وقد عادت مانجى لترديد ذات الكلام فى ردها على فتاة تقول إنها كانت مسلمة ثم لم تجد سكينة روحها فى الإسلام، فتركته إلى اليهودية حيث تعيش الآن فى سعادة وسلام، لكنها تخشى أهلها الذين يهدِّدونها بأن دمها الآن أصبح مهدَرًا بسبب ارتدادها (ياى! ياى!)، فردّت مانجى قائلة لها: إنك تستطيعين أن تجيبى أهلك بأنك، وإن ارتددت عن الإسلام، فإنك الآن واحدة من أهل الكتاب، الذين يكنّ لهم الإسلام كل احترام ويبشرهم بالنجاة فى العالم الآخر، أى بالجنة! وأرجح الظن، بل لا أظننى أجازف ولا ذرةً من مجازفة إذا قلت إننى متيقن بنسبة 99,9% على طريقة نتائج الانتخابات العربية، أن السؤال والجواب مصنوعان صناعةً من أجل تجرىء المسلمين على الردة عن طريق طمأنتهم على مصيرهم فى العالم الآخر، ولكن بعد خراب بصرة إن شاء الله. وليقابلونى إن راحوا رائحتها ولو على بُعْد سبعين خريفا! وهو نفسه ما ضحك به مستشرق فرنسى على السيدة زبيدة المصرية زوجة مينو القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر، الذى أعلن إسلامه كذبا ونفاقا واتخذها زوجة حتى ينسبك الدور على المصريين ويطمئنوا إلى الاحتلال الفرنسى، إذ بعد أن فشل الاحتلال ورجع هذا القائد إلى بلاده ارتد عن الإسلام بعد أن لم تعد به حاجة إلى تمثيل الدور الخسيس، وأراد تعميد ابنه منها وتحويله إلى النصرانية، فجاء المستشرق المذكور وزعم لأم الطفل المسكين أن القرآن يسوى بين المسلمين وأهل الكتاب فى أنهم جميعا لهم الجنة كما تقول سحاقيتنا البائسة، أو بالأحرى: كما يقول من كتبوا لها الكتاب. وعلى كل حال هذا هو السؤال والجواب فى لغتهما الأصلية كما وجدتُهما فى موقع المفعوصة:
"About a year ago, I chose to leave Islam and convert to Judaism. I went through the one-year Judaism course and was more and more convinced that I had done the right thing. For the first time, I was able to really feel God’s presence and worship him. The struggle against my family and society was very difficult. I was told by the local Imam and by my family that I am Kafir [unbeliever facing eternal damnation] and that it is allowed by Islam to kill me because changing one’s faith is even worse than murder. If I could only explain to them that this is EXACTLY why I left why I left Islam – because it has become so violent and primitive. When I read your book, I was filled with hope. Maybe one day, people who choose to leave Islam will not be legitimate targets and will be able to express themselves freely.” - RJ
Irshad replies: You might wish to remind your family that, as Jew, you’re still part of “Ahl al-Kitab” or “People of the Book.” According to the Koran, People of the Book are to be respected: “Believers, Jews, Christians, and Sabaeans — whoever believes in God and the Last Day, and who does what is right — shall be rewarded by their Lord; they have nothing to fear or regret” (2:62)".(/16)
هذا عن الكتاب المقدس فى عجالة سريعة، فماذا عن اليهود؟ إن الإسلام لا يدعو إلى كراهيتهم ولا يغرى أتباعه بالعدوان عليهم ولا على أى أمة أو شعب آخر، فالعدوان فى الإسلام مرفوض ومجرَّم عند الله كما بينتْ آيات وأحاديث كثيرة معروفة لكل إنسان، لكن ليس معنى هذا أن يسكت المسلم على ما يوجَّه له ولدينه من عدوان تحت شبهة أن عليه احترام الآخرين، لأنه إذا لم يحترمنى الآخرون فمن واجبى أن آخذ حقى بيدى. فما بالنا لو كان الأمر أدهى من ذلك وأطمّ على نحو ما هو حادث بيننا وبين الغرب منذ قرون من سبّه لديننا وإساءته إلى رسولنا (وما القرآن الأمريكى المزيَّف المسمَّى زورا وبهتانا بـ"الفرقان الحق" ببعيد، لا ولا تدنيس المصاحف بإلقائها فى مراحيض معتقلات جوانتانامو بممكن نسيانه أو التغاضى عنه إلا إذا كان قد فُقِد منا الأمل البتة)، وكذلك احتلاله بلادنا واغتصابه ثرواتنا واعتداؤه على حريتنا واقتطاعه جزءا غاليا عزيزا من أرض الإسلام وإعطاؤها لليهود الذين لم يكذِّبوا خبرا فانقضوا على الفلسطينيين تقتيلا وتهجيرا وهدما للمنازل ومصادرة للحقول وخلعا لأشجار الزيتون وتضييقا عليهم فى السفر والعودة، وكلما أنّ الفلسطينيون وقاموا بعشر معشار ما ينبغى أن يقوموا به دفاعا عن وجودهم وأرضهم وأولادهم ونسائهم هَبَّ أمثال هذه السحاقية يولولون ويجأرون بالصراخ والعويل أسًى على اليهود المساكين المسالمين واتهامًا للفلسطينيين المتوحشين اللاإنسانييين! ترى ما هو المراد منا؟ أن نسكت على ما ينزل بنا من هوان وعسف وتقتيل ونسف للبيوت وهتك لأعراض النساء واغتيال لأحلام الحاضر والمستقبل؟ إن الغرب يضربنا بالسلاح النووى ويوقع منا القتلى بعشرات الآلاف وينسف البيوت والمساجد والمؤسسات نسفًا، فإذا فكَّر أحدنا أن يردّ عليه بحجر أو بطلقة بندقية أو بقنبلة أو بسيارة مفخَّخة تُوقِع قتيلين أو عشرة أو حتى عشرين هاجَتِ الدنيا علينا وماجَتْ وقيل إننا قتلة وحشيون!
وفى ضوء هذا ينبغى النظر إلى ما جاء من آيات تهاجم اليهود والنصارى وتدعو إلى قتالهم كقوله تعالى فى الآية 29 من سورة "التوبة" مثلا: "قاتلِوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دِينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"، فالبنت السحاقية التى تريد أن نرسِّمها حاخامةً للإسلام تولول وتلطم خديها وتشد شعرها كالمجانين استعظاما واستنكارا، متجاهلة (هى أو من كتب لها الكتاب) أن الكلام هنا ليس عن أهل الكتاب بإطلاق، بل عن النصارى، وليس النصارى بإطلاق، بل عن الروم، وليس الروم بإطلاق، بل الروم فى سياقٍ معيَّنٍ هو سياق تآمرهم على الدولة الإسلامية الناشئة وتحريكهم الجيش إلى حدود بلاد العرب للاحتكاك بالمسلمين وتوجيه ضربة غادرة إليهم، فكان لا بد أن يقول القرآن لهم: لا تتركوا هؤلاء العلوج يفلتون دون عقاب! لكن السحاقية البائسة التى تحرِّض الغرب كله على المسلمين على طول الكتاب وعرضه كانت تريد من الرسول والصحابة أن يفتحوا بلادهم على مصاريعها ويرحّبوا بكلاب الروم.
مثال آخر: لقد كان اليهود فى المدينة إذا ما سمعوا الأذان سخروا بالمؤذِّن وشبهوه بالحمار الذى ينهق وتهكَّموا بالحركات التى يأتيها المصلون تهكمًا سفيهًا، فنزلت الآيات التالية: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخَذوها هُزُوًا ولَعِبًا. ذلك بأنهم قومٌ لا يفقهون* قل: هل تنقمون منا إلا أن آمنّا بالله وما أُنْزِل إلينا وما أُنْزِل من قبلُ وأن أكثركم فاسقون؟* قل: هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله؟ مَنْ لَعَنه الله وغَضِب عليه وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت. أولئك شرٌّ مكانًا وأضلّ عن سواء السبيل" (المائدة/58- 60). (لا بد أن أصارح القراء هنا بأنى لا أستطيع أن أنسى ما قاله شريف حتاتة فى حق الأذان والمؤذنين!). ثم إن الذى يسمع كلام هذه الشاذة الموتورة ولا يعرف حقيقة الأمر قد يصدِّق ما تقوله عن اليهود وسماحتهم وسعة أفقهم ورقَّتهم مع مخالفيهم فى الدين واستعدادهم لفدائهم بأرواحهم، على حين أن الواقع يفقأ عينها هى ومن يتشدد لها. ولقد أُجْرِىَ استطلاع للرأى فى أوربا منذ وقت غير بعيد، فكان رأى الأغلبية أن إسرائيل هى أكبر مهدِّد للسِّلْم العالمى. ولا ننس أن الأوربيين هم الذين يقومون بمطالب إسرائيل بعد الأمريكان، وأنهم هم الذين تآمروا على العرب والمسلمين لمصلحتهم وخلقوا إسرائيل خلقا، فلا يمكن أن يتهمهم متهم بالانحياز للعرب والإجحاف باليهود.(/17)
ثم لماذا نجد اليهود على مدى التاريخ مكروهين من جميع الأمم التى عاشرتهم، وعلى رأسهم الأوربيون الذين ظلوا يذيقونهم صنوف الأذى والتنكيل حتى العصر الحديث حين خططوا لاتخاذهم شوكة مسمومة يغرسونها فى خاصرة المسلمين، فعندئذ (وعندئذ فحسب) رأيناهم يغيرون أسلوبهم فى التعامل معهم؟ وبالمناسبة فإن شهر العسل الذى يقوم أحيانا بين اليهود ومن يوادّونهم لهذا السبب أو ذاك مما يمثل الشذوذ على القاعدة لا يدوم طويلا كما تقول كلمة التاريخ التى لا تكذب. ولا نظن أن مصير شهر العسل الغربى- اليهودى سيكون أفضل من الشهور السابقة التى كانت بينهم وبين الأمم الأخرى. وعلى أية حال فالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يفيض باللعنات والدمدمات على اليهود، ويتهمهم بالكفر والارتكاس فى مستنقع الوثنية الدنس دائما أبدا، ويشتمهم ويسبهم سبًّا لم يسبه لهم أشد خصومهم: لعنات ودمدمات من الله ومن رسلهم وأنبيائهم. أفلا يكفى هذا لكى تكفّ المسكينة التاعسة البائسة عن كذبها وجنونها المستعر ضد الإسلام والمسلمين؟ ثم إن كتابهم هذا ينهاهم عن إبداء أى قدر من الرحمة أو الفهم فى التعامل مع الأمم الأخرى فى الحرب ويشرِّع لهم إفناءهم بما فى ذلك الحيوان الأعجم بحيث لا يتركون كائنا واحدا يتردد فى صدره نَفَس من حياة، كما يدعو على تلك الأمم ويتفنن فى تصوير ما ينتظرهم من وبالٍ ونكالٍ، ودمارٍ وبوار! فضلاً عن أن التلمود، حسبما يقول العارفون به، يقنِّن لليهودى أن يصنع بالأممى ما يشاء دون أن يكون عليه لوم، يستوى فى ذلك السرقة والربا والغدر والخداع والقتل والزنا... المهم أن يتأكد أنه لا يعرّض نفسه بهذا إلى أية مسؤولية! "ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا فى الأميين سبيل" كما سجل عليهم القرآن الكريم!
وقد قرأتُ فى أحد المواقع المِشْبَاكِيَّة اليهودية التى تتحدث عن التلمود، وهو موقع "Judaism 101"، ما يقول الحاخامات فيه عن مصير غير اليهود فى العالم الآخر: فالمسلمون الصالحون المتمسكون بدينهم، رغم إيمانهم بالله الذى يعبده بنو إسرائيل مع اختلاف تسميته عندهم، لن يكون لهم مكان فى ذلك العالم لأنهم لا يؤمنون بالتوراة الموجودة فى أيدى اليهود حاليًّا (وهى التوراة التى يعتقد المسلمون أنها قد حُرِّفت وأعطينا أمثلة منها قبل قليل تدل على أنها لا يمكن أن تكون نزلت من عند الله على وضعها هذا، على عكس التوراة الحقيقية التى اختفت والتى يؤمن بها المسلمون من كل قلوبهم ويجلّون الرسول الذى حملها وأتى بها إلى قومه). كما أنهم، وإن آمنوا بوصايا نوح السبعة تمام الإيمان (إذ الشرك والوثنية والتجديف فى حق الله والقتل والزنا والسرقة ولحم الحيوان الحى، كل ذلك حرام عندهم ويجرِّمونه)، لن يُكْتَب لهم الخلود رغم ذلك فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بها من خلال التوراة الموجودة فى أيدى البهود الآن. أما النصارى فرغم إيمانهم بأن التوراة التى بأيدى اليهود حاليا قد نزلت من عند الله لن يُكْتَب لهم الخلود فى الدار الآخرة رغم ذلك، بل سينالهم الفناء بسبب إيمانهم بالثالوث، الذى يؤكد اليهود أنه لون من الوثنية. وهذا هو نص الكلام فى أصله الإنجليزى:
“Not all religious Gentiles earn eternal life by virtue of observing their religion: While it is recognized that Moslems worship the same God that we do (though calling him Allah, He is the same God of Israel), even those who follow the tenets of their religion cannot be considered righteous in the eyes of God, because they do not accept that the Written Torah in the hands of the Jews today is the original Torah handed down by God and they do not accept the Seven Laws of Noah as binding on them.
While the Christians do generally accept the Hebrew Bible as truly from God, many of them (those who accept the so-called divinity of Jesus) are idolaters according to the Torah, punishable by death, and certainly will not enjoy the World to Come. But it is not just being a member of a denomination in which the majority are believers in the Trinity that is idolatry, but personal idolatrous practice, whatever the individual's affiliation”…
According to Torah tradition, God gave Noah and his family seven commandments to observe when he saved them from the flood. These commandments, referred to as the Noahic or Noahide commandments, are learned by tradition but also suggested in Genesis Chapter 9, and are as follows:
1. not to commit idolatry
2. not to commit blasphemy
3. not to commit murder
4. not to have forbidden sexual relations
5. not to commit theft
6. not to eat flesh cut from a living animal(/18)
7. to establish courts of justice to punish violators of the other six laws.
These commandments may seem fairly simple and straightforward, and most of them are recognized by most of the world as sound moral principles. But according to the Torah only those Gentiles who observe these laws because God commanded them in His Torah will enjoy life in the World to Come: If they observe them just because they seem reasonable or because they think that God commanded them in some way other than in the Torah, they might as well not obey them so far as a part in the World to Come is concerned
ولنقرأ كذلك هذه النصوص التلمودية عن المسيح التى زوَّدَنا بها مايكل هوفمان 2 فى موقعه الذى يفضح فيه ما يقوله اليهود فى تلمودهم عن ذلك النبى عليه السلام: "يقول السنهدرين B 107:"...نصب المسيح حجرا، ثم اتخذه صنما وركع له. كما أنه قد مارس السحر وحرَّض بنى إسرائيل وأضلَّهم". (التلمود البابلى/ مجلد 21/ تراكتيت سنهدرين/ ج 7/ ترجمه إلى الإنجليزية الحاخام آدين شتاين زالتس/ راندم هاوس/ نيويورك/ حقوق الطبع محفوظة لمعهد إسرائيل للمنشورات التلمودية 1999م)... والآن إلى نصٍّ تلمودىٍّ آخَرَ حول المسيح من السنهدرين B43: "وفى ليلة الفصح أُعْدِم يسوع الناصرى. لقد مارس السحر وحرض بنى إسرائيل وأضلهم... ترى أكان يستحق البحث عن حجة للدفاع عنه؟ لقد كان محرِّضًا، وجاء فى التوراة: لا ينبغى أن تَعْفُوا عنه، ولا أن تخفوه!... إن بعض طبعات الجيتين 57a التى خضعت للرقابة والمتابعة تستبدل باسم "المسيح" اسم "مذنب (أو مذنبى) بنى إسرائيل". ويتضمن الجيتين 57a من التلمود هجوما بذيئا وفاضحا على المسيح يتعلق بنوع من العقاب يُفْتَرَض أنه يقاسيه بعد وفاته. وكالعادة نرى الـ"إيه دى إل" تتجنب إيراد كلام الجيتين 57a، ومن ثم كان علينا أن نفضح المحتوى القبيح والمريض لهذا القسم من التلمود. وهذا هو النص المقصود: "ثم مضى ( أى الحاخام) وأقام بتعويذاته مُذْنِبى بنى إسرائيل من الأموات، وسألهم:... ما عقوبتكم؟ فردّوا قائلين: هى إلقاؤنا فى خراءٍ يغلى".(/19)
والغريب أن يصدّع واضع الكتاب أدمغتنا بالكلام عن الخشونة التى يعامل بها المسلمون اليهود، ناسيًا أن العهد القديم يذكر عن بنى إسرائيل وعن قوادهم، بفخرٍ مجلجلٍ، ما يدل على ما كانوا يعاملون به الآخرين من قسوة مفرطة ليس فيها أدنى مراعاة لضميرٍ أو قانونٍ، فضلاً عن أنه يَعْزوه إلى بركة الله ورضاه عنهم. من ذلك مثلا ما جاء فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "التكوين" على النحو التالى: "1وَخَرَجَتْ دِينَةُ ابْنَةُ لَيْئَةَ الَّتِي وَلَدَتْهَا لِيَعْقُوبَ لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ 2فَرَآهَا شَكِيمُ ابْنُ حَمُورَ الْحِوِّيِّ رَئِيسِ الأَرْضِ وَأَخَذَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَأَذَلَّهَا. 3وَتَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِدِينَةَ ابْنَةِ يَعْقُوبَ وَأَحَبَّ الْفَتَاةَ وَلاَطَفَها. 4فَقَالَ شَكِيمُ لِحَمُورَ أَبِيهِ: «خُذْ لِي هَذِهِ الصَّبِيَّةَ زَوْجَةً». 5وَسَمِعَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ نَجَّسَ دِينَةَ ابْنَتَهُ. وَأَمَّا بَنُوهُ فَكَانُوا مَعَ مَوَاشِيهِ فِي الْحَقْلِ فَسَكَتَ يَعْقُوبُ حَتَّى جَاءُوا. 6فَخَرَجَ حَمُورُ أَبُو شَكِيمَ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ. 7وَأَتَى بَنُو يَعْقُوبَ مِنَ الْحَقْلِ حِينَ سَمِعُوا. وَغَضِبَ الرِّجَالُ وَاغْتَاظُوا جِدّاً لأَنَّهُ صَنَعَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِمُضَاجَعَةِ ابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَ«هَكَذَا لاَ يُصْنَعُ». 8وَقَالَ لَهُمْ حَمُورُ: «شَكِيمُ ابْنِي قَدْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِابْنَتِكُمْ. أَعْطُوهُ إِيَّاهَا زَوْجَةً 9وَصَاهِرُونَا. تُعْطُونَنَا بَنَاتِكُمْ وَتَأْخُذُونَ لَكُمْ بَنَاتِنَا 10وَتَسْكُنُونَ مَعَنَا وَتَكُونُ الأَرْضُ قُدَّامَكُمُ. اسْكُنُوا وَاتَّجِرُوا فِيهَا وَتَمَلَّكُوا بِهَا». 11ثُمَّ قَالَ شَكِيمُ لأَبِيهَا وَلإِخْوَتِهَا: «دَعُونِي أَجِدْ نِعْمَةً فِي أَعْيُنِكُمْ. فَالَّذِي تَقُولُونَ لِي أُعْطِي. 12كَثِّرُوا عَلَيَّ جِدّاً مَهْراً وَعَطِيَّةً فَأُعْطِيَ كَمَا تَقُولُونَ لِي. وَأَعْطُونِي الْفَتَاةَ زَوْجَةً». 13فَأَجَابَ بَنُو يَعْقُوبَ شَكِيمَ وَحَمُورَ أَبَاهُ بِمَكْرٍ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَجَّسَ دِينَةَ أُخْتَهُمْ: 14«لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا الأَمْرَ أَنْ نُعْطِيَ أُخْتَنَا لِرَجُلٍ أَغْلَفَ لأَنَّهُ عَارٌ لَنَا. 15غَيْرَ أَنَّنَا بِهَذَا نُواتِيكُمْ: إِنْ صِرْتُمْ مِثْلَنَا بِخَتْنِكُمْ كُلَّ ذَكَرٍ. 16نُعْطِيكُمْ بَنَاتِنَا وَنَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِكُمْ وَنَسْكُنُ مَعَكُمْ وَنَصِيرُ شَعْباً وَاحِداً. 17وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لَنَا أَنْ تَخْتَتِنُوا نَأْخُذُ ابْنَتَنَا وَنَمْضِي». 18فَحَسُنَ كَلاَمُهُمْ فِي عَيْنَيْ حَمُورَ وَفِي عَيْنَيْ شَكِيمَ بْنِ حَمُورَ. 19وَلَمْ يَتَأَخَّرِ الْغُلاَمُ أَنْ يَفْعَلَ الأَمْرَ لأَنَّهُ كَانَ مَسْرُوراً بِابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَكَانَ أَكْرَمَ جَمِيعِ بَيْتِ أَبِيهِ. 20فَأَتَى حَمُورُ وَشَكِيمُ ابْنُهُ إِلَى بَابِ مَدِينَتِهُِمَا وَقَالاَ لأَهْلَ مَدِينَتِهُِمَا: 21«هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ مُسَالِمُونَ لَنَا. فَلْيَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ وَيَتَّجِرُوا فِيهَا. وَهُوَذَا الأَرْضُ وَاسِعَةُ الطَّرَفَيْنِ أَمَامَهُمْ. نَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِهِمْ زَوْجَاتٍ وَنُعْطِيهِمْ بَنَاتِنَا. 22غَيْرَ أَنَّهُ بِهَذَا فَقَطْ يُواتِينَا الْقَوْمُ عَلَى السَّكَنِ مَعَنَا لِنَصِيرَ شَعْباً وَاحِداً: بِخَتْنِنَا كُلَّ ذَكَرٍ كَمَا هُمْ مَخْتُونُونَ. 23أَلاَ تَكُونُ مَوَاشِيهِمْ وَمُقْتَنَاهُمْ وَكُلُّ بَهَائِمِهِمْ لَنَا؟ نُواتِيهِمْ فَقَطْ فَيَسْكُنُونَ مَعَنَا». 24فَسَمِعَ لِحَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنِهِ جَمِيعُ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَاخْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ - كُلُّ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. 25فَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذْ كَانُوا مُتَوَجِّعِينَ أَنَّ ابْنَيْ يَعْقُوبَ شِمْعُونَ وَلاَوِيَ أَخَوَيْ دِينَةَ أَخَذَا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ. 26وَقَتَلاَ حَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَأَخَذَا دِينَةَ مِنْ بَيْتِ شَكِيمَ وَخَرَجَا. 27ثُمَّ أَتَى بَنُو يَعْقُوبَ عَلَى الْقَتْلَى وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ. 28غَنَمَهُمْ وَبَقَرَهُمْ وَحَمِيرَهُمْ وَكُلَُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي الْحَقْلِ أَخَذُوهُ. 29وَسَبُوا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي الْبُيُوتِ. 30فَقَالَ يَعْقُوبُ لِشَمْعُونَ وَلاَوِي: «كَدَّرْتُمَانِي بِتَكْرِيهِكُمَا إِيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِيِّينَ وَأَنَا نَفَرٌ قَلِيلٌ. فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَيَضْرِبُونَنِي(/20)
فَأَبِيدُ أَنَا وَبَيْتِي». 31فَقَالاَ: «أَنَظِيرَ زَانِيَةٍ يَفْعَلُ بِأُخْتِنَا؟».
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك الأمنيات التى يتمنَّى بنو إسرائيل وقوعها بالأمم الأخرى، وهى أمنياتٌ بشعةٌ تكشف ما فى قلوبهم من أحقاد لا ينطفئ لها لَظًى. ولنأخذ فقط بعض ما ينوبنا نحن المصريين من هذا الحب، ولنقرأ ما جاء فى نبوءة أَشَعْيَا فى الإصحاح التاسع عشر: "1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. 2وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ: مَدِينَةٌ مَدِينَةً وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً. 3وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَازِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابِعِ وَالْعَرَّافِينَ. 4وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلىً قَاسٍ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. 5«وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ. 6وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ. 7وَالرِّيَاضُ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ. 8وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصّاً فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ. وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ 9وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ. 10وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ. 11«إِنَّ رُؤَسَاءَ صُوعَنَ أَغْبِيَاءَ! حُكَمَاءُ مُشِيرِي فِرْعَوْنَ مَشُورَتُهُمْ بَهِيمِيَّةٌ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِفِرْعَوْنَ: أَنَا ابْنُ حُكَمَاءَ ابْنُ مُلُوكٍ قُدَمَاءَ. 12فَأَيْنَ هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ. لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ عَلَى مِصْرَ. 13رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ. رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا. وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا. 14مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ. 15فَلاَ يَكُونُ لِمِصْرَ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنَبٌ نَخْلَةٌ أَوْ أَسَلَةٌ. 16فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عَلَيْهَا. 17«وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْباً لِمِصْرَ. كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. 18«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ». 19فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا. 20فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصاً وَمُحَامِياً وَيُنْقِذُهُمْ. 21فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ وَيَعْرِفُ الْمِصْريُّونَ الرَّبَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. 22وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ. 23«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. 24فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلْثاً لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ بَرَكَةً فِي الأَرْضِ 25بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ»".(/21)
أتُرَى شيخة الإسلام السحاقية لا تعرف هذا؟ إن الذين كتبوا لها الكتاب يعرفون هذا وأفظع من هذا، لكنها الحرب المعنوية التى يراد منها تكسير نفوسنا وتدمير عقيدتنا وديننا، ومن هنا استقدامهم لهذه السحاقية ووضع هذا الكلام فى فمها كى يكون الإيلام الذى يريدون إنزاله بنا أوجع وأفظع! ثم إنها ترجم المسلمين تحقيرا وتشكيكا فى أخلاقهم ونفسياتهم ودينهم، ولا تكاد تترك أحدا من علمائهم دون أن تهاجمه هجوما رهيبا. حتى شيخ الأزهر، الذى يبدى من المرونة ما يثير عليه الدنيا ويتهمه الكثيرون بالمسارعة إلى التساهل فيما لا يمكن التفريط فيه بحال، حتى شيخ الأزهر لا يدخل مخَّها ولا يملأ عينها، بل تشتمه وتتهمه بمعاداة السامية والإرهاب وتحرّض المسؤولين الغربيين عليه. واللعبة مكشوفة! إنهم يريدون منه أن يبصم على كل ما يريدون لا على بعضه فقط، ولن يرضَوْا عنه مع ذلك فى نهاية المطاف مهما أبدى مزيدا ومزيدا ومزيدا ومزيدا ومزيدا من المرونة. إننا هنا نتعامل مع ناس بلا قلب، ناس يخطِّطون لمحو أمم كاملة من على وجه الخريطة كما فعلوا مع الهنود الحمر مثلا، وكما يريدون أن يفعلوا مع الفلسطينيين لو استطاعوا. شخصان اثنان فقط فى مصر حازا القبول والرضا والثناء الحار الجميل، هما جابرعصفور، الذى يستشهد واضع الكتاب مرارا بمقاله المنشور فى "New Perspectives Quarterly, Winter 2002" بعنوان: "Osama bin Laden: Financier of Intolerant ‘Desert’ Islam: أسامة بن لادن مموِّل الإسلام الصحراوى المتعصب"، وسعد الدين إبراهيم، الذى تكررت الإشارة إلى كلمته في "بيت الحرية: Freedom House" فى واشنطن بتاريخ 21 أكتوبر 2002م والاقتباس منها.
والآن أضع تحت عين القارئ الكريم ما كتبتْه (أو كُتِبَ باسم) فقيهتنا السحاقية عن شيخ الأزهر وجابر عصفور وسعد الدين إبراهيم حتى تكون لديه فكرة عن الطريقة التى تتبعها شيخة الإسلام الأمريكى فى تقويمها لنا والأسس التى تستند إليها فى ذلك. وها هو ذا كلامها عن شيخ الأزهر: "خذوا قضية محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، وما أدراك ما الأزهر بسمعته التي لا تُضَاهَى؟ فإن فريد زكريا يصف الأزهر بأنه "أهم مركز لإسلام التيار السائد في العالم العربي". وإلى جانب كون طنطاوي المسؤولَ الأولَ في الإسلام السائد فهو أيضا راعي "منتدى الديانات الثلاث" الذي يتخذ من بريطانيا مقرا له. والمنتدى منظمة هدفها مساعدة المسيحيين واليهود والمسلمين على تحقيق التفاهم المتبادل بينهم. يبدو الأمر لطيفا، ولكن دَعُونا نَجْلُوا الخطابية وننبش ما تحت السطح. ففي موعظة في إبريل ( نيسان ) 2002م ترجمها "معهد الأبحاث الإعلامية في الشرق الأوسط" وَصَف طنطاوي اليهودَ بأنهم "أعداء الله وأبناء الخنازير والقرود". وفي مؤتمرٍ عُقِد عام 1999م حول الطاقة النووية في مصر حَضَّ الشيخُ المسلمين على "امتلاك أسلحة نووية ردًّا على التهديد الإسرائيلي"، وقطع عهدا بأنه "إذا كانت لدى إسرائيل أسلحة نووية ستكون أول المهزومين لأنها تعيش في عالم لا خوف فيه من الموت". هذه الأقوال ينبغي ألا يُستهان بها كنُبَاحٍ بلا أنياب من رجلٍ أوصله المستنقع الفلسطيني إلى الجنون. فحتى عندما كانت عملية السلام لم تزل على قيد الحياة أطلق طنطاوي تعليقات مماثلة. وفي يناير (كانون الثاني) 1998م أجرت قناة "الجزيرة" مقابلة مع الشيخ الذي كان قد اجتمع مؤخَّرا بكبير حاخامات إسرائيل في لقاء بالقاهرة أثار زوبعة في الصحافة المصرية. وتساءل مقدِّم "الجزيرة" إن كانت هناك فائدة من مثل هذه اللقاءات. نعق طنطاوي مؤكدا فائدة مثل هذه اللقاءات، وأشار إلى أنه هاجم الحاخام وأثبت له أن الإسلام هو دين الحق... وباعتقاده أن كل من يرفض اللقاء مع العدو ليصفعه في وجهه جبان طالما أن في مثل هذا اللقاء ما يخدم الإسلام. أهذه هي نظرة شيخنا ذي الكف المتحرقة شوقا لتوجيه الصفعات، إلى رعايته لمنتدى الديانات الثلاث؟ باعتبارها فرصة لإنزال اللطمات بمزيد من اليهود؟ أم إن مثل هذا الموقف يُراد به إسماع الآذان العربية فقط؟ لستُ متأكدة، فبعد الإجابة عن سؤالٍ أوَّلَ مني قطع "منتدى الديانات الثلاث" خط الاتصالات عندما سألتُ: لماذا يُقْبَل طنطاوي صاحبُ اللسان المسموم راعيا للمنتدى؟ وأيًّا يكن من أمر فإن رب طنطاوي ليس رب التجديد بل رب الخداع. وأنا، من بين آخرين، لستُ مسيحية بما فيه الكفاية كي "أُدير الخد الآخر". وعلى مَنْ يُريدون إصلاح الإسلام أن يخوضوا كفاحا مع الخداع لتحقيق شيء ما في الواقع. وهذا يتطلب المضيّ أبعد من الحوار بين الأديان".(/22)
ونأتى إلى جابر عصفور، الذى تتغير معزوفتها تماما عند الحديث عنه: "جابر عصفور كاتب مصري يُبدي ارتياعه إذ يرى زحف "إسلام الصحراء" على ما في بلده من تقليد في التبادل الصاخب بالأخذ والرد. وهو يشير إلى أن إسلام الصحراء يتعارض مع ما في "حياة "الحارة" من تعددية ومساومات، إذ انه متعصب". وعلى غرار بَدْو القرن السابع (أرجو أن يأخذ القارئ باله من عبارة "بدو القرن السابع" هذه!) الذين كانوا يرَوْن في كل منعطف ثأرا يتربص بهم فإن الإسلاميين الذين يستوحون حياة الصحراء يرتابون فورا بـ"الآخر"، وحتى يضمرون له الكراهية. و"الآخر" هو اليهود، والغربيون، والمرأة التي يقول عصفور إن ثقافة الصحراء تعدُّها "مصدرا للغواية والشر". وهو يزعم أن أموال النفط التي تدفقت على العربية السعودية أسهمت في إشاعة عادات الصحراء القاسية. دون شك. ولكني أعتقد أن هذه العادات حدَّدت شكل الإسلام زمنا أطول بكثير مما نريد الاعتراف به".
ثم يبقى سعد الدين إبراهيم، وها هو ذا ما جاء عنه فى الكتاب الذى نحن بصدده: "ففي يوليو ( تموز ) أُودِع سعد الدين إبراهيم السجن للمرة الثانية خلال عامين. وقال ناشر صحيفة "القاهرة تايمز: Cairo Times" إن الحكم عليه بالسجن سبع سنوات مع إمكانية الأشغال الشاقة "يكاد يكون شهادة وفاة" تعلن موت الحقوق المدنية في مصر. ما أوصل أستاذ السوسيولوجيا البالغ من العمر 65 عاما إلى السجن يبقى غامضا، فهو صديق قديم للرئيس المصري حسني مبارك، وهو الأستاذ الذي أشرف على رسالة السيدة سوزان مبارك لنيل شهادة الماجستير وكاتب خطابات لها. وكان إبراهيم يستضيف برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا عن التنمية الاجتماعية، وله أبحاث رائدة في دوافع المتشددين الإسلاميين، وقام بتمثيل مصر في مؤتمرات دولية حول حقوق الإنسان. ولكن هذا كله كان قبل 30 يونيو ( حزيران ) 2000م ليلة القبض عليه. وخلال الأشهر الأربعة والعشرين التالية من التوقيفات المديدة والمحاكمات الصورية وفترات الحبس بات واضحا له أن "الذين أغضبتُهم قرروا التحرك لإلغاء سعد الدين إبراهيم من الحياة العامة في مصر". المرجَّح أن غضب خصومه الأسْوَد كان يغلي منذ منتصف التسعينات. ذلك أن إبراهيم، بوصفه رئيس مركز ابن خلدون للدراسات التنموية في القاهرة، شعر أن من واجبه إشباع عمله بروح صاحب الاسم الذي أطلقه على مركزه. فإن ابن خلدون، الذي كان من آخر عمالقة الفكر في عصر الإسلام الذهبي، حوَّل التاريخ والسوسيولوجيا إلى فرعين محترمين من فروع المعرفة. وعلى أكتاف هذا المفكر الرائد سطع اسم إبراهيم، في العالم العربي المسلم على الأقل، في عام 1994م. فقد بادر إلى تنظيم مؤتمر حول حقوق الأقليات، وفي حينه كانت مصر تتمسك بقانون يفرض على المسيحيين الأقباط أن ينالوا موافقة الرئاسة قبل أن يتمكنوا من ترميم كنائسهم. وإذ طعن إبراهيم في نهج مصر الرسمي القائل إن المسلمين يعيشون في وئام تام مع المسيحيين، اعتبر الأقباط أقلية تعاني من اضطهاد النظام. وهنا كانت الضربة الأولى. فبعد عام راقب وآخرون من أنصار الديمقراطية الانتخابات البرلمانية التي جرت في مصر وكشفوا عن ممارسة التزوير بحجمٍ ما كان ليمكن التفكير فيه سابقا إزاء صورة البلد بوصفه واحة للتنوير العربي. ثم كانت الضربة الثانية. فإن ما توصل إليه إبراهيم كان نذيرا بالاتجاه الذي لم تكن مصر تنزلق فيه فحسب، بل وتحث الخُطَى صَوْبَه: استبداد فاسد بدلا من ديمقراطية هشة أصلا".(/23)
والآن إلى ما تقوله الكاتبة (إن صح أنها هى التى كتبت الكلام) عن عمليات المقاومة التى يحاول بعض المسلمين أن يدرؤوا بها العدوان الأمريكى المدمر عن أمتهم وعن بلادهم. وسوف أنقل ما قيل عن الشبان الذين قيل إنهم هم الذين شنوا هجوم سبتمبر 2001م على البنتاجون ومركز التجارة العالمى فى نيويورك لأن هذا هو الذى وجدتُه فى الكتاب. لنستمع: "اسمحوا لي أن أفك لكم مفاتيح هذه اللغة المألوفة في أفلام الدرجة الثانية: أن عطا والشباب كانوا يتوقعون أن يدخلوا بحرية مطلقة على عشرات العذراوات في الجنة. وهم ليسوا وحدهم في ذلك. فقبل شهر من 11 سبتمبر ( أيلول ) قال مسؤول عن كسب أنصار لحركة حماس الفلسطينية التي تحولت من المقاومة إلى الإرهاب في تصريح لمحطة "سي بي إس" التلفزيونية إنه يلوّح بمرأى 70 حوريّة أمام المرشحين لتنفيذ عمليات انتحارية. يبدو الأمر وكأنه رخصة أبدية للقذف عند بلوغ الذروة الجنسية مقابل الاستعداد للتفجير. وقد زُعِم منذ زمن بعيد أن القرآن يَعِد بمجازاة المسلمين الذين يُسْتَشْهَدون. ولكن لدينا سببا للاعتقاد أن هناك متاعب في الجنة، فإن خطأ بشريا وجد طريقه إلى القرآن، إذ تفيد الأبحاث الجديدة ان ما يمكن للشهداء توقعه مقابل تضحياتهم ليس حوريّات، وإنما زبيبات! ذلك أن الكلمة التي قرأها فقهاء القرآن طيلة قرون على أنها كلمة "حور" قد تُفهم فهما أدق بمعنى "الزبيب الأبيض" (لا تضحكوا، ليس بإفراط على أية حال. فالزبيب في الجزيرة العربية خلال القرن السابع كان من الطيبات الثمينة بما فيه الكفاية لأن يُعْتَبَر طبقا من أطباق الجنة). ولكن أن يكون الزبيب هو المقصود بدلا من الحُور؟ حاشا لله. كيف يمكن للقرآن أن يرتكب مثل هذه الغلطة؟
المؤرخ الذي يسوق هذه الحجة ، كريستوف لوكسمبرغ Christoph Luxemberg ، (الصواب: "Luxenberg" بالنون لا بالميم)، خبير متخصص بلغات الشرق الأوسط. وهو ينسب وصف القرآن للجنة إلى عملٍ مسيحيٍّ كُتب قبل ثلاثة قرون على ظهور الإسلام في شكل من أشكال اللغة الآرامية التي كانت على الأرجح لغة المسيح. وإذا كان القرآن متأثرا بالثقافة اليهودية- المسيحية، الأمر الذي ينسجم انسجاما تاما مع دعواه بأنه يعكس ما سبقه من كتبٍ منزَّلة، فإن الآرامية كانت ستُتَرْجَم بيدٍ بشريةٍ إلى العربية، أو تُساء ترجمتها في حال كلمة "الحُور" والله أعلم كم من الكلمات الأخرى.
ماذا لو كانت عبارات وجُمَل كاملة قد جرى تصورها تصورا مغلوطا؟ فإن النبي محمد، الذي كان تاجرا أميا ، اعتمد على كتّاب لتسجيل ما كان ينزل عليه من كلام الله. وأحيانا كان النبي نفسه يبذل محاولات مضنية لفك أسرار ما كان يسمعه. وهكذا، على ما يُذكر، نالت مجموعةٌ من "الآيات الشيطانية"، مقاطعُ تؤلِّه الأوثان، قبولَ محمد وسُجِّلت على أنها نصوص حقيقية في متن القرآن. وقد عمد النبي لاحقا إلى إسقاط هذه الآيات متهما الشيطان وأحابيله بالمسؤولية عنها. ولكن الحقيقة الماثلة في أن الفلاسفة المسلمين تناقلوا سرد هذا القصة على مر القرون ، تؤكد شكوكا غابرة القدم في كمال القرآن. والآن أكثرَ من أي وقت مضى نحتاج إلى إحياء هذه الشكوك.
ماذا كان سيحدث لو تربى محمد عطا على أسئلة تبحث في الروح عن إجابات بدلا من تربيته على يقينيات بسيطة؟ وعلى أقل تقدير، ماذا لو عرف هذا الطالب الجامعي أن من الممكن المِراء في أصول كلمات مختارة، كلمات محورية عن الآخرة؟ وأنها قد لا تكون بالمرة "كلمات خالق الأرض والأجرام السماوية"؟ وأن جزاء تدمير الذات، ناهيكم عن القتل الجماعي، سيكون مكافأة مشكوكا فيها؟ وأن وعد الجنة هو رجم في الغيب وليس وعدا مضمونا؟ ربما كان حينذاك سيغير رأيه ويتراجع. ربما. فالاحتمال يستحق النظر فيه باهتمام. إنّ فِعْل وضْع القرآن موضعَ تساؤل هو ذاته جزء أساسي من حل لغز الإصلاح لأنه يشير إلى الغناء خارج السرب. وهو يعني عدم قبولكم بأن الإجابات معطاة أو أنها ستُعطى لكم. قال لي ضباط مخابرات في تورنتو يعملون مع خبراء بمكافحة الإرهاب في أنحاء العالم إن الانتحاريين كثيرا ما يرتدون أكثر من لباس داخلي واحد أو يَحْشُون المنطقة الحساسة من جسمهم بالجرائد لحماية أعضائهم التناسلية من قوة الانفجار".(/24)
وتعليقا على هذا نبادر أولا فنقول إن السخف والتفاهة فى المزاعم المضحكة حول ورق الصحف الذى يحشو به الاستشهادى المنطقة الحساسة من جصده لحمايتها من الانفجار لا تدل إلا على عقلية خائبة فى الدعاية الكاذبة رغم خبثها الشيطانى. كذلك لا يمكن لقائل ذلك الكلام أن يزعم صادقا أنه مسلم، إذ كيف يكون مسلما من لا يؤمن بأن هذا القرآن من عند الله، بل يصر على أنه اسْتُقِىَ من مصادر أخرى، وأنه كان عرضة للعبث والهوى وسوء الفهم حتى من الرسول نفسه. ونحن حين نقول هذا نقول معه أيضا إن هذه البنت حرة تماما فيما تقوله وتعتقده، كما أنها حرة تماما فى أن تكون سحاقية أو امرأة طبيعية. ذلك حقها فى الاختيار، مثلما هو من حقنا أن نكشف الستار عما يحاك لنا فى الغرب، ومنه بكل تأكيد إعدادُ أمثالها ورَمْيُهم فى طريقنا يُجْلِبون علينا، ويحاولون أن يُشِيعوا الاضطراب فى صفوفنا ويشككونا فيما نؤمن به من دين وقيم ومبادئ، وييئّسونا من جدوى الوسائل التى نتخذها للدفاع عن مقومات وجودنا وحاضرنا ومستقبلنا ودنيانا وأخرانا. وواضح أن كاتب الكلام قد وضع نصب عينيه تكسير مجاديف المجاهدين فى سبيل الله، أولئك الأبطال الذين يجرِّعون أمريكا الصاب والعلقم ويطيّرون النوم من عيونها ويستنزفون ملياراتها ويوقعون عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من جنودها رغم قلة مواردهم وتخلف وسائلهم وأسلحتهم، ورغم التضييق الخانق المضروب عليهم واشتراك أطراف الأرض كلها تقريبا فى عداوتهم وحصارهم واقتفاء أثرهم والتبليغ عنهم بما فى ذلك كثير من أفراد أممهم حكامًا ومحكومين. إن الأمريكان يبذلون كل غالٍ ونفيس ويتمنَّوْن، ولو بخلع الضرس، بل ولو بقلع العين، أن يقضوا على روح الجهاد التى يخلقها الإسلام فى نفوس أتباعه، والتى لولا هى لكانت أمريكا قد انتهت منا والتهمتنا منذ زمن طويل، وذلك رغم كل التخلف والعيوب التى نعانى منها على كل الأصعدة والمستويات تقريبا. فما بالكم لو أن المسلمين قد استيقظوا كلهم على بَكْرَة أبيهم وهبَّتْ فيهم نسمة الحياة وتحركت نخوتهم وكرامتهم وانتفضوا يعملون ويجِدّون ويكِدّون ويبدعون ويستكشفون وينتجون ويتقنون، ولم يلقوا بالهمّ والمسؤولية كلها على عاتق تلك الطائفة القليلة منهم التى لم تستسلم ولم تَهِن أو تَهُن، بل ما زالت تحاول القيام بالمهمة وحدها فتُوَفَّق أحيانا وتُخْفِق فى كثير من الأحيان لأنها تتحرك فى إطارٍ مُعَادٍ أو على الأقل غير مبالٍ؟ ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا ما ورد فى كلامها السابق عن العلاقة بينها وبين بعض رجال المخابرات والمعلومات التى يمدّونها بها مما يؤكد ما قلته عن دور تلك المؤسسة وأمثالها فى تأليف هذا الكتاب.(/25)
إن واضع الكتاب يتساءل: "ماذا كان سيحدث لو تربى محمد عطا على أسئلة تبحث في الروح عن إجابات بدلا من تربيته على يقينيات بسيطة؟ وعلى أقل تقدير، ماذا لو عرف هذا الطالب الجامعي أن من الممكن المِراء في أصول كلمات مختارة، كلمات محورية عن الآخرة؟ وأنها قد لا تكون بالمرة "كلمات خالق الأرض والأجرام السماوية"؟ وأن جزاء تدمير الذات، ناهيكم عن القتل الجماعي، سيكون مكافأة مشكوكا فيها؟ وأن وعد الجنة هو رجم في الغيب وليس وعدا مضمونا؟"، ثم يجيب على النحو التالى: "ربما كان حينذاك سيغير رأيه ويتراجع". وهى بالتأكيد إجابة صحيحة، لكنها ليست إجابة كاملة. أما تكملتها فهى أنه بعد أن يغير رأيه ويتراجع سوف يصيبه اليأس وسوف ينضم، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى طابور العملاء الأمريكيين الذين يخونون بلادهم وشعوبهم ويفسدون كل شىء عليها، مما يمدّ فى سطوة أمريكا على بلاد المسلمين ويفتح شهيتها الجشعة النهمة المجرمة لابتلاع كل شىء، أما فى ظل العمليات الاستشهادية الآن فإن ثمة شوكة بل أشواكا ناشبة فى حلقها تنغِّض عليها الأكل. وأملُنا مع الأيام أن تتحقق من أنها لن تستطيع أبدا التخلص من هذه الأشواك فتنصرف عن التهام ثرواتنا ووجودنا نفسه، وبمشيئة الله لن يكون ذلك بعيدا، اللهم إلا إذا استمرأت جماهير العرب والمسلمين هذا الخُمَار الذى يغيِّب عقلها ويضيِّع عليها الفرص الكثيرة التى يتيحها الله لها. وعندئذ قد نكون من الأمم التى تُوُدِّع منها فيستبدل الله بها أمما أخرى أكثر عزة وصلابة وصمودا واستعصاء على الالتهام لتتحمل مسؤولية نصرة هذا الدين العبقرى العظيم الذى فرَّطْنا فيه بغباء نادر، ولم نستطع أن نستلهم ما يستكنّ في أعماقه من إبداع كفيل بإبلاغنا الذُّرَى لو عَقَلْنا ونَشِطَتْ إرادتنا الخائرة المتهافتة التافهة التى لا تستطيع أن تنظر إلا إلى ما تحت أقدامها فلا تبصر السماء والنور والقمم! أيُعْقَل أن تكون هذه الأمة هى أمة محمد؟ والله إنه لحرام! إن فى قلبى، وأنا أخط هذه السطور، لَغُصَّةً ثقيلة! كيف وصل الأمر يا إلهى أن تتجرأ علينا "حِتّة عَيِّلة سحاقيّة مفعوصة" (سواء كانت هى مؤلفة الكتاب أو لم تكن) فتوبخنا وتعيث جهلا وإفسادا فى ديننا وتاريخنا وتنصر أعداءنا علينا، ثم يبلغ من بجاحتها أن تقول إنها هى مجتهدة العصر التى ستقدم الفهم الصحيح للإسلام، مساويةً هكذا رأسها برأس الشافعى وأبى حنيفة والطبرى والغزالى وابن تيمية والسيوطى والشوكانى وابن باديس وشلتوت والمودودى وغيرهم من الفطاحل الكرام؟ لقد هُنَّا هوانًا فظيعًا، ونحن للأسف مستحقّوه! إننى لا أستطيع أن أستقر فى مجلسى أمام الحاسوب، بل أقوم بين الفينة الفينة وأدور فى البيت كالملدوغ!
