الأول: أن الله قد أكمل الدين...........................
البرهان الثاني: أن النبي ( قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة................
البرهان الثالث: أن التشريع من حق الله وليس من حق البشر..............
البرهان الرابع: ان الابتداع اتباع للهوى وقد نهينا عن اتباع الهوى............
البرهان الخامس: أن الإخلاص لا يكفي حتى يكون العمل صالحا ولكن لابد كذلك
من اتباع الرسول (......................................
البرهان السادس: أن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً.............
البرهان السابع: أنه لا يوجد ضابط معين لمعرفة حسن الفعل إلا من طريق الشرع ولهذا
أختلف القائلون بالبدع الحسنة على حسن كثير من البدع!.................
البرهان الثامن: وجوب اتباع فهم السلف في تفسير الآيات والأحاديث.........
البرهان التاسع: يستلزم على القول بالبدع الحسنة لوازم باطلة..............
الفصل الثاني: الرد على شبهات القائلين بالبدع الحسنة.................
الشبهة الأولى: فهمهم لحديث: { من سن في الإسلام سنة حسنة } .........
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر: "ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"......
الشبهة الثالثة: زعمهما أن لفظة " كل " في حديث { كل بدعة ضلالة } ليست على عمومها ......................................
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر: "نعمت البدعة هذه"..................
الشبهة الخامسة: فهمهم لقوله تعالى: { ورهبانية ابتدعوها... } ...........
الشبهة السادسة: احتجاجهم بجمع الصحابة للمصحف................
الشبهة السابعة: تخصيص حديث { كل بدعة ضلالة } بحديث { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه } .................................
الشبهة الثامنة: قصة غضيف بن الحارث مع عبد الملك بن مروان...........
الشبهة التاسعة: احتجاجهم بزيادة عثمان بن عفان (للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة..................................
الشبهة العاشرة: استدلالهم بقول الشافعي: البدعة بدعتان..............
الشبهة الحادية عشر: استدلالهم بتقسيم بعض العلماء البدع إلى خمسة أقسام....
الشبهة الثانية عشر: قولهم ان عدم فعل الرسول ( للشيء لا يدل على التحريم..
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد احدثوا بعض العبادات دون وجود دليل خاص بها.........................................
الخاتمة: طريق الخلاص من البدع..............................
المراجع...........................................
فهرس المحتويات.......................................(/23)
البركة والتبرك أنواع وأحكام
إحسان بن محمد بن عايش العتيبي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
[قال بعضهم: ... ومن الأفضل أن يقوم بعملية التحنيك - وهو: مضغ تمر، أو عسل، أو شيء حلو، وتدليك حَنَك الطفل به - من يتصف بالتقوى والصلاح تبركاً به ! وتيمنا بصلاح المولود وتقواه].
قلت: الصحيح الثابت أن المحنِّك "يدْعُو للْمَوْلودِ بِالبَرَكَةِ"، كما جاء في "صحيح البخاري" (10/707) من حديث أبي موسى الأشعري. وفي صحيح مسلم (3/193) من حديث عائشة - رضي الله عنها - " يُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ" - أي: يدعو لهم بالبركة - صلى الله عليه وسلم -.
وأما التبرك بالأشخاص، بذواتهم، أو بنعلهم، أو بريقهم، أو بوضوئهم، فليس تبركاً مشروعاً البتة، إلا ما كان مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذ إن ذاته، وآثاره - صلى الله عليه وسلم - بركة - ولم يصحّ أن شيئاً بقي منها إلى الآن- أما غيره فلا.
والتبرك المشروع له أنواعٌ كثيرةٌ، فمنها:
أ. التبرك بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ مثل "القرآن"، قال الله - تعالى -: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص/29]، ومِن بركته:
1. أنَّ مَن أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرةً مِن الشرك.
2. أنَّ الحرف الواحد بعشر حسنات، كما في الحديث الذي رواه الترمذي (5/175) مِن حديث ابن مسعود، وقال عنه: حسن صحيح.
3. أنَّه يقدَّم صاحبُه على الناس في الإمامة، كما في الحديث الذي رواه البخاري (2/234) مِن حديث ابن عمر، ومسلم (5/172) مِن حديث أبي مسعود البدري.
4. أنَّه يقدَّم حافظهُ على غيره في اللحد ، كما فعله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري (3/272) مِن حديث جابر - رضي الله عنه -.
5. أنَّ الله تعالى يرفع صاحبه درجةً بكل آيةٍ كان يحفظها في الدنيا، كما رواه الترمذي (5/177) ، وقال: حسن صحيح ، وأبو داود (2/73) ، مِن حديث عبد الله بن عمرو.
6. أنْ جعل الله تعالى في قراءته شفاءً للمؤمنين ، سواءً مِن الأمراض الحسيَّةِ، أو المعنويةِ، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء /82] ، وغير ذلك كثير.
ب. التبرك بأمرٍ حسيٍّ معلومٍ، مثل العلم، والدعاء، ونحوهما، فالرجلُ يُتبرك بعلمه، ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نِلْنا منه خيراً كثيراً.
ج. التبرك بهيئةٍ شرعيَّةٍ مثل الاجتماع على الطعام، والأكل مِن جوانب القصعة، ولعق الأصابع، وكيْل الطعام.
= قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجْتَمِعُوا عَلى طَعَامِكُم وَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ " رواه أبو داود (3/346)، وابن ماجه (2/1093)، وحسَّنه شيخُنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (664).
= وقال - صلى الله عليه وسلم -: " البرَكَةُ تَنْزِلُ في وَسَطِ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ " رواه الترمذي (4/260) - واللفظ له - وقال: حسن صحيح، وأبو داود (3/348) ، وابن ماجه (2/1090).
= وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع وقال: "فإِنَّهُ لاَ يَدْرِي في أَيَّتِهِنَّ البَرَكَةُ" رواه مسلم (13/205).
= وقال صلى الله عليه وسلم "كيلوا الطَّعامَ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ" رواه البخاري (4/434).
د. التبرك بالأمكنة، فهناك أمكنةٌ جعل الله فيها البركة إذا تحقق في العمل الإخلاص والمتابعة كالمساجد، وخاصة المسجد الحرام والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وأحاديث فضل الصلاة فيها مشهورةٌ معلومةٌ.
هـ. التبرك بالأطعمة، وهناك أنواعٌ مِن الطعام جعل الله فيها بركة مثل:
1. الزيت، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" - أي: الزيتون- رواه الترمذي (4/285) ، وابن ماجه (2/1103) ، وانظر "السلسلة الصحيحة"(379).
2. الحبَّةُ السوداء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحبَّةُ السَّوْداءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّام" رواه البخاري (10/176) ، ومسلم (14/201) ، والسام: الموت.
3. ماء زمزم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّها -أي ماء زمزم - مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ " رواه مسلم (16/27).
و. التبرك بالأزمنة، وهناك أزمنةٌ خصّها الشرع بزيادة فضلٍ وبركةٍ؛ مثل: شهر رمضان، وليلة القدر، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل. (1)
__________________________________
(1) استفدتُه من "القول المفيد شرح كتاب التوحيد " للشيخ ابن عثيمين (1/191)، و"التبرك المشروع والتبرك الممنوع" للدكتور علي بن نفيع العلياني، وانظر "التبرك، أنواعه، وأحكامه" للدكتور ناصر الجديع.
http://saaid.net المصدر:(/1)
البركة
عبد الملك القاسم
</TD
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الإنسان وهو يسير في هذه الدنيا يطمع أن يزاد في وقته، وعمره، وماله، وأبنائه، وجميع محبوباته، التي هي مظنة السعادة لديه. والمسلم يدعو الله عز وجل أن يبارك له، وقد كان النبي يدعو بالبركة في أمور كثيرة.
والبركة: هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإنها إذا حلت في قليل كثرته، وإذا حلت في كثير نفع، ومن أعظم ثمار البركة في الأمور كلها إستعمالها في طاعة الله عز وجل.
ومن تأمل في حال الصالحين والأخيار من العلماء، وطلبة العلم، والعباد يجد البركة ظاهرة في أحوالهم. فتجد الرجل منهم دخله المادي في مستوى الآخرين لكن الله بارك في ماله فلا تجد أعطال سيارته (مثلا) كثيرة ولا تجد مصاريف ينفقها دون فائدة؛ فهو مستقر الحال لا يطلبه الدائنون، ولا يثقله قدوم الزائرين، والآخر: بارك الله في ابنة وحيدة تخدمه وتقوم بأمره، وأنجبت له أحفادا هم قرة عين له، والثالث: تجد وقته معمورا بطاعة الله ونفع الناس وكأن ساعات يومه أطول من ساعات وأيام الناس العادية! وتأمل في حال الآخرين ممن لا أثر للبركة لديهم، فهذا يملك الملايين، لكنها تشقيه بالكد والتعب في النهار، وبالسهر والحساب وطول التفكير في الليل، والآخر: تجد أعطال سيارته مستمرة فما أن تخرج من (ورشة) حتى تدخل أخرى! والثالث له من الولد عشرة لكنهم في صف واحد أعداء لوالدهم والعياذ بالله، لا يرى منهم برا، ولا يسمع منهم إلا شرا، ولا يجد من أعينهم إلا سؤالا واحدا. متى نرتاح منك؟.
وأما البركة في العلم فجلية واضحة، البعض زكى ما لديه من العلم - وهو قليل - فنفع الله به مدرسا، أو داعية، أو موظفا، أو غير ذلك، وضدهم من لديه علم كثير لكن لا أثر لنفع الناس منه.
و البركة إذا أنزلها الله عز وجل تعم كل شيء: في المال، والولد، والوقت، والعمل، والإنتاج، والزوجة، والعلم، والدعوة، والدابة، والدار، والعقل، والجوارح، والصديق ولهذا كان البحث عن البركة مهما وضروريا !.
كيف نستجلب البركة؟
أولا: تقوى الله عز وجل مفتاح كل خير، قال تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف:96]، وقال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق:3-2] ، أي من جهة لا تخطر على باله.
وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: أنزلوها بالتقوى.
وقد قيل: ما احتاج تقي قط.
وقيل لرجل من الفقهاء : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق:3،2]، فقال الفقيه: والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة: ?ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا? [الطلاق:5].
ثانيا: قراءة القرآن: فإنه كتاب مبارك وهو شفاء لأسقام القلوب ودواء لأمراض الأبدان : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } [ص:29]. والأعمال الصالحة مجلبة للخير والبركة.
ثالثا: الدعاء؛ فقد كان النبي يطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج فنقول: « بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير » [رواه الترمذي]، وكذلك الدعاء لمن أطعمنا: « اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم ، وارحمهم » [رواه مسلم]. وغيرها كثير.
رابعا: عدم الشح والشره في أخذ المال: قال لحكيم بن حزام رضي الله عنه : « يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع » [رواه مسلم].
خامسا: الصدق في المعاملة من بيع وشراء قال : « البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما » [رواه البخاري].
سادسا: إنجاز الأعمال في أول النهار؛ التماسا لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد دعا عليه الصلاة والسلام بالبركة في ذلك : فعن صخر الغامدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « اللهم بارك لأمتي في بكورها » [رواه أحمد].
قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!
قال: فكان رسول الله إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضع ماله.
سابعا: إتباع السنة في كل الأمور؛ فإنها لا تأتي إلا بخير. ومن الأحاديث في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم : « البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه » [رواه البخاري].(/1)
وعن جابر بن عبدالله قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع والصحفة، وقال: « إنكم لا تدرون في أى طعامكم البركة » [رواه مسلم].
ثامنا: حسن التوكل على الله عز وجل : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق:3]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : « لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا » [رواه أحمد].
تاسعا: استخارة المولى عز وجل في الأمور كلها، والتفويض والقبول بأن ما يختاره الله عز وجل لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه في الدنيا والآخرة، وقد علمنا النبى - صلى الله عليه وسلم - الاستخارة: « إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله، وآجله فاقدره لى ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجله، وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به ».
عاشرا: ترك سؤال الناس؛ قال - صلى الله عليه وسلم : « من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل » [رواه أحمد].
أحد عشر: الإنفاق والصدقة؛ فإنها مجلبة للرزق كما قال تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } [سبأ:39].
وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: « يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك » [رواه مسلم].
الثاني عشر: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره فإنه لا بركة فيه ولا بقاء والآيات في ذلك كثيرة منها { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [البقرة:276]، وغيرها كثير.
الثالث عشر: الشكر والحمد لله على عطائه ونعمه؛ { وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران:144]، { لئن شكرتم لأزيدنكم } [إبراهيم:7].
الرابع عشر: أداء الصلاة المفروضة؛ قال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } [طه:132].
الخامس عشر: المداومة على الاستغفار؛ لقوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } [نوح:10-12].
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا واجعله عونا على طاعتك، وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين(/2)
البرمجة الإيمانية
جمال المعاند -إسبانيا
في عقد السبعينات من القرن الماضي ظهر علم جديد عرف بالبرمجة العصبية (( NLP)) هو نتاج خبرات تراكمية لمعارف نفسية وخلاصة استقراءات اجتماعية , وانتشر هذا العلم ووضعت له مناهج , وبما أن عليه مسحة الجدة لا يزال يعاني من تحفظات , فهو بين فرضيات علمية تتداخل مع قيم نشأت بعيداً عن البيئة الإسلامية , وبين نتائج ملموسة حققت نجاحات على أرض الواقع .
وليس المجال تقصي هذا العلم وماله وما عليه , بقدر ما هو قراءة تستفيد من أسسه ونظمه في مجال التربية الإسلامية , لعلها تكون بادرة تجديد في الطرح الإسلامي اعتماداً على نهج علمائنا المربيين ممن تلقت الأمة كتاباتهم بالقبول ، ومن خلال جمع إشارات و أقوال لهم يمكن أن تكون برمجة إيمانية , في عصر لا يؤمن إلا بالطرح المؤطر برؤى عصرية .
- وعلم البرمجة العصبية ((NLP )) هو :
{ عبارة عن طرق يمكن استخدامها لتعيد صياغة قناعات الإنسان حول نقاط ضعفه } .
وخلاصة هذا العلم كيفية تغيير الإنسان من السلب إلى الإيجاب وفقاً لترتيب أنماط تفكيره , ولا يخفي منظروه اعتماد الخبرة الروحية في ذلك , فيقول روبرت ديلتس وجديث ديلورير في موسوعتهما البرمجة العصبية :
{ إن بحث واستكشاف بنية الخبرة الروحية قضية في غاية الأهمية بالنسبة للبرمجة العصبية } .
ومن خلال النقع المثار بين الأسس والطرق يتضح التركيز على العقل الباطن ودوره الأساس والذي لو برمج بالشكل المطلوب فإنه كفيل بتكوين قناعات تفرز عادات وسلوكاً .
وتختصر الشروح الكثيرة بجملة التحكم بالدماغ وفي نصفه الأيمن على وجه التحديد والذي لو تم كما هو مطلوب لقرأت الخارطة الذهنية , وأمكن تخزين معلومات في اللاوعي تدفع إلى تلقائية سلوكية تهتك ستائر اليأس وتكسر حواجز الإحباط وتزيل عراقيل التسويف .
ولعلم البرمجة العصبية أركان أربعة هي :
1 - النتيجة أو الهدف .
2 - الحواس .
3- المرونة .
4- المبادرة .
وعبر هذه الأركان تطرح البرمجة الإيمانية , وقد يشكل استخدام كلمتي النتيجة أو الهدف بداية الأركان , فالعادة ما تكون النتيجة حصيلة , أو أن يكون الهدف نتيجة إتباع طرق لكن الدراسات الحديثة سواء النفسية أو الاجتماعية أو الإدارية تعير الهدف التركيز الأكبر لأن وضوحه يبين أقصر الطرق للوصول إليه .
والهدف بالنسبة لكل مسلم مهما كان مبلغه من العلم هو إرضاء الله سبحانه وتعالى , ويتم ذلك عند أهل السنة والجماعة بالإتباع , فهو أصح الطرق وأقصرها قال تعالى : { وأطيعوا الله و رسوله } .
وفي الهدي النبوي الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ...." .
ولأهمية الهدف وما يتعلق به يفرد له مساحة أكبر في البرمجة الإيمانية , فأول متطلباته العلم الشرعي وفضله من الوضوح ما لا يحتاج معه إلى بيان . والكثير من المسلمين لا يدركون فرضية العلم الشرعي , ولا يعلمون أن ثمة أموراً لا يسع المسلم الجهل بها حتى نص علماؤنا على بعض منها بقولهم ( لا يعذر أحد بجهله ) .
فمناط التكليف يبدأ بالعلم ومما يقع فيه سواد المسلمين التقليد ، والاستفتتاء عند حدوث مشاكل ، وربما ترددٌ غير منتظم لحلق العلم الشرعي ظانين أن الأمر نافلة وكمالية تجمل حياة المسلم وليس الأمر كذلك , فمع اتساع رقعة التعليم وكثرة وسائل المعرفة كالأشرطة والإذاعات والفضائيات وغيرها يجب تدارك الخلل وتأصيل و تجذير المعلومة الشرعية . لأن ضحالة الزاد العلمي كارثة حتى مستوى أداء العبادات ولقد لخص لنا المربي الفضيل بن عياض - رحمه الله - ذلك بقوله ( لا يقبل الله من العمل إلا أصوبه و أخلصه ) .
فالعلم يدلنا على الصواب , أما الإخلاص فأعداؤه كثر تحدثت عنهم كتب التزكية ومما تجدر الإشارة إليه في قضية البرمجة الإيمانية ويتعلق بالإخلاص هو الغفلة , فالعقائد لا تكون ركناً شديداً عند الأزمات والعبادات أموراً روتينية والذكر بأنواعه حركات لسان - إلا من رحم ربي- , وقد قعّد العلامة ابن القيم الجوزية - رحمه الله - في سفره العظيم مدارج السالكين في الجزء الأول قاعدة تقول :
( الغافل غالباً لا يصاحب عمله الإخلاص ) .
فالأمر يحتاج إلى تيقظ وفقه بالمعنى الحرفي للكلمة ، وقد توارثت أجيال المسلمين عبارة لأحد السلف تقول :
( إن فقه الأعمال من البصيرة ) .
ومن جنود الغفلة الخاطرُ ، ذلك العباب الذي لا ساحل له , ويتحدث ابن القيم عن ذلك مرة أخرى في كتابه الفوائد فيقول :
( الخواطر بمنزلة الحَب الذي يلقى للطائر ليصاد به ) .
و أفرد العالم الكبير ابن الجوزي كتاباً خاصاً أ سماه ( صيد الخاطر ) , واستقصاء موضوع الخواطر أمر يطول لا بد من مراجعة في مظانه لمعرفة أنواعه وخيره وشره والتمييز بين أشكاله . لأنه أمر بالغ الخطورة يوشك الخاطر لو استقر في العقل أن يتحول إلى فعل , وكفانا إمام الوعاظ الحسن البصري رحمه الله ذلك بقوله :(/1)
( رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره تأخر ) .
ومن الخواطر ما يكون من نفث الشيطان وهو عدو لا ترجى مهادنته أبداً . قال تعالى :
( إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً..)
وبين نزعات النفس الأمارة ومكر الشيطان قاسم مشترك هو المعصية . وتحدث علمائنا عن الفرق بينها . وهو من الدقة بمكان , فالمعصية التي سببها نفسي تجعل النفس تصر على لون معصية معينة من منشأ غرائزي غالباً , أما المعصية الشيطانية فهي معصية تركز بداية على هدف المسلم لتنال منه فإن لم تستطع طرحت بدائل تشغل عنه وتسهم في توسيع مساحة الغفلة عن الله سبحانه وتعالى , وللشيطان طرق في الغواية منها الوسوسة ثم النزغ فالهمزُ ،ومن بعدُ المسُّ وذكرت الآيات نصاً هذه المفردات للتحذير من كيد الشيطان ومما ذكر في تراثنا التربوي أن الملعون سئل * كيف تغلبُ ابن أدم !
فأجاب :
إذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب جئت حتى أكون في رأسه * .
فهو عدو متربص ينتهز أي فرصة للانقضاض على المسلم , وقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله فقال :
* يا أبا سعيد : أ ينام الشيطان . فتبسم وقال لو نام لا استرحنا * .
فالحذر من كيده عن طريق تفعيل المراقبة لله سبحانه . ونبه الإمام الجنيد- رحمه الله - إلى ذلك بقوله: " من تحقق من المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير" .
والركن الثاني من أركان البرمجة الحواس , تلك المنافذ التي خلقها الله سبحانه وتعالى لتكون قنوات اتصال بين الإنسان ومحيطه , وركب فيها شهوات وحدد لهذه الشهوات طرقاً تقضي فيها أربها في تناغم بين الهدف - وهو إرضاء الله تعالى - وبين إعمار الكون ، لكن النفس الإمارة والشيطان يريدان لها تجاوز الحدود والانفلات , والشرع والعقل يريدان الانضباط عن طريق الإرادة فإذا استخزت الإرادة أمام الشهوات وتلاحقت هزيمتها , شوشت على الهدف وأفرخت خواطر السوء وكلّت الهمةُ لتولد صفات مذمومة هي مسالك الشيطان هذا ما أكده الشيخ عبد العزيز السلمان في كتابه مداخل الشيطان حيث قال :
( ليس في الأدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومد خل من مداخله ) .
ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم في التحكم بالشهوات ما رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه قال :
قال صلى الله عليه وسلم ( من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه دخل الجنة ) .
والركن الثالث المرونة , فالبدائل الشرعية من الكثرة ما تتلائم مع أي مسلم أنى كان وضعه , والنفس تحتاج إلى مدارة وأن تساس بالرفق فهي - كما أخبر عمر بن عبد العزيز رحمه الله - مطيةُ الإنسان وفي تراجم السلف نقرأ أن أخاً في الله لإمام دار الهجرة كان عابداً فأرسل إليه رسالة ينصحه فيها أن لا يشغله التصدر للدرس عن العبادة فكان جواب فقيه المدينة على سكنها أفضل الصلاة والسلام :
( بأن الله يفتح لكل عبد باباً من أبواب مرضاته )
ليت كل مسلم يتحلى بالمرونة مع نفسه ويبحث من الأعمال ما يناسب الوقت والظرف الذي هو فيه حتى يغدو له أوراد من الباقيات الصالحات تعمل على تحديث برمجته الإيمانية .
والمبادرة هي آخر أركان البرمجة , ولو عدنا إلى الأحاديث النبوية لألفيناها وردت في أكثر من حديث نصاً أو مرادفة لها منها :
( بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ) .
والمبادرة هي اغتنام استعداد النفس وكسب الوقت فالمشاغل لا حصر لها , وتلد الأيامُ - وأحياناً أنياً - مصاعب تعوق تحقيق الهدف وتؤخر انجازه , والموت الخاتمة المنتظرة لكل حي وهو في حجب الغيب يغذّ السير فلا تدري نفس لحظة الأجل وختم العمل وطي الصحيفة , وهي من العقائد الواضحة الجلية لدى كل مسلم .
وخلاصة البرمجة الإيمانية قول الحبيب صلى الله عليه وسلم :
( إنما العلم بالتعلم , وإنما الحلم بالتحلم , ومن يتحر الخير يعط , ومن يتوق الشر يوقه )
فالأمر تحديد الهدف بمرضاة الله تعالى وعلمٍ شرعي ، ودربةٍ عقلية ، وممارسة سلوكية تورق أجراً وثواباً بإذن الله .(/2)
البرهان والبيان والحجة والسلطان
من المصطلحات القرآنية التي تفيد معنى الدليل وإقامة الحجة في الجدال والنقاش، هذه المصطلحات: (البرهان) و(البيان) و(الحجة) و(الدليل) و(السلطان) وقد اختلف تكرار هذه المصطلحات في القرآن، فجاء مصطلح (سلطان) أكثرها تكرارًا، وكان غالبًا يأتي مقترنًا بوصف (المبين) وكان أقل هذه المصطلحات ورودًا مصطلح (الدليل) الذي ورد مرة واحدة في قوله - تعالى -: {ثم جَعَلْنا الشمس عليه دَليلاً} (الفرقان: 45) ولنا وقفة مع هذه المصطلحات الخمسة:
* مصطلح (البرهان):
قال - تعالى -: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111) البُرْهان: الحُجّة الفاصلة البيّنة، يقال: بَرْهَن يُبَرْهِنُ بَرْهَنةً، إِذا جاء بحُجّةٍ قاطعة لِدفع الخَصم، فهو مُبَرْهِنٌ؛ فيُبَرْهن بمعنى يُبَيِّن، وجَمْعُ البرهان: براهينُ. وقد بَرْهَنَ عليه: أَقام الحجّة. وفي الحديث: (الصدقة برهان) رواه مسلم أي: هي دَليلٌ على صحة إِيمان صاحبها لطيب نَفْسه بإِخْراجها، وذلك لعَلاقة ما بين النفْس والمال.
* مصطلح (البيان):
(البيان): ما بُيِّنَ به الشيء من الدلالة وغيرها؛ وبانَ الشيءُ بيانًا: اتَّضَح، فهو بيِّنٌ، والجمع أَبيناء، وكذلك أَبانَ الشيء: فهو مُبينٌ؛ وقوله - عز وجل -: {وهو في الخصام غير مبين} (الزخرف: 18) يريد النساء، أَي: الأُنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تُبين؛ وقوله - عز وجل -: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (الطلاق: 1) أَي ظاهرة مُتَبيِّنة؛ و(البيان) ما يتعلق باللفظ، و(التبيان) ما يتعلق بالمعنى.
* مصطلح (الحجة):
(الحُجَّةُ): الدليل والبرهان؛ يُقال: حاجَجْتُه فأَنا مُحاجٌّ وحَجِيجٌ، فَعِيل بمعنى فاعل، وفي التنزيل، قوله - تعالى -في قصة إبراهيم مع قومه: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان} (الأنعام: 80) وقال - سبحانه - في معرض الرد على الكافرين: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} (الشورى: 16) أي: ما جاء به أهل الباطل والضلال من أدلة على مذهبهم، ليس له اعتبار، بل هي أدلة باطلة زائلة لا تقوم ولا تصمد أمام ما هو واقع وحق. وفي الحديث: (فحج آدم موسى) متفق عليه، أَي: غَلَبه بالحُجَّة؛ ومن أَمثال العرب: لَجَّ فَحَجّ؛ معناه لَجَّ فَغَلَبَ مَنْ لاجَّه بِحُجَجِه؛ يقال: حاجَجْتُه أُحاجُّه حِجاجًا و مُحاجَّةً حتى حَجَجْتُه أَي غَلَبْتُه بالحُجَجِ التي أَدْلَيْتُ بها؛ والمَحَجَّةُ: الطريق.
* مصطلح (الدليل):
دَلَّه على الشيء يَدُلُّه دَلاًّ ودَلالةً فانْدَلَّ: سَدَّده إِليه، ودَلَلْته فانْدَلَّ؛ والدَّليل: الدَّال، وما يُستدل به، وقد دَلَّه على الطريق يَدُلُّه دَلالة ودِلالة ودُلولة؛ والدَّليل والدِّلِّيلي: الذي يَدُلُّك؛ والاسم الدِّلالة والدَّلالة، بالكسر والفتح؛ وقوله - تعالى -: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا} (الفرقان: 45) ومعنى كون الشمس دليلاً: أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتًا في مكان، زائلا عن آخر، ومتسعًا في موضع، ومتقلصًا في غيره؛ فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على وفق ذلك؛ فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره، كامتداد الطريق وما فيه من علامات وإرشادات، وجُعلت الشمس - من حيث كانت سببًا في ظهور مقادير الظل - كالهادي في الطريق؛ فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، فكذلك الشمس - بتسببها في مقادير امتداد الظل - تعرِّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
* مصطلح (السلطان):
قال الفراء: السلطان عند العرب الحجة، يذكر ويؤنث، فمن ذكَّر السلطان ذهب به إِلى معنى الرجل، ومن أَنثه ذهب به إِلى معنى الحجة؛ وقال الزجاج في قوله - تعالى -: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} (هود: 96) أَي: وحُجَّة بَيِّنة؛ والسُّلطان: الحاكم، إِنما سمي سُلْطانًا لأَنه حجةُ اللَّهِ في أَرضه، أو هكذا ينبغي أن يكون؛ وقوله - تعالى -: {هلك عني سلطانيه} (الحاقة: 29) معناه: ذهبت عني حجتُي.
وبهذا يتبين أن هذه المصطلحات الخمسة تفيد معنى مشتركًا بينها، وهو إقامة الدليل والحجة، قصد إظهار الحق والحقيقة؛ وقد فرق بعض أهل العلم بين هذه المصطلحات، فقالوا: اسم (الدليل) يقع على كل ما يعرف به المدلول، واعتبروا أن (الدليل) ما كان مركبًا من الظنيات، و(البرهان) ما كان مركبًا من القطعيات، و(الحجة) مستعملة في جميع ما ذُكر، وكل (سلطان) في القرآن فهو (حجة).
على أننا لا نعدم فروقًا أُخر بين هذه المصطلحات، يُرجع في معرفتها إلى أهل التخصص في هذا المجال.
27/09/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
البشائر بنصرة الإسلام
(الدويش)
المقدمة : إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإنه لا يخفى على أحد واقع المجتمع الإسلامي اليوم، وبُعْدَه عمّا أراده الله منه شرعاً وديناً. وهذا أمر ليس بحاجة إلى بيان أو إثبات فإنه لا يخفى على أحد. وتجاه هذا الواقع فإنّ بعض الغيورين قد يصيبه اليأس من عودة المجتمع إلى المسار الصحيح؛ لما يرى من جهود الأعداء في محاربة الإسلام ومواجهة دعاته من جهة. وما يراه من جهة أخرى من بعد الناس عن دين الله، وموت الإحساس لدى الكثير منهم. ومن جهة ثالثة فهو يرى يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون، لاستعادة ما فقدوه من مجدٍ وماضٍ تليد. وهذا الشعور ولو لم يكن له أثر في الواقع العملي فهو جدير بإزالته؛ لأنه مخالف لما قرره الكتاب والسنة، كيف وهو يكون داعياً الكثير للاستسلام والخمول، ومثبطاً عن بذل أي جهد للمجتمع والتعاون مع من يسعى للإصلاح والتغيير. من هنا كان علينا لزاماً أن نخاطب هذه الفئة المتشائمة، ونقول لها إنّه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، فكانت هذه الرسالة؛ لبيان ما ورد من الكتاب والسنة من نصوص تبشر بأن المستقبل للإسلام والعزة لدين الله. هذا والله أسأل أن ينفع بهذا البحث من قرأه أو سمعه، وأن يجعله في موازين حسناتنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
أولاً: بشائر القرآن 1- الإشارة إلى غلبة الدين وظهوره: قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (التوبة:33) . وقال: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (الصف:8-9) . وقال: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) (الفتح:28) . 2- وعد المؤمنين بالنصر: قال تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج:39-40) . وقال: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم:47) . وقال: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد:7) . وقال تعالى: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ)) (الصافات:171) . في هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. 3- وعد المؤمنين بالتمكين في الأرض: قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:55) . فقد وعد الله في هذه الآية وهو الذين لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم، وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل، وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟ 4- الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم: إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يُكاد لهم ويُراد بدينهم، ويرى ثمرات هذا الكيد تتابع، حينئذ يظنّ أن أي محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، وأن الأعداء على اختلاف أصنافهم لن يغضّوا الطرف عن أي تحرك وصحوة للمسلمين اقرأ معي هذه الآيات وتمعن فيها. ((وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) (النمل:48-52) . وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (الأنفال:36) . وقوله: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)) ( الطارق:15-17) . ((ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)) (الأنفال:18) . فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد. وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين، كما قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة:1) . فبدأ بوصفهم بأنهم أعداؤه. وقال لنبيه: ((فَإِنَّهُمْ(/2)
لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) (الأنعام:33) .