ومن إرشاد مانجى إلى كريستوف لوكسنبرج يا قلبى لا تحزن. ومرة أخرى يغلبنى التعبير التقليدى الذى لا يعبر عن الواقع، إذ الواقع يقول إنى حزين، ومن ثم كان ينبغى أن أقول: ومن إرشاد إلى كريستوف لوكسنبرج احزن يا قلبى واحزن واحزن على حالنا الذى لا يسر أحدا. تقول الكاتبة، أو يقول من كتب باسمها الكتاب، إن "هناك متاعب في الجنة، فإن خطأ بشريا وجد طريقه إلى القرآن، إذ تفيد الأبحاث الجديدة أن ما يمكن للشهداء توقعه مقابل تضحياتهم ليس حوريات، وإنما زبيبات! ذلك أن الكلمة التي قرأها فقهاء القرآن طيلة قرون على أنها كلمة "حُور" قد تُفْهَم فهمًا أدقّ بمعنى "الزبيب الأبيض" (لا تضحكوا، ليس بإفراط على أية حال. فالزبيب في الجزيرة العربية خلال القرن السابع كان من الطيبات الثمينة بما فيه الكفاية لأن يُعْتَبَر طبقا من أطباق الجنة). ولكن أن يكون الزبيب هو المقصود بدلا من الحُور؟ حاشا لله. كيف يمكن للقرآن أن يرتكب مثل هذه الغلطة؟". وهذا الهراء قد نقلته من مقال نشرته النيويورك تايمز للصحفى ALEXANDER STILLE بتاريخ 2 مارس 2002م بعنوان "Radical New Views of Islam and the Origins of the Koran "، وقد بحثتُ عن المقال حتى وجدته فقرأته ورأيت أن أنقل للقراء الفقرة التى تهمنا فى هذا السياق، وهى الفقرة الخاصة بالخطإ الذى يزعم الأغبياء أنه وقع فى القرآن فجعل علماء المسلمين يفسّرون "حُور" الجَنّة بأنهن النساء الجميلات، على حين أن المعنى الصحيح هو الزبيب الأبيض. وحتى لو كان المعنى هو الزبيب الأبيض، أليس هذا بالله عليكم أفضل من قعر سَقَر، الذى سيُشْوَى فيه المضلِّلون الجهلة الكافرون، كلما نضجت جلودهم بدّلهم الله جلودا غيرها ليستمروا فى مقاساة العذاب؟ على أية حال هذا هو النص:(/26)
"For example, the famous passage about the virgins is based on the word hur, which is an adjective in the feminine plural meaning simply "white." Islamic tradition insists the term hur stands for "houri," which means virgin, but Mr. Luxenberg insists that this is a forced misreading of the text. In both ancient Aramaic and in at least one respected dictionary of early Arabic, hur means "white raisin."
Mr. Luxenberg has traced the passages dealing with paradise to a Christian text called Hymns of Paradise by a fourth-century author. Mr. Luxenberg said the word paradise was derived from the Aramaic word for garden and all the descriptions of paradise described it as a garden of flowing waters, abundant fruits and white raisins, a prized delicacy in the ancient Near East. In this context, white raisins, mentioned often as hur, Mr. Luxenberg said, makes more sense than a reward of sexual favors".
كما وجدتُ فى موقع "Beith Drasha Discussion Forum" مقالا بعنوان "Giving the Koran a history" للصحفى Jim Quilty يتناول ما زعمه بعض المستشرقين من وقوع تغييرات فى النص القرآنى وفهمه، وفيه إشارة إلى لوكسنبرج وما قاله عن الحُور والزبيب، وهذا نص كلامه:
"Another more contentious conclusion was picked up by journalists at the New York Times and the Guardian after Sept. 11, 2001, because it seems to have direct implications for the aspirations of those hijackers, and Muslim suicide bombers generally. It concerns the houris, the angels or virgins whom, it is written, await those who attain paradise. Luxenberg argues that “hur” are not virgins but grapes or raisins, specifically white grapes which were considered a great delicacy at the time. Luxenberg’s restored version of the houris lines thus reads: “We will let them (the blessed in Paradise) be refreshed with white (grapes), (like) jewels (of crystal).” It is a less sensual notion of everlasting life to be sure, but, given that the virgins have always been said to be female, a less patriarchal one as well".
وخلاصته أن قوله تعالى: "وحُورٌ عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون" (الواقعة/ 22) ينبغى أن يفسَّر على النحو التالى: "ومتَّعناهم بزبيب أبيض كأمثال جواهر الكريستال". ويعلق الصحفى شامتا متهكما بأن معنى الآية قد أصبح بكل تأكيد أقل شهوانية، لكنه أصبح كذلك أقل إساءة للنساء (طبعا أقل إساءة للنساء السحاقيات اللاتى لا يردن الرجال، بل يغلبهن السعار إلى الشاذات مثلهن من بنات جنسهن).(/27)
وهذا كله كلام سخيف لا طعم له فى دنيا العلم ولا ولون ولا رائحة، فمن الواضح أن المستشرق الذى ينقل عنه هذان الصحفيان إما جاهل أو يستبله، والعلم لا يصلح فيه هذا أو ذاك. كيف؟ إنه يفعل ما يفعله كثير من المستشرقين حين يلدغهم الثعبان إذا ما جاءت سيرة القرآن فيزعمون أن هذه اللفظة القرآنية مأخوذة من الآرامية أو السريانية أو العبرية. المهم أنها ليست عربية، والسلام. ومقطع الحق فى هذه القضية أنه كانت هناك عدة لغات فى منطقة الشرق الأوسط، بعضها لا يزال حيا مستعملا حتى الآن، قد لاحظ المستشرقون بينها شبها فى الألفاظ والصيغ والتراكيب، فاستنتجوا من ذلك أن هذه اللغات هى فى الأصل فروع من لغة أصلية اندثرت فى الزمان الأول هى اللغة السامية. أما الفروع المشار إليها فهى السومرية والأكادية والآشورية والعبرية والسريانية والآرامية والعربية... بل إن بعض هؤلاء المستشرقين أنفسهم يقولون إن العربية هى تلك اللغة السامية الأم التى تفرعت منها اللغات المذكورة. وعلى كل حال فسواء قلنا إن العربية ما هى إلا فرع من اللغة السامية أو إنها هى هذه اللغة السامية نفسها، فالنتيجة التى ينبغى أن ننتهى إليها أنه لا يصح القول دائما وعلى نحو آلى كما يفعل المستشرقون بأن هذه اللغة السامية أو تلك (الآرامية والعبرية والسريانية بالذات، وهى اللغات التى ترتبط بالكتاب المقدَّس وأتباعه) هى الأصل الذى استعارت منه العربيةُ اللفظَ الفُلاَنىّ كما يحلو لبعض المستشرقين أن يقولوا كلما أرادوا أن ينفوا الأصالة عن القرآن الكريم. فالمشكلة إذن عندهم هى القرآن لا العربية فى حد ذاتها. والآن فإن مادة "ح و ر" موجودة فى العربية على نطاق واسع، والمعنى المحورى فيها هو البياض والصفاء. و"الأحور" هو الأبيض الصافى، و"الحوراء" صفة تُطْلَق على المرأة الشديدة بياض العين وسوادها. ولتكن هذه الكلمة بعد ذلك فى الآرامية ما تكون، فإن معناها هناك لا يلزمنا فى شىء، إذ المهم ماذا تعنى عندنا نحن؟ ثم ها هى ذى آيات القرآن التى وردت فيها هذه الكلمة، وكلها تتحدث عن سعادة المؤمنين فى الجنة مع أزواجهم: "كذلك، وزوَّجناهم بحُورٍ عِين" (الدخان/ 54)، "متكئين على فُرُشٍ بطائنها من إستبرقٍ، وزوّجناهم بحُورٍ عِين"الطور/ 20)، "حُورٌ مقصوراتٌ فى الخيام" (الرحمن/ 73)، "وحُورٌ عِين* كأمثال اللؤلؤ المكنون" (الواقعة/ 22). ترى هل يمكن عاقلا أن يقول إن الكلمة هنا تعنى "الزبيب الأبيض"؟ فمتى كان الزبيب الأبيض أو الأحمر أو الأزرق (أو "المهبّب بهباب أسود" كقلوب هذا الصنف من المستشرقين وعقولهم) يتزوج به الرجال؟ هل رأيتم زبيبة تُزَفّ إلى رجل؟ يا ألطاف الله، أدركينى! إن الزبيبة هى هذا المستشرق الذى ليس له عندى إلا: "طول عمرك يا زبيبة، وانت فى... العود". ثم دَعُونا من "الحُور العين"، التى يصر المستشرق الجاهل الحقود أنها لا تعنى إلا "الزبيب الأبيض"، فماذا نحن فاعلون فى الآيات الأخرى التى تذكر "العُرُب الأتراب" و"قاصرات الطَّرْف اللاتى لم يَطْمِثْهُنّ إنسٌ من قبل ولا جانّ" و" المؤمنين الذين هم وأزواجهم فى ظلالٍ على الأرائك متكئون"...إلخ، أهذا كله زبيب أبيض؟ يا عالم، اختشوا! صحيح: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"! وهؤلاء قوم لا يستحون ولا يختشون! ومع هذا كله فلن نكتفى بما مضى، بل سنمضى خطوة أخرى ونورد هذه الأبيات من الشعر الجاهلى الذى لم يكن أصحابه ولا مستمعوه يعرفون شيئا عن الجنة ولا ضَحِكَ عليهم بن لادن ولا الدكتور الزهّار وأوهماهم أن فى الجنة سبعين حورية، أى سبعين امرأة جميلة لا سبعين زبيبة كما ينبغى أن يكون معنى الكلام، ومنها البيت الذى يقوله ابن إسرائيل اليهودى (اليهودى، لاحظ! فلا هو مسلم ولا حتى عربى، وهذا من أبلغ البراهين على كذب ما يقول المستشرق). والأبيات لابن إسرائيل وامرئ القيس وعاجبة الهمدانى وعَبِيد بن الأبرص وعمرو بن قميئة وسلامة بن جندل ومالك بن فهم الأزدى والأعسر الضَّبِّى والمرقِّش الأكبر وعرفجة بن جُنَادة على الترتيب:
وعَدَتْ بوصلٍ، والزمانُ iiيُسَوِّفُ
نَظَرَت إِلَيكَ بِعَينِ iiجازِئَةٍ
فَأَسْرَعتُ الإِيابَ بِخَيرِ iiحالٍ
وَإِذ هِيَ حَوراءُ المَدامِعِ iiطَفْلَةٌ
لَها عَينُ حَوْراءَ في رَوضَةٍ
وَعِندَنا قينَةٌ بَيضاءُ iiناعِمَةٌ
وَجعدةَ بنتَ حارثَة بن iiحَربٍ
حُورٍ نَواعِمِ قَد لَهَوتُ iiبها
وفيهنَّ حُورٌ كمثلِ iiالظِّباء
فرَوْضُ ثُوَيْرٍ عن يمينٍ iiرَويّةٍ ...
... حَورَاءُ ناظِرُها حُسَامٌ iiمُرهَفُ
حَوراءَ حانِيَةٍ عَلى iiطِفلِ
إِلى حَوراءَ خَرعَبَةٍ iiلَعوبِ
كَمِثلِ مَهاةٍ حُرَّةٍ أُمِّ فَرقَدِ
وَتَقْرُو مَعَ النَبْتِ أَرْطًى iiطِوالا
مِثلُ المَهاةِ مِنَ الحُورِ الخَراعيبِ
من الحُور المُحَبَّرةِ iiالحِسَانِ
وَشَفَيتُ من لذّاتِها iiنَفسي
تَقَرَّوْا بأعلى السليلِ iiالهَدالا
كأن لم ترَبَّعْه أوانسُ iiحُورُ(/28)
ومع ذلك كله هل يعتقد حقًّا هؤلاء الناس أن الشبان الاستشهاديين حين يضحّون بحياتهم إنما يضعون نُصْبَ أعينهم "الحُور العِين" (أى النساء الجميلات فعلا) بهذا المعنى الهلواسىّ كما يزعمون؟ أنا مثلا واحد من الذين يفكرون دائما فى الجنة، وكل ما أتطلع إليه هو الراحة الأبدية الشاملة والسعادة النقية المبرَّأة من الأكدار (وعلى رأس هذه الأكدار الاستعمار وجيوشه من المستشرقين والمبشرين والصحافيين الكاذبين المخادعين الضالين المضلين!). إننا لا نزعم النفور من مُتَع الجنة ومسرّاتها، لكننا نقول إن هذه المتع لا تكون حاضرة فى الذهن بالمعنى الذى يحاول هؤلاء المستشرقون أن يخيِّلوه لنا. ثم أليس مضحكا أن يسخر أولئك اللوطيون والسحاقيات من "الحُور العِين"؟ لكن ما المضحك فى الأمر، وهم ناس شَوَاذّ، والشَّوَاذّ لا يفهمون معنى الاستمتاع بالمتع الطاهرة النظيفة ولا يقدرون عليه؟ إنهم يريدونها جنة شاذة مثلهم! انظر مثلا كيف يتحدث الكتاب الذى يحمل اسم إرشاد مانجى عن فتوى أصدرتها منظمتان إنجليزيتان للُّوطيّين والسِّحاقيّات (ردًّا على ما قيل إنها فتوى كانت قد أفتت بها جماعة إسلامية فى بريطانيا بمحاكمة كاتب بريطانى ألف مسرحية صورت المسيح على أنه شاذ جنسى ووزعتها فى أنحاء المملكة المتحدة) وجاءت على النحو التالى: "ردا على الشيخ (...) أصدرت مجموعتان للدفاع عن حقوق المثليين، هما "Lesbian Avengers" و"Outrage"، "فتوى شاذة" ضده. وقيل إن الفتوى حكمت على (...) "بتعذيبه من خلال اللواط به دون توقف لمدة ألف عام". مسكين ذلك الشخص الذي سيتولى تعذيبه بهذه الطريقة"! بل مسكينة أنت وأمثالك من اللوطيين والسحاقيات، يا من لا تستطيعون أن تفهموا أو تستطعموا إلا لذائذ الخراء، فهنيئا لكم هذا الطبق الشهىّ الذى تجدون فيه بغيتكم كما تجد الديدانُ القذرةُ بغيتها فى الرِّمَم المنتنة! وبالمناسبة فبالإمكان الرد على هذه "الفتوى الشاذة" بفتوى أخرى فيها الدواء والشفاء، من داء الأُبْنَة العَيَاء، الذى حار فيه الأطباء، ألا وهى حَشْو دُبُر كل واحد منهم بقليل من مسحوق الشطة السودانى، وأنا زعيمٌ بأنهم سوف يتوبون بعدها توبة نصوحًا ويمشون كالأَلِف لا يلتفتون يمنة أو يسرة! والله عال يا لُمَامَة المجتمع! لم يبق إلا اللوطيون والسحاقيات يتهكمون على الكرام الأطهار بدلاً من أن يتوارَوْا خجلا ويتمنَّوْا أن تنشقّ الأرض وتبتلعهم!
ونختم كلامنا بما أشار إليه الكتاب مما يسمَّى: "قصة الغرانيق"، التى تتلخص فى الزعم بأن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : "اللات والعُزَّى ومَنَاة"، ثم حُذِفتا منها فيما بعد. يريدون القول بأن محمدا، عليه الصلاة والسلام، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه، ومن ثَمَّ أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله: " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" (النجم /19– 20) على النحو التالى: "إنهنّ الغرانيق العُلا* وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته، بل لم يكن نبيا بالمرة، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه. وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبة، مع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعضّ عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه!(/29)
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يعقل أن يبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقيب ذلك قوله تعالى: " ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟* تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى* إنْ هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل!
هذا، وقد أضفتُ طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرتُ فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة. كيف ذلك؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة "افتعل" . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة "، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تغنى، يملك".
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية: " قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟" (يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 1)، " أفرأيتم الماء الذى تشربون؟* أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟* لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" ( الواقعة/ 68– 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".(/30)
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف)+ ضمير (اسمها)+ اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله، كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبو / إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" الضمير بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً"، ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثَمَّ فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم"، وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعض المشركين ما سيأتى بعد ذلك فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/ 26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أسوق للقارئ مثالا على هذه الطريقة كنت من شهوده، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: "إن ما بينى وبينك عميق!"، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه!
ونختم كلامنا بنقل المقال التالى الذى كتبه أ. حسن السرّات فى جريدة الشعب بتاريخ الجمعة 13/ 5/ 2005 عن الشذوذ الجنسى وانتشاره كالوباء بين الأوربيين والكوارث الصحية والأخلاقية التى تترتب عليه، والقوم رغم ذلك لاهون وماضون فى إشعال الحرائق كما فعل نيرون الطاغية بروما. ونحن نؤمن إيمانا جازما أن ذلك سيكون من العوامل التى تؤدى إلى انهيار العالم الغربى رغم كل القوة والجبروت التى هو عليها، وإن كان هذا لا يعنى بالضرورة أننا نحن المسلمين نصلح بأوضاعنا الحالية لقيادة العالم بعده. على كل حال لنقرإ المقال ولنعتبر:
"الاشتراكيون الأوروبيون والشذوذ الجنسي"
"إسبانيا الكاثوليكية تبيح للشواذ الزواج وفرنسا تترقب"(/31)
صوت البرلمان الإسباني ذو الأغلبية الاشتراكية على مشروع قانون يعترف للشواذ الجنسيين بالزواج فيما بينهم وتبني الأطفال وتكوين أسرة، وبتصويت 183 نائبا برلمانيا لصالح مشروع القانون في مقابل 136 من الرافضين وامتناع 6 عن التصويت يوم الخميس 21 أبريل 2005، تكون إسبانيا على عهد الحكومة الاشتراكية بقيادة زاباتيرو أول حكومة أوروبية ستغير مدونتها المدنية لفتح المجال أمام زواج الشواذ وتبني الأطفال في الوقت الذي ما تزال حكومة دول أخرى في مرحلة نقاش وأخذ ورد. بينما اعترفت كل من هولندا وبلجيكا للشواذ بالزواج من دون تبني أطفال عام 2003.
وقد قوبل مشروع القانون بابتهاج جماعات الدفاع والضغط لصالح زواج الشواذ، إذ كان بعضها حاضرا يوم التصويت، كما أنها قامت بعدة مسيرات ومظاهرات احتجاجية وعمليات ضغط مستمرة، ومن المرتقب أن ينظموا مسيرة حاشدة للاحتفال بهذا "الانتصار التاريخي" في عهد الاشتراكيين في شهر يوليوز القادم، بعد أن كانوا ممنوعين من الظهور على عهد فرانكو ومن الاعتراف بالزواج على عهد خوسي ماريا أزنار زعيم الحزب الشعبي اليميني رئيس الحكومة السابقة.
وفي الجهة الأخرى، أعربت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية عن معارضتها الشديدة لهذا الاعتراف في بيان وصفت فيه هذا القانون بأنه "ظالم بشكل جذري وضار بالمصلحة العامة"، وأن "المصلحة العليا للأطفال تقتضي ألا يصنعوا في المختبرات ولا أن يتبناهم أشخاص من جنس واحد". وأضاف البيان أن "صناعة عملة مزورة هو إهدار لقيمة العملة الأصيلة، وأن مساواة زواج الشواذ بالزواج السوي إدخال لعنصر خطير لتفسخ النظام الاجتماعي".
وفي السياق ذاته، دعا الكاردينال ألفونسو لوبيز تروخييو، رئيس المجلس البابوي للأسرة، إلى معارضة هذا القانون، معتبرا أن من واجب المسيحيين أن يعارضوا هذا "القانون الظالم"، وصعد الكاردينال من لهجته وهو يجيب عن أسئلة صحيفة "كوريير ديلا سيرا" قائلا "على كل المسيحيين أن يكونوا مستعدين لدفع الثمن اللازم والغالي، ولو اقتضى ذلك ضياع فقدان مناصب عملهم.
وفي فرنسا، قررت الإدارة المركزية للحزب الاشتراكي دعم "حقوق" الشواذ في الزواج ومساواتهم في هذا مع الأسوياء جنسيا، ويشتغل الحزب، الذي توجد في داخل هيئاته هيئة تمثل الشواذ الاشتراكيين الأمميين، منذ مدة على إعداد مشروع قانون في هذا السياق ليتقدم به إلى البرلمان. وكان السكرتير الأول للحزب فرانسوا هولند قد صرح بأن "الزواج ينبغي أن يفتح للجميع". كما أن عمدة باريس الاشتراكي برتراند دولانوي لا يتردد في الكشف عن شذوذه والدفاع عن حق الشواذ في الزواج، وسجل ذلك في كتاب وقع بعض نسخه في المغرب أثناء زيارة له في مطلع سنة 2005. وقد سبق للزعيم الاشتراكي ليونيل جوسبان عندما كان في الحكم أن أباح الزواج المدني "الباكس" للشاذين، بينما يعارض اليمين الفرنسي والرئيس جاك شيراك ووزيره الأول رافاران زواج الشاذين وتبنيهم للأطفال.
في يوم الجمعة 4 يناير 2005، نشرت الجمعية الوطنية الفرنسية للوقاية من الأنكولوجيا والأديكتولوجيا نتائج أول تحقيق حول سبب تصاعد انتشار شرب الخمور وأخذ أقراص نفسية منشطة وعلاقة ذلك بالشذوذ الجنسي. وكشف التحقيق أن تناول الخمور أصبح مفرطا متجاوزا التردد الأسبوعي إلى التردد عدة مرات في اليوم لدى الفئة العمرية 18-25 سنة بين الشواذ (10 في المئة بين الشواذ في مقابل 3 في المئة لدى عامة السكان). ولا يتوقف الأمر عند تناول الخمور ولكن يتعزز ذلك بتناول الأقراص النفسية المنشطة والمخدرات بمختلف أنواعها مما يعتبر دلالة قوية على درجة الاضطراب والانهيار النفسي والاجتماعي الذي تعيشه هذه الفئة. كما أن دراسات كندية أثبتت ارتفاع نسبة الانتحار بين الشاذين الكنديين والأمريكيين.
وبالإضافة إلى انتشار السيدا بين الشواذ وعودة الأمراض التنقلة جنسيا، كشفت آخر الأخبار الطبية عن ظهور مرض جلدي متنقل جديد بين الشواذ (ل.جي.في أو مرض نيكولا-فافر)، وقد سجلت -منذ يناير 2004- 142 حالة في فرنسا و136 في هولندا وكذلك في ألمانيا والمملكة المتحدة وإسبانيا.
غير أن أخطر انزلاق ينحدر إليه "المناضلون" الشواذ هو الميل الجنسي للأطفال (البيدوفيليا) وسعيهم إلى تطبيعها وممارستها والدفاع عنها، وقد عرف في تاريخ أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، عدة كتاب وزعماء من اليسار ممن دعوا إلى الاعتراف بالبيدوفيليا و"التسامح" معها. وتعتبر حالة عمدة مدينة بريم مايكل إنجلمان (35 سنة) عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة جيرهار شرودر ورئيس فيدرالية الاشتراكيين الشواذ حالة نموذجية إذ ضبط متلبسا بالتعاطي للبيدوفيليا مما دفعه إلى تقديم استقالته.(/32)
في فرنسا دائما يدوراليوم نقاش واسع حول حقوق المدرسين الشواذ في الظهور والخروج من الظل إلى واضحة النهار، ويتولى مطالبهم، بالإضافة إلى التنظيم الدولي للشاذين والسحاقيات، نقابات خاصة بهم، وقد شاركوا في مسيرات عيد الشغل تحت يافطات خاصة بهم.
يذكر أن الشواذ الجنسيين منظمون على الصعيد العالمي تنظيما محكما، ولهم جمعية دولية تتولى تمثيلهم والدفاع عنهم وعن السحاقيات من النساء، كما أن لهم قوى ولوبيات للضغط، ووسائل إعلامية معتبرة، ويستعدون حاليا لتنظيم مسيرة عالمية في دولة الكيان الصهيوني، موازاة مع مسيرات أخرى في مدن عالمية. وإذا كانوا قد استطاعوا الحصول على عدة "حقوق" في البلدان الغربية، فإن البلدان الإسلامية تمثل لهم قلاعا لم تفتح بعد في وجوههم للظهور العلني، ولديهم خطط خاصة بعدة دول الإسلامية للضغط عليها وتحطيم بعض القوانين المانعة لشذوذهم، ومنها تشكيل تنظيمات من الشواذ الجنسيين "المسلمين" حسب كل قطر، وتحريضهم ليكشفوا عن أنفسهم حتى إذا ما قمعتهم السلطات وأرجعتهم إلى منطقة الظل سارعت عدة جمعيات شاذة إلى تولي الدفاع عن "مظلوميتهم"، وقد عرف المغرب ومصر حالات مثل هذه تدخلت فيها منظمات دولية وإقليمية، بل وشخصيات سياسية من الخارج.
ومن الأساليب التي يستخدمها الشواذ للتغلغل إلى العالم الإسلامي الزعم بأن الدين الإسلامي لا يعارض الشذوذ الجنسي، والتصريخ بذلك على لسان شخصيات تقول إنها مسلمة مثلما وقع في إسبانيا في شهر أبريل 2005 حينما دعا "برادو" على موقعه الإلكتروني "ويب إسلام" إلى فتح حوار حول مسألة الشذوذ الجنسي في الإسلام. ولم يستبعد برادو إمكانية تزويج الشواذ من المسلمين في إسبانيا وفق القانون الذي يبيح زواج الشواذ في أسبانيا. كما استنكر برادو في حوار له مؤخرا مع مجلة "ديالوجار" الأسبانية ما أسماه "ملاحقة الشواذ في البلدان الإسلامية". موقف استنكرته الجمعيات الإسلامية الإسبانية كلها وطالبت بإقالته من منص(/33)
الاجتهادات الدعوية وسطوة التناغم
د. جمال بادي * 27/8/1425
11/10/2004
التناغم كلمة شاعرية ومفهوم أصيل وفعل حضاري في أصله ومقصده إذا كان تناغماً في الخير والنافع المفيد، إلا أنه إذا كان تناغماً في الشر أو الخطأ، أو سيطر وهيمن على الوعي ومورس بغلو وزاد عن حده الطبيعي المطلوب ولو كان في الخير؛ تعارض مع مفهوم الإحسان في العمل وإتقانه وتحول إلى عائق يمنع الرؤية الصحيحة للأشياء (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) [سورة ص: آية5]، واستغراب الممكن: (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب) [سورة هود: آية73)، بل ويمنع التفطن للخطأ (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) [سورة الأعراف: سورة 82].
كما أن الإفراط في التناغم الخيّر يكرِّس التبعية ويجذِّر الدعة والخمول ويتسبب في الرتابة والكمون والروتين فيحول دون التطور والارتقاء والإبداع في عموم الأحوال والظروف؛ فما بالك بزمن تجاوزت فيه قوة رياح التغييردرجة رياح الأعاصير، فجددت النوازل وأوجدت التحديات التي لم تعهد من ذي قبل!
والتناغم في الدعوة إلى الله تعالى كغيرها من الأعمال أمر مطلوب من حيث الأصل وفي الجملة كما مرّ التنويه عليه آنفاً، لكنه قد يتحوّل إلى عائق يخيم بثقله على الأداء والفعل الدعوي ولا سيما والدعوة تتعامل مع واقع وبيئات معاصرة تعصف بها رياح التغيير والتي ضعت أمامها أصناف العراقيل والتحديات.
ما المقصود بسطوة التناغم: إنه فعل يقع ويحدث عند توحد زوايا النظر، و عندما تضيق دوائر الاهتمام، وتحصر الأحكام، ويُحجّر الواسع، ويُصادر على المُخالِف، وعندما يُشجّع الموافِق، ويُطرب للمادح، ويُقرّب من اعتاد وأحسن هزّ الرأس وإن لم يقتنع، أو اعتمد التلقين وسيلة للتعلم ولو بدون فهم، ويُصفّق لمن أكمل الفراغ بالمتوقع، وعندما نهتز طرباً لمن كرّر المعهود، ونحسن الاستماع لما يعجبنا من الأقوال ونُعرض ونمتعض لما لا يروق لنا منها، ولسان حالنا في كل ذلك يقول: طوبى لمن قولب و سلّم للشيخ أو الجماعة وللفكر علّب ولم يقلّب.
وكلما كان طالب العلم أو الداعية أقل تحزباً وأكثر تحرراً من قيود المجاملة للآخرين، وأكثر جرأة على تجاوز الحدود والأطر الاجتهادية البشرية، كلما كان أكثر إبداعاً في العطاء، وهذا قد يعلل إبداعات بعض طلبة العلم والدعاة المعاصرين في أسلوب طرحهم ومعالجتهم للأمور، وحسن تخيرهم للموضوعات وعنونتها بما يهز الوجدان ويجذب العقول ويؤثر في القلوب؛ فاستجاب الكثيرون واهتدوا إلى سبيل الحق، لوصول الرسالة وانسجام المعاني القصدية، والتقائها مع المعاني الإدراكية فأدرك المستمع ما أراد المتكلم.
وكلما ازداد التحزب والإعجاب بالذات كلما ازدادت فرصة الإفراط في التناغم وقوة سطوته، حتى يتحول أحياناً إلى سيفٍ مُسلطٍ يُشاح به في وجه المخالف من صفوف الأتباع تحت مسميات عديدة تحتمي بالعاطفة أحياناً وتتذرع بالمنطق أخرى مما قد يكون كلمة حق أريد بها خطأً حماية التناغم نحو: أتريد تفريق الكلمة؟ أو هل نحن أفضل من قادتنا ومن سبقنا؟ أتريد أن تأتي بما لم يأت به الأوائل؟ ألا يسعك ما وسع غيرك؟ هل هذا وقت النقد والأعداء يتكالبون علينا؟ أو نحو قول القائل: إن الخلاف شرٌّ، والخير كل الخير في الوحدة والرأي الواحد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
وهذا السلوك السلبي المذكور يزيد بدوره التحزب ترسيخاً. فالتحزب داء عضال يؤدي إلى التناغم المفرط الذي يتحول بدوره إلى عامل يغذيه؛ فبين التحزب والتناغم المفرط تأثر وتأثير متبادل مما يزيد الأمر تعقيدا،ً بحيث يصعب على المتحزب التخلص من سطوة التناغم وتعدي مساره والخروج عن إطاره مهما حاول صاحبه وبذل من الجهد. ويزداد الأمر سوءًا مع المجاملة الأدبية وتعارض وتشاكل بعض القيم عند من أراد التخلص من سطوة التناغم لاصطدامه مع احترام الشيخ والأستاذ وسائر المحبين من الذين يتآلف معهم وتجمعه وإياهم المصالح والأهداف المشتركة.
وكثيراً ما يعلل هذا السلوك – أي التناغم المفرط – بمفهوم سيطر على التفكير الدعوي عهوداً وعقوداً من الزمن، ألا وهو المحافظة على وحدة الصف، والخوف عليه من التشتت، والأمر يبدو معكوساً عند التأمل؛ فما تشتت الصف وتفرق الكلمة إلا نتيجة السلطوية في الآراء والأحادية في النظرة والمواقف.
ومن أسباب سطوة التناغم -بالإضافة إلى ما سبق- ألفة الأشياء واعتياد المتكرر واستمراء السير على خطا الغير، وانشراح الصدر للروتين وللقديم المعهود من آليات العمل والتنفيذ.
ومن أسبابه أيضاً الحذر من الجديد، و الخوف من التغيير وهو عامل نفسي قهري.
وكان من نتائج سطوة التناغم في الآراء والاجتهادات الدعوية استمرار العمل الدعوي بآليات ومفاهيم ومفردات ووسائل وضعت منذ عقود تكاد أن تصل قرناً من الزمان للتعامل مع واقع جديد مغاير لذلك القديم من حيث التحديات والوقائع والظروف والواجبات وهو أمر عجيب حقاً ويبعث على الدهشة.(/1)
يقال: بضدها تتميز الأشياء؛ فعكس التناغم الاختلاف والتنوع، فلولا التنوع لما تعددت الآراء السائغة، ولما اختلفت مذاهب الفقه ولا مدارس اللغة ولا مناهج المفسرين ولا أدلة استنباط الأحكام، ولا تفاوتت الأحكام على الأحاديث ومقاييس نقدها، ولما خالف تلميذ أستاذه ولا قرين من أهل العلم قرينه؛ ولما اكتظت المكتبة الإسلامية بالأسفار والمجلدات النافعة التي أفادت منها الأجيال المتعاقبة ونهلت من رحيق عطائها على مرّ الأزمان، ولولا التنوع ما كان راجح ومرجوح، ولبطلت معظم الأعمال العلمية والرسائل الجامعية. إنه اختلاف العقول والمدارك وتباين زوايا النظر ودوائر الاهتمام ومناطق التركيز.
فما الحل إذاً؟
إنها الدعوة إلى التنوع المتناغم، والاختلاف مع الانسجام والتوحد. إنها الإنطلاقة والدعوة إلى التغيير والتطور والحث على الإبداع وتعليم مهاراته للنشء المسلم المعاصر، وتربية الأجيال الجديدة من الدعاة على أن تبدي رأيها بحرية وأن تتطلع وتعمل للتطوير والتحسين المستمر. وهو أمر لا يتم إلا بالتشجيع وتغيير الكثير من سلوكيات الدعاة وخاصة أصحاب الريادة والقيادة منهم وأهل الحل والعقد في ساحات العمل والعطاء. ومن أهم تلك السلوكيات التسامح مع من يخالفنا الرأي إذا كان رأيه سائغاً، والصبر على تعدد الرؤى، وإتاحة المجال لقبول التغيير وحفز الهمم على صعود القمم. كما لا يتم إلا بتوسيع الإدراك وتجاوز صور الأسر من العوائق الذهنية والعاطفية والاجتماعية والبيئية والثقافية المختلفة وهو أمر له مهاراته التي يجب تعلمها وتعليمها ونشرها في المجتمع عبر مؤسساته الثقافية والتعليمية كافة. عندئذٍ فلنبشر بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً ونجاحاً لاجتهاداتنا الدعوية.
* أستاذ مشارك بقسم الدراسات العامة بكلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزي(/2)
الاجتهاد بين الخطأ والإثم
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
1ـ تمهيد :
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجر ) [1]
ينصّ الحديث عن اجتهاد الحاكم . والحاكم هو الذي يحمل من التقوى والعلم بالكتاب والسنّة ما يؤهله للفصل في قضايا الناس . فإذا توافرت لديه مؤهلات الاجتهاد من إيمان وعلم يصبح عمله عبادة يؤجر عليها بأجَريْن من عند الله أو بأجر . يبيّن لنا الحديث أهميّة الاجتهاد في حياة الأمّة حين يكون عبادة خالصة لله . والحاكم يجتهد ويحكم فيما هو في حدود مسؤولياته واختصاصه وعلمه .
ولكن الاجتهاد ليس خاصّاً بالحاكم الذي يحكم بين الناس . فهو من حيث المبدأ عام في حياة المسلمين ، بل في حياة الناس عامة . فكل إِنسان تعرض له قضايا في حياته يضطر إلى أن يجتهد فيها برأيه ويمضي إلى تنفيذه ، ويتحمل نتائج ذلك في الدنيا والآخرة . ويشترك في ذلك الرجل والمرأة .
القاعدة الأولى هي أن المسلم مكلّف شرعاً في أن يطبّق منهاج الله في حياته كلها ، في حدود نشاطه ومسؤولياته ، وفي حدود وسعه الصادق الذي يحاسَب عليه بين يدي الله . فالمسلم مكلّف بأن يمارس منهاج الله ـ قرآناً وسنةً ولغة عربيّة ـ في بيته ، وفي تربية أولاده وتعامله مع زوجته وأرحامه وسائر الناس . والتاجر مكلف بأن يمارس منهاج الله في تجارته ، والموظف في وظيفته ، وهكذا تمتدّ هذه القاعدة الهامة في حياة المسلمين لتشمل جميع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 : أخرجه أحمد والشيخان والدارمي والنسائي وابن ماجه . وفي صحيح الجامع الصغير وزيارته [ رقم : 493 ] . أحمد : الفتح الرباني : 207 ، مسلم 30/6/1716 .
مستوياتهم من أعلاها إلى أدناها ، كلٌّ حسب وسعه الصادق وطاقته ، الوسع الذي سيحاسَبُ عليه ، سواءً أكان رجلاً أو امرأة ، كلٌّ في ميدانه ومسؤولياته .
والقاعدة الثانية هي أنَّ كُلَّ من يجتهد ، فإنه يجتهد في حدود مسؤولياته التي سيحاسَب عليها بين يدي الله ، وفي حدود وسعه وطاقته ، دون أن يتعَّدى ذلك إلى ما هو أوسع من قدرته ، وأبعد من مسؤولياته .
والقاعدة الثالثة هي أن الاجتهاد كله ، سواء أكان من الحاكم أم العالم أم الرجل في بيته ، أم المهندس في مسؤوليته ، أم التاجر أم الطبيب أم غير ذلك ، ليس متفلّتاً دون قواعد راسخة وشروط ملزمة . ليس الاجتهاد ساحة هوى ، يجتهد فيها المسلم حسب هواه ، ثمَّ يقول : اجتهدت فأخطأت ، أو يدافع عنه غيره فيقول : اجتهد صاحبنا فأخطأ فله أجر ، وقد يترتّب على الخطأ ظلم أو مصيبة أو فتنة ، يقترب فيه المسلم من الإثم والمعصية بدلاً من أن ينال الأجر والثواب . ذلك لأنه اتبع هواه ، وتفلّت من الشروط الأساسيّة التي يُلزمها الإسلام لكل من أراد الاجتهاد .
2ـ أهم الشروط الملزمة :
ونحاول أن نوجز أهم هذه الشروط الملزمة بما يلي:
أ ـ صدق النيِّة وإخلاصها لله :
فهذا شرط رئيس لقبول العمل عند الله ، وللاقتراب من رحمة الله وهدايته ، والابتعاد عن زلل الشيطان وغوايته . والنيّة لا يعلم حقيقتها إلا الله وحده ، وليس لنا نحن البشر إلا أن ندرس ظاهر الأمر أو القضيّة . فلا يكون ادعاء صدق النيّة مسوّغاً لقبول الخطأ ولو كان فادحاً ، ولا مسوّغاً لبراءة المخطئ وإسقاط المسؤولية . إنها مسؤوليّة المسلم نفسه أن يجاهد نفسه حتى تصدق نيّته .
ب ـ وضوح القضيّة وتوافر المعلومات وتكاملها ودقّتُها :
يجب أن يتحرّى المجتهد القضيّة دراسة ومعلومات وفهماً حتى يطمئن إلى أن الموضوع جليّ . فقد يُقدِّم أحدهم موضوعاً يتطلّب حلاً أو اجتهاداً ، وتكون المعلومات ناقصة أو غامضة ، أو لا تكون صياغتها وافية ، أو تكون قابلة لتحمُّل أكثر من معنى . فالوضوح ودقة المعلومات وجلاء الموضوع الذي يراد الاجتهاد فيه ضرورة ، لتجنّب الزلل أو المراءاة أو اختلاط قضيّة بقضيّة أخرى ، وموضوع بموضوع آخر ، ولتجنُّبِ الارتجال وردود الفعل ، أو الظلم أو الانحراف .
ج ـ ردّ الأُمور إلى منهاج الله ، صغيرها وكبيرها :
لا يجوز الاجتهاد بالهوى فردّ القضيّة ، مهما كانت صغيرة أو كبيرة ، إلى منهاج الله فرض ، ولا يجوز الاجتهاد بغير هذا الأساس الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به . فلقد اعتاد بعض المسلمين اليوم أن يعتمدوا مذاهب غير منهاج الله ، مناهج تختلف جذريّاً عن منهاج الله ، مناهج تحمل الزخرف الذي يغري ، والزينة التي تجذب ، فيبحث فيها رؤية تدعم اجتهاداً باطلاً . وعند الرجوع إلى قول عالم من العلماء فلابد من معرفة دليله من الكتاب والسنّة ، والحجة التي اعتمد عليها لرأيه وفتواه .
إن منهاج الله وحده هو الذي تصلح قواعده لكل زمان ومكان ، لكل واقع وحادثة . إن هذه الظاهرة هي إحدى مظاهر الإعجاز في كتاب الله ، لا يمكن أن تتوافر في أي مصدر آخر .(/1)
لقد كان من أخطر مظاهر الفتنة في واقع المسلمين اليوم أن اعتمد بعضهم فكر الغرب أو الشرق المخالف للإسلام مخالفة واضحة صريحة ، أو احتجّ بضرورة الواقع ، أو ما يُسَمى بالمصلحة العامة ، أو دعم اتجاه فيه هوى ومصلحة دنيوية موهومة ، تاركاً لمنهاج الله أو جاهلاً به ، متجاوزاً قواعده وأسسه .
إن مصلحة الإنسان هي في كتاب الله . فلا يُعْقَل أن يكون هنالك مصلحة عامة للناس لم ينصَّ عليها منهاج الله ، أو لم يضع القواعد الثابتة المطلقة لبنائها . فالله سبحانه وتعالى يريد من عباده : أن يفكّروا ويتعلموا ويعرفوا مهمتهم التي خلقوا للوفاء بها ، ويعرفوا مسؤولياتهم ، ليوفوا بعهدهم مع الله .
د ـ دراسة منهاج الله وتدبّره وممارسته :
إن ردّ الأمور صغيرها وكبيرها إِلى منهاج الله ردّاً أميناً ، كلٌّ في نطاق حدوده ومسؤولياته ووسعه الصادق ، يفرض دراسة منهاج الله وتدبُّرَهُ وممارستَه في واقع الحياة . لذلك جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل هذا الأمر فريضّةً على كل مسلم ، الحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) [1]
جاء الحديث الشريف امتداداً للآيات الكريمة الكثيرة التي تلح على المسلم بطلب العلم ، حتى أصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم . وأساس العلم الذي يعنيه الحديث والآيات هو منهاج الله .
إن ردّ الأمور ، وبخاصة في حالة الاختلاف ، إلى الله ورسوله ، إلى الكتاب والسنة ، فرض كذلك فرضه الله وأمر به ، وجعله شرطاً من شروط الإيمان :
((...فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ))
[ النساء : 59 ]
لقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشبَّثون بهذه القاعدة العظيمة ، قاعدة تدبّر منهاج الله وممارسته ، وردّ الأمور إليه . ولم يكن بين أيديهم إلا الكتاب والسنة ، والتدريب على ممارستها في الواقع في مدرسة النبوّة الخاتمة .
لقد أكّد أئمة الإسلام على أهميّة هذه القواعد ، حتى قال بعضهم : لا تأخذوا بقولي حتى تعرفوا دليلي ، وقال بعضهم : كلنا نخطئ ونصيب إلا صاحب هذا القبر ، وقال آخرون : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ، وآخرون قالوا : إِذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت . وتواترت الأقوال على ذلك في صيغ مختلفة .
هـ ـ الاستفادة من جهود الأئمة الإعلام .
و ـ الشورى والمداولة كلما لزم الأمر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 : صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( 3913 ) .
3 ـ مسؤولية الأمة المسلمة :
إنها مسئوليّة الأمة المسلمة أن تحقِّق هذه القواعد في أَبنائها جميعهم ، حتى يأخذ كلٌّ قدر وسعه الصادق ، كلُّهم يأخذون ويتعلّمون ويتدرّبون ويمارسون ، ثمَّ تنطلق المواهب الإِيمانية والقدرات ، لتحتلَّ كلُّ موهبة منزلتها الأمينة ومسئوليتها الأوسع .
إنها مسئولية ممتدّة مع الزمن لا تسقط عن جيل ، ولا تسقط عن مسلم مكلَّفٍ مسئول . إن تحقيق هذه القواعد في واقع المسلمين مسئولية الدعاة والعلماء والمؤسسات والمستويات كلها ، إنها مسؤولية كل مسلم حين تتضافر الجهود وتلتقي على نهج عام يجمع القلوب والجهود . والجميع محاسَبون بين يدي الله يوم القيامة عن ذلك كله . وتختلف المسئوليّة من مستوى إلى مستوى ، ولكن الجميع مسئولون ومحاسبون . ويساعد على تحقيق ذلك وجود الصف المتراص والنهج الواحد المتبع .
والأمة الملتزمة بمنهاج الله تنمو فيها مواهب أبنائها الإيمانية حتى يأخذ كل وسع منزلته العادلة الأمينة . فإن تخلت الأمة عن التزام منهاج الله عصفت الأهواء بها ، وبرزت مواهب غير إيمانية ، ودُفَنتْ مواهبها الصادقة ، وغلبت الزينة والزخرف ، واضطربت الموازين والمقاييس .
والعلماء في الأمة هم أصحاب الموهبة الأغنى ، والعلم الذي يملؤها . ويبقى العلم مفتوحاً للجميع لينهل كلٌّ منه قدر وسعه وطاقته .
4ـ واقع المسلمين اليوم :
إلا أن هذه القواعد الأساسيّة في حياة المسلمين أخذت تضعف مع امتداد السنين ، وأخذت تختفي من كثير من المجتمعات الإسلاميّة ، سواء في حياة الأفراد أو الأسرة أو المجتمع . وهجر الملايين من المسلمين كتاب الله وجهلوا السنّة ، وجهِلوا اللُّغة العربيّة ، واستبدلت بعض الشعوب بها لغات أخرى ، وتسلّلت المذاهب الغربية المخالفة للإسلام واتسع مداها مع ما يصاحبها من إعلام وجيوش وسلاح ، وزخرفٍ مغرٍ وزينة فاتنة .(/2)
وانحصر " العلم " بالكتاب والسنّة واللغة العربيّة في أعداد محدودة من الشيوخ والعلماء ، بدلاً من أن يكون ممتّداً في الأُمة كلها ، يستوعب طاقاتها ويطلق مواهبها ، لتجول في آفاق الكون تحمل رسالة الله إلى الناس كافة ، وتبني العُدَّة التي أمرها الله أن تُبنى ، وانصرفت مواهب كثيرة في الأمّة إلى المذاهب الغربية الفكريّة والأدبية والعلوم الإنسَانيّة ، جاهلة بمنهاج الله ، غير آخذة بالعلوم التطبيقيّة والصناعية ومصادر القوة الماديّة . ودار الخلاف والجدل والصراع بين طاقات الأمة حتى تمزّقت أقطاراً وشيعاً وأحزاباً ، وركن الكثيرون إِلى ما أخذوا يألفونه من جمود وغفوة وتبعيّة ذليلة غير واعية ، وعصبيات جاهليّة طاغية .
وكان من أول نتائج ذلك الهزائم المتتالية ، والهوان الممتد ، والضعف المكشوف والعجز الظاهر ، في أجواء من الفرقة والتُمزّق ، والصراع المخفيّ والظاهر ، وظهور العلمانيّة بأثوابها المختلفة وجنودها العاملين الباذلين .
والظاهرة المؤلمة في النفس أن هذا الواقع جعل كثيراً من النفوس تركن إلى الشكوى والحزن ، أو إلى الضجيج والصراخ ، وإلى الأماني والأحلام ، غارقة في سبات عميق وظلام شديد بدلاً من العمل المنهجيّ الجاد على أساس من منهاج الله .
إن كلَّ ذلك يمضي على قدر لله نافذ ، وقضاء حق ، وحكمة بالغة ، لا ظلم فيه أبداً ، فهو بما كسبت أيدينا . وتظل بذلك مسئوليتنا أن نعرف الخلل ونضع العلاج .
إنك تجد الرجل المسلم الذي نال أعلى الدرجات في علوم الدنيا ، يسأل العالم سؤالاً يجد إِجابته جليَّة في الكتاب والسنة ، لا يحتاج إلا إلى وقت قصير وجهد قليل ليتعلم ما يسأل عنه . ورضي الناس منه ذلك الجهل . ولم يعد يشعر هو بالحرج من جهله ، ولا يجد الحافز الذي يدفعه إلى معالجة جهله . ويمكن أن يُقبلَ الجهل من المسلم بدينه بصورة مؤقتة ، إِذا نهض بعزم ليتلافى هذا العيب حتى لا يصبح جهله إِثماً ومعصية .
5ـ خطوات على طريق النجاة :
إن أول خطوة للنجاة هي الوقفة الإيمانيّة لننظر في أنفسنا ، ونقوّم أعمالنا ومسيرتنا ، ونحدِّد أخطاءنا وعيوبنا ، ثمّ نتوب إلى الله توبة نصوحاً ، لنبدأ مسيرة جديدة على نور من الله وهداية وتسديد ، تاركين الكبر والغرور .
فكما أنَّ الخلل في واقع المسلمين ابتدأ بهجر منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ ، فإن الخطوة الواجبة اليوم هي تكاتف الجهود على إِعادة الأمة إلى كتاب ربِّها وسنّة نبيّها محمد صلى الله عليه وسلم وإلى اللغة العربيّة الصحيحة .
ولكن هذه العودة كيف تكون ؟ ! ربما تفشل العودة أو محاولة العودة ما دامت شعاراً يتغنّى به الجميع ، ومن خلاله تُرتَكب المخالفات والانحرافات والآثام والمعاصي .
إن محاولة هذه العودة الصادقة تفرض أن تلتقي عزائم المؤمنين المتقين الصادقين ومواهبهم وطاقاتهم في لقاء ربّاني ، في لقاء المؤمنين . ولكن اللقاء وحده قد يصبح شعاراً وتموت فيه الجهود ، إلا إذا كان اللقاء على نهج مفصّل وخطّة مدروسة واعية ، وقلوب مفتوحة ، ونيّات خالصة لله ، وعزائم مشدودة .
إنه النهج الذي يرسم الطريق ويحدد الدرب ومراحله وأهدافه ، وكل عناصره ، حتى يستقيم على أمر الله ، وحتى يكون هو الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه ، والذي بيّنه وفصُّله في المنهاج الرباني ، بياناً وتفصيلاً لا يدع لأحد عذراً في التّخلُّف أو ادعاء الحيرة أو العجز ، حتى تجتمع عليه القلوب المؤمنة .
إِنه النهج الذي تضعه الطاقة البشريّة المؤمنة ، النهج الذي ينبع من قواعد الإيمان والتوحيد ومنهاج الله ومدرسة النبوّة الخاتمة ، ليكون القاعدة الحقيقية للقاء المؤمنين ، لقاء القلوب المتجهة إلى الله ، إلى الدار الآخرة ، لقاء الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا .
لا يُعقَل أن يُغْلِق الله سبحانه وتعالى باب النجاة أمام المؤمنين . فباب النجاة مفتوح أبداً ، وإنما على المؤمنين أن يستوفوا شروط دخوله ، وشروط دخوله جليّة مفصّلة لا غموض فيها . فرحمة الله بعباده أوسع من أن تجعل هذه الشروط غامضة غير جليّة أو غير مفصَّلة .
6ـ موجز أهم شروط الاجتهاد :
أ ـ صفاء الإيمان والتوحيد ، وصدق النيّة وإخلاصها لله سبحانه وتعالى ،
وتجرّدها من الهوى ، وتحرُّرها من ضغوط الواقع كلها حتى لا
ينحرف المسلم عن الحق .
ب ـ العلم بمنهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ في صحبة منهجيّة ،
صحبة عمر وحياة ، مع خبرة نامية في الممارسة والتطبيق .
ج ـ فهم الواقع من خلال منهاج الله ، وردّ الأُمور إليه ، ففهم الواقع
يختلف حين ينظر إليه من منهاج الله عن فهمه حين ينظر إليه من
خلال العلمانيّة المادية .
د ـ جمع النصوص من الكتاب والسنة التي تتعلّق بالموضوع أو
القضية ، دون الاعتماد على جزء وإهمال جزء .
هـ ـ معرفة المسلم لحدوده ومسئولياته والوفاء بها في نطاق وسعه
الصادق .
و ـ الاستعانة بما صدر عن الأئمة مع معرفة دليلهم .
ز ـ الشورى كلما لزم الأمر .(/3)
7 ـ موجز القضايا على طريق النجاة :
أ ـ الوقفة الإيمانيّة وتحديد الأخطاء والعيوب ونواحي الخلل ، والبدء
بالمعالجة المنهجية .
ب ـ التوبة النَّصوح إلى الله سبحانه وتعالى .
ج ـ النهج المفصّل الذي يعود به الناس إلى منهاج الله تدبّراً وممارسة ،
حتى لا تظل العودة شعاراً فحسب ، وإنما هي نهج عمليّ تطبيقي .
د ـ أن يكون النهج المفصّل قاعدة للقاء المؤمنين و إزالة الفرقة
والتمزّق ، حين يكون النهج نابعاً من منهاج الله مرتبطاً به ملبِّياً
لحاجة الواقع ، معالجاً لأهم مشكلاته ، ليمثّل الصراط المستقيم
الذي أمرنا الله باتباعه ، فيكون الدرب جليّاً والأهداف جليّة
والوسائل جليّة .
ولو رجعنا إلى مدرسة النبوة الخاتمة لوجدنا هذه القواعد حيّة يتعلمها الصحابة ويمارسونها ، حتى كوّنت نهجاً نابعاً من الكتاب والسنة ، وكوّنت السنّةَ التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعضّ عليها بالنواجذ ، حتى يتعلَّم كلُّ مسلم كيف يفكِّر على نهج إيماني ، وكيف يتعلَّم ، وكيف يلتزم ويوفي بالعهد والأمانة .
الرياض
17/5/1423هـ
27/7/2002م(/4)
الاحتجاج على القدر
الشيخ عبد الله بن جبرين
ما حكم استخدام بعض العبارات التي قد يقولها أحد والدي الطفل المعاق للاحتجاج على هذا القدر؟
لا مانع من الكلام مع الطفل المعاق بما يخفف عنه الحزن، وكذلك لا بأس بأن يتكلم أحدهما مع الناس بمثل قوله: هذا قدر الله وخلقه، ولا راد لما قضى، وقد رضينا بتدبيره، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقدر الله وما شاء فعل فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يخلق ما يشاء، فاوت بين خلقه لتعرف نعمته، ويشكره المعافون، ويعترفوا بفضله عليهم، فأبواه قد يصيبهما الحزن عندما يولد هذا المعوق الناقص في الخلقة، ولكن يجب الرضاء، بقضاء الله - تعالى - وقدره، ويحرم الاعتراض على الله في خلقه، والتسخط لعطائه، ويصبر ويحتسب، ليحصل له الأجر الكبير على تحمله للأذى والتعب والمشقة، وفي ذلك خير كثير.
شبهات في الكسب:
أعمل في مجال التعقيب في إحدى الدوائر، وقد طلب مني أحد الإخوة ممن يعملون معنا أن أجدد له الإقامة، بدلاً من إعطاء الإقامة إلى مكتب الخدمات لتجديدها، وأن آخذ المبلغ الذي يأخذه المكتب. فهل يجوز لي ذلك؟ وما الحكم أيضًا لو أعطاني أحد الموظفين مكافأة لإنجازي بعض الأعمال له؟
يجوز لك أخذ الأجرة التي يبذلها لك مقابل تعبك وتعقيبك، ولكن بشرط ألا يعوقك تجديد إقامته عن عملك الرسمي الذي تتقاضى عليه مرتبًا من قبل الدائرة، وعلى هذا فلا مانع من تجديد الإقامات ونحوها، ويكون ما يُعطى لك مقابل تعبك، بدلاً من أن يعطوه للمكاتب.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:(/1)
الاحتراف الرياضي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/الترفيه والألعاب
التاريخ ... 21/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما حكم الدين في ممارسة لعبة كرة القدم؟ وما الحكم في الأموال المكتسبة منها؟ أرجو أن تفيدونا بالأدلة الشرعية وبالتفصيل، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الأصل في الرياضة في الإسلام الحل والجواز؛ لأنها تقوية للجسم وإعداد للقوة في سبيل الله قال –صلى الله عليه وسلم-:"لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" ابن ماجة (2878)، والنسائي (3585)، وأحمد (10138)، وسابق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة مرتين مرة وهي خفيفة شابة سبقته ومرة وهي ثقيلة بعد أن أثقلها اللحم فسبقها فقال لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"يا عائشة هذه بتلك" انظر الإرواء
(1502) وصارع ركانة الأعرابي فصرعه فأسلم انظر الإرواء (1503)، ومن أنواع الرياضة كرة القدم وهي جائزة شرعاً؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر سواء كان لعبها عفوياً تقليدياً أو كان منتظماً مقنناً، غير أن الناظر في لعبة كرة القدم اليوم يلاحظ أنها تشتمل عل محظورات ومخالفات شرعية مثل كشف الفخذين وهما عورة –وهي بين الشباب أشد- وذلك لحديث "يا علي غط فخذك فإن الفخذ عورة" انظر الإرواء (269)، ومنها إثارة الفرقة والشحناء والتحزبات المقيتة التي قد تصل إلى القطيعة بين الشباب المسلم بل ربما بين الإخوة الأشقاء في البيت الواحد. وقد يتعدى ذلك إلى الاعتداء الجسدي والأخلاقي، وأخطر من ذلك كله أن هذه اللعبة –كرة القدم- قد شغلت الناس وألهتهم عن ذكر الله وعن الصلاة وكل ما ينفعهم، وقد فطن اليهود إلى هذه المعاني السيئة والخطيرة فعملوا على نشرها وشغل الناس بها ففي أحد بروتكولات حكماء صهيون (يجب أن نشغل الأميين _وهم ما عدا اليهود- بالرياضة والفن) فانتشرت بين الناس أنواع القنوات الهابطة ورياضة كرة القدم التي سلبت عقول الكثيرين حتى أصبحت غاية وهدفاً يجتمع الناس ويتفرقون عليها ولعل من التنبيه إلى أن تقوية الجسم بكرة القدم لا يستفيد منها غير اللاعبين في الميدان والذين لا يتجاوز عددهم (12) لاعباً أما الآلاف المؤلفة من المشاهدين والمشجعين فلا يستفيدون شيئاً بل يخسرون كثيراً، وإن تقوت أجسام أولئك اللاعبين واتسمت بالخفة والرشاقة لكنهم لم يتحملوا شيئاً من التعب في غيرها، وإن قل وما ذكره بعض السلف كشيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى من "أن لعب الكرة فيه تدريب على الجهاد والكر والفر" فلا أعتقد بحال إن هذا ينطبق على لعب كرة القدم اليوم لا من بعيد ولا من قريب وذلك لأن مفهوم الجهاد في قوانين كرة القدم غائب ومغيب علاوة على أن وسائل الجهاد لا تعتمد على الأقدام والأسلحة التقليدية، ولو قيل إن لعب كرة القدم ومشاهدتها نوع من التسلية المباحة لقلنا نعم ولكن التسلية تكون بقدر محدود في حياة المسلم وأوقاته فهي أي التسلية أشبه بالملح مع الطعام في الكم. أما أن تطغى التسلية على الواجبات والوسيلة على الهدف فكما لو طغى الملح على الطعام وهذا غير مقبول في الشرع والعقل على السواء.
أما ما ينفق على لعب كرة القدم من أموال تعطى للفريق الفائز فهي جائزة شرعاً إن كيفت وخرجت على باب الجعالة في الفقه كأنه قيل: من فاز من الفريقين فله كذا وكذا من المال.
كما يقول الفقهاء من دلني على طبيب مختص يعالج مرضي فله عندي كذا ومن وجد سيارتي المفقودة فله عندي كذا، أو تخرج على باب المسابقة على الأقدام فيجوز أخذ العوض حينئذ وإن كان في أخذ مثل هذا خلاف بين العلماء غير أن الراجح جوازه كما حققه ابن القيم الجوزية في كتابه (الفروسية) وهو مذهب الإمام الشافعي ورواية لأحمد ويخرج الحديث السابق "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" سبق تخريجه، يأتي بحمل النفي فيه على نفي الكمال لا الحقيقة كحديث "لا ربا إلا في النسيئة" البخاري (2179)، ومسلم (1596)، أي لا ربا تام كامل إلا في النسيئة بدليل وجود ربا الفضل المحرم، وكحديث "لا صلاة وهو يدافعه الأخبثان" مسلم (560)، أي لا صلاة تامة إذ من المعلوم أن صلاة من هذه حاله صحيحة جائزة وإن نقص أجرها لعدم الخشوع التام.(/1)
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
عبد المعزّ الحصري
قال تعالى:
(أم لم يَعرفوا رسولَهم فهم له منكرون) المؤمنون – 69 -
وقال تعالى:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
وقال ابن عباس في تفسيرها: أي ليعرفوني.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، لذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مشروع في الإسلام، وأدلة جواز شروعه هي:
1 – يقول الإمام ابن تيمية: (من اقتضاء الصراط المستقيم، تعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجرٌ عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
2 – يقول الإمام عبد الحليم محمود: (الاحتفال بالمولد النبوي سنة حسنة من السنن التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها) من كتاب الفتاوى.
استنبط العلماء وجه مشروعية المولد مما يلي:
1- سُئل صلى الله عليه وسلم عن صوم الاثنين فقال: ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ) رواه مسلم أو كما قال صلى الله عليه وسلم وبارك.
فجعل ولادته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين سبباً في صومه.
سُئل ابن حجر فأجاب بالذي ثبت بالصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصوم شكراً لله تعالى.
2– فيستفاد من فعل الشكر لله على ما مَنّ به في يوم من إسداء نعمةٍ أو رفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.
أدلة جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:
1- لقد انتفع الكافر بفرحه بمولده صلى الله عليه وسلم؛ وقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وما أجدرنا أن نعتق أنفسنا كل يوم بالتوبة النصوح ولا سيما إذا صادفت يوم مولده صلى الله عليه وسلم.
2 – أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده بصوم الاثنين قال صلى الله عليه وسلم: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" رواه مسلم فكل من يصوم الاثنين يشارك فيها صومه بصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً يوم مولده، ومقتدياً بشريعته ومنهاجه.
3 – الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن الكريم (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) والرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم رحمة مرسلة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين).
4 – إن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً.
5 – محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلوبة شرعاً فلا بد من قراءة سيرته ومعرفته واتباعه فإن الشيء الفارغ يُملأ بما يُملأ عليه فعلينا تعليم أطفالنا حب الرسول صلى الله عليه وسلم.
6 – التعرض لمكافأته صلى الله عليه وسلم بأداء ما يجب علينا بيانه من أوصافه وشمائله فلقد كان صلى الله عليه وسلم يرضى عمن مدحه فكيف بمن يجمع شمائله ويقتدي به وهذا من استجلاب محبته صلى الله عليه وسلم.
7 – إن الاجتماع يوم ميلاده وإدخال السرور على الناس والذكر وإكرام الفقراء من مظاهر تعظيمه والابتهاج به فلقد عظم الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ شعره والتبرك به وبآثاره.
8 – يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة (وفيه خلق آدم) تشريف الزمان بولادة نبي، فكيف باليوم الذي ولد فيه أشرف وسيد ولد آدم.
9 – إن يوم مولده صلى الله عليه استحسنه المسلمون المحبون للرسول صلى الله عليه وسلم والذين فهموا صومه يوم الاثنين منه صلى الله عليه وسلم لأنه ولد فيه.
10 – إن الله تعالى قص قصص الأنبياء عليهم السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ليثبت فؤاده ونحن بحاجة إلى تثبيت قلوبنا بذكره صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ودراسة سيرته. قال تعالى: (كلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك).
11 – ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول بدعة بل قد يكون واجباً كالرد على أهل الزيغ وتعليم النحو (وطبع المصاحف وترجمة كلمات المصحف إلى اللغات الإنجليزية والألمانية أو الأوردو والباكستانية، هذا من قول عبد المعز أحمد الحصري).
12 – ليس كل بدعة محرمة ولو كان ذلك لحرم جمع القرآن الكريم من قبل أبي بكر وعمر وزيد رضي الله عنهم ولحرم جمع عمر الناس على صلاة التراويح.
13 – قال الإمام الشافعي (ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمود). من كتاب السنة بين الإفراط والتفريط.
قال عبد المعز أحمد الحصري غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين:(/1)
إن الناس في يومنا أنكروا رسولهم بعدم معرفتهم به فترى المثقفين ربما أحدهم لا يحفظ خمسة أحاديث صحيحة ونحن بحاجة في كل دقيقة إلى اتباع سنته ومعرفة صفاته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، حتى يحبنا الله، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..) من يطع الرسول فقد أطاع الله، لقد خلّد صلى الله عليه وسلم ذكرى مولده بأن صام يوم الاثنين فرحاً بقصة الإيجاد وشكراً للمولى.
والتصديق على دعوانا بمحبة الله واستجلاب محبة الله لنا هو باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله..).
إن أعظم وأشرف خلق الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الصراط المستقيم الأقرب للوصول إلى الله.
إن المحبَّ اللبيب لا يحتاج إلى دليل لمولده صلى الله عليه وسلم، بل تكفيه الإشارة بما ورد في صحيح البخاري ومسلم سابقاً.
فكل ما يحصل أثناء الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم مما أذن به الشرع فهو مطلوب شرعاً لأن ما أدى إلى مطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً ومحمود.. (راجع قول الشافعي وابن تيمية والإمام عبد الحليم محمود سابقاً) انتهى كلامه.
قال تعالى (لتعزّروه وتوقروه) أي تعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً). وقال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أي وحياتك ومعيشتك، قالوا قسم (لعمرك) من أعظم الأقسام وفي هذا القدر الكفاية لمن أراد الهداية، قالوا إن مشيتنا على الصراط على صورة مشينا هنا على الشريعة المحمدية، وقالوا إذا أردت معرفة مقامك عند الله فاعرف أين أقامك، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ساهم في نشرها وجزاك الله خيراً.(/2)
الاحتفال بالمولد النبوي بين الاتباع والابتداع
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
أضحى من الواجب على أهل العلم وطلابه ـ مع إطلالة كل عام هجري ـ أن يذكّروا إخوانهم المسلمين بأمر لا يُعين عليه إلا الله، فقد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ألا وهو الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول من كل عام. وذلك لأن الذكرى واجبة، نفعت أم لم تنفع، معذرةً إلى الرب ولعلهم أو لعل بعضهم يتقون.
وقبل الشروع في المقصود،وهو بيان حكم الشرع في هذا العمل، هناك ثلاث مقدمات ممهدات لابد من التنبيه عليها، والإشارة إليها، لصلتهما الوثيقة باستيعاب حكم الشرع في هذا العمل، فأقول وبالله التوفيق:
المقدمة الأولى:
ما حقيقة محبة الله عز وجل ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما علامة ذلك؟
حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان وبغضه كفر ونفاق، بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه.
لقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقة هذه المحبة ودل على علامتها، حيث قال: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)[آل عمران: 31] سواء كان سبب نزولها كما قال ابن جرير يرحمه الله: "أنزلت في قوم قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا؛ فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن كنتم صادقين فيما تقولون؛ فاتبعوني، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك، أو كانت نزلت في وفد نجران ـ كما ذكر ـ الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تقولون في عيسى من عظيم القول، إنما تقولونه تعظيماً لله وحباً له، فاتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم" [تفسير الطبري بتحقيق محمود و أحمد شاكر:6/322-325].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره [تيسير الكريم الرحمن: 105]: "هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته، وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما".
وقال الشيخ أحمد شاكر [عمدة التفسير: 1/241]: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ)) [متفق عليه]. ولهذا قال: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب إنما الشأن أن تُحَب".
فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما. فالحب الوجداني وحده لا يكفي، على الرغم من أهميته، ما لم يكن مقروناً بحب الاتباع والانقياد والطاعة له صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي. إذ لو كان وحده كافياً نافعاً لنفع أبا لهب الذي أعتق جاريته ثويبة لأنها بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم، ولنفع أبا طالب في الخروج من النار، فقد كان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حامياً له، بلهَ مادحاً له ولدينه، ومن العجيب الغريب قصر البعض ـ هدانا الله وإياهم سبل السلام ـ محبته صلى الله عليه وسلم على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين القصائد والمدائح، التي لا تخلو غالباً من الغلوّ إن سلمت من الشركيات، والرقص والتواجد، وإحياء الحوليات، والاحتفال بالموالد، بل لقد بلغ الغرور ببعضهم أن يحكم على من لا يقرّهم على ذلك، ويشاركهم فيه، ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم!! وهذا لعمر الله من الافتراء المبين، والظلم المشين، والغرور اللئيم، حيث قلبوا الموازين، وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين، حيث جعلوا البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً.
المقدمة الثانية:
هل هناك بدعة حسنة محمودة، وأخرى سيئة مذمومة؟
اعلم أخي الحبيب، وفقني الله وإياك، أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي [انظر الاعتصام للشاطبي: 1/287.]:
(1) بدعة لغوية:
وهي كل أمر حادث، سواء كان في العادات أو العبادات، نحو اختراع الساعة، والسيارة، ومُكبّر الصوت، وما شابه ذلك، وهي من المباحات.
(2) بدعة شرعية:
وهي كل أمر مُحدث ليس له أصل في الدّين يُراد به التقرب إلى الله عز وجل، فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور وما شابه ذلك.
(3) بدعة إضافية:(/1)
وهي أن يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه عُمِل بكيفية غير مشروعة، نحو: الذكر بالاسم المفرد "الله، الله"، أو"هو، هو"، وما شابه ذلك.
والذي يعنينا هنا هو البدعة الشرعية، و هل فيها حسن وقبيح؟
اعلم ـ أخي الموفّق إلى كل خير ـ أن البدع كلها سيئة وباطل، وإن كانت متفاوتة في السوء، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه. وكلها مردودة على صاحبها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طرفاً من الأدلة على ذلك:
حديث عائشة في الصحيح ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [متفق عليه]، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) فالمخترِع للبدعة والمقلّد له فيها سواء، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: ((... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة)) [أخرجه أهل السنن: أبو داود رقم 4607، والترمذي رقم 2678، وقال: حديث حسن صحيح].
وكلمة ((كل بدعة)) نكرة في صيغة العموم تشمل كل بدعة صغيرة كانت أم كبيرة، جليلة كانت أم حقيرة، سواء كانت قولية، أو عملية، أو اعتقادية.
حديث جابر في خطبته صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) [أخرجه مسلم: رقم 867].
قوله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، فالدين قد تمّ وكمُل، وماذا بعد التمام والكمال إلا النقص والخسران؟
ولهذا قال الإمام مالك:"ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وقال: "من زعم أن الدين لم يكتمل فقد زعم أن محمداً خان الرسالة".
ويتشبث البعض في تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة ببعض الشبه، ويتذرع ببعض الآثار والأقوال نشير إليها مع دحضها، نحو:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتدع بدعة ضلالة)) أُخِذ منه بمفهوم المخالفة الذي يقول به بعض الأصوليين أن هناك بدعة حسنة. وكلمة ضلالة هنا لا مفهوم لها كما لا مفهوم لكلمة (أضعافاً مضاعفة) في قوله تعالى: (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) الآية. قال الإمام الشاطبي رحمه الله رادّاً لهذه الشبهة ودافعاً لها: "... الإضافة فيه لا تفيد مفهوماً وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ـ فإن الدليل دلّ على تعطيله في هذا الموضع كما دلّ الدليل على تحريم قليل الربا وكثيره، فالضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً" [الاعتصام للشاطبي: 1/185].
قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
فقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عندما حثَّ على الصدقة المشروعة على بعض المجهدين من الأعراب، فسارع إلى ذلك أحد الأنصار فجاء بصرة كادت يده تعجز عنها بل عجزت ـ كما في الحديث ـ فتتابع الناس على الصدقة حين رأوه، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: ((من سنّ في الإسلام..)) الحديث.
فمراد الحديث: من أحيى في الإسلام سنة قد أميتت، لا أن يُحدث فيه أمراً جديداً لا أصل له.
قول عمر رضي الله عنه عندما جمع الناس في صلاة القيام على أُبَيِّ بن كعب وقد كانوا يصلونها جماعات متفرقة، فدخل المسجد و سره اجتماعهم: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة هي".
فالمراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لا الشرعية، إذ صلاة القيام جماعة لها أصل في السنة، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين أو ثلاثة وعندما اجتمعوا له بعد ذلك لم يخرج عليهم خشية أن تُفرض عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التخفيف على الأمة، بجانب أنها من عملِ عمر وعملُ عمر سنة يُقتدى بها.
زعم بعض أهل العلم ـ القرافي وابن الصلاح رحمهما الله ـ أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وهذا وهْمٌ منهما وممن قلدهما والله يتجاوز عنا وعنهما، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم مهما كانت منزلة القائل.
المقدمة الثالثة:(/2)
هناك خلط بين البدع والمصالح المرسلة، والمصالح المرسلة هي كل ما جلب خيراً أو دفع ضراً، ولم يرد في الشرع ما يثبته أو ينفيه، مع موافقته لمقاصد الشرع وحاجة الناس الماسة له، نحو كتابة القرآن وجمعه في مصحف في عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، وكتابة العلم، وتدوين السنة، واتخاذ المحراب، وسنّ عثمان للأذان الأول للجمعة عندما توسعت المدينة وكَثُر الناس بها، ونحو ذلك. فهل هناك من علاقة بين هذه المصالح المرسلة من ناحية وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين، نحو الاحتفال بالموالد والحوليات وما شاكلها؟ هل هناك من علاقة بين ما فعله السلف الصالح واقتضته المصلحة وحتّمته الحاجة، وبين ابتداع الخلَف لأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلَم من الأعلام؟! اللهم لا وألف لا.
متى ظهرت بدعة الاحتفال بالمولد؟ ومن أول من أحدثها؟
لم تظهر هذه البدعة إلا في نهاية الربع الأول من القرن السابع الهجري، أي في عام 625هـ، على يد الملك المظفّر أبي سعيد كوكبري صاحب إربل سامحه الله، المتوفى 630هـ، أحد حكام المماليك.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه [البداية والنهاية: 13/136-137]: "وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً... وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه: (التنوير في مولد البشير النذير) فأجازه على ذلك بألف دينار".
ثم حكى عن سبط ابن الجوزي أنه قال: حكى بعض من حضر سِماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر (!!) ويرقص بنفسه معهم (!!).
فلو كان الاحتفال بالمولد ديناً مشروعاً لما غفل عنه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان في القرون الفاضلة وعُني به المتخلفون عن السنة. والله لو كان خيراً لما سبق إليه المظفر وقصر عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم ينبه عليه الأئمة المقتدى بهم. فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع. ورحم الله مالكاً الإمام فقد كان من أشد الأئمة بغضاً للابتداع في الدين ولهذا كان دائماً ينشد:
وخيرُ أمورِ الدينِ ما كان سنةً
وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ
أقوال وفتاوى بعض أهل العلم في بدعية الاحتفال بالمولد:
لقد أفتى العديد من أهل العلم قديماً وحديثاً ببدعية الاحتفال بالمولد، ولكننا سنشير إلى فتاوى ثلاثة من الأقدمين وهم:
(1) تاج الدين عمرو بن علي اللخمي الشهير بالفاكهاني (654-734هـ):
وهو الفقيه المالكي صاحب شرح الفاكهاني على الرسالة [انظر ترجمته في شجرة النور الزكية صـ204-743هـ]، وقد صرح هذا العالم الرباني ببدعية الاحتفال بالمولد في أي صورة من صوره في كتاب له أسماه (المورد في الكلام عن عمل المولد) جاء فيه: ".. أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحَدَث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً، وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب و لا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس، اعتنى بها الأكالون، وبدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجباً أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً. وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمتُ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلتُ. ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروهاُ أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه من فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه، و لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام. وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشنيعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يُؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال حياءً كأخذه بالسيف، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم، و إما مشرفات".(/3)
إلى أن قال: "وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون. (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" [الحاوي للفتاوى للسيوطي: 1/ 190-191].
(2) الحافظ أحمد بن علي بن حجر المتوفى سنة 851 هـ رحمه الله:
نقل عنه السيوطي رحمه الله [الحاوي: 1/196]: "وقد سئل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة".
ولا غيرهم! ثم عاد فحسّنها إذا تُحرِّي في عملها المحاسن (!!)، وهذا فيه تناقض، فليت شعري كيف تكون عبادةً حسنةً مهما تحروا فيها من المحاسن إذا لم يتعبدنا الله بها، ولم يفعلها السلف الصالح؟!
(3) ابن الحاج المالكي ( 1060-1128/1129هـ) رحمه الله:
قال [في المدخل: الجزء الثاني ص 3 والصفحات التالية]: "ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد".
إلى أن قال: "وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسّماع، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسَلِم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما يسعهم".
فها نحن نرى أن علماء الإسلام جزاهم الله خيراً بينوا حكم الشرع في عمل المولد واعتبروه من البدع الحادثات والمنكرات منذ ظهور هذه البدعة، وما فتئوا في كل وقت وحين ينبِّهون على ذلك، فما أحسن أثر العلماء على الناس، و ما أقبح أثر الناس على العلماء.
الخلاصة:
[1] أن الاحتفال بالمولد بدعة حادثة ليس لها أصل في الدين بأي صورة من صوره، أسبوعية كانت أم سنوية، قرنت بالسماع أوبغيره من المحرمات كالاختلاط أم خلت منه.
[2] أن الذين يحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم نحسب أن دافعهم إلى ذلك حبه، ولكن الحب وحده لا يكفي، فلا بد من متابعة السنة وموافقة الشرع، فكم طالبٍ أمراً لم يصبه وراجِ رجاءً فأخطأه، ومؤمل أملاً لم يدركه.
[3] أن الدين تم وكمُل بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً وشرعاً فلن يكون اليوم ديناً أو شرعاً.
[4] أن مجرد الخلاف ليس دليلاً مسوِّغاً للتشبث به مهما كانت درجة ومنزلة قائله، ما لم يكن قائماً على دليل، فكما قيل:
فليس كل خلافٍ جاء معتبراً
إلا خلافاً له حظٌ من النظرِ
[5] أن مرجع المسلمين عند الخلاف والنزاع إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، لا إلى قول فلان وعلان.
[6] أن الدين ليس بالرأي والعقل، و إلا لكان باطن الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، كما قال الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، ولهذا فإن التحسين والتقبيح العقليين لا قيمة لهما البتة في أمور الشرع، فما تراه أنت حسناً يستقبحه غيرك.
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهدينا وإياهم سبل الرشاد، ويجنبنا وإياهم البدع و سوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان وزمان أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة ويُذلّ فيه أهل المعصية و يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى و على آله وصحبه وسلم تسليماً.(/4)
الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
إبراهيم بن محمد الحقيل 26/6/1427
22/07/2006
الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وإحياؤها بالصلاة والذكر والصدقة ونحو ذلك، رغم أن الخلاف كبير بين المؤرخين وأهل السير في ليلة الإسراء (1).
ويتلو المحتفلون بالإسراء قصته مخلوطاً فيها الصحيح بالضعيف والموضوع، وينشدون المدائح والأشعار وغير ذلك على غرار ما يفعله النصارى في أعيادهم الدينية.
________________________________________
(1) من أشهر الأقوال في ليلة الإسراء والمعراج ما يلي:
أ – إنها ليلة (27) من ربيع الآخر، قاله أبو إسحاق الحربي.
ب – إنها ليلة (27) من ربيع الأول، نقله ابن دحية عن أبي إسحاق الحربي وهذا اضطراب. وهذان القولان على أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة .
ج – إن الإسراء بعد البعثة بخمس سنين، قاله الزهري.
د – إنه قبل الهجرة بسنة ونصف، وهو المفهوم من كلام ابن قتيبة في المعارف.
هـ - إنها ليلة (27) من رجب، وأكثر اعتقاد الناس فيه مع أنه لا دليل عليه، وإذا كان الخلاف قائماً في تحديد السنة التي وقع فيها الإسراء فكيف بتحديد الشهر واليوم؟
انظر: شرح النووي على مسلم (2/290)، والمعارف لابن قتيبة (150) وتبين العجب بما ورد في شهر رجب لابن حجر (19-20).(/1)
الاختراق القيمي
د. عبد الكريم بكار 9/2/1427
09/03/2006
كان ضعف الاتصال بين أجزاء العالم في الماضي يوفر حماية طبيعية للثقافات الضعيفة من اجتياح الثقافات القوية؛ لكن هذا الوضع آخذ في التغير اليوم على نحو مدهش ومتسارع، فثورة الاتصالات والبث الفضائي وتداخل مصالح الأمم والشعوب، يدفع في اتجاه إيجاد تجنيس واسع النطاق للاهتمامات والقيم والرؤى والعلاقات، ومن هنا فإن على الكثيرين منا ومن غيرنا أن يقبلوا بأشياء كثيرة كانوا يستنكرونها من قبل، كما أن عليهم أن يهيئوا أنفسهم للمزيد من التغير في النظر إلى كثير من الأمور.
القيم هي كل ماله قيمة مادية أو معنوية واعتبارية، وتشكل القيم لدى الإنسان المرشد الأكبر له في دروب الحياة الملتوية، كما أنها تعلمه كيف ينظّم ردود أفعاله تجاه الأشياء والأحداث المختلفة.
تقول إحدى قواعد التواصل الأممي: إنه إذا التقى قويّ وضعيف فإن اللقاء يكون في الأعم الأغلب لصالح القويّ، إذ يمكّنه اللقاء من إبراز جاذبيته وفرض شروطه. وإنّ كثيرًا من القيم لا يستمد قوته من مشروعيته أو عظمته أو سماحته، وإنما يستمدّها من قوة حضوره. وذلك يعود إلى أن وعي الإنسان بعظمة القيم التي لديه ووعيه بما يحتاجه من قيم، يظل ناقصًا وميالاً إلى الغموض. ومن هنا فإن الناس يطربون في نهاية الأمر للصوت القادر على الوصول إلى آذانهم.
نقصد بالاختراق هنا إجبار منظومةٍ قيمية منظومةً قيميةً أخرى على التعرّف على ذاتها من جديد وعلى إعادة ترتيب درجات سلّمها الخاص، كما تجبرها على إحداث بعض التغييرات في إطارها المرجعي. الثقافة السائدة في ديار المسلمين تقوم في جوهرها على تعاليم الإسلام وأدبياته، وهي تتعرّض اليوم لضغوط متنوعة من الثقافات السائدة في الدول الصناعية التي تقود مسيرة التطوّر التقني والاقتصادي، وهذه الضغوط لا تُمارس على ثقافتنا فحسب، بل تُمارس على كل الثقافات التي لا يتمتع أصحابها بموقع في غرفة القيادة الأممية والدولية، ولعلي أوضح معالم هذا الاختراق عبر المفردات الآتية:
1- تكون القيم اليومية على نحو حسن؛ إذ إن تجسيد القيم يشكل لها شريان الحياة الذي لا تستطيع البقاء من غيره. كما أن القيم تكون ضعيفة إذا لم تتمكن من توفير قدر من الإقناع والإرضاء للأجيال الجديدة المتطلعة إلى الجديد والعملي والمريح.
2- يتخذ الاختراق الثقافي والقيمي في بعض الأحيان إجبار الشعوب المخترقة على وضع قيمها أو بعض قيمها موضع تساؤل واستفهام وشرح؛ بغية تأويلها أو تجاوزها. إن القيم أشبه شيء بالصحة، نسأل عنها ونتحسّسها حين نشعر أنها باتت في خطر، ونحن اليوم نطرح على أنفسنا العديد من التساؤلات المتعلقة بعدد من القيم، وذلك مثل:
- هل نحن عاطفيون أكثر مما ينبغي؟
- هل لدينا نظام حكم إسلامي كامل أو مبادئ توجه الحاكم المسلم؟
- ما أسباب انتشار الاستبداد في كثير من بلدان العالم الإسلامي؟
- ما أسباب ما لدينا من نقص من جدية ودقة ومصداقية في مجال الأعمال؟
- ما أسباب ضعفنا العام، وتمزّق شعوبنا ودولنا على هذا النحو؟
وهكذا فإن لدينا عشرات الأسئلة من هذا القبيل، والتي سنختلف في الإجابة عنها، وهذا الاختلاف يشكل الدليل الملموس على وجود الاختراق القيمي.
3- إذا تأمّلنا في القيم السائدة في العالم لما وجدنا كبير اختلاف فيما بينها، وإنما يمكن التباين في ترتيب السُلّم القيمي، وفي مقدار الاهتمام الذي يوليه شعب ما لقيمة من القيم. وعلى سبيل المثال فإن إكرام الجار وبر الوالدين وصلة الأرحام والصدق في القول والوفاء بالعهد من القيم العالمية المعترف بها في كل مكان. والذي يُظهر الخصوصيات القيمية هو تعارض هذه القيم مع قيم أخرى، فإذا كانت –مثلاً- رغبة الزوجة في أن تسكن في بيت منفرد، وكانت رغبة الأبوين أن يقيم ابنهم الوحيد مع أسرته معهم فإن مدى الاهتمام بقيمة الوالدين هو الذي سيتحكم في قرار الزوج. ونحن نعرف كيف يحدث التبدّل الآن بالنسبة إلى هذه القيمة، فقد كان من غير المقبول قبل خمسين سنة أن يترك الشاب بيت أبويه إذا تزوّج، ثم صار ذلك مقبولاً. وصارت إقامة الأبوين عنده شيئاً معقولاً. والآن فإنّ كثيراً من الأبناء يفضلون إسكان آبائهم وأمهاتهم في دور منفصلة والإنفاق عليهم، أو التخلّص منهم بإلجائهم إلى الذهاب إلى بيوت كبار السن...!
ولعلنا نلاحظ اليوم أننا نركز في تثقيفنا وفي تربيتنا على امتلاك المزيد من (القوة) على حساب الاهتمام بقيمة (الرحمة)، كما صار للنجاح والثراء مساحة متسعة على حساب مساحة التقوى والورع؟ اليوم مساحة الاهتمام بخدمة الذات على حساب قيمة خدمة الناس، ومساحة اللهو و (الفرفشة) والمتعة وإرواء حاجات الجسد على حساب مساحة الاهتمام بالسمو الروحي والتأنّق الخُلُقي، وصار الحديث عن الفضيلة والمروءة يلقى نوعاً من الاستهجان لدى بعض الناس... وهكذا.(/1)
إن هذه القضية ليست واضحة في ذهني بالقدر الكافي، لكن أحببت إثارة الاهتمام حولها بغية توليد وعي جديد بمسألة التبدّل القيمي حتى نسعى إلى تجديد قيمنا وتحصينها بالطريقة التي تتلاءم مع مبادئنا ومثلنا العليا. والله الموفق(/2)
الاختلاط - موقف الاسلام منه واضراره
لقد وقعنا أيها الأحبة في مصيدة أعداء الله تبارك وتعالى وأعداء ألاسلام..الذين رسموا لنا إنموذج الحياة وصوروه لنا وأتبعناهم جهلا وغباءا و غفلةً تارةً جحودا وكفرا وعنادا تارةً أخرى .. فهم قدموا لنا كثيرا من منكرات الامور خططوا صيغها عيشا ترتاح إليه النفوس وأحدثوا في الدين ما شاب عليه الصغير و مات عليه الكبير لا أقول سنينا طويلة بل قرونا عديدة...فحسبناه اليوم أمرا طبيعيا لا إشكال فيه ولا معصية وهان علينا أمر الدين فلم نستطع أن نميز بين الحق والباطل ولأننا في جهل من ديننا ونحسب أن كل من لبس لباس الدبن وقال ما قال أنه على الحق وأحرى أن يُتّبع ....وسارت تلكم الأمور عادية فمن جاء ينكرها اليوم ويحث الناس على إتباع الحق ومعرفة الله جل وعلا واتباع سنّة نبيّه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم التي بُدلت وتتبدّلت وتتبددت وحُلت مكانها البدع والضلالات إلا قليلا ..
خطبة الجمعه لفضيلة الدكتور رعد عبد الرزاق الدليمي
إنّ الحَمدَ لله نَحمُدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونتوبُ إليه ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.....
يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا وأتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا..