ثانياً: بشائر السنة النبوية تلك بعض البشائر الواردة في القرآن الكريم، أما السنة النبوية فيمكن أن نقسم ما ورد فيها من بشائر إلى قسمين: القسم الأول: التبشير المطلق بنصر الإسلام : 1- ومن هذه المبشرات : عن تميم الداري -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر" (أخرجه أحمد 4/103، والحاكم 4/430، بمعناه وابن منده في الإيمان 1085، والطبراني كما في المجمع 6/14، وقال "رجاله رجال الصحيح" وقال الحاكم على شرط الشيخين ونقل الألباني في تحذير الساجد 173 عن الحافظ عبدالغني المقدسي أنه قال حسن صحيح. وقال وهو على شرطمسلم. وله شاهد من حديث المقداد. أخرجه أحمد 6/4وابن منده 1084، والطبراني كما في المجمع 6/14، وقال رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني هو على شرط مسلم) . 2- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (التوبة:33) . أنَّ ذلك تامّاً، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفي كلّ من في قلبه مثال حبّة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيهم فيرجعون إلى دينآبائهم" (رواه مسلم 2907) . والشاهد من الحديث قوله "تامّاً" أي أن وعد الله بظهور هذا الدين على سائر الأديان سوف يتحقق لا محالة. 3- عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريّاً، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" (أخرجه الطيالسي 438، وأحمد 4/273، وقال في مجمع الزوائد 6/188، رجاله ثقات. وصححه العراقي) . 4- أحاديث الطائفة المنصورة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، منهم أبو هريرة وزيد بن أرقم ومُرَّة بن كعب البهزي وعمر بن الخطاب وسلمة بن نفيل الكندي وأبو أمامة، وعمران بن حصين، وقرة بن إياس، وجابر بن عبدالله، وثوبان، والمغيرة، وجابر بن سمرة، ومعاوية، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم وبعضها في الصحيحين. وقد ورد في حديث سعد عند مسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وإن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته. فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة. 5- أحاديث خيرية هذه الأمة، ومنها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مثل أُمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره" (رواه أحمد 3/130، والترمذي 2833، وابن حبان 2307، وأبو يعلى 6/491، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2302، وله شاهد عند أحمد 4/319 من حديث عمار) . 6- قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" (أخرجه أحمد وابنه في زوائد المسند 5/134، وابن حبان 2501، والحاكم 4/318، كلهم من حديث أبي وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأقره المنذري وقال الألباني إن إسناد عبدالله صحيح على شرط البخاري. انظر أحكام الجنائز52) . 7- حديث المجدد، وهو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" (أخرجه أبو داود 4291، والحاكم 4/522، وغيرهما وصححه الحاكم والبيهقي والعراقي وابن حجر، وقال السيوطي: "اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح") . القسم الثاني: أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة : 1- حديث قتال اليهود: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" (أخرجه البخاري 2926، ومسلم 2922، وكذا ورد من حديث ابن عمر وهو عند البخاري 2925، ومسلم 2921، والترمذي2237) .(/3)
2- أحاديث قتال الروم وفتح القسطنطينية وروما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم : خلّوا بيننا وبين الذي سُبُوا منا نقالتهم، فيقول المسلمون: لا والله، كيف نخلي بينكم وبين إخواننا؟ فيقاتلونهم؛ فينهزم ثلث لا يتوب الله عليه أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث فلا يفتنون أبداً، فيفتحون القسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهاليكم؛ فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون صفوفهم إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح- فيريهم دمه في حربته" (رواه مسلم2897) . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟" قالوا نعم يا رسول الله، قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جوانبها -قال ثوبان بن يزيد لا أعلمه إلا قال الذي في البحر- ثم يقول الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ، فقال إن الدّجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون" (مسلم2920) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولاً". يعني القسطنطينية. (رواه أحمد2/167، والدارمي وابن أبي شيبة وحسنه المقدسي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الألباني وهو كما قال. "السلسلة الصحيحة"1/8) . 3- أحاديث المهدي: وهو خليفة صالح يغير الله به حال الناس من الظلم والجور إلى العدل والقسط والصلاح. وقد نص على تواتر الأحاديث الواردة فيه جماعة من المحدثين منهم الخطابي، وابن حبان، والعقيلي، والقاضي عياض، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وأبو الحسن الأبري، والبرزنجي، والسفاريني، والشوكاني، وصديق حسن خان، والكتاني.. وغيرهم. وقد أفرده بعض العلماء والأئمة بمؤلفات ورسائل خاصة تزيد على أحد عشر مؤلفاً. ومما ورد فيه على سبيل المثال لا الحصر ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً مني يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً" (رواه أبو داود4282، والترمذي2231، وأشار إلى صحته شيخ الإسلام في منهاج السنة وابن القيم في المنار المنيف. وأخرجه أبو داود4283، من حديث علي) . وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهديِ منيّ أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين " (رواه أبو داود4285، والحاكم4/557، وجود إسناده ابن القيم في المنار المنيف ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير) .(/4)
ثالثاً: بشائر أخرى وهي البشائر التي تعرف من طبيعة الدين وفطرة الله وسنته في خلقه ومن ذلك: 1- أن الدين الإسلامي هو الدين الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة؟ فالأديان السماوية قد نسخت وحرّف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر. قال سيد قطب -يرحمه الله-: "فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه أراد أعداؤه أم لم يريدوا" (المستقبل لهذا الدين ص93) . ويقول: "ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين بهذا الاعتبار. باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقومات كلها مترابط غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني" (المستقبل هذا الدين ص5) . 2- أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت الإنسان، وقضت على كل جوانب الخير لديه. ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية هذه الأيام بما يسمى (البروستاريكا) وكان آخر الرموز طاغية رومانيا تشاوسيسكو. وهذا العالم يتطلع اليوم إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك ولا منقذ إلا الإسلام. 3- أن من سنة الله في خلقه أن من عمل وسعى واستفرغ جهده وبذل طاقته في تحصيل مقصد أو هدف وصل إليه، ما لم تقم بعض الموانع والأسباب الحائلة دون ذلك. كما نهضت هذه الأمم التي لها الصدارة الآن بعد أن كانت على هامش الأحداث، فالمسلمون حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية، ويعملون على إقصاء الموانع من طريقهم وإبعادها تحق عليهم السنة نفسها،وهم مع ذلك يملكون العون من الله والتوفيق لأنهم حملة دينه وحماة شريعته. 4- ما نشاهده اليوم في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة إسلامية مباركة، وعودة صادقة إلى دين الله تزداد ولله الحمد يوماً بعد يوم، مما يدلّ دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب على الالتزام بحقيقة دينها والنهوض بأمتها، ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله عز وجل هذا كله مع أن الجهود المبذولة للدعوة أقل بكثير من طاقة الأمة ومما ينبغي عليها بذله. 5- أن الأمة الإسلامية قد مرت بها أزمنة عاشت فيها ركاماً من التخلف العقدي والبعد عن الشريعة، فما أن تحلولك الظلمة وتزداد الغمة حتى تدرك رحمة الله هذه الأمة فيقيض لها من ينتشلها من كبوتها ويجدد لها أمر دينها، ومن أقرب الشواهد على ذلك ما كانت تعيشه الديار النجدية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكيف تحول الناس من الشرك إلى التوحيد، ومن الضلالة إلى الهدى، بفضل الله، ثم بفضل هذه الدعوة المباركة، التي لم يقتصر أثرها داخل الجزيرة العربية، بل تجاوز ذلك إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي. * وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال وهو الذي لا يخلف الميعاد: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم:47) . ومن أصدق من الله قيلاً؟ * ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً، أم بعد سنوات؟ يقول الأستاذ محمد قطب: "في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين، سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر؛ لأنها مبينة على السنة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس. وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر، أو أجيال؟ ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث، سيحدث بمشيئة الله ما لم يقدر الله للبشرية الفناء، وحين يجيء ذلك اليوم، وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين ليعقدوا الجسر فوق الهوة الحالية بين الكفر الملحد وبين الإسلام، لا شيء.. تضحيات مضمونة في السماء والأرض" ( هل نحن مسلمون ص216) . ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر ويُمكن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر؟ لنقرأ الإجابة في القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)) (يوسف:110) . إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير. لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبائه، وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا(/5)
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) )(البقرة:214) . ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)) (آل عمران:142) . عن خباب -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت يا رسول الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله" زاد بيان "والذئب على غنمه" (رواه البخاري3852، وأبو داود2649، والنسائي5320، مختصرا) . وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم، لقي ما لقي من الأذى وخرج إلى الطائف على قدميه ثم عاد، عاد مهموماً لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب -كما حدث عننفسه (أخرجه البخاري( ) ومسلم1795) . عاد ليدخل مكة بجوار وهو من أسيادها وأشرافها، ووصف بأبشع الألقاب وهو الصادق الأمين. وتمالأ عليه قومه حتى أخرجوه ليبقى حبيس الغار ثلاثة أيام. ولقي في المدينة ما لقي من الكفار والمنافقين واليهود. وكذلك صحابته واجهوا أشد أنواع التعذيب والمشقة، ومع ذلك قام الإسلام وانتصر وعلت كلمة الله وصدقهم الله وعده. وإذا عرف المسلم ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، من الأذى وما بذله من الجهد في سبيل نشر هذه الدعوة، أدرك ضرورة الجدية في هذا الأمر، وأن التأسي به صلى الله عليه وسلم، يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية لنشر الخير والدعوة، وأن نسعى للمحافظة على هذا المجتمع وإصلاح ما نراه فيه مما لا يوافق ما شرعه الله سبحانه وتعالى، مهما كلفنا ذلك. ومهما بذل الإنسان من جهد فإنه قليل إذا قارنه بما بذله الأنبياء وعلى رأسهم محمد صلوات الله وسلامه عليه. وانظر إلى ذلك الرجل الذي ليس بنبي ((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)) ( يس:20) . انظر إليه وقد جاء ماشياً لا راكباً. جاء من أقصى المدينة ليقول كلمة الحق، بل انظر إليه كيف كان يحمل هم الدعوة وإصلاح الناس حتى بعد موته؟ ((قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)) (يس:26-27) . من حكمه جعل طريق الدعوة شاقاً وقد يسأل سائل فيقول ولم يبتلي الله عباده ويعذبهم؟ لم يجعل طريق الدعوة صعباً وشائكاً؟ لم يفعل ذلك وهو على كل شيء قدير وهو أرحم الراحمين؟ نقول نعم إن من رحمة الله أن جعل ذلك كذلك، ومن حكمته وعلمه وهو الذي لا يسأل عما يفعل. وقد وردت في كتاب الله الإشارة إلى بعض هذه الحكم نذكر منها ما يلي بإيجاز: 1- تمييز الصادق من غيره: قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)) (آل عمران:142) . ويقول: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) (آل عمران:179) . وهذه من أعظم الحكم وأجلّها إذ لو كان طريق الدعوة سهلاً ليناً لسلكه كل دعي وضعيف النفس، فليعلم الكسالى والذين يحبون الراحة والدعة أنه لا مكان لهم في هذا الصف فليتنحوا عنه من الآن. وإلا فإن الأحداث كفيلة بتطهير الصف منهم. 2- اتخاذ الشهداء: وفي ذلك يقول تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) (آل عمران:140) . ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) (محمد:4) . 3- أنه سبب لدخول الجنة: قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ)) (التوبة:111) . وقال: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة:214) . 4- الأجر والمثوبة من(/6)
عند الله: قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة:120) . 5- تكفير السيئات والتوبة: قال تعالى: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (التوبة:117) . وقال: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) (آل عمران:195) . 6- الهداية والتوفيق للحق: قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) (العنكبوت:69). وقال: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) (محمد:4) . على قراءة البناء للفاعل (هي قراءة الجمهور غير حفص وأبي عمرو انظر تحبير التيسير ص1818، والنشر2/374) . أُثر معرفة أن المستقبل للإسلام : * إن فائدة معرفة هذا الأمر فائدة عظيمة وإلا لما أخبرنا القرآن الكريم والسنة عنه بهذه الاستفاضة والكثرة في النصوص. ومن فوائد ذلك أن يكون دافعاً للإنسان للعمل والبذل لدينه لأنه إذا علم أن الحق سينتصر فإنه سوف يبذل جهده وحياته ليحصل له الشرف في أن يكون ممن يتحقق النصر على يديه. * وينبغي للداعية ألا يفارقه هذا الشعور أبداً وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال للمسلمين في مكة وهم يعذبون: "والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه" (سبق تخريجه انظر ص34) . وها هنا أمران يجب أن يضعهما الداعية في حسابه: الأمر الأول: أنه ليس شرطاً أن يرى الداعية النصر بعينه، فقد تكون نهايته كنهاية أصحاب الأخدود لحكمة يعلمها الله، لكن جزاءه لن يذهب سُدىً فهو محفوظ عند الله. هذا من ناحية زمنية أو مرحلية. أما من الناحية العامة فإن الدين لا بد أن ينتصر، ودعوة الله لا بد أن تعلو والمسألة مسألة وقت. الأمر الثاني: أنه لا ينبغي للداعية أن يتصور أنه نصر الإسلام وأعز الدين، فإنه إن لم يقم بذلك قام به غيره لكن حين يعمل الإنسان فإنه يعمل لنفسه والله غني عنه ((وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) (العنكبوت:6) . ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) (محمد:4) . وفي الختام قد يسال سائل ويقول كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ وقد سلطوا عذابهم ونيرانهم على طلائع البعث الإسلامي والدعاة إلى الله!! كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزل من السلاح؟! * إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا جهدهم ولا قوتهم. ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)) (التوبة:14) . فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته. ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) (الأنفال:17) . * وينسى هذا السائل أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم وسجونهم ومعتقلاتهم. * وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون. ((وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)) (القمر:50) . * وينسى أن الأعداء وصلوا إلى هذا المستوى الهائل من القوة والتمكين بجهدهم البشري وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف، فالمسلمون قادرون على أن يسيروا في طريق التقدم العلمي والمادي مع المحافظة على الأصول الإسلامية، بل يمكن أن يبدأوا من حيث انتهى غيرهم. فمهما كادوا للإسلام واجتمعوا لحربه. ومهما حاربوا دعاته وعذبوهم فإن الله نصار دينه ومعلي كلمته، وإن الإسلام الذي انتصر على الرغم من كيد قريش واليهود ومشركي العرب، وبالرغم من كيد(/7)
فارس والروم، والصليبيين والمغول. هو الذي تواجهه الآن قوى الشرق والغرب، ويواجهه أعداؤه الذين هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (المجادلة:21) . وصدق الله وعده وإن غداً لناظره قريب. ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (هود:121-123) .
فصول الكتاب
المقدمة
أولاً: بشائر القرآن
ثانياً: بشائر السنة النبوية
ثالثاً: بشائر أخرى(/8)
البشارات ومجتمع الدعاة
إن الدين الإسلامي دين بشارة للإنسانية جمعاء ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} "سورة الأنبياء"
والقران العظيم مليء بالبشارات للمؤمنين فمن ذلك قول الله تعالى: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيرا} "سورة الأحزاب" ، {وبشر الذين امنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار} "سورة البقرة"
وكذلك السنة النبوية نجدها مليئة بالبشارات سواء بالنصر والتمكين أو الكفارات ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم:
1. ((بشر هذه الأمة بالسنا والدين والرفعة والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) رواه الإمام احمد
2. ((أبشروا وبشروا أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قالوا : نعم قال :فأن هذا القران طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا)) موارد الظمآن- بإتباع القران
3. ((ابشري يا أم العلاء فأن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الفضة)) رواه أبو داود
إن ما أحببت أن أقوله هو ضرورة أن يعيش إخواننا الدعاة جو البشارات فها هو النبي يبشرنا بالرفعة والتمكين لهذا الدين فلنسعى مجاهدين ولنبشر إخواننا المسلمين.
لذا سوف أتناول الموضوع من حيث التعريف وأثار البشارات وكيف نوجد تلك الروح عند الدعاة.
*التعريف:
لغةً: بشر: أي سر. أبشر فلاناً: أي بلغه البشرى. البشير: هو مبلغ البشرى. البشارة وجمعها بشارات وبشائر تعنى: الخبر المفرح.
اصطلاحا (حسب رأى الكاتب): أن يتباشر الدعاة إلى الله الأخبار المفرحة فمابينهم مثل {فضل الدعوة إلى الله -الإنجازات – مكاسب الدعوة الإسلامية …} مما يبعث روح التفاؤل والنشاط في المجتمع الدعوى وهذا لا يعنى استعجال قطف الثمر.
*الآثار المترتبة على البشارات:
1- البشائر لها اثر كبير في رفع الروح المعنوية لدعاة الى الله باختلاف مواقعهم الدعوية. ولنا خير مثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى غزوة الخندق والمشركين مجتمعين حول المدينة المنورة وهو يقول لأصحابه ((والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة والبلاء وانى لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمناً وأن يدفع الله عز وجل مفاتيح الكعبة وليهلكن الله كسرى وقيصر ولتنفقن كنوز هما في سبيل الله)). سنن البيهقى الكبرى
2- البشائر تدفع المؤسسة الدعوية والداعية إلى مضاعفة الجهد لتحقيق الإنجاز تلو الإ نجاز. ولقد كان لمربى القائد محمد الفاتح دور كبير في صياغة شخصيته فقد كان يقول له منذ الصغر بأنك ستكون القائد الذي يفتح القسطنطينية والذي وصفه النبي صلى الله عليه في الحديث فقال ((لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها)) فكان النصر والفتح على يده رحمه الله.
3- البشارات تجعل المؤسسة الدعوية تعيش روح التفاؤل والإيجابية والسعي إلى تحقيق الآمال وكما قال الإمام البنا رحمه الله : (( أحلام الأمس حقائق اليوم وأحلام اليوم حقائق الغد))
الطريق إلى الوصول إلى روح البشارات في المؤسسة الدعوية:
1- الثقة بالله عز وجل ونصره وتمكينه للمؤمنين والعمل الدائب لتحقيق الإنجازات وان نكون أصحاب همم عالية وكما قال عبد القادر كيلاني: ((سيروا مع أصحاب الهمم العالية)).
2- أن لا نشيع الأخبار المحزنة بين صفوف إخواننا الدعاة وأن لا نعطيها أكبر من حجمها فالأخبار الحزينة والآهات عادة ما تؤثر على كيان المؤسسة الدعوية فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الصحابي سعد بن معاذ وسعد بن عباده وعبد الله بن رواحه وخوات بن جبير رضى الله عنهم ليعرفوا موقف يهود بنى قريظة في غزوة الخندق فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ((انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فإن كان حقاً فألحنوا لى لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس)) السيرة النبوية لابن هشام.
3- النظر للوقائع والأحداث بروح إيجابية فكثير من التحديات عندما ننظر لها بروح سلبية لانجد لها حلاً ولكن عندما ننظر إليها نظرة إيجابية نجد لها الكثير من الحلول والتصورات التى تفيد المجتمع الدعوىوتجعله يتقدم إلى الأمام.
وفى الختام ما كتبت هذه الكلمات إلا تذكيراً لنفسى ولمن غلب على نفسه اليأس والتشاؤم. فالخير لا يزال في هذه الأمة إلى قيام الساعة. والله هو الموفق إلى كل خير.
المراجع:
1. الملتقى التربوي.
2. فقه السيرة.. الغزالى.
3. الرحيق المختوم.. المباركفورى.
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
البصمة الوراثية
د. عبد الرشيد محمد أمين بن قاسم 28/4/1425
16/06/2004
تعتبر مسألة البصمة الوراثية ومدى الاحتجاج بها من القضايا المستجدة التي اختلف فيها فقهاء العصر, وتنازعوا في المجالات التي يستفاد منها وتعتبر فيها حجة يعتمد عليها كليا أو جزئيا، وقد شاع استعمال البصمة الوراثية في الدول الغربية وقبلت بها عدد من المحاكم الأوربية وبدأ الاعتماد عليها مؤخرا في البلدان الإسلامية ونسبة أعمال الإجرام لأصحابها من خلالها، لذا كان من الأمور المهمة للقضاة معرفة حقيقة البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات الأنساب وتمييز المجرمين وإقامة الحدود .
فالبصمة مشتقة من البُصم وهو فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر وبَصَمَ بصماً إذا ختم بطرف إصبعه ، والبصمة أثر الختم بالإصبع (1).
والبصمة عند الإطلاق ينصرف إلى بصمات الأصابع وهي الأثر التي تتركها الأصابع عند ملامستها الأشياء وتكون أكثر وضوحاً في الأسطح الناعمة وهي اليوم تفيد كثيرا في معرفة الجناة عند أخذ البصمات من مسرح الحادث حيث لا يكاد يوجد بصمة تشبه الأخرى .
وقد تطورت الأبحاث في مجال الطب وتم اكتشاف محتويات النواة والصفات الوراثية التي تحملها الكروموسومات والتي يتعذر تشابه شخصين في الصفات الوراثية – عدا التوائم المتشابهة – وهي أكثر دقة وأكثر توفراً من بصمات الأصابع حيث يمكن أخذ المادة الحيوية الأساسية لنستخرج منها البصمة الوراثية من الأجزاء التالية :
1 – الدم 2 – المني 3 – جذر الشعر 4 – العظم
5 – اللعاب 6 – البول 7 – السائل الأمينوسي (للجنين)
8 – خلية البيضة المخصبة (بعد انقسامها 4 – 8) 9 – خلية من الجسم .
والكمية المطلوبة بقدر حجم الدبوس تكفي لمعرفة البصمة الوراثية (2).
وقد ارتضى المجمع الفقهي بمكة التعريف التالي للبصمة الوراثية:"البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجنيات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه"(3).
إن مصادر البصمة الوراثية موجودة في النواة من كل خلية في جسم الإنسان والجسم يحتوي على ترليونات من الخلايا ، وكل خلية تحتضن نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها وكل نواة تحتضن المادة الوراثية بداية من الخواص المشتركة بين البشر جميعهم أو بين سلالات متقاربة وانتهاء بالتفصيلات التي تختص بالفرد وتميزه بذاته بحيث لا يطابق فرداً آخر من الناس ومصدر البصمة موجود على شكل أحماض أمينية (DNA) وتسمى الصبغيات لأن من خواصها أنها تلون عند الصبغ ويطلق عليها أيضاً " الحمض النووي " لأنها تسكن في نواة الخلية وهي موجودة في الكروموسومات، وهذه الكروموسومات منها ما هو مورث من الأب والأم ومنها ما هو مستجد بسبب الطفرة الجديدة NEO MUTATION
والصفات الوراثية تنتقل من الجينات وهذه الجينات تتواجد في الكروموسومات وهناك حوالي مئة ألف جين مورث في كل كروموسوم واحد ، لذلك لو تم دراسة كروموسومين فقط بطريقة عشوائية لأمكن متابعة عدد كبير من هذه الصفات الوراثية في هذين الكرموسومين ولأصبح الجواب الصحيح في معرفة البصمة الوراثية للأبوة والبنوة بنسبة نجاح تصل لـ 99.9% نظراً لعدم تطابق اثنين من البشر في جميع هذه الصفات الوراثية (4).
مجالات الاستفادة من البصمة الوراثية إن اكتشاف القوانين المتعلقة بالوراثة ومعرفة ترتيب عناصرها المشتركة والخاصة ومعرفة كيفية الاستفادة منها مما هيأه الله للبشر من العلم في هذا الزمان كما قال تعالى:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"(5).
ويمكن تطبيق هذه التقنية والاستفادة منها في المجالات التالية :
1 – إثبات النسب أو نفيه وما يتعلق بذلك مثل تمييز المواليد المختلطين في المستشفيات أو في حال الاشتباه في أطفال الأنابيب أو عند الاختلاف أو التنازع في طفل مفقود بسبب الكوارث والحوادث أو طفل لقيط أو حال الاشتراك في وطء شبهة وحصول الحمل أو عند وجود احتمال حمل المرأة من رجلين من خلال بييضتين مختلفتين في وقت متقارب كما لو تم اغتصاب المرأة بأكثر من رجل في وقت واحد ، أو عند ادعاء شخص عنده بينة ( شهود ) بنسب طفل عند آخر قد نسب إليه من قبل بلا بينة .
2 – تحديد الشخصية أو نفيها مثل عودة الأسرى والمفقودين بعد غيبة طويلة والتحقق من شخصيات المتهربين من عقوبات الجرائم وتحديد شخصية الأفراد في حالة الجثث المشوهة من الحروب والحوادث والتحقق من دعوى الانتساب بقبيلة معينة بسبب الهجرة وطلب الكلأ أو تحديد القرابة للعائلة .
3 – إثبات أو نفي الجرائم وذلك بالاستدلال بما خلفه الجاني في مسرح الجريمة من أي خلية تدل على هويته كما هو الحال في دعاوى الاغتصاب والزنى والقتل والسرقة وخطف الأولاد وغير ذلك(6).
ويكفي أخذ عينة من المني أو العثور على شعرة أو وجود أثر اللعاب عقب شرب السيجارة أو أثر الدم أو بقايا من بشرة الجاني أو أي خلية تدل على هويته .(/1)
ونسبة النجاح في الوصول إلى القرار الصحيح مطمئنة لأنه في حال الشك يتم زيادة عدد الأحماض الأمينية ومن ثم زيادة عدد الصفات الوراثية .
ومن أشهر القضايا التي استعملت فيها هذه التقنية فضيحة بيل كلنتون الرئيس الأمريكي في قضيته المشهورة مع ليونيسكي ، حيث لم يعترف ويعتذر للجمهور الأمريكي إلا بعد أن أظهرت الأدلة الجنائية وجود بصمته الوراثية المأخوذة من المني الموجود على فستان ليونيسكي .
وحادثة أخرى وقعت بالسعودية ذكرها ممثل معمل الأدلة الجنائية للعلماء في مقر رابطة العالم الإسلامي بمكة أثناء مناقشة موضوع البصمة الوراثية وحاصل القضية أن امرأة ادعت أن أباها وقع عليها ونتج عن ذلك حصول حمل ، وكان احتمال تصديقها ضعيف لأن الأب في الستينات من العمر ولقوة العلاقة التي تجمعه بالمتهمة فأجلوا موضوع التحليل حتى وضع الحمل لئلا يتضرر الجنين وعندما تم الوضع ومن خلال التحاليل وجد أن الطفل لا علاقة له بالمتهم ( الأب ) ، والأغرب وجد أنه لا علاقة له بالمرأة المدعية ، فاتضح أن القضية فيها تلاعب وأن أيدي خفية وراءها ، فالنفي عن المتهم لا إشكال فيه أما النفي عن المرأة الحامل فيه تصادم مع الواقع ، وبالرجوع لأسماء المواليد الذين ولدوا في نفس اليوم بالمستشفى اتضح أنهم بلغوا (30) طفلاً وعند حصر الصفات المطلوبة انحصرت في (12) طفلاً تم الاتصال بذويهم واحداً واحداً حتى تم الوصول للطفل المطلوب واتضح أن بصمته الوراثية دلت على ارتباطه بالمتهم ( الأب ) وأن هناك طفلاً لقيطاً أدخل المستشفى في نفس اليوم وعند التسليم تم التبديل لإخفاء الحقيقة والله المستعان .
طرق إثبات النسب في الشريعة الإسلامية
لا خلاف بين الفقهاء أن النسب الشرعي لا يثبت في حال تصادم النسب مع الواقع الحسي كما لو ادعت المرأة نسب طفل لزوجها الصغير الذي لا يولد لمثله وكذا لو أتت به قبل مضي ستة أ شهر من الزواج .
ويثبت النسب في الشريعة الإسلامية بالطرق التالية :
1 – الفراش :
وهو تعبير مهذب عن حالة اجتماع الرجل بالمرأة حيث تكون المرأة كالفراش لزوجها ، ولما كان التحقق من حالة ( الجماع ) بين الزوجين شبه متعذر لكونها مبنية على الستر اكتفى الجمهور بمظنة الدخول خلافاً للحنفية الذين اكتفوا بعقد النكاح واعتبروا المرأة فراشاً لزوجها يثبت به النسب وذهب بعض المتأخرين كابن تيمية وابن القيم إلى اشتراط الدخول المحقق وعدم الاكتفاء بمظنة الدخول .
ولا شك أن الأول أولى فعامة أحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن وإثبات الدخول المحقق في كل حالة متعذر .
وإثبات النسب عن طريق الفراش مجمع عليه بين الفقهاء لقوله – صلى الله عليه وسلم-: "الولد للفراش" (7).
2 – الاستلحاق :
وذلك بأن يقر المستلحق بأن هذا الولد ولده أو أن هذا أخوه أو أبوه وغير ذلك .
وقد اشترط العلماء للاستلحاق شروطاً أبرزها أن المُقر له بالنسب ممن يمكن
ثبوت نسبه من المقِرِّ ، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره لاستحالة ذلك عادة وعقلاً (8).
فهل هذا الشرط يمكن تنزيله على البصمة الوراثية ؟ هذا ما سيأتي الإجابة عليه في الصفحات التالية .
3 – البينة :
وقد أجمع الفقهاء على أن النسب يثبت لمدعيه بناء على شهادة العدول بصحة ما ادعاه ويكفي في ذلك الاستفاضة بمعنى الشهادة بالسماع بأن يشتهر الأمر بين الناس حتى يصير معروفاً بينهم ويقول جمع كبير من الناس سمعنا أن فلانا ابن فلان … (9).
4 – القيافة :
وهي مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه ، يقال : فلان يقوف الأثر ويقتافه والقائف هو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه (10).
والمراد بها هنا / الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود(11).
وقد ذهب الحنفية إلى أن القيافة لا يلحق بها النسب لأنها ضرب من الظن والتخمين بينما ذهب جمهور العلماء بالأخذ بها لدلالة السنة والآثار عليها، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ذات يوم مسروراً تَبْرُقُ أسارير وجهه ، فقال : "ألم تريْ أن مجزَّزاً المُدْلِجي نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامها فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض "(12).
وجه الدلالة :
أن سرور النبي – صلى الله عليه وسلم - دال على إقراره بالقيافة وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يسمع باطلاً فيقره أو يسكت عنه(13).
5 – القرعة :
وذلك عند التنازع على طفل ولا بينة لأحدهم فيجرى القرعة وهذه أضعف الطرق ولم يأخذ بها جمهور العلماء وهو مذهب الظاهرية وإسحاق ورواية عند الحنابلة وكذا المالكية في أولاد الإماء (14).
وهذه الطريقة غير معمول بها في هذا الزمان بفضل الله ثم التقدم العلمي في مجال تحليل الدم والبصمة الوراثية إذ شاعت واستقر العمل بها في محل التنازع في النسب , ولا ريب أن القرعة لا يصار إليها لوجود الدليل المرجح .(/2)
هل البصمة يثبت بها النسب ؟
ذهب العلماء المعاصرون إلى اعتبار " البصمة الوراثية " طريقاً من طرق إثبات النسب من حيث الجملة واختلفوا في بعض القضايا الفرعية وقد جاء في قرار المجمع الفقهي بالرابطة " خامساً : يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :
أ – حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .
ب – حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .
ج – حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحرب والمفقودين "(15).
وقد رأى عدد كبير من الباحثين قياس البصمة الوراثية على القيافة من باب أولى أو اعتبارها قرينة قوية والتي يأخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود وقد جاء في توصية ندوة الوراثة والهندسة الوراثية المنبثقة عن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية : " البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ،وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ، وتمثل تطوراً عصرياً عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه ، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى "(16).
ومن خلال التوصية السابقة والبحوث المقدمة في هذا المجال نجد أن فريقاً من الفقهاء يرى قياس البصمة الوراثية على القيافة وأن الأحكام التي تثبت بالقيافة تثبت في البصمة الوراثية ، ويظهر لي أن هذا القياس بعيد للأمور التالي :
1 – أن البصمة الوراثية قائمة على أساس علمي محسوس فيه دقة متناهية والخطأ فيه مستبعد جداً ، بخلاف القيافة والتي تقوم على الاجتهاد والفراسة وهي مبنية على غلبة الظن والخطأ فيها وارد ففرق بين ما هو قطعي محسوس وبين ما بني على الظن والاجتهاد .
2 – أن القيافة يعمل بها في مجال الأنساب فقط بخلاف البصمة الوراثية فهي تتعداها لمجالات أخرى كتحديد الجاني وتحديد شخصية المفقود .
3 – أن القيافة تعتمد على الشبه الظاهر في الأعضاء كالأرجل وفيها قدر من الظن الغالب ، أما البصمة الوراثية فهي تعتمد اعتماداً كلياً على بنية الخلية الجسمية الخفية وهي تكون من أي خلية في الجسم ونتائجها تكون قطعية لكونها مبنية على الحس والواقع .
4 – أن القافة يمكن أن يختلفوا، بل العجيب أنهم يمكن أن يلحقوا الطفل بأبوين لوجود الشبه فيهما(17)، أما البصمة فلا يمكن أن تلحق الطفل بأبوين بتاتاً ويستبعد تماماً اختلاف نتائج البصمة الوراثية ولو قام بها أكثر من خبير فالقياس بعيد فهذا باب وهذا باب.
وبناء على ما تقدم فالقيافة باب والبصمة الوراثية باب آخر وهو يعتبر بينة مستقلة أو قرينة قوية يؤخذ بها في الحكم الشرعي إثباتاً ونفياً وذلك للأمور التالية :
1 – أن البينة لم تأت في الكتاب والسنة محصورة في الشهادة والإقرار فقط بل كل ما أظهر الحق وكشفه فهو بينة قال تعالى في قصة موسى مع فرعون : " قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"(17).
وجه الدلالة :
قال ابن القيم : " فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد والمرأتين لم يوف مسماها حقه ، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان ، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة ، وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي" المراد به : أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له ،والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد ، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى … فالشرع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال ، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار ، مرتباً عليها الأحكام "(18).
2 – قوله تعالى : "وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" (19).
وجه الدلالة :
أن موضع قد القميص اعتبر دليلاً على صدق أحدهما وتبرئة الآخر وسمى الله ذلك شهادة(20).(/3)
3 – في قصة فتح خيبر قال النبي – صلى الله عليه وسلم - لعم حيي بن أخطب: " ما فعل مسك بن حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال أذهبته النفقات والحروب ، قال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، فدفعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير فمسه بعذاب فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة "(21).
وجه الدلالة :
أن النبي – صلى الله عليه وسلم - عمل بالقرينة العقلية واعتد بها فكثرة المال وقصر المدة فيه دلالة على الكذب ، وقد اعتد بهذا الدليل وأمر بضربه وحاشاه أن يأمر بضربه بلا حجة لأنه نوع من الظلم وهذا مستبعد في حقه – صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على اعتبار القرينة والعمل بموجبها .
فهذه الأدلة وغيرها دالة على أن الحق إذا تبين بأي وجه كان الأخذ به هو المتعين ، ولا شك أن بعض القرائن أقوى بكثير من الشهادة ، فالشهادة يمكن أن يتطرق إليها الوهم والكذب وكذا الإقرار يمكن أن يكون باطلاً ويقع لغرض من الأغراض ومع هذا تعتبر الشهادة والإقرار بينة شرعية يؤخذ بهما لكونهما مبنيتان على غلبة الظن .
وإذا علمنا أن نتائج البصمة الوراثية قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهم(22)، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها بشهادة مختصين تعين الأخذ بها واعتبارها بينة مستقلة يثبت بها الحكم نفياً أو إثباتاً ولو نظرنا إلى واقع ثبوت النسب بالشهادة وكونها تبنى على غلبة الظن ويكفي فيها الاستفاضة والشهرة مع وجود الاحتمال بالخطأ مع واقع البصمة التي لا تكاد نتائجها تخطئ في ذاتها ، والخطأ الوارد فيها يرجع إلى الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك نستطيع أن نجزم بأن البصمة الوراثية حجة شرعية يوجب العمل بمضمونها إذا توفرت شروطها ومن تأمل مقاصد الشريعة والعدل والحكمة التي قامت عليها الأحكام ظهر جلياً رجحان هذا الأمر قال ابن القيم : " فإذا ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ، والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له "(23).
ضوابط إجراء تحليل البصمة الوراثية :
اشترط الفقهاء الباحثين والأطباء المختصين في البصمة الوراثية شروطاً عديدة حتى تقبل
والذين رأوا أنها تقاس على القيافة اشترطوا شروط القيافة مع بعض الزيادات (24).
والشروط الواجب توفرها ما يلي :
1 – أن لا يتم التحليل إلا بإذن من الجهة المختصة .
2 – يفضل أن تكون هذه المختبرات تابعة للدولة وإذا لم يتوفر ذلك يمكن الاستعانة بالمختبرات الخاصة الخاضعة لإشراف الدولة ، ويشترط على كل حال أن تتوافر فيها الشروط والضوابط العلمية المعتبرة محلياً وعالمياً في هذا المجال .
3 – يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق بهم علماً وخلقاً وألا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعيين أو حكم عليه بحكم مخل بالشرف أو الأمانة (25).
4 – أن يجري التحليل في مختبرين على الأقل معترف بهما ، على أن تؤخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة أحد المختبرات التي تقوم بإجراء الاختبار بنتيجة المختبر الآخر(26).
5 – توثيق كل خطوة من خطوات تحليل البصمة الوراثية بدءاً من نقل العينات إلى ظهور النتائج النهائية حرصاً على سلامة تلك العينات ، وضماناً لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة.
6 – عمل البصمة الوراثية بعدد أكبر من الطرق وبعدد أكبر من الأحماض الأمينية لضمان صحة النتائج (27).
7 – أن يجري اختبار البصمة الوراثية مسلم عدل ، لأن قوله شهادة ، وشهادة غير المسلم لا تقبل على المسلم إلا الوصية في السفر ونحوه(28).
والخلاصة :
أن البصمة الوراثية تكون بينة مستقلة يجب العمل بمقتضاها إذا توفرت الشروط اللازمة ، وأنها لا تقاس على القيافة فهي باب آخر ، وأن عامة المعاصرين يرون صحة الاعتماد عليها في حالات التنازع وحالات الاشتباه وحالات الاختلاط سواء في الأطفال أو الجثث أو الحروب والكوارث .
هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟
اللعان : شهادات تجري بين الزوجين مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن من جانب الزوج وبالغضب من جانب الزوجة .
وقد شرع اللعان لدرء الحد عن الزوج إذا قذف زوجته بلا شهود أو أراد قطع نسب الحمل أو الطفل المولود عنه ، وهي أيضا حماية وصيانة لعرض الزوجة ودفعاً للحد عنها .
والطريقة التي جاءت به النصوص الشرعية لنفي النسب هو اللعان .(/4)
فهل يصح نفي النسب بالبصمة الوراثية إذا جاءت النتائج تؤكد ذلك ويكتفي بها أم لابد من اللعان أيضاً ؟
اختلف الفقهاء المعاصرون في صحة نفي النسب بالبصمة الوراثية فقط دون اللعان ويمكن تلخيص آرائهم على النحو التالي :
1 – لا ينتفي النسب الشرعي الثابت بالفراش (الزوجية) إلا باللعان فقط ، ولا يجوز تقديم البصمة الوراثية على اللعان .
وهذا القول عليه عامة الفقهاء المعاصرين ومنهم علي محي الدين القرة داغي وعبد الستار فتح الله سعيد (29)، ومحمد الأشقر (30).
وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة وجاء فيه " لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ، ولا يجوز تقديمها على اللعان "(31).
القول الثاني : يمكن الاستغناء عن اللعان والاكتفاء بنتيجة البصمة الوراثية إذا تيقن الزوج أن الحمل ليس منه .
وهذا الرأي ذهب إليه محمد المختار السلامي(32)، ويوسف القرضاوي (33)، وعبد الله محمد عبد الله(34).
القول الثالث : إن الطفل لا ينفى نسبه باللعان إذا جاءت البصمة الوراثية تؤكد صحة نسبة للزوج ولو لاعن ،وينفى النسب باللعان فقط إذا جاءت البصمة تؤكد قوله وتعتبر دليلاً تكميلاً .
وهذا الرأي ذهب إليه نصر فريد واصل ،وعليه الفتوى بدور الإفتاء المصرية (35).
القول الرابع : إذا ثبت يقيناً بالبصمة الوراثية أن الحمل أو الولد ليس من الزوج فلا وجه لإجراء اللعان وينفى النسب بذلك .
إلا أنه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال أن يكون حملها بسبب وطء شبهة ، وإذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية أن الولد من الزوج وجب عليه حد القذف .
وهذا الرأي ذهب إليه سعد الدين هلالي (36).
الأدلة :
أولاً : استدل القائلون بأن النسب لا ينفى إلا باللعان فقط بما يلي :
1 – قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين *"(37).
وجه الدلالة :
أن الآية ذكرت أن الزوج إذا لم يملك الشهادة إلا نفسه فيلجأ للعان ، وإحداث البصمة بعد الآية تزّيد على كتاب الله " ومن أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد "(38).
2 – عن عائشة رضي الله عنها قالت كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فأقبضه إليك ، فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي عهد إلى فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا (تدافعا) إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال سعد : يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله(39)
وجه الدلالة :
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أهدر الشبه البين وهو الذي يعتمد على الصفات الوراثية وأبقى الحكم ا لأصلي وهو " الولد للفراش " فلا ينفى النسب إلا باللعان فحسب(40).
3 – حديث ابن عباس في قصة الملاعنة وفيه : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين ، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء … فجاءت به كذلك فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : لولا ما قضي من كتاب الله لكان لي ولها شأن "(41).
وجه الدلالة :
قال عبد الستار فتح الله : " إذا نفى الزوج ولداً من زوجته ولد على فراشه فلا يلتفت إلى قول القافة ولا تحليل البصمة الوراثية لأن ذلك يعارض حكماً شرعياً مقرراً وهو إجراء اللعان بين الزوجين ،ولذلك ألغى رسول الله – صلى الله عليه وسلم (دليل الشبه) بين الزاني والولد الملاعن عليه … ودليل (الشبه) الذي أهدره رسول الله – صلى الله عليه وسلم - هنا يعتمد على الصفات الوراثية فهو أشبه بالبصمة الوراثية ومع ذلك لم يقو على معارضة الأصل الذي نزل به القرآن في إجراء اللعان"(42).
وقال ابن القيم تعليقاً على الحديث السابق أن فيه " إرشاد منه – صلى الله عليه وسلم - إلى اعتبار الحكم بالقافة ، وأن للشبه مدخلاً في معرفة النسب ،وإلحاق الولد بمنزلة الشبه ،وإنما لم يُلحق بالملاعن لو قدر أن الشبه له ، لمعارضة اللعان الذي هو أقوى منه الشبه له "(43).
4 – إن الطريق الشرعي الوحيد لنفي النسب هو اللعان ولو أن الزوجة أقرت بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج لقوله – صلى الله عليه وسلم- الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولا ينتفي عنه إلا باللعان ، ثم كيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء على نظريات طبية مظنونة(44)
5 – إننا لا نستطيع أن نعتمد على البصمة فحسب ونقيم حد الزنا على الزوجة، بل لابد من البينة ، فكيف تقدم البصمة على اللعان ولا نقدمها على الحد .(/5)
ثانياً : أدلة القائلين باعتبار البصمة الوراثية :
1 – قوله تعالى : "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم.. "(45).
وجه الدلالة :
أن اللعان يكون عندما ينعدم الشهود وليس ثمة شاهد إلا الزوج فقط حينئذ يكون اللعان .
أما إذا كان مع الزوج بينة كالبصمة الوراثية تشهد لقوله أو تنفيه فليس هناك موجب للعان أصلا لاختلال الشرط في الآية .
2 – أن الآية ذكرت درء العذاب ، ولم تذكر نفي النسب ولا تلازم بين اللعان ونفي النسب ، فيمكن أن يلاعن الرجل ويدرأ عن نفسه العذاب ولا يمنع أن ينسب الطفل إليه إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية (46).
3 – قوله تعالى : "وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت
وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" (47).
وجه الدلالة :
أن شق القميص من جهة معينة اعتبرت نوعاً من الشهادة والبصمة الوراثية تقوم مقام الشهادة (48).
4 – إن نتائج البصمة يقينية قطعية لكونها مبنية على الحس ، وإذا أجرينا تحليل البصمة الوراثية وثبت أن الطفل من الزوج وأراد أن ينفيه ، فكيف نقطع النسب ونكذب الحس والواقع ونخالف العقل ، ولا يمكن البتة أن يتعارض الشرع الحكيم مع العقل السليم في مثل هذه المسائل المعقولة المعنى وهي ليست تعبدية . فإنكار الزوج وطلب اللعان بعد ظهور النتيجة نوع من المكابرة والشرع يتنزه أن يثبت حكماً بني على المكابرة .
5 – أن الشارع يتشوف إلى إثبات النسب رعاية لحق الصغير ومخالفة البصمة لقول الزوج في النفي يتنافى مع أصل من أصول الشريعة في حفظ الأنساب ، وإنفاذ اللعان مع مخالفة البصمة لقول الزوج مع خراب الذمم عند بعض الناس في هذا الزمان وتعدد حالات باعث الكيد للزوجة يوجب عدم نفي نسب الطفل إحقاقاً للحق وباعثاً لاستقرار الأوضاع الصحيحة في المجتمع (49).
الترجيح :
قبل ذكر القول الراجح يجدر بي أن أشير إلى النقاط التالية :
1 – لا خلاف بين الفقهاء في أن الزوج إذا لاعن ونفى نسب الطفل وجاءت النتيجة تؤكد قوله . فإن النسب ينتفي ويفرق بينهما لكن الزوجة لا تحد لوجود شبهة اللعان و" الحدود تدرأ بالشبهات "(50).
2 – لا خلاف بين الباحثين في المسألة لو أن الزوجين رضيا بإجراء البصمة قبل اللعان للتأكد وإزالة الشبهة فإن ذلك يجوز في حقهما ، بل استحسن بعض الفقهاء عرض ذلك على الزوجين قبل اللعان(51).
ويظهر لي أن البصمة الوراثية إذا جاءت مخالفة لقول الزوج فلا يلتفت لدعواه بنفي النسب وإن لاعن أو طلب اللعان ، وأن نسب الطفل يثبت للزوج ويجري عليه أحكام الولد وإن جاءت موافقة لقول الزوج فله أن يلاعن وذلك للأمور التالية :
1 – أن الشريعة أعظم من أن تبني أحكامها على مخالفة الحس والواقع ، فإن الشرع أرفع قدراً من ذلك والميزان الذي أنزله الله للحكم بين الناس بالحق يأبى كل الإباء ذلك .
فلو استلحق رجلاً من يساويه في السن وادعى أنه أبوه فإننا نرفض ذلك لمخالفته للعقل والحس فلا يمكن أن يتساوى أب وابن في السن مع أن الاستلحاق في الأصل مشروع .
وقد رد جماهير العلماء دعوى امرأة مشرقية تزوجت بمغربي ولم يلتقيا وأتت بولد ، فإن الولد لا يكون لزوجها المغربي البتة لمخالفة ذلك للحس والعقل وهذا النفي
ليس تقديماً لقوله – صلى الله عليه وسلم -: " الولد للفراش " إنما لمخالفة ذلك لصريح العقل والحس .
قال ابن تيمية : " فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة ، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة فإن القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل والرسول لا يأمر بخلاف العدل " (52)
2 – أن آية اللعان قيدت إجراءه بما إذا لم يكن ثمة شاهد إلا الزوج ، ومفهومه أنه لو كان هناك بينة من شهود فإنه لا يجرى اللعان بل يثبت ما رمى به الزوج زوجته .
ومن البدهي لو كانت هناك بينة أخرى غير الشهادة فلا وجه لإجراء اللعان كما لو أقرت الزوجة زوجها فيما رماها به من الزنا . فإذا منعنا وقوع اللعان لوجود سبب مانع له ، فما وجه إجرائه مع وجود بينة قطعية ( البصمة الوراثية ) تخالف دعوى الزوج . فإننا إذا قمنا بذلك كان ضرباً من المكابرة ومخالفة للحس والعقل ، واللعان معقول المعنى معروف السبب وليس تعبدياً محضاً .
قال ابن القيم:"والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد…"(53)(/6)
فإذا علمنا أن الشهادة أقوى من قول الزوج في اللعان لأن الشهادة مبنية على غلبة الظن أما قول الزوج في اللعان فهو متساوي الطرفين في الصدق أو الكذب أي بنسبة (50 %) لأنه إما أن يكون صادقاً أو تكون الزوجة صادقة ، فهل من الفقه أن ندع بينة قطعية تصل لـ 99.9 % تؤكد كذب الزوج ونأخذ ما هو محتمل للصدق بنسبة 50% وننسب ذلك للشريعة ؟؟!!
قال ابن القيم : " والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر وأقوى دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له " (54).
3 – قوله تعالى : "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" (55)
فإلحاق نسب الطفل بأبيه مقصد عظيم من مقاصد الشريعة ، فإذا أثبتت البصمة الوراثية نسب طفل وأراد الأب لأوهام وشكوك أو للتهرب من النفقة أو لأي غرض آخر – مع ضعف الذمم في هذا الزمان – فإن العدل يقتضي أن نلحق الطفل بأبيه ولا نمكن الأب من اللعان لئلا يكون سبباً في ضياع الطفل . (56).
4 - إن الاحتجاج بقصة اختصام عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص وإلحاق الرسول – صلى الله عليه وسلم - الولد بالفراش وأمره لسودة بالاحتجاب منه مع أنه أخوها ،فقد قال ابن القيم : " وأما أمره سودة بالاحتجاب منه ، فإما أنه يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشَّبَهُ البيِّن بعُتبة ، وأما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالاً للدليلين فإن الفراش دليل لحوق النسب ، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدّعي لقوته ، وأعمل الشَّبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة ، وهذا من أحسن الأحكام وأبينها ، وأوضحها ، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه …وقال : وقد يتخلف بعض أحكام النسب مع ثبوته لمانع ، وهذا كثير في الشريعة ، فلا ينكر مِن تخلُّف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة ، وهل هذا إلا محض الفقه "(57).
فدعوى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت لأمر الشبه (البصمة الوراثية) واستدلالهم بالحديث هذا هو استدلال بعيد ، بل الحديث حجة عليهم حيث اعتبر الرسول – صلى الله عليه وسلم- أمر الشبه لذا أمر بالاحتجاب .
ففي حال التنازع على طفل ولد على فراش صحيح ، ما المانع أن نعمل دليل الشبه ونثبت مقتضاه نفياً وإثباتاً ، ويكون درء الحد عن الزوج لوجود شبهة اللعان وبهذا نعمل بالأدلة كلها لا سيما وأن الطفل ولد على الفراش فيتقوى إثبات النسب للطفل من جهة " الولد للفراش " ، ومن جهة البصمة الوراثية ، هذا في حال نفي النسب وثبوت خلاف ذلك من جهة البصمة ، أما إذا جاءت البصمة تؤكد قول الزوج فيجتمع دليل اللعان مع البصمة فينتفي النسب وندرأ الحد عن الزوجة لوجود شبهة اللعان .
أما في حال الملاعنة فالأصل أن الطفل منسوب للزوج لأن الزوجة فراش له وجاء أمر الشبه ( البصمة الوراثية ) تؤكد ذلك الأصل فإننا نعمل بالأصل ونلحق الطفل بأبيه لدلالة الفراش والشبه ونكون أعملنا الشطر الأول من الحديث " الولد للفراش " وندرأ الحد عن الزوج إذا لاعن لوجود شبهة الملاعنة والحدود تدرأ بالشبهات ونكون أعملنا الشطر الثاني من الحديث " واحتجبي عنه يا سودة " .
ويجاب عن حديث الملاعنة بنحو ما تقدم فقد جاء في الحديث " إن جاءت به
أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو الذي رميت به – وهو شريك بن سمحاء كما في رواية البخاري – فجاءت به أورق جعداً خدلج الساقين سابغ الإليتين ، أي شبيهاً لشريك بن سمحاء الذي رميت به – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " فقد أفاد الحديث أنه حتى لو تمت الملاعنة بين الزوجين وولد الطفل شبيهاً بالزوج صاحب الفراش فإنه ينسب له ولا ينفى عنه – ؛ لأن النص جاء بنسبته إليه لأنه أقوى بكثير من مجرد التشابه الظاهري الذي أخذ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في إثبات النسب ويدرأ الحد عن الزوج لوقوع الأيمان وبهذا عملنا بالأدلة كلها وهذا من دقائق المسائل التي يحظى بها من رزقه الله حظاً وافراً من الفقه (58).
4 – أن اعتراضهم على عدم إقامة الحد على الزوجة اعتماداً على البصمة الوراثية واكتفاءً بها دليل على أنها ليست حجة بذاتها يجاب عنها من وجهين :(/7)
1 – أن هناك فرقاً بين إثبات النسب أو نفيه وبين إقامة الحد القائم على المبالغة في الاحتياط فالحدود تدرأ بالشبهات بخلاف النسب فهو يثبت مع وجود الشبهة كما في قصة عبد بن زمعة ، فلو ادعت المرأة أنها كانت مكرهة أو أنها سقيت شراباً به مادة منومة وزنا بها آخر فحملت منه كان ذلك كافياً في إسقاط الحد عنها ، وكذا الرجل لو ادعى أنه أودع منية في ( بنك المني ) وأن امرأة أخذت منيه بطريقة أو بأخرى واستدخلته وحملت بطفل وجاءت البصمة الوراثية تؤكد لحوق الطفل وراثياً بذلك الرجل لم يحد لوجود شبهة ، لا لأن البصمة ليست حجة .
2 – إن من العلماء المعاصرين من يقول بإقامة الحد إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية ولم يدع المتهم شبهة اعتماداً على هذه البينة وأخذاً بما أخذ به بعض الفقهاء المتقدمين كما قال ابن القيم : " والرجوع إلى القرائن في الأحكام متفق عليه بين الفقهاء ، بل بين المسلمين كلهم ، وقد اعتمد الصحابة على القرائن فرجموا بالحبل وجلدوا في الخمر بالقيء والرائحة وأمر النبي r باستنكاه المقر بالسكر وهو اعتماد على الرائحة … فالعمل بالقرائن ضروري في الشرع والعقل والعرف " (59).
3 – إن الفقهاء نصوا على أن الملاعن لو بدا له أن يعود في قوله ويلحق ابنه الذي نفاه باللعان جاز له ذلك لزوال الشبهة التي لاعن من أجلها ، فهل من الحكمة ومن العدل أن يتجاسر الناس للتعرض للعنة الله أو غضبه وندع البينة (البصمة الوراثية) ولا نحكمها بينهم ، ثم بعد اللعان يعود ويلحق ما نفاه !! فإن هذا من الفقه البارد .
الخلاصة :
أن البصمة الوراثية يجوز الاعتماد عليها في نفي النسب ما دامت نتيجتها قطعية كما يرد دعوى الزوج في نفي النسب إذا أثبتت نتائج البصمة الوراثية القطعية لحوق الطفل به ، لأن قول الزوج حينئذ مخالف للحس والعقل وليس ذلك تقديماً للعان ، وينبغي للقضاة أن يحيلوا الزوجين قبل إجراء اللعان لفحوص البصمة الوراثية لأن إيقاع اللعان مشروط بعدم وجود الشهود ، فإذا كان لأحد الزوجين بينة تشهد له فلا وجه لإجراء اللعان .
والأخذ بهذه التقنية يحقق مقصود الشرع في حفظ الأنساب من الضياع ويصد ضعفاء الضمائر من التجاسر على الحلف بالله كاذبين ، والله اعلم .
(1) انظر : مادة ( بصم ) لسان العرب لابن منظور 12 / 50 ، القاموس المحيط للفيروزآبادي 974 ، المعجم الوسيط ص 60 .
(2) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الله عبد الواحد ص 5 .
(3) انظر : قرارات مجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة .
(4) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الله ص 5 ، البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية لسعد الدين هلالي ص 27 .
(5) سورة البقرة : 254 .
(6)انظر : ثبت علمياً حقائق طبية جديدة لموسى المعطي ص 105 ، مذكرة البصمة الوراثية في ضوء الإسلام لعبد الستار فتح الله سعيد ص 9 ، البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم الدين عبد الله عبد الواحد ص 1 8 .
(7) انظر : بدائع الصنائع للكاساني 4 / 125 ، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 87 ، مغني المحتاج 2 / 261 ، كشاف القناع للبهوتي 4 / 235 ، زاد المعاد لابن القيم 5 / 410 ، فتح الباري لابن حجر 12 / 38 والحديث رواه الشيخان .
(8) انظر : المبسوط للسرخسي 17 / 102 ، حاشية الدسوقي 3 / 412 ، إعانة الطالبين للبكري 3 / 283 ، المغني لابن قدامة 8 / 61 .
(9) انظر : سبل السلام للصنعاني 4 / 137 ، زاد المعاد لابن القيم 5 / 417 ، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 348 ، المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 12 / 123 .
(10) انظر مادة ( قوف ) لسان العرب لابن منظور 9 / 293 ، زاد المسير لابن الجوزي 5 / 34 ، تفسير الطبري 15 / 87 .
(11) انظر : التعريفات للجرجاني ص 171 .
(12) رواه البخاري .
(13) انظر : مواهب الجليل للخطاب 5 / 247 ، الشرح الكبير للدردير 3 / 416 ، حاشية البيجيرمي 4 / 411، روضة الطالبين للنووي 12 / 107 ، الفروع لابن مفلح 5 / 27 ، منار السبيل لابن ضويان 1 / 434 ، المحلى لابن حزم 10 / 149 .
(14) انظر : التاج والإكليل للعبدري 6 / 340 ، شرح الزرقاني 5 / 109 ، المحلى 10 / 150 ، المبدع لابن مفلح 5 / 307 ، الفروع لابن مفلح 5 / 409 ، إعلام الموقعين لابن القيم 2 / 63 ، نيل الأوطار للشوكاني 7 / 78 .
(15) انظر : قرارات مجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة .
(16) انظر : ملخص أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب ص 46 ، موقع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية islamset.com والقرينة : كل إمارة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه .
(17) انظر : كشاف القناع للبهوتي 5 / 426 / المبدع لابن مفلح 5 / 309 . سورة الأعراف : 105- 108 .
(18) انظر : الطرق الحكمية ص 16 ، أيضاً : إعلام الموقعين 10 / 34 .
(19) سورة يوسف : 26 – 28 .
(20) انظر : تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 95 ، معين الحكام للطرابلسي ص 166 .(/8)
(21) أخرجه أبو داود ( 14 ) كتاب الخراج والإمارة والفيء ( 24 ) باب ما جاء في حكم أرض خيبر برقم 3006 وإسناده صحيح كما قاله بشير محمد عيون في تحقيقه للسياسة الشرعية ص 51 .
(22) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لوهبة الزحيلي ص 6 .
(23) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 وقد ذكر ابن القيم صوراً كثيرة دلت القرينة على الحكم الشرعي ، بل كانت أقوى من الشهادة والإقرار .
(24) انظر : بحث البصمة الوراثية وأثرها في إثبات النسب لحسن الشاذلي ص 478 ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية - .
(25) انظر : توصيات الحلقة النقاشية بموقع المنظمة islamset.com ، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 / 10 / 1422هـ الموافق 11 يناير 2002م توصية مجمع الفقه الإسلامي السادس عشر .
(26) قياس البصمة الوراثية على الشهادة قياس مع الفارق لأن درجة صدق المخبر به مختلفة ، والشهادة تجرى بموجبها الحدود بخلاف البصمة، والأولى أن يرجع فيه لأهل الاختصاص فهم أعرف بالمفارقات والاختلافات وربما قرروا تكرار البصمة مرات ولو كان إجراؤها في مختبرين احتياطاً لا على سبيل الإلزام فهو حسن .
(27) انظر : البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب لنجم عبد الواحد ص 22 ويظهر لي أن هذا الشرط غير لازم بل يرجع فيه إلى أهل الاختصاص فمتى احتاج الأمر للتكرار وجب ذلك وإلا فلا .
(28) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 441 – 460 ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية - ويرى الشافعية والحنابلة والظاهرية أن القائف مخبر وليس شاهد = وبناء على ذلك لا يشترط العدد بل يكفي قول خبير واحد وهذا ما اختاره وهبة الزحيلي في بحثه البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ص 10 وهو الظاهر .
(29) انظر : البصمة الوراثية من منظور الفقه الإسلامي ص 25 ، البصمة الوراثية في ضوء الإسلام ص 18 – بحث مصور مقدم للمجمع الفقهي بالرابطة 1422هـ .
(30) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 441 – 460 ، ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – الوراثة والهندسة الوراثية -
(31) انظر : ملاحق البحث ، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 27 / 10 / 1422هـ الموافق 11 يناير 2002م . وجاء هذا القرار بالأغلبية .
(32) انظر : إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد المختار السلامي ص 405 – ضمن البحوث المقدمة للندوة الفقهية الحادية عشرة من أعمال المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 1413هـ .
(33) من خلال سماعي لرأيه ضمن مناقشات موضوع البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي السادس عشر بمكة في 25 / شوال / 1422هـ الموافق 9 / يناير 2002م .
(34) انظر : الوراثة والهندسة الوراثية والجينيوم البشري 1 / 506 ، 510 ضمن المناقشات الفقهية للبصمة الوراثية في الندوة الحادية عشرة من أعمال المنظمة الطبية الإسلامية للعلوم الطبية .
(35) انظر : بحثه البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ص 30 – بحث مقدم للمجمع الفقهي الحادي عشر بالرابطة 1422هـ - .
(36) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لسعد الدين مسعد الهلالي ص 21 – بحث مقدم للمجمع الفقهي الحادي عشر بالرابطة 1422هـ -.
(37) سورة النور : 6 – 9 .
(38) انظر : مناقشات البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي بالرابطة في الدورة السادسة عشرة 1422هـ – 2001م والاستدلال لصالح الفوزان .
(39) أخرجه البخاري (85 ) كتاب الفرائض (18 ) باب الولد للفراش برقم 6749 ، ومسلم (17 ) كتاب الرضاع ( 10) باب الولد للفراش وتوقي الشبهات برقم 1457وفيه لفظ " فرأى شبهاً بيناً بعتبة " .
(40) انظر : البصمة الوراثية في ضوء الإسلام لعبد الستار فتح الله ص 19 ، البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها لعمر السبيل ص 43 – 44 .
(41) رواه البخاري ومسلم .
(42) انظر : بحثه البصمة الوراثية في ضوء الإسلام ص 18 .
(43) انظر : زاد المعاد لابن القيم 5 / 362 .
(44) انظر : البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها لعمر السبيل ص 29 – 30 وقوله إنها مظنونة فيها نظر فالذي عليه قول أهل الاختصاص أنها قطعية والمتعين الرجوع إلى أقوالهم في المسائل التي تخصهم . انظر بحث دور البصمة الوراثية في اختبارات الأبوة للطبيبة صديقة العوضي ص 350 ، بحث البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات البنوة للطبيب سفيان العسولي ص 387 ، البصمة الوراثية ومدى حجيتها لسعد العنزي ص 432 ، إثبات النسب بالبصمة الوراثية لمحمد الأشقر ص 455 ضمن البحوث المقدمة للندوة الفقهية الحادية عشرة من أعمال المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية 1419هـ .
(45) سورة النور : 4 .
(46) من خلال سماعي لمناقشات البصمة الوراثية بالمجمع الفقهي بالرابطة في الدورة السادسة عشرة بمكة شوال 1422هـ ، وهذا التوجيه للصديق الضرير .
(47) سورة يوسف 26 – 28 .(/9)
(48) اختلف المفسرون في معنى ) وشهد شاهد من أهلها ( فقال مجاهد :" قميص مشقوق من دبر فتلك الشهادة، وقال سعيد بن جبير : كان صبياً في مهده ، وقال عكرمة : رجل حكيم ، ورجح ابن جرير أنه صبي في المهد لورود الخبر عن رسول الله e في ذلك انظر تفسير الطبري 7 / 194 ، تفسير القرطبي 9 / 172 ، تفسير ابن كثير 2 / 476 .
(49) انظر : البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لنصر فريد ص 30 .
(50) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 15 / 351 ، القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الجنايات والعقوبات لعبد الرشيد قاسم – رسالة ماجستير – ص 212 ، 218 .
(51) وقد حكى عمر السبيل – رحمه الله - عن عبد العزيز القاسم القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض أنه تقدم إليه شخص بطلب اللعان من زوجته للانتفاء من بنت ولدت على فراشه ، فأحال القاضي الزوجين مع البنت إلى الجهة المختصة بإجراء اختبارات الفحص الوراثي ، فجاءت نتائج الفحص بإثبات أبوة الرجل للبنت إثباتاً قطعياً ، فكان ذلك مدعاة لعدول الزوج عن اللعان وزال ما كان في نفسه من شكوك في زوجته ، كما زال أيضاً بهذا الفحص الحرج الذي أصاب الزوجة وأهلها جراء سوء ظن الزوج ، فتحقق بهذا الفحص مصلحة عظمى يتشوف إليها الشرع ويدعو إليها ، انظر بحثه : البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها ص31 .
(52) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 22 / 332 ، جامع المسائل لابن تيمية المجموعة الثانية ص 239 .
(53) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 .
(54) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص 19 وقد ذكر ابن القيم صوراً كثيرة دلت القرينة على الحكم الشرعي ، بل كانت أقوى من الشهادة والإقرار .
(55) سورة الأحزاب : 5 .
(56) انظر : زاد المعاد لابن القيم 5 / 371 أيضاً حاشية ابن القيم 6 / 262 ، مجموع الفتاوى لابن تيمية 7 / 420 .
(57) انظر : مذكرة البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها لنصر فريد ص 40 .
(58) انظر : بدائع الفوائد لابن القيم 4 / 819 .(/10)
البطولة في تاريخ الإسلام – 21
الأستاذ أنور الجندي
في تاريخ الإسلام تتكشف البطولة في ثلاثة أبعاد:
- بطولة الحرب والمقاومة ورد الغزاة.
- بطولة الفكر وتصحيح المفاهيم.
- بطولة بناة الدول في مجال الحضارة.
وهي بهذا تكاد تسيطر على تاريخ الإسلام كله للذي يجري في هذه الأبعاد الثلاثة، والواقع أن الإسلام قد رسم أيديولوجية جديدة لها طابعها الخاص، تتسم بالإيمان بالله وقوامها الجهاد في سبيل كلمته وإقامة حياة الفرد والجماعة على أساس العمل المتقدم البناء في مجال الإنشاء والحضارة، ونم خلال هذا المفهوم تتمثل النظرة إلى الحياة والمال والموت والجزاء
ومن هنا برزت "البطولة" التي تمثلت في شخصيات نموذجية أهدت حياتها لتحقيق رسالة الإسلام في الدعوة إليه والدفاع عنه وتصحيح مفاهيمه ورد عادية خصومه عن قيمه وعن أرضه.. ومن هنا كان مفهوم "الجهاد" لا يتوقف على الحرب وحدها وإنما يتسع نطاقه حتى يشمل مجال النشاط الإنساني كله ما دام هدف الحياة الإنسانية الأساسي هو تحقيق رسالة الإسلام ودعوته.
هذا هو التغيير الخطير الذي أدخله الإسلام على مفاهيم الأمة التي بزغ فيها ضوؤه وهي أمة مهيأة بالفطرة لتقبل رسالة عظمى كهذه الرسالة ولما كانت حركات التاريخ كلها تتمثل في أمم وجماعات تكون بطبيعتها معدة إعداداً نفسياً وبيئياً ووراثياً لحمل رسالة معينة، فإنه من خلال هذه الجماعة تبرز بطولات الأفراد التي تخطو بالعمل خطواته المنوالية.
كذلك فإن الأمة العربية بطبيعة تكوينها وبيئتها ووراثياتها، وهي تعيش في هذه الجزيرة الضيقة المنعزلة عن حضارة الرومان وحضارة الفرس والتي بعدت عن عبور الغزاة وحركات الغزو ومعارك القتال وتيارات الحضارة والفكر والمذاهب والأديان، إنما كانت معدة بذلك إعداداً خاصاً لتلقي رسالة ضخمة إنسانية عالمية تحمل لواءها بكل هذه العوامل المكونة لنفسية جماعتها وأفرادها، وقد التقى مفهوم الإسلام بطبائع العرب. فتحقق بذلك تحول خطير في قيم العرب وفق مقاصد الإسلام، وقد حدث هذا التحول الخطير في دقة ويسر.. واستطاعت أعوام لا تزيد على نيف وعشرين عاماً هي حياة الرسول محمد بن عبد الله منذ بعثته إلى وفاته، أن تحقق هذا التحول.. فقد عرف العرب بالشهامة والكرة والقوة والعزم والمقاتلة والصبر والصمود والبذل. وتلك كلها صفات يرتضيها الإسلام.. غير أنها قبل الإسلام كانت موجهة في بسيل الغاية الفردية. والاستطالة والثأر. والاستعلاء والظلم. فكان أن حولها الإسلام إلى مفهوم إنساني رفيع، وجعلها في سبيل تحقيق هدف ومن أجل غايات عليا قوامها الإنسانية والتوحيد والعدل والحق والحرية، وأحاطها بسياج متين من الضوابط، فعدل اتجاهها وبالتالي عدل اتجاه النفس الإنسانية العربية وجعل عزيمتها الصارمة قوة لا حد لها في سبيل إذاعة كلمة الله في الآفاق وتحطيم كل قوة تحول دون توسعها.
دون أن تكون قوة عدوان أو تسلط أو ظلم. وإنما تكون وفق مفهوم القرآن "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..".