ياأيها الذين آمنوا أتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما..(/1)
أما بعد ...فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم وإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة وإن كل ضلالة في النار....ثم أما بعد: فأصلي وأسلم على النبي المصطفى والرسول المرتضى والحبيب المجتبى الذي بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للامة وجاهد في سبيل الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلاةً وسلاما دآئميين باقيين مادامت السماوات والارض كما أمرني ربي جل وعلا لقوله تبارك وتعالى "إن الله وملائكته يصلون على النبي * يا أبها الذين آمنوا صلوا وسلّموا تسليما " أللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .... لقد وقعنا أيها الأحبة في مصيدة أعداء الله تبارك وتعالى وأعداء ألاسلام..الذين رسموا لنا إنموذج الحياة وصوروه لنا وأتبعناهم جهلا وغباءا و غفلةً تارةً جحودا وكفرا وعنادا تارةً أخرى .. فهم قدموا لنا كثيرا من منكرات الامور خططوا صيغها عيشا ترتاح إليه النفوس وأحدثوا في الدين ما شاب عليه الصغير و مات عليه الكبير لا أقول سنينا طويلة بل قرونا عديدة...فحسبناه اليوم أمرا طبيعيا لا إشكال فيه ولا معصية وهان علينا أمر الدين فلم نستطع أن نميز بين الحق والباطل ولأننا في جهل من ديننا ونحسب أن كل من لبس لباس الدبن وقال ما قال أنه على الحق وأحرى أن يُتّبع ....وسارت تلكم الأمور عادية فمن جاء ينكرها اليوم ويحث الناس على إتباع الحق ومعرفة الله جل وعلا واتباع سنّة نبيّه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم التي بُدلت وتتبدّلت وتتبددت وحُلت مكانها البدع والضلالات إلا قليلا .. مثل هذا يحارب ويكنى بكل النعوت القبيحة والظالمة.. وترى أمثلهم طريقة من يرجف به ويثبطه بحجة الحذر من أعداء الله تبارك وتعالى الذين يعيثون في الارض فسادا ويسبون الدين ويتهمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلىآله وسلم بأشكال يتحرج الشريف من ذكرها... مثل هؤلاء لا يرجون ان ينهضوا من هذه الأرهاصات التي زينت لهم مرونة العلاقات مع الناس وجعلتهم متحررين وبارزين إجتماعيا.... كما قال تعالى " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون " ... الهدف الرئيس أيها الاحبة لا أعداء الله تبارك وتعالى وأعداء الدين هو تدمير الأسلام الحق ورأوا أفضل السبل وأشدها هو الطريق الى المرأة.. فالمرأة أولا وآخرا ..فإذا سيطروا عليها سيطروا على شريان المجتمع الرئيس وتلاعبوا بكل المقدرات دون وازع أو رادع فيدمروا بذلك المجتمع تدميرا لا هوادة فيه ولا رحمة ثم يجعلون عاليه سافله وبعد ذلك يجعلون هذا المجتمع مطية لشهواتهم ورغباتهم وحرسا لهم بل يجعلونهم عبيدا أذلاء كالكلاب تركض خلف أسيادها.. وهذا بعض حال أمتنا اليوم وما هو خاف عن الخلق أشد وأكبر ولكن أكثر الناس لايعلمون.. ووجد أعداء الله تبارك وتعالى أن أفضل وسيلة لمكرهم هو خروج المرأة من بيتها..من حصنها.. من قلعتها ..من قصرها لان القلاع لا تخترق بسهولة ما لم يضطرب داخلها..فكيف يصلون إلى داخلها ليحدثوا الفتنة و ينقلوا السم الى داخل البيوت لتضطرب وليضرموا النيران فيها..أشاعوا الاختلاط وشجعوا عليه..هم يحاولون سرقة الجواهر الثمنية من صندوق الكنز فلا بد من يد مدبرة لها أصابع تلتقط تلك الجواهر وتسرقها لتبخس ثمنها بعد ذلك وتسيء إستخداماتها وهذا كله من أجل السيطرة على المرأة..(/2)
فياأيها الرجال أن كنتم حقا رجالا فحافظوا على أهليكم لان الله تبارك وتعالى يقول " يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " والرسول صلى الله تعالى عليه وعلىآله وسلم يقول كلكم راع وكلكم مسؤلون عن رعيته " ... أنتبهوا بارك الله تعالى فيكم إلى تلكم ألاصابع الخفية التي تلعب وتعبث في بيوتكم وأنتم ربما لا تعلمون.. وأعلموا ان كل أمر نهى الله تبارك وتعالى عنه في كتابه او على لسان رسوله الامين صلى الله تعالى عليه وعلىآله وسلم وجب إجتنابه و الابتعاد عنه وعدم الجدل فيه إتباعا للهوى أو قياسا على واقع حالٍ يعمل فيه الان أو من أجل غرض أو مصلحة دنيوية ..ومن هذه الامور أمر الاختلاط في داخل البيوت مما نراه اليوم لدى الكثير من المسلمين أصلحهم الله تبارك وتعالى ..فهم يستقبلون الضيوف من الاهل والاصدقاء وحتى الغرباء مسلمين كانوا ام غير مسلمين ويجلسون في مجالس مختلطة لا يرون فيها شيء ولا يفعلون بزعمهم في شيء محرم يسخط الله تبارك وتعالى ورسوله... فإذا كلمت أحدهم بأن هذا من المحرمات التي انتهكها الناس وهم لا يشعرون أنكر عليك وزجرك برفضه لافكارك المتخلفة الرجعية.. وجادل في هذا الامر وكأنه عالم بالشريعة والفقه وهو لا يفقه من أمور دينه الكثير..فإلى مثل هذا الاخ وتلك ألاخت نقول أن الاختلاط منهي عنه بالايات والاحاديث الصحيحة نسوقها إليكم فمن أهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل "...ولا نخاف في الله لومة لائم..فأنني أتكلم من منبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وحري بي ان أقول الحق ما أستطعت..فإني مسؤول من قبل الله عزوجل عما أقوله لكم فإن كان حقا فالحمد لله تعالى على تثبيته وما عليكم سوى الاتباع والتطبيق ومن عرف ونكر فقد قامت عليه الحجة وأمره الى الله عزوجل وإن كان قولي باطلا فالويل لي من عذاب الله عزوجل...
فأول الاختلاط ما يقع داخل البيوت حيث تتزاورالعوائل فيما بينها..كلهم من الاقرباء أو الجيران أو الاصدقاء أوالاحبة والمعارف..هذا ابن عم هذا وذاك ابن خالته والاخر ابن عمته وذاك عديله وتلك العائلة جارته ..لا يوجد غريب الكل واحد والعرض واحد والكل أهل ...هكذا نشأنا أيها الاحبة حمية قبيلية وعروق جهل متجذّرة قد يتعسّر إنقلاعها إلا لمن يسّر الله عليه.... ولا ندري ان الامراض تأتي من بيننا..فلا يشك المرء بحموه أي قريبه ..هو قد يرتاب من الغريب البعيد ولكنه لايفعل ذلك مع القريب والجار والصديق الحميم... ونسوا أو ربما ما عرفوا ما رواه البخاري عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلىآله وسلم قال " إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الانصار يا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أفرأيت الحمو قال الحمو الموت.. الحمو الموت " حديث صحيح... فمن هو الحمو هو القريب هو أخ الرجل أو إبن عمه أو عمته أو ابن خاله أو ابن خالته أونسيبه وهكذا ..أليس هذا تحذير من رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لأمته بعدم الاختلاط والتحذير منه لما فيه من الفتن ... ولكننا اليوم أن لم نطلع أقربائنا من الرجال على حريمنا تعجب وأستغرب وزعل وغضب ولسان حاله يقول ما نبغي غير السلام عليها وقد يخرج ولا يكلمه بعد اليوم أبدا بل يعده متعصبا متشددا... وانتم ترون أيها الاحبة ان كل ما حدث في الجاهليه حدث في هذه اللامة التي قال عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلىآله وسلم " لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ فإنه من يعش منكم سيجد إختلافا كثيرا "..
فإن أول الاختلاط وقع في الجاهلية الاولى في بطنين من ولد آدم وحواء في الفترة ما بين أدريس ونوح عليهما السلام وكانت أحدهم تسكن السهل والاخرى تسكن الجبل وما ان اختلاطا حتى ظهرت فيهم الفاحشة وهذا ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى" وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى"
وما حدث في الجاهلية الثانية قبل بعثة المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم من الاختلاط المحرم حتى ان النساء يطفن عاريات في البيت الحرام ..وجاهلية اليوم هي الجاهلية الثالثة وهي أشد من سابقتها..
والله المستعان..
فالاختلاط أيها الاحبة إنما يضعف الحياء لدى الرجل فهو يجالس في مجلسه المراة فيأخذ منها الرقة في الكلام واليونة في القول وهذا طبع النساء..فيضعف الحياء عنده ويسلب القرار والوقار وتوهن رجولته وشكيمته فيصاب إيمانه بالخلل ...والحياء شعبة من الايمان لقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم " الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق والحياء شعبة من الايمان"(/3)
أما المرأة فيصيبها مثلما يصيب الرجل فإذا قل حياء المرأة تسلطت وأحبت السيطرة على الامور ..فتراها قوية الكلمة والقرار في البيت..ثم يكون لها القرار في الخروج والعمل والمشاركات وحضور الحفلات والاختلاط خارج البيت.. وكما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم "كيف بكم إذا طغى نساؤكم وفسد شبابكم وتركتم جهادكم ..قالوا أو ذلك كائن يارسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم ؟ قال والذي نفس محمد بيده الاشد سيكون ".. وهذا ما يريده أعداء الله عزوجل لكم أيها الاحبة..فالحرب لم تعد حربا بالسيف والرمح..فذاك زمن قد مضى..اليوم حربا سرية..حرب تدخل البيوت تهدمها والمسلمون نيام بل هم غثاء ويشاركوهم بمعاول الهدم فرحين..
والاختلاط يولد موت الغيرة ..هذه الغيرة التي لم نعد نجدها عند الرجال كما كانت عند سعد بن معاذ عندما كان في جمع من الصحابة يتكلمون في الاختلاط فقال " لو رأيت رجلا مع أمرأتي ( أي واقف ربما يسألها عن شيء أو مكان أو عنوان وليس في الفراش ) لضربته بالسيف غير مسفح (أي لا انتظر ان أساله عن سبب كلامه مع زوجتي)..فتعب الصحابة من قولته فأبلغوها الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم .. فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم " أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير من سعد.. والله عزوجل أغير مني ومن أجل ذلك حرّم الله عزوجل الفواحش ما ظهر منها وما بطن " فاين الرجال اليوم من رجال الامس..
فالاختلاط أصل كل بلاء وفساد لما فيه من الفتن فالرسول صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم قال " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " وقال كانت أول فتنة بني إسرائيل في النساء"
فماذا يحدث في الاختلاط؟ المصافحة حيث يسلم الرجال على النساء ويتصافحون ويتراحبون ..وما مست يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم يد أمرأة قط..وعندما جاءت الصحابيات يسلمن على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم ويبايعنه قلن أبسط يدك نبايعك يارسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم قال "أني لا أصافح النساء "..وهو المعصوم والمؤيد بالوحي..
وماذا يحدث في الاختلاط النظر المحرم الى الوجوه والأجساد وغير ذلك والله عزوجل يقول " وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ان الله عليم بما يصنعون " فهل في الاختلاط غض البصر..والنفوس لا تتركها الشياطين على فطرتها بل توسوس لها لقوله تبارك وتعالى "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء " ناهيك عن فحش الكلام وعدم ذكر الله عزوجل والغيبة والنميمة والفرح والمرح وأولادهم يختلطون فيما بينهم ويحصل بعد ذلك ما لا يحمد عقباه..
وأعلموا أيها الاباء والامهات لو ان الاختلاط حلال لما كنا نصلي الان في بيت الله عزوجل والنساء في مصلى والرجال في مصلى لكنا نفعل كما يفعل الكفار في معابدهم وكنائسهم حيث يقف الرجال بجانب النساء .فان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم قال " خير صفوف الرجال أولها وشرها أخرها وخير صفوف النساء آخرها شرها أولها " وكان يفصل بينهما بالصبيان...لان الرجال يتأثرون حسيا بوجود النساء عن قرب منهم فما بال إذا تعطرت المرأة وتزيّنت وتبرجت فأصبحت أفضل جنديا للشيطان ثم حضرت تلكم المجالس..لاشك انها ستفتن وتفتن..لذلك كان من هديه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم يأمر النساء بلزوم حافات الطريق وهن خارجات من الصلاة حتى لا يحصل الاختلاط مع الرجال فكانت أحداهن رضي الله تعالى عليهن وأرضاهن تلتصق بالحائط من شدة الحرص على تطبيق كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم..فما تقول الخراجة الولاجة التي تزاحم الرجال في كل مكان تلك التي يمقتها الله عزوجل..
فأتقوا الله تعالى في أنفسكم وفي نساءكم وبناتكم وأولادكم علّموهم العفاف والغيرة وعدم الاختلاط علّموهم مكارم الاخلاق فهي أثقل عند الله تبارك وتعالى في الميزان..فأنتم مسؤولون عنهم بل وتحملون أوزارهم مع أوزاركم يوم القيامة..وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم أدعوه وأنتم موقنون بالأجابة(/4)
الاختلاط بين الجنسين في التعليم و غيره
السؤال :
ما حكم الاختلاط بين الجنسين في التعليم و وسائل النقل و غيرها ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الاختلاط على صورته المعهودة في عصرنا الحاضر مفسدةٌ بالغة الخطورة على الدين و الخُلُق ، و الكلام عن الاختلاط بشكلٍ عام يحتاج إلى تفصيل :
• فإذا أريد بالاختلاط اجتماع الرجال و النساء في مكان ما ، من غير تعمّد كالحال في الأسواق و الطرقات ، إذ يسعى الجميع في حاجته ذهاباً و جيئةً ، و يبيعون و يشترون ، فلا بأس في هذا ما لم يتلبّس من وَقع فيه بمحرّم خارجٍ عنه ، و ليست هذه الصورة للاختلاط من الصور المحرّمة في شيء ، بل هو مما تعمّ به البلوى ، و يضطر إليه الناس لمعاشهم في كلّ زمانٍ و مكان .
• و من الصوَر التي لا حَرجَ فيها اجتماع الرجال و النساء في المسجد الواحد لأداء فريضة أو عبادة ، كما هو الحال منذ صدْرِ الإسلام و حتى يومنا هذا ، في المساجد الثلاثة التي تُشدّ إليها الرحال و غيرِها ، و قد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه و سلّم في المسجد ، و لم يَنه عن ذلك ، كما لم يأمر بضرب حاجزٍ بين صفوف الرجال و صفوف النساء فقد روى الشيخان و أبو داود و مالك و أحمد ، و اللفظ للبخاري عَنِ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ : كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَ الْعِشَاءِ فِى الْجَمَاعَةِ فِى الْمَسْجِدِ ، فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَ قَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَ يَغَارُ ؟ قَالَتْ : وَ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِى ؟ قَالَ ابن عمر : يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ » .
غير أنّهن كنّ يُصلّين في صفوفٍ خاصةٍ خلف صفوف الرجال امتثالاً لهديه صلى الله عليه و سلّم ، في قوله : « خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا » رواه مسلم و أصحاب السنن و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه .
• أمّا انفراد الرجل بالمرأة ، بدون محرم ؛ فهو الخلوة المحرّمة ، التي حذّر النبيّ صلّى الله عليه و سلّم منها فيما رواه أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : ( حسنٌ صحيح ) عَن عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ » .
• و من الصور المحرّمة أيضاً اجتماع رجل بامرأة ، و لو كان ذلك في مكانٍ عامٍ إذا ترتّبت عليه ريبةٌٌ أو سوء ظنّ فيه ، ما لم يُزِل اللبس الذي قد يقَع في نفس من رآه ظنّاً أو يقينا ، لما رواه الشيخان و أبو داود و ابن ماجة و أحمد عَنْ صَفِيَّةَ ابْنَةِ حُيَىٍّ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ ، فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِى لِيَقْلِبَنِى - أي ليعيدها إلى البيت - فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : « عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ » . فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ، وَ إِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا سُوءاً » ، أَوْ قَالَ : « شَيْئاً » .
• و يحرم كذلك ما شاع من الاختلاط في هذا الزمان عند الأضرحة و ما يُزعمُ أنّها مقامات أولياء ، و في الاحتفالات و المواسم المبتدَعة كالموالد ، حيث يختلط الرجال بالنساء في هيئات بالغةِ الفساد ، و ظاهرةِ الانحراف ، و هذا أولى بالذمّ ، بل هو مما تبتلى به الأمّة في آخر الزمان لقوله صلّى الله عليه و سلّم : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية ) رواه ابن أبي عاصم في ( السنّة ) و الطبراني في ( الصغير ) بإسنادٍ حَسَن ، و ذو الخلصة صنَمٌ بتبالة .
و معظم ما يقع في الجامعات و المدارس ، فضلاً عمّا في النوادي و المحافل العامّة وحتّى وسائل النقل لغير المضطرّ هو من صور الاختلاط المحرّم ، المفضي إلى الرذائل و الفواحش ، لذلك نذهب إلى القول بتحريمه ، و نحذّر منه أسوةً بما جرى عليه معظم العلماء العاملين ، الذين عرَفوا حقيقته ، و سبروا غُواره ، و وقفوا على مفاسده ، و سدّاً للذرائع ، و قطعاً لدابر الرذيلة و الفاحشة ، و ما يُفضي إليهما .
و الله الموفق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .(/1)
الاختلاط بين الواقع والتشريع إبراهيم الأزرق*
الفصل الأول: الاختلاط تحت أضواء الشريعة
تقريظ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد أطلعني أخي الكريم الشيخ أبوعبدالرحمن إبراهيم الأزرق على بحثه الموسوم بـ (الاختلاط بين الواقع والتشريع) فألفيته بحثاً قيماً، عالج فيه
قضية من أهم القضايا الشرعية الاجتماعية المتجددة، فإن موضوع المرأة أصبح الشغل الشاغل لأعداء الله والملة، يحاولون أن ينفذوا من خلاله إلى
هدم مقوم من أهم مقومات بناء كيان الأمة. حيث إن المرأة المؤمنة تمثل ركيزة مهمة في بناء الأسرة المستقرة، فهي التي تُخرج الأجيال، وتُعد
الأبطال لمواجهة أعداء الملة والإنسانية.
ولقد كانت أول فتنة بني إسرائيل في النساء، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ثم كان الهلاك والبوار، وأعداء الله من اليهود
والنصارى وإخوانهم من منافقي هذه الأمة يريدون أن يسروا بنا حيث سار أولئك، حذو القذة بالقذة، ولذلك أثاروا الشُبه، وبثوا الأراجيف، واختلقوا
الدعاوى، وقد أصغى إليهم فئام من الناس -رجالاً ونساء- فانخدعوا بحبائلهم، وتأثروا بأساليبهم، وصدقوا خصوماتهم.
ومن أبرز تلك المسائل ما يتعلق بقرار المرأة في بيتها، حيث سعوا بجد ونشاط، ودَأَبٍ لا يعرف الكلل، من أجل إخراج المرأة من حصنها المنيع،
وقاعدتها الحصينة، طمعاً في أن يتحقق لهم بذلك مناهم، ويظفروا بمبتغاهم، و"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
وإذا فارقت المرأة حصنها، فقد سعت من حيث تدري أو لاتدري إلى حتفها، إلاّ إذا كان ذلك لضرورة أو حاجة لاغنى لها أو لأمتها عنها، مع تحري
اليقظة والستر والحذر، وسرعة الأوبة إلى البيت والمستقر، لأن ذلك هو الأصل، كما تقرر في كتاب الله الفصل: "وقرن في بيوتكن ولاتبرجن
تبرج الجاهلية".
ولقد أجاد أبوعبدالرحمن وأفاد، وعرض الموضوع بأسلوب علمي راق، يخاطب العقل والعاطفة، يورد الأدلة ويرد على الشبهة دون إطناب مُمِل أو
إيجاز مُخل.
نفع الله بعلمه، وسدده وهداه، وبَلّغه في الخير مناه، وصلى الله وسلم على الحبيب المصطفى –محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
وكتب/ ناصر بن سليمان العمر
الشرقية – السبت 16/12/1424
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلاّ وأنتم مسلمون"، "يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان
عليكم رقيباً"، "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً
عظيما".
وبعد، فإن نساء المسلمين في الصدر الأول، كُنّ درراً مصونة، ولآلئ مكنونة، غير ولاجاّت خرّاجات، وإن خرجن للحاجات، فهن العفيفات
المتحفظات، وهكذا كانت نساء العرب أُنُفاً، وفي "المفضليات" قول الشنفرى:
وهذا أبو قيس بن الأسلت –مختلف في صحبته- يمدح إحداهن فيقول:
ثم جاء الإسلام وتمم مانقص، فسجل التاريخ لنساء الإسلام في العهد الأول، نزاهة ذادت مرؤة رجالها عنها طير الرِيَب، وعلى مِنْوال أولئك السابقين
الأولين، كانت عصور التابعين والأئمة المرضيين. ولاتحسبنَّ التمدح بالقرار ونبذِ مخالطة الرجال، كان شيمة العلماء والصالحين فحسب، بل هي
صبغة ذلك الجيل، يقول شاعر الغزل جميل –في أوائل القرن الهجري الثاني:
خُودٌ مِنْ الخَفِرَاتِ البِيْضِ لم يرها بِسُدَّةِ البيتِ لا بَعلٌ ولاجَارُ
وعلى هذا الأسلوب جرى مدح العرب عدة قرون، فهذا الرضي أشعر القرشيين في أوائل القرن الهجري الخامس يشيد بامرأة فلا يجد أجدر من أن
يقول:
وقد ظلت نساء المسلمين مصونة في مدن حصينة ضد غزو التغريب، عبر عقود بل قرون ازدهرت فيها حضارة الإسلام، بينما كان يقبع غيرهم في
ما يُعرف اليوم برجعية العصور الوسطى، أو عصور الظلام.
ثم مع انحسار العفاف رويداً رويداً، بدأت تنحسر دولة الإسلام شيئاً فشيئاً، ومع ذلك ظلت بعض المدن تعرف بالصيانة والعفاف، يقول ابن العربي –
رحمه الله- في النصف الأول من القرن السادس: "ولقد دخلت نيِّفا على ألف قرية من بريَّة, فما رأيت نساء أصون عيالاً, ولا أعفَّ
نساءً من نساء نابلس التي رُمي فيها الخليل عليه السلام بالنَّار, فإنّي أقمت فيها أشهراً, فما رأيت امرأة في طريق نهاراً, إلاَّ يوم الجمعة,
فإنهنَّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهنَّ, فإذا قُضيت الصلاة, وانقلبن إلى منازلهنَّ لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأُخرى.(/1)
وسائر القُرى تُرى نساؤها متبرِّجاتٍ بزينةٍ وعُطْلَة[2[, متفرِّقاتٍ فِي كلِّ فتنةٍ وعُضْلَةٍ[3]. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن
من مُعتكَفِهِنَّ حتى استشهدن فيه"[4].
ثم استشرت الفتن، وجاءت الأهواء فساقت الناس نحو جحر الغرب المظلم، فبعد أن كان الاختلاط علقماً يشرق به الخاصة والعامة، بدأت عملية
تسويغه، عن طريق المدارس الاستعمارية العالمية[5]، بدعوى أن علاج (الرجل المريض) يكمن فيها، وذلك مطلع القرن الرابع عشر، فما بلغ
أبناء تلك المدارس الخمسين، وما انتصف القرن، إلاّ وقد مات (الرجل)، بعد أن هيأت تلك المناطق المشبوهة مناخاً جيداً لتفريخ أجيالٍ من
المستغربين، الذين رأوا أن استعادة الأمة مجدها، وعودها إلى سابق عهدها، وخروجها من واقعها المظلم، لن يكون إلاّ بإحراق كل فضيلة، في سبيل
(التنوير).
هذا ومع خفوت وهج مصابيح الدجى، عميت أنباء الشريعة على كثير، واستُبهمت واضحاتها، فاختلط حكم الاختلاط، والتبست أحكام اللباس، و(
استعجم) العرب ما جاء في التشريع وبخاصة ما يخص المرأة.
فكانت الفرصة مواتيةًً لخروج دعايا ودعِيّات التحرير، اللآتي لم يرفعن بهدى الله رأساً، ولم يرين في وأد العفة بأساًً.
فنادوا بتغريب الفتاة، وعمدوا إلى إلغاء كل تشريع إسلامي يخص المرأة، بتدرج محسوب، وخطوات بطيئة، يستدرجون بها الغافلين والغافلات، "فقال
قائلهم أول الأمر: مادام الرجل التركي لايقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية، وهي سافرة الوجه فلست أَعُد في تركيا دستوراً ولاحرية.
ثم بعد هنيئة قال الآخر: ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت، ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تعقد (مقاولة) مع
رجل تعيش وإياه كما تريد، مسلماً أو غير مسلم، فإنه لا تعد تركيا قد بلغت رقيا.
ويعقب شكيب أرسلان بقوله: فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور، ولاهي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما
تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصلة بعضها ببعض"[6].
"لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء، فما زالوا به يثقبون في جوانبه كُلَّ يومٍ ثقباً، والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تَقَبَّضَ وتَكَرَّش،
ثم لم يكفهم ذلك منه حتى جاءوا يريدون أن يحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة"[7].
إن من أمعن النظر في حال المسلمين اليوم، وحالهم قبل عقود رأى كيف يسير ركب التغريب، وعلم أين يحُطُّ من يَمَمَ سَمْتَهُم، واقتفى أَثَرَهُم.
وكما ترى فإن الطريق دون ما يريده قَذِعُ المنطق[8] بعيد، له مراحل شتى، ربما حل أول تلك المراحل طيبون، استبعدوا أن يحط بهم من يعزم
قطعه، ولكن سرعان ما جاورهم آخرون، فتتابع الناس في طريق الفتنة.
ولهذا كان التحذير من تلك السبيل أحد المهمات، ولاسيما بعد أن بدأ الاختلاط يشيع في المجتمعات المحافظة، فضلاً عن غيرها، ولعله من المناسب أن
يكون ذلك ببيان حكم الشرع في تخطي باب الحجاب بتلك الخطوات التي تخطوها المرأة، فتخرج بها عن حرز عفتها مختلطة بالرجال، مع تنبيه أخت
الإسلام إلى حيث ساقت غيرَها تلك الخطواتُ.
وهذا البحث محاولة لتقرير الحكم الشرعي لاختلاط الرجال بالنساء، مع بيان شيء من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة، التي لحقت من انساق وراء
تلك الفتنة.
وقد جعلته قسمين؛ الأول: دراسة فقهية تبين مراعاة الشريعة، لأصل الفصل بين الرجال والنساء، وفيها تسليط الضوء على بعض التشريعات التي
ربما اشتبهت على البعض، وبيان مراعاة صاحب الشريعة فيها المنع من الاختلاط، ثم تأكيد ذلك بذكر طرف من الأدلة على حرمة اختلاط الرجال
بالنساء، مع بيان وجه دلالتها، ثم عقبت بذكر بعض كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط، وأخيراً تناول البحث بعض الشبه التي ربما أثيرت حول
الموضوع.
والقسم الثاني: دراسة ثقافية في أضرار الاختلاط ومفاسده، جمعت فيها شيئاً من أقوال الغربيين، وإحصائياتهم الرسمية من مصادرهم المعتمدة، مع
ذكر حقائق وأرقام من أرض الواقع، تبين لذوي العقول السليمة، والفطر المستقيمة، الحكم العظيمة في منع اختلاط الرجال بالنساء في الشريعة.
وقد حرصت في هذه الدراسة على الإحالة إلى أصول النقول، من باب نسبة الفضل إلى أهله، ولأن المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، "نعوذ
بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة"[9].
اللهم إلاّ ما طوى النسيان موضعه أوصاحبه، وبقي معناه في الذهن، فأنشئ له العبارات، وأطلقه عن أهل العلم أو بعضهم.
أما الشبهات فلم أحرص على عزوها لأمور أهمها أنها ليست مما يتكثر به، ولأن أكثرها عرض إما في صحيفة سيارة، أو مجلة مشهورة، أو وسيلة
إعلامية مرئية أو مسموعة، كما أنك لاتدري أيُّ القائلين ابتدرها أو تولى كبرها.
وفي ختام هذه المقدمة لايسعني إلاّ أن أتقدم بجزيل الشكر وأوفره لمشايخي وإخوتي بمكتب فضيلة شيخنا ناصر بن سليمان العمر، وعلى رأسهم(/2)
فضيلته، فهو الذي حث على بسط المقال لأصل أسطر جوابية، وهو الذي مد بالمصادر والمراجع المطبوعة والإلكترونية، كما استفدت من ملاحظات
الإخوة بالمكتب العلمي لفضيلته ومن تدقيقاتهم وتوجيهاتهم فوائد مهمة فجزاهم الله خير الجزاء.
ومما يتعين كذلك شكر المشايخ الذين بذلوا من أوقاتهم الثمينة فراجعوا البحث ومهروه بتعليقاتهم القيمة، وتوجيهاتهم السديدة، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ
فهد القاضي، فجزاه الله وجزى إخوته خيري الدنيا والآخرة.
ومع ذلك يظل الإنسان للوهم كالغرض للسهم، وإنما يلتمس العذر من في فضله كمل، لاجاهل يهمل في تحصيل الفضائل، ويشري نفسه لنقص
الأفاضل.
هذا والله أسأل أن يوفق في هذه الدراسة للصواب، وأن يجنب من الزلل، وأن ينفع بها الجامع والقارئ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين.
معنى الاختلاط:
أجرى الفقهاء لفظ الاختلاط على مسائل شتى، والموضوع هنا اختلاط الرجال والنساء، أما من حيث وضع اللغة فالاختلاط لفظ له استعمالات عديدة
تدور على أصل واحد:
فمنه الاختلاط بمعنى التداخل، ومنه اختلاط الرجال بالنساء أي التداخل بينهم[10].
وكذلك يكون الاختلاط بضم الشيء إلى آخر، فيقال خلط الشيء بالشيء خلطاً إذا ضمه إليه[11].
وقد يمكن التَّمييز بعْد ذلك كما في الحَيَوانات، أَو لا يمكن كما في بعْض المائِعَات[12].
ولهذا قالوا من معناه الامتزاج، فخلط الشيء بالشيء يَخْلِطُه خَلْطاً و خَلَّطَه فاخْتَلَطَ مَزَجَه[13]، واخْتَلَطَ يَخْتَلِطُ اخْتِلاطاً: امتزج[14].
والاختلاط يطلق في الأعيان والمعاني، ومن أمثلة العرب قولهم: اختلط الليل بالتراب، واختلط الحابل بالنابل، واختلط المرعيُّ بالهَمَل، واختلط
الخاثر بالزباد. وتُضرَب في استبهام الأمر وارتباكهِ[15].
ومما سبق يلحظ أن مادة (خلط) في اللغة: أصل واحد، مضاد لـ (خلص): وهو أصل واحد مطرد، يفيد تنقية الشيء وتهذيبه[16].
وكأنهم يطلقونه باعتبار محل الأعيان إذا كان هناك تداخل أوتقارب أوتجاور، ولهذا قالوا للمجاور والصديق والشريك: خليط[17]، كما أنهم
يطلقونه باعتبار العين الواحدة نفسها إن كانت هناك ممازجة أوملاصقة، وعليه فإن الاختلاط قد يقع بالتقارب، أو التجاور، أو الضم، أو التداخل، وقد
تكون معه ممازجة أو ملاصقة وقد لاتكون.
فهو أعم من الممازجة، والالتصاق، والخلوة.
والمعنى الشرعي
لايختلف عن اللغوي ومنه قوله:
""وآخَرُونَ اعتَرَفوُا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالحِاً وآخَرَ سَيَّئاً .. "[التوبة:102]، أي ضموا ومزجوا.
وقوله: "وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانِكُمْ.. "[البقرة: 220]، أي تداخلوهم.
وقوله: "أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" [الأنعام:46]، أي انضم والتصق.
وقوله: "وإنَّ كَثَيِراً مِن الخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ" [ص: 24]، أي الشركاء"[18] سموا كذلك لأن الشراكة تحصل
بالخلط قبل العقد[19].
قال الراغب: "الخلط: هو الجمع بين أجزاء الشيئين فصاعدا، سواء كانا مائعين، أو جامدين، أو أحدهما مائعا والآخر جامدا، وهو أعم من
المزج، ويقال اختلط الشيء، قال تعالى: "فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ" [يونس:24]، ويقال للصديق والمجاور والشريك: خليط،
والخليطان في الفقه من ذلك، قال تعالى: " وإنَّ كَثَيِراً مِن الخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " [ص:24]، ويقال الخليط للواحد والجمع،
قال الشاعر:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ...[20]
وقال: "خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئاً" [التوبة:102]، أي: يتعاطون هذا مرة وذاك مرة، ويقال: أخلط فلان في كلامه: إذا
صار ذا تخليط، وأخلط الفرس في جريه كذلك، وهو كناية عن تقصيره فيه"[21].
وكذلك ما ورد في السنة يدور حول هذه المعاني، فأصل المادة واحد كما سبق، ومنه تفسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: لاخلاط
ولاوراط[22]، "بالحديث الآخر لايُجمع بين متفرق، ولايفرق بين مجتمع.. أما الجمع بين المتفرق فهو الخلاط.."[23].، وذكر
عدة آثار لاتخرج أصول معانيها عما سبق.
المعنى الاصطلاحي:
أما المعنى الاصطلاحي، فلم أقف على من وضع له تعريفاً جامعاً مانعاً من المتقدمين، غير أن المعاصرين ذكروا له تعريفات، تدور في فلك واحد،
محوره يرتكز على المعنى اللغوي.
قال العلامة ابن باز رحمه الله في تعريف الاختلاط: "هو اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات، في مكان واحد، بحكم العمل، أو البيع، أو الشراء، أو
النزهة، أو السفر، أو نحو ذلك"[24].
وقال الشيخ عبدالله بن جار الله رحمه الله: "الاختلاط هو: الاجتماع بين الرجل والمرأة التي ليست بمحرم، أو اجتماع الرجال بالنساء غير
المحارم، في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم، بالنظر أو الإشارة أو الكلام، فخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية على أي حال من الأحوال تعتبر
اختلاطاً"[25].(/3)
وقال الشيخ محمد المقدم في تعريف الاختلاط المستهتر: "هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم، اجتماعاً يؤدي إلى الريبة، أو هو اجتماع
الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن، من غير حائل أو مانع يدفع الريبة
والفساد"[26].
ومما سبق فاختلاط الرجال والنساء هو امتزاجهم، أو انضمام بعضهم لبعض، أو تداخلهم، سواء كان ذلك بملاصقة أو بغير ملاصقة.
فدخول الأجنبي على النساء اختلاط بهن، ودخول الأجنبية على الرجال اختلاط بهم، ودخول بعضهم على بعضهم اختلاط، وأما دخول أحدهما على
الآخر في رقعة ليس فيها سواهما ممن يعقل، أو كان فيها ولكن قام فاصل معتبر حال بينه وبينهم فتلك خلوة، وهي صورة خاصة من الاختلاط.
ولايكون الاختلاط مع وجود حائل معتبر –في جميع الصور السابقة- ولو كان فضاءً.
ولعل تقدير اعتبار الحائل أمر عرفي، تعتبر فيه الحال، إذ ليس فيه نص مُقيِّد، أو معنى مُنضبِط.
ولهذا أثر أن عائشة رضي الله عنها كانت تطوف بالبيت حجرة غير مختلطة بالرجال، ونظائره، مما سيأتي في موضعه.
تنبيه: الأصل في لفظ الاختلاط الذي يطلق في هذا البحث هو ما قرر هنا من معنى اصطلاحي فليلحظ.
حكم الاختلاط بالأجانب وحكمته:
اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال،
والعقل[27]. وهذه الضروريات إذا فقدت، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت
النجاة..
وفاحشة الزنا -كما ذكر أهل العلم- انتهت من القبح إلى الغاية، فهي من أعظم الفواحش، ومن أشدها خطراً على ضروريات الدين؛ ولهذا صار
تحريم الزنا مجمعاً عليه من قبل العامة والخاصة[28]، فهو معلوم من الدين بالضرورة[29]، ونصوص تحريمه ظاهرة مشهورة.
قال الله عز وجل: "ولا تَقْرَبُوا الزِنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً"، والنهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله[30]؛ قال العلامة
ابن سعدي: لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه؛ فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه[31].
وللأستاذ سيد قطب كلمة لطيفة يقول فيها: " ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية, كان التعبير: ولا تقربوا. . للنهي عن مجرد
الاقتراب, سداً للذرائع, واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة. . لذلك حرمت النظرة الثانية -بعد الأولى غير المتعمدة- ولذلك كان
الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج -حتى بالتعطر في الطريق- حراماً, وكانت الحركات المثيرة، والضحكات
المثيرة, والإشارت المثيرة, ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة.. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في
المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود, ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن
خلق, وهو اللطيف الخبير . ."[32].
وصدق رحمه الله، وقد عُلم من مدارك الشرع، أن الشارع الحكيم إذا نهى عن محرم، منع أسبابه وما يقود إليه، فالوسائل لها أحكام المقاصد،
والشريعة جاءت بسد الذرائع، والنهي عن الشيء نهي عنه وعن الذرائع المؤدية إليه، وهذه الذرائع إما أن تفضي إلى المحرم غالباً، فتحرم مطلقاً،
وكذلك تحرم إذا كانت محتملة قد تفضي أو لاتفضي، ولكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت تفضي أحياناً، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على
هذا الإفضاء القليل حرمت[33].
ومن أعظم مقدمات فاحشة الزنا؛ اختلاط الرجال بالنساء، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش
والزنا"[34]، وقال العلامة محمد ابن إبراهيم: "إن الله تعالى جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى
الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط، نشأ عن ذلك آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيئ؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمي
ويصم، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر"[35]، وقال العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين
التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره: الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع، ويهدم
قيمه وأخلاقه"[36].
وما ذكره أهل العلم أقر به الغربيون، وشهد له الواقع، قالت الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: .. وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد
الزنا، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة. إلى أن قالت: علِّموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد[37].
أما الواقع فـ"في دراسة أجرتها النقابة القومية للمدرسين البريطانيين أكدت فيها أن التعليم المختلط أدى إلى انتشار ظاهرة التلميذات الحوامل سفاحاً(/4)
(بالحرام) وأعمارهن أقل من ستة عشر عاماً، كما أثبتت الدراسة تزايد معدل الجرائم الجنسية (الزنا) والاعتداء على الفتيات بنسب كبيرة.
وفي أمريكا بلغت نسبة التلميذات الحوامل سفاحاً (48%) من تلميذات إحدى المدارس الثانوية"[38]، وتقول راشيل بريتشرد[39]:
"التعليم المختلط يشجع على العلاقات بين الأولاد والبنات، وإذا أُحصي عدد المراهقات الحوامل من مدارس مختلطة ومن مدارس بدون اختلاط (
خصوصاً المدارس الإسلامية) لوجدنا في الغالب أن النسبة في المدارس المختلطة تكون 57 % على الأقل مقارنة بالمدارس التي تطبق
الفصل بين الجنسين بنسبة لعلها قرب من 5% (في حين ستجد أن النسبة في المدارس الإسلامية هي الصفر)، كما أنني أعتقد أن اختلاط الجنسين
يؤدي إلى عدم تركيزهم من الناحية الدراسية؛ لأن اهتمامهم سيكون موجهاً للجنس الآخر".
هذا نموذج لما يقود إليه الاختلاط من معاص وخلل، ولايعني عدم ذكر غيرها ذكراً للعدم، بل الاختلاط مقتض لمعاص أخرى، كزنا العين والأذن
واللسان وقس عليها، كما أنه سبيل إلى "هتك الأعراض، ومرض القلوب، وخطرات النفوس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء،
وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة"[40]،كما أنه باب لمفاسد أخلاقية، وأضرار تربوية، وقد يكون عائقاً عن وظائف المرأة وواجباتها
الأساسية، ولعله تأتي الإشارة لشيء من مفاسد الاختلاط في الفصل الثاني من هذا البحث.
ولهذا دل الكتاب والسنة على تحريم الاختلاط[41]، وعدم جوازه إلاّ لحاجة بوجود محرم، أو من يقوم مقامه[42] في غير سفر، وفق
ضوابط تُؤمن معها الفتنة، تختلف باختلاف الحال والمقام.
وقد وقع الخلاف في قيام غير المحرم مقام المحرم، وذلك عند دخول النساء على الرجال أو العكس، وقد أشار إلى الخلاف ابن حجر في الفتح
وذهب إلى الجواز شريطة أن يقوم غير المحرم مقامه، لضعف التهمة حينها، ثم قال: "وقال القفال: لابد من المحرم، وكذا في النسوة الثقات
لابد أن يكون مع إحداهن محرم. ويؤيده نص الشافعي أنه لايجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات، إلاّ أن تكون إحداهن محرماً له"[43].
ولعل من أدلة جوازه لحاجة مع وجود محرم على ما سبق حديث ابن عباس في الصحيح: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم". فقال رجل: "يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا،
وامرأتي تريد الحج". فقال: "اخرج معها"[44].
ففي الحديث حكمان تنبغي الإشارة لهما هنا، الأول: الإذن بالدخول على النساء إذا وجد المحرم.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما ثبت عند البخاري وغيره عن سهل قال لما عرس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع
لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلاّ امرأته أم أسيد، بلّت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له فسقته
تتحفه بذلك[45].
قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من
الستر"[46].
وقد اختلف أهل العلم في سد غير المحرم محله. ولعل الصواب ما سبق ذكره من صحة قيام غير المحرم محله لحاجة في غير سفر وفق ضوابط
تؤمن معها الفتنة، ولعل بعض ما نُقل من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة في عهد النبوة تدل على هذا.
ومن ذلك عرض المرأة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع أصحابه[47]، ومنه سؤال الصحابيات للنبي صلى الله عليه وسلم
عن أحكام الدين بواسطة[48] وبغيرها[49].
أما الحكم الثاني في حديث ابن عباس: فهو لزوم المحرم للمرأة في سفرها، ولو لواجب[50]، ولعل الخلاف في قيام غير المحرم محله هنا
ضعيف، فالأخبار جاءت متنوعة في منع المرأة من السفر بغير محرم ولم يثبت نص يفيد الترخيص اللهم إلاّ لضرورة، يقررها أهل الشأن.
والخلاصة: "الاختلاط بين الرجال والنساء، محرم ظاهر التحريم"[51]من حيث الأصل، وبعض صوره على ما تقرر في تعريفه، نقل
بعض أهل العلم الإجماع على تحريمها، وهي الخلوة[52] ولو بمخطوبة اتفاقاً[53]. بل قال بعض أهل العلم: "وتحرم الخلوة بغير
محرم، ولو بحيوان يشتهي المرأة وتشتهيه كالقرد"[54].
وهناك صور أظهر في تحريم الاختلاط من غيرها، كـ"إذا كان فيه:
1- الخلوة بالأجنبية، والنظر بشهوة إليها.
2- تبذل المرأة وعدم احتشامها.
3- عبث ولهو وملامسة للأبدان، كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد"[55].
فهذا اختلاط واضح التحريم، لمخالفته قواعد الشريعة، وقد تستثنى منه صور تحت إلجاء الضرورة، من نحو ما قد يضطر إليه الطبيب[56].
وهناك صور الأصل فيها المنع، غير أنها تجوز للحاجة، وفق ضوابط وشروط مضت الإشارة إليها.
كما أن هناك صوراً تدخل في المعنى اللغوي والشرعي للاختلاط، ولكنها غير داخلة في المعنى الاصطلاحي على ما سبق بيانه، والأصل جوازها(/5)
كاختلاط النساء بمحارمهن، وكذلك الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ومن كان نحوهم، ما دام جانب الفتنة مأموناً، ومنه كذلك الاختلاط
مع وجود محرم أو فاصل معتبر وإن كان فضاءً[57].
وقد ينتقل أصل الجواز لأحد الأحكام التكليفية الأربعة لمقتض خارجي، والله أعلم.
الأصل أمر النساء بالقرار في البيوت:
إن من متطلبات الحياة خروج الرجال وتكبدهم المشاق حِسيةً ومعنوية، وليس ذلك مطلوباً لذاته، ولكنه من أجل الكسب وتحصيل القوت والقيام بالنفقة،
فليس الأمر بالسعي والكد تشريفاً للرجال بل هو تكليف بما يناسب خَلْقَ وأخلاق من يتجشم ذلك، وبالمقابل قرار المرأة في بيتها أليق بها، وأكثر صيانة
لها، وأصلح لأولادها وأنفع لزوجها ومجتمعها، ولهذا قالوا: "الرجل يجني والمرأة تبني".
وصدق من قال:
إذا لم تكن في منزل المرء حُرّة رأى خللاً فيما تدير الولائدُ
ولآخر:
إذا لم تكن في منزل المرء حرةٌ تُدَبِّره ضاعت مصالح داره
إن"البيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة, ولا مكدودة في غير وظيفتها
التي هيأها الله لها بالفطرة.
ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها, أوجب على الرجل النفقة, وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد, ومن
الوقت, ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب, وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.
فالأم المكدودة بالعمل للكسب, المرهقة بمقتضيات العمل, المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره,
ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات; وما يشيع فيها ذلك الأرج
الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لاتوجد إلا أن تخلقها امرأة, وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة, وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه
أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال
والملال"[58].
ولهذا كان قرار المرأة في بيتها هو الأصل، "فهو عزيمة شرعية في حقهن، وخروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو
حاجة"[59] ، "بضوابط الخروج الشرعية"[60]، قال الله: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى"، قال القرطبي
–رحمه الله- "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم
يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف على الخروج منها إلا لضرورة"[61]، حتى أن إمام
التفسير مجاهد فسر التبرج هنا بما دل عليه صدر الآية فقال: "كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى"[62]،
وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن المرأة تلزم بيتها لاتخرج منه إلاّ لضرورة، قال ابن الحاج: "خروج المرأة لايكون إلاّ لضرورة
شرعية"[63].
وقال الجصاص في الآية الآنفة: "وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت، منهيات عن الخروج"[64].
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: " قوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ" يعني اسكُنَّ فيها ولا تتحرَّكن, ولا تبرحن منها، حتى إنه رُوي
ولَم يصح[65] أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما انْصرف من حجة الوداع قال لأزواجه هذه ثم ظهور الحصر; إشارةً إلى ما يلْزمُ المرأة
من لزوم بيتها, والانكفاف عن الخروج منه, إلا لضرورة"[66]، ونحوه ذكر ابن كثير: "يعني الزمن ظهور الحصر ولاتخرجن من
البيوت"[67].
قال الشيخ بكر أبوزيد: "ومن نظر في آيات القرآن الكريم، وجد أن البيوت مضافة إلى النساء في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى، مع أن البيوت
للأزواج أو لأوليائهن، وإنما حصلت هذه الإضافة -والله أعلم- مراعاة لاستمرار لزوم النساء للبيوت، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن
والتصاق به[68]، لا إضافة تمليك، قال الله تعالى : "وقرن في بيوتكن" ، وقال سبحانه : "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَات ِاللهِ
وَالحِكْمَةِ"، وقال عز شأنه : " لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ" "[69].
ومع ذلك قد تقتضي الحاجة خروج النساء، وعندها فلا حرج في خروجهن إذا أمنت الفتنة وكان خروجها منضبطاً بضوابط الشريعة، فلا تخرج
متطيبة ولا متزينة، أو متبرجة ولا سافرة، ولاتزاحم الرجال في وسط الطرقات، بل تلتزم حافتها، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الأجانب فلا تخضع
بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فمتى انقضت الحاجة أو ارتفعت الضرورة عاد كل إلى أصله.
أما إذا لم تكن ثمة حاجة فقد قال الله عزوجل: "وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ"، ومع هذا الأمر بالقرار وحذراً من مغبة الاختلاط منع من الدخول على(/6)
النساء، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر المتفق عليه: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يارسول
الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"[70].
لا يأمننَّ على النساء أخٌ أخاً ما في الرجالِ على النساء أمين
بل أُثر النهي حتى عن دخول غير أولى الإربة من الرجال على النساء، ففي الصحيحين من حديث أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: "دخل
علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعته يقول لعبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة
غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلن هؤلاء عليكن"[71].
وكل ذلك لعظم فتنة النساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة ابن زيد المتفق عليه: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال
من النساء"[72].
قال الله تعالى: "زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِن الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ وَالحَرْثِ" الآية،
"فجعلهن من عين الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع، إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك"[73]، قال القرطبي: " بدأبهن لكثرة تشوف
النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال"[74] وذكر حديث أسامة الآنف.
وقد قالوا:
إنَّ النِسَاء رَياحِينٌ خُلِقنَ لنا وكُلُنَا يشتهي شمَّ الرياحينِ
وللآخر:
ونحن بنو الدنيا وهُنَّ بناتُها وعيش بني الدنيا لقاء بناتها
فلكل امرأة خاطب، ولكل ساقطة لاقط، ولهذا حذر عقلاء الأمم منذ القدم مغبة مخالطة الرجال للنساء، "قال بعض الحكماء: إياك ومخالطة
النساء، فإن لحظ المرأة سهم، ولفظها سم. ورأى بعض الحكماء صياداً يكلم امرأة فقال: ياصياد احذر أن تصاد. وقال سليمان بن داود عليهما
السلام لابنه: امش وراء الأسد ولاتمش وراء المرأة.."[75].
ومما سبق نخلص إلى أن "الأصل أمر النساء بلزوم البيوت، ونهيهن عن الخروج منها، وقد ذكر الكاساني عند الكلام عن أحكام النكاح الصحيح أن
منها: ملك الاحتباس وهو صيرورتها (الزوجة) ممنوعة من الخروج والبروز لقوله تعالى: "أَسْكِنُوهُنَّ", والأمر بالإسكان نهي عن
الخروج, والبروز, والإخراج, إذ الأمر بالفعل نهي عن ضده, وقوله عز وجل: "وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ" وقوله عز وجل: "لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ" ولأنها لو لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب; لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله
على نفي النسب. وقد مضى ذكر كلام بعض أهل العلم في تقرير أمر النساء بالقرار في معرض تناولهم لقول الله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ"
وغيرها من الآيات، وسبقت الإشارة إلى بعض الأحاديث الدالة على هذا المعنى.
أما عند الحاجة كزيارة الآباء, والأمهات, وذوي المحارم, وشهود موت من ذكر, وحضور عرسه وقضاء حاجة لا غناء للمرأة عنها
ولا تجد من يقوم بها يجوز لها الخروج، إلا أن الفقهاء قيدوا ذلك بقيود من أهمها:
1 - أن تكون المرأة غير مخشية الفتنة, أما التي يخشى الافتتان بها فلا تخرج أصلا.
2 - أن تكون الطريق مأمونة من توقع المفسدة وإلا حرم خروجها.
3 - أن يكون خروجها في زمن أمن الرجال ولا يفضي إلى اختلاطها بهم; لأن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية
وشر...
4 - أن يكون خروجها على تبذل وتستر تام، قال العيني: يجوز الخروج لما تحتاج إليه المرأة من أمورها الجائزة بشرط أن تكون بذة الهيئة,
خشنة الملبس, تفلة الريح, مستورة الأعضاء غير متبرجة بزينة ولا رافعة صوتها.
5 - أن يكون الخروج بإذن الزوج, فلا يجوز لها الخروج إلا بإذنه. قال ابن حجر الهيتمي: وإذا اضطرت امرأة للخروج لزيارة والد
خرجت بإذن زوجها غير متبرجة. ونقل ابن حجر العسقلاني عن النووي عند التعليق على حديث : "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد
فأذنوا لهن"[76] أنه قال: استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وللزوج منع زوجته
من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد, سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما. قال أحمد في امرأة لها زوج وأم
مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها... ولأن طاعة الزوج واجبة, والعيادة غير واجبة فلا يجوز ترك الواجب لما
ليس بواجب. ولا ينبغي للزوج منع زوجته من عيادة والديها, وزيارتهما لأن في منعها من ذلك قطيعة لهما, وحملا لزوجته على مخالفته,
وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف, وليس هذا من المعاشرة بالمعروف..."[77].
مراعاة المنع من الاختلاط في التشريع:
إذا عرضت للمرأة حاجة تسوغ خروجها فلا حرج عليها إن خرجت وفقاً لما سبق بيانه، غير أن تلك الحاجة لاتسوغ اختلاطها بالرجال إلاّ أن تكون(/7)
ضرورة، وذلك لحرمة الاختلاط وإن من أقوى الأدلة على تحريم الاختلاط، رعاية الشارع للنساء، وصيانته لهن من الاختلاط في سائر أحكام
التشريع.
ولهذا "اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس... وكان علمها عند الأمة كالضروري، مع
أنه لم يثبت ذلك بدليل معين، ولا شهد به أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب
واحد"[78].
فمن تأمل نصوص الشريعة وجد أنها راعت طبيعة المرأة فلم توجب عليها التكاليف التي يكون فيها بروز ومخالطة للرجال، ومن ذلك إيجاب الجمع
والجماعات على الرجال دون النساء، ومنه فرض الجهاد على الرجال دون النساء، وكذلك فرض النفقة على الرجل دون المرأة.
لكن ربما دعت الشريعة النساء إلى شهود ما يحضره الرجال، خلافاً للأصل الذي قررته وهو قرارهن في البيوت، غير أن المتأمل يلحظ في هذا أحد
أمرين:
الأول: إما أن تكون المناسبة مما يفوت وقته وتذهب مصلحته بتأخيره كنحو شهود الأعياد.
الثاني: يضيف إلى ما سبق أن يكون محل المأمور به واحداً، اقتضت الحكمة الإلهية أن لايتعدد، كالطواف والسعي والرمي وغيرها من أعمال الحج
أو العمرة.
وفي كلا الأمرين مصلحة العبادة تشمل جميع المكلفين، والعنت يلحق الناس إذا وضع لها الشارع نمطاً يكفل عدم الاختلاط، ومع ذلك فإن نحو هذه
العبادات وضع الشارع لها من الضوابط ما يكفل عدم امتزاج الرجال بالنساء.
وإذا نظرت إلى واقع النساء في العهد الأول، وجدتهن بعيدات عن خلطة الرجال، يخرجن للحاجات والضروريات، متقيدات بالشريعة غير مفتئتات،
ملتزمات في عبادتهن بما يكفل لهن الصيانة من خلطة الغرباء.
وفي ما يلي بعض العبادات التي راعى فيها التشريع ذلك الأصل وقد تكون محل التباس عند البعض:
1 - طلبهن العلم:
طلب العلم واجب على كل مسلمة، كشأن الرجال فالكل محتاج إليه، ومع ذلك لم يكنَّ يُزاحمن الرجال لأجل تحصيله، ولكن طلبن أن يَجْعَل لهنّ النبي
صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً لايكون للرجال فيه نصيب، وقد بوب البخاري في كتاب العلم من الصحيح، باب: هل يجعل للنساء يوم على
حدة في العلم، وساق حديث أبي سعيد، قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً..
الحديث[79]، قال العيني: "أي عين لنا يوماً" وقال: "قوله غلبنا عليك الرجال معناه أن الرجال يلازمونك كل الأيام ويسمعون العلم
وأمور الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم، فاجعل لنا يوماً من الأيام نسمع العلم ونتعلم أمور الدين"[80].
وقد نص الفقهاء على المنع من اختلاط رجال بنساء في المسجد، لما يترتب عليه من مفاسد[81]، ويشمل ذلك الاختلاط بغية طلب العلم.
ولو كان الاختلاط جائزاً لقال لهن احضرن مع الرجال مجالس العلم والذكر، فهو أولى من تبديد الطاقات والنبي صلى الله عليه وسلم أحرص على
حفظ الأوقات.
2 - مبايعتهن النبي صلى الله عليه وسلم:
من مراعاة التشريع للمنع في الاختلاط فيها، جعل محل خاص بهن، بعيد عن الرجال، أتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولم تقل إحداهن لماذا لم
تأخذ علينا البيعة مع الرجال! بل خرجن فاجتمعن مع بنات جنسهن لهذه الحاجة الدينية، ملتزمات بالضوابط الشرعية، فأخذ عليهن النبي صلى الله
عليه وسلم البيعة وعلمهن وما مست يده يد امرأة قط[82]، وما يُروى في صفة ذلك من نحو مصافحة عمر –رضي الله عنه- لهن نيابة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في إناء فيه ماء، أو جاء بحائل فهذا ونحوه لم يثبت بنقل صحيح، فلا يعارض
به ما ثبت.
3 - ندبهن لشهود أعياد المسلمين، وجواز حضورهن الجمع والجماعات:
صلاة العيد مناسبة يفوت وقتها وتذهب مصلحتها بتأخيرها، ومن نظر إلى مقاصد العيد علم حكمة الشارع في عدم تكرار شعائره لأجل فصل الرجال
والنساء فيه، فإن في ذلك عنتاً لايتناسب مع تيسير الشريعة، ومشقة لاتتناسب وتلك الأيام التي جعلها الشارع للتوسعة والترخص المنضبط وصلة
الأرحام، ولذلك ناسب أن يحض الرجال والنساء على أداء صلاتها جميعاً مع وضع الضوابط التي تكفل عدم امتزاج الرجال بالنساء، قال ابن حجر
في تعليقه على خطبة النبي صلى الله عليه وسلم النساء يوم العيد: " قوله: "ثم أتى النساء" يُشعِر بأنّ النساء كُنّ على حدة من الرجال
غير مختلطات بهم، وقوله: "ومعه بلال" فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة
إليه من شاهد ونحوه، لأن بلالاً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب
صغره"[83]، وقريب منه قول الخراشي في تعليل استحباب صلاة العيد في الفضاء حيث يقول: "ولبعدهن من الرجال لما فرغ من خطبته(/8)
وصلاته، جاء إليهن فوعظهن وذكرهن، فلو كن قريباً لسمعن الخطبة.."[84]، ومع ذلك اختلف أهل العلم فقال ابن عبدالبر: "..قال
مالك لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد، فإذا جاء الاستسقاء والعيد فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة مُتَجَّالَّة[85]. هذه رواية ابن القاسم
عنه.
وروى عنه أشهب قال: تخرج المرأة المتجالّة إلى المسجد، ولا تكثر التردد، وتخرج الشابة مرة بعد مرة. وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك
أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها[86].
وقال الثوري ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزاً.
قال الثوري: قال عبد الله: المرأة عورة، وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.
وقال الثوري: أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين.
وقال ابن المبارك أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها ولا تتزين[87]،
فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك"[88].
ثم قال أبو عمر: "أقوال الفقهاء في هذا الباب متقاربة المعنى وخيرها قول ابن المبارك لأنه غير مخالف لشيء منها ويشهد له قول عائشة: لو
أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المسجد، ومع أحوال الناس اليوم ومع فضل صلاة المرأة في بيتها فتدبر
ذلك"[89]، وفي زماننا هذا ما أحوجنا لأن نتدبر ذلك.
ثم إن جواز شهودهن الجمع والجماعات بالضوابط التي وضعها الشارع لصلاة المرأة في المسجد، دليل واضح يفيد مراعاة الشريعة لأصل الفصل
بين الرجال والنساء، فقد جعل الشارع صلاة المرأة في قعر دارها خير لها حتى جاء عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة
المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"[90] قال في العون: " لأن مبنى أمرها
على التستر"[91]، قال ابن حجر: "ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء
من التبرج والزينة"[92]، وقد قال ابن عبدالبر بعد أن ذكر أحاديث مسندة في لزوم المرأة بيتها: "قد أوردنا من الآثار المسندة في هذا الباب
ما فيه كفاية وغنى فمن تدبرها وفهمها وقف على فقه هذا الباب"[93].
وبعد ذلك إذا خرجت المرأة أمرها الشارع أن تخرج تفلة غير متطيبة ولا متزينة، فإن خالفت ذلك عصت الله بخروجها ولو إلى مسجد، كما في
صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس
طيباً"[94].
ثم إذا جاءت المسجد تدخل من باب خاص لايدخل منه الرجال فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بنى
المسجد جعل باباً للنساء، وقال: "لو تركنا هذا الباب للنساء" قال نافع فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات[95]، وروى نافع أن عمر –
رضي الله عنه- كان ينهى أن يدخل من باب النساء[96]. فإذا دخلت المرأة المسجد كان خير صفوفها أبعدها عن الرجال، وكان شرها
أقربها منهم لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء
آخرها، وشرها أولها"[97]، وقد علل الفقهاء ذلك لما فيه من البعد عن مخالطة الرجال[98]، فإذا خرجت من المسجد فعليها أن تستأخر
وتلتزم حافة الطريق كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق "
فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها كما جاء عند أبي داود بسند حسن[99]. قال ابن الأثير: يحققن
الطريق هو أن يركبن حقها، وهو وسطها[100]، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على قطع كل سبب للاختلاط وإن
كان غرض الخروج أداء الفرض فكيف يسوغ في غيره، وإذا منعهن من الاختلاط العابر في الطريق إلى المسجد والمؤقت في داخل المسجد لأنه
يؤدي إلى الافتنان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غيره؟
4- حج النساء واعتمارهن:
مما فرضه الله على المرأة والرجل، الركن الخامس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ولما كانت أعمال الحج والعمرة يتحد محلها للرجال والنساء،
ولامصلحة من تغيير وقته أو فصل محله فإن في ذلك عنتاً لايخفى على المتأمل، لهذا اقتصر التشريع على وضع ضوابط لمن قصد هذا الركن من
النساء، تكفل صيانة أعراضهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال[101] قدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجاً أو عمرة
إلاّ إذا كان معها محرم، ومن أباح لها السفر من الفقهاء مع رفقة من النساء مأمونةٍ قال: "لتستأنس بهنَّ ولاتحتاج إلى مخالطة
الرجال"[102]، بل كره مالك أن تركب البحر ولو للحج لأنه مظنة خلطة، وفرق فقهاء المالكية بين ما إذا كان في السفينة مكان تستغني به عن
مخالطة الرجال فجوزوا هذا ومنعوا إذا لم يكن[103]، ثم جعل الشارع رخصاً لمن كانت معه نساء أوضعفة ليست لغيره، كالدفع من مزدلفة(/9)
بليل فقد رويت فيه آثار ومن ذلك حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت" يا
بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى
رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت: لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أذن للظعن[104]. والأحاديث في هذا معروفة وقد رخص بها جمع من أهل العلم للنساء في الرمي قبل طلوع الشمس ولو كانت جمرة
العقبة.
ومن مراعاة المرأة قول طائفة من الفقهاء بجواز تأخير الرمي إلى بعد الغروب، بل إن الفقهاء مراعاة لأصل المنع من الاختلاط في الشريعة استحبوا
للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو طوافها بعيدة عن البيت[105]، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية
الزحام[106].
وفي البخاري: "قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه
وسلم مع الرجال! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن
يخالطن. كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة[107] من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت
انطلقي عنك وأبت.."[108]، ولهذا كره بعض الفقهاء الطواف مع وجود الاختلاط بين الرجال والنساء قال الحطاب في مواهب الجليل:
" نقل في المسائل الملقوطة عن والده أنّه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء"[109].
ومن مراعاة بعض أمهات المؤمنين للأمر بلزوم البيوت ونبذهن الاختلاط، اكتفاؤهن بحجة الفريضة، وترك القيام للتطوع، وهذا مأثور عن زينب
وسودة رضي الله عنهما، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "هذه ثم ظهور الحصر"[110].
ومن مراعاة أهل العلم للمنع من الاختلاط قول ابن جماعة في منسكه الكبير:"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة
الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة..." إلى أن قال: "نسأل الله أن يلهم ولي الأمر
إزالة المنكرات" ، قال الهيتمي بعد أن نقله: "فتأمله تجده صريحاً في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي
الفتنة"[111].
ومن مراعاتهم للمنع من الاختلاط في النسك قولهم: لايستحب لها أن تزاحم الرجال لاستلام الحجر الأسود[112].
وقولهم: لاتقف المرأة على الصفا للدعاء إلاّ إذا خلا المكان عن مزاحمة الرجال، ويكون سنة في حقها إذا خلا المكان[113].
ولعله يأتي ذكر طرف من أقوالهم التي تفيد اعتبارهم المنع من الاختلاط في التعليل للأحكام.
ومما سبق نخلص إلى أن الشارع حف الحج والعمرة بمأحكام تكفل منع الخلطة المحرمة ومن ذلك اشتراط المحرم، ومع ذلك ندب المرأة إلى ترك
مزاحمة الرجال، واستحب لها الفقهاء لأجل ذلك ما لم يستحبوه للرجال. وقد كانت أمهات المؤمنين ونساء الصالحين يراعين ذلك فيمتزن عن
الرجال، غير أنه تبقى طائفة نسوةٍ في القديم والحديث يصدق فيهن قول الأول:
من اللائيْ لم يحججن يبغين حسبةً ولكن ليقتلن البريءَ المغفلا
فعلى أخت الإسلام أن لاتغتر بهن، نسأل الله أن يصلح حال أخواتنا وأمهاتنا ونسائنا ونساء المسلمين.
5SH> - خروجهن للجهاد:
إن خروج النساء في الصدر الأول للغزو تطوعاً بل واستشهاد بعضهن حق لامرية فيه، وقد بوب البخاري في صحيحه؛ باب: الدعاء بالجهاد
والشهادة للرجال والنساء، وباب: غزو المرأة في البحر، وباب: حمل الرجل امرأته في غزو دون بعض نسائه، وباب: غزو النساء وقتالهن
مع الرجال، وباب: مداواة النساء الجرحى في الغزو، وباب: رد النساء الجرحى والقتلى.
غير أن الشارع لم يوجب عليهن الجهاد بالاتفاق[114]، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا نجاهد؟" قال:
"لا، لَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور"[115]، ومن علله قول الصنعاني: "لأن النساء مأمورات بالستر والسكون، والجهاد ينافي ذلك، إذ فيه
مخالطة الأقران، والمبارزة ورفع الأصوات"[116]، وقد نص أهل العلم على أن الذكورية شرط لوجوبه.
بيد أن خروج النساء في العصر الأول للجهاد كان منضبطاً بضوابط الشريعة، والتي منها مراعاة المنع من الاختلاط، وأسباب الفتنة، فمن أجازوا
خروج النساء للغزو[117] اختلفوا في خروج الشابة إلى أرض العدو بينما رخصوا للعجوز، وقالوا بالكراهة لخروجها في سرية لايؤمن
عليها، وعلق بعضهم الإباحة بكون العسكر كثيراً تؤمن عليه الغلبة[118]، وهذا هو الأقرب.
ومن الضوابط الشرعية لجواز خروج النساء للجهاد:
وجود المحرم لعموم أدلته، وعدم وجود ما يخصص موطن الجهاد، وقد نص أهل العلم على ذلك[119].
وهذا هو الذي ورد عن الصحابة فقد كانوا يخرجون للجهاد وربما صحبوا بعض المحارم من نحو زوجة وأم، ولا أظن أن منصفاً لبيباً يتصور خروج(/10)
نساء ذلك الجيل للجهاد وبقاء أزواجهنّ أو أبنائهن أو أخوالهن أو أعمامهن أو سائر محارمهن في قعر البيوتات! ومن ظن ذلك فقد أساء الظِنّة بمن
أثنى الله عليهم وأوجب حسن الظن بهم، "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين"، بل كانوا يبادرون إلى
الجهاد، وأخبار مبادرتهم مشهورة معروفة، وقد تخلف في أحد المغازي ثلاثة نفر فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، كما قال عز وجل: "
وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ
اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
ومن ضوابط الشرع التي يقتضي حسن الظن بهن التزامهن بها؛ الحجاب والتستر، فالأمر به عام ولم يأت ما يخرج محل الجهاد عن ذلك العموم،
والأصل التزامهن بأمر الشارع.
ثم كيف يظن بمن خرجت لنفل إهمالها لواجبٍ يتنزل الأمر به، ومبلغه قائم تراه بأم عينها.
وظيفة النساء في الجهاد:
قديماً قالت العرب: "لاتسد الثغور بالمحصنات"، وهذا حق فإن القتال وسد الثغور، لايناسب بنية المرأة وخِلقتها، ولاسيما في تلك العهود، ومن
تأمل خروج النساء في الجهاد وجده لحاجة الخدمة والرجوع بالموتى، أولضرورة مداواة المرضى والجرحى، أما إذا لم تكن ثمة ضرورة فلا تباشر
علاج أجنبي، قال الشوكاني: "قال ابن بطال: ويختص اتفاقهم ذلك بذوات المحارم، وإن دعت الضرورة فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل
على ذلك اتفاقهم أن المرأة إذا ماتت ولم توجد إمرأة تغسلها، أن الرجل لايباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري،
وفي قول الأكثر تيمم، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي. قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل عبادة والمداواة
ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات" [120] وهذا الكلام ينسحب على غير الغزو وإن كان وقوعه في الغزو أكثر.
هذا هو الأصل في خروجهن للجهاد، وتلك هي وظيفتهن، يؤكد ذلك حديث الربيع بنت معوذ في البخاري وغيره: "كنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة"، وفي لفظ "فنسقي القوم ونخدمهم"[121].
غير أنه وردت أخبار تفيد خروج النساء عن هذا الأصل في بعض حالات الاضطرار، فربما شاركن في القتال، ولعله تأت الإشارة إليه قريباً.
حكم شهودهن القتال والتحامهن بالرجال
ليس للمرأة أن تشهد القتال وتلتحم بالرجال، قال ابن حجر في الفتح معلقاً على تبويب البخاري: غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وقد أورد فيه
حديث أنس رضي الله عنه في اشتغال بعضهن بالسقيا فقال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "ولقد
رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما[122] تنقزان القرب" وقال غيره: "تنقلان القرب على متونهما
ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم"[123] قال ابن حجر: "ولم أر في شيء من ذلك
التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن
ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلاّ وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب. انتهى"، ولغرابة أن يكون مراد البخاري بقوله وقتالهن مع
الرجال، أي اشتراكهن فيه، التمس ابن حجر –رحمه الله- للتبويب وجهاً بعيداً فقال: "ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن
لايقاتلن وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله: "وقتالهن مع الرجال" أي هل هو سائغ؟"[124] ولعل في هذا بعدا كما قال العيني:
"لم يكن غرض البخاري هذا الاحتمال البعيد أصلاً، ولا هذا التقدير الذي قدره، لأنه خلاف ما يقتضيه التركيب، فكيف يقول: هل هو سائغ؟ بل
هو واجب عليها الدفع إذا دنا منها العدو"[125]، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير وقتالهن مع الرجال أي في حال الاضطرار إذا دنى منهن
الرجال كما في الأثر، غير أن قول العيني بل هو واجب محل نظر، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة توليتهن الأدبار بالفرار حال الانهزام وسيأتي
نص الشافعي فيه قريباً. وقد أورد البخاري الآثار في خدمتهن الجيش ورعايتهن الأسرى وإرجاعهن الموتى بعد أن ذكر خروجهن للغزو
ومشاركتهن فيه، وكأنه يشرح كيف كان جهادهن، ولهذا قال الصنعاني: "وفي البخاري ما يدل على أن جهادهن إذا حضرن مواقف الجهاد سقي
الماء ومداواة المرضى ومناولة السهام"[126]، وقد جاء عند أحمد وغيره في أثر ابن عباس عندما سئل عن شهود النساء للقتال، أنهن كن
يداوين الجرحى ويقمن على المرضى ولايحضرن القتال[127]، وهذا هو المتوجه فلايتصور خروج النساء لمباشرة القتال مع تصور طبيعة(/11)
القتال في ذلك الجيل، فإنه يحتاج إلى سواعد الرجال، وبنية المرأة ضعيفة ولهذا لم يوجب عليها القتال[128] كشأن سائر الضعفاء قال في
السير: "لايعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب، لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال، كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوله: "هاه، ما كانت هذه تقاتل"، وربما يكون في قتالها كشف عورة المسلمين، فيفرح به المشركون، وربما يكون ذلك سبب لجرأة المشركين
على المسلمين فيقولون: احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء على قتالنا، فليتحرز عن هذا، ولهذا المعنى لايستحب لهن مباشرة القتال إلاّ أن يضطر
المسلمون إلى ذلك، فإن دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز بل واجب"[129] ، ولهذا ورد أنه يرضخ لهن
إن خرجن من الغنيمة ولايُسهم وما ورد في إسهامه لبعضهن حمل على الرضخ[130] وذلك لعدم شهودهن القتال.
وقد تقرر أن الضرورة تبيح المحظور، فإن اضطرت النساء لمباشرة القتال إذا انهزم المسلمون أو عم النفير واختلطت الأمور، فلا حرج في
مشاركتهن ودفاعهن عن أنفسهن، وعلى مثل هذا يحمل ما رُوي عن بعض الصحابيات كأم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها إن
صح[131]، بل هو ظاهر ما نقل عنها -وعن غيرها رضي الله عنهن- فقد كانت مشاركتها بعد أن انهزم الناس فلم يبق حول النبي صلى
الله عليه وسلم إلاّ نُفير[132].
كما أن لهن أن يجاهدن بغير إذن إذا دهم المسلمين عدو في قعر الدور، ففي مثل هذه الأحوال ليس لهن إلاّ أن يدافعن عن دينهن وأعراضهن وأنفسهن
وقد اختلف أهل العلم هل هذا واجب عليهن في تلك الحال أو لهن اللواذ بالفرار؟ قال الشافعي رحمه الله: "ولو شهد النساء القتال فولين رجوت
أن لا يأثمن بالتولية، لأنهن لسن ممن عليه الجهاد كيف كانت حالهن"[133].
تنبيه:
رويت آثار عن بعض النساء وأخبار بعضها ليس فيها حجة وكثير منها لايثبت، وهو في كتب المغازي والسير كثير، وقد قال الإمام ابن تيمية: "
قال الإمام أحمد ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازى، ويروى ليس لها أصل أي إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل مثل ما يذكره
عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم والواقدى
ونحوهم"[134].
الخلاصة..
بناء على ما سبق فليس في جهاد النساء المأثور إباحة امتزاج الرجال بالنساء أو اجتماعهم متداخلين في ميدان واحد، بل لا يُتصور وجود النساء أو
غيرهن من أجل المداواة والإسعاف وسط ميدان المعركة الذي يختلط فيه الحابل بالنابل وتتطاير فيه الرؤوس، وقد عُلم أنَّ لِمَنْ يشتغل بالإسعاف
والمداوة أماكن خاصة منعزلة يخلى إليها الجرحى أو المرضى.
ومعلوم أن ما أباحتة الضرورة يقدر بقدره ومن ذلك مباشرة المرأة علاج الجريح المثخن والمريض المقعد وفقاً لشرطه، ومنه أيضاً التحامها بالرجال
للذود عن عرضها وحماية نفسها.
هذا مع أن الحال في موطن الجهاد بعيدة عن الظِنَّةِ، فأنى لمن طُنَّت قدمه أو فُتَّ عضده أن يلتفت يمنة أو يسرة، وهل يُظن بمَنْ تُعايِن أمثال هؤلاء، و
من يشارفون على الهَلَكَة كل حين، بل لاتدري إلى أيِّ شيء يصير أمرها إذا انجلى غبار المعركة، هل يُظن أنّ هذه كغيرها؟ فكيف إذا كُنَّ نساء
الصحابة ورجالاتها؟ فكيف يقال بجواز الاختلاط بعد ذلك في الأسواق وغيرها من مواطن الرِيَبِ وأسباب الفتن. بل كيف يقال بجواز مشاركتهن
في الجيش أو الشرطة مع معطيات واقع الناس اليوم.
أيحق لمنصف قرأ الشريعة، وعلم مقاصدها، ونظر في دَأَبِها على حماية النساء بسياج يحول دونهن ودن الخلطة والابتذال، أيحق له أن يستدل بما وقع
عرضاً أو اضطراراً على جواز الاختلاط في المنتديات والقاعات، ولنُسلِّم جدلاً –على سبيل قل إن كان للرحمن ولد- بأن الاختلاط حق مكفول
في الحج والجهاد وبعض التشريعات فهل يقبل في موازين العقول قياس أماكن اللهو والفساد على مواطن الإيمان والجهاد؟ أيستوي مكتب ضيق أو
محل لاتؤمن فيه ريبة، مع موطن يزداد فيه الإيمان، ويتنزل فيه الرضا على العباد من الرحمن؟
إنه قياس مع الفارق، ومثله قياس خروج بعض النساء مع ضوابط الأمس في الغزو، بدخول بعضهن الشرطة أوالجيش في واقع الناس اليوم.
قال الشيخ بكر أبوزيد: "وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت : يا رسول الله ! تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث ؟ فأنزل
الله : "وَلاتَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ" [ النساء : 32 ] . رواه أحمد، والحاكم وغيرهما بسند صحيح .
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى تعليقًا على هذا الحديث في [ عمدة التفسير : 3/ 157 ] : ( وهذا الحديث يرد على الكذابين
المفترين -في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خدرها، وعن صونها وسترها الذي أمر الله(/12)
به، فيدخلونها في نظام الجند، عارية الأذرع والأفخاذ، بارزة المقدمة والمؤخرة، متهتكة فاجرة، يرمون بذلك في الحقيقة إلى الترفيه الملعون عن
الجنود الشبان المحرومين من النساء في الجندية، تشبهًا بفجور اليهود والإفرنج، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ) انتهى "[135].
بعض أدلة المنع من الاختلاط من الكتاب والسنة الثابتة:
ما سبق من تقرير مراعاة الشريعة لأصل الفصل بين الرجال والنساء في التشريع، دليل ظاهر يفيد تحريم الاختلاط، خاصة مع بيان تلك النماذج التي
ربما اشتبهت على البعض، فظنها حجة له وهي على خلاف قصده، وسوف يأتي ذكر طرف من مراعاة أهل العلم لهذا الأصل في سائر الشريعة، ومع
ذلك فإن أدلة الكتاب والسنة الصحيحة جاءت متعددة في المنع من الأسباب المؤدية إلى الاختلاط، وكذلك في المنع من أمور يقتضيها الاختلاط، ولاشك
أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وما لا يتم ترك النهي إلاّ به فهو منهي عنه، ولئن كان هذا اللفظ (الاختلاط) حادثاً، فإن حكم معناه يستنبط من
نصوص عامة، و أخرى صريحة جاءت بقطع أسبابه، وثالثة جاءت بقطع مايقود إليه.
وفيما سبق ذكر شيء من ذلك، وفيما يلي طرف لنصوص عامة يدخل في معناها الاختلاط، وأخرى جاءت بمنع أسباب الاختلاط، وثالثة حَرّمت أموراً
يقتضيها الاختلاط:
1 - قوله تعالى: "وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ".
دلت هذه الآية على أن الأصل احتجاب النساء عن الرجال، فقد "أوجب الله أن يكون الخطاب بينهن من وراء حجاب يحجز بين المرأة والرجل
وهذا ظاهر في تحريم الاختلاط"[136] ، قال القاضي عياض في فرض الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "ولايجوز
لهن إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات إلاّ ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى: "وإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ"، وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن، كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر،
ولما توفيت زينب رضي الله عنها، جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها"[137]، والآية وإن كانت موجهة لنساء النبي صلى الله عليه
وسلم، غير أنها جاءت معللة بقول ربنا سبحانه: "ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهُنَّ" "فبين أن العلة هي طهورية قلوب النوعين، والتباعد عن
دواعي الريبة وقذر القلوب، ولاشك أن هذه العلة تشمل جميع نساء المؤمنين، لأنه يطلب في حقهن طهارة قلوبهن، وطهارة قلوب الرجال من الميل إلى
ما لاينبغي منهن. فليس لقائل أن يقول: هذا الأدب الكريم السماوي، المقتضي المحافظة على الشرف والدين وأطهرية القلوب من الميل إلى
الفجور، يجوز إلغاؤه وإهداره بالنسبة لغير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من نساء المؤمنين، لأن طهارة القلب ومجانبة أسباب الرذيلة، أمر
مطلوب من الجميع بلا شك، مع أن النفوس أشد هيبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهن؛ لأنهن أمهات المؤمنين"[138]، ولأنهن من
خيرة نساء العالمين، فمن دونهن -وكل النساء دونهن- من باب أولى، قال القرطبي: "ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول
الشريعة.."[139]. ومن "المقرر عند العلماء المؤيد بالدليل هو استواء جميع الناس في أحكام التكليف، ولو كان اللفظ خاصاً ببعضهم،
إلاّ ما جاء النص مصرحاً بالخصوص فيه، ولذلك فجميع الخطابات العامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأحرى غيره. وما ذلك إلا
لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل خاص، فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما يتضمن ذلك، فإنه صلى
الله عليه وسلم لما قال : "لن يدخل أحدكم عمله الجنة". قالوا: يا رسول الله ولا أنت. قال: "ولا أنا أن يتغمدني الله برحمة منه
وفضل" فكأنهم يقولون له: أأنت داخل معنا في هذا العموم؟ وهو يجيبكم بنعم. وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية.
فإن قيل: آية الحجاب تخص بمنطوقها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالجواب: أنها لم تدل على أن غيرهن من النساء لا يشاركهن في حكمها. والأصل مساواة الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل
خاص.
ولذا تقرر في الأصول أن خطاب الواحد المعين من قبل الشرع من صيغ العموم؛ لاستواء الجميع في أحكام الشرع، وخلاف من خالف من العلماء في
أن خطاب الواحد يقتضي العموم خلاف لفظي، لأن القائل بأن خطاب الواحد لا يقتضي العموم موافق على أن حكمه عام إلا أن عمومه عنده لم
يقتضه خطاب الواحد بل عمومه مأخوذ من أدلة أخرى كالإجماع على استواء الأمة في التكليف. وكحديث "ما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة
امرأة" فالجميع مطبقون على أن خطاب الواحد يشمل حكمه الجميع إلا لدليل خاص، واختلافهم إنما هو هل العموم بمقتضى اللفظ أو بدليل
آخر"[140].(/13)
فالآية عامة عموماً معنوياً يشمل جميع النساء[141]، سواء أكان طريق إثبات هذا العموم العقل[142] لورود العلة التي يدور عليها الحكم
في آخر الآية، أو العرف اكتفاء بأول الشاهد من الآية، وهذا ما يعرف عند الأصوليين بفحوى الخطاب، ويسميه بعضهم لحن الخطاب[143] أو
تنبيهه، ويعرف عند البعض بمفهوم الموافقة، وهو أن يكون المسكوت عنه موافقاً في الحكم للمنطوق به؛ أولى منه، أو مساو له، وقد يسميه الشافعي
القياس الجلي[144]، وآخرون دلالة النص، وقد قالوا: الثابت بدلالة النص لايحتمل الخصوص[145]، وإذا كان المسكوت عنه أولى
ربما سماه البعض قياس الأولى[146]، فسواء قيل بهذا أو هذا فإن الأصوليين اتفقوا على أن مثل هذا يدخل فيه عمومهن، وإن اختلفوا هل يسمى
قياساً أو لا، ولعله تأتي الإشارة إليه عند ذكر الدليل الرابع.
2- الأمر بغض البصر والعفو عن الفجأة:
أمر الله الرجال بغض البصر، وأمر النساء بذلك فقال تعالى: "قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُوا مِنْ أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِك أَزكَى لَهُم إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ . وَقُلْ للّمُؤمِنَاتِ يَغضُضُنَ مِن أَبَصَارِهِنَّ" الآيتين. ولم يعف الشارع إلا عن نظر الفجأة، فقد صح عن جرير بن عبد الله رضي الله
عنه أنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري"[147]، وروي عن علي –رضي
الله- عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة"[148]، وبمعناه
عدة أحاديث، بل لم يرخص الشارع في الجلوس بالطرقات للرجال إلاّ بشرط إعطاء الطريق حقه ومنه غض البصر، ففي الصحيحين من حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد
نتحدث فيها. فقال: "إذ أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر وكف
الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[149]. وجه الدلالة من الآيتين والآثار بعدها: أن الله أمر المؤمنين والمؤمنات
بغض البصر، وأمره يقتضي الوجوب، ثم بين تعالى أن هذا أزكى وأطهر[150]، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة
عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال؟ والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير[151].
وإذا كان استراق النظر خيانة كما في قول الله تعالى: "يَعلَمُ خُائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُدُورُ" فكيف تكون المخالطة؟
وإذا نهى الشارع عن النظر إلى النساء بسبب ما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط ينهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا
تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه، وواقع الناس اليوم يبين أن الاختلاط يفضي لزاماً لوقع البصر عما أمر الله بحفظه عنه،
وإذا كان الذي يفضي إلى الوقوع في المحظور يلزم منه وقوع المحظور، ففعله حرام عند من قال بسد الذرائع وعند من لم يقل[152]، فهو
بمثابة ما لا يتم الامتثال إلاّ به، وعلى أقل الأحوال هو بمثابة "الذرائع" التي تفضي إلى المحظور غالباً، وقد ذكر أهل العلم أن الحكم إذا علق
بمظنة استوى وجودها وعدمه.
وهذا الوجه ذكر نحواً منه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، فقال: "الثاني والسبعون من شعب الإيمان: الغيرة وترك المذاء" وذكر قول
الحليمي في تعريف المذاء، فقال: "أن يجمع الرجال والنساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضاً، وقيل هو إرسال الرجال مع النساء من قولهم مذيت
فرس إذا أرسلتها ترعى" ثم قال: "وقال الله عز وجل: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما
ظهر منها" وقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته من مخالطة
الرجال.."[153].
عم يغض البصر!
وهنا لعله يرد سؤال عن ماذا يغض طالما أن الحجاب مفروض والقرار مأمور به، فعم يُغض البصر؟ وجوابه أن غض البصر يكون عن المحارم
كلها، فقد تخرج امرأة لحاجة، وربما خرجت نساء مترخصات بغير حاجة، وربما كان المجتمع –كشأن سائر المجتمعات- خليطاً لايخلو من
كتابيات ونحوهن، وغض البصر مطلوب عن كل سافرة، أو هيفاء مقبلة، أو عجزاء مدبرة، بل مطلوب حبس اللحظ عن لحظ غضيضة طرف غافلة،
سواء كانت معذورة، أو مائلة مميلة، أو أمة أو كتابية. والشريعة الإسلامية بحمد الله واقعية تتعامل مع طبائع الناس على اختلاف أصنافهم، فتشرع
الأحكام لكافة الأحوال، فهي صالحة لكل زمان ومكان وحال، ما فرط ربنا في الكتاب من شيء، وهذه الواقعية سمة ظاهرة في التشريع، ومن تأمل
وجد أنه ما من محرم إلاّ وقد شُرعت أحكام تتعلق بمن يقارفه عامداً أو يقترفه لعذر أو جاهلاً.
3 - حديث: "المرأة عورة..".(/14)
روى ابن خزيمة في صحيحه وغيره حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها
الشيطان"[154]، قال المناوي: "يعني رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها فيوقع أحدهما أو كلاهما في الفتنة، أو المراد شيطان الإنس
سماه به على التشبيه، بمعنى أن أهل الفسق إذا رأوها بارزة طمحوا بأبصارهم نحوها، والاستشراف فعلهم لكن أسند إلى الشيطان لما أشرب في قلوبهم
من الفجور ففعلوا ما فعلوا بإغوائه وتسويله وكونه الباعث عليه. ذكره القاضي. وقال الطيبي: هذا كله خارج عن المقصود والمعنى المتبادر
أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس فإذا خرجت طمع وأطمع لأنها حبائله وأعظم فخوخه وأصل الاستشراف وضع
الكف فوق الحاجب[155] ورفع الرأس للنظر"[156]، وهذا إخبار من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وسواء كان
الاستشراف هنا حقيقياً من شياطين الجن –وهو الظاهر وماذكروه من تأويل لازم له- أو ما ذكر من تأويلات فإن المعنى المتفق عليه مرادٌ، وهو
حضُّ النساء على عدم الخروج ولزوم البيوت، لكونه أصون لهن، فكيف يقال بجواز اختلاطهن بالرجال.
4- دلالة قوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ"
ومن الأدلة قوله تعالى: "وقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى"، فأمرهن بالقرار، ثم منعهن من الخروج غير متحجبات، ومع
قرارهن في البيوت منع صلى الله عليه وسلم الرجال الأجانب من الدخول عليهن فقال: "إياكم والدخول على النساء" فلما قيل له: الحمو
قال: "الحمو الموت"[157]، وهذا يدل على أن الأمر بالقرار ليس خاصاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ذكر جملة من كلام
أهل العلم في ذلك منهم القرطبي وابن كثير وابن العربي وابن الحاج والجصاص وقد قاله غيرهم[158]، ويصلح أن يقال هنا نحواً مما ذكر عند
الاستدلال بقول الله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب".
أدلة أخرى على أن القرار ليس خاصاً بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم):
1- حديث عقبة ابن عامر السابق وهو متفق على صحته، فلا معنى لأن يُمنع من دخول الرجال على النساء بل حتى
بعض غير أولي الإربة منهم، ويباح خروجهن لهم!
2- الآية السابقة وإن جاءت في معرض خطابهن فهي تشمل غيرهن لما سبق من الأدلة الشرعية التي تحرم خلطة النساء
بالرجال.
3- دلالة الاقتران بالصلاة، والزكاة، وطاعة الله التي لايشك المسلم من دخول سائر النساء فيها، فقد قال الله: "وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".
4- ومن الأدلة على أن المراد عام يدخل فيه عامة النساء، هو العلة التي ختمت بها الآية: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، وهذه علة مرادة لجميع النساء، وإنما لم يرد الله أن يطهر قلب من أراد به فتنة، كما في سورة المائدة: "
وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، أما سائر
المؤمنين فيريد الله تطهيرهم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ
سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، وكذلك الرجس يريد الله أن يذهبه عن المسلمين، وعموم النساء يشملهن الأمر باجتنابه "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ"، فالعلة التي ختمت بها الآية دليل واضح على عمومها فلايقال بتخصيص شيء منها إلاّ بدليل آخر ظاهر، وقد ذكر الأصوليون
أن العلة إذا نص عليها بوجه لايحتمل التأويل فلابد أن يعم الحكم[159] وقالوا: "النص على العلة نص على الحكم في
محلها"[160] هذا مع أنهم لم يشترطوا لصحة العلة النص عليها وهي هنا منصوصة ظاهرة بل جاءت بأداة الحصر (إنما)، وقد ذهب
بعض الأصوليون إلى أن العمل بالعلة هنا ليس من باب القياس بل هو استمساك بنص لفظ الشارع[161]، قال ابن تيمية بعد أن نقل الاتفاق على
قبول مثل هذه العلة: "وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياساً أو لا يسمى، ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده: لا تدخل داري فلانا فإنه
مبتدع، أو فإنه أسود، ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعاً أو من كان أسود[162].