والمسلمون يقاتلون في سبيل غاية عليا هي تحقيق كلمة الله ونشر الإسلام والدفاع عنه. وهم لا يطمعون في مغلم مادي بالدرجة الأولى. وهم في أعمق أعماقهم قد خرجوا على مضمون واضح في نفوسهم.. هو النصر أو الشهادة.. وفي حال الشهادة يحس المسلم أنه أحرز أكثر نصر.. فهو قد قدم روحه في سبيل فكرة ملأت نفسه وفاضت بها روحه. ومن هنا فهو يقاتل دون أن يخشى الموت أو القتل لأنه وطد نفسه على أن يموت. فلابد أن ينصر الكلمة التي آمن بها أولاً. ومن هنا فإن النتيجة أن ينتصر ولا يموت، تحقيقاً لقانون صادق: "اطلب الموت توهب لك الحياة". وليس معنى هذا أنه لم يقتل من المسلمين أحد، فقد قتل الكثيرون ولكنهم ماتوا شهداء.. مؤمنين بأنهم قد أدوا حق الله في سبيل مبدأ آمنوا به وعقيدة ملأت نفوسهم.
وقد عاش هذا المعنى في نفوس المسلمين طويلاً وما زال حياً نابضاً بالحياة، فهم يتمثلون في كل خطوة، ذلك المعلم الأول والقائد الأول.. ما تزال صورته الواضحة الدقيقة المتمثلة في كتب السنة، وفي مختلف تصرفاته، تواجههم وتملأ قلوبهم بالشوق إلى المتابعة والتأسي. فقد كان صلى الله عليه وسلم هو التطبيق العملي لفكرة الإسلام ومقاصده وأهدافه.
فكان تجسيداً كاملاً لتعاليم الإسلام، والأسوة الحسنة للمسلمين، كان خلقه القرآن.. وقد وصفه الحق بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".
وقد تمثلت البطولة بعد مرحلة النبوة في مواجهة الردة التي أصبحت الجزيرة العربية عليها ذات يوم بعد اختيار النبي للرفيق الأعلى، وفيما عدا تثقيف وقريش فقد ارتد سائر العرب.. وكان موقف الصديق، دائماً قوياً فقد أصر أبو بكر الخليفة الأول على المقاومة ورفض الاستسلام.. وأنفذ أحد عشر جيشاً في يوم واحد.. واستطاع أن يستأصل الردة في معارك متعددة أكبرها معركة اليمامة..(/1)
وسرعان ما أبرزت هذه المعركة الأساسية في ميزان بقاء الإسلام بطولات. في مقدمتها بطولة البراء بن مالك. فقد زحف المسلمون حتى الجئوا المرتدين إلى حديقة أطلق عليها من بعد (حديقة الموت) وفيها مسيلمة مدعي النبوة.
فقال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديثة.
فقيل للبراء: لا تفعل.. قال: والله لتطرحني عليهم فيها..
فحمل إلى أن أشرف على الحديقة حتى فتحها للمسلمين.
وفي مواقف متعددة وغزوات مختلفة توالت على ثرى الشام وفارس والعراق ومصر برزت معالم البطولة الإسلامية حية نابضة بالحياة. وقد غيرت مقومات الإسلام القيم والمفاهيم لدى المرأة، كما غيرتها لدى الرجل. فقد جاهدت المرأة في الحرب وقاتلت.. فقدمت حليها وشعرها.. وفي معركة اليرموك قاتلت النساء في جولة فخرجت جويرية بنت أبي سفيان ومعها زوجها فقاتلت قتالاً شديداً.
وهكذا بدت بطولة الحرب والمقاومة في صورة نم أدق صورها. مستمدة قوتها نم مفهوم الإسلام نفسه. وإذا كانت بطولة الحرب قد توقفت في العام 114 هـ بصورة عامة، فإنها ظلت حية تتمثل في حركة المقاومة التي لم تتوقف في جبهات الحدود الإسلامية البيزنطية والحدود الأندلسية الأوربية والإسبانية وفي حدود عالم الإسلام والمشرق.
فقد امتدت معارك المقاومة متقطعة على مراحل وفترات ولكنها كانت وفق خطة لم تتغير من جانب العدو هي: الإدالة من علم الإسلام أو الحيلولة بينه وبين التوسع... ثم برزت ثلاث معارك ضخمة.. هي الحروب الصليبية في المشرق وحروب الفرنجة في الأندلس والمغرب والغزو الصليبي التتري. وفي خلال هذه المعارك تجددي مفاهيم الإسلام في المقاومة بصمودها وسماحتها في الوقت نفسه. وبرزت نماذج جديدة من البطولة الحربية، وتشابهت صور نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي مع صور خالد ابن الوليد وسعد بن أبي وقاص.. وتلمس المسلمون على المدى الطويل أخلاق الإسلام ومفاهيمه، يحاولون أن يكونوا على مستوى الرعيل الأول حماية للذمار ومقاومة للعدو وعدلاً وسماحة.
بطولة العلم التجريبي
لا مشاحة إن العلم كان ولا يزال من أخصب جوانب الفكر الإسلامي ودعامة أساسية في بناء الحضارة الإسلامية فقد حرض القرآن على اصطناع العقل، ودعا إلى النظر في الكون والبحث في أعماق الأرض ففتح الباب واسعاً للمسلمين مذ اللحظة الأولى لنزوله إلى النظرة العلمية العقلية القائمة على التكامل بين العقل والقلب والوسطية بين الروح والمادة وقد كانت أزهر فترات التاريخ الإسلامي هي المرحلة التي توازن فيها الفكر الإسلامي: جامعاً بين الدين والدنيا وبين ثقافة القلب وثقافة العقل..
وفي مجال العلم برز أبطال من الباحثين الدارسين لم يتوقف أمرهم عند علوم الشريعة والعقيدة والأخلاق وإنما امتد إلى مجال العلوم الطبيعية والرياضية فبلغوا في مختلف مجالاتها قدراً عاليًا، وقد كانت قاعدتهم الأساسية: العلم هو علم الدنيا والآخرة معاً وهو العلم الجامع بين بناء الحضارة وبناء النفس الإنسانية جميعاً.
هذه النظرة كانت قيمة أساسية في مجال البحث العلمي الإسلامي.. أما انحراف هذه النظرة في مرحلة الضعف حين غلبت (الجبرية) وحين انصرف المسلمون عن العلوم الطبيعي والرياضية فذلك انحراف لا ينسب إلى الإسلام وإنما ينسب إلى المسلمين.
وقد بدأ المسلمون ممارسة العلم والبحث في مختلف المجالات قبل أن يتصلوا بالفلسفات اليونانية وغيرها فلما بدأت ترجمة الآثار اليونانية أخذوا تلك المبادئ القليلة التي كانت عند اليونان فنظروا فيها وعرضوها على مفهوم التوحيد الخالص فرفضوا منها وقبلوا ثم نموا ما قبلوه وأضافوا إليه ثم أبدعوا علوماً أخرى لم يسبقهم إليها أحد.
ولاشك أن اتجاه الفكر الإسلامي إلى الانفتاح على الثقافات البشرية: فارسية ويونانية وهندية، كان إيماناً بإنسانية الفكر الإسلامي ومرونته وحيويته وقدرته على استيعاب الثقافات البشرية وصهرها في بوتقته ورفض ما لا يتفق مع مفاهيم الإسلام ومقوماته. وإذا كان أئمة المسلمين يهدون الهدايا إلى حكام بيزنطة إغراء لهم بإرسال الكتب القديمة، بل وكانوا يجعلون هذه الكتب من الجزية المفروضة على الروم فإن دلالة هذا التصرف واضحة في فهم المسلمين للإسلام وجرأتهم في مجال العلم والعقل والبحث.
وقد نما الفكر الإسلامي من خلال العقائد والفقه وكان تحقيق الحديث النبوي علامة ضخمة على قيام المنهج العلمي الموثق لقبول النصوص أو رفضها، هذا المنهج الذي نما بعد ذلك في مجال الفقه والتاريخ، ثم كانت التفريعات والتشقيقات التي قام بها المفكرون المسلمون إزاء القضايا والأحداث والمواقف المتعددة لإيجاد حلول منوعة لكل حالة من حالات المجتمع وعلاقات الناس في مختلف البيئات والعصور.(/2)
كانت هذه الممارسة مقدمة للعمل في مجال الفلك والكيمياء والرياضيات والطب الذي حقق مولد حدث ضخم هو (المنهج التجريبي الإسلامي) الذي رسم المفكرون المسلمون والعرب منهاجه ووضعوا قواعده وأقاموا عليه أعمالاً ضخمة وحققوا به تقدماً بارعاً.
هذا المنهج التجريبي الإسلامي هو آخر ما أهدت الحضارة الإسلامية لأوروبا في القرن العاشر الهجري والقرن السادس عشر الميلادي عن طريق الأندلس بعد أن سجل أعلام العلم التجريبي خطوات واسعة تشهد بدور المسلمين في إقامة هذا المنهج وممارسته، وفي مقدمة هؤلاء الرازي وابن سينا والخوارزمي والبتاني والبيروني وعمر الخيام، وابن زهر وابن خاتمة وابن الهيثم وابن العوام وابن البيطار وابن رشد وابن الخطيب.
الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وقال: إذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكاراً فليس في العلم ابتكار على الإطلاق، فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد.
والحق أن المسلمين لم ينقلوا المفهوم الرياضي الإغريقي بل وضعوا مفهوماً جديداً – كما فعلوا في الفلسفة والأخلاق والتصوف والأدب، وكل الفنون التي كان لها وجود سابق على الإسلام. وكان مفهومهم قائماً على الربط الوثيق بين مكتشفات العلم وبين مبادئ الإسلام.
وهكذا كان موقف المسلمين من العلم موقفاً له طابعه الاستقلالي الإبداعي، وإذا كانوا قد أخذوا من تراث الأقدمين فإنهم لم يستسلموا له أو يتوهوا فيه ولم يدعوه يصوغهم بل هم الذين صاغوه وفق إطار واضح منت قيمهم ومفاهيمهم، ذلك أن القرآن قد دعاهم إلى العلم وحثهم الإسلام على النظر في الكون والبحث في الأرض فلما تسلموا زمام العلم لم يخضعهم، وإنما أخضعوه وحرروه من زيوف الوثنيات والغموض وحاولوا دون أن يكون وسيلة للعدوان أو أباحته. فقد أعادوا صياغته في ضوء مفهوم الإسلام خلقاً جديداً مختلفاً كل الاختلاف ثم أقاموا عليه بناء ضخماً وأضافوا إليه إضافات كبيرة.
وقد كانت أداة العمل في مجال العلم عند المسلمين هي:
(النظر العقلي + التجربة + الرحلة) وقد بلغ المسلمون في ذلك غاية الغايات فحققوا النصوص القديمة ورفضوا ما لا يقبله العقل والتمسوا التجربة في المعامل فقاموا بها على الحيوانات والحشرات ثم ذهبوا إلى أطراف الأرض يبحثون عن الحقائق وقد رحل البخاري ستة عشر عاماً ورحل الغزالي عشر سنوات ورحل ابن بطوطة ربع قرن كامل.
كما حفلت عواصم الحضارة الإسلامية بمعاهد العلم ومعامله ومراصد الفلك والمكتبات، وكان في بغداد وحدها في عصر المقتدر بالله الخليفة العباسي ما قارب التسعمائة طبيب ممن جازوا الامتحان ليكونوا أطباء وقد نظمت صناعة الطب فكان للأطباء رؤساء وكان عليهم رقباء لاتصال أعمالهم بمصالح الناس كافة، ومن الأطباء من كان خاصاً بالجند فهو يصحبهم في أسفارهم ولهم رواتب ومنهم من يطببون العامة وهم غير المرتزقين ومنهم متخصصون ومنهم الطبيب على إجماله ومنهم الجراح والفاصد ومنهم الكحال أي طبيب العيون والأسنان ومنهم من يقتصر عمله على معالجة النساء ومنهم من يطب للمجانين. وكانت جامعة بغداد تعتمد سنوياً مليوناً ونصف مليون فرنك لشراء الكتب والمخطوطات.
ولم يقف شأن العلماء التجريبيين المسلمين عند مجال الطب بل تعداه إلى مختلف مجالات الفلك والجغرافية والكيمياء والفيزياء، والنبات والزراعة والرياضة والتاريخ والرحلة والكشف.
وقد سبق الباحثون المسلمين علماء أوروبا في (تقعيد) القواعد فابن حزم وضع أسس نظرية المعرفة التي قام بها (كانط) بعده بثمانية قرون.
وابن خلدون بسط فلسفة الاجتماع قبل منتسكيو وتادر بخمسة قرون. وبراهين الغزالي للدفاع عن الإيمان سبقت نظرات القديس توماس الاكويني بعشرة قرون.
وكان أبرز عوامل التقدم العلمي الإسلامي سماحة المسلمين في تلقي علوم السابقين لهم وإن خالفت أصول فكرهم كما كان العلماء المسلمون سمحاء مع اليهود والنصارى، ذلك التسامح الذي لم يسمع بمثله في العصور الوسطى، وكانوا آية التسامح في عرض علوم الملل والنحل، وقد قدموا كل نتاج أبحاثهم العلمية في الأندلس إلى أوروبا بسماحة، وكان العلماء المسلمون مطبوعين على الخلق والصدق وشمول النظرة بين العلوم العقلية والشرعية والرياضية. والحق أن الإسلام لم يعط الغرب أساس البحث العلمي التجريبي فحسب ولكنه أعطاه مفهوم الحرية والاندفاع نحو العمل والبناء والإنشاء والابتكار، وهو ما قدمه ابن رشد للفلسفة الأوروبية من مفاهيم زلزلت القيم الجامدة القديمة، حيث تغيرت نظرة إنكار الدنيا والتشاؤم التي كانت غالبة على الفكر الأوروبي وحلت محلها نظرة إيجابية مصدرها الإسلام، فالإسلام وهو دعوة البحث عن الحق قد حرض الناس على السعي إليه عن طريق المعرفة والدفاع عنه وقدم في هذا المجال قانونين أساسيين:
(الأول).. هو الشك قبل الإيمان وقدم لذلك قصة إبراهيم الذي تطلع إلى القمر ثم الشمس وغيرهما ثم دخل بعد الشك في الإيمان.(/3)
(الثاني).. جعل للمجتهد أجراً إذا أخطأ، وأجرين إذا أصاب..
وقد أكد العلامة بريفولت دور المسلمين في إبداع المذهب العلمي التجريبي فقال:
لا يستطيع (روجر بيكون) ولاسميه الذي جاء من بعده أن يدعيا أنهما ابتكرا الطريقة التجريبية، تلك الطريقة التي هي من صنع العرب وحدهم ولم يسبقهم إليها باحث أو مفكر وكل ما عمله (بيكون) أنه كان تلميذاً مخلصاً للمسلمين تلقى أفكارهم كما تلقى عنهم الطريقة التجريبية التي ابتكروها ونقها إلى أوروبا.
وقد أرسى العلماء المسلمون قاعدة بحثهم على هذه الأسس:
1- تكريم العقل.
2- احترام الشخصية الإنسانية.
3- العدل والمساواة.
4- الإيمان بالعلم والحقيقة.
5- الاعتماد على التجربة.
6- الاعتقاد ببقاء الروح بعد البدن.
7- الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
8- القول بإله واحد قديم خلق العالم من لا شيء.
بطولة العلم والعلماء
للعلم والعلماء صفحة بطولة في تاريخ الإسلام، ورائعة باهرة، ففي كل مجال من مجالات العلم نجد أسماءهم اللامعة وإضافاتهم البناءة.
ففي التاريخ: الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون.
وفي الأدب: الجاحظ وابن قتيبة والخليل بن أحمد.
وفي الفلسفة: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
وفي التصوف: ابن عربي وابن الفارض والشعراني وعبد القادر الجيلاني.
وفي الكلام: واصل بن عطاء والنظام والأشعري والماتريدي والباقلاني والجويني.
وفي الحديث النبوي: ابن شهاب الزهري، وابن جريج المالكي وابن إسحق والترمذي.
وفي الفقه: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل وأبو يوسف.
وفي العلم: الخوارزمي والبيروني والبتائي وجابر بن حيان والرازي وابن الهيثم وثابت بن قرة.
وفي تصحيح المفاهيم: ابن حزم والغزالي وابن تيمية.
وابن سينا أعظم الأطباء والبيروني أعظم الجغرافيين وابن الهيثم أعظم علماء البصريات وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين وابن رشد فقيه وفيلسوف.
يقول ول ديورانت: ليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي إلا جزءاً صغيراً مما بقي من تراث المسلمين وليس هذا الجزء الباقي إلا قسماً ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم وليس ما أثبتناه إلا نقطة من تراثهم.
كان لهؤلاء العلماء رحلاتهم الطويلة من أجل البحث عن النص وتحقيق السند، ذهب البخاري في رحلته الطويلة بضعة وعشرين عاماً في تحقيق الحديث، وجد سبعين ألفاً وأقر منها أربعة آلاف فقط. وعرض لذلك كله في ذوق رفيع وأدب وخلف فلم يهاجم أحداً، ولما عاد رفض أن يحدث الناس إلا في بيته أو في المسجد.
وكانوا جميعاً يوجهون العلم لله خالصاً ولخدمة الأمة، ولا يتطلعون إلى مال أو جائزة سنية، كان ابن الهيثم صاحب نظرية الضوء التي قام عليها علم أوروبا كله يعتمد في كسب قوته على نسخ الكتب وكان يقول: يكفيني قوت يوم، وقال كلمته المشهورة عندما وصلته هدية أحد الأمراء: أعلم أنه لا أجر ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير ونشر العلم.
أما البيروني فقد رد ثلاثة جمال تنوء بأحمالها من النقود وقال: "إنما نخدم العلم للعلم".
وفي مجال العلم عرفوا: "البرهان والحق" فقد دافع ابن حزم عن كروية الأرض بالعقل والدين وسبق "كانت" في نظرية المعرفة بسبعة قرون وقال: إن التقليد حرام، ولا معجزة لنبي بعد وفاته. وكان مذهبه "لا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد من غير برهان".
والفارابي فكر في أمم متحدة منذ قرون، ومدينته الفاضلة تضاءلت إلى جانبها جمهورية أفلاطون، فقد أقامها على العدل المطلق بين أبناء المدينة أما أفلاطون فقد رفع الأمراء وجعل عامة الشعب عبيداً. والأمة عند الفارابي جسم واحد لا يستقيم أمره إلا بالتضامن والتعاون.
وقد ظهرت آراء الفارابي فيما بعد في نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ومن آراء الفارابي: إن السعادة ممكنة على وجه الأرض إذا تعاون المجتمع على نيلها بالأعمال الفاضلة، ويرى أن النجاح في الأعمال هو تمام ارتباط العلم بالعمل وأن بلوغ الغاية يكون بإصلاح الإنسان نفسه ثم إصلاح على النجوم، هذه الأسماء التي تزال حتى اليوم تطلق عليها في عصر غزو الكواكب، فالشعري اليمانية والعيون والسماك والرامح والنسر وقلب العقرب، ما زالت تترجم إلى اللغات الأوروبية بأسمائها العربية. وقد كشف علماء المسلمين عن المجموعات الفلكية: مجموعة العقرب والبروج الاثنا عشر والدب الأكبر والنجم القطبي والفرقدان والحاوي.
"وابن رشد" دعا إلى مشاركة المرأة الرجل في خدمة المجتمع والدولة، وعنده أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. أما "الغزالي" فقد سبق "كانت وهيوم" وغيرهما من الفلاسفة العقليين في مسألة قدم العالم والزمان والمكان بمئات السنين واهتدى في ذلك إلى آراء سبق بها فلاسفة القرن الثامن عشر.(/4)
و "الطوسي أبو جعفر": له فضل إقامة مرصد مراغة العظيم، وله مؤلفات رائعة في علم التحول وانعكاسات الشعاعات قال سارذون: أن أقوال "الطوسي" مهدت للأعمال التي قام بها "كوبرنيكس" فيما بعد وبحوثه عن الكرة السماوية ونظام الكواكب. وكتابه "شكل القطاع" أنه كتاب يفصل المثلثات ويجعلها علماً مستقلاً.
أما "الشاطبي" فقد توصل إلى نظرية شبيهة بما يسمى في القوانين العصرية بـ "نظرية التعسف في استعمال الحقوق" فأثبت بعد تحليل وتفصيل دقيقتين أنه يجب منع الفعل المأذون فيه شرعاًَ إذا قصد منه فاعله الإضرار بالغير. وقال "ابن حزم" زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع، وهذه دعوى باطلة وبلا برهان وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلاً وأن حركتها أبداً على رتبة واحدة ولا تتبدل عنها، وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له، وليس للنجوم تأثير في أعمالنا ولا لها عقل تدبرنا به، إلا إذا كان المقصود أنها تدبرنا طبيعياً كتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر، وقال إن النجوم لا تدل على الحوادث المقبلة.
أما إبراهيم النظام فدعا إلى الشك في سبيل اليقين وقال: إن الشك سبيل الإنسان إلى كل يقين وإن طالب العلم لا يكون كحاطب ليل، بللا ينبغي أن يتخير مما فيها ولا يسمح أن يدخل في نفسه إلا الجد المنتقى وعنده أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الأحمق عاقلاً ولا البليد ذكياً ولكن طبيعة الإنسان إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي.
ويقول: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حالة شك.
والمعروف أن النظام وواصل بن عطاء وغيرهما كان لهما دور ضخم في الدفاع عن الإسلام في وجه مناهج الفلسفة اليونانية التي حمل لواءها خصوم الإسلام وقد استطاع بعمق منطقه وسلامة جداله تصحيح الحقائق والعقائد في نفوس المئات.
وقد عرف علماء المسلمين "التقنين" ممثلاً في اللغة القانونية المحكمة التي كتبت بها مصنفاتهم الفقهية وفي التبويب الدقيق للمسائل مما نجده في أوضح صورة في المختصرات المكرسة للفقه العملي مثل كتاب الماوردي وكتاب أبي يعلي المعاصر له والحامل نفس العنوان. وقد نسقت أحكام هذه المختصرات على صورة تجعل من الميسور تصنيفها إلى مواد قانونية على الشكل المتبع في التقنين الحديث وكان ابن حجر العسقلاني واحداً من أعمدة المنهج العلمي، يقول "البقاعي" عنه: لا يستطيع أحد أن يقسره في شيء أصلاً، أو أن يقرب من ذلك فهو لا يقبل كلام أحد في غيبة خصمه فو آية في حسن القضاء ومعرفة دسائس الناس في كلامهم والاهتداء إلى قطه الأمور. له في المناظرة مسلك غريب قل أن يثبت له في ذلك أحد. ويركز "الترمذي" منهجه الفكري على الحق والعدل والصدق. يقول: إنا وجدنا دين الله عز وجل مبنياً على ثلاثة أركان: على الحق والعدل والصدق، فالحق على الجوارح والعدل على القلوب والصدق على العقول، فإذا افتقد الحق من عمل خلفه الباطل وإذا افتقد منه العدل خله الجور وإذا افتقد منه الصدق خلفه الكذب. فهذه الثلاثة جند المعرفة وهذه الثلاثة التي هي أضدادهن جند الهوى.
والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) يسبق فلاسفة السياسة وفن الحكم في أوروبا وهو واحد من عدد من علماء الإسلام الذين عملوا في هذا المجال: كالغزالي في التبر المسبوك والشيرازي في المنهج المسلوك في سياسة الملوك وابن طباطبا في (الفخري) وأبرز مفاهيم الطرطوشي أنه لا يفرق بين السياسة والأخلاق بل يراهما شيئاً واحداً متفقاً، وهذا المنهج الإسلامي يخالف منهج "ميكافللي" في كتابه الأمير.
أما "الكندي" الفيلسوف فقد درس الصلة بين الموسيقى وتحريك النفس وما يناسب أحوالها وما يبعث السرور، ودس علاقة ذلك بالطب وأمكنه التوصل إلى إمكان معالجة المرضى بالموسيقى، وذلك ضرب الأنغام المناسبة للمريض.
وعرف المقدسي بأنه أعظم جغرافي عرفته البشرية قاطبة على حد تعبير المستشرق "أشيرنجر" فقد طاف العالم كله ما عدا الأندلس والسند وركب المخاطر في بحر الهند والبحر الأحمر والبحر الأبيض يقول: ما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها ولا أهل زهد إلا وقد خالطتهم ولم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيباً غير الكدية "التسول" وركوب الكبية، وقد تفقهت وتزهدت وتعبدت وفقهت وأدبت وخطبت على المنابر ودعوت في المحافل وتكلمت في المجالس وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخافقائيين الثرائد، ومع النواتي "الملاحين" العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري وتهت في الصحاري.(/5)
أما "الطبري" فقد صور منهجه في كتابة التاريخ في مقدمة كتابه "تاريخ الرسل والملوك" فقال: ليعلم الناظر في كتابنا إن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره منه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار أنا مسندها إلى رواتها دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس. وابن كثير "الذي تصدى للمرويات الإسرائيلية وفصل القول فيها وهو يرى أن القرآن قصد إلى الإجمال فيجب الوقوف عند ما قصد إليه والزمخشري في (الكشاف) يحرر فكره من الخضوع للأهواء ويعارض العلماء ذوي الأهواء الذين جمعوا عزائم الشرع ودونوها ثم رخصوا فيها للأمراء وهونوها ومقال: إنما حفظوا وعقلوا وصفقوا وحلقوا ليجمعوا المال ويسيروا". والخليل بن أحمد واضع قواعد العروض ومناهجه، وأبو الأسود الدؤلي واضع مناهج الفصحى وقواعد النحو والجاحظ واضع مناهج النقد الأديب، والشافعي واضع مناهج الاستنباط وأصول الفقه.
والأشعري صاحب الحملة على الانحراف إلى الفكر اليوناني وابن تيمية صاحب الحملة إلى الطرقيات المنحرفة والغزالي صاحب الحملة على مغالاة الفقهاء.
وابن دقيق العيد الذي قال: "النص" هو الإمام. والرأي هو المأموم والمذاهب ترد إليه. ويقول لا يصح أن يجعل الرأي الذي فيها للنص أصلاً فيرد النص إليه بالتكليف والتحايل.
الأستاذ أنور الجندي(/6)
البعث بعد الموت ...
اقتضت حكمة الله عز وجل ، أن يقضي على الخلق بالفناء ، حتى إذا خلت الأرض من ساكنيها ، والسماوات من قاطنيها ، إلا من أراد الله بقائه ، أذن سبحانه للحياة أن تعود ، فيأمر السماء أن تمطر مطرا تنبت به الأجساد الميتة ، فتعود إلى سابق عهدها أجسادا كاملة ، بعد أن تحولت إلى رميم ، واختلط دمها ولحمها بتراب الأرض ، إلا أن المطر لا يبعث فيها الحياة ، فيأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فتحيا تلك الأجساد وتنبعث من قبورها ، وقد صور القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً ، فقال سبحانه : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } ( يّس:51) والأجداث هي القبور ، وينسلون : أي يسرعون ، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا الحدث فقال : ( ما بين النفختين أربعون ... ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب - وهو عظم يوجد أسفل العمود الفقري - ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) رواه البخاري و مسلم .
ثم يساق الخلق بعد خروجهم من قبورهم حفاة عراة غرلا - غير مختونين - إلى أرض المحشر ، وهي أرض بيضاء ، ليس فيها ما يختفي الإنسان وراءه ، ولا ما يتوارى عن الأعين فيه . وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أرض المحشر ، فقال: ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي - الدقيق - ليس فيها مَعْلم - علامة - لأحد ) رواه البخاري و مسلم .
فتأمل أخي الكريم عظم ذلك اليوم وما فيه من المخاوف ، فمع ما عليه الناس من فزع الخروج من قبورهم ، فإنهم يعاينون أهوال ذلك اليوم ، من انشقاق السماء ، وتساقط النجوم ، وذهاب الشمس والقمر ، فيا لها من أحداث عظيمة ومخاطر جسيمة ، تبلغ القلوب من معاينتها الحناجر ، ولا تفكر في شيء إلا فيما هي مُقْدِمة عليه ، فحري بالعاقل الموفق أن يعمل لذلك اليوم قبل أن يدهمه الموت ، ويصبح رهيناً بعمله ، نسأل الله السلامة والعافية .
وتتفاوت مراتب الناس ومنازلهم يوم الحشر تفاوتا كبيراً ، فمنهم الذين يحشرون على وجوههم ، عمياً وبكماً وصماً ، وهؤلاء هم الكافرون ، قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } ( الإسراء : من الآية97 ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال : يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال : ( أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ) رواه البخاري و مسلم .
أما المؤمنون فهم وفد الله عز وجل يحشرون مكرمين منعمين ، قال تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً } (مريم:85)
هذا عن كيفية خروج الخلق من قبورهم ، وكيفية حشرهم ، أما الأدلة على حقيقة البعث بعد الموت فقد تنوعت وتعددت في كتاب الله عز وجل ، ليكون الإيمان به أوقع في النفوس ، ولتعظم الحجة على الكافرين .
فتارة يقسم سبحانه بنفسه العلية على إثبات البعث ، فيقول : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (التغابن:7)(/1)
وتارة يذم المكذبين بهذا اليوم ، نحو قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (الأنعام:31) ، وتارة يمدح المؤمنين به ، فيقول : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ () أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (البقرة:5) وتارة يرد على الكفار في إنكارهم البعث ويورد الحجج العقلية الدالة على إثباته ، فيقول : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ () قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ () الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ () أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاق الْعَلِيمُ () إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (يّس: 78-82) فمن تأمل هذه الآيات من سورة يس وجد أنها اشتملت على العديد من الحجج العقلية التي تدل على البعث بعد الموت ، من ذلك احتجاجه سبحانه بابتداء الخلق على إعادته ، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة ، إذ كل عاقل يعلم أن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة ، وأنه لو كان عاجزا عن الإعادة لكان عن الابتداء أعجز .
ثم ذكر سبحانه حجة عقلية أخرى وهي أن القادر على خلق الأعظم أقدر على خلق ما دونه ، فالذي خلق السموات والأرض كيف يعجزه إعادة جسم صغير بعدما فنِيَ واختلط بالتراب ، قال تعالى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } ثم ختم سبحانه هذه الحجج بآية القدرة ، ذلك أن كل ما أورده المشركون من اعتراضات على البعث بعد الموت إنما هو نابع من شكهم في قدرة الله المطلقة ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (يّس:82)
فهذه بعض الأدلة على البعث بعد الموت ، ذكرناها ليرسخ في نفس المؤمن إيمانه ، ولتكون حجة على من كفر وأنكر بعث الأجساد بعد موتها ، ومن تأمل الحياة بصحيح عقله ،وسديد فكره ، وجد أنها من غير البعث عبث ، فلابد من يوم يجازى فيه المحسنون ، ويعاقب فيه المسيئون ، ومن دون ذلك اليوم لا يمكن أن يستقيم أمر هذا الكون ، ولا أن ينتظم شأنه ، فمن هنا تجلت حكمة الله عز وجل في البعث بعد الموت ، نسأل المولى عز وجل أن يرزقنا الإيمان والعمل الصالح ، حتى نلقاه وهو راض عنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين .(/2)
البعد الإنساني للأمة المسلمة الواحدة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لا تقوم الأمة الإسلامية الواحدة على أساس من هيكل سياسي واحد فحسب، ولا على أساس من ارتباط مصالح اقتصادية فقط، ولا على توحيد مناهج تربوية، أو على التقاء أعراف وتقاليد، ولغة وتاريخ، وإن كانت كل هذه العوامل وكثير غيرها يمكن أن يكون دليلاً على وحدة الأمة، أو مظهراً من مظاهرها، أو رمزاً من رموزها، أو عاملاً مساعداً على بنائها.
فالأمة المسلمة الواحدة تقوم قبل كل شيء على جوهر صاف، وتلتقي على أسس عميقة في وجودها وكيانها، وتلتف كلها حول محور واحد ثابت يجمعها. إن هذا الجوهر والمحور، وإن تلك الأسس العميقة كلها، يمكن أن نعبر عنها بكلمة ( الحق ). إنه الحق الذي يقوم عليه الكون كله، والخبر كله. إنه(التوحيد) بامتداد معانية ومداه إلى جميع آفاق الحياة الدنيا، إنه التوحيد الذي يربط الحياة الدنيا بالآخرة، إنه التوحيد الذي قضت مشيئة الله أن يكون أمة في الأرض تحمله رسالة ونهجاً، وتجاهد في الحياة الدنيا من أجله، لتنشره في الأرض صلاحاً وخيراً وبراً وإحساناً.
هذه الأمة التي قضت مشيئة الله أن تقوم في الأرض، لتحمل رسالة الله إلى الناس، على مدى العصور والدهور، هذه الأمة هي أمة الإسلام، أمة التوحيد، أمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلى هذا الأساس تقوم هذه الأمة، وهذا هو جوهرها، وهذا هو محور كيانها ووجودها.
{ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } [ الأنبياء : 92].
هذه الأمة التي امتدت مع تاريخ الإنسان كله في الأرض، لتمثل أشرف انتساب، وأعز أرومه، ولتمثل جوهر الخير والصلاح، وحقيقة الأخوة والحرية، وأمانة العدالة، وقوة الأمن، وبهجة السعادة. هذه الأمة لم تعد حاجة العرب وحدهم، ولا حاجة منطقة الشرق الأوسط، ولا حاجة أي شعب محدود أو قطر محدود، إنها حاجة الإنسان حيثما كان، حاجة الشعوب كلها والأقطار كلها والعصور كلها. إنها الهواء والماء للإنسان، وإنها الغذاء لوجوده الصادق كله. إنها السلام الصادق، والأمن والأمان، والحرية والعدالة والإخاء، في أصفى معانيها، لمن يريد أن يكون هذا حقاً تقوم الحياة عليه، لا شعاراً زائفاً وزخرفاً كاذباً تتاجر به الثورات والشهوات والأهواء، والمصالح الدنيوية المادية المتصارعة. من أجل الإنسان ومسئوليته في الحياة الدنيا من خلافة وعبادة وأمانة وعمارة، من أجل تحقيق عبوديته لله، ووفائه بعهده مع الله، من أجل ذلك كله يكون قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض ضرورة دين وعبادة وسياسة واقتصاد، واجتماع وسعادة، ضرورة حياتية وأخروية، ضرورة لا غناء عنها. وسيظل غياب هذه الأمة عن حياة الإنسان في الأرض سبباً لفوران الشهوة والفساد والإجرام فيها.
ولقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، مبشراً ونذيراً، خاتم الأنبياء والمرسلين عندما أمتد الفساد في الأرض وظهر. فكان قيام الأمة الإسلامية أو امتدادها آنذاك ضرورة لصلاح الإنسان وخيره، ضرورة حضارية، إنسانية، إيمانية. ويصف القرآن الكريم فترة البعثة النبوية، وضرورة قيام الأمة المسلمة، لتحمل رسالة الله في الأرض، بقوله سبحانه وتعالى :
{ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين * فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون * من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون }
[ الروم : 41ـ44].
لابد أن نعي هذه الحقيقة وعياً كاملاً، لندرك خطورة القضية التي نعرضها، قضية قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض. ولندرك كذلك مدى الإفساد الذي يقع في حياتنا وفي حياة الإنسان عامة في الأرض إذا تهاونا عن تحقيق هذه القضية ولندرك عظيم الجريمة التي يرتكبها الظالمون بحق الإنسان، وبحق الشعوب كلها حين يصدون عن سبيل الله، وحين يقاومون مسيرة الحق، ويقاومون بناء الأمة المسلمة في الأرض.
ولابد كذلك أن تدرك الحركات الإسلامية هذه الحقيقة، لتعلم مدى مسئوليتها في قضية قيام الأمة المسلمة الواحدة ومدى الخطر الذي يتحقق نتيجة الشقاق والتدابر، والتمزق والشتات، وضياع الجهود ووهنها.
وإذا كان لقاء الحركات الإسلامية أمراً ضرورياً لبناء الأمة المسلمة الواحدة، فإن تحقيقه يتيسر ما دامت الحركات الإسلامية صادقة في نهجها، زاهدة في شهوات الدنيا، مقبلة على نعيم الآخرة، مدركة عظيم مسئوليتها بحق الإنسان. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يضع هذه المسئولية على أكتاف رجالها الصادقين الثابتين، إذا تولى الضعفاء والمنافقون :
{ هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }. [ محمد : 38].(/1)
وإذا كان قيام الأمة المسلمة الواحدة أمراً من عند الله، وقاعدة من قواعد هذا الدين، فلابد أن يكون الله سبحانه وتعالى قد وضع في دينه الأسس التي يجب أن يلتقي عليها المؤمنون، وكذلك الأسس التي تلتقي عليها الحركات الإسلامية، لتتجمع الجهود المؤمنة الصادقة كلها في مجرى خير واحد، حتى لا تتبدد وتتمزق
إذن فلننظر في دين الله، في كتاب الله وسنة رسوله، لنبحث هناك عن الأسس التي يجب أن نطرحها في واقعنا اليوم، لتلتقي عليها الحركات الإسلامية، وليقوم لقاء المؤمنين على طريق بناء الأمة المسلمة الواحدة، كما ذكرنا سابقاً.
ومن هذا المنطلق، يجب أن ندرس واقعنا، لندرك ما هي أخطر القضايا التي يجب أن نثيرها، لنعالج القضية المطروحة، قضية جمع جهود الحركات الإسلامية، جمع جهود المسلمين، لبناء الأمة المسلمة الواحدة.
فمن كتاب الله إذن وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن رؤية الواقع الذي نعيش فيه من خلال منهاج الله، من هذا كله نقدم عرض الأسس التي نتصورها، ونعتبر أنها أساسية في لقاء المؤمنين، وجمع جهود الحركات الإسلامية، على طريق بناء الأمة المسلمة الواحدة.
ومع كل آية أو حديث نجد حقيقة البعد الإنساني لأهمية قيام الأمة المسلمة، للقاء المؤمنين، حتى يصبح لقاء المؤمنين أمل الإنسان في الأرض كلها، وحتى يصبح قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض حاجة كل مظلوم وأمنية كل صادق. إلا عصابة المجرمين، طغمة المفسدين، وزهوة الظالمين المعتدين، إلا أولئك الذين يعيشون على نهب الثروات، وسحق الإنسان، أو تخدير العباد حتى تسكن وتلين، إلا أولئك فإنهم لن يجدوا في قيام الأمة المسلمة الواحدة راحة لهم أبداً. سيحاربونها ما أمكنهم ذلك، حتى يبقى لهم ( نعيم ) اللصوص و ( متعة ) الإجرام.
إن السعي الجاد إلى بناء الأمة الإسلامية الواحدة على جوهر التوحيد وقواعد الإيمان، على كتاب الله وسنة رسوله، على الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض، إن هذا السعي الجاد هو الصحوة الإسلامية وجوهرها.
إن التوحيد بكل صفائه وجلائه هو جوهر قيام الأمة المسلمة الواحدة، وهو جوهر لقاء المؤمنين. ويحمل التوحيد ذاته أقوى إشارة إلى البعد الإنساني في قيام الأمة الواحدة , حيث يكون التوحيد جوهر فطرة الإنسان حيثما كان , جوهر وجوده، ماضيه وحاضره ومستقلبه، جوهر دنياه وآخرته.
فالتوحيد هو أصدق علاقة إنسانية، وأطهر صلة بين الشعوب وأقوى عُروة بين المؤمنين، ما دام التوحيد صادقاً صافياً.
من هذا البعد الإنساني لقيام الأمة المسلمة الواحدة، يحمل المؤمنون في الأرض مظهراً من مظاهر الصحوة، وقوة من قوى العمل، ليخاطبوا العالم كله، من كل منابره، بالآيات البينات والأحاديث الشريفة التي تجلو هذه الحقيقة، وتجلو نهجها الصادق الأمين، وتقيم عزتها الصادقة الأمينة.
إننا حين نبرز هذا البعد الإنساني في الأمة المسلمة الواحدة في الأرض، نؤكد انتفاء هذا البعد الإنساني عن أي كيان أو تجمع للكفر والإلحاد. إن كرامة الإنسان تنهار في تربة الكفر والإلحاد، وقد جعل الله الكافرين كالأنعام بل أضل !
وإذا كان الإسلام يحترم حقوق الإنسان، فإنها حقوق لا تهبه الكرامة الحقة والعزة الطاهرة إلا أن يؤمن بالله وحده لا شريك له. إن رغيف الخبز والكساء والمأوى، والماء والهواء، حق للإنسان حتى يعيش فيبتلى ويمحص ولكن رغيف الخبز والكساء والمأوى، كل ذلك على أهميته، لا يهب الإنسان عزته وكرامته، ولا يجلو إنسانيته وجوهره، ذلك أن الطعام والمأوى حاجة الإنسان كما هي حاجة الحيوان والأنعام.
وربما ينطلق داعية من الدعاة المسلمين ليدافع عن كرامة الإنسان من حيث أنه إنسان، مهما كان مذهبه ومعتقده، كافراً أو من أهل الكتاب، أو مجوسياً أو وثنياً أو غير ذلك. ونعجب من هذه الدعوة لسبب بسيط. ففي واقعنا اليوم يجد معظم هؤلاء حقوقهم، إلا الإنسان المسلم الذي يسحق ويذل بسبب إيمانه، ولا يجد من يدعو لحماية كرامته وحقوقه، ويتنطع ذلك الداعية المسلم ناسياً ذلك كله، ليدعو إلى حماية كرامة الإنسان الوثني الملحد، وهي محمية بين أهله الوثنيين !
وإن أول حماية لكرامة الإنسان، وأول حق من حقوقه، هو أن تبلغه رسالة الله، وأن تصان فطرته ليتلقى الرسالة بصفائها، وأن ينال الرعاية والإعداد حتى يتدرب على ممارسة الإيمان وقواعده، كما يتدرب على الكلام والمشي والطعام وخلاف ذلك.(/2)
البعد الحضاري لهجرة الكفاءات »
تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه »
الحمد لله الذي شرع الهجرة وجعلها مجاهدة وجهاداً لتغيير الواقع، وتحقيق الهدف، وتجاوز حالة الضعف والركود، والاستنقاع الحضاري، والركون إلى الذين ظلموا، فهي وسيلة لمراغمة الأعداء والمتربصين بالخير وأهله، المتحكمين بالعباد والبلاد، وتفويت أغراضهم؛ كما جعلها سبيلاً للخلاص من حالة الضعف والعطالة، واسترداد الفاعلية، لمعاودة الإقلاع من جديد، فقال تعالى: (( الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97).
والصلاة والسلام على الرسول المهاجر، الذي كانت هجرته وما تحقق بها ولها من النتائج الإيجابية ومراغمة الأعداء أنموذجاً يحتذى، الذي أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة لكسر الحصار وتجاوز الضعف والتحكم من الكافرين.. واختيار الحبشة كمهجر أول جاء لعدة اعتبارات لا مجال لاستقصائها، لكن كان في مقدمتها أن فيها ملكاً لا يظلم الناس عنده، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما طلب إليهم الهجرة إليها: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»، فكان من نتائجها -إلى جانب حماية بعض أجنة الإسلام الأولى- أن أسلم النجاشي، ملك الحبشة، وفاضت عيناه من الدمع عندما سمع شيئاً من القرآن، ونزل في إسلامه قرآن خالد مجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، ما يزال يتلى ليؤكد في كل الأحوال المعاني الكبيرة والأهداف الممكنة، التي يمكن أن تتحقق من الهجرة في كل زمان ومكان، إضافة إلى ما فيها من السعة في الرزق والأمن ومراغمة العدو وتوفير إمكانية الانتصار عليه.
ولعل هذا المعنى، أو هذه المعاني جميعاً، تجلت وتجسدت بكل أبعادها في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة المنورة، بعد ثلاثة عشر عاماً من الصبر والتحمل والمعاناة والمقاطعة، بعد أن استعصت أرض مكة في تلك الظروف والأحوال، لأمر يريده الله، عن الاستجابة وقبول الخير العام، على الرغم من أنها تاريخياً مكان البيت الأول للتوحيد، الذي وضع للناس، قال تعالى: (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً )) (آل عمران:96-97)، وقال: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) (الحج:26)، وموطن ومهجر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ((رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) (إبراهيم:37).
ومع ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، معقل يهود ومحل سيطرتهم وتحكمهم، فرجاً ومخرجاً، فمن ذا الذي كان يظن أن المهجر المدينة، وليس الموطن مكة، يمكن أن يكون مكان الانطلاق للدولة والأمة والمجتمع الإسلامي وحمل الخير إلى مكة نفسها والعالم، إضافة إلى ما حصل بسبب الهجرة من سعة الرزق ونعمة الأمن وإرغام أنوف كفار مكة الذين آذوا المسلمين أذى شديداً.
لذلك اعتبرت الهجرة في بعض أحوالها وأزمانها جهاداً، بل من أعلى أنواع الجهاد، واعتبر التقاعس عنها سقوطاً في حالة التربص والانتظار والخذلان وفقدان الإرادة ومدعاة لسخط الله ومجلبة للعذاب، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )) (التوبة:24).
والناظر في الهجرة بكل أبعادها الشرعية وتطبيقاتها العملية في عصر النبوة وخير القرون، يبصر أنها ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية انهزامية وتولٍ عن الزحف وخروج من المعركة، وإنما هي حركة إيجابية قاصدة، وخطة محكمة، وعمل محكوم بنيَّة واضحة الأهداف، وهي أشبه ما تكون بتحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة، للخروج من حالة الذل والعطالة، لاكتساب الفاعلية وتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية.(/1)
من هنا نقول: إنَّ الأعمال تَشْرُفُ بشرف مقاصدها، وإخلاص أهلها، وقدرتهم على تحقيق تلك المقاصد بصواب التخطيط لها، وإبصار تداعياتها، وتقدير عواقبها؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «...فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري)، وهو الحديث الذي تبدأ فيه معظم كتب العلم والثقافة عندنا.. فالنيَّة، إلى جانب ما تحمله من ركيزة الإخلاص والتنقية والاستعداد والتطهر النفسي من كل الدوافع لغير الله، هي إبصار كامل للحركة، وأهدافها، وتداعياتها، ومتطلباتها، وأهمية تصويب وسائلها لتحقق الهدف وتثبيت الأجر.
لذلك؛ فالمتأمل في أبعاد نيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة المنورة، وما سبقها من إعداد واستعداد، من بيعة العقبة الأولى والثانية، وما أعد لها من الوسائل والخطط والاحتياطات في كل جزئية من حركتها يكاد يتوهم وكأن الذي يتخذ كل هذا التحوط ويستوفي كل هذه الأسباب لا علاقة له بالسماء؛ والمتأمل فيما كان من التوكل على الله والاطمئنان لنصره والالتجاء إليه في أحلك الظروف يكاد يتوهم وكأن صاحبها لا صلة له بالأرض وتعاطى الأسباب؛ وهذا هو الفهم الإسلامي السليم.
فالهجرة الإسلامية أنموذج للإيجابية والإحياء واسترداد الفاعلية والمجاهدة وحسن التعامل مع سنة التدافع البشري، وقبل ذلك وبعده إلغاء للثنائية التي كانت سبباً في تمزيق الإنسان وتشطير شخصيته بين تعاطي الأسباب والتوكل على الله؛ ذلك أن تعاطي الأسباب في الرؤية الإسلامية من لوازم التوكل، والتوكل من لوازم تفعيل الأسباب وتجاوز حالات القلق واليأس ومحاولات الإحباط والتضييق لأرض الله الواسعة، والانحباس ضمن دوائر يزيدية محكمة، نرسمها بأيدينا وندعي بأن الشيطان حبسنا فيها، وما هي في الحقيقة إلا من صنع الإنسان، وتسويغ وتبرير لحالة الذل والاستسلام والهوان.
وللهجرة والهَجْر بعد تربوي عظيم لو أمكن إدراكه واستخدامه ضمن سياقه، والتزم به ضمن المساحة المشروعة والمؤثرة، وهو توظيف الهجرة كعامل فاعل من عوامل الضبط الاجتماعي، وهجر أصحاب الفجور والمعاصي والمقصرين، لحملهم على العود إلى طريق الاستقامة والصلاح والفاعلية على أن يكون هذا الهجر مدروساً وبالنسب المحددة.
ذلك أن هجر أصحاب المعاصي من أقوى الأسباب العملية للضبط الاجتماعي.
ولعل التأمل في قصة الثلاثة الذين تخلفوا، من الصحابة رضي الله عنهم، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها قرآناً يتلى على الزمن، فقال تعالى: (( وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (التوبة: 118)، وما كان من تعامل المجتمع الإسلامي معهم، وهجرهم حتى من قِبَل زوجاتهم وأقاربهم، والتعرف إلى أسباب نزول الآية بدقة - فأسباب النزول تشكل وسائل الإيضاح المعينة على كيفية تنزيل النص على الواقع، وكل واقع مماثل، في كل زمان ومكان، كما تلقي الضوء على كيفية توظيف الهجرة بالأقدار المحددة والمشروعة- يمكن أن يحقق الكثير من الضبط الاجتماعي والعطاء التربوي لبناء السلوك البشري القويم بالنسبة لمن وقع في الخطأ والتقصير، كما يحقق العبرة والعظة والتقوى للمجتمع المسلم بشكل عام، أفراداً وجماعات.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع والثمانون : « البعد الحضاري لهجرة الكفاءات» لمجموعة من الباحثين، في سلسلة «كتاب الأمة»، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة تشكيل العقل المسلم في ضوء مرجعية معرفة الوحي، في الكتاب والسنة وتطبيقات مرحلة السيرة النبوية، التي تجلت فيها هذه المعرفة ونضحت عطاءها في شعب الحياة جميعاً، وتجسدت في حياة الناس، في الفكر والدعوة والحركة، كمرحلة اقتداء معصومة برعاية النبوة وتسديد وتأييد الوحي السماوي، إضافة إلى المقاربة مع ما تمتع به خير القرون من الخصائص والصفات المهمة في ترشيد المسلم المعاصر.
إن التحقق بامتلاك الأدوات المناسبة لاكتشاف مواطن الخلل التي أدت بالأمة المسلمة، والفرد المسلم قبل ذلك، إلى هذا التراجع والتقهقر والتخلف على غاية من الأهمية، وهو شرط لا مندوحة عنه في محاولتنا الخروج من غرف وحالات الانتظار، وماتورثه من تواكل وذل وعجز وخذلان، إلى أرض الله الواسعة، وإعادة التقويم للإمكانات والاستطاعات، والتفكير بكيفيات توظيفها، والخروج بها إلى الموقع المجدي، وإحياء وإشاعة ثقافة السنن والقوانين التي تحكم حركة الحياة والأحياء، واكتشافها، وحسن التعامل معها، ومدافعة قدر بقدر.(/2)
إن عدم توفر الأدوات، بسبب غياب التخصصات العلمية بشعب المعرفة جميعاً، أدى إلى الكثير من سوء التقدير للأمور وكيفية التعامل معها، ودفع إلى الكثير من الهياج والغوغائية ودفقات الحماس، أو ومضات الحماس، والتحرك الأعشى تحت رايات عُمِّيَّة، التبس أمرها وقرئت بأبجديات مغلوطة، فكانت سبباً في هدر الإمكانات وبذل التضحيات الكبيرة في المعارك الخطأ، التي ما نزال نُستدعى إليها لتصفية الحسابات بدمائنا، دون أن يكون لنا أي نصيب - إلا أن نُحاسب على نوايانا- هذا إضافة إلى ما يكون بعدها من التجريم والمطاردة والملاحقة وانكشاف المواقع؛ وقد يستوي في ذلك المهاجر من الوطن والمهاجر في الوطن.
وفي تقديرنا، أننا ما نزال نمارس الكثير من الهجرة الخطأ (بالمفهوم العام للهجرة) في حياتنا وحركتنا، وتوظيف إمكاناتنا، وتوجيه طاقتنا، سواء كان ذلك في الوطن، بالمفهوم الجغرافي، أو في الهجرة إلى خارج الوطن (والدنيا كلها وطن للمسلم)، ومع ذلك نتطلع إلى نتائج الهجرة وثوابها.
إن التعرف على السنن التي تحكم الحياة والأحياء - بحيث تأتي الهجرة حركةً منسلكة ضمن منظومتها- لا يمكن أن تتحقق ما لم تتم النفرة أو الهجرة لاستكمال شعب المعرفة جميعاً وتوفير الاختصاصات العلمية والتجارب العملية التي تتطلبها الحياة؛ لأن هذه الاختصاصات هي بمثابة الحواس المتنوعة المطلوبة لتشكيل العقل المسلم المعاصر.
فكما أن الذوق واللمس والشم والسمع والبصر كلها حواس ونوافذ للعقل يطل منها على العالم الخارجي، ومصادر للمعرفة تمكِّن العقل من بناء القرار والتزام السلوك في الحركة وإبصار الأهداف والهجرة إليها، فكذلك الحال بالنسبة إلى الاختصاصات في شعب المعرفة المختلفة، وأهميتها بالنسبة للتعامل مع الحياة، والارتحال المبصر إلى أنشطتها، واستكمال وظائف المجتمع ومتطلباته، وإحياء فروض الكفاية، بعيداً عن الارتجال والارتحال الغلط، أو الهجرات العُمِّيَّة التي تمارس في كثير من جوانب الحياة الإسلامية اليوم.
ولعل الأمر المفزع والمنذر بسوء النتائج والمزيد من التقهقر والتخلف، أن الكثير ممن أفنوا أعمارهم في تحصيل بعض تلك الاختصاصات العلمية والمعرفية وتأهلوا وهاجروا إليها ليكونوا في خدمة أمتهم ومجتمعاتهم الإسلامية في استيفاء وظائف المجتمع، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والحيلولة دون هجرة (الآخر) إلينا لملء الفراغات، وما يحمله ذلك (الآخر) من التأثير الثقافي والفتن العقدية والسلوك المنحرف، إذا بهم يهجرون اختصاصاتهم، ويعجزون عن وضعها في خدمة عقيدتهم وأمتهم، وحسن توظيفها منابر فاعلة مؤثرة في المجتمع، يهجرونها إلى منابر الوعظ والإرشاد وصناعة المشيخة، ليكون الناس في خدمتهم، ويقدمون على أعمال لا يمتلكون أبسط أدواتها ولا مقوماتها.
وقد يدلل هؤلاء بذلك على أن المجتمع المسلم هو مجتمع فوضى واضطراب وعبث، وأن الإسلام محصور بمساحات جغرافية وثقافية محدودة، ولا مانع عند الكثير منهم أن يدعو من على أعلى المنابر أن الإسلام دين ودنيا، إيمان وعلم، أخلاق وتربية، شريعة وعقيدة، مسجد ومعمل، جامع وجامعة... وكأن هذا الكلام أصبح مادة للخطب والاستهلاك الجماهيري وليس للتمثل والالتزام... وهكذا يشيع فينا القول السائر: «اقرأ تفرح، جرب تحزن»... ويستمر الخلل في الهجرات في مراحل التخلف، وفهم التخلف للنصوص، وكأن حديث الهجرة إنما جاء لغير المسلمين(!) فحديث الهجرة وغيره من الأحاديث والآيات لمن يفيد منها ويحسن التعامل معها، وليس تميمة تعلق على المنابر، وبعيداً عن واقع الأمة ومتطلباتها.
إن العجز عن فهم آفاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعجز عن تمثلها وتجسيدها في كل المواقع، وتقديم الأنموذج الذي يثير الاقتداء في جميع أنشطة الحياة وتخصصاتها، وامتلاك القدرة على توليد رؤى إسلامية متميزة في المجالات المتعددة، والاستمرار في محاصرة أنفسنا بالضخ الكلامي والتحشيد الحماسي والوعظ والخطب والإرشاد، بعيداً عن تنزيل ذلك في ميادين الحياة المختلفة، لتتحول الحياة والتخصصات إلى حياة إسلامية متميزة تثير الاقتداء، بحيث ندعو الناس بسلوكنا وتصرفنا وتخصصنا، ونحسن جعل العمل والتخصص في خدمة الدعوة، فسوف ينتهي بنا إلى الخلل في معادلة الهجرة الشرعية.
إن الخلل في إدراك ثقافة الهجرة وفقهها -إن صح التعبير- سوف يؤدي إلى نوع من الحركة العبث بحيث تهاجر الطاقات إلى غير مواقعها ومواطنها، سواء في ذلك الهجرة في الوطن أو الهجرة إلى خارج الوطن؛ لأن ثقافة الهجرة وإدراك أبعادها ما تزال غير نضيجة في رؤيتنا للحياة، وإمكانية القدرة على التوليد والإنبات في كل الظروف والأحوال والمواقع.(/3)
فالهجرة في أبسط مفهوماتها هي إخلاص القلب، وعزيمته على فعل مستقبلي، برؤية واضحة المعالم وفقه كامل للتداعيات: «...فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).
نعود إلى القول: إن الهجرة حركة إيجابية، وخطة استراتيجية، ورؤية مستقبلية، واختيار للموقع الفاعل، وتحول إلى الفعل المجدي، وتجاوز لحالات الحصار والعطالة والعقم؛ فهي حركة دعوية، وعمل جهادي قد يرقى إلى مستوى التضحية بالروابط الأسرية أو القبلية أو الوطنية، ولو بشكل مؤقت؛ وهي تحرف لقتال، وتحيز إلى فئة، وليست هروباً من المعركة وتولٍ عن الزحف؛ لأن فيها مراغمة للأعداء، وتعالٍ عن جميع الروابط القسرية، والارتقاء إلى الروابط الاختيارية، التي تتحقق بها إنسانية الإنسان وكرامته وانعتاقه من العبودية لغير الله.
والمسلم بشكل خاص لا يعاني من أزمة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض كلها لله، يورثها من يشاء من عباده، وأن من السنن الماضية في هذه الحياة ما ورد في قوله تعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ)) (الأنبياء:105)، فالوراثة الحضارية والأحقية في الأرض منوطة بامتلاك صفات وخصائص ومؤهلات الصلاح، إضافة إلى أن المسلم يحمل رسالة ذات خطاب عالمي، رسالته عالمية، وأن من مسؤوليته إيصال هذه الرسالة إلى أنحاء الأرض كافة، إيصالاً للخير للعالمين، استجابة لقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء:107).
فالهجرة هي نوع من الامتداد بالرسالة الإسلامية بغية إيصالها للناس جميعاً، استجابة لخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أنه: لا تقوم الساعة حتى يصل الإسلام إلى كل بيت من حجر ووبر، بعز عزيز أو بذل ذليل: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» (أخرجه أحمد)، وأن هذا الوصول سوف لا يتحقق إلا بعزمات البشر وفعلهم وانتقالهم صوب (الآخر) لإيصال الخير إليه.
يضاف إلى ذلك أن الهجرة هي تعال عن الواقع، وتجاوز للظروف، وفك للقيد، وخروج على حالة الاستضعاف والذل، والاستضعاف الذي يمارسه الطغاة، لذلك اعتُبر المستكين للذل، المستسلم للظلم، ظالماً لنفسه، فاقداً للحيلة والفاعلية؛ لأن أرض الله واسعة، والهجرة هي المخرج، لأنها تحول من العجز والتخاذل إلى الفاعلية والعطاء وحرية العقيدة والعبادة، قال تعالى: (( ياعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ)) (العنكبوت:56).
وهذه المعاني، التي أشرنا إلى بعضها، ليست نظرية أو مجردة عن الواقع، فالتاريخ، وهو المختبر الإنساني الحقيقي لفعل السنن الاجتماعية والتدليل على اطرادها، يشهد ويؤكد أن الهجرة حققت نشر الرسالة، وتحصيل القوة، ومراغمة الأعداء، والخلوص من حالة الركود والاستنقاع، والخروج من حالة الاستضعاف والضيم، وأن جيل الصحابة انطلق في الأرض بمختلف تضاريسها ومناخاتها لنشر الإسلام وإيصاله للناس، حتى أننا لنرى اليوم أن أكثر من أربعة أخماس العالم الإسلامي إنما تحقق له الإسلام بوساطة الهجرات، بل إن بعض المناطق في إفريقيا لم يستقر الإسلام فيها ويستمر فتحاً، وإنما كان لابد لاستقراره واستمراره من الهجرة والإقامة والتزاوج، وبذلك استقر واستمر، وما الواقع الإسلامي على خارطة العالم اليوم إلا مصداق ذلك.
وتبقى مرحلة السيرة، فترة معصومة في تاريخنا، تشكِّل مصدراً للتشريع والثقافة والخلود، الذي يعني التجرد عن حدود الزمان والمكان والإنسان، تبقى دليلاً خالداً على أن الهجرة إلى المدينة، الأنموذج المحتذى، كانت إيذاناً بقيام الدولة وتشكيل الأمة وبناء المجتمع، وكانت أعلى أنواع الجهاد، وأن الهجرة إلى الحبشة كانت عبرة وسبباً في إيمان ملكها حتى فاضت عيناه من الدمع عندما سمع ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرف من الحق.. ويبقى ذلك قرآناً يتلى، وبصيرة للمسلم، وعبرة للحاضر والمستقبل معاً.(/4)
وإذا كانت الهجرة جهاداً، بل قد تكون -كما أسلفنا- من أعلى أنواع الجهاد، وأن القصور عنها خروج عن الطاعة ومدعاة لغضب الله ووعيده وإنزال عقابه: (( فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) (التوبة:24)، وأنها معركة بكل معنى الكلمة، تقتضي امتلاك شوكتها، والتخطيط الكامل لها من التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، وأن القعود عنها عند الحاجة إليها أشبه بالتولي يوم الزحف، فإن التفكير والتخطيط والاختيار والموازنة، واتخاذ الأسباب، ودراسة الظروف، وتقدير التداعيات، واختيار الزمان والمكان، وإبصار البعد المستقبلي كاملاً، يعتبر من مقتضيات الهجرة؛ لأنها ليست حركة انتقال عشوائي، وإنما هي أمر شرعي تكليفي: «... فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (أخرجه البخاري).
وما حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ونهيه عن الهجرة، والدعوة إلى البقاء أو التثبت في الأرض، والتحمل، والمجاهدة، إلا دليلاً على أن الهجرة بظروفها وأحكامها رؤية رسالية مبصرة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة» (أخرجه البخاري).. فكثيرة هي الهجرات المعاصرة، التي جاءت في الزمان والمكان الخطأ، حيث تم ترك الأرض وإخلاؤها للعدو، فكانت من الكوارث؛ وكثيرة هي الهجرات التي حققت الإنجاز والتجاوز لحالة الركود والاستضعاف وكانت سبباً في السعة وإرغام العدو الذي كان يمارس الظلم: (( وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً )) (النساء:100).
من هنا نقول : لابد من إعادة النظر في أحكام الهجرة، أو بتعبير أدق: في فقه الهجرة، وطبيعة الظروف المحيطة، وطبيعة الظلم، كما لابد من إعادة النظر فيما يسمى «الفقه السياسي التاريخي»، الذي كان يشكل نقطة الارتكاز للهجرة، بشكل خاص، وتقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام، كأمر جغرافي واقعي، وخطورة الاستمرار في حفظ الأحكام الفقهية ونقلها دون التبصر بمحالها وظروفها وشروط تنزيلها، والذي من مقتضياته أن ترك دار الإسلام والهجرة إلى دار الكفر والعيش فيها لا يجوز(!) فأين دار الإسلام بكل شروطها المطلوبة لتُحدد على أساسها دار الكفر؟ وأين العدل والحرية المتميزة وتطبيق الأحكام الشرعية في كثير من بلاد المسلمين لنطلق الأحكام بعدم جواز الهجرة؟
إن الإنسان المسلم كثيراً ما يتمتع بأقدار من الحرية والحق الإنساني والقدرة على تحصيل العلم والمعرفة، وتتاح له مجالات الحوار الفكري والدعوة إلى الله في ما يسمى (دار الكفر) بما لا يتمتع به في ما يسمونه (دار الإسلام): «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده ...».. وهذا ليس حدثاً تاريخياً انتهى في زمانه بل سنَّة هجرة ممتدة، أو قانون هجرة ممتد، خالد خلود الإسلام ورسالته، فقد يستطيع الإنسان أن يقول في الشارع أحياناً فيما يسمى دار الكفر ما لا يستطيع قول بعضه في بعض بلاد المسلمين اليوم.
لذلك نقول: لابد من إعادة النظر في فقه الهجرة، والنظر في أبعاد الحالة من كل الوجوه .. ولو افترضنا أن هذه الأحكام صماء جامدة فاقدة للحكمة والمرونة وشرائط التنزيل، فكيف يصل الإسلام إلى (الآخر) ويستقر في تلك البلاد ويستمر عطاؤه؟ هذا إضافة إلى أن الأمر في عصر القرية الإعلامية لم تعد تحكمه الجغرافيا، بكل معنى الكلمة، فلم يعد هناك دار متمحضة للكفر وإنما أصبح الوجود الإسلامي قائماً ومتميزاً في أكثر بلدان الدنيا، وأصبح له مراكز ومؤسسات، ولم يعد طارئاً أو عارضاً وإنما مستقراً ومستمراً.
وهذه القضية تقتضي تفكيراً في كيفية التعامل مع الظروف والملابسات، واختيار وسائل الدعوة المناسبة (للآخر) الذي اعتبره بعض الفقهاء يمثل أمة الدعوة، بينما يمثل المسلمون أمة الإجابة، بعيداً عن التقسيمات الجغرافية الأرضية والتحول إلى الجغرافيا الثقافية، إن صح التعبير.
وليس من قبيل التكرار أن نؤكد أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب؛ لأنه يعتقد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن وطن المسلم عقيدته، وجنسيته ثقافته، وهويته قيمه وأفكاره، وأن الإسلام ليس حكراً على أرض أو قوم أو لون أو جنس، وبذلك فإن المسلم الملتزم بقيم الإسلام وأخلاقه وتسامحه وإنسانيته لا يشكل استفزازاً في مهجره، لونياً أو عنصرياً أو قومياً، بل يمتلك الكثير من أدوات التواصل والانسجام والاندماج والوسائل المقنعة في دعوة (الآخر)، الذي لا يلبث أن يصبح من أمة الإسلام ويساهم بمستلزمات أخوة الإيمان.(/5)
من هنا نقول: إن المسلمين في المهجر ليسوا جسماً غريباً أو جزراً منفصلة؛ لأن الكثير من أبناء البلاد الأصليين اعتنقوا الإسلام؛ ولأن الإسلام يمثل سقفاً عالمياً يظل الجميع، ومشتركاً إنسانياً يستوعب عطاء الجميع، وليس عقيدة مقفلة متعصبة على جنس أو لون أو فئة أو طائفة أو قوم.. لذلك نجد الكثير من المقدمات الفكرية الخاطئة تؤدي إلى نتائج وأحكام خاطئة.
فالإسلام لا يقابل الغرب، ففي الغرب إسلام وفي الغربيين مسلمين، والإسلام لا يقابل الرجل الأبيض أو الأسود أو المرأة أو الأغنياء أو الفقراء، ففي الإسلام الأبيض والأسود والمرأة والرجل والغني والفقير، والإسلام ليس حكراً على المهاجرين من دون الآخرين، وإنما هو مجتمع مفتوح للجميع .
من هنا ندرك أهمية البعد الرسالي للهجرة، وندرك مدى إمكانية التكيف والقدرة على إجهاض النزعات العنصرية المتطرفة والمغلقة ضد الإسلام والمسلمين، فالهجرة من أهم وسائل الدعوة والحركة والنصرة والعطاء وإيصال هذا الدين إلى كل بيت حجر أو وبر ليعود أهله مسلمين، لذلك فالهجرة جهاد بلا شوكة، بل هي من أعلى أنواع الجهاد، فإذا كانت ساحة الجهاد العسكري ميدان معركة محدودة بأرض وعدو وزمن، فإن ميدان الجهاد بالهجرة هو الحياة بكل آفاقها وأمدائها.
والهجرة محكومة بمصلحة الدعوة إلى الله وحمل الخير للعالم، فهي في مرحلة لابد أن تعلو على جميع روابط النسب والأرض والعلاقات الاجتماعية واللذائذ الدنيوية وحظوظ النفس، وأن عدم الاستجابة لها محل لسخط الله وتهديده ووعيده، قال تعالى: (( قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)) (التوبة:24)، لكنها في حالة أخرى، بعد الفتح، منهي عنها، وممارستها مخالفة لأمر الله؛ لأن مصلحة الدعوة هي في التثبت في الأرض والدفاع عنها وعدم إخلائها للعدو، وهي عندي أشبه بالمعركة ذات الشوكة التي يحكمها قوله تعالى: (( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَار (15)وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ)) (الأنفال:15-16).
فأحكام الهجرة، كما أسلفنا، ليست جامدة مغلقة، وإنما هي محكومة بالمصلحة الإسلامية، محكومة بعلتها، ومحكومة بتوافر الشروط لتنزيلها على الواقع. لذلك فتعميم الأحكام على كل الحالات هو نوع من العامية الذي يقود إلى عمى الألوان وعدم التمييز . فقد تكون فرضاً مأموراً به، وقد تكون أمراً منهياً عنه، ويبقى السير في الأرض واستيعاب العالم وتجاربه وتاريخه وحاضره وفهم واقعه سبيلاً لتحقيق عالمية الدعوة، وتوصيل الخير إلى جنبات الأرض، لذلك فالنظر لموضوع الهجرة من خلال البعد السلبي الذي يعني الهروب والانسحاب والانجذاب (للآخر) وجعل ثرواتنا وطاقتنا في خدمته وخدمة حضارته، هو نظر كليل ساذج لظاهرة الهجرة، وخروج بها عن أبعادها ومقاصدها.
ونحن هنا لا نقلل من خطورة الظواهر السلبية للهجرة والأسباب التي أدت إلى طرد الكفاءات من عالم المسلمين، من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، وانعدام الحرية وتكافؤ الفرص، وتقديم أهل الثقة وطرد أهل الخبرة، والنزف الكبير العشوائي وغير المخطط أو المبرمج، الذي ترتب على الهجرات إلى (الآخر)، وكيف استطاع (الآخر) الإفادة منها، لكننا نقول: إن هذه الهجرات، أو هذا الرصيد من السواعد والكفاءات، أو الأدمغة والتخصصات العلمية، بقدر ما يشكل ظواهر سلبية أفرزتها حالات التخلف والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي بقدر ما يشكل رصيداً حضارياً، ومخزوناً علمياً تخصصياً، وإمكاناً ثقافياً، وثقلاً بشرياً، ووزناً سياسياً، لو أعاد قراءة ذاته وأدرك رسالته الإنسانية وقدرتها على العطاء، واستلهم قيمه وتجربته التاريخية، لتحول إلى مواقع قوة وتأثير وعطاء لموطنه ولمهاجره على حد سواء.
وفي ضوء ذلك وبعض تداعياته:
أليس من الممكن اليوم اعتبار خروج بعض الأصوات الجديدة في أوروبا عامة لنصرة القضايا العربية والإسلامية العادلة، والتفهم الصحيح للمشكلة الفلسطينية والمقاومة المشروعة، هي بعض بشائر معطيات الوجود العربي الإسلامي في الغرب؟
فالهجرة تبقى محكومة في نهاية المطاف بثقافة الإنسان وفاعليته واستشعاره بمسؤوليته وتحقيق هدفه، فالإنسان «الكَلْ» هو وسيلة استهلاك (للآخر)، والإنسان «العَدْل» هو وسيلة إنتاج قادرة على الإنبات في كل المواقع، سواء هاجر من الوطن أو هاجر داخل الوطن، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.(/6)
إن هذا الرصيد الثقافي والحضاري للمهاجرين، وما تحقق له من الانتشار بين أبناء المهجر أنفسهم، والاستقرار والاستمرار، مؤهل لتوهين عصا الظلم، منسأة الاستبداد، التي يتكئ عليها الطغاة، ومعالجة أزمة الحضارة بقيم الإسلام، دين الإنسان.. فالهجرة سعة وتحرر وتجاوز لحالة الضعف والذل، وسير في الأرض، واستيعاب للعالم والسنن الاجتماعية، والتعرف على كيفية توصيل الخير إلى الآخرين، ولعل من أبرز أهدافها أو نتائجها هي مراغمة الأعداء المتربصين بالأمة وقيمها ونشر الخير في العالم، وإيقاف عمليات الإكراه والإجبار وإهدار كرامة الإنسان وإلغاء إنسانيته تحت شعار: ((وَالْفِتْنَةُ (الإكراه) أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )) (البقرة:191)، لأنه لا قيمة للإنسان بلا خيار.. فهل يكون المهاجر رسولاً لهذه القيم؟
ونقول: إنه لمن المؤسف حقاً - ولعل هذا من ثمرات التخلف أو القراءة المتخلفة للظواهر الاجتماعية- أن لا نرى من الهجرة إلاّ الوجه السلبي، ونرصد ظواهرها، ونتألم لآثارها على بلادها، دون أن نبصر أسبابها الحقيقية، وأبعادها الإيجابية، ونتائجها الممكنة، ورسالتها الحضارية، ومردودها على بلدها ومهجرها، وكيفية تحويلها من نقمة عند من لا يرى إلا الوجه المظلم إلى نعمة، بما تمتلك من رصيد علمي ومعرفي وتخصصي وخبراتي، ذلك أن التحركات البشرية وموجات الهجرة من سنن الاجتماع.
إن فقه الهجرة وكيفية تنزيل أحكامها على واقع الناس، والوعي بظروفها وتداعياتها، ووضوح البعد الرسالي للمهاجر في وطنه وفي بلد المهجر على سواء، ليس بالأمر الهين، وقرارها ليس بالأمر السهل. وقد أتينا على أنموذجين من السيرة، في الأول توعد ووعيد للمتخلفين عن الهجرة، واعتبار ذلك مدعاة لسخط الله وعذابه: ((فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ))؛ لأن في الهجرة جهاد ونصرة وسعة ومراغمة للعدو، وفي الثاني نهي عن الهجرة، واعتبار البقاء والمجاهدة والبناء والمدافعة جهاد: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، وفي كلا الأمرين كان التأكيد على النيَّة، التي تمثل البعد الرسالي، واضحاً وحائلاً دون الحركة العشوائية أو ذات المنفعة القريبة.
ذلك أنه في كثير من الأحيان قد تكون الهجرة هي نوع من الجذب والاستدعاء من (الآخر) ومحاولة لاحتياز جميع الخبرات والكفاءات في إطار النزوع صوب التفوق والتحكم في لعبة الصراع الحضاري، وبذلك تفتح المجالات وتمنح العطاءات الكبيرة والحقوق الكثيرة، وتقتصر على اختيار المهاجرين من أصحاب المواهب والكفاءات والاختصاصات والشهادات العليا المتميزة وحرمان بلادهم منهم، التي أنفقت عليهم الملايين الكثيرة، لتبقى بلادهم متخلفة وفي إطار التسول والتلقي الحضاري والثقافي.
وقد تكون الإشكالية هنا مركبة ومعقدة من بعض الوجوه، ذلك أن اليد التي تستدعي وتجذب وتتيح الفرص وتمنح الحرية والعطاء، وتراعي حقوق الإنسان في بلادها، هي اليد نفسها التي تساهم بقيام أنظمة الاستبداد السياسي، التي تكرس التخلف بطبيعتها، وتخنق الحريات، وتعدم تكافؤ الفرص، وتهدر كرامة الإنسان، وتطارد الكفاءات، وتتوهم أنها تشكل خطورة على هذا النوع من الأنظمة الشمولية الإرهابية، فلا يبقى مناص من الهجرة، سواء داخل الوطن أو من الوطن صوب (الآخر).
وقد يكون من المفيد ونحن في إطار الحديث عن الخلل في هذه المعادلة الحضارية وغياب البعد الرسالي للهجرات، أن نأتي على بعض الإحصاءات لنرى هول النزف وحجم الخسارة وسبب التخلف، والإمكان الحضاري والثقافي لهذه الكفاءات المهاجرة؛ فالعلماء والخبراء والكفاءات هم خلاصة رحلة التفوق والمنافسة وممارسة الغلبة الحضارية وما يبذل فيها من الجهد والوقت والمال.
ففي عام 1228 كان المطّلع على حالة الناس في أوربا يرى مشهداً غريباً، حيث شكل هذا العام منعطفاً تاريخياً إلى حد بعيد.
فقد حزم معظم علماء جامعة باريس أمتعتهم وغادروا إلى إنجلترا بلا رجعة، في هجرة جماعية، وكان يقف وراء هذه الهجرة الملك هنري الثالث ملك إنجلترا، الذي أدرك في ذلك الوقت المبكر مكمن القوة الحقيقي.
لقد كان هذا الملك هو مركز الجذب المغناطيسي لهؤلاء العلماء الذين تربوا في باريس وأثمروا في أكسفورد، وهكذا تاريخياً تمتص الدول الواعية والذكية الخبرات أينما كانت، وتجتذبها وتمنحها امتيازات خاصة.. والتي لم تستطع احتيازها وضمان هجرتها إليها توظفها من مواقعها وأوطانها.(/7)
لقد فتحت أمريكا، على سبيل المثال، بصدور قانون الهجرة عام 1965م، الأبواب بكل إمكاناتها لعناصر التفوق في العالم، الأمر الذي أدى إلى تضاعف قوتها العلمية والبحثية، ومن ثم قوتها الاقتصادية والعسكرية.. ولقد كان هذا القانون الجديد للهجرة من أذكى القوانين، فقد استند إلى إكساب الجنسية على أساس المهارات وإتقانها بدلاً من الجلود وألوانها (مجلة المعرفة السعودية، مارس 2002م)، ذلك أن المعلومة والمهارة هي قوة المستقبل، هي القوة المرنة والسلاح الأمضى في المعركة الحضارية .
لقد كشفت بعض الإحصاءات التي توفرت في السنوات الأخيرة أن عدد المصريين المهاجرين للخارج بلغوا 3 ملايين و418 ألفاً. هذا ماكشفه رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجي في مصر الدكتور علي حبيش، واعتبر أن ذلك يمثل خسارة فادحة للاقتصاد، وأن 450 ألفاً من بين هؤلاء من حملة المؤهلات العلمية العالية كالماجستير والدكتوراه، حيث استقر معظم هؤلاء في البلاد المتقدمة: الولايات المتحدة، وإنكلترا، وكندا، وأستراليا، رغم ما تتحمله الدولة من نفقات لبناء هذه المؤهلات قد تصل إلى 100 ألف دولار على الفرد.. فمصر وحدها تخسر 50 مليار دولار بسبب هجرة كفاءاتها (صحيفة الشرق الأوسط، 1/9/1994م).
وأنموذج آخر من هجرة الكفاءات:
«لقد بلغ الأمر خلال النصف الأول من السبعينيات في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، أن الأطباء والجراحين القادمين من الدول النامية يمثلون 50%، والمهندسين 26%، وأن ثلاثاً من دول الشمال، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، تستأثر بـ75% من جملة التدفق في الكفاءات المهاجرة» (الشرق الأوسط، 1/8/1989م).
وهناك دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تشير إلى وجود 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية (جريدة الندوة السعودية، 25/2/1993م).
ولعل قراءة الوجه المقابل للإشكالية قد يعلل بعض الأسباب:
فقد «أظهر تقرير نشر حديثاً أن الدول العربية تنفق دولاراً واحداً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما تنفق الولايات المتحدة 700 دولار لكل مواطن، والدول الأوربية حوالي 600 دولار.. وجاء في التقرير أن كل مليون عربي يقابلهم 318 باحثاً علمياً، بينما النسبة تصل في العالم الغربي إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.. ويكشف التقرير أن 8% من مجموع القوة العاملة العربية هاجرت، وأن 20% من مجموع الأطباء هم الآن خارج المنطقة، وأن 25% من المهندسين يعملون في بلدان أجنبية، وأن 15% من خريجي الأقسام العلمية استسلموا للهجرة الدائمة، وأن 30% من الطلاب بقوا حيث هم، وأن 27 ألف عربي يحملون درجة الدكتوراه غادروا بلدانهم إلى أوربا وأمريكا عام 1980، وأن هذا الرقم وصل إلى 32 ألف عام 2000» (جريدة الوطن القطرية، 18/3/2002م) .
هذه الإحصاءات غير المستقصية تمثل رصيداً حضارياً وعلمياً هائلاً لو أدركت البعد الرسالي للهجرة، والمهمة الحضارية للمهاجرين كطلائع في داخل (الآخر).
وليس أقل خطراً وخسارة من ذلك ما يلاحظ من ممارسة الضغط والتضييق للتخلص من الخصوم واضطرارهم للهجرة، على مستوى السياسة والثقافة، وذلك بفتح منافذ الخروج، وقد يحدث ذلك بالتفاهم المشترك مع (الآخر) الذي يستقبل المهجرين.. لذلك فأمر الهجرة والنظر في تداعياتها وإبصار النتائج ووضوح الرسالة من الأمور المهمة، فعمليات الطرد والإخلاء والإغراء بالخروج خطط مدبرة، ليتمكن العدو من الاحتلال والاستيطان والتخلص من السكان الأصليين، تنتهي بالهجرة إلى نوع من الشتات والتقطيع في الأرض أمماً: (( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا... )) (الأعراف:168)، ونوع من التيه والضياع بدون رؤية أو هدف أو رسالة، وبذلك تتحول الهجرة إلى نوع من الخروج من المعركة بشكل أو بآخر، وما الواقع في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين عنا ببعيد.
لذلك، فالتبسيط وإنزال الأحكام بدون وعي لكل هذه الظروف قد يحدث كوارث سياسية وثقافية واجتماعية ويحوِّل النعم إلى نقم.
ولعل من الهجرات الأخطر، تلك الهجرات الفاقدة للرسالة والثقافة، وهي الهجرة داخل الوطن، الهجرة إلى ثقافة وحضارة (الآخر)، والافتتان بها، وممارسة العمالة الثقافية أو الخيانة الثقافية للتاريخ والحضارة والأمة، أو الهجرة إلى معاهده ومؤسساته الثقافية دون مرجعية ومعايير سليمة، وبذلك يصبح الإنسان غريباً في وطنه أو مسكوناً بثقافة (الآخر) ومن المهاجرين إليها، ولو كان ساكناً في بلده، فليست العبرة بالمكان بقدر ما هي بالإنسان.
وما يحمله عقد العولمة، أو حقبة العولمة، من (الإكراه) الثقافي والتنميط الاجتماعي والهجرة الحضارية القسرية، وما يترافق مع ذلك من الهجرات إلى (الآخر)، يتطلب المزيد من الوعي الكامل لكيفية التعامل، وإبراز البعد الرسالي للهجرة في الوطن، والهجرة إلى خارج الوطن.(/8)
واليوم في حقبة العولمة وثورة المعلومات، حيث أصبحت الكرة الأرضية قرية واحدة بما انتهت إليه التطورات الهائلة في وسائل الاتصال، حيث اختزل الزمان وطوي المكان وتقاربت المسافات، يمكن النظر إلى الطاقات المهاجرة من وجه مختلف، حيث أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة وليس في غرف متجاورة، وفكرة التكديس البشري أصبحت إلى حد بعيد نوعاً من التخلف والبدائية، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية من مواقعها وكأنها في الوطن، في كل المجالات، إضافة إلى ما تمتلك من مخزون ثقافي وتجربة حضارية وقيم إنسانية تمكنها أن تحسن اغتنام مواقعها، لتقديم نماذج تثير الاقتداء وتغري بالاعتناق لهذا الدين والعيش في رحاب رحماته، بعيداً عن التعصب والغلو والعنصرية، التي بدأت تجتاح العالم من خلال تجديد النظرة إلى الأغيار وتشييع فكرة العلو العرقي أو الشعب المختار، هذا إضافة إلى ما يمكن أن تعطيه لمواطنها الأصلية.
ونعود إلى القول: إنه بعد حقبة العولمة وثورة المعلومات وهذا التطور السريع في وسائل الاتصال، حيث أصبح الإنسان يرى العالم ويحاكيه من وراء مكتبه أو من بيته ودائرته ومختبره ومستشفاه، حتى من غرف العمليات الجراحية، لا بد من إعادة النظر والتقويم والمراجعة لظاهرة الهجرة وهذا الرصيد المهاجر من السواعد والأدمغة، الذي يعيش في إطار (الآخر)، وإعادة التفكير في كيفية استرداد دوره الرسالي؛ لأن التكنولوجيا الحديثة قضت على أسباب وآثار الاغتراب، وأمكنها تحقيق الكثير من الارتكاز الحضاري والتواصل الثقافي وحمل الهم الوطني، لا أقول عن بُعْدٍ، حيث لم يبق بعداً.
فإلى أي مدى يمكن الإفادة من هذه الثروات، أو هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات، في الارتقاء بالواقع الإسلامي على المستويات جميعاً، واعتبار تلك المواقع العلمية والعملية هناك ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نواتجها في العالم الإسلامي، وتساهم بنهضته، وتحقق حضوراً عملياً واستشارياً ومعلوماتياً في عالمها؟
فالسؤال المطروح اليوم: كيف نستفيد من هذا الكفاءات ونوظفها من مواقعها؟
وكيف لها أن تمنحنا بعداً حوارياً ثقافياً وحضارياً ووسائل دعوة بين الإسلام والمسلمين و(الآخر)؟
وكيف يمكن من خلال التواصل والتثاقف أن تشكل طلائع متقدمة للأنموذج الإسلامي الذي يثير الاقتداء ويغري بالاتباع؟
وكيف يمكنها تصويب الصور المشوهة، واستلال الأحقاد التاريخية، والانتصار لقضايا الحق والعدل؟
إن المهاجرين هم الجسر الحضاري ووسائل الاتصال أو طرق المواصلات لحمل الإسلام وتجسيده في واقع الحضارات والثقافات الأخرى بعيداً عن المواجهة والاستفزاز، حتى تكون الهجرة لله ورسوله، وتتحقق بالبعد الرسالي وتتحول من ظواهر نزيف سلبية إلى فعل إيجابي يحمل الخير لبلدها الأصلي، بلدها الأم، وموطنها المختار المهجر، وتضيف بعداً غائباً بأن الهجرة جهاد بلا شوكة سلاح، فهي ليست جهاد عضلة وساعد وإنما جهاد فكرة ومعرفة ومعلومة، التي سوف تشكل قوة المستقبل -كما أسلفنا- وأن مراغمة الأعداء ليست بالانتصار العضلي عليهم وإنما بمنافستهم في ميدان السبق العلمي والمعرفي والالتزام الخلقي والسلوكي، الذي يحمي مسيرة العلم من البغي والفساد والتسلط، تبصراً بالعواقب والمآلات البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد يجول فيها الباطل جولة.
وبعد:
فهذا الكتاب يشكل محاولة جادة لإعادة طرح ظاهرة هجرة الكفاءات وتداعياتها السلبية، على مستوى الذات، وما تشكله من خسارات مادية ونزيف يساهم في إنهاك مواطنها الأصلية وتكريس التراجع والتخلف فيها، في الوقت الذي تعتبر إحدى المكونات والمقومات المهمة في حضارة (الآخر) وتأهيله للغلبة الحضارية، الأمر الذي شكل هماً لكثير من المفكرين والباحثين الذين استشعروا الخطر وأدركوا النتائج.
وقد حاول الكتاب إعادة فتح ملف الهجرة، على كثرة ما كتب فيه وما قدم من معالجات ورؤى، لينظر إليها من وجه مختلف، أو من الوجه الآخر، الوجه الثقافي، أو ما ارتأينا أن يكون عنوانه: «البعد الحضاري لظاهرة الهجرة»، على اعتبار أن الهجرة ليست ظاهرة سلبية هروبية انسحابية، وإن تضمنت بعض الهجرات شيئاً من هذا، وإنما هي حركة إيجابية ذات أهداف رسالية ووسيلة دعوية متميزة لإلحاق الرحمة بالعالمين.
فالهجرة إلى المدينة هي سبب ولادة الأمة والمجتمع والدولة، والهجرة إلى الحبشة كانت السبب في نقل الإسلام وإيمان ملكها، ومراغمة الأعداء، وإنهاء لحالة الذل والمحاصرة والاستضعاف والركود والاستنقاع الحضاري.. والهجرات هي التي نقلت القيم الإسلامية إلى العالم.
فالهجرة فعل حضاري له أبعاده ورسالته وأحكامه وشروطه، فقد تكون جهاداً من أعلى أنواع الجهاد، والترفع عن الروابط القسرية، والقعود عنها مدعاة لوعيد الله، وقد تكون منهياً عنها إذا كانت تفريغاً للموقع وسبيلاً لاستيطان (الآخر) وامتداده: «فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».(/9)
والذي نريد أن نؤكده أن ما قدمناه في هذا الكتاب من رؤى بَصُر أصحابها المهجر، وأدركوا الرسالة المنوطة بالمسلم بشكل عام، والمسلم المهاجر بشكل خاص، لا ندعي له، أو نزعم، أنه الرؤية الشاملة لجوانب الموضوع، وإنما هي نوافذ تستدعي الاستمرار في فتح الملف والنظرات الاجتهادية الفكرية في أبعاده وتداعياته، وعلى الأخص في هذا الوقت بالذات، حيث يتحول العالم إلى وطن واحد، تلغى فيه الحدود والسدود، وتختزل المسافات والأزمنة، وتفرض فيه الأنماط الثقافية والاقتصادية والاستهلاكية والاجتماعية للدول الأقوى، ويترافق مع ذلك استيقاظ النزعات العنصرية الهمجية البدائية لما يسمى باليمين المتطرف، التي تنطلق من عقدة الشعب المختار، التي وزعت على العالم بأقدار ثقافية متعددة..
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب
أ.د. عبد المجيد النجار
1- تمهيد:
هجرة الإنسان من موقع إلى موقع على وجه الأرض، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى ظاهرة فردية وجماعية عرفت في التاريخ القديم والحديث، وستظلّ ظاهرة سارية ما وُجد الإنسان؛ وذلك بما هي سنّة من سنن الاجتماع البشري، وقانون من قوانينه لا يتخلّف مهما تغايرت الأسباب وتعدّدت الدوافع، بل لعلّها بما هي ظاهرة مندرجة ضمن قانون كوني عامّ يتمثّل في الحركة الدائبة التي تشمل كلّ ما في الكون، فتنتقل بها الموجودات باطّراد من مواقعها حتى لتبدو أنّها على غير قرار ثابت.
وبالنسبة إلى الإنسان ذي الإلف والحساسية، قد يبدو في هجرته الفردية أو الجماعية ضرب من المعاناة متمثّلة في آلام الفرقة ومشاكل الاغتراب، سواء بالنسبة إلى البيئة الطبيعية أو بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية، وهو ما حفلت بتصاويره وأوصافه آداب الشعوب وفنونها على مرّ الزمن، إلاّ أنّ الهجرة مع ذلك لعلّها تعتبر أحد العوامل الهامّة في التقدّم الإنساني العامّ، وفي التطوّر الحضاري بمختلف وجوهه؛ ذلك أنّها تمثّل عاملاً مهمّاً من عوامل التلاقح الفكري بين الناس، وسبيلاً من سبل تفاعل الخبرات والتجارب بينهم، وهو أحد أهمّ أسباب النموّ في الحضارة الإنسانية بوجه عامّ.
وللهجرة في التاريخ الإسلامي معنى خاصّ وآثار متميّزة، بحيث اتّخذت فيه وضعاً لم يكن لها في أيّ دين أو مذهب آخر، فقد جاءت النصوص الدينية تبارك الهجرة في سبيل الدين، وتحثّ عليها، وتعتبرها إحدى وسائل النضال من أجله، والجهاد في سبيله، ومن ذلك قوله تعالى: (( قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)) (النساء:97)، وكانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة عاملاً حاسماً في انتصار الإسلام ورسوخ قدمه، كما كانت بعد ذلك هجرات المسلمين إلى أصقاع الأرض سبباً في انتشاره بين الناس، وسبباً في تلاقح حضاري اعتبر أحد الأسباب المهمّة في نشأة الحضارة الغربية الراهنة.
ومن هذا الوضع المتميّز للهجرة في الإسلام وتاريخه أصبح في المخزون الثقافي للمسلمين ما يمكن أن يسمّى بثقافة الهجرة، وهي ثقافة أصبح بها المسلم يعتبر أنّ الهجرة لئن كان فيها من الشدّة والمعاناة ما يلقاه عموم الناس منها إلاّ أنّها بالنسبة إليه تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الدين، وضرباً من ضروب الجهاد في سبيل الله، فاكتست بذلك في نفس المسلم بعداً رسالياً اختلفت به عن موقعها في نفوس غير المسلمين من سائر أهل المذاهب والأديان الأخرى.
وإذا كان هذا البعد الرسالي للهجرة المترسّب في ثقافة المسلم قد يخفت أحياناً في نفوس بعض الأفراد أو الجماعات في ظروف معيّنة، أو في أحقاب زمنية محدّدة، لسبب أو لآخر من الأسباب، إلاّ أنّ التأصّل العميق لثقافة الهجرة في النفسية الإسلامية يظلّ محافظاً على ذلك البعد الرسالي فيها مهما أتى عليه من عوامل الخفوت، وهو ما يبدو فيما يلحظ من استفاقة ذلك البعد وفعاليته بأقلّ جهود تبذل في إحيائه واستنهاضه، وذلك ما يعتبر رصيداً بالغ الأهمّية من أرصدة الدعوة التي يمكن استثمارها في سبيل التعريف بالإسلام ونشره بين الناس.(/10)
وقد شهد نصف القرن الأخير هجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى العالم الغربي لأسباب متعدّدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أصبح عدد المهاجرين فيه يعدّ بالملايين، ولئن كان البعد الرسالي في هذه الهجرة خافتاً عند أكثر المهاجرين، لأسباب يعود بعضها إليهم متعلّقة بضعف وعيهم الثقافي العامّ، ويعود بعضها إلى المناخ الحضاري الذي هاجروا إليه متمثّلة في السطوة الحضارية الغالبة في الحضارة الغربية، إلاّ أنّ التطوّرات التي حدثت في نوعية المسلمين المهاجرين وفي مجمل الوجود الإسلامي بالديار الغربية، مضافاً إليه ذلك الرصيد من البعد الرسالي المخزون مستكنّاً في النفسية الإسلامية يمكن أن يكونا عاملين مهمّين من العوامل التي يمكن استثمارها في الدفع بالهجرة الإسلامية إلى الديار الغربية إلى آفاق رسالية واسعة يمكن أن تكون لها آثار نوعية في الدعوة الإسلامية.
وفي هذا الإطار يتنزّل ما يثار اليوم من حجاج واسع في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى الديار الغربية، فقد كثرت حول هذه الهجرة التساؤلات فيما إذا كانت تمثّل عاملاً سلبياً بالنسبة إلى المسلمين يضعف من أسباب نهضتهم وتقدّمهم، أو هي تنطوي على عناصر من القوّة بالنسبة لمجمل الوضع الإسلامي العامّ في جانبه الدعوي على وجه الخصوص، وكيف يمكن لتلك العناصر، من القوّة، إذا ثبتت أن تفعّل لتحدث آثارها المطلوبة فيربو ما تنطوي عليه من خير على ما يمكن أن تكون منطوية عليه من ضرر؟
وسنحاول فيما يلي المشاركة في الإجابة على هذه التساؤلات، متّخذين منطلقاً لهذه المشاركة ما رسمناه آنفاً من إطار لموقع الهجرة في الثقافة الإسلامية، وما ينطوي عليه ذلك الموقع من بعد رسالي أثبتته النصوص الدينية عقدياً، ورسّخته التجربة التاريخية على مدى زمن طويل، فهل في هجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى ديار الغرب ما يمكن أن يعتبر خيراً للإسلام والمسلمين، أم هي ظاهرة سلبية محض؟ وإذا كانت تنطوي على خير ففيم تبدو عناصر ذلك الخير؟ وكيف يمكن تفعيلها لتؤتي ثمارها في خدمة الإسلام والمسلمين؟
2- هجرة العقول المسلمة بين السلب والإيجاب:
منذ بعض العقود تكثّفت هجرة أعداد كبيرة من العلماء والمفكّرين المسلمين من بلادهم بالمشرق إلى أوروبا وأمريكا حتى أصبح عددهم اليوم يقدّر بعشرات الآلآف إن لم يكن بالمئات، ومنهم من بلغ في الريادة العلمية الدرجة الأولى من بين علماء العالم ومفكّريه، وهم يساهمون إسهاماً فاعلاً في تقدّم الحركة الحضارية في جميع وجوهها. وبقطع النظر عن الأسباب التي أدّت إلى تفشّي هذه الظاهرة وتناميها بمرور الزمن، والتي ليس هذا محلّ بحثها، فإنّها ظاهرة ذات تأثير بالغ على كلّ من طرفي البلاد، المهاجر منها والمهاجر إليها، على حدّ سواء، إلاّ أنّه تأثير يختلف في طبيعته بعض الاختلاف بين الطرفين.
أمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر إليها، فإنّ هذه العقول المهاجرة تعتبر رصيداً إضافياً في مجال الريادة العلمية والفكرية، تساهم إسهاماً فاعلاً في التقدّم الصناعي والتكنولوجي، وتسرّع من حركة التنمية الشاملة فيها، وهو أمر مشهود به من قبل أهل تلك البلاد أنفسهم، كما يدلّ عليه حصول بعض العلماء المسلمين المهاجرين على جائزة نوبل، وهي الشهادة العالمية العليا على الريادة والعطاء في المناشط العلمية على اختلافها.
وأمّا بالنسبة إلى البلاد المهاجر منها، فإنّ تأثير هجرة العقول يبدو في طرفه القريب تأثيراً سلبياً عليها، إذ هجرة العقول منها يعتبر نقصاناً من رصيدها الذي به تتحرّك نحو نهضتها، وذلك بما ينقص بتلك الهجرة من إمكانيات الابتكارات والكشوف العلمية والفكرية التي من شأنها أن تطوّر الحياة وتنمّيها، وإن كان بعض الباحثين يشكّك في أن يكون لتلك العقول المهاجرة تأثير إيجابي في البلاد التي هاجرت منها فيما لو بقيت فيها، إذ هي حينئذ سيكون مآلها الانكماش والعطالة كالعقول التي لم تهاجر، وذلك بحسبان أنّ المناخ العامّ في تلك البلاد غير مساعد على الانطلاق في سبيل الريادة والابتكار والعطاء، وهو ما كان أحد أسباب هجرتها إلى بلاد يتوفّر فيها ذلك المناخ.
ولكن قد نظفر بنتائج أخرى لظاهرة هجرة العقول الإسلامية مخالفة للنتائج الآنفة البيان لو وسّعنا زاوية النظر إليها، بحيث تتجاوز في التقدير حدود الربح والخسارة، بميزان التنمية المادّية، لتمتدّ إلى مساحات تشمل مستقبل الدعوة الإسلامية فيما يمكن أن يكون لها من انتشار بتلك الهجرة في ديار الغرب من شأنه أن يثمر من النتائج ما يعود بنفع حضاري عامّ، مادّي ومعنوي، لكلّ من طرفي الهجرة، المهاجر منه والمهاجر إليه، على حدّ سواء، ونحن نعني هنا ما أشرنا إليه آنفاً من البعد الرسالي في هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب.(/11)
إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي من صميم الأمّة فيما ترسّب في مخزونها الثقافي من بعد رسالي ظلّ ثابتاً فيه مهما أتت عليه من أحوال النشاط والخفوت، بل إنّ هذه العقول بما هي من صفوة الأمّة في قدراتها العقلية وفي درجاتها العلمية وفي مستوياتها الفكرية لعلّ ذلك البعد الرسالي المترسّب في ثقافتها يكون أقوى عندها منه عند غيرها من سائر أفراد الأمّة وجماعاتها، وهي قوّة ربّما ظهرت عند بعضهم في حال نشاط فاعل، وربّما كانت عند بعضهم الآخر في حال كمون، لكنّها لا تلبث عند الأكثرين منهم أن تنهض إلى حال النشاط إذا توفّرت لها العوامل المناسبة.
وإذا ما استُنهض هذا البعد الرسالي في العقول الإسلامية المهاجرة ليصبح نشيطاً فاعلاً فإنّه سيمتدّ بالدعوة الإسلامية بما تتضمّنه من قيم إيمانية وخُلقية واجتماعية إلى بلاد المهجر الغربي، وستتكوّن من ذلك حركة تفاعل حضارية بالغة الأهمّية تتلاقح فيها تلك القيم الإسلامية ذات البعد الإنساني بما يتوفّر عليه الغرب من كسوب العلوم الكونية والأنظمة الإدارية، وتكون تلك العقول المهاجرة واسطة تبليغ إيجابي تنقل الحسنات من كلّ طرف إلى الآخر، فإذا التقدّم المادّي بالبلاد الغربية يتعزّز بالقيم الإسلامية في أبعادها الإنسانية، وإذا بتلك القيم عند المسلمين تتعزّز بكسوب الغرب من العلم الكوني وأنظمة الإدارة، وإذا بذلك كلّه يفضي إلى مدخل مهمّ من مداخل التلاقح الحضاري الذي يبلّغ فيه خير الإسلام إلى الناس، ويستفيد فيه المسلمون ممّا عند هؤلاء الناس.
يتبيّن إذن أنّ ظاهرة هجرة العقول المسلمة إلى الغرب هي ظاهرة تنطوي من مكوّنات الخير والمنفعة للأمّة الإسلامية وللإنسانية عامّة على ما يمكن أن يذهب بما قدّر فيها من الوجوه السلبية، ممّا أشرنا إليه آنفاً، وذلك حينما ينظر إليها من زاوية أرحب تجعل البعد الرسالي وما ينجرّ عنه من تفاعل حضاري مثمر المحور الأساس في التقدير، والمحور الأساس في معالجة هذه الظاهرة وتوجيهها.