5- ومما يدل كذلك على أن الآية مراد بها عموم النساء ما ثبت عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
"خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت(/15)
فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا""[163] فهذا نص على
دخول فاطمة رضي الله تعالى عنها وليست من أزواجه، وكذلك دليل على دخول أولادها ومنهن بناتها ولسن من أزواجه. ولهذا قال ابن كثير لما
ساق قول عكرمة في الآية: "من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم" قال: "فإن كان المراد أنهن كن سبب
النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من
ذلك..."[164] وساق أحاديث عدة في المعنى المراد، وما سبق عند مسلم فيه كفاية.
5 - دلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا النساء".
كما في حديث أبي سعيد الخدري عن مسلم، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا
الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"[165].
فـ"خصص بعدما عمم إيذانا بأن الفتنة بهن أعظم الفتن الدنيوية، فإنه سبحانه أخبر بأن الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أما في
طلابها ومؤثريها على الآخرة سبعة أشياء أعظمها النساء اللاتي هن أعظم زينتها وشهوتها وأعظمها فتنة"[166].
و"وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتقاء النساء، وهو أمر يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط ؟! هذا لا
يجوز"[167].
6 - قصة سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة[168].
والشاهد فيها أنها "جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يارسول الله! إنا كنا ندعو سالما ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان
يدخل علي..." الحديث فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الاختلاط معها بذلك التبني بعد نزول القرآن، وأمرها بإرضاعه خمس
رضعات لتحرم عليه"[169].
فإذا كان لايجوز الاختلاط مع من يقوم مقام الابن مالم يكن محرماً، فكيف يسوغ الاختلاط بغيره.
7 - "على رسلكما إنها صفية" الحديث[170].
وفيه أن صفية –رضي الله عنها- زارته في معتكفه، فأرادت أن تنقلب فقال لها: لا تعجلي حتى أنصرف معك. فخرج النبي صلى الله عليه
وسلم، معها فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت
حيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً.
وقد أورده البيهقي في الشعب تحت فصل فيمن أبعد نفسه عن مواضع التهم[171]، وقال الإمام الشافعي –رحمه الله- : "أراد عليه
السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً"[172]،
وقال الماوردي: "فما كل ريبة ينفيها حسن الثقة. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد خلق الله من الريب وأصونهم من التهم، وقف
مع زوجته صفية ذات ليلة على باب مسجد، يحادثها وكان معتكفاً، فمر به رجلان من الأنصار، فلما رأياه أسرعا. فقال لهما: على رسلكما إنها
صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله! أوفيك شك يارسول الله؟ فقال: مه، إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لحمه ودمه، فخشيت أن
يقذف في قلبيكما سوءاً".
ثم قال الماوردي: "فكيف من تخالجت فيه الشكوك، وتقابلت فيه الظنون، فهل يَعْرَى مَنْ في مواقف الرِّيَبِ مِنْ قادحٍ مُحَقَّق، ولائمٍ
مُصدَّق"[173].
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرر أن خلطة الرجل بالمرأة موطن ريبة، ومحل تهمة، مع أن هذه الخلطة كانت عند المسجد، وفي محل عام
مطروق، وزمانها ليلة من ليال العشر الأواخر من رمضان[174]، مع امرأة مضروب عليها الحجاب الكامل بغير خلاف لكونها من أزواجه،
صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك الأصول المقررة؛ كعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسوخ إيمان صحابته، رضوان الله تعالى عليهم.
كل ذلك لم يبرر ترك بيان أن الاختلاط بالنساء موضع تهمة، ومحل شبهة.
هذا نزر يسير من الأدلة، ومن تأمل نصوص الوحيين، وأحكام الشريعة اتضح له بجلاء حرصها على أن تكون أخت الإسلام درة مصونة لايقع عليها
للريبة ظل، ولؤلؤة مكنونة لاتمتد إليها يد لامس. وللعلامة محمد بن إبراهيم رسالة وجيزة بليغة ذكر فيها تسعة عشر دليلاً على حرمة الاختلاط
فلتراجع[175]، بل حتى عقلاء الغربيين كتبوا في التحذير من الاختلاط وآثاره الضارة ولهم في ذلك مقولات معلومة منشورة، لعله يأتي ذكر
طرف منها.
الضرورة إذا اقتضت اختلاطاً:
تقرر أن الاختلاط محرم "ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه ويكون في مواضع العبادة كما يقع في الحرم المكي والحرم
المدني نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يزيد المهتدي منهم هدى، وأن يوفق ولاتهم لفعل الخيرات وترك المنكرات، والأخذ على أيدي(/16)
السفهاء، إنه سميع قريب مجيب"[176].
فمن المقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، بَيْدَ أن الضرورة تقدر بقدرها، فيتقي المرءُ ربَّه ويتحرز عما نهاه عنه ما استطاع.
فإذا اقتضت الضرورة اختلاطاً، كما في الحج –على سبيل المثال- فإن الحج ركن من أركان الإسلام وهو فعل مأمور مقدم على ترك المحظور،
فإن اشتد الزحام ولم يمكن تجنبه كالحال في هذه الأزمنة، فتؤدي المرأة فرضها، متقيدة بضوابط الشرع، حريصة على محرمها، ثم تتحرز ما
استطاعت، والله غفور رحيم.
ومثل الحج سائر الضرورات التي تبيح المحظورات، فينبغي أن تقدر بقدرها، ولايتعدى قدر الاضطرار فيها، وهذا يقدره ويقرره أهل العلم والشأن
فهم أعلم بضابط الضروريات وأجدر بعرض الوقائع على الأحاديث والآيات، فإن وجدت ضرورة لاتكون إلاّ مع الاختلاط فكشأن سائر المحظورات
تباح بقدر الحاجة، وبعد انتهائها يعود كل حكم إلى أصله.
افتعال الضرورة!
الضرورة حالة ملجئة لفعل، والإلجاء لايعتبر باختيار الشخص وفعله بغير إكراه، فلايجوز بحال أن تفتعل نازلة أوتصنع بيئة لاختلاط الرجال بالنساء
أو لاتراعي الفصل بينهم، ثم يُقال بجواز الاختلاط فيها للضرورة، فمثل ذلك افتئات على الشرع لايقر فاعلوه وإن عذر بعض من واقعه باضطراره،
والذي ينبغي هو أن يقوم أساس البنيان وفق ضوابط الشريعة، فإذا وقع محظور لضرورة بعد التحرز ساغ الاعتذار بالضرورة، إن كان الضرر
المترتب على تركه أعلى، على أن تقدر الضرورة بقدرها.
وإلاّ لكان المفتعل للضرورة المعتذر بها كمن قطع يدي مسلم ورجليه ثم أذهب سمعه وبصره وقال هذا تحل له الزكاة! إذ ليس له عائل.
أو كالذي صبر إنساناً عن الطعام والشراب فلما أشرف على الهلكة قدم له لحم خنزير أو ميتة وقال: كله اضطرار!
أما إذا اضطر مضطر لحاجة عند من لم يراع ضوابط الشرع فيما أنشأ فالمضطر معذور والمفرط موزور وإلى الله ترجع الأمور والله عليم بذات
الصدور.
طرف من كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط:
لقد راعى علماؤنا رحمهم الله أصل المنع من اختلاط الرجال بالنساء في كثير من الأحكام، وعللوا به، ولعله سبق ذكر طرف من ذلك، وليس الغرض
هنا تقرير أعيان المسائل التي ربما عللوا بالاختلاط منعها، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، فربما خالف مخالف فيها، وإنما الغرض بيان ما
اتفق عليه العلماء من المنع بالاختلاط وتعليلهم به الكثير من الأحكام، مع نصهم على المنع منه[177].
ومن ذلك ما نقله ابن القيم رحمه الله: " ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق, والفرج, ومجامع الرجال.
قال مالكٌ رحمه الله ورضي عنه: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصُيَّاغ في قُعود النساء إليهم, وأرى ألا يَترُك المرأة الشابة تجلس إلى الصُّيَّاغ فأمَّا
المرأة المتجالَّة[178] والخادم الدُّونُ, التي لا تتهم على القُعود, ولا يتُهم من تقعد عنده: فإني لا أرى بذلك بأساً.
انتهى[179]، فالإمام مسئولٌ عن ذلك, والفتنة به عظيمة, قال صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من
النساء" ... ويجب عليه منع النساء من الخروج متزيِّناتٍ مُتجمِّلاتٍ, ومنعهنَّ من الثياب التي يكنَّ بها كاسياتٍ عاريَّاتٍ, كالثياب الواسعة
والرِّقَاقِ, ومنعهنَّ من حديث الرجال, في الطرقات, ومنع الرجال من ذلك."[180]، ثم قال رحمه الله مشيراً إلى ما يناسب واقعهم:
"وإن رأى وليُّ الأمر أن يُفسِد على المرأة -إذا تجمَّلت وتزيَّنت وخرجت- ثيابهَا بحبرٍ ونحوه, فقد رخَّصَ في ذلك بعض الفقهاء وأصاب,
وهذا من أدنى عقوبتهنَّ الماليَّة. وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها, ولا سيَّما إذا خرجت متجمِّلةً, بل إقرار النساء على ذلك
إعانةٌ لهنَّ على الإثم والمعصية, والله سائل وليَّ الأمرِ عن ذلِك. وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في
طريق الرجال, والاختلاط بهم في الطريق. فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك ..".
إلى أن قال: "ولا ريب أنّ تمكين النساء من اختلاطهنَّ بالرجال: أصل كل بليَّةٍ وشرٍّ, وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة, كما
أنَّه من أسباب فساد أُمورِ العامة والخاصة, واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام, والطواعين
المتصلة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى, وفشت فيهم الفاحشة: أرْسَلَ الله إليهم الطاعون, فمات في يوم واحدٍ سبعون ألفا, والقصة
مشهورة في كتب التفاسير. فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا, بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال, والمشي بينهم
متبرِّجاتٍ متجملات, ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية -قبل الدين- لكانوا أشد شيء منعا لذلك".
وقال الماوردي رحمه الله يعرف الدَيُّوث: "هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم"[181].(/17)
وقد منع علماؤنا بعلة الاختلاط شهود بعض الواجبات، قال النفراوي في من دُعي إلى وليمة عرس: " المتبادر من الأمر الوجوب.. قال
خليلٌ: تجب إجابة من عيَّنَ وإن صائماً ..." قال: "ثم شرع في بيان ما يُسقِط الإجابة بقوله: "إن لم يكن هناك" أي في محل
الوليمة "لهو مشهور" أي ظاهر بحيث يُخالطه المدعو وهو ممَّا يَحرُمُ حُضُوره وفسره بقوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر,
كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه.."[182].
وقد نقل أئمة المالكية؛ كابن فرحون، وابن زيد البرناسي، وأحمد القرافي، أنه لايختلف في المذهب في عدم قبول شهادة من يحضرون الأعراس التي
يمتزج فيها الرجال بالنساء، وما شابه ذلك، وقالوا: لأن بحضورهم في هذه المواضع تسقط عدالتهم[183].
وقال ابن العربي في أحكام القرآن معلقاً على قول الحسن: "كان النساء يسلمن على الرجال، ولايسلم الرجال على النساء"، قال:"وهذا
صحيح فإنها خلطة وتعرض، إلاّ أن تكون امرأة متجالة؛ إذ الخلطة لاتكون بين الرجال والنساء، وهذا هو المقصود والمنتهى"[184].
وذكروا أن من آداب القضاء إفراد وقت أو يوم للنساء، قال المواق معلقاً على قول خليل: "وينبغي أن يفرد وقتاً أو يوماً للنساء"، قال: "
أشهب: إن رأى أن يبدأ بالنساء فذلك له على اجتهاده، ولايقدم الرجال والنساء مختلطين، وإن رأى أن يجعل للنساء يوماً معلوماً أو يومين
فعل"[185].
ثم نقل عن ابن الحكم قوله: "أحب إلي أن يفرد للنساء يوماً، ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس"[186].
وعن المازري: "إن كان الحكم بين رجل وامرأة أبعد عن المرأة.."[187].
وذهب متأخروا الحنفية للقول بكراهة الصلاة في المسجد للمرأة شابة أو عجوزاً، وكذلك حضور مجالس الوعظ، قال في الكافي: "والفتوى اليوم
على الكراهة في الصلاة كلها، لظهور الفساد، ومتى كره حضور المسجد كره حضور مجالس الوعظ، خصوصاً عند هؤلاء الجهال، الذين تحلوا
بحلية العلماء"[188].
وقال الحموي معللاً حكمه على الزفاف: "وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء
بالرجال"[189].
وعلل ابن عابدين رد شهادة من خرج للفرجة على قدوم أمير بقوله: "لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء"[190].
ومن نكت الأحناف قول بعضهم في الآفة الستون من آفات اللسان: "الإذن والإجازة فيما هو معصية، كإذن الزوج لامرأته أن تخرج من بيته إلى
غير مواضع مخصوصة" ثم عدها سبعاً وقال: "وفيما عدا ذلك من زيارة الأجانب وعيادتهم والوليمة لا يأذن لها ولو أذن وخرجت كانا
عاصيين"[191].
ومن اطراد الشافعية على قواعدهم منعهم من اختلاط الرجال بالنساء أمواتاً، قال في معالم القربة: "ولايدفن في قبر واحد ميتان ما أمكن، وإن
اجتمع موتى في وباء جعلنا الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وقدمنا الأفضل إلى جدار اللحد، فيقدم الأب على الابن، والابن على الأم لمكان الذكورة،
ولايجمع بين الرجال والنساء، فإن دعت الضرورة جعلنا بينهما حاجزاً من تراب"[192].
ونحوه قول الرملي: "ولايجوز الجمع بين الرجال والنساء إلاّ لضرورة متأكدة"[193].
وقد ذكر الفقهاء أنه يشرع للمرأة أن تبادر بالخروج من المسجد لتسلم من مزاحمة الرجال[194]، واستحبوا للرجال أن يمكثوا ريثما تصدر
النساء ما لم يكن المأمومون رجالاً ليس فيهم نساء[195]، وقد مضى في الكلام على شهود النساء للأعياد والصلوات بعض ما ذكره أهل العلم
في خروجها للصلاة، وكيف تخرج، ومن أين تدخل، وأين تقف[196]، ومتى تنصرف، وكل ذلك حذار الاختلاط بالرجال.
وكذلك راعوا المنع من الاختلاط في الطواف، وقد سبقت الإشارة إليه، عند ذكر مراعاة الشريعة المنع من الاختلاط في النسك.
وقال الشيخ الجليل أبوبكر الطرطوشي –رحمه الله- وقد سئل حول الاجتماع لختم القرآن: "إن كان ذلك على وجه السلامة من اللغط، ولم
يكن إلاّ الرجال، أو الرجال والنساء منفردين بعضهم عن بعض يسمعون الدعاء فهذا البدعة التي كره مالك رحمه الله.." إلى أن قال: "وكل
من قال بأصل الذرائع يلزمه القول بهذا الفرع، ومن أبى أصل الذرائع من العلماء، يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال
والنساء"[197].
وذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثة: أن"الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور ، ولو لم يكن منها إلا رؤية النساء
الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع"[198].
وقد علل بعضهم اشتراط الذكورية في القاضي أو الحاكم فقالوا: ليتمكن من مخالطة الرجال[199].
وقد تقدم ذكر شيء من كلامهم بهذا عند ذكر مراعاة عدم الاختلاط في الشرائع، كالحج والجهاد وغيرهما.
من كلام العلامة محمد بن إبراهيم:
للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جواب مطول عن حكم الاختلاط أفرد في رسالة سبقت الإشارة إليها فليراجع، ولعله يُكتفى هنا بنقل مواضع أخرى(/18)
من كلامه في فتاواه خارج تلك الرسالة، خاصة وأن شيئاً من الرسالة فاح عبقه بين طيات البحث. وانظر كذلك فتاواه بعدها[200].
ومن كلامه قوله رحمه الله عند تلخيصه ذكر مفاسد الموالد التي عدها ابن الحاج: "3- خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات
هناك من الاختلاط وغيره"[201].
وقال رحمه الله: "وأما اختلاط النساء بالرجال وحصول المفاسد التي ذكرتها[202]، فهذا من أكبر المنكرات التي يتعين إنكارها على
الجميع"[203].
وقال: "ومن أدلة ذلك أيضاً النصوص الدالة على منع اختلاط الرجال بالنساء، لأن المرأة الموظفة لا تختص بالنساء لا بد أن تخالط الرجال
بمقتضى طبيعة وظيفتها. ومن تلك النصوص قوله تعالى: "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" فالأمر بكون سؤالهن من وراء
حجاب دليل واضح على لزوم الحواجز وعدم الاختلاط"[204].
وقال حول ما تقدم به بعضهم ضد هيئة الأمر بالمعروف، متظلماً من سجنه، وتأديب المشتركين في حفلة زواج بضرب كل واحد منهم خمسة أسواط.
"بتأمل ما قرره قاضي الأفلاج بحق المذكورين، بناء على ما تحقق لديه من اجتماعهم مختلطين رجالاً ونساءً على ضرب الدفوف، وما ترتب عليه
من وجود منكرات لا يجوز فعلها شرعاً، يعتبر إجراءً حسناً، وفي محله، ولا وجه لتشكي المذكورين، بل الذي ينبغي في ذلك على ولاة الأمر أن
يكونوا عوناً لرجال الدين والحسبة في قمع أمثال هؤلاء والضرب على أيديهم بما يحفظ للدين كرامته وللشرع قداسته".
ثم ذكر –رحمه الله- "أن ضرب الدفوف إذا كان مقصوراً على النساء فقط سالماً من الأمور المحرمة فلا مانع منه، لشرعية إعلان
النكاح"[205].
ومن أقواله أيضاً: "بهذه المناسبة أشرح أمراً هاماً ينبغي أن يكون العمل عليه في مستشفات المملكة، وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون
المستشفيات للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص في المستشفى، فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال، ومثله قسم النساء، حتى تؤمن المفسدة،
وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة، موافق لبيئة البلاد ودينها وطبائع أهلها، وهذا الترتيب لا يكلف شيئاً ولا يوجب التزامات مالية
أكثر مما كان، فإن الإدارة واحدة، والتكاليف واحدة، مع أن ذلك متعين شرعاً مهما كلف"[206].
وقال في شروط دراسة تمريض النساء: "ومنها أن يكون عمل المتخرجات في الأجنحة النسائية فقط، ولا يكلفن بالعمل في أجنحة الرجال، ومنها
أن يكون التدريب العلمي في الأقسام النسائية في بُعد عن الاختلاط بالرجال"[207].
من كلام العلامة ابن باز:
قال رحمه الله: "والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه"[208].
وقال: "لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب
الحق، ولكن نظراً إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق، أكثر مما يستفيدون من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه
وسلم، وكلام علماء المسلمين، رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده، لعلهم يقتنعون بذلك, ويعلمون
أن ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك
لأعراضهن"[209].
ثم قال: "ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفو الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال
ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة"[210].
وقال معلقاً على من زعم بأن عزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وأن المسلمين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدون
الصلاة في جامع واحد: "ولاشك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة
بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك"[211].
ومما قاله رحمه الله: "فمن واجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لاينبغي السكوت عليه، بل يجب الحذر منه، والابتعاد عنه، وهو الاختلاط
الحاصل من بعض الجهلة، في بعض الأماكن والقرى مع غير المحارم، ولايرون بذلك بأساً بحجة أن هذا عادة أجدادهم، وأن نياتهم
طيبة.."[212].
وقال حول الاختلاط في المدارس الابتدائية: "إن الاختلاط وسيلة لشر كثير، وفساد كبير لايجوز فعله" ثم قال: "وبكل حال فاختلاط البنين
والبنات في المراحل الابتدائية منكر لايجوز فعله"[213].
وقال رحمه الله: "من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط، وذلك أمر خطير جداً، له تبعاته الخطيرة، وثمراته
المرة، وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم لنصوص الشريعة التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحو، مما تكون فيه(/19)
بعيدة عن مخالطة الرجال"... إلى أن قال: "والأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم
الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله، أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى ما لاتحمد عقباه"[214].
وسئل عن حفلات التوديع المختلطة، فقال: "الحفلات لاتكون بالاختلاط! بل الواجب أن تكون حفلات الرجال للرجال وحدهم، وحفلات النساء
للنساء وحدهن، أما الاختلاط فهو منكر، ومن عمل أهل الجاهلية نعوذ بالله من ذلك"[215].
وللشيخ رحمه الله رسائل وفتاوى متعددة في المسألة غير ما أشير إليه[216].
وما سبق نزر يسير، وطرف من كثير، ولعل فيه كفاية، ولعله قد تبين من خلال العرض الآنف أن المنع من اختلاط الرجال بالنساء، ليس من مفردات
الحنابلة! فهؤلاء علماء الإسلام بشتى مذاهبهم، وبمختلف أعصارهم وأمصارهم يقولون به. فليست الدعوة إلى ترك الاختلاط إذاً، دعوة إقليمية،
ولامذهبية، بل هي إسلامية إسلامية.
بعض شبه من اختلط عليه الاختلاط:
إن الشبه التي يتمسك بها بعضهم لاتخرج عن كونها اختلاط مع التحرز لضرورة أو حاجة ملحة، أو ليس فيها مستمسك أصلاً، بل بعضها أدلة هي عند
العقلاء حجة على موردها.
ولو أمعن القارئ الكريم النظر في الشبه التي يسوغ بها البعض أضرباً من الاختلاط، لوجد أن الإشكال يكمن في التمسك بأمور مجملة، حُملت على
معنى فاسد، ساق إليه ارتباط الذهن بواقع الناس اليوم، والواجب حمل المجمل على وجه صحيح دل عليه الشرع، ما أمكن ذلك. وبخاصة إذا جاء
المجمل من صاحب الشريعة، أو من الجيل الذي عرف بالتزامه للشريعة.
ومن هذا القبيل ما يُستدل به على جواز الاختلاط من نحو شهود المسلمات في العصر الأول للجمع والجماعات والأعياد، وكذلك حجهن واعتمارهن
وجهادهن، ونحو ذلك مما سبق بيان وجهه الشرعي، بعيداً عن واقع الناس اليوم.
غير أن هناك نصوصاً أخرى أشكلت على البعض، ولعله يتم التعرض لبعضها فيما يلي:
الاستدلال بقصة يوسف عليه السلام:
من شبه من أشكل عليه الاختلاط، ما يستدل به بعضهم، من دخول نبي الله يوسف على النسوة، قال الله: "فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن
وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن" الآية، ومن تأمل هذه الآية وما جاء قبلها
وبعدها جزم بأنه لايصح الاستدلال بها على جواز الاختلاط، بل الآيات حجة عند النظر والتأمل لمن منع من الدخول على النساء ومخالطتهن:
فيوسف عليه السلام اشتراه عزيز مصر، وكان في بيته وكان خروجه بأمر ربة البيت فكان الخروج في حقه لضرورة أو حاجة، خاصة وأنه لايعلم
لماذا دُعي، فغاية ما في القصة الاستدلال بفعل النسوة أو امرأة العزيز، وهذا استدلال بفعل من كان على الشرك، ومع ذلك فإن الآيات في سياق القصة
وما تبعها من فتنة حصلت للنساء بل ولامرأة العزيز من قبل دليل على حرمة الاختلاط، فمن حلل الاختلاط بقصة يوسف لم يفقه ما استدل به عليه من
سورة يوسف، ولو فقهه لحرم الاختلاط به، فانظر إلى الفتنة التي حصلت إثر الدخول على النساء ولئن عصم الله يوسف عليه السلام فأراه برهان
ربه لكونه من المخلصين، فمن الذي يضمن هداية من تقحم الفتن وعرض نفسه لها؟ فـ"إياكم والدخول على النساء"، كما قال نبينا صلى الله عليه
وسلم[217].
الاستدلال بنبأ موسى مع المرأتين:
ومن عجيب ما يتمسكون به كذلك نبأ موسى –عليه السلام- مع بنتي صاحب مدين، وليس فيه حجة على جواز الاختلاط بل هو دليل آخر على
المنع، فموسى لما رأى أُمّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن السقيا مع القوم، منعزلتان لاتسقيان مع الناس، لم يرضه
موقفهما واستغربه ولهذا سألهما بعبارة مختصرة: ما خطبكما؟ فكان الجواب بأوجز عبارة وبقدر الحاجة: "لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا
شيخ كبير".
والأسئلة التي ينبغي أن تطرح هنا لماذا هذا الاقتضاب؟ مع أنه عند أبيهما قص القصص! ولماذا لم تسقيا؟ ولماذا ذادتا غنمهما؟ وعن ماذا ذادتا
الغنم؟ أليس عن الاختلاط بغنم القوم؟ ثم أليس الأولى لهما أن تعجلا؟ جواب ذلك في القول باستقرار المنع من الاختلاط عندهما ولهذا قالتا: "لا
نسقي حتى يصدر الرعاء"، وقد ذكر بعض المشايخ المعاصرين أربعة عشر وجهاً في القصة انتزع منها الدلالة على منع الاختلاط. وآخر ذكر
تسعة عشر مظهراً من مظاهر العفة في القصة.
الاستدلال بأخبار سمراء والشفاء رضي الله عنهما:
ومما أشكل على بعضهم خبر مفاده تولية النبي صلى الله عليه وسلم سمراء بنت نهيك أمر السوق، وحديث سمراء بنت نهيك الذي أخرجه الطبراني
في الكبير، صححه بعض أهل العلم[218]، وفيه أن يحيى بن أبي سليم قال: "رأيت سمراء بنت نهيك -وكانت قد أدركت النبي صلى الله
عليه وسلم- عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر"[219]، وهو كما ترى ليس فيه
ذكر لولاية بل ولاسوق!(/20)
ثم إن الاحتمالات ترد على معناه وغاية ما فيه أنه –ابن أبي سليم- رأى سمراء تأمر وتنهى، ولم يقل أنها اتخذت ذلك عملاً أو وليته منصباً، فربما
كانت خارجة لبعض حاجتها فرأت المنكرات فأنكرتها، وهذا دأب عباد الله الصالحين، ولعل مما يجعل هذا الاحتمال وجيهاً هو عدم نقل غيره له ولو
كان مَنصِباً لكان معروفاً مشهوراً منقولاً عن غيره، ولاسيما لو كان منصباً في محل عام يرده ويصدر عنه الفئام، بل ندر من لاتكون له حاجة فيه.
وأهل العلم لايحرمون خروج المرأة للحاجة أو الضرورة وإن تكرر الخروج، فلو خرجت امرأة لحاجة والتزمت بضوابط الشرع في خروجها، فلا
حرج عليها، فإذا رأت منكراً وكان بوسعها إنكاره فعليها أن تنكره، وهذا غاية ما في أثر بنت نهيك.
ولايُعرف من أشار إلى توليتها السوق منصباً، وإنما ذُكر عن عمر –رضي الله عنه- أنه ولَّى أم سليمان بن أبي حثمة الشفاء بنت عبدالله العدوية
القرشية شيئاً من أمر السوق، وقد كانت موصوفة بفضل وعقل وهي من المهاجرات الأوائل رضي الله عنهن جميعاً، ولعل خبر توليتها السوق ليس له
سندٌ يُعوّل عليه، كما أن ظاهر كلام أهل العلم يفهم منه تولية ابنها ومساعدتها له في بعض الشأن، فقد ذكرها الحافظ المزي فقال: "وكان عمر بن
الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر"[220] ونقله نحوه ابن حزم
في المحلى[221] ولكن الزرقاني أشار إلى أن من وُلِّي هو ولدها سليمان بن أبي حثمة، قال: "وقال (أبو) عمر رحل مع أمه إلى
المدينة وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان"[222]، وكلام الزرقاني هو الذي
نص عليه ابن عبدالبر كما في الاستيعاب[223]، وقد نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة، وقال: " قلت هذا كله كلام مصعب الزبيري
وذكره عنه الزبير بن بكار"[224].
فغاية ما في هذا إن ثبت – فمصعب الزبيري توفي في ستة وثلاثين ومائتين وبينه وبين عمر مفاوز- أن عمر رضي الله عنه ولاها شيئاً من أمر
السوق مع ابنها، ولعل ذلك فيما يختص بما يحتاج الرجال دخول النساء فيه فكانت تساعده في ذلك والله أعلم، وهذا الصنيع له وجهه الذي لايخفى فإن
شؤون النساء قد لايناسب مباشرة بعض حالات احتسابها رجال، وهذا ظاهر.
وأخيراً هناك من يذكر خبراً عن شخصية يسمونها خولة بنت الأزور ويذكرون قصة إنقاذ أخيها ضرار –وهو صحابي معروف- من الأسر، ولا
أصل لهذه القصة فلا يوقف معها، بل إن في ثبوت شخصية خولة هذه نظر فضلاً عن القصة[225].
دعاوى غير معقولة:
بعض من يعيه النقل الصحيح يلجأ إلى شبه أخرى بعضها ينقض بعضاً، والواقع أشد لها نقضاً، كقولهم الفصل يؤجج الشهوة، ويلجئ إلى طلب الجنس
ولو من المثل، ثم نقضه بقولهم، القضية قضية قلوب! إذا سلم القلب فلا تهتم أين كان صاحبه، والمرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال في
حصن حصين من شرفها وعفتها لا تمتد إليه المطامع.
وهكذا يدخل صاحب الهوى في مغالطات يهزأ منها قارئ التاريخ، ويكذبها الواقع بإحصائياته، بل بإقرار قدوات المغالطين من رجال الغرب ونسائه.
أما الدعوى الأولى فهي ضرب من الإرهاب الفكري المقيت، يُحصر فيه الناس بين خيارين؛ إما الاختلاط ولك أن تقول: الزنا، وإما الشذوذ،
سبحان الله! ألا يرى هؤلاء إلاّ الجنس المحرم، مثلهم كمثل من يقول: إما أن يأكل الناس مما لم يذكر اسم الله عليه، أو يُؤكل لحم الخنزير.
عجباً! وأين ذهب الحلال الطيب؟
ولك أن تعجب أيضاً من ذلك الشرف، وتلك العفة، التي يزعم امتلاكها من يبيح الاختلاط، ويتهم من ينادي بالفصل بسوء القصد! وأتساءل هل حقاً
بلغت السذاجة بأناس مبلغاً يدفعهم لتصديق هذا الدّعي؟
لا أظن أن عاقلاً يتصور أن امرأة شريفة سوف تعيش في حصن من العفاف حصين أنى وجدت، ولو في قعر بيت بغاء!
إن الشرف ليس جوهراً قائماً منفصلاً، أو متبعضاً عن غيره، وكذلك العفة ليست كائناً يمشي على الأرض، ويمسك باليد، بل هي أعرض قائمة
بالنفوس، فإذا جُبْتَ الطرقات والخلوات، فلن تصادف جسماً اسمه الشرف، وإذا شققت إنساناً وفتشت بين جنباته، فلن تجد قطعة اسمها العفة، ولكن
ربما وجدت قلوباً حية بيضاء، وهذه لاتزال صافية، حتى يسقط فيها ما يكدرها.
إن الصفات والأعراض قابلة للتأثر إذا لم تصن، فالخفرات الخود، إذا خرجن فأكثرن التعرض لأشعة الشمس الحارقة، مالت نحو السواد أبشارهن
وقلوبهن البيضاء!
وكم رأيتَ إنساناً يتقاطر الحياء من محياه، فعاد إليك بعد أن خالط أقواماً لم يتركوا في وجهه قطرة ماء.
إن من المستهجن في العقول أن تقول لغواص يجوب أعماق البحار، انزع لباسك الضافي الأسود وإياك إياك أن تبتل بالماء! ومن قبيله ترك المباعدة
بين الرجال والنساء وترقب السلامة مع أن "كل فحل يمذي وكل أنثى تقذي".(/21)
ألم ير من يناد بهتك الستر بين الرجال والنساء أثر ذلك في الغرب المتحضر؟ هل خفف ذلك من ثورة الشهوات؟ أم أتاح لها متنفساً فلوثت
الأعراض؟
ثم هب أن امرأة درجت على مخالطة الرجال فسلم لها شرفها وحياؤها فلم يهزل، فمن الذي يكفل عدم خدشها من قبل ثعالب وذئاب البشر..
قالت بنو عامرٍ خلوا بني أسدٍ يابؤس للجهلِ ضَرَّاراً لأقوام
تعدو الذئابُ على من لاكلابَ له تتقي صولة المُسْتَثْفِرِ الحَامِي[226]
يذكر أهل السير والأدب أن عمر بن أبي ربيعة بينما كان يطوف بالبيت إذ نظر إلى امرأة فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلمها، فلم تلتفت إليه. فلما كان
في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها. فقالت له: إليك عني يا هذا، فإنك في حرم الله وفي أيامٍ عظيمة الحرمة. فألح عليها يكلمها، حتى
خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الأخرى رفعت الاختلاط المحظور فقالت لأخيها: أخرج معي يا أخي فأرني المناسك، فأقبلت وهو معها.
فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثلت المرأة بقول النابغة السالف.
وذكروا أن الخبر بلغ الخليفة المنصور فقال: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خدرها إلا سمعت بهذا الخبر.
وفي الإحصاءات التي تبين ماهو ماثل في أرض الواقع ما يغني عن الأخبار[227]، نسأل الله الحفظ والسلامة.
أما الزعم بأن الدعوة للعفاف ونبذ التبذل والاختلاط سبب لتأجج نار الشهوات فهو من أظهر الباطل، فهؤلاء أهل الإسلام ودعاته الملتزمون بأحكامه
ومن ذلك الفصل بين الرجال والنساء، محافظون على العفة مهذبون لغرائزهم بالتزامهم أمر اللطيف الخبير بخلاف غيرهم.
فلم نسمع بجماعة إسلامية، دعت يوماً من الدهر إلى إباحة الشذوذ الجنسي، فضلاً عن أن تقر له قانوناً، بينما قاد الاختلاط والانفتاح أمماً إلى سَنّ
تشريعات تبيح الشذوذ، وإلاّ فما بال نساء ألمانيا وبريطانيا وأمريكا ورجالاتها سنوا تشريعات تقر الشذوذ، وأقاموا منظمات تحفظ حقوق الشذاذ!
أتراهم عانوا من كبت ضرب الحجاب بين الجنسين أو أمر النساء بالقرار؟ هل يعلم هؤلاء أن بالولايات المتحدة وحدها نحواً من خمسين مليون
شاذ[228]!
ثم من الذي يحمي شذاذ الآفاق، من الذين انتكست فطرهم في الدول العربية والمسلمة؟ هل رأيتم شعباً مسلماً خرج في مظاهرة لحماية حقوق الشواذ؟
اللهم لا؛ ولكن رأينا احتجاجات بمباني الأمم المتحدة في جنيف، وخارج المكتب الثقافي التابع للسفارة المصرية بواشنطن. وسمعنا بانتقدات جماعات
حقوق الإنسان الدولية، لحادث قبض على بعض الشذاذ في أرض الكنانة أسفر عن إدانتهم ومحاكمتهم[229]!
حتى قال محرر الأهرام العربي: "بعد أن رفع الشواذ الأمريكيون شعار الحرية الشخصية الذي تبناه خمسة وثلاثون من أعضاء الكونجرس في
رسالة مسمومة إلي الرئيس مبارك يلوحون فيها بورقة المعونة الأمريكية للضغط علي مصر بهدف إلغاء محاكمة المتهمين الـ 52 في قضية الشذوذ
ومنح الحرية الكاملة لأي شاذ يمارس الجنس مع أشخاص بالغين من الجنس نفسه .
ولأن الحملة الأمريكية يقودها شاذ أمريكي يدعي "باري فرانك" عضو الكونجرس عن ولاية "ماستشوستس" ومعه "توم لانتس"
المعروف بالمشاركة الدائمة والمنتظمة في أي حملة ضد مصر فقد جاء الرد سريعا وفي نفس الاتجاه من أوروبا .. وبالتحديد من أمام السفارة
المصرية في جنيف حيث وقف عشرات الشواذ يتظاهرون منددين بانتهاك الحكومة المصرية لحقوق الشواذ وحرمانهم من ممارستهم لحريتهم !!
والمفارقة أن المظاهرة جاءت ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للشواذ والسحاقيات الذي أقيم الأسبوع الماضي في العاصمة السويسرية .
ولم تسلم جمعيات حقوق الإنسان في مصر من الحرب الشرسة , إذ نالت مئات الهجمات العنيفة علي مواقعها عبر الإنترنت بالإضافة إلي تهديدها
بوقف التمويل مالم تنتفض لنجدة ونصرة الشواذ في مصر وتهيئ لهم أجواء الفجور والفسوق !!"[230] .
"لقد أضاف الدستور البريطاني مادة جديدة تتيح للموظف المسئول، حرية الإعلان عن ميوله الجنسية , فكانت النتيجة أن أعلن أربعة وزراء عن
ميولهم الشاذة، وسكت آخرون، فصادف أن وقف (توني بلير) -رئيس الوزراء البريطاني- في أحد المؤتمرات الصحفية بعد إعلان أحد
الوزراء عن ميوله الجنسية الشاذة , فلم يجد سوى أن يقول: تلك ميول شخصية لا تؤثر علي كفاءته في العمل كوزير!
وعندما حاولت ملكة هولندا في السنوات الأخيرة الالتزام ببروتوكول القصر الملكي، فحرمت حوالي أربعة عشر سفيراً ودبلوماسياً هولندياً شاذاً -
أعلنوا عن ميولهم في الملأ- من حضور حفلات ملكية، وجدت المتحدث الرسمي الأول لمجلس الدولة –الشاذ- يعرب عن اعتراضه علي هذا
الحرمان، وامتنع عن حضور المؤتمرات، التي تعقد في القصر لأنه لا يستطيع أن يصطحب صديقه!
ولست أدري أين وصلت فرنسا في قانون (باكس) للتضامن الاجتماعي، وأهم البنود المطروحة في مشروع القانون مسألة السماح لأي زيجة بين(/22)
الشواذ تمنحهم الحقوق المدنية المكفولة للأزواج الطبيعيين مثل حقوق الميراث، والاحتفاظ بالممتلكات بعد وفاة أحد الطرفين . وهناك مشروع مماثل
جار بحثه في بلجيكا بعد ضغوط من بعض المنظمات الدولية الكبرى التي ترعي هؤلاء الشواذ"[231].
وقبل أيام قلائل وقف أمام الملأ نائب الرئيس الأمريكي "ديك تشيني" ليدافع في مقابلة تلفزيونة أجرتها معه " إم إس إن بي سي" عن حقوق
ابنته الشاذة في حماية حياتها الخاصة، معرباً عن حبه الشديد لها، وقد كان ناشطون شذاذ دعوا ابنته "ماري" للتنديد بمقترح الرئيس جورج بوش
من أجل تعديل الدستور لحظر الزواج من نفس الجنس[232]!
وهكذا يستشري الشذوذ في تلك المجتمعات التي لاترعى للاختلاط حرمة، ويتقدم ليقتحم الكنائس والبيع، وقد أثارت الصحف الأمريكية قبل حوالي
ستة أشهر، نبأ انتخاب "جين روبنسون" أول أسقف شاذ للكنيسة الأسقفية البروتستانتية، التي تضم حوالي 3.2 مليون نصراني، ينتمون إلى
الكنيسة الانجليكانية، يباركهم جميعاً هذا القس الشاذ[233]!
"ولن تعجب كثيراً إذا علمت أن اليهود كان لهم السبق في دعم مثل هذه التوجهات الشاذة في خطوة غير مسبوقة عندما صوت الحاخامات المنتمون
لأكبر تجمع يهودي في الولايات المتحدة لصالح الاعتراف بزواج الشواذ وذلك في المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين التابع لحركة الإصلاح
اليهودية حيث صرح رئيس المؤتمر[تشارلز كرولوف]:'إن من حق الشواذ الاعتراف بزواجهم واحترامهم'،ومنذ عام 1995، والحركة
توافق على تعيين حاخامات مثليين"[234].
"فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً. بغير ما مبرر إلا الانحراف عن
الاعتقاد الصحيح, وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود, بإشاعة الانحلال العقيدي
والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات!
ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى -كما في عالم
البهائم! وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال; بل يتعداه إلى الشذوذ بين
النساء. . ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: "السلوك الجنسي عند الرجال" و "السلوك الجنسي عند النساء" في تقرير "
كنزي" الأمريكي. . ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات
صهيون, ووصايا مؤتمرات المبشرين !"[235].
إن من أعظم أسباب الشذوذ اضطراب الأسرة، وانشغالها عن رعاية بنيها، ولهذا كان من الطبيعي استشراء الشذوذ في الغرب الذي بات مصير
الأسرة فيه مهدداً بالانقراض إثر الانحلال المتفشي. فعندما تهمل الأسرة أبناءها , تكون النتيجة المرتقبة انحرافهم بأشكال مختلفة، قد يمثل الشذوذ
أحدها ، خاصة عندما ينشأ الأولاد في أسر استرجلت فيها النساء، أو في مجتمع سُلب ذكوره الرجولة.
ومع ذلك فإننا لاننكر أن يكون الشذوذ ظاهرة ربما عرضت لنفر منبوذ -لا يراعي للاختلاط حرمة- في مجتمع عربي، ولكن ما نستهجنه
محاولات تبرير الدعوة إلى الاختلاط بدعاوى سمجة، بالإضافة إلى تحليل أسباب ظاهرة الشذوذ في المجتمعات العربية تحليلاً سطحياً ساذجاً،
يضحك به على البسطاء، ثم اقتراح عقار آخر يضاعف الداء، بتحليله لتدابير الإسلام الوقائية، كمنعه من الاختلاط، وهدمه لتدابير الإسلام الإيجابية
كحضه على الزواج، وترخيصه في الإماء، وأمره بالصيام.
"لقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق, والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين, والاطلاع على
مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح, وإطلاق للرغبات الحبيسة, ووقاية من الكبت, ومن العقد النفسية, وتخفيف
من حدة الضغط الجنسي, وما وراءه من اندفاع غير مأمون... الخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان, والرجوع به إلى القاعدة
الحيوانية الغارقة في الطين! -وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية, رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من
جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية, ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم.. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي, والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله, أن هذا كله لم ينته
بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض(/23)
النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان, وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب, شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ
الجنسي بكل أنواعه. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد; وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء!
وللأجسام العارية في الطريق, وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة, واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث
والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي; لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض; وتحقيق الخلافة لهذا
الإنسان فيها، فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته; وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة، فإذا لم
يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة"[236].
وبالجملة فإن من يجادلون في اختلاط المرأة بالرجال يتمسكون بشبه ضعيفة ليست فيها حجة أو دلالة، ولو أنهم عرضوها على بعض ما كتبه أهل العلم
في حكم الاختلاط لتبدد ظلام تلك الشبهات، فإن ما يذكرونه لا يقوى على دفع الأدلة المتظاهرة على تحريم الاختلاط والتي سبق ذكر بعضها.
----------
[1] النسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى نسي، والآخر ما أضله أهله، فيطلب ويطمع فيه، وهو المراد هنا، وتقصه: تتبعه،
والأََمُ: القصد، وقوله: إن تحدثك تَبْلت: أي تقطع الحديث لاستحيائها. أفاده المبرد في الكامل، وانظر جمهرة اللغة (ب-ت-ل).
[2] عُطْلة: جمع عاطلة أي من الحلي، والمعنى أنهن متبرجات بزينة، ومتبرجات قد كشفن محل الحلي أو الزينة.
[3] عُضْلَة: داهية، من العُضَل أي المنكر الداهية، وكأنه وصف بالشدة، فالعين والضاد واللام أصل واحد يدل على شدة والتواء.
[4] أحكام القرآن 1/386.
[5] انظر المدارس العالمية للشيخ بكر أبوزيد ص34.
[6] عن المرأة المسلمة بين الغزو والتقريب، للدكتور زيد بن محمد الرماني، ص44 بتصرف.
[7] كلمات من بعض قصص الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، بتصرف يسير.
[8] قذع المنطق: فاحشه.
[9] استعاذة ابن عقيل يرحمه الله، انظر الآداب الشرعية 1/160.
[10] الغني الدكتور عبدالغني أبو العزم.
[11] محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني، وانظر كذلك الموسوعة الفقهية 2/289.
[12] الوسيط – مجمع اللغة العربية بمصر، وانظر كذلك الموسوعة الفقهية 2/289.
[13] لسان العرب 7/291.
[14] المحيط لأديب اللجمي وشحادة الخوري.
[15] محيط المحيط.
[16] انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 309.
[17] انظر مفردات ألفاظ القرآن، للراغب، الجزء الأول مادة (خلط).
[18] مستفاد من معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية بتصرف يسير.
[19] الموسوعة الفقهية 19/223.
[20] شطر من مطلع قصيدة زهير بن أبي سلمى في توعد الحارث بن ورقاء، وتمامه: وزودوك اشتياقاً أيّةً سَلَكُوا.
[21] مفردات القرآن للراغب، مادة (خلط).
[22] شعب الإيمان 2/159، وغيره.
[23] مختصر من النهاية في غريب الحديث 2/62.
[24] عن مقال بعناون خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان العمل، انظر فتاوى ومقالات متنوعة 1/420.
[25] عن مجلة الأسرة، آفة التعليم الاختلاط، العدد رقم 70 بتاريخ محرم 1420 ص69.
[26] انظر عودة الحجاب، لمحمد أحمد إسماعيل المقدم، 3/52.
[27] انظر الموافقات للشاطبي 1/31.
[28] انظر أحكام القرآن للجصاص 1/264، وكذلك المجموع شرح المهذب 3/15.
[29] انظر المستصفى لأبي حامد الغزالي ص146، وانظر المجموع شرح المهذب 3/15.
[30] تفسير الجلالين 369.
[31] تيسير الكريم الرحمن 457.
[32] في ظلال القرآن، تفسير سورة الأنعام، قول الله تعالى: {ولاتقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}.
[33] بمعناه من الفتاوى الكبرى للإمام ابن تيمية، راجع الفتاوى الكبرى 6/173.
[34] الطرق الحكمية 326.
[35] رسالة بعنوان حكم الاختلاط ص3، وانظر مجموع فتواه رحمه الله 10/35، ط2.
[36] خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان العمل، وهو من ضمن الفتاوى والمقالات المتنوعة للشيخ 1/419.
[37] نقلاً عن رسالة الشيخ عبدالعزيز بن باز انظر مجموع الفتاوى والمقالات 1/425، وقد نقله عن مصطفى السباعي في كتابه
المرأة بين الفقه والقانون.
[38] عن مقال بعنوان الاختلاط في التعليم: مفاسد أخلاقية، وأضرار تربوية، لفهد بن عبدالعزيز الشويرخ، نشر في مجلة الجندي المسلم
العدد 105، لرمضان وشوال وذي القعدة من عام 1422، الموافق نوفمبر –ديسمبر 2001.
[39] امرأة إنجليزية الأصل من ويلز، أسلمت وتسمت عائشة أم سعدية، وقد كان هذا الكلام في مقابلة أجرتها معها مجلة البيان في عددها
150 صفحة 78 بتاريخ صفر/1421، وقد كانت ندوة بعنوان واقع المرأة في الغرب.
[40] حراسة الفضيلة 97-98.
[41] المقصود الاختلاط بصوره التي سبقت الإشارة إليها في تعريفه.(/24)
[42] على خلاف فيه انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 2/5.
[43] الفتح 4/77 وأشار إلى قوله الشوكاني في النيل 4/344، وانظر كذلك سبل السلام 1/608.
[44] البخاري 2/658، 2/703 ومسلم 2/975 و 978.
[45] صحيح البخاري 5/1986، وقد بوب عليه: باب قيام المرأة على الرجال في العرس، وخدمتهم بالنفس.
[46] فتح الباري 9/251، ونحوه ذكر العيني في عمدة القاري 20/164-165، وقريب منه حديث أنس عند مسلم
(3/1609)، في شأن الفارسي الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرق أعده، فلم يذهب حتى أذن لعائشة رضي الله عنها أن تأتي
معه. غير أن فيه إجمال قد يحمل على انزوائها في بيت الفارسي مع أهله.
[47] والحديث متفق عليه، انظر البخاري 3/1125، ومسلم 3/1569.
[48] كما في حديث زينب امرأة ابن مسعود لما جاءت باب النبي صلى الله عليه وسلم هي وامرأة من الأنصار تسألانه عن الصدقة على
الزوج، فكلما بلالاً ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولايخبره من هما، وهو عند مسلم 2/694، وغيره.
[49] كما في خبر المجادلة، وقد علق البخاري أصله في التوحيد، ورواه أهل السنن الأربعة غير الترمذي، ورواه أحمد وغيره، وهو حديث
صحيح، انظر تغليق التعليق 5/339.
[50] ذهب بعض المالكية إلى القول بجواز سفرها بغير محرم في كل سفر واجب ولعله بعيد، انظر الموسوعة الفقهية 22/300،
وانظر من كتبهم الفواكه الدواني على رسالة القيرواني للنفراوي، وكذا قال بعض الشافعية، انظر الغرر البهية في شرح البهجة الوردية لزكريا
الأنصاري 2/270.
[51] قاله مفتي المملكة العربية السعودية فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، في مقاله الذي أنكر فيه ماكان في منتدى جدة
الاقتصادي، وقد نشر في عدد من الصحف السيارة كالوطن السعودية، والشرق الأوسط بتاريخ 21/4/2004م.
[52] انظر سبل السلام 1/608.
[53] الموسوعة الفقهية 19/269.
[54] الفتاوى الكبرى 5/449، وقد ذكره ابن عقيل، وابن الجوزي ونقله كذلك ابن مفلح، انظر الفروع 5/157-158، ونحوه
في غير موضع من كتب الحنابلة المعتمدة.
[55] الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، 2/290.
[56] السابق بتصرف.
[57] لاتكاد تجد الفقهاء يطلقون لفظ الاختلاط على نحو هذه الصور، غير أن الباحث قد يقف على أحرف معدودة لبعضهم فليتنبه، ومن ذلك ما
أطلقه النووي في موضع واحد من المجموع 4/350، ومراده مقيد بالاختلاط اللغوي مع وجود الفاصل المعتبر، تدل على ذلك الصورة التي
تحدث عنها بالإضافة إلى نصوصه الأخرى ومنها عده الاختلاط بين الرجال والنساء يوم عرفة من البدع القبيحة كما في المجموع نفسه
8/123.
[58] في ظلال القرآن، آية الأحزاب: {وقرن في بيوتكن}.
[59] عن حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبوزيد –حفظه الله، ص89 ط3.
[60] السابق 97.
[61] تفسير القرطبي 14/178.
[62] انظر تفسير ابن كثير للآية 3/483، وهو عند عبدالرزاق كما أشار الحافظ في الفتح 8/520 وسند عبدالرزاق الذي ذكر
صحيح، وهو كذلك في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/198.
[63] المدخل 2/12.
[64] أحكام القرآن للجصاص 3/529.
[65] لعله حديث صحيح كما ذكر غيره من الأئمة رحمة الله على جميعهم، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله عند ذكر المنع من الاختلاط في
التشريع، في حج النساء واعتمارهن.
[66] أحكام القرآن 3/569.
[67] في تفسير قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.. }الآيات، في معنى حديث أبي داود: هذه ثم ظهور الحصر،
انظر التفسير 1/386.
[68] ونحوه ذكر الزمخشري في الكشاف عند الآية الثالثة: {لاتخرجوهن من بيوتهن}، فعلل بكون النساء مختصات بالبيوت من حيث
السكنى.
[69] حراسة الفضيلة ص89-90.
[70] البخاري 5/2005، ومسلم 4/1711.
[71] صحيح البخاري 4/1572، ومسلم 4/1716.
[72] البخاري 5/1959، ومسلم 4/2097.
[73] تحفة الأحوذي 8/53، وانظر عمدة القاري 20/89.
[74] تفسير القرطبي 4/280.
[75] أدب الدنيا والدين للماوردي ص156.
[76] صحيح البخاري باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس 1/295 رقم (827)، وهو عند مسلم بألفاظ مقاربة
1/327 رقم (442).
[77] الموسوعة الفقهية 19/107-109 باختصار وتصرف.
[78] انظر الموافقات للشاطبي 1/31.
[79] صحيح البخاري 1/50، ورواه غيره.
[80] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2/134.
[81] انظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 2/258، وغذاء الأباب في شرح منظومة الآداب 2/314.
[82] ثبت ذلك من حديث عائشة المتفق عليه، البخاري 4/1856، ومسلم 3/1489.
[83] الفتح 2/466.
[84] شرح مختصر خليل لمحمد بن عبدالله الخراشي، 2/103، وقد نص آخرون على أن صلاتها في المسجد بدعة –ولو كان
المسجد النبوي- لأجل ما يحصل من ازدحام في المساجد –ولو كبرت- عند الدخول أو الخروج. ثم اختلفوا في حكم البدعة بناء على
اختلافهم في تقسيمها بين محرم وكاره، ينظر في ذلك بعض حواشي الشرح الكبير، ومنها حاشية الدسوقي 1/399.(/25)
[85] تجالت: أي أسنَّت وكَبُرت، يقال : جَلَّتْ فهي جَلِيلة ، و تَجالَّتْ فهي مُتَجالَّة.
[86] مسألة اتباع النساء للجنائز مسألة خلافية، والجمهور أطلقوا الكراهة كما ذكر النووي (المجموع 5/278 وانظر الفتح
3/378 في التعليق على حديث أم عطية)، ونص بعض أهل العلم على أنها كراهة تحريم (حاشية ابن عابدين 2/232)، ولاشك أن
الأولى منع النساء منه لكون أقل الأحوال الكراهة، والمكروه يوعظ الناس بتركه، ويتأكد ذلك بل يتحقق في هذه الأعصار التي لايكاد اتباع النساء
للجنائز يخلو من محرم كاختلاط أونياحة.
[87] نقله الترمذي بلفظ: أطمارها الخُلْقَان. انظر السنن 2/420.
[88] التمهيد 23/402.
[89] السابق 23/402.
[90] سنن أبي داود 1/156، وسنده صحيح، وقد جاء أيضاً عند ابن خزيمة في صحيحه 3/94، وعند الحاكم في المستدرك
1/328، والبيهقي في الكبرى 3/131، وكذلك الطبراني في الكبير 9/295 وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد
2/34)، وهؤلاء جميعاً من طريق قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود، وقد جود الحافظ ابن كثير إسناده (انظر التفسير
3/483)، وقد روي عن غير ابن مسعود رضي الله عنه وقد أورد ابن عبدالبر آثاراً بمعنى هذا من حديث عائشة وأم سلمة وأبي هريرة وأبي
سعيد وقال بعدها: "قد أوردنا من الآثار المسندة في هذا الباب ما فيه كفاية وغنى فمن تدبرها وفهمها وقف على فقه هذا الباب" (التمهيد
23/401).
[91] العون 2/195.
[92] الفتح 2/349، وانظر شرح الزرقاني 2/8، وفيض القدير 1/71، ونيل الأوطار 3/161.
[93] التمهيد 23/401.
[94] صحيح مسلم 1/328، ورواه غيره.
[95] سنن أبي داود 1/126، 1/156، وقد بوب عليه: باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال، وراه الطبراني في
الأوسط 1/304، وذكره في التمهيد 23/397، وانظر المحلى 3/131، وغيرها، وهو حديث صحيح الإسناد.
[96] سنن أبي داود 1/126، وسنده صحيح.
[97] رواه مسلم 1/326، ورواه غيره.
[98] انظر نيل الأوطار 3/219.
[99] لعله حديث حسن، رواه أبوداود في السنن 4/369 وفيه أبو اليمان وهو كثير الرحال قال الحافظ مستور وقال ابن حزم في المحلى
2/177: "وليس بمشهور"، ولعله معروف وثقه ابن حبان وروى عنه غير واحد وابن حزم –رحمه الله- لايوافقه جل الأئمة في إطلاقه
الجهالة، ولهذا تعقب ابن القيم في حاشيته (1/312) ابن حزم في حكمه على أبي اليمان فقال: " وما ذكره ضعيف" ثم قال على
الحديث الذي جاء فيه "فالحديث غير ساقط" ، وحديثنا هذا جاء من طريق آخر عند الطبراني في الكبير 19/261 وكذلك ذكره ابن عبدالبر
في التمهيد 23/399، والمزي في تهذيب الكمال 12/402وهو صالح للمتابعة وفيه أبواليمان النبال وهو معلى بن راشد قال الحافظ مقبول،
ولعله ليس به بأس يحتج بحديثه، فقد وثقه ابن حبان وقال النسائي: ليس به بأس، وقد روى عنه جمع وروى عن جمع (انظر تهذيب الكمال
28/284)، غير أن فيه شداد بن أبي عمرو بن حماس وهذا مستور، وقد جاء له شاهد من حديث أبي هريرة عند البيهقي في الشعب
6/174 وفيه شريك بن عبدالله، فالأقرب أن الحديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع رقم (929) والله أعلم.
[100] النهاية في غريب الحديث 1/415.
[101] راجع ما جاء في تعريف الاختلاط وحكمه مع وجود محرم لحاجة.
[102] انظر المبسوط للسرخسي 4/111.
[103] التاج والإكليل لمختصر خليل 3/485، وكذلك مواهب الجليل 3/520.
[104] البخاري 2/603، ومسلم 2/940.
[105] انظر للحطاب المالكي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 3/140 بل صرح المالكية بأن السنة لهن خلف الرجال كالصلاة
انظر شرح مختصر خليل للخراشي 2/315، وللهيتمي الشافعي تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/92، وللزيلعي الحنفي انظر تبيين الحقائق
شرح كنز الدقائق 2/16، وهو ما يفهم من كلام ابن قدامة والمرداوي من الحنابلة انظر المغني 3/185 والانصاف 4/8.
[106] انظر حاشية العدوي 1/527، ونص عليه الإمام الشافعي في الأم في حق الجميلة 2/232، وأضاف الشريفة في المجموع
نقلاً عن الإمام والأصحاب 8/14، وكذلك في أسنى المطالب 1/476، وانظر المغني 3/157، وهو في كتب فقهاء الحنابلة كثير.
[107] ممتنعة عن مخالطتهم، ناحية بعيدة عنهم.
[108] صحيح البخاري 2/585 وغيره.
[109] انظر مثلاً مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي 3/110 وكذلك الفواكه الدواني 1/358 و367،
وحاشيتا قيلوبي وعميرة في فقه الشافعية 2/134.
[110] لعله حديث صحيح فقد رواه جمع من طريق زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد
خرجها من هذا الطريق الإمام أحمد في مسنده 5/218 والتي تليها، وكذلك أبويعلى 3/32، والبيهقي في الكبرى 4/327، 5/228
وأبو داود في سننه 2/140، وأرسلها عبدالرزاق عن زيد بن أسلم في مصنفه 5/8، وغيرهم وقد أعل بعض أهل العلم كالذهبي في الميزان(/26)
(7/119) هذا الطريق بتفرد زيد بن أسلم بالرواية عن ابن أبي واقد، غير أن ابن حجر في الفتح صححها وقال: (4/74) "
وإسناد حديث أبي واقد صحيح وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة.. وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل"، ولعل
لإعلال الذهبي لتلك الطريق وجهه، وأياً ما كان فالحديث صح من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وصالح وإن اختلط فإن رواية ابن أبي ذئب عنه قديمة كما قرر الحفاظ، قال ابن عدي: "لابأس إذ سمعوه منه قديماً" (الفروع
لابن مفلح 1/530-531)، وقال الهيثمي في المجمع 3/214: "وفيه صالح مولى التوأمة ولكنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وابن
أبي ذئب سمع منه قبل اختلاطه"، وهو كما قال وإليه أشار الحافظ في التقريب، وهو الذي عليه الأئمة كما أشار إليه ابن عبدالبر في التمهيد
23/361، ومن هذا الطريق خرجه الإمام أحمد 2/446، و 6/324 وهو في مسند الحارث 1/440، وعند الطيالسي
1/229، وأبي يعلى 13/80، 13/88، وغيرهم، وجاء من طريق ثالث لابأس به فقد جاء من عدة أوجه عن عثمان الأخنسي عن
عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن أم سلمة كما عند أبي يعلى 12/312، والطبراني في الكبير 23/313، وغيرهما. فالحديث صحيح
إن شاء الله، وقد وثق رواته المنذري في الترغيب والترهيب 2/138، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/214، وكذلك الألباني في
صحيح أبي داود 1515، وقد تكلم أهل العلم في تأويله.
[111] الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي 1/201-202.
[112] المغني 3/183.
[113] الفواكه الدواني 1/359.
[114] الموسوعة الفقهية 22/119.
[115] صحيح البخاري 2/552 رقم 1448 ورواه غيره، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
[116] سبل السلام 2/460.
[117] منع بعضهم انظر المدونة 1/499، وقد نقل عن ابن قاسم الجواز إذا م يُخف على العسكر لقلة العدو.
[118] انظر طرح التثريب 7/48، وقد نقله عن ابن عبدالبر.
[119] انظر شرح السير 4/1456.
[120] انظر نيل الأوطار 7/282.
[121] صحيح البخاري 3/1056 باب مداواة النساء الجرحى والذي بعده.
[122] أي الخلاخيل وتكون أسفل القدم فوق الكعب، وقد كان هذا قبل الحجاب، ويحتمل أن يكون النظر عن غير قصد، انظر فتح ابن حجر
(6/78).
[123] متفق عليه، البخاري 3/1055 ومسلم 3/1443.
[124] الفتح 6/78.
[125] عمدة القاري 14/166.
[126] سبل السلام 2/461.
[127] مسند الإمام أحمد 1/224، والسنة لمحمد بن نصر 1/48، وأصله ثابت من عدة طرق.
[128] انظر شرح السير الكبير 1/184، وبدائع الصنائع 7/98، والمغني 9/163، وحاشية القيلوبي وعميرة 4/217،
وتحفة المحتاج 9/231، ومغني المحتاج 6/18، ونهاية المحتاج 8/55، والفتاوى الهندية 2/189، ودقائق أولى النهى 1/617،
والتجريد لنفع العبيد 4/250، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى 2/500.
[129] شرح السير للسرخسي 1/184، وانظر كذلك البحر الرائق لابن نجيم 5/83.
[130] نيل الأوطار 7/330، وبعض أهل العلم أن من قاتلت لتعين القتال عليها كمن فجأهم العدو فإنه يسهم لها بسهم.
[131] انظر السير 2/279، والطبقات الكبرى لابن سعد 8/413-415، وقد نقلاه عن محمد بن عمر المعروف بالواقدي، قال
عنه الذهبي: "جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة
وأخبارهم" (السير 9/454)، وفسر عدم الاستغناء عنه بقوله بعدها (9/468) : "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه
في الغزوات والتاريخ وتورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلاينبغي أن يذكر" ثم ذكر عدم الاعتبار بتوثيق من وثقه.
[132] انظر السير 2/279 وقد ذكره من طريق ابن سعد، وهو عنده في الطبقات 8/413-415، وقد أورده الواقدي في
المغازي.
[133] الأم 4/179.
[134] الفتاوى 13/346.
[135] حراسة الفضيلة ص92-93.
[136] عن مقال المفتي حول منتدى جدة الاقتصادي نشر في الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/2004م، وغيرها.
[137] شرح النووي على صحيح مسلم 14/151.
[138] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 10/245.
[139] تفسير القرطبي 14/227.
[140] فتاوى العلامة محمد بن إبراهيم 10/245-247.
[141] اتفق الأصوليون على أن العموم من عوارض الألفاظ، واختلفوا هل يكون من عوارض المعاني، والصواب أنه يكون كذلك انظر
الفتاوى 2/162 ومابعدها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك 20/188، وأيضاً منهاج السنة 2/591، وقد نص بعض الأصليون على أنه
إذا نص الشارع على العلة على وجه لايقبل تأويلها فلابد أن يعم الحكم (البحر المحيط للزركشي نقلاً عن أبي إسحاق 7/45).
[142] اللفظ قد يكون عاماً بالعرف أو بالعقل انظر شرح الكوكب المنير ص360.
[143] وبعضهم يجعل فروقاً دقيقة، انظر البحر المحيط 5/125.
[144] وهذا قد يسميه البعض قياس الأولى، انظر في التفريق التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/222، ولعل القياس الجلي أعم من(/27)
قياس الأولى عند عامة الأصوليين.
[145] انظر كشف الأسرار، لعبدالعزيز بن أحمد البخاري 2/252.
[146] قال ابن تيمية (الفتاوى 21/207 والكبرى 1/337) : "وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب، ولكن عرف
أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا، فإنكاره من بدع الظاهرية، التي لم يسبقهم بها أحد من السلف".
[147] رواه مسلم 3/1699، وكذلك هو عند الترمذي وقال بعده: حسن صحيح (السنن 5/101)، ورواه غيرهم.
[148] رواه الحاكم في مستدركه من طريق شريك 2/212 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه أحمد في المسند
5/351، 5/353، 3/357، وكذا رواه الترمذي في السنن 5/101 وقال حسن غريب لانعرفه إلاّ من حديث شريك، ورواه أيضاً
أبوداود 2/246 والبيهقي في الكبرى 7/90، وفي الشعب 4/364، وكذلك هناد في الزهد 2/649، وكذلك الطحاوي في شرح
معاني الآثار 3/15، وكذلك الروياني في المسند 1/22، وذكر متابعة اسرائيل لشريك في أبي ربيعة، ورواه من طريق حماد بن سلمة ابن أبي
شيبة في المصنف 4/7، وقال المقدسي في المختارة بعد أن ذكر طريق حماد بن سلمة اسناده حسن 2/108 ثم ذكر قول الطبراني في الأوسط
1/209 لايروى هذا الحديث عن علي إلاّ بهذا الإسناد تفرد به حماد بن سلمة مختصراً، وأخرجه البزار في مسنده من غير طريق حماد أو
شريك وقال: لم نسمعه إلاّ من عباد عن محمد بن فضل، ورواه من طريقه الدارمي 2/386، ورواه الإمام أحمد 1/159، وكذلك في
فضائل الصحابة 2/601، وقد حسن العلامة الألباني إسناده في غير موضوع.
[149] صحيح البخاري 5/2300، ومسلم 3/1675.
[150] انظر رسالة العلامة محمد بن إبراهيم في حكم الاختلاط ص4.
[151] خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله، للعلامة ابن باز رحمه الله، وهي في مجموع الفتاوى والمقالات 1/420. ط دار
القاسم 1418.
[152] انظر البحر المحيط 8/90.
[153] شعب الإيمان 7/411-412.
[154] صحيح بن خزيمة 3/93، ورواه أيضاً في التوحيد من حديث قتادة عن مورق وقد صحح رفعه الإمام الدارقطني كما في العلل له
(5/314)، وقد رواه أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق ابن خزيمة 12/413، وكذلك الهيثمي في موارد الظمآن 1/103،
ورواه الترمذي في السنن وقال: حسن غريب (3/476) إلاّ أن المنذري قال في الترغيب والترهيب 1/142: "رواه الترمذي
وقال حديث حسن صحيح غريب" وهذا تصحيح من الإمام الترمذي له، ولعله كذلك في بعض نسخ الجامع ومما يؤيده نقله من قبل غير المنذري
كالزيلعي في نصب الراية 1/411 وكذلك ابن الهمام في فتح القدير 1/259 وكذلك ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية
1/123 نقل تصحيحه عنه ويبعد وهم هؤلاء جميعاً، وقد عزاه المنذري في الترغيب والترهيب 1/141 للطبراني في الأوسط وقال رجاله
رجال الصحيح، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/34 وقال في التي بعدها: رجاله موثوقون، وهو في الأوسط للطبراني 8/101،
وفي الكبير 10/108، وقد صحح هذا الحديث الدارقطني والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وجوده ابن كثير (التفسير 3/483)
والمنذري والهيثمي وغيرهم، والظاهر أنه صحيح وقد خالف هماماً سليمان بن المعتمر فرواه عن قتادة عن أبي الأحوص، ولهذا شك ابن خزيمة في
سماع قتادة هذا الحديث خاصة عن مورق، ولعل الصواب صحة سماعه له منه، فالرواي عن قتادة همام، ولئن كان سليمان أجل وأوثق في الجملة فإن
هماماً من أوثق الناس في قتادة خاصة، فهو رابع أربعة في قتادة لا يقدم عليه فيه إلاّ ابن أبي عروبة وهشام وشعبة (انظر الكامل 7/129،
وتهذيب الكمال 30/306، والجرح والتعديل 9/108 وغيرها)، خاصة إذا حدث عن همام من روى عنه متأخراً لكونه من كتابه، وعمرو
بن عاصم من طبقة من رووا عنه أخيراً كعفان بن مسلم وحبان وبهز، ووقد احتج البخاري برواية عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة في خمسة
مواضع من صحيحه، ويعزز صحة رواية همام أيضاً متابعة سعيد بن بشير وسويد بن إبراهيم –ولعل الصواب فيهما أنهما صالحين للاعتضاد- لها
فهو لم يتفرد بها عن قتادة والله أعلم، وقد صح الأثر عن ابن مسعود موقوفاً كذلك، فلعل بعض الرواة مرة رفعه ومرة أخرى وقفه، ومثله إخبار عن
غيب لعله لايقال بالرأي والله أعلم.
[155] وكذا جعله من أصله المباركفوري 4/283 ولعله تبع المناوي، ولعله لايلزم أصل معناه بسط الكف فوق الحاجب فهذا يصنع عادة
للبعيد، وقد ذكر أهل اللغة أن الشين والراء والفاء أصل يدل على علو وارتفاع، ويقال استشرفت الشيء، إذا رفعت بصرك تنظر إليه.
[156] فيض القدير 6/226.
[157] متفق عليه، رواه البخاري 5/2005، ومسلم 4/1711.
[158] انظر البحر الزخار للمرتضي 4/84.
[159] انظر البحر المحيط للزركشي 7/45.
[160] ينظر شرح الكوكب المنير 2/302، وكذلك كشف الأسرار 2/378، وأيضاً البحر الزخار 1/188، والتقرير والتحبير
2/198، وإعلام الموقعين 3/107، وغير ذلك وهو معروف عند الأصوليين بشتى مذاهبهم.(/28)
[161] ممن نتصر له ابن فورك انظر البحر المحيط 7/237، ونحوه قول الغزالي والآمدي وغيرهما انظر البحر الزخار 1/190.
[162] اقتضاء الصراط المستقيم 1/284.
[163] مسلم 4/1883.
[164] تفسير ابن كثير 3/484، ومابعدها.
[165] صحيح مسلم 4/2098 برقم (2742).
[166] فيض القدير 2/179.
[167] فتاوى ابن إبراهيم 10/41.
[168] القصة في صحيح البخاري 5/1957 رقم 4800، وانظر صحيح مسلم 2/1077.
[169] السابق 9/22-23.
[170] رواه البخاري في الصحيح 3/1159رقم (3107)، ومسلم 4/1712 برقم (2174).
[171] 5/321.
[172] انظر تفسير ابن كثير سورة البقرة {ولاتباشروهن وأنتم عاكفون.. } الآية 1/225.
[173] أدب الدنيا والدين ص327.
[174] انظر عمدة القاري 5/321.
[175] أفردت في رسالة مستقلة وهي في مجموع فتاواه رحمه الله 10/35.
[176] السابق 10/43-44.
[177] وهذا نظير ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم بعد أن سرد جملة من أقوال الفقهاء في مسائل
يرون فيها مخالفة الكفار وأهل البدع؛ ثم قال رحمه الله: "وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا
إثبات، وإنما الغرض ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام". ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/401.
[178] تجالت: أي أسنَّت وكَبُرت، يقال : جَلَّتْ فهي جَلِيلة ، و تَجالَّتْ فهي مُتَجالَّة.
[179] انظر المدخل لابن الحاج فإن فيه مزيد تفصيل 4/199.
[180] الطرق الحكمية ص240.
[181] أدب الدنيا والدين ص268.
[182] الفواكه الدواني 2/322.
[183] انظر أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي 4/156، وكذلك تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهج الأحكام لابن فرحون
1/361، والموسوعة الفقهية 2/290.
[184] أحكام القرآن، 3/428.
[185] التاج والإكليل لمختصر خليل، للمواق: محمد بن يوسف العبدري، 8/119، وقد نبه على هذا في غير شرح لمختصر خليل،
وانظر منح الجليل لعليش 8/306.
[186] السابق.
[187] السابق.
[188] البحر الرائق لأبي نجيم 1/380.
[189] غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 2/114.
[190] رد المحتار على الدر المختار 6/355.
[191] بريقة محمودية للخادمي 4/10-11.
[192] معالم القربة في معالم الحسبة، لمحمد بن الإخوة القرشي، ص50.
[193] فتاوى الرملي 2/41، وانظر نهاية المحتاج شرح المنهاج 3/10.
[194] المنتقى شرح الموطأ للباجي 1/9.
[195] أشار إليه ابن حجر في الفتح 2/336.
[196] شرح النووي 4/159 وفيه تعليل استحباب تأخرها في الصفوف الخلفية للمنع من الاختلاط، وتبعه المباركفوري في التحفة
2/14، وكذلك في عون المعبود 2/264، وانظر الديباج 2/154، وفيض القدير 3/487، ونيل الأوطار 3/226.
[197] المدخل لابن الحاج 2/297.
[198] عن فتاوى ابن إبراهيم 3/61.
[199] انظر حاشية قيلوبي وعميرة 4/174، وكذلك مغني المحتاج 5/418، وكذلك نهاية المحتاج 8/238.
[200] انظر الفتوى رقم (2641)، 10/44، و(2643)، 10/46، والتي تليها، والتي تليهما، وكذلك الفتوى رقم
(2652)، 10/50، بل راجع فتواه 10/من35 وإلى55.
[201] الفتاوى 3/84.
[202] وهو ما يحصل من النساء هناك من خروجهن سافرات، واختلاطهن بالرجال في محافل الزواج، وعند القدوم من السفر، وعند حفل
الولادة، ونحو ذلك إلى آخر ما ذكرته (هذا نص السؤال).
[203] فتواه 10/49.
[204] السابق 10/244.
[205] السابق 221-222.
[206] السابق 13/221.
[207] السابق 13/222.
[208] مجموع الفتاوى والمقالات 1/420.
[209] السابق 425، وقد نقل قطعة من كلام الغربيين لايناسب تكرارها فلتراجع.
[210] السابق 427.
[211] السابق 4/248.
[212] السابق 5/236.
[213] السابق 5/234.
[214] السابق 6/355، وانظر كذلك 1/418.
[215] السابق 9/429.
[216] راجع موقعه على الإنترنت، على الرابط التالي: http://www.binbaz.org.sa/ وابحث عن
"الاختلاط".
[217] سبق تخريجه، ينظر: الحاشية رقم 70 أو 157.
[218] قال العلامة الألباني في الرد المفحم: "أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 24 / 311) بإسناد جيد، قال الهيثمي
(9/264) ورجاله ثقات"، وقد ذكر سمراء بنت نهيك الإمام ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1863) وذكر نحو هذا الأثر، أما
ابن حجر –رحمه الله- فقد ذكرها ثم قال في الإصابة (7/712) : "تأتي في القسم الثالث" فما أتت، وكأنه نسيها، وممن أشار إلى
صحبتها صاحب تاريخ واسط 1/42، ولعل الأثر مختلف فيه لاختلافهم في ابن أبي سليم، ولكن ليس فيه أنها وليت السوق.
[219] المعجم الكبير 24/311.
[220] انظر تهذيب الكمال (25/207).
[221] 9/429.
[222] انظر شرح الزرقاني 1/286.
[223] 2/649.
[224] 3/242
[225] راجع كتاب عبدالعزيز الرفاعي: خولة بنت الأزور.
[226] الأبيات للنابغة الذبياني، والمستثفر الحامي: أراد به الكلب يدخل ذنبه بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه، متأهباً للحماية.(/29)
[227] تأتي الإشارة إليها في الفصل الثاني بمشيئة الله تعالى.
[228] منقول عن مقال لمروي مشالي، تأتي الإشارة إليه قريباً، وقد يُظن أن هذه النسبة مبالغ فيها، ولكن الدراسات تفيد أن نسبة 10%
من مجموع السكان شذاذ [عن مركز أبحاث الحرم الجامعي للشذوذ بجامعة يوتا بولاية سالت لاك الأمريكية]، بالإضافة إلى 8% عندهم شذوذ
"مزدوجي الجنس"، وهذه النسبة تعادل (18%) من مجموع السكان، ووفقاً لتعداد عام 2003م، فإن عدد هؤلاء يصل إلى ما يربو على
الثنتين وخمسين مليونا. ومع ذلك فهؤلاء قلة إذا ما قورنوا بإحصاءات أخرى أشارت إلى عدد الذين مروا بتجارب مقيتة حيناً من الدهر. ولعل
من الحكمة الإعراض عن الإحالة على بعض منظمات الشذاذ والتي ربما اعتنت بتكثير إحصائياتهم، وأكتفي بالإحالة على موقع مركز جامعة يوتا،
وقد كان رابطه حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر: http://www.sa.utah.edu/lgbt. وكذلك راجع موقعة
جامعة دايتن الكاثوليكية على الرابط:
http://ministry.udayton.edu/diverse/bglad_group.htm. التقرير
التمهيدي لبرامج التجمع الوطني لمكافحة الاغتصاب (العنف) National Coalition of Anti-
Violence Programs.
[229] وقد نشرت قناة الجزيرة الإخبارية الخبر بتاريخ 29/8/2001، محاكمة 52 بتهمة الشذوذ، وخصصت الأهرام العربي
"حياة الناس" لهذا الحدث، في عددها 231، السبت 25/8/2001.
[230] الأهرام العربي "حياة الناس"، في عددها 231، السبت 25/8/2001.
[231] الحوادث والأرقام السابقة مستقاة من مقال بعنوان: ثقافة الشذوذ أحدث منتج أمريكي، لمروي مشالي، نشر في حياة الناس من
الأهرام العربي يوم السبت 6 جمادى الآخرة، 1422 الموافق 25 أغسطس 2001العدد رقم 231.
[232] نقلاً عن جريدة المحايد في عددها رقم 81 بتاريخ 18/1/1425، الموافق 9/3/2004م.
[233] انظر تقريراً عن هذا الحدث في "السي إن إن" يوم الأربعاء الموافق 6/أغسطس/2003، وقد كان حتى كتابة هذه
الأسطر في موقعها على الرابط التالي: http://www.cnn.com/2003/US/08/06/bishop.
[234] عن تقرير لمفكرة الإسلام بعنوان: حرية التردي وتقنين الفاحشة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان على الرابط التالي:
http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news13.asp?IDnews=134 .
[235] في ظلال القرآن، تفسير سورة الأعراف، الدرس الرابع الآيات 80-84 لقطات من قصة لوط .
[236] السابق، سورة النور: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. }الآيات.(/30)
الاختلاط وكشف العورات في المستشفيات [1/2]
د. يوسف بن عبد الله الأحمد 16/5/1427
12/06/2006
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم . أما بعد.
فهذه رسالة أتقدم بها إلى كل مسلم؛ من العاملين في الميدان الطبي وغيرهم من العلماء والدعاة وعموم الناس، وهي تتضمن مشروعاً إصلاحياً لعدد من جوانب الانحراف الذي التصق بالقطاع الصحي. وكانت بداية اهتمامي بهذا الموضوع: رحلةٌ ميدانية قمت بها داخل المستشفيات الكبرى، وهذه الرحلة كانت من متطلبات بحث رسالة الدكتوراه والتي كان عنوانها (نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي) ودخلت خلال هذه الرحلة تسع عمليات: اثنتان في زراعة الكبد إحداهما من متبرع حي والأخرى من ميت دماغياً، واثنتان في زراعة الكلى إحداهما من متبرع حي والأخرى من ميت دماغياً، واثنتان في استئصال الأعضاء من ميت دماغياً، واثنتان في جراحة القلب المفتوح، وواحدة في جراحة باطنية بالمنظار.
والتقيت خلال هذه الرحلة بكثير من المرضى والأطباء وعشت واقع المستشفيات من الداخل، وقد يسر الله تعالى لي تقديم محاضرة بعنوان (بين الطبيب والمريض) وقد كان لها بفضل الله تعالى انتشار طيب ولله الحمد، وهذا الكتاب مستل بنصه من هذه المحاضرة مع بعض الإضافات.
وقد أحببت ذكر هذه المقدمة حتى يتبن سبب اهتمامي بهذا الموضوع. وسأبدأ بذكر موضوع كشف العورات، ثم الاختلاط.
أولاً : كشف العورات في المستشفيات ( الواقع والعلاج ).
التفريط في حفظ العورات في المستشفيات قد يكون من المرضى، وقد يكون من الأطباء.
تقول إحدى النساء: إذا دخلت على الطبيب كشفت وجهي حياءً منه. وأخرى تقول: إن كان الطبيب ملتحياً لم أكشف وجهي، وإلا كشفته. وأخرى تقول: أكشف وجهي، ولا أدري ما الذي أوقعني في هذه الغفلة. ويقول أحد الأطباء: بعض النساء إذا جاءت مع زوجها تسترت، وإذا جاءت بدون زوج تسامحت، وتساهلت.
و بعض الرجال ضعيف الدين والغيرة: لا يجد فرقاً بين أن تدخل قريبته على رجل أو امرأة. وبعضهم تساوى عنده الأمران بسبب الغفلة ولكن إذا نبه تنبه.
فهذا رجل أدخل زوجته على طبيب الأسنان، وجلس ينتظر بالخارج، فقلت له: لماذا لا تدخل مع زوجتك؟ وكأنما استيقظ من النوم، فقام ودخل إلى أهله في غرفة الطبيب.
وفي أحد المستشفيات الخاصة، في قسم النساء والولادة، يوجد فيها عيادتان، الأولى لطبيب، والأخرى لطبيبة. فاختار أحد الرجال إدخالَ زوجتهِ على الطبيب الرجل، وقد تناهت الغفلة مع هذا الرجل، فبقي على مقاعد الانتظار خارج غرفة الطبيب.
ومن المشاهد المؤسفة: ازدحام عيادات النساء والولادة والذي يكون الطبيب فيها رجل مع إمكان ذهاب المريضات إلى الطبيبات، أو رضى المرأة بأن يباشر توليدها رجل. فكيف ترضى المؤمنة أن تكشف عند طبيب رجل بطوعها واختيارها مع إمكان الطبيبة؟!.
كثير من الرجال يحرصون على زوجاتهم أو بناتهم، ولكنهم يتساهلون مع أنفسهم في الدخول على الطبيبة أو الكشف عليه من قبل الممرضة.
وهنا جانب آخر من كشف العورات والذي يتحمل الأطباء جريرته.
في غرفة العمليات يمر المريض بعد التخدير بمرحلة التجهيز والإعداد، ولم أكن أدخل غرفة العمليات إلا بعد تجهيز المريض غالباً، حينما يكون مستوراً إلا موضع الجراحة، ودخلت مرةً أثناء مرحلة التجهيز، فرأيت شاباً قد تم تخديره، وهو مستلقٍ على طاولة غرفة العمليات، وهو عار تماماً ليس عليه شيء يستره، وازداد الأمر سوءاً في عملية المنظار وقسطرة البول، وعند إزالة الشعر من أسفل بطن المريض . ومن العسير أن أصف التفاصيل تأدباً مع القارئين، وهذه المشاهد رآها جميع الحاضرين في الغرفة من الممرضات، والفنيين وطبيب التخدير. وهذا الموقف كان من أصعب اللحظات التي مرت علي في هذه الرحلة وأصبحت مهموماً بعدها لعدت أسابيع، ويعود إلي الهم والألم كلما تذكرت هذا الموقف. وبعد أيام سألت أحد الأطباء فقلت له: هل يُفعل بالمرأة ما رأيت من المنظار وقسطرة البول من قبل الرجال، وأمام جميع الحاضرين؟. فقال نعم، ولا فرق.
وأخبرني أحد الأطباء فقال: لما كنت في سنة الامتياز، وكنت في قسم النساء والولادة، جاءت امرأة في حالة إسعافية وقد أصابها النزيف، فدعانى الطبيب الاستشاري لحضور الكشف عليها، فلما أتينا. قالت المريضة: لا أريد أن يكشف علي إلا امرأة. فانزعج الاستشاري مما قالت فطردها من القسم أمامنا.
كتب إلي أحد أطباء الامتياز: "دخلت ذات مرة على غرفة عمليات فوجدت بها امرأة عارية تماماً وفي حالة مزرية وحولها الطاقم الطبي من الرجال والنساء، وذلك قبل بدء العملية ". انتهى كلامه.(/1)
ويقول أحد الأطباء: يأتينا بعض النساء وهي في غاية الستر والحشمة، وتطلب وتلح في أن يتولى إجراء عمليتها امرأة فنوافقها على ما تطلب، وبعد التخدير نتولى نحن الرجال العملية الجراحية والتي تكون في العورة المغلظة، وهي لا تعلم. وحالُها يكون مكشوفاً أمام الجميع من ممرضين، وفنيين، وطبيب التخدير، بل حتى عاملِ النظافة إذا دخل الغرفةَ للتنظيف. وبعد ذلك يتم التوقيع في التقرير باسم إحدى الطبيبات. فانظر إلى أخلاقيات المهنة.
وهذه استشارية في قسم النساء والولادة، تقول لمن معها من طلاب الامتياز إذا جاءت حالة إسعافية وطلبت طبيبة، فقولوا لها: لا يوجد طبيبة. يحدثني أحدهم فيقول: كنا نكذب على المريضات، فنقول: لا يوجد طبيبة، فبعضهن ترضخ للواقع وهي تبكي، و بعضهن يذهبن إلى مستشفى آخر.
وحدثني أحد المشايخ الفضلاء فذكر: أنه ذهب بزوجته إلى مستشفى الولادة، ورأى القابلات الحاجة إلى مجيء الطبيب، فأبت زوجته أن يأتيها رجل. فقالوا: لا يوجد طبيبات، فاتصلت بزوجها فجاء فأصر على مجيء طبيبة وإلا خرج بها إلى مستشفى آخر، فلما أراد إخراجها من المستشفى، أتوا له بورقة إخراج المريض، وأنه بناءً على طلب المريض. يقول وقعت عليها، وكتبت أخرجتها بناءً على قولهم: لا يوجد في المناوبة طبيبات. يقول الشيخ: فجاء في الحال طبيبتان.
كتبت إلي إحدى الطبيبات الصالحات في هذا، وأسجل كلامها هنا بحروفه؛ حيث قالت: ".. أما في غرفة العمليات فحدث ولا حرج؛ فالمرأة توضع على طاولة العملية عاريةً تماماً، ويكون في غرفة العمليات: أخصائي التخدير، وطلاب، وأطباء. وعند قولنا: قوموا بتغطيتها. يرد الاستشاري بقوله: إننا جميعاً أطباء. وأنا متأكدة أنها لو كانت زوجته لما سمح لأحد بأن يراها" انتهى كلام الطبيبة.
وكتبت إلي طبية أخرى في إحدى الاستبانات التي وزعتها حول هذا الموضوع، وهذا نص كلامها: " تعرضت لهذا الحدث شخصياً، وعندما أدخلت إلى المستشفى في حالة نزيف، ولم يكن طبيب النساء ذلك اليوم إلا دكتور (وهو زميل) وكانت الساعة السابعة والنصف صباحاً، وكنت في وضع مستقر ولا مانع لدي من الانتظار ربع إلى نصف ساعة لحضور الدكتورة لاستلام نوبتها، ولكن مع الأسف لم يقبل وبدأ في الصراخ، وبعض الكلام غير اللائق، مثل : أنا دكتور، ومن حقي التدخل . إذا ما تبغي دكتور ليش جيتي إلى المستشفى ـ هذه مسؤوليتي الآن ولابد من التدخل ؟؟ اذهبي إلى طبيب خاص وليس إلى مستشفى حكومي .." انتهى كلام الطبيبة.
وأخبرني عدد من الاستشاريين: أنهم في سنوات الدراسة يكلف الطالب بحضور عدد من عمليات الولادة الطبيعية والقيصرية، فنجتمع نحن الطلاب مع أستاذنا لمشاهدة الحالة إلى تمام الولادة .
وأخبروني أن المرأة تكون في حال كرب عظيم فندخل عليها من غير استئذان، و نعتبر عدم رفضها الصريح لمجيئنا إذناً منها . فإذا انتهت من كربها وعادت إلى طبيعتها كثير منهن يشتكين، ولكن دون جدوى.
وتقول إحدى النساء: دخل علي الرجال في عملية الولادة، فأردت منعهم، فانعقد لساني ولم أستطع الكلام، و مثيلاتي كثير، تقول: والقهر والألم يتردد إلى الآن في صدري لا يفارقني. انتهى كلامها.
وبعض النساء مع أنها في هذه الكرب إلا أنها ترفض وبشدة وترفع صوتها، فيكون موقف الطبيب الاستشاري هو إظهار التذمر الشديد منها، ومعاودة المحاولة، والضغط عليها لتوليدها.
وأقوى وسيلة للضغط عليها قولهم لها: إنك قد وقعت قبل الدخول بعدم الاعتراض على العملية التعليمية.
وأقول: إن كان الأمر كما قالوا؛ أي أنها وقَّعت، فهو امتهان مقنن.
ومع ذلك كله فإن زوج هذه المريضة ممنوع من الدخول في غرفة عملية الولادة.
فقلت لهؤلاء الاستشاريين: هل يجوز لكم الدخولُ على المرأة من غير إذنها، والكشفُ عليها والنظرُ إلى عورتها من غير إذنها؟! . فقالوا: لا ندري.
وسألتهم هل ترضون هذا لنسائكم؟ فأجابوا جميعاً بأنهم لا يرضونه.
فانظر كيف يتربى طلاب الطب من أساتذتهم على امتهانِ حق المريض، وأنهم يرضون للمريض ما لا يرضون لأنفسهم ونسائهم.
وهذا هو الذي يفسر عقدة الاستعلاء على المريض التي يشتكي منها كثير من المرضى والتي يكثر حديث الناس عنها في المجالس، فينشأ الطبيب منذ نعومة أظفاره على أن المريض له حق العلاج في بدنه، ولكن ليس له حق الاستئذان، ولا الاعتراض، ولا حتى إبداءِ الرأي في أخص خصائص الإنسان وهو الكشفُ عن عورته. و مع ذلك فإنه ليس للزوج حق أن يدخل مع زوجته في غرفة الولادة أو غرفة العمليات. مع أن دخوله مع وجود الطبيب الرجل واجب شرعاً.
ولاحظ في الأمثلة السابقة كلها أن الطبيب ومن معه يدخلون من غير استئذان.
ورأيت بعيني طبيباً يدخل على غرفة تنويم للنساء في الزيارة الصباحية، ففتح الباب، وأزال الستارة عنها من غير استئذان، ولا كلام. والاستئذان واجب لو كان المريض رجلاً فكيف وهي امرأة؟!.(/2)
وسمعت أحد الأطباء: عند الفحص على المرأة نحرص على عدم وجود الزوج، بل أحياناً نمنعه حتى لا تثورَ غيرته.
وسمعت آخر يقول: نحن الأطباء لا ننظر إلى العورات بشهوة، فقد تبلد الحس بسبب كثرة المساس. فانظر كيف اعترف، واتهم نفسه وهو لا يشعر.
ويقول أحدهم: لا نفرق بين المسلمة وغير المسلمة في تعاملنا، ولكن إن كانت المرأة غربية وجدنا في أنفسنا احترماً لمطالبها، وإن كانت شرقية لم نجد في أنفسنا هذا التقدير.
وأخطر مما تقدم كلِّه قولُ بعضهم: لا فرق في الطب بين المرأة والرجل. (الشرع يفرق، وهو يقول لا فرق) .
يقول أحد المشايخ الفضلاء: "كنت منوماً في المستشفى لمرض في المسالك البولية، وذات مرة جاءني الطبيب ومعه مجموعة من طالبات الطب وطلب مني أن أكشف عن العورة المغلظة أمامهن ليتم الفحص. يقول الشيخ: فامتنعت ووجهتهم برفق أن الطالبات لا يفحصن إلا النساء والطلاب لا يفحصون إلا الرجال" اهـ. وأنا أتعجب أشد العجب كيف يقهر الطبيب والطالبات حياءهم في هذا الموقف البشع.
أما واقع التعامل مع المريض الذي ستجرى له عملية فكالآتي: يلبس المريض ثوباً واسعاً، ومفتوحاً من الخلف ويربط بخيوط متدلية من الثوب، ويصل طول الثوب إلى نصف الساق تقريباً، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا النوع من اللباس، ولا يسمح بلبس شيء من اللباس دونه، ثم يطلب من المريض أن ينتقل من سريره في غرفة التنويم إلى السرير المتحرك الذي سينقله إلى غرفة العمليات، وبعد وصوله يتم تخديره، وبعد التخدير ينزع هذا الثوب ويبقى المريض عرياناً، وتتم في هذه الفترة تجهيز المريض للعملية، وهي حلق الشعر من منطقة العملية وما جاورها بمسافة كافية، وإذا كانت العملية في أسفل البطن كزراعة الكلية ونحوها ؛ فالغالب أنه تحلق عانة المريض. وبعد ذلك يعقم المريض بمادة صفراء معروفه لمنطقة البطن والصدر إذا كانت العملية في هذه المنطقة، ثم يوضع غطاء شفاف من البلاستك على بطن المريض، ثم يغطى المريض بعد ذلك بالغطاء الطبي الأخضر الذي يغطي جميع جسم إلا موضع العملية، هذا العرض هو الغالب. وفي كثير من العمليات يوضع للمريض أثناء التجهيز قسطرة للبول.
يحصل هذا التجهيز غالباً أمام جميع الحاضرين في الغرفة من رجال ونساء . وربما تولى نقل المرأة بالسرير المتحرك رجل، وربما نقلت الرجل امرأة . وفي كثير من الأحوال لا يكون المريض أثناء النقل بالستر المطلوب، وخصوصاً إذا كان المريض في غير وعيه أو كان في مرحلة الإفاقه من المخدر بعد العملية.
والصورُ السابقةُ كلها بلا استثناء تدل على اعتداء صريح على حقوق المرضى التي أثبتها لهم الإسلام .
أما علاج هذه الظاهرة. فيكون بالآتي:
العلاج الأول: معرفة الحكم الشرعي لهذه الممارسات.
أولاً : نظر الطبيب إلى عورة المريض بلا ضرورة أو حاجة ملحة محرم، وتعظم الحرمة مع اختلاف الجنسين . وليُعلم : أن المرأة كلها عورة عند الرجل الأجنبي، فالنظر إلى قدمها أو ساقها نظر إلى عورة .
والأدلة على حرمة النظر كثيرة منها: قوله تعالى: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .." الآية [النور:31] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لَا يَنْظُر الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ" أخرجه مسلم .
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ قَالَ "احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ . فَقَالَ : الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ قَالَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ . قُلْتُ وَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا قَالَ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ" أخرجه الترمذي وغيره بسند حسن .
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي " أخرجه مسلم .
ثانياً : ألا ينس كل طبيب وكل مريض حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له" . رواه الروياني في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد (الصحيحة ح226).(/3)
ثالثاً : مما تقدم يتبين حرمةُ نظر الطبيب إلى عورة المرأة من غير ضرورة أو حاجة ملحة، والإثم يتحمله الطرفان إذا كان الكشف برضاها فرضى المريض لا يبيح المحرم، وإذا لم يكن برضاها و إذنها الصريح فحقها إن ضاع في الدنيا، فإن الله لا يضيعه في الآخرة .
رابعاً : يجب على المريضة ألا تذهب إلى طبيب رجل، وأن ترفض كشف الطبيب عليها، وكذا الحال في حق المريض ؛ لايذهب إلى طبيبة ولا يسمح بفحص الطبيبة أو الممرضة له.
خامساً : علاج الأطباء للنساء، لا يجوز إلا بشروط .
الأول : ألا يوجد طبيبة .
الشرط الثاني : وجود الضرورة، أو الحاجة الملحة .
الشرط الثالث : أن يكون الكشف بقدر الحاجة، فإذا وجدت الحاجة لكشف جزء من الساق مثلاً، لم يجز الكشف أكثر من مقدار الحاجة فيه . وإذا كانت الحاجة تندفع برؤية طبيب واحد لم يجز أن ينظر إليها أكثرُ من واحد .
الشرط الرابع : وجود المحرم، فالكشف على المرأة الأجنبية مظنة الفتنة، و من أعظم وسائل دفعها وجود المحرم . قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يخلون رجل بامرأة، إلا ومعها ذو محرم" أخرجه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
سألت أحد الأطباء: هل تجد فرقاً في علاج المرأة إذا كان معها محرم، أو لم يكن معها محرم. فقال : أجد فرقاً لا أستطيع دفعه، من حيث النظر، والجرأة في الكلام والسؤال وغيرُ ذلك.
سادساً : الاستئذان أدب شرعي أثبته الشرع حقاً لكل من أغلق بابه، أو أرخى عليه ستره. والاستئذان شرع من أجل البصر، وقد عظم الله شأن الاستئذان حتى أهدر عين من نظر من غير اسئذان فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : " اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ" متفق عليه .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ" متفق عليه.
والاستئذان يكون ثلاثاً فإن أُذن له وإلا انصرف. والدليل حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ" أخرجه مسلم.
سابعاً: أن يدرس في كليات الطب : العلومَ الشرعية التي تبين الحقوق الشرعيةَ للمرضى، والأحكامَ والقواعدَ الشرعية لأحكام التداوي وضوابطه. وقد تسمى هذه المادة بـ(فقه الطب)، أو (فقه الطبيب والمريض)، أو (الضوابط الشرعية لمهنة الطب) أو (الحقوق الشرعية للمرضى) . وأن يتولى تدريس هذه المادة : أهلُ الاختصاص الشرعي .
ثامناً : إعادة النظر في تدريس طلاب الطب عملياً تخصص النساء والولادة، فيكتفى بالجانب النظري لعدم وجود الضرورة الشرعية لكشف العورات حتى مع رضى المريض. وهذه الوجهة يتبناها عدد من أساتذة الطب الكبار .
تاسعاً : وهذا أهم العلاجات، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فبنوا إسرائيل استحقوا اللعن من الله بسب تركهم للنهي عن المنكر . قال الله تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [المائدة:78ــ 79].
وأمة الإسلام استحقت الخيرية بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [المائدة: 110].
وقال تعالى : "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة 71] .
فإذا رأى الطبيب امرأة في العيادة كاشفة عن وجهها أمرها بستره. وإن جاءت بدون محرم أمرها به.
والخطاب كذلك للمريض فإن كان رجلاً، وجاءت ممرضة أو طبيبة للكشف عليه. امتنع، وطالب بمجيء رجل.
وإن كان المريض امرأة، امتنعت عن الرجل وطالبت بامرأة.
وإذا رأى أيُّ واحد منا في ممرات المستشفيات تبرج بعض العاملات، أو تبادل الضحكات بادرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللين والكلمة الطيبة، بما يناسب المقام. ولا تنتظر النتيجة عاجلاً.(/4)
وإذا رأى طالب الطب، أو طبيب الامتياز أو غيرهما مخالفات شرعية، أنكر بأسلوب مناسب حتى على أستاذه بالكلام الشفوي، أو بالكتابة إلى المسؤول الإداري، أو بالتواصل مع المشايخ.
عاشراً: الانتفاع بقرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض. وهذا نص القرار:
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدِنا ونبيِّنا محمد و على آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعةَ عشر، المنعقدةِ بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت، العشرون من شعبان، عامَ ألفٍ وأربعمائة وخمسَ عشرةَ للهجرة . قد نظر في هذا الموضوع، وأصدر القرار الآتي:
1. الأصل الشرعي أنه لا يجوز كشف عورة المرأة للرجل، ولا العكس، ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل .
2. يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره برقم وتاريخ وهذا نصه: "الأصل أنه إذا توافرت طبيبة مسلمة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك، فتقوم طبيبة غير مسلمة . فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم . على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج، أو امرأة ثقة خشية الخلوة "انتهى النقل.
3. في جميع الأحوال المذكورة، لا يجوز أن يشترك مع الطبيب إلا من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت.
4. يجب على المسؤلين في الصحة، والمستشفيات حفظ عورات المسلمين والمسلمات من خلال وضع لوائحَ وأنظمةٍ خاصة، تحقق هذا الهدف. وتعاقب كل من لا يحترم أخلاق المسلمين، وترتيب ما يلزم لستر العورة وعدم كشفها أثناء العمليات إلا بقدر الحاجة من خلال اللباس المناسب شرعاً .
5. و يوصي المجمع بما يلي :
1. أن يقوم المسؤولون عن الصحة بتعديل السياسة الصحية فكراً ومنهجاً وتطبيقاً بما يتفق مع ديننا الإسلامي الحنيف وقواعده الأخلاقية السامية، وأن يولوا عنايتهم الكاملة لدفع الحرج عن المسلمين، وحفظ كرامتهم وصيانة أعراضهم .
2. العمل على وجود موجه شرعي في كل مستشفى للإرشاد والتوجيه للمرضى. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمدلله رب العالمين". انتهى قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي. وقد وقعه مجموعة من العلماء، وعلى رأسهم رئيس المجلس سماحة الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله .
حادي عشر: وضع نظام صارم لحفظ عورة المريض وخصوصاً في غرف العمليات في اللباس وطريقة نقله من غرفة التنويم إلى غرفة العمليات وتجهيزه للعملية وإعادته بعدها إلى غرفته أو غرفة العناية المركزة، وهو كالآتي:
1. أن يتولى نقل المريض إلى غرفة العمليات وإعادته بعد العملية إذا كان المريض رجلاً: رجل، وإذا كان المريض امرأةً: امرأة. وتزيد المريضة شيئاً مهماً وهو: أن يوضع على جوانب السرير ساتر خشبي أو معدني على السرير ويوضع عليه غطاء من القماش؛ لأن الغطاء العادي (الشرشف) يصف الأعضاء وربما تكشفت بعض أعضائها.
2. أثناء التجهيز أن يتولى تجهيز المرضى من الرجال : رجال . وتجهيز المريضات :نساء . وأن يكون عدد الحاضرين في الغرفة حال التجهيز بقدر الحاجة .
3. أن يكون اللباس الذي يدخل به المريض إلى غرفة العمليات من قطعتين: قميص وسراويل، وأن يكون بطريقة فنية، يتحكم من خلالها في الكشف على الجزء المقصود دون ما عداه .
4. أن تكون غرف العمليات قسمان: قسم للنساء بطاقم نسائي. وقسم للرجال بطاقم رجالي.
5. تكوين لجنة رقابية في كل مستشفى لمتابعة تطبيق النظام الشرعي في حفظ العورات في غرف العمليات.
6. السعي في تحقيق الفصل التام بين الرجال والنساء في الميدان الطبي في كليات الطب والمستشفيات التعليمية، والمراكز الصحية الأولية، والمستشفيات، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل إن شاء الله تعالى في موضوع قادم.
7. أن يسمح بدخول مرافق للمريض، كما هو واقع المستشفيات العالمية (وهذا إذا كان المستشفى مختلطاً كما هو الأغلب) .
وأخيراً أرجو ألا يكون التنبيه على المخالفات الشرعية داعٍ إلى التعميم أو إساءة الظن. وبهذا ينتهي القسم الأول من الكتاب .
الاختلاط وكشف العورات في المستشفيات [2/2]
د. يوسف بن عبد الله الأحمد 23/5/1427
19/06/2006
ثانياً : الاختلاط في المستشفيات ( الواقع والعلاج ) :
من المخالفات الشرعية التي تعانيها المجتمعات المسلمة : الاختلاط في المستشفيات، وما يجره هذا الاختلاط من فساد عريض على المرضى والعاملين في هذه المستشفيات، ولعلي أن أتناول في هذا البحث وصف الواقع أولاً، ومن ثم العلاج الشرعي .(/5)
فالاختلاط المحرم في المستشفيات بين الرجال والنساء له صور كثيرة ؛ منها :
• أول مراحل الاختلاط يبدأ في كلية الطب في السنة الثالثة أو الرابعة أو قبل ذلك، وفي كليات العلوم الطبية، ويتم ذلك من خلال ترويض الطلاب والطالبات عليه (الاختلاط في الممرات، وفي القاعات ؛ وتدريس الرجال للطالبات، ويمكن أن تدرس الطلاب امرأة . فينكسر بذلك حاجز النفرة من الاختلاط، وتجرؤ المرأة على ترك عبائتها بين الرجال .
فحقيقة الاختلاط في المستشفيات يبدأ من كليات الطب، فيصل طالب وطالبة الطب إلى المستشفى وقد تروض على الاختلاط وقبوله وعدم النفرة منه .
• الاختلاط في اجتماعات الأقسام الطبية، وفي المحاضرات والندوات .
• الاختلاط في قاعات الدراسات العليا في حلقات النقاش في برامج التدريب والزمالة، أو في دراسة الحالات المرضية، والتي تجمع عادةً عدداً قليلاً من الأطباء والطبيبات، مع تبادل الحديث العلمي بينهم .
• اجتماع الطبيب بالممرضات، أو أن يكون لكل طبيب ممرضةٌ في عيادته .
• أن يكون للطبيب سكرتيرة من النساء .
• اختلاط الرجال بالنساء في الأعمال الإدارية .
• تمريض النساء للرجال، وتمريض الرجال للنساء .
• و تطبيبُ الرجال للنساء، وتطبيب النساء للرجال .
• الاختلاط في أقسام العمليات بين الأطباء والفنيين والممرضين، وبين الطبيبات والممرضات، في غرف العمليات، وغرفة الراحة .
• تخيير المريض بين الطبيب الرجل أو المرأة .
• تخيير طالبات الطب في فحص المرضى بين الرجل والمرأة. ويقولون: المرأة غير ملزمة بفحص الرجال. (والصواب أن يقال: إن طالب الطب لا يفحص إلا الرجال، وطالبة الطب لا تفحص إلا النساء).
• إلزام الطبيبة بالكشف على الرجال .
وكل ما تقدم من صور الاختلاط محرم لا يجوز ومن الأدلة على تحريم الاختلاط :
الدليل الأول : قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقلوبهن)) (الأحزاب)
الدليل الثاني : حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ)) متفق عليه. و ما يحصل في المستشفيات من اختلاط مخالف صراحة لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم .
الدليل الثالث على حرمة الاختلاط : حديث أسيد الأنصاري رضي الله عنه :" سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ ((اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ)) أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن بمجموع طرقه كما قال الألباني في الصحيحة .
الدليل الرابع : حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ)) أخرجه الترمذي بسند صحيح .
الدليل الخامس : حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ)) . قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ" أخرجه أبو داود بسند صحيح .
الدليل السادس على تحريم الاختلاط: حديثُ أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (وهو الزهري) فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ . أخرجه البخاري.
وفي رواية له تعليقاً بصيغة الجزم أنها قالت: "كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وروايةُ النَّسائي وسندُها جيد: "إنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الصَّلَاةِ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ الرِّجَالُ".
• فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن دخول الرجال على النساء.
• وفي المسجد لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال، و لا تؤذنَ لهم، ولا تقيم.(/6)
• وجعل النبي صلى الله عليه وسلم صفوف الرجال في الأمام، وصفوف النساء في الخلف، ونظم الخروج من المسجد؛ يخرج النساء أولاً بعد السلام مباشرة قبل قيام الإمام، وما كان الناس يقومون حتى يقوم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان النساء ينصرفن فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
• ولما حصل الاختلاط مرة في الطريق نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين كيف يكون الحال إذا تقابل رجال ونساء في الطريق: أن النساء يكون لهن حافات الطريق.
• وخصص عليه الصلاة والسلام باباً للنساء في المسجد.
و لاحظ أن هذا كان في الإتيان إلى المساجد، وفي زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، والنساء في غاية الحشمة والحجاب .
فهذه أدلة ظاهرة على حرمة الاختلاط لمن تجرد في ابتغاء الحق . أما أصحاب الأهواء فلا يقنعهم شيء.
ومن أدلة حرمة الاختلاط: الآثار السلبية المترتبة عليه، فقد شاهدت تبادل الضحكات بين الأطباء والطبيبات؛ وبين الأطباء وطالبات الامتياز، وغير ذلك مما يدل على أن الحواجز قد كسرت بينهم.
ومن الآثار السلبية للاختلاط: ضعفُ الحجاب و الوقوعُ في التبرج من بعض النساء؛ فإن المرأة ضعيفة، يستشرفها الشيطان إذا خرجت بين الرجال كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم . فأول الأمر نقاب. ثم المكياج لما خرج من النقاب. ثم اللثام. ثم كشف الوجه. ثم كشف الناصية. ثم كشف الرأس كاملاً.
والتدرج يحصل كذلك في نوع اللباس: من اللون الأسود إلى الألوان الزاهية الجميلة ولبس البنطال. حتى الرداء الطبي الأبيض يحرص بعضهن أن يلبسنه أقصر مما هو على الرجال.
ويتزامن غالباً ضعف الحجاب من بعضهن مع بداية الاختلاط أثناء الدراسة في كلية الطب، وأول خطوة في الاختلاط هي أن يتولى تدريس طالبات الطب رجل داخل القاعة.
وأصعب شيء تفعله طالبة الطب في السنة الرابعة هو طي عباءتها في الحقيبة عند دخولها في أول يوم للكلية المختلِطة والمستشفى التعليمي، وهو أخطر قرار تتخذه طالبة الطب في سلم التسامح في الحجاب.
وحدثني عدد من الاستشاريين عن كثرة وجود العلاقات العاطفية، والتي تبدأ بأعلى درجاتها في سنة الامتياز، ونهاياتِها المشؤومة داخل المستشفيات وخارجها.
ومن الآثار السلبية للاختلاط: سلسلة طويلة من التحرش بالطبيبات، والعاملات، والمريضات كما أخبرني بذلك عدد من الاستشاريين، والإداريين في مستشفيات مختلفة. و سمعت منهم قصصاً يتفطر لها قلب المؤمن. و ذكروا أن التحرشَ والاعتداء يكون غالباً بأحد طريقين: طريقِ الابتزاز ويحصل مع العاملات في الميدان الطبي، والثاني: الاستغفال، ويحصل مع المرضى. أما التوافق والعلاقاتُ العاطفية فله حديث آخر.
• وهذه المجتمعات الغربية، تئن بسبب كثرة حمل السفاح، وكثرة الإجهاض، والأرقام والدراسات لمعدل الاغتصاب والتحرش في الغرب لا تنقطع الصحف والمجلات عن ذكرها. كل ذلك بسبب الاختلاط.
وفي أحد التقارير السنوية لعدد الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية: أن عدد حالات الاغتصاب المبلغ عنها (180) مائة وثمانون حالةً يومياً. علماً بأن الحالات المبلغ عنها أقل من10% من الواقع الفعلي. حتى بلغ عندهم عدد المراكز الطبية لعلاج آثار الاغتصاب أكثر من (700) سبعِمِائةِ مركز لعلاج ضحايا الاغتصاب.
وجاء في التقرير أن (2740) ألفان وسبعمائة وأربعون مراهقة يحملن يومياً من السفاح.
أما الوقوع في الزنا بالتراضي، فهذا لا يذكره الغرب في هذه الدراسات؛ لأنه لا يعتبر جريمة عندهم، ولكن بدأ التحذير منه لأنه أعظمُ أسباب انتشار مرض الإيدز.
ونظراً لهذا كله بدأ الاتجاه في بعض المدارس والجامعات في الغرب إلى فصل الرجال عن النساء تماماً.
ويَرِدُ على بعض العامة بشأن الاختلاط شبهتان:
الشبهة الأولى: أن الطواف بالبيت مختلط.
والجواب عن هذه الشبهة: أن الاختلاطَ الواقعَ اليوم في الطوافِ غيرُ جائز.
والطواف بالبيت لم يكن مختلطاً زمنَ النبي صلى الله عليه وسلم. فالنساء يطفن وحدهن دون الرجال. كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". أخرجه أحمد وأبو داود وسنده حسن. وهذا ظاهر في أن النساءَ في مناسك الحج كنَّ على هيئةِ الجماعة بعيدات عن الرجال.
وقد حصل شيء من الاختلاط بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأنكره الخليفة. قال ابن حجر: "روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال : نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهن فضربه بالدَّرَّة".(/7)
وسُئل عطاءُ بنُ رباح ـ التابعيُ الثقة ـ عن اختلاطِ نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم بالرجال في الطواف فقال: "لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ" أخرجه البخاري ح1618. وهل أصرح من هذا الجواب. ومعنى حجرة: أي معتزلة في ناحية.
وقد صدر -من اللجنة الدائمة- ردٌّ على من استدل على جواز الاختلاط بالاختلاط في الطواف، وهذا نص الفتوى (رقم الفتوى 6758): "أما قياس ذلك على الطواف بالبيت الحرام فهو قياس مع الفارق، فإن النساء كن يطفن في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- من وراء الرجال متسترات، لا يداخلنهم ولا يختلطن بهم .." وقد وقع على هذه الفتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وعبدالرزاق عفيفي، وعبدالله بن قعود، وعبدالله بن غديان.
أما الواقع الذي نراه من الاختلاط المزعج في المطاف والمسعى، فإن الواجب إصلاحه بما أمدنا الله جل وعلا من وسائل وإمكانات.
والشبهة الثانية: التي تروجُ على بعضِ العامة في جوازِ الاختلاط: مداواةُ النساء للجرحى من الرجال في الجهاد في سبيل الله زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن هذه الشبهة يسير جداً: فإن المداواة هنا للضرورة، أما الرجال فالجيش بأمس الحاجة إليهم في قتال الكفار.
قال ابنُ حجر في الفتحِ تعليقاً على حديث مداواة الجرحى: "وفيه جوازُ معالجةِ المرأةِ الأجنبيةِ الرجلَ الأجنبيَ للضرورة. قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمُتجالات منهن (وهن كبيرات السن اللواتي لا يحتجبن كالشابات) لأن موضعَ الجرحِ لا يُلتَذُّ بلَمسه، بل يَقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة، ولا مس" اهـ كلامُ ابنِ بطال نقلاً عن الفتح.
فانظر إلى فهمِ العلماء وقيودِهم.
و هل نحنُ إلى هذه الدرجةِ من السذاجةِ حتى نستدلَّ بِمُداواةِ الجرحى للضرورة، على جواز الاختلاط في الاجتماعات والندوات، والسكرتارية، وفي كل ميادين التطبيب والتمريض بلا ضرورة أو حاجة ملحة.
والسؤال هنا كيف يتم تصحيح حال المستشفيات من واقع الاختلاط؟.
يتمنى كثير من الأطباء الأخيار، والطبيباتُ الخيرات، وغيرُهم: منعَ الاختلاطِ في المستشفيات، لكنهم يشعرون بصعوبة التغيير، وبعضهم ليس في ذهنه مشروع يطمح للوصول إليه وإن كان ينكر الواقع المنحرف.
وأطرح هنا مشروعاً للمتفائلين، وهو أن يكون التصحيح على مرحلتين: المرحلة الأولى على المدى القريب، والمرحلة الثانية تكون على المدى البعيد.
أما المدى البعيد فهو ما نادى به سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، ومن قبله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وهو إيجادُ مستشفى خاصٍ بالنساء، وآخرُ بالرجال. ويبدأ ذلك من دراسة الطب : كليةٌ خاصةٌ للنساء، وأخرى للرجال، ومستشفى تعليمي للنساء، وآخرُ للرجال.
أما الحل الذي يكون على المدى القريب فيكون بأمور:
أولاً : وجودُ القناعةِ الشرعيةِ بحرمةِ الاختلاط بالأدلةِ الشرعيةِ كما سبق ذكره. وتكرارُ الوعي فيه بين العاملين في الميدانِ الطبي وغيرِهم.
ثانياً: أن يقومَ ببيانِ ذلك للأطباءِ و طلابِ الطب الأطباءُ أنفسُهم . فلابد أن يسمعَ طالبُ الطبِ من أستاذِه الصالح: أن الاختلاط محرمٌ شرعاً، وأن هذا الواقعَ لابدَ من إصلاحِه . وأن الجميع يتحمل واجب تغييره، و أنه لابد أن يتحقق إن شاء الله في يوم من الأيام.
وبيان ذلك من أساتذة الطب لطلابهم هو أفضل طريق لتخلص طلابِ الطب من عقدةِ الانهزامية في طرح القضايا الشرعية نظرياً أو عملياً كموضوع منع الاختلاط، وحفظ العورات.
وبعضُ الأطباء الصالحين لا يريد أن ينتقد فيسكت، أو يبرر واقع الاختلاط، أو يقول بأن التغيير مستحيل فينشر التثبيط وهو لا يشعر، والصواب أن لا يذكر ذلك حتى لو كانت هذه قناعته الشخصية، لأن الله قد يفتح على غيره من معرفة طرق الإصلاح ما لا يعلم.
ثالثاً: التدرج في منع الاختلاط.
نتدرج مع الناس، ومع الأطباء، فإنهم بحاجة لأن يتدرجوا مع أنفسهم في منع الاختلاط، لطول ما نشأوا عليه، فيضع الأخيار تخطيطاً متدرجاً حتى يتم قبوله من الكثير.
فهناك أمور يسهل منع الاختلاط فيها في المراحل الأولى؛ ومنها الدروس النظرية التي يقدمها أساتذة الطب لطالبات الطب، فهذه يجب أن تكون من وراء الهاتف أو الشبكة.
واجتماعات الأقسام اليومية أو الدورية، أو المحاضرات الطبية، ما المانع أيضاً أن تكون من وراء حجاب كما أمر الله تعالى، فيكون للنساء غرفة، وأخرى للرجال، ويكون النقاش من خلال الهاتف.
ومن الأمور اليسيرة في قسم العمليات : أن تخصص غرف للمريضات، وأخرى للرجال. فالتي تكون للنساء لا يدخلها إلا النساء من الطبيبات والفنيات والممرضات، وما دعت إليه الضرورة من الرجال.(/8)
وهكذا فهناك أمور يسهل منع الاختلاط فيها، وأخرى يسهل تقليل الاختلاط فيها، فإذا كان عدد الرجال الذين يتولون تدريس الطالبات الدروس العملية مثلاً خمسة، وأمكن تقليلهم إلى ثلاثة فهذا نجاح وخطوة إلى الأمام.
ومن التدرج: إلزام الطبيبات، والفنيات، والممرضات؛ المسلمات وغير المسلمات لباساً ساتراً وموحداً في لونه وصفته، وأن يكون التزامها بذلك في تقويمها الإداري أوالدراسي إن كانت طالبة.
وهذا كله كما بينت على سبيل التدرج، وليس هو الأمر المنشود، فالأصل ألا تخالط المرأةُ الرجال .
رابعاً: إنشاء مستشفيات رجالية من حيث المرضى والعاملين، وهو أمر في غاية اليسر. فبعض الناس يظن أن المشكلة متعلقة بالمريضة فقط، والصواب أنها متعلقة بالمريض، والعاملات في الميدان الطبي أيضاً. وإنشاء مستشفيات نسائية كذلك، و من المستشفيات التي ظهرت في أرض الواقع: مستشفى الوفاء النسائي بعنيزة (بطاقم نسائي متكامل) التابع لجمعية البر الخيرية، وقد مضى عليه الآن قرابة الأربع سنوات، وهو في تقدم ونجاح مستمر ولله الحمد، والأصل فيه تخصص النساء والولادة والأطفال ثم توسع فأضاف تخصص الأسنان والباطنية والجراحة العامة . فبارك الله في جهودهم في حفظ عورات المؤمنات.
والوقوع دليل الجواز وزيادة كما يقول الأصوليون، ولن تعجز وزارة عما استطاعته جمعية خيرية في إحدى المحافظات.
خامساً: السعي في إنشاء كليات طب النساء والولادة، كما هو الحال في كليات طب الأسنان (ولكن تكون كليات طب النساء والولادة للطالبات فقط، ويتبعها مستشفى تعليمي للنساء والولادة ) وهذه الفكرة يتبناها عدد من أساتذة الطب الكبار عندنا، (ويوجد في اليابان سبع عشرة كلية لطب النساء والولادة، ولا يدخلها إلا الطالبات فقط) . والسعي في أن تكون جميع كليات الطب على هذا الفصل.
سادساً: الانتفاع بالتعاميم الإدارية الصادرة من وزارة الصحة، والكليات الطبية، وهي كثيرة ولله الحمد، وعلى رأسها تعميم رئيس مجلس الوزراء وفقه الله رقم (759/8 في 5/10/1421هـ) والمتضمن: اعتماد منع الاختلاط بين النساء والرجال في الإدارات الحكومية، أو غيرها من المؤسسات العامة، أو الخاصة أو الشركات، أو المهن، ونحوها ومحاسبةُ المخالف كرامةً للأمة وإبعاداً لها عن أسباب الفتن والشرور. كما جاء في نص التعميم.
سابعاً: الانتفاع بفتاوى أهل العلم ونشرها بين طلاب الطب، والعاملين في المستشفيات. وأنقل ثلاث فتاوى:
الأولى: للإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله وجاء فيها: " .. وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون المستشفيات للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص من المستشفى ؛ فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال، و مثله قسم النساء؛ حتى تؤمن المفسدة، وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة، موافقاً لبيئة البلاد ودينها وطبائع أهلها، وهذا لا يكلف شيئاً، ولا يوجب التزامات مالية أكثر مما كان، فإن الإدارة واحدة، والتكاليف واحدة، مع أن ذلك متعين شرعاً مهما كلف". انتهى كلام الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله . (13/221).
والفتوى الثانية، فتوى الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وهذا نص السؤال : " ما رأي سماحتكم في تطبيب المرأة للرجل في مجال طب الأسنان، هل يجوز؟ علماً بأنه يتوافر أطباء من الرجال في نفس المجال، ونفس البلد.
فأجاب الشيخ عبدالعزيز بن باز: " لقد سعينا كثيراً مع المسؤلين لكي يكون طب الرجال للرجال، وطب النساء للنساء، وأن تكون الطبيبات للنساء، والأطباء للرجال في الأسنان وغيرها، وهذا هو الحق؛ لأن المرأة عورة وفتنة إلا من رحم الله، فالواجب أن تكون الطبيبات مختصات للنساء، والأطباء مختصين للرجال إلا عند الضرورة القصوى إذا وجد مرض في الرجال ليس له طبيب رجل، فهذا لا بأس به، والله يقول: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" (الأنعام 119) . وإلا فالواجب أن يكون الأطباء للرجال، والطبيبات للنساء، وأن يكون قسم الأطباء على حدة، وقسم الطبيبات على حدة. أو أن يكون مستشفى خاصاً للرجال، ومستشفى خاصاً للنساء حتى يبتعد الجميع عن الفتنة والاختلاط الضار . هذا هو الواجب على الجميع". انتهت فتوى الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
والفتوى الثالثة : فتوى اللجنة الدائمة رقم (13947) في جوابها على استفتاء مدير جامعة الملك سعود عن حكم تدريس الرجل للطالبات وهي في غاية الأهمية، ونصها:" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من معالي مدير جامعة الملك سعود، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (432)في 25/5/1411هـ.وقد سأل معاليه سؤالا ًهذا نصه:(/9)
تعلمون سماحتكم أن جامعة الملك سعود تستوعب العدد الأكبر من الطالبات، مقارنة بغيرها من جامعات المملكة، حيث تضم أكثر من (11000) طالبة، وذلك انطلاقا من حاجة هذا البلد لإتاحة الفرصة للطالبات في مواصلة تعليمهن، ولما للعلم من أهمية للمرأة المسلمة، ولسد حاجة هذا البلد من المهن التي تحتاجها المرأة، والاستغناء عن ظاهرة استقدام الأجنبيات ؛ لتجنب السلبيات الناتجة عن ذلك. وكذلك لتوفير التعليم للطالبات السعوديات داخل المملكة ؛ حتى لا يضطرون إلى السفر خارجها. والدراسة في بيئات مختلفة العقيدة والعادات والثقافة، وحرصا منا على سلامة منهج الجامعة، ورغبة في أن تتم جميع أمورها في إطار من نظرة الإسلام الخالدة للإنسان، وتنظيمه لشؤون حياته كلها، واستكمالا للمفاهمة مع سماحتكم حول بعض المشكلات التي تواجهها الجامعة في تدريس الطالبات، ومنها تدريس المقررات العلمية والطبية ومواد الدراسة العليا، والمواد الأخرى التي يصعب فيها شرح تلك العلوم بواسطة الدائرة التلفزيونية؛ حيث إن المحاضرة تكون معتمدة على تجارب حيوية يصعب توصيلها بالصورة مثل مادة التشريح وغيرها، إلى جانب السلبيات الكثيرة التي بدت للجامعة من التدريس بواسطة التلفاز، ولما يرافقه من مشكلات، منها متعلقة بالتشغيل ؛ فكثيرا ماينقطع الإرسال، أويشوش على الطالبات، مما يتأثر به الجدول الدراسي، إذ تتداخل المحاضرات، ومنها تشويش الطالبات بعضهن على بعض أثناء هذه المحاضرة، وعدم إيلائهن المحاضر الاهتمام الكافي، وصعوبة ضبط الفصل، وخاصة بالنسبة للمشرفات، وهن قلة في الجامعة، إلى جانب التكاليف الكبيرة في إنشاء أماكن البث والاستقبال، وهي كثيرة لكثرة أعداد الطالبات، والمتاعب الوفيرة في الصيانة، وصعوبة استقدام الفنيين المؤهلين بمرتبات عالية، أوالتعاقد مع شركات الصيانة الباهظة الثمن، مما يكلف الجامعة الكثير، وحيث إن ذلك كله حادث بسبب قلة عضوات هيئة التدريس وندرتهن، وعدم تمكن كثير منهن من الحضور إلى المملكة في الأوقات المحددة، إلى جانب عدم الثقة المطلقة بمن يستقدمن من الخارج، وخاصة الأجنبيات اللاتي تختلف ديانتهن وأخلاقهن، وعاداتهن عما نسير عليه في هذا البلد الآمن، الأمر الذي يستدعي أن تكثف الجهود لتخريج عضوات هيئة تدريس سعوديات مؤهلات لتولي مهام التدريس للطالبات في المستقبل، وحتى نتمكن من الوصول إلى هذه المرحلة إن شاء الله، بزمن قصير ؛ لا بد من تمهيد الطريق إلى تلك المرحلة بإعادة النظر في تدريس الطالبات بما يتفق ونظر الشرع الكريم، سواء في المرحلة الجامعية أومابعد المرحلة الجامعية، وحيث إن ديننا الإسلامي كما تعلمون سماحتكم يتميز ولله الحمد عن الأديان الأخرى باليسر المتمثل في قوله تعالى: (فاتّقوا الله ما استطعتم)؛ فإننا نعرض على سماحتكم هذه المشكلة ونود أن تفيدونا وفقكم الله برأيكم الشرعي في إمكانية أن يقوم عضو هيئة التدريس الرجل (في حالة الضرورة التي لا يتوفر فيها مدرسات) بتدريس الطالبات مباشرة على أن يكنّ هؤلاء الطالبات محجبات حجابا كاملا أومتنقبات تظهر أعينهن فقط، من أجل متابعة الشرح على السبورة وخاصة منهن في نهاية المقاعد، وكما يحدث عند الوعظ في المساجد مع وضع الضوابط الكافية لحسن اختيار عضو هيئة التدريس من حيث نزاهته واستقامته، ومراقبة الطالبات مراقبة صارمة من حيث المحافظة على الحجاب، والاحتشام الكامل، ومعاقبة المخالفات منهن بالحرمان من الامتحان، أوالطرد من الجامعة إذا تكررت مخالفتهن، وغير ذلك من ضوابط يمكن أن تبحث عند تطبيق هذا النظام.
إننا نعتقد أن سماحتكم يشاركنا المشكلة التي يتعرض لها تعليم البنات في جامعة الملك سعود، كما نعتقد أنكم حريصون على مصلحة هذه الأمة، نساء ورجالا، ومن هذا المنطلق فاتحنا سماحتكم بهذه الفكرة راجين التكرم بالنظر فيها بما يحقق المصلحة للجميع، سائلين الله أن يثيبكم، وأن يوفقكم لخير الدارين، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه لا يجوز للرجل تدريس البنات مباشرة، لما في ذلك من الخطر العظيم والعواقب الوخيمة .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز عبد الله بن باز
وبنهاية هذه الفتوى ينتهي الكتاب، والحمد لله رب العالمين .(/10)
الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار
أ.د. ناصر بن سليمان العمر*
أولاً: العمل الإسلامي بين الاختلاف والافتراق
مقدمة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً، إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة صوّرها قول المولى عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمّسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.
ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية، مع حسن النية وسلامة القصد، قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله؛ لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة؛ لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة"([1]).
والاختلاف موضوع الحديث هو: "نقيض الاتفاق. جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساو فقد اختلف. والخلاف: المضادة، وخالفه إلى الشيء عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف"، وبعض الفقهاء فرَّق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة، أما "(الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم. ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف".
فليس كل اختلاف افتراقاً، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه وإن كان الغالب ذم أهل الفرقة والاختلاف.
أقسام الاختلاف
الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة وفيما يلي أهمها:
انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:
قال ابن القيم في الصواعق:"الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) [سورة آل عمران:105]، وهم الذين تسودُّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) [سورة البقرة:176]، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزُّب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم، فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفوٌّ عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) [سورة البقرة:253]، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [سورة الشورى:10].
والاختلاف المذموم كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقرُّ له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [سورة البقرة:213]، فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق، بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).(/1)
فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس، وأهداهم سبيلاً، وأقومهم قيلاً، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى، يقرُّ بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم، بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته، فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعُرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة، ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع، كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق"([2]).
وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم ــ كالشاطبي رحمه الله ــ يرجع في الحقيقة إلى وفاق: "فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافاً، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا يُنْقَض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحرٍ لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب،إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضاً. فالإصابة على قول المصوِّبة إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار. فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحابِّ والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد; لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً"([3]).
فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم وجدت الحمد منصباً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع، وطلبهم لمراده، واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم، ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.
ويتبع للتقسيم الذي سبق "نوع آخر من الاختلاف:
وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار والأولى، بعد الاتفاق على جواز الجميع، كالاختلاف في أنواع الأذان، والإقامة، وصفات التشهد، والاستفتاح، وأنواع النسك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك، فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة"([4]).
انقسام الاختلاف باعتبار المسائل المختلف فيها:
(1) اختلاف صوري:(/2)
ومن قبيله اختلاف التفاوت، كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع وهو "أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل أن يجب على قومٍ الجهادُ، وعلى قومٍ الصدقةُ، وعلى قومٍ تعليمُ العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مُثِّل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. قد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع. منها ما تقدم من الاختلاف في العبارة، ومنها أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، ومنها اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولاً، ومنها أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزاً، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها، إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع ــ وإن سميت خلافاً ــ إلا أنها ترجع إلى الوفاق"([5]).
(2) اختلاف تضاد (حقيقي): وهو قسمان سائغ وغير سائغ، ولعله تأتي الإشارة إليهما([6]).
انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه:
(1) اختلاف يقتضي عداوة وشقاقاً كالاختلاف في الأصول.
(2) اختلاف لا يقتضي عداوة وشقاقاً، كالاختلاف في الفروع باجتهاد سائغ.
انقسام الاختلاف باعتبار أثره:
(1) اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.
(2) اختلاف نظري ذهني لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع، وهو من قبيل اختلاف السفسطائية هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة! قال شيخ الإسلام: "وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفى البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفى مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفى اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة"([7]). وقال: "وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم، وعصا موسى من أيِّ الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً.)"([8]).
والأصل ذم الخلاف وتجنبه، مادام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين؛ ففي السنة جاء النهي عن "الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء، كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه، وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سداً لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة؛ سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن"([9]).
وأدلة القرآن كثيرة ومنها:(/3)
قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقال عزوجل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ).
بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لأصحابه نصيب من الذم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
وقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
فالاختلاف مادام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لا يسلم منه إلاّ من كان معه الصواب، فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يعذر فيه المجتهد المخطئ بل يثاب لإرادته الخير وقصده.
وهو مع ذلك سنة كونية وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومُطالَبٌ كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدَّر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان، فالله عز وجل وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.
فالخلاف قد يكون قدراً لا يستسلم له العبد بل يقاومه بالقدر، فإن لم يُزِلْه خفَّفَ من آثاره وخرج بأقل أضراره.
فإذا تقرر ذلك الأصل نأتي للحكم التكليفي للاختلاف بحسب أنواعه:
"أمور الدين التي يمكن أن يقع فيها الخلاف إما أصول الدين أو فروعه، وكل منهما إما أن يثبت بالأدلة القاطعة أو لا. فهي أربعة أنواع:
النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله تعالى ووحدانيته، وملائكته وكتبه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والبعث بعد الموت ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف, من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي. فمن أصحابه من حمله على ظاهره. ومنهم من حمله على كفران النعم. وشرط عدم التكفير أن يكون المخالف مصدقاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والتكذيب المكفِّر أن ينفي وجود ما أخبر به الرسول ويزعم أن ما قاله كذب محض أراد به صرف الناس عن شيء يريده، كذا قال الغزالي.
النوع الثالث: [الأمور([10])] المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.(/4)
النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها. فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة. ويعذر المخالف فيها ؛لخفاء الأدلة أو تعارضها، أو الاختلاف في ثبوتها. وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا: في المسألة خلاف. وهو موضوع هذا البحث على أنه الخلاف المعتد به في الأمور الفقهية. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدليل الصحيح الذي تبيَّن أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافا في المسائل الشرعية، لأنه اجتهاد لم يصادف محلا، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة"([11]).
عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف
لكون الاختلاف شراً وبلاء؛ راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء([12]).
ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف([13]).
ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف([14]).
ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاثة أيام للخروج من الخلاف([15]).
ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.
ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبد السلام حيث يقول: "والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه، إذ كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً"([16]) ثم قال: "وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا ًمن كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات, كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات".
فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً بل هو من باب "دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك"، ويتأكد هذا، بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف، إن خشي تَرتُّب مفسدة أعظم على الخلاف.
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل ونأخذ منه حكماً.
ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لا تصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جراء الفرقة فتقدر حينها الأمور بقدرها، وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.
هل الاختلاف رحمة؟
رُويت في ذلك أحاديث لا تثبت مثل حديث أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم([17])، وحديث اختلاف أمتي رحمة([18]).
ولعدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر:"عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا ; لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع ــ لا مطلق الاختلاف ــ من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
وهذه القاعدة ليست متفقاً عليها، فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد.
وقال المزني صاحب الشافعي: ذمَّ الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.
وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً.
قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد"([19]).
حكم الاختلاف في العمل الإسلامي(/5)
إذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم.
والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من القبيل الأول، ولاسيما مع كثير من الشعارات المرفوعة، فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تحتاج الجميع.
ولكن الواقع من الناحية العملية: وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين!
وكما أن أهل العلم ذمُّوا التعصب للمذهب وأنكروه فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لا يتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق؛ فإن الذم قد لا يتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة، وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.
وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أو اجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.
ثانياً: أسباب الافتراق
الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:
أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول
قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم.."([20]).
ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جليٌ في كثير من أشكال الاختلاف الواقع، فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه، فأبو بكر الرقيق الشفيق مال إلى المنِّ أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.
فطبيعة الخلقة والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير فيجنح كل طرف إلى ما لا يجنح إليه الآخر.
وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره، والناس متفاوتون في ذلك، ولا يعني هذا أن الأكمل عقلاً هوالأرجح اختياراً، أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً، وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال، أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر، سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص، فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر ــ على أن في ثبوتها مقالاً([21]) ــ مع المرأة في الميراث يوم قال أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب واختلفوا لتباين عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة، فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولا يحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.
ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:
الاختلاف في الأمور الجبلّية: إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.
ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:
كما نسي عمر قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)، ونسي قوله: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) في القصة التي تروى مع المرأة، ونسي فتوى النبي له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر.
وكذلك ما روي أن علياً ذكَّر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله فذكره فانصرف عن القتال. قلت