وحينما يكون النظر إلى هجرة العقول المسلمة على النحو الذي وصفنا فإنّ ما يثور اليوم في محافل الحجاج في هذه القضية من لجاجة تنحو في تيّارها العامّ منحى تشاؤمياً، جرّاء الاقتصار في تقدير الظاهرة على جوانبها السلبية، يمكن أن ينعدل بما يتّجه إليه البحث فيها من تقدير شامل تكون تلك الجوانب عنصراً من عناصره فحسب، وتكون الجوانب الإيجابية متمحورة على البعد الرسالي فيها، العنصر الأكبر في ذلك التقدير، فيحظى بمزيد من البحث والتحليل والتوجيه، وذلك ما يستلزم بالأخصّ البحث العميق في ثلاثة من جوانب ذلك العنصر: محتوى البعد الرسالي في ظاهرة هجرة العقول المسلمة، والمؤهّلات الرسالية في ذلك البعد، وسبل استنهاضه ودفعه للفاعلية والعطاء.
3- محتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة:
الإسلام دين عالمي، على معنى أنّه موجّه للناس كافّة، والمسلمون جماعة مكلّفون بتبليغه في كلّ زمان ومكان، وكلّ فرد من أفراد المسلمين مكلّف أيضاً بهذا التبليغ على قدر طاقته، وهو مدلول قوله تعالى: ((قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى)) (يوسف:108)، وكلّما توفّرت إمكانيات التبليغ المادّية والمعنوية بأقدار أكبر أصبح واجب الدعوة آكد وأثقل، سواء بالنسبة إلى مجموع الأمّة أو بالنسبة إلى أفراد المسلمين على حدّ سواء.
والمسلمون في مقابل ذلك التبليغ وفي سبيل إتقانه وإحسانه أيضاً مدعوّون بحكم الدين إلى أن يتحرّوا الحقّ أينما كان، وأن يأخذوا به ويتّبعوه ويعملوا وفقه.. وإذا كان الحقّ في شرح أحوال الوجود وفي توجيه الحياة يجدونه في دينهم تامّاً غير منقوص، فإنّه في الشؤون الكونية المادّية، وفي الشؤون التقنية والإدارية المدبّرة للحياة، قد يجدونه في الكسب الإنساني العامّ، فيكونون مدعوّين ديناً إلى أن يطلبوه من ذلك الكسب، وفقاً في ذلك للمأثور الإسلامي من أنّ «الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها»([1]).. وقد كانت التجربة الحضارية الإسلامية في ذلك تجربة ثريّة غنية، حيث استفاد المسلمون في بناء حضارتهم استفادة كبيرة من حضارات الأوائل وعلومهم الكونية كما هو معلوم.
من هذا المنطلق ذي الوجهين: عالمية الدين المقتضية للتبليغ، وواجب الاستفادة من الحقّ الذي يتضمّنه الكسب الإنساني العامّ، يمكن أن ترتسم الملامح الأساسية لمحتوى البعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب، إذ يكون هو أيضاً محتوى ذا اتّجاهين متكاملين: ينحو في الأوّل منحى العطاء بتبليغ الإسلام إلى أهل الغرب، وينحو في الثاني منحى طلب الحقيقة من كسوبهم العلمية الكونية والتقنية والإدارية لإفادة الإسلام والمسلمين بها، فتكون إذن رسالة مزدوجة النفع: عطاء لما هو موجود من حقائق الإسلام وقيمه، وأخذ لما هو مفقود من حقائق العلم الكوني والتقني والإداري.
أ- رسالة التبليغ:(/12)
تعني هذه الرسالة تبليغ الدين لأهل الغرب، وهو تبليغ لرسالة إيمانية حضارية شاملة، تتعلّق بالمعتقد المفسّر للوجود وللكون وللحياة، كما تتعلّق بالقيم الخُلقية والإنسانية العامّة، وبالقوانين المنظّمة للحياة في جميع وجوهها، توخّياً في ذلك كلّه لسبل مختلفة متعدّدة، تلتقي جميعها عند الحسنى في طريقة التبليغ، وتفترق بعد ذلك من حيث الكيفية، بحسب أحوال المخاطبين بالدعوة، وبحسب الظروف المحيطة بها.
والعقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب هي عقول تنتمي إلى الإسلام وأهله، معتقداً وحضارة وتاريخاً، وهي وإن كان بعضها لا يلتزم بالإسلام التزام دعوة وتبليغ أو التزام تطبيق شامل لمقتضياته، فإنّها جميعها أو معظمها تحمل رؤيته العقدية الفلسفية المفسّرة للوجود، كما تحمل قيمه الإنسانية والحضارية العامّة، وهي لذلك تعتبر بهجرتها إلى ديار الغرب نقلة لأنموذج ثقافي حضاري من مناخه الإسلامي إلى مناخ غربي ذي ثقافة وحضارة مغايرة، وذلك ما يوفّر فرصة لدور رسالي يمكن أن تقوم به هذه العقول في مهجرها الجديد. ويتمثّل هذا الدور الرسالي بمجمله في تبليغ الإسلام إلى أهل الغرب تبليغاً يشمل جوانبه المختلفة، ويتمّ بأساليب متنوّعة بحسب المقامات والأوضاع.
ومن هذا التبليغ تبليغ عقدي، يتمثّل في عرض دعوي للإسلام في تفسيره للوجود وفي تنظيمه للحياة، وفق ما تسمح به الظروف والمقامات، وذلك على اعتبار أنّه رؤية أخرى غير الرؤية السائدة عند الناس في بلاد الغرب، وعلى اعتبار أنّ تلك الرؤية تحمل من الحقّ والخير للإنسانيّة ما تكون به حلاًّ لما تعانيه من المشاكل المختلفة الوجوه، بحيث تكتسب في عقول المخاطبين مصداقية تجعلها جديرة بالاهتمام والنظر والتأمّل. وهذا الضرب من التبليغ ينحو المنحى النظري، وساحته في الغالب هي ساحة الحوار الفكري والتدافع الفلسفي بين المفاهيم والنظريات والمذاهب.
ومنه تبليغ قيمي، يتمثّل في عرض دعوي أيضاً للقيم الإسلامية ذات الطابع الخُلقي والإنساني منها على وجه الخصوص، وهو عرض لمنظومة من القيم المتكاملة التي تحدّد المبادئ الكبرى الحاكمة للعلاقات بين بني الإنسان سواء على المستوى الإنسانيّ العامّ، أو على مستوى الجماعات والفرق، أو على مستوى الأسر، أو على مستوى الأفراد.
وإذا كان هذا التبليغ القيمي يمكن أن يكون عرضاً نظرياً حوارياً، فإنّ الجانب الأهمّ فيه هو العرض الفعلي العملي متمثّلاً في التحلّي بتلك القيم في التعامل مع الآخرين على جميع مستويات التعامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً، بحيث تقدّم تلك المنظومة القيمية للناس أنموذجاً عملياً يعيشها أهل الغرب واقعاً في تعاملهم مع العقول المهاجرة، ويشاهدونها أنموذجاً تطبيقياً في حياتهم.
ومنه تبليغ حضاري تعميري، يتمثّل في عرض الأنموذج الإسلامي من جهة التعمير في الأرض، وذلك فيما يتعلّق على سبيل المثال بالاهتمام بالعلم الكوني والجدّ فيه بالبحث والابتكار، والاهتمام بالتكنولوجيا والجدّ فيها بالاختراعات والتصنيع، والعناية بالعمل كلّه والإتقان فيه، والإحسان في التعامل البيئي في كلّ اتّجاهاته ومستوياته، والإنتاج الفنّي المميّز في المجال المعماري خصوصاً وفي غيره من المجالات عموماً، والنحو في ذلك كلّه نحواً ثقافياً إسلامياً يبدو في مختلف تلك التصرّفات، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يرتبط في ذهن المتعامل معها والراصد لها ظاهرها المشهود بخلفيتها المرجعية الثقافية الإسلامية.
ومن البيّن أنّ هذا العرض الدعوي الحضاري هو بالأساس عرض عملي تطبيقي، وإن كان فيه من دورٍ للمناظرة والحوار فهو دور تابع للتطبيق والعمل.
ب- رسالة الانتفاع:
لا شكّ أنّ البلاد الغربية حقّقت أقداراً كبيرة من التقدّم في العلوم الكونية وتطبيقاتها التكنولوجية، وفي التنظيم الإداري والسياسي للحياة الاجتماعية.. والعقول الإسلامية المهاجرة، بما تنطوي عليه من قوّة، قادرة على أن تستوعب ذلك التقدّم بكفاءة عالية، بل هي قادرة على أن تساهم فيه بالإنتاج كما أثبتت ذلك التجربة الواقعية متمثّلة في تحقيق الكثير منها لإنجازات اختراعية معتبرة وصلت بها إلى أعلى مراتب الجوائز العالمية.
وبما أنّ هذه العقول المهاجرة، وإن كانت قد انتقلت من بلادها الإسلامية إلى البلاد الغربية، فإنّ ذلك لا يعني انبتاتها عن البلاد التي هاجرت منها، بل هي حتى وإن هاجرت الهجرة الدائمة فتكون بالمعنى السياسي منتمية إلى مهاجرها، فإنّها تبقى باعتبارها مسلمة منتمية إلى دائرة الأمّة الإسلامية، بالمعنى العقدي والثقافي والحضاري، وهذا الانتماء يقتضي منها أن تقوم بدور رسالي تجاه الأمّة التي تنتمي إليها، ولكنّه دور رسالي في اتّجاه معاكس للدور السابق، إذ هو يتّجه من بلاد المهجر نحو البلاد الإسلامية.(/13)
ويتمثّل هذا الدور في إفادة البلاد الإسلامية بما يتيسّر الإفادة به ممّا توصّلت إليه الحضارة الغربية من العلوم الكونية والاختراعات التقنية والنظم الإدارية، وذلك بنقل تلك المكاسب إلى المسلمين، وتيسير سبل استفادتهم منها، وإدخالها إلى حركة الحياة، ويمكن أن يشتمل هذا الدور على عدّة عناصر مختلفة ولكنّها متكاملة.
ومن تلك العناصر: تمثّل مكاسب الحضارة الغربية تمثّلاً صحيحاً، سواء تعلّق ذلك بالعلوم الكونية أو بالعلوم الإنسانية، بحيث تكون العقول المهاجرة مستوعبة لتلك المكاسب على حقيقتها كما هي عند أهلها دون تأويل لما يقبل منها التأويل، استيعاباً يشمل مفردات العلوم كما يشمل منازلها في الشبكة المعرفية العامّة، عمودياً في التاريخ، وأفقياً في المشهد المعرفي الشامل، فيكون علمهم فيها لا يقلّ عن علم مخترعيها بها، تحصيلاً للموجود المتراكم، ومتابعة للحادث الجديد، وذلك على نحو ما كان من صنيع الإمام الغزالي حينما درس، الفلسفة اليونانية فاستوعبها بدقّة فاقت أحياناً علم أهلها بها، كما يبدو فيما دوّنه في كتابه الشهير «مقاصد الفلاسفة».
ومنها تبيّن الخلفيات الثقافية والأسس المرجعية لكلّ ما يقع استيعابه من تلك العلوم، سواء ما كان منها كونياً أو تكنولوجياً أو إنسانياً، فإنّه لا شيء منها إلاّ وهو ناشئ في منشأ ثقافي فلسفي ذي صفات خاصّة، فيكون متأثّراً بذلك المنشأ، إن قليلاً أو كثيراً، وإن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون استيعاب العقول المهاجرة لتلك المكاسب العلمية استيعاباً لذاتها، واستيعاباً أيضاً لعللها وأسبابها، ومراجعها وموجّهاتها، وأهدافها ونهاياتها، بحيث يكون العلم بها غير مقتصر على صورها، وإنّما يكون شاملاً لأبعادها المختلفة، فنّية وثقافية وفلسفية، مهما بدا في بعضها من تمحّض فنّي مثل بعض العلوم الكونية والتكنولوجية.
ومنها العمل على نشر تلك المكاسب العلمية في أوساط الأمّة الإسلامية وترويجها فيها، وذلك بتيسير وصولها إليها في مؤلّفات توجّه بحيث تناسب أوضاعها، أو بالتعليم المباشر في مؤسّساتها حينما تسنح الفرصة لذلك، أو بمساعدة مؤسّساتها العلمية بأيّ وجه من وجوه المساعدة على الحصول عليها ونشرها ضمن برامجها، أو بمساعدة أبناء الأمّة من البعثات الدراسية العلمية على استيعاب أكبر الأقدار منها، أو بأيّ وجه آخر من الوجوه الميسّرة لانتقال تلك المكاسب العلمية المختلفة الوجوه إلى الأمّة الإسلامية.
ومنها تهيّئة المكاسب الحضارية الغربية في وجوهها التطبيقية، بحيث تتلاءم مع الوضع الثقافي للأمّة الإسلامية، وتسهم في تنميتها من خلال تلك الثقافة، لتنحو في وجهتها الحضارية وجهة متميّزة تتلافى فيها النواقص والمنزلقات التي وقعت فيها الحضارة الغربية، وتنسجم مع المقاصد التي يحدّدها دينها الذي هو منبع ثقافتها ومرشد مسيرتها، وذلك بما يكون من ملحظ في التعامل معها لمناشئها الثقافية ومرجعياتها الفلسفية التي تؤثّر فيها صياغة وغاية وتطبيقاً، فيفصل فيها ما هو حقائق مجرّدة عمّا هو مستصحبات ثقافية فلسفية، وتقدّم من قبل العقول المهاجرة للأمّة على هيئة من ذلك الفصل، وعلى تنبيهات إلى تلك المستصحبات، لتكون ملائمة لوضعها الثقافي ومقاصدها الدينية.
إنّ هذا المحتوى للبعد الرسالي في هجرة العقول المسلمة، في طرفي الأخذ والعطاء، من شأنه أن يغيّر طبيعة تلك الهجرة من مجرّد حركة انتقال آلي تحوّلت به تلك العقول من ضفّة حضارية إلى أخرى، ومن نمط اجتماعي إلى آخر، عابرة ما بينهما من هوّة في سبيل تحقيق مآرب فردية ضيّقة، مثل العيش في رفاهية من الحياة، أو الاطمئنان بالأمن، أو إشباع الطموح العلمي، مع بقاء تلك الهوّة الفاصلة على حالها، إلى انتقال يحمل معه مخزوناً ثقافياً قيمياً حضارياً يبلّغه إلى أهل الغرب، ويشارك به في حركة الحوار الحضاري من أجل المصلحة الإنسانية العامّة.
ومن شأن ذلك أن يغيّر من طبيعة تلك الهجرة لتكون هجرة واصلة بين حضارتين، تحمل من كلّ منهما إلى الأخرى ما هي في حاجة إليه من الحقّ النظري والعملي، لينمو الخير فيها وتضيق مساحة القصور، فتضيق إذن تلك الهوّة الفاصلة، وتقترب الأمّة الإسلامية من أمم الغرب بما تقدّم إليهم من القيم الخُلقية والدينية، وبما تأخذ من الكسوب المادّية والإدارية، وفي ذلك خير الإنسانية، وفيه على وجه الخصوص خير الإسلام والمسلمين.. وإنّ العقول الإسلامية المهاجرة لمَؤهّلة للقيام بهذا الدور الرسالي في هجرتها.
4- مؤهّلات العقول المهاجرة للدور الرسالي:(/14)
إنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على مؤهّلات كثيرة للقيام في هجرتها بالدور الرسالي الذي شرحنا محتواه، سواء في طرف العطاء أو في طرف الأخذ، وهو ما يمكّنها من القيام بذلك الدور على وجه فاعل لو قدّرت تلك المؤهّلات التقدير الصحيح ثمّ استثمرت الاستثمار الأمثل ضمن خطّة متكاملة واعية. وتبدو تلك المؤهّلات في مؤهّلات ذاتية تتعلّق بإمكانيات تلك العقول وقدراتها، وفي مؤهّلات موضوعية تتعلّق بالوضع الذي هي عليه، والمناخ الثقافي والاجتماعي العامّ الذي تعيش فيه.
أ- المؤهّلات الذاتية :
لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة هي من صفوة عقول الأمّة في قدراتها الذاتية: ذكاء وقدرة على التحصيل والاستيعاب والتحليل، فأغلب تلك العقول ذهبت إلى الغرب ضمن بعثات علمية يُتخيّر فيها الأفضل فالأفضل من الخرّيجين، وكثير منها هاجر به طموحه إلى الأعلى في سلّم العلم، وهو ما يكون ناشئاً في الغالب عن استشعار لقدرات التحصيل المعرفي، وقد يكون هو بدوره منمّياً لتلك القدرات إلى أعلى المستويات، وبذلك يتوفّر في تلك العقول شرط أساس هو الكفاءة العقلية للقيام بالأدوار المهمّة مثل هذا الدور الرسالي الذي نحن بصدد الحديث عنه.
وقد تعزّزت في العقول المهاجرة تلك القدرات الذاتية بالمحصول العلمي الذي تحقّقت به خلال ممارستها العلمية في بلاد الغرب، إذ هي عقول في أغلبها ممارسة للعلم النظري أو التطبيقي، بالغة فيه درجات عالية، كما يتبيّن من حصول بعضها على أعلى الجوائز العالمية، وذلك ما يعتبر رصيداً مهمّاً في مؤهّلاتها الذاتية، حيث تفتح الحصيلة العلمية للعقل آفاقاً بعيدة في النظر، وتنقله من ضيق الذاتية، شخصيّة وعرقية وإقليمية، إلى رحابة الإنسانية في أبعادها المختلفة، إذ العلم على اختلاف فروعه هو إنتاج متراكم للإنسانية، فالتحقّق به يفتح الأبواب على أفق الإنسانية، ويكون معواناً على السعي في الحوار والتفاعل الإيجابي، نفعاً وانتفاعاً، وهو ما يقتضيه الدور الرسالي، كما تقدّم بيانه.
ومن المؤهّلات الذاتية لهذه العقول الإسلامية المهاجرة أيضاً: ما توفّرت عليه من اطّلاع واسع على الأوضاع الواقعية للعالم الغربي، في أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهي بالإضافة إلى قدراتها العقلية ومحصولها العلمي الممكّنة من الاستنتاج النظري تمارس العيش في تلك الأوضاع، وتقف على مكوّناتها الظاهرة والخفيّة، وهو ما يمكّنها من فهم أعمق للواقع الغربي بفهم أسبابه وعوامله وخلفياته، إضافة إلى فهم ظواهره وأحداثه، وذلك أمر مهمّ في التعامل معه تعامل حوار فاعل مثمر.. ومن أهمّ المؤهّلات الرّسالية في أيّة علاقة دعوية فهم الواقع مناط الدعوة، الفهم الصحيح العميق.
ويضاف إلى تلك المؤهّلات الذاتية ما تتوفّر عليه العقول المهاجرة من تحقّق بالثقافة الإسلامية، إن لم يكن على مستوى الالتزام الفعلي فعلى مستوى الوجود بالقوّة، إذ هي عقول نشأت في أغلبها في بيئات إسلامية تشرّبت منها القيم العامّة التي تقوم عليها تلك الثقافة، فهي إن لم تكن ملتزمة بالفعل بثقافة أمّتها فإنّها تحمل استعداداً للالتزام بها. وإذا ما أُضيف ذلك التحقّق بالثقافة الإسلامية، فعلاً أو استعداداً، إلى الفهم العميق للواقع الثقافي الغربي حصل من هذا التحقّق المزدوج مؤهّل مهمّ للوساطة الحوارية بين الطرفين، ممّا يفضي إلى قدرة على القيام بالدور الرسالي الذي نحن بصدد بحثه.
بمجموع هذه المؤهّلات الذاتية للعقول المهاجرة، ما كان منها فطرياً وما كان مكتسباً بالسعي أو مكتسباً بالمناخ المعيش، يمكن أن تتمكّن هذه العقول من القيام بدور رسالي في هجرتها إلى البلاد الغربية، إذ هي بتلك المؤهّلات تكون منطوية على قابلية كبيرة للوعي بذلك الدور، وهو أولى المراحل اللازمة فيه، كما تكون بها قادرة على المضيّ في إنجازه حينما تستثار تلك المؤهّلات وتوظّف التوظيف الأمثل لأجل ذلك الإنجاز، خاصّة وأنّ تلك المؤهّلات الذاتية تجد لها تعزيزاً في مؤهّلات أخرى موضوعية من واقع المناخ الحضاري الذي تعيش فيه العقول المهاجرة.
ب- المؤهّلات الموضوعية:
بالإضافة إلى تلك المؤهّلات الذاتية المتحقّقة في العقول الإسلامية المهاجرة للقيام بدورها الرسالي، فإنّها تتوفّر أيضاً على مؤهّلات للقيام بهذا الدور من حيث البيئة الغربية التي هي مسرح وجودها ونشاطها.. فهذه البيئة بالرغم من كونها بيئة مغايرة في جذورها الفلسفية وفي تشكيلها الثقافي للرسالة الإسلامية إلى حدّ التعارض في كثير من العناصر، إلاّ أنّها تنطوي على جملة مهمّة من المعطيات المؤهّلة لدور رسالي تقوم به العقول الإسلامية المهاجرة، وذلك سواء بالنظر إلى المناخ الروحي النفسي الذي يسود تلك البيئة، أو بالنظر إلى الوسائل المتاحة للحوار والتبليغ.(/15)
فالمجتمع الغربي يعاني معاناة مضنية من الإرهاق المادّي جرّاء المذاهب الفلسفية المادّية التي صاغت حياته فأفضت به إلى فقر روحي مدقع، ظهر في مستوى المشاعر الفردية وفي مستوى العلاقات الأسرية والاجتماعية على حدّ سواء، وأفضى إلى جملة من المشاكل النفسية والاجتماعية من مثل الاكتئاب والإجرام والمخدّرات والاضطراب الأسري.
وبما أنّ هذا الوضع نشأ من خلل في الفلسفة التي بنيت عليها الحياة، إذ هي فلسفة تعتدي على الفطرة الإنسانية ذات البعدين المادّي والروحي، بإفراطها في الأوّل وإجحافها في حقّ الثاني، فقد ظهرت بوادر كثيرة فردية وجماعية تعبّر عن الرّفض لهذا الاعتداء على الفطرة الإنسانية المزدوجة، وباتت تطلب تعديل الميزان بالبحث عن مذاهب ذات بعد روحي تجد فيها النفوس تحقيق أشواقها الروحية، وهو ما بدا في انتماء الكثيرين من أهل الغرب إلى أديان ونحل شرقية روحانية، وسقوط أخرى في ضروب من التهويمات والأساطير ذات الطابع الروحي، فما ذلك إلاّ تعبير عن الحاجة إلى مذهب جديد يحقّق الفطرة التي تعرّضت إلى الإجحاف.
ولو عرض الإسلام في هذا المناخ المتعطّش للروحانية عرضاً رشيداً لكان رسالة تتلقّاها نفوس أهل الغرب المرهقة بالمادّة لما تجد فيه من توازن تشبع فيه أشواق الروح وتلبّى مطالب الجسم، إذ هي مؤهّلة بحكم الوضع الذي آلت إليه لتلقّي تلك الرسالة.
وبما أنّ أهل الغرب بصفة عامّة قد قامت حياتهم على احترام العلم والعلماء، واحتلّ التميّز والرّيادة والمتميّزون والروّاد في سلّم قيمهم درجات عالية، فإنّ ذلك سيحدّد موقفهم النفسي والفكري من العقول الإسلامية المهاجرة، وقد اتّصفت في أكثرها بالتميّز والجدّية والريادة، لتحتلّ هذه العقول في نفوسهم وعقولهم مكانة عالية من الاحترام والتقدير لتميّزها وريادتها.
وحينما يمارس أصحاب هذه العقول مهمّة رسالية بما يبلّغون من قيم حضارية، تبليغاً قولياً أو فعلياً، وبما يرغبون فيه من الفوائد العلمية لتمثّلها أو تبليغها لمن وراءهم من أهل أوطانهم الأصلية، فإنّ ذلك يقوم مقام الاقتران الشرطي مع ما وقر في النفوس من الاحترام والتقدير، فتنفتح تلك النفوس للتفاعل الإيجابي، وتستعدّ للاستجابة بتقبّل الرسالة في اتّجاهي العطاء والأخذ، وهو ما يعتبر مؤهّلاً موضوعياً من المؤهّلات الرسالية للعقول المهاجرة.
ويضاف إلى ذلك من المؤهّلات الموضوعية ما تتوفّر عليه الحياة في الغرب من المناخات الميسّرة للتواصل، ومن الوسائل المساعدة عليه. فالحرّية التي هي شرط أساس من شروط التبليغ قائمة السوق في تلك الديار بأقدار كبيرة، وهو ما يمكّن من استحداث مختلف القنوات التنظيمية والإجرائية للاتّصال بمختلف فصائل الناس، والتحاور معهم في مختلف الشؤون، وتبليغ الرسالة إليهم.. والوسائل التقنية الميسّرة للاتّصال، والمقرّبة للمسافات، والعابرة للحواجز، هي أيضاً سوقها قائمة، ممّا يمكّن من التعريف الواسع بما يراد التعريف به من القيم الثقافية والحضارية الإسلامية.. كما يمكّن أيضاً من يسر الحصول على المستجدّات من العلوم والمخترعات، وتبليغها في الإبّان، ليستفيد منها العالم الإسلامي الاستفادة المثلى.
وبإضافة هذه المؤهّلات إلى بعضها، الذاتية منها والموضوعية، يتبيّن أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتوفّر على قدر من المؤهّلات للتبليغ الرسالي لا تتوفّر على كثير من عناصره العقول الإسلامية التي تعيش داخل العالم الإسلامي، وهو ما يقوّي من واجب الالتفات إلى هذه العقول، وتوجيهها إلى أن تقوم بدورها الرسالي الذي هيّأها القدر لتقوم به، وهيّأ شروطه ومستلزماته، لتتحوّل تلك الصورة السلبية لهجرة هذه العقول، باعتبارها نزيفاً من رصيد الأمّة لصالح غيرها، فيُرى منها أيضاً وجه آخر إيجابي، بل هو على قدر كبير من الإيجابية، وليقع العمل على تشخيص ذلك الوجه وتوضيحه، ثمّ على تفعيله ليصير نفعه واقعاً ملموساً، وليأخذ طريقه في الإثمار.
5- تفعيل البعد الرسالي لهجرة العقول المسلمة:
إذا كان في هجرة العقول المسلمة إلى الغرب ذلك البعد الرسالي، وإذا كانت تلك العقول مؤهّلة على النحو الذي وصفنا للقيام بدور رسالي، فهل هي قائمة فعلاً بذلك الدور؟ وإذا لم تكن قائمة به فما السبيل إلى القيام به لتؤتي تلك الهجرة ثمرتها الإيجابية، وتعوّض ما خسرته الأمّة من تميّزها وريادتها بنزوحها عنها، وذلك بما تؤدّيه من عمل بعيد المدى في التفاعل الحضاري المنتج بين ديار الإسلام وديار الغرب؟(/16)
لا شكّ أنّ العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب قامت وتقوم ببعض الأعمال الرسالية منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن، وهو ما يتمثّل بالأخصّ في ذلك النشاط الدعوي الإسلامي الذي لا يخلو منه بلد من البلاد الغربية، مهما يكن قويّاً أو ضعيفاً، والذي تشارك فيه بعض العقول المهاجرة وإن لم تكن هي المحرّك الأساس فيه في بعض الأحوال.. كما يتمثّل في بعض ما يقام من الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وبين أهل الغرب، عبر بوادر فردية أو عن طريق مؤسّسات ثقافية فكرية.
ولكنّ ذلك كلّه لا يرقى إلى ما هو دور رسالي مأمول من هذه الهجرة للعقول الإسلامية، لا من حيث الحجم ولا من حيث الكيف، وهو ما يستلزم بذل جهود تفعيلية من أجل استنهاض تلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها العقول المهاجرة، وتوجيهها نحو القيام بالدور الرسالي على النحو الذي وصفنا آنفاً.
ولعلّ من أهمّ وسائل التفعيل الذي يمكن أن يثمر الثمرة المرجوّة ما يلي:
أ- استكشاف العقول المهاجرة وحصرها:
إذا كانت العقول الإسلامية المهاجرة إلى الغرب معلومة في جملتها، وتتردّد إحصائيّات تقريبية في شأنها بين الحين والحين، فإنّ حقيقتها الكاملة غير محدّدة ولا معلومة، وهو ما يستلزم في سبيل تفعيل دورها الرسالي أن تُعلم أوّلاً بأكثر ما يمكن من وجوه العلم، وأن تتّضح صورتها الجملية والتفصيلية؛ وذلك لينطلق العمل التفعيلي من منطلق معلوم، ويمارس نشاطه على أرض بيّنة المعالم، وهو ما يندرج ضمن القاعدة الأساسية التي تفرض في سبيل الجدوى أن يكون تفعيل أيّ مادّة مبنياً على العلم بطبيعتها.
ويمكن أن يقوم بهذا العمل الإحصائي الممهّد للتفعيل رابطةٌ عالمية تتأسّس لهذا الغرض، فتجمع العقول المهاجرة في العالم الغربي، وتقيم لها فروعاً في المراكز الكبرى من ذلك العالم، ثمّ تقوم بعمل إحصائي شامل لتلك العقول على وجوه عدّة.
ومن تلك الوجوه الإحصائيّة: حصر أعداد هذه العقول بأكبر قدر ممكن، وحصر تنوّعها في توزّعها الجغرافي، وفي اختصاصاتها العلمية، وفي توجّهاتها الثقافية، وفي مكانتها الريادية، وفي مقاماتها الوظيفية، وفي استعداداتها المختلفة للعطاء، ليقع الانتهاء من كلّ ذلك إلى صورة متكاملة عن العقول الإسلامية المهاجرة من حيث ذات الأفراد بأكبر قدر ممكن، ومن حيث الهيئة الجماعية التي تتكوّن من أولئك الأفراد، فإذا خارطة العقول المهاجرة التي ستكون مسرح الحركة التفعيلية لدورها الرسالي واضحة المسالك، بيّنة المواقع.
ب- التوعية بالهدف الرسالي:
مهما يكن من وجود أعداد من العقول المهاجرة تتمثّل دورها الرسالي من هجرتها بمفهوم مّا من المفاهيم، فإنّ الأكثر منها ليست على وعي كاف بهذا الدور، أو ليست على أيّ وعي به أصلاً؛ فالذين هاجروا إلى الغرب من أصحاب هذه العقول كانت هجرتهم لأسباب أخرى غير السبب الرسالي، وقد أخذت هذه الأسباب معظمهم لتزجّ بهم في زحام مشاهد أخرى من مشاهد الحياة انشغلوا به فغفلوا عن المشهد الرسالي، وذلك ما يستدعي أن تقوم في أوساط هذه العقول المهاجرة حركة توعية بالبعد الرسالي في هجرتها ليكون ذلك أساساً للانطلاق في إحياء ذلك البعد وتفعيله.
وقد يسهّل هذه التوعية الرسالية ما أشرنا إليه آنفاً من بعد دعوي مستكنّ في ضمائر المسلمين عموماً وفي ضمائر النخبة المثقّفة منهم خصوصاً؛ فالخلفية الثقافية للمسلم تحمل معاني التفاعل بين المسلمين وبين بني الإنسان عامّة، في طرفي العطاء والأخذ لما هو حقّ وخير، وهو ما ترسّب في المخزون المرجعي للمسلم جرّاء تعاليم الدين وجرّاء مسيرة التاريخ، وخاصّة فيما يتعلّق بهما من أمر الهجرة وآدابها.
فهذا الرصيد المخزون سواء كان مشعوراً به أو غير مشعور، يمكن استثماره في حركة التوعية بالمهمّة الرسالية للهجرة في أوساط العقول المهاجرة، إذ من الميسور أن يُستدعى ذلك المخزون الثقافي، ويُستنهض في سبيل إحداث وعي عامّ في تلك العقول بأنّ هجرتها ينبغي أن تكون هجرة هادفة على غرار هجرة الأنبياء والمصلحين التي كانت غايتها، التي لا تعلو عليها غاية، تبليغ الخير للناس مهما يكن في طريق تلك الغاية العليا من غايات مرحلية.
ولعلّ من أهمّ ما يُستنهض به هذا المخزون الثقافي تعهّد مفهوم الانتماء للأمّة الإسلامية والولاء لها لدى العقول المهاجرة بالتجلية والتصحيح والتقوية، وذلك ليأخذ وضعه الحقيقي في المنظومة العقدية، حيث يحتلّ هذا العنصر فيها موقعاً أساسياً؛ فهذا المفهوم ربّما اعترته بعض الغشاوات عند بعض تلك العقول، وذلك بسبب بعد الشقّة بينها وبين أمّتها، أو بسبب انخراط بعضها في الولاء الوطني للبلاد التي تقيم فيها.
فتجلية هذا المفهوم وتقويته، وإزالة ما يمكن أن يكون اعتراه من اضطراب جرّاء مزاحمة الولاء الوطني له، وتبيين الحدود بين الطرفين من شأنه كلّه أن يهيّئ العقول المهاجرة للوعي العميق بالدور الرسالي الذي تقتضيه هجرتها إلى بلاد الغرب كأساس من أسس التفعيل لذلك الدور.(/17)
ج- البناء المؤسّسي:
إنّ المهمّة الرسالية للعقول المهاجرة، كما شرحناها آنفاً، لا يمكن أن يقوم بها أفراد بصفاتهم الفردية؛ ذلك لأنّها مهمّة ذات طبيعة جماعية باعتبار أعبائها الثقيلة التي ينوء بها الأفراد، ولأنّها من جهة أخرى تمارس على مسرحٍ المنهجُ الغالب على الأعمال فيه هو المنهج الجماعي، والتفاعل بالاستجابة يتمّ فيه على مقتضى ذلك المنهج الغالب، وذلك كلّه يقتضي أن يكون تفعيل المهمّة الرسالية آخذاً بعين الاعتبار هذه الخاصّية الجماعية في طبيعة المهمّة وفي مسرح حركتها.
ومن أظهر المقتضيات في هذا الشأن العمل على بناء مؤسّسات متعدّدة المظاهر ومختلفة الأنواع تتحمّل القيام بهذه المهمّة الرسالية، وذلك من مثل المراكز البحثية، والمنظّمات العلمية، والجمعيات الدعوية، والمؤسّسات التعليمية، وما شابهها من التشكيلات الجماعية ذات الطبيعة المؤسّسية.
فهذه التشكيلات المؤسّسية ذات الطبيعة الجماعية تنخرط فيها العقول المهاجرة بحسب تخصّصاتها واهتماماتها لتكون محضناً للحوار في العمل الرسالي بوجوهه المتعدّدة، وفيها تضبط الخطط والمشاريع في هذا الشأن، ومنها ينطلق الأفراد في الممارسة العملية للمهمّة الرسالية.
إنّ هذه المحاضن المؤسّسية لمن شأنها أن تفعّل الدور الرسالي للعقول المهاجرة؛ إذ هي بالإضافة إلى كونها محضناً لتجميع الجهود وتوجيهها الوجهة الصحيحة، فهي تعتبر عاملاً من عوامل التحشيد النفسي والإرادي للعزم على تحمّل الرسالة الحضارية المنوطة بعهدة تلك العقول، كما تعتبر أيضاً عاملاً من عوامل الصيانة للولاء للأمّة والانتماء إليها، إذ هي صورة مصغّرة منها، والولاء للجزء مرحلة ممهّدة للولاء للكلّ.
كما تكتسب هذه المحاضن المؤسسية من المصداقية في عيون أهل الغرب وفي نفوسهم وعقولهم، وتكتسب من المكانة لديهم في مخاطبتهم والتعامل معهم ما لا تكتسبه العقول المهاجرة فرادى، وذلك من طبيعة ما بُني عليه المجتمع الغربي من القواعد في التعامل، فينبغي أخذه بعين الاعتبار في تفعيل الدور الرسالي لهجرة العقول.
د - التوجيه العملي:
إنّ ذلك المحتوى في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، كما بيّناه آنفاً، وتلك المؤهّلات التي تتوفّر عليها للقيام بذلك الدور ليس من شأنها جميعاً أن تثمر الثمرة المرجوّة منها إذا ما وقع تفعيلها إلاّ إذا واكبها تفعيل للأساليب التي يقع بها القيام بذلك الدور في كلّ من اتّجاهي الأخذ والعطاء؛ ذلك لأنّ أساليب التبليغ هي من أكثر ما يجب فيها التفعيل لتطلّبها التعهّد بالتعديل والتغيير المستمرّين تناسباً مع تغيّر أحوال المتلقّين في طرائق تقبّلهم للخطاب واقتناعهم به واستفادتهم منه.
وقد كانت العقول المهاجرة، التي قامت ببعض من المهامّ الرسالية في مراحل سابقة، تعتمد في خطابها التبليغي لأهل الغرب على الأساليب ذاتها التي يمارس بها التبليغ في العالم الإسلامي، أو على ما هو شبيه بها، وكانت أيضاً تعتمد في خطابها للعالم الإسلامي بتجربتها في الهجرة على الخطاب الصوري الذي يكتفي بنقل مشاهد التجربة دون جهود توظيفيّة لها بما يناسب المخاطبين من المسلمين، وكلّ من هذا وذاك قد لا يكون ملائماً للدّور الرسالي المطلوب من هذه العقول في المرحلة المقبلة، وهو ما يستدعي تفعيلاً جديداً يتمثّل في توجيه المناشط الرسالية التي تقوم بها العقول المهاجرة توجيهاً عملياً.
والمقصود بالتوجيه العملي لتلك المناشط أن يتحرّى تبليغ المضمون الحضاري الإسلامي إلى الغرب، وكذلك المضمون الحضاري الغربي إلى المسلمين، منحى البيان العملي الذي يقدّم ذلك المضمون في الاتّجاهين بمواصفات واقعية مهيّأة للقبول بحسب ما تقتضيه الحاجة الواقعية في كلا الطرفين، وبحسب ما تستجيب له البنية الثقافية العامّة في مكوّناتها الفعلية في كلّ منهما.
إنّ أهل الغرب على وجه العموم بُنيت ثقافتهم بناءً عملياً واقعياً، وذلك جرّاء ما ترسّخ فيهم من نزعة ذرائعيّة زرعتها فيهم الفلسفة النفعية، ورعاها ونمّاها حبّ المتعة المادّية الذي طبع الحياة الغربية بصفة عامّة.. فبتلك النزعة أصبح أهل الغرب لا يتفاعلون على وجه العموم إلاّ مع الخطاب الذي يمسّ بصفة مباشرة حياتهم العملية، ويجعلهم ينتظرون من ورائه نفعاً ناجزاً يتمثّل في حلّ لمشكلة من مشاكل حياتهم الفردية أو الاجتماعية، أو في سبب من أسباب الرّفاه المادّي، أو في مسلك من مسالك الأمن النفسي أو الجماعي، وأمّا ما عدا ذلك ممّا طابعه نظري صوري بحت فإنّ التفاعل معه يكون محدوداً في كمّه من حيث عدد المتفاعلين، وفي كيفه من حيث درجة قبوله والاقتناع به.
واعتباراً لهذه النزعة العملية لدى أهل الغرب، فإنّ تفعيل الدور الرسالي للعقول المهاجرة إلى الغرب لا بدّ ليكون ناجعاً أن يوجّه الخطاب فيه هذه الوجهة العملية ليواطئ عقولاً تتقبّله وتقتنع به، إذ يلبّي مطلبها في تحقيق النفع العملي.
ويمكن أن يكون ذلك التفعيل العملي سالكاً أحد مسلكين:(/18)
المسلك الأوّل: أن يكون الخطاب الإسلامي سالكاً مسلك الأنموذج العملي، بحيث تظهر القيم الإسلامية، فردية وأسرية واجتماعية، في الممارسة العملية للحياة على اختلاف وجوهها، وخاصّة ما يتعلّق منها بما فيه علاقة مباشرة بالمجتمع، إذ ذلك هو الأظهر للعيان، والأقرب للملاحظة، وإن كان الشأن الشخصي أو الأسري ملحوظاً هو أيضاً للناس، قائماً لديهم مقام الشهادة المؤثّرة في النفوس، فهذا الضّرب من الخطاب العملي المجسّم للقيم الإسلامية الجماعية والفردية يعتبر حجّة بالغة التأثير في نفوس أهل الغرب وعقولهم، لما يرون فيها من حلول واقعية لبعض ما يعانون من المشاكل النفسية والأسرية الاجتماعية، فتسري إليهم القيم الدينية من خلالها، ويكون ذلك تهيئة لقبول ما بعدها من الحقائق الإيمانية العليا.
المسلك الثاني: أن يكون ذلك الخطاب سالكاً مسلك التهيئة العملية في بيانه للناس وشرحه لهم وتبليغه إليهم، على معنى أن ترتبط في ذلك الخطاب كلّ قيمة نظرية ببيان مغازيها العملية، وآثارها النفعية في الحياة مهما كانت درجتها من التجريد النظري، وأن تُبيّن الطرق والأساليب العملية التي يمكن بها أن تأخذ تلك القيم طريقها للتطبيق الواقعي المنتج لتلك المنفعة العملية، دون أن يُكتفى في التبليغ بالبيان النظري، المجرّد الذي قد يبقى في الأذهان ذات الثقافة العملية عصيّاً عن الفهم، أو غير مثير للاهتمام، فلا تتحرّك العقول لتقبّله واستيعابه والتكيّف به جرّاء تلك الثقافة العملية.
وكما يكون هذا التفعيل في الدور الرسالي للعقول المهاجرة، بأسلوبيه، صالحاً في طرف العطاء من طرفي ذلك الدور، كما بيّنّا، فإنّه يكون صالحاً في طرف الانتفاع منه أيضاً.
فحينما تعمد تلك العقول إلى نقل بعض القيم الحضارية والحقائق العلمية والتكنولوجية من البلاد الغربية إلى البلاد الإسلامية، فإنّ ذلك قد لا يكون فاعلاً إلاّ إذا وقعت صياغته صياغة عملية متمثّلة في إقامة نماذج عملية تجسّم تلك القيم كالمؤسّسات البحثية، والمنشآت الإدارية، والمشاريع الصناعية، التي تقوم جميعاً على قيم الدقّة والنظام والكفاءة الإدارية والمداولة الشورية وما إليها من القيم، ومتمثّلة أيضاً في تقديم بيانات وشروح لمكتسبات أهل الغرب من التحضّر موجّهة توجيهاً عملياً نفعياً بما يتلاءم مع الواقع الإسلامي ثقافياً واجتماعياً لتثمر فيه المنفعة العملية، إذ نقل تلك المكتسبات على الوجه الذي هي عليه في الغرب قد لا تحصل به منفعة في العالم الإسلامي، لاختلاف في المناخ بين الطرفين يفضي إلى اختلاف في أسلوب الانتفاع بينهما، فإذا لم يؤخذ ذلك بعين الاعتبار كان سبباً في تعطيل قسم مهمّ من الدور الرسالي للعقول المهاجرة.
-----------------
([1]) أخرجه الترمذي.
الكفاءات المهاجرة طلائع لحضارة الإسلام
د. محمد الغمقي
إنّ هجرة العقول المسلمة ليست بمعزل عن واقع أوطان الهجرة. وإذا كان «البعض» قد اختار الهجرة للتحصيل العلمي، فإنّ هجرته في حقيقة الأمر اضطرارية، لأنها تعبّر عن عدم ارتقاء هذه الأوطان إلى اكتفاء ذاتي على مستوى البحث العلمي، والحال أنها تنتمي إلى أمة نزلت فيها كلمة ((اقْرَأْ)) ([1])، كما تعبّر عن ضعف حركة التعاون العلمي وتبادل الكفاءات العلمية بين هذه الأوطان المنتمية للمنظومة الحضارية نفسها رغم ما لهذا التبادل من أهمية، والحاجة إليه في ظل وجود نسبة من خريجي الجامعات في البطالة، فتضطر هذه العقول إلى الهجرة إلى بلاد تنتمي إلى منظومة حضارية أخرى.
وكثيراً ما تُواجَه الكفاءات التي \"اختارت\" الهجرة بانتقادات مثل أنّها ضعيفة أمام الإغراءات المادية في بلاد الغرب..لكن المسألة أكثر تعقيداً من مجرّد الحصول على امتيازات مادية في مستوى الجهود العلمية المبذولة. فهناك عوامل نفسية عميقة لدى الباحث منها الرغبة في التجديد والاكتشاف، خاصة ونحن في عصر العولمة وفي زمن العالم-القرية وتقارب الشعوب والثقافات. فلا يمكن حصر الكفاءات في رقعة صغيرة ومنعها من السير في الأرض لتوسيع آفاقها، وهذه سنّة التدافع الحضاري.
إذ «يعد حراك الطلبة وتنقلهم فيما بين البلدان عنصراً من عناصر التدويل المتزايد لكافة أنواع العلاقات بين الشعوب. وحركة الطلبة عبر المناطق والبلدان هي في جانب منها استجابة النشء لوعيهم المتنامي بما يجري من تطورات عبر العالم ولمصلحتهم في تهيئة أنفسهم للحياة في عالم متكافل. وفي الوقت نفسه، تدرك الحكومات وأرباب العمل أنه إذا أريد ضمان الرخاء الإقليمي والفردي، فسيجب أن تتألف القوى العاملة في المستقبل من أناس أجيد تدريبهم ونما وعيهم بما يدور في العالم من حولهم»([2]).(/19)
والأهمّ من ذلك- وهنا جوهر المشكل-أنّ هذه الكفاءات تبحث عن الفضاء الذي تجد فيه أقداراً من الاحترام لعلمها وضمان كرامتها والاعتراف بجميلها. وهو ما يصعب توفّره في أوطان المهجر، حيث يشعر أصحاب هذه الكفاءات في كثير من الحالات بالغربة داخل الوطن، وهو شعور أشدّ على النفس من وقع الحسام، ولسان حالهم يقول:
«هل سيتمّ الاكتفاء بالشعارات البرّاقة حول الدولة الحديثة مع تشغيل فئات دون المستوى اللائق أو الممكن؟ أم ستشرّع الأبواب على مصراعيها لاستضافة \"الخبراء الأجانب\" بكلفتهم الباهظة وافتقارهم إلى قيم الولاء للأمة أو روح التضحية والمثابرة من أجلها..زيادة على احتمالية عدم تمتّعهم بالفهم المتكامل لاحتياجات الأمة وظروفها؟..وهل التخلّص من نير التخلف الحضاري الذي يلفّ أمتنا سيكون ممكناً مع الرضى بحالات العزلة القسرية التي يجد المبدعون المسلمون فيها ذواتهم؟»([3]).
وتتطوّر هذه الغربة من أزمة شعورية إلى قطيعة في حال تأزّم العلاقة بين السلطة والمثقفين الرافضين، في حال وجود استبداد سياسي.
لكن هناك إشكال يتمثّل في التركيز على الجوانب السلبية والخسارة التي تلحق العالم العربي والإسلامي جرّاء هجرة هذه الكفاءات واستقرار نسبة منها في بلاد المهجر. ولا شك أنَّ كل نزيف في العقول له وجه سلبي، بالنظر إلى نوعية هذه الهجرة التي تأخذ معها طاقات إبداعية يستفيد منها المجتمع الأم.
ولكن إذا أمعنّا النظر، فإنّ هذه الهجرة لها أوجه إيجابية إذا نظرنا إليها من جانب الدور الحضاري الذي تقوم به هذه الكفاءات، والذي ترجع فوائده على الأقليات المسلمة، بل على كل من العالم الغربي والعالم الإسلامي.
أولاً: إيجابيات الهجرة في الفضاء الغربي
فلقد صاحبت هجرة اليد العاملة من البلاد المسلمة إلى البلاد الغربية هجرة من صنف آخر، تتمثل في هجرة العقول أو ما يسمّى بالكفاءات العلمية والفكرية. وفيهم نسبة من المهاجرين لأسباب سياسية. ويُلاحظ أن الهجرة إلى العالم اللاتيني الجرماني (فرنسا وألمانيا خصوصاً) يغلب عليها الطابع الاقتصادي، وأنّ الهجرة إلى العالم الأنجلوساكسوني (بريطانيا والولايات المتحدة وكندا) يغلب عليها الطابع العلمي. أما الهجرة السياسية فهي منشرة في كل البلاد الغربية، بقدر تأزّم وضع حقوق الإنسان في البلاد العربية-الإسلامية.
والمتأمل في الهجرة السياسية من بلاد المشرق والمغرب يجد أنّها وفّرت كفاءات متمرسة في العمل النضالي الاجتماعي والنقابي والسياسي في البلاد المضيفة، مع الإشارة إلى التحوّل الأيديولوجي الذي شهدته هذه العقول من التيار العلماني اليساري والقومي إلى التيار الإسلامي، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، بعد الحملة على الإسلاميين في بلاد مغاربية ومشرقية.
ومن فوائد الهجرة السياسية أيضاً نموّ فكرة العمل \"الجبهوي\"، أي في إطار جبهة واحدة، بين التيارات العلمانية والإسلامية، التي كانت تعيش في أجواء الصراع بل الصدام أحياناً في البلاد العربية والإسلامية. وبوجودها وتلاقيها في أجواء جديدة من الحريات، اضطرت إلى إيجاد أقدار من العمل السياسي والحقوقي المشترك بينها حول معارضة كل أشكال الاستبداد في بلادها، والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
ومن الانعكاسات الإيجابية على التيارات الإسلامية المهاجرة، قيامها بعملية نقد ذاتي ومراجعة مسارها الفكري والسياسي، بما يؤهلها لدور حضاري لا تستفيد منه الجاليات المسلمة فحسب، بل تتعداه إلى المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية والبشرية جمعاء.
فكما هو معلوم، فإنّ هذه التيارات صحبت معها تجاربها في العمل والنضال من زوايا فكرية وعملية مختلفة، رغم الاتفاق العام حول المرجعية الدينية الإسلامية. وسُجلت خلافات بين العاملين في الحقل الإسلامي بقيت آثارها إلى اليوم، والتي تُلمس في الحساسيات القائمة بين المؤسسات الإسلامية التي يشرف عليها قدماء النشطين الإسلاميين.
ولكن بعد تلاقح التجربتين المغاربية والمشرقية في بلاد الغرب، وتحت ضغط التحوّلات في تركيبة الجاليات المسلمة وتطور اهتماماتها من الحفاظ على الهوية إلى المواطنة، حصلت الكثير من المراجعات وعمليات التقييم أو التقويم الداخلي على المستوى الفكري والسياسي نحو مزيد من الواقعية في التعامل مع الواقع المحلّي والعالمي.
ومن أهمّ القضايا التي حصل حولها حوار ونقاش مسألة التغيير وأساليبه ومقتضياته. وبناء عليه، تمّ السعي إلى التقريب بين مختلف الحساسيات، ومحاولة تجاوز العقلية الحزبية التي كانت مسيطرة لسنوات عدّة. وانطلقت الجهود نحو تجميع الكفاءات السياسية والعلمية المهاجرة من أجل البناء المستقبلي والنهوض الحضاري، وترسّخت القناعة أنّ مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب مرتبط بدور الكفاءات الإسلامية المهاجرة، تضاف إليها طاقات جديدة.
البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة:(/20)
يتجلى البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة في ثلاث توجّهات: توجّه تصحيحي لمفاهيم وتصوّرات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، ودفاعي عن قضاياهم وحقوقهم؛ وتوجّه ثان ترشيدي تأطيري لأبناء الجاليات المسلمة؛ وتوجّه ثالث دعوي رسالي ينفتح على بقية المجتمع.
التوجه الأول: التوجّه التصحيحي والدفاعي:
إنّ الحديث عن عملية تصحيح مفاهيم وتصوّرات ينطلق من اعتبار الإشكال في جوهره ثقافياً، ويتعلق بالعقليات وبالتحديد بالتصورات وبالنظرة للإسلام والمسلمين. ولا شك أنّ هذه النظرة محمّلة بمخلفات تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم النصراني التي تأرجحت بين التفاهم والصراع. ولكن العقل الغربي يختزل هذه العلاقة في الصراع والصدام، أيام الحروب الصليبية والاستعمار، ويغفل عن الصفحات المشرقة في هذه العلاقة أو ما يمكن التعبير عنه بالعلاقات العادية التي لا ترقى بالضرورة لتكون ودّية. وتوارثت مختلف الأجيال، أباً عن جَدّ، هذه الصورة السلبية التي تم تلقينها منذ الصغر وكرّستها مناهج التعليم، التي امتدّت إلى أيامنا بسبب عوامل جديدة.
فمع وجود المسلمين واستقرارهم في أوروبا والبلاد الغربية عموماً، بدأت تطفو على السطح مظاهر العنصرية والخوف من الإسلام وكراهية المسلمين، أو ما يطلق عليه مصطلح «إسلاموفوبيا»، التي يمكن تفسيرها بمحاولة تحميل المسلمين مسؤولية أزمات الحاضر من البطالة وانتشار العنف والجريمة.. من ناحية، والتخوّف من ناحية ثانية من تحوّل جذري في هوية المجتمعات الغربية في اتجاه الأسلمة المتدرّجة بالكلمة والسلوك، بالنظر إلى ما تمتلك الفكرة الإسلامية من جاذبية، وما يمتلك المسلمون من مقومات حضارية وقوة كامنة للفعل والتأثير، إضافة إلى العامل الديمغرافي الذي يسير في صالحهم، بحكم اتجاه المجتمعات الغربية نحو الشيخوخة، والمسلمون بصدد المساهمة في تجدّد هذه المجتمعات.
ويرى د. زكي بدوي رئيس منتدى ضد «الإسلاموفوبيا» والعنصرية «FAIR» في بريطانيا، أنّ من أسباب كراهية الإسلام في الغرب وجود «عدد من المهاجرين ينتمون إلى ثقافة ودين مختلفين عما هو سائد في البلاد الغربية، بل إلى دين يُنظر له بشيء من العداوة.. واعتبر أن هناك خوفاً حقيقياً من الطرفين (خوف المسلمين من الغرب، وخوف الغربيين من الإسلام، خاصة عندما كان في أوج قوّته)، وهناك خوف مَرَضي، وهو ما يعبّر عنه بالإسلاموفوبيا، ويظهر من خلال بعض المواقف والتصريحات لجهات إعلامية أو شخصيات سياسية معروفة، والتي تتمحور حول اعتبار الإسلام دخيلاً على المجتمعات الغربية، والمسلمين ليست لهم قابلية الاندماج في هذه المجتمعات»([4]).
من هنا تأتي الحاجة إلى الكفاءات لتغيير الصورة السلبية عن الإسلام، والتذكير بالعطاء الحضاري للإسلام تاريخياً، وإقامة حوار حضاري مع النخبة المثقفة، والطبقة السياسية، والجهات الإعلامية، والجهات الدينية. ويمكن التوقف عند كل فئة لمعرفة خطورة دور العقول والكفاءات المهاجرة في الحوار الحضاري المنشود.
1- محاورة المثقفين.. صانعي الأفكار:
النخبة المثقفة يقصد بها هنا المفكرون والجامعيون والباحثون المستقلون أو العاملون في مراكز الدراسات والبحوث. ومعلوم أن العديد من هذه المراكز هي عبارة عن مخابر لصنع الأفكار وإعداد التقارير التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اتخاذ قرارهم. وينظم القائمون على هذه المراكز ندوات ومحاضرات ويدعون إليها مختصين في هذا المجال أو ذاك. ويلاحظ تزايد الندوات التي تتناول القضايا المتعلقة بالإسلام والمسلمين وبالجاليات المسلمة.
وهي إحدى المداخل المهمة لربط العلاقة مع الباحثين الغربيين ومحاولة إقناعهم بوجهة نظر الإسلام في العديد من المسائل. كما يمكن أن تساهم الكفاءات المهاجرة في إصدارات هذه المراكز. وتزداد أهمية هذا البعد خاصة في ظل المتغيرات والأحداث الطارئة، التي وضعت جهود سنوات طويلة من الحوار ومحاولة تصحيح الرؤى والتصورات في الميزان.
ويتصل بالنخبة المثقفة عموم المثقفين الذين يقدّمون للآخرين علماً وفكراً وتصورات، مثل الأساتذة والمعلّمين الذين هم باتصال دائم بالتلامذة والطلبة وأجيال الغد الذين سيقودون سفينة مجتمعاتهم إما إلى النجاة أو إلى الغرق. وصناعة الفكر والتصورات تبدأ من الصغر في البيت وفي المدرسة.(/21)
وهناك ظاهرة جديدة جديرة بالاهتمام تتمثل في وجود عدد من المعلّمين والأساتذة من أصول إسلامية في المدارس والمعاهد الغربية، بالنظر إلى النقص في الكوادر التعليمية من أصول غربية، بسبب تراجع نسبة الولادات في هذه المجتمعات. ومثل هذا الوجود ضمن الطاقم التعليمي الغربي مدخل مهمّ لتصحيح عدّة تصوّرات ومفاهيم بشرط أن تكون هذه الكفاءات مستوعبة للتصوّر الإسلامي. فكما هو معلوم، فإنّ العلوم، سواء ما يتعلّق منها بالإنسان أو بالطبيعة، بقيت حبيسة التصوّرات الوضعية المهيمنة التي تبعدها عن هذه الروح التكاملية بين السّماء والأرض، والتي تشربّتها أجيال وأجيال، وظهرت نتائجها السلبية، بل أخطارها، في الواقع اليومي المعيش.
وهنا يأتي دور المثقفين المسلمين في السعي إلى وضع قطار الأفكار والرؤى والتصورات على سكته الصحيحة. ويتمثّل دورهم أيضاً في الدفع نحو إعادة النظر أو على الأقل مراجعة البرامج التعليمية التي تقدمّ الإسلام والمسلمين بنظرة احتقارية وسلبية، أو التي تتضمّن تحريفاً وتشويهاً للحقائق، خاصة في مادة التاريخ.
2- محاورة الإعلاميين.. مصادر التأثير:
إنّ الإعلام سلاح ذو حدين، وأداة مهمّة للتأثير في الرأي العام. ولأهميته، فإنّ التوجّه إلى الجهات الإعلامية لتصحيح نظرتها عن الإسلام والمسلمين يتطلّب معرفة بخصوصيات السّاحة الإعلامية الغربية. فلو أخذنا على سبيل المثال الساحة الإعلامية الأوروبية، فإنها تقوم من حيث الهيكلية على عمل مؤسسي متطور، وعلى تكتلات لمواجهة المنافسة الأمريكية والآسيوية.
وتستمدّ مصادرها من وكالات أنباء قوية مثل الوكالة الفرنسية للأنباء، ورويتر...؛ ومن صانعي القرار في العالم، باعتبار أوروبا الغربية مركزاً مهماً للحركة الدبلوماسية، حيث إنّ أغلب هؤلاء، أو من يمثّلهم، يمرّون عبر باريس ولندن وبرلين في طريقهم إلى الولايات المتحدة؛ وكذلك من عشرات الندوات والملتقيات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية المنعقدة في أوروبا؛ ومن عشرات المنظمات الإقليمية والدولية في أوروبا (الحلف الأطلسي، اليونسكو..)؛ ومن مئات المنظمات والجمعيات الأهلية في أوروبا الممثلة لمكوّنات الطيف الاجتماعي والعرقي والديني في شكل نموذج مصغّر لما يوجد في العالم.
ويتضح من خلال هذا الزخم الإعلامي مدى اتساع وتنوّع اهتمامات الساحة الإعلامية الأوروبية. ويفترض أنّ كل ما يطرح في وسائل الإعلام الأوروبية يهمّ المسلمين، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين. ويمكن التركيز على بعض القضايا الحساسة لتكون المدخل للحوار مع الإعلاميين، مثل قضية الشرق الأوسط، بأبعادها الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، والموقف من السياسة الأمريكية بخلفياتها وتعقيداتها، والجدل بشأن العولمة والخصوصية الأوروبية، والصحوة الإسلامية في البلاد الإسلامية التي تعالج عادة من منظور سلبي (\"الإرهاب\"، \"الأصولية\"..)، ويتم ربطها بما يجري في المناطق الأوروبية ذات الأغلبية المسلمة (البلقان مثلاً) أو الانحرافات السّلوكية لدى شباب ينتمي إلى مسلمي أوروبا.
والمتحاور مع الإعلاميين حول هذه القضايا يجب أن يكون مستوعباً للعوامل الفكرية التي أثّرت وتؤثّر في الإعلامي الغربي وهو يصنع الخبر أو التحليل المتعلّق بالإسلام، مثل الثقافة التي تلقاها في حياته الدراسية، والعقلية الغربية المتأثرة بالتصورات الفكرية والأيديولوجية المسيحية أساساً، والعلمانية، والرصيد التاريخي، ومخلفات ثقافة الاستشراق، والصّورة السلبية الناتجة عن الانحرافات السلوكية والفكرية لبعض المسلمين.
3- الدفاع عن حقوق المسلمين لدى السياسيين:
إذا كان الاتصال بالإعلام، الذي يوصف بالسلطة الرابعة، يكتسي أهمية كبرى، فإنه من المهمّ أيضاً التدخل لدى أصحاب القرار للدفاع عن حقوق المسلمين الذين يتحوّلون تدريجياً إلى جزء من كيان المجتمعات الغربية، ومحاولة إقناع السياسيين بضرورة ضمان تساوي الفرص كشرط لتحقيق المواطنة، وذلك على المستوى الاجتماعي بإيجاد الظروف الضامنة للكرامة الإنسانية، خاصة في مجالات العمل والسكن والتعليم، وتجنّب كلّ أشكال الإقصاء في العمل بسبب الانتماء إلى أصل أجنبي، ومظاهر حشر المسلمين في أحياء سكنية غير لائقة، كما حصل للمسلمين في فرنسا خلال الستينيات، مما فاقم ظاهرة العنف في ضواحي المدن الكبرى.
وعلى المستوى الثقافي، يتطلب تساوي الفرص احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، والتصدي للعقليات المثيرة للنعرات العرقية والعنصرية، وظاهرة «الإسلاموفوبيا» في وسائل الإعلام ودوائر صناعة الفكر والقرار، وإعطاء حق الرد على تشويه صورة الإسلام والمسلمين.(/22)
وعلى المستوى السياسي، تطرح مسألة المساعدة على المواطنة الإيجابية، عن طريق المشاركة السياسية، وفتح باب الترشح في وجه المواطنين من أصل أجنبي، وباب الانتخاب للجميع، على الأقل في الانتخابات البلدية، باعتبار أن تحقيق المساواة في الفرص والحصول على حقوق المواطنة كاملة من شأنه أن يجعل من مسلمي أوروبا والغرب عموماً جسراً حضارياً بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.
4- مجادلة أهل الكتاب:
منذ أن بدأت مؤشرات تحوّل الأقليات المسلمة من الهجرة إلى الاستقرار في المجتمعات الغربية، ارتفعت بعض الأصوات التي تؤكد أنّ هذه المجتمعات ذات انتماء مسيحي- يهودي، بقصد إقصاء الوجود الإسلامي في هذه الديار، أو على الأقل تهميشه حتى لا يكون فاعلاً. ولم يمنع ذلك من عقد ندوات واجتماعات بين المسلمين واتباع الديانة المسيحية فيما يسمّى بالحوار الإسلامي المسيحي الذي بقي يراوح مكانه. لكنّ أحداث سبتمبر وتداعياتها دفعت مسؤولي المؤسسات الدينية إلى إعادة التفكير في ضرورة التقارب والحوار من جديد، من أجل رفع الكثير من سوء التفاهم، ومنع الفكر المتشدد لدى الجانبين من هدم جسور التواصل. فقد تبيّن من خلال تجارب حوارية سابقة أنّ هناك فضاءً كبيراً للالتقاء حول اهتمامات ومشاغل مشتركة، مثل التصدّي للتسيّب الخلقي، ولفرض النمط العلماني الإلحادي، وللأفكار الداعية إلى صدام الحضارات...
وهنا أيضاً ينتظر الكفاءات الإسلامية دور هامّ في مجادلة أهل الكتاب بالتي أحسن، وبالخطاب الذي يفهمونه. ولا يخفى ما للتبشير المسيحي من دور في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في مختلف أنحاء العالم، حيث تنطلق معظم البعثات التبشيرية من أوروبا والغرب عموماً. وهذا الأمر يذكّرنا بالحملات التبشيرية التي مهّدت للاستعمار في البلاد الإسلامية.
وبدون شك، فإنّ كلّ نجاح يسجّل في التقارب بين الأديان ونزع فتيلة الكراهية والعداء ستكون له انعكاساته الإيجابية المباشرة وغير المباشرة على العلاقات بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. بل إنّ فوائده تتعداه إلى الأقليات الإسلامية في الغرب، وذلك بالحدّ من ظاهرة تصيّد نقاط الضعف لدى المسلمين وتوظيفها بطرق ملتوية لأغراض خاصة، حيث تستغلّ مؤسسات تبشيرية - تعمل تحت غطاء اجتماعي إنساني - ثغرات في سلوكيات بعض أبناء وبنات الجاليات المسلمة وفي ثقافتهم الاجتماعية والدينية لاحتضانهم ومحاولة تنصيرهم.
فقد يلجأ بعض الأولياء إلى طرد أبنائهم المتمرّدين عليهم نتيجة الإدمان على المخدرات والخمر أو الجنس، أو بسبب إصرار البنت المسلمة على الزواج من شاب غير مسلم، فتكون القطيعة مع الوالدين والأسرة والسقوط في أيدي المتربّصين.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ مثل هذه المسائل يتحمّل المسلمون مسؤوليتها بالدرجة الأولى. وبناء عليه، فإنّ الكفاءات الإسلامية في خط المواجهة لرفع هذه التحديات، وهذا يقودنا إلى أهمية العمل التأطيري والترشيدي في صفوف الأقليات المسلمة.
التوجه الثاني: العمل الترشيدي التأطيري:
يُقصد به تأطير الأجيال المسلمة الصاعدة عن طريق بث روح الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي لدى الجاليات العربية المسلمة المقيمة في الغرب، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للمجتمعات الغربية.
وبالنّظر إلى التراكمات الثقافية التي صحبها المهاجرون معهم من بلادهم الأصلية، فإنّه من الواضح أن عملية التأهيل هذه معقّدة وتحتاج إلى طول نفس. وهي أكثر تعقيداً في الفضاء الغربي خارج الدائرة الأنجلوساكسونية، حيث الهجرة الاقتصادية هي السائدة في صفوف الأقليات المسلمة التي تغلب عليها محدودية الثقافة الاجتماعية والدينية.
ويتطلّب هذا المعطى من أصحاب الكفاءات وضع استراتيجية تتضمّن أولويات تأخذ بالاعتبار التحوّلات الداخلية في تركيبة أبناء الجاليات وفي تصوّراتهم وعقلياتهم، وتراعي حاجيات مختلف الأجيال من الأجداد إلى الأحفاد. فهناك العديد من القضايا الملحّة المطروحة على الأقليات المسلمة، التي لا يمكن أن يتصدّى لها إلا الفاهمون والمستوعبون للواقع الذي يتحرّكون فيه، الذين يحملون ثقافة تؤهلهم لرفع التحديات الكثيرة. والخطورة أن يتصدّى لهذه المهام من يتبنّون فكراً على طرفي نقيض من طبيعة الفكر الإسلامي الوسطي والواقعي والمعتدل.
فهناك من يتبنى خطاباً وتصورات علمانية تعامل الدين الإسلامي بالنظرة نفسها للدين السائدة في الغرب، وهناك أصحاب الفكر المتشدد أو القراءات السطحية للواقع الغربي. والإشكال ليس في التعدد ولكن في إحداث اضطراب في الرؤية لدى الطرف الغربي المقابل إزاء خطاب مزدوج لدى فئة العقول المهاجرة المنتمية للمنظومة الدينية نفسها.(/23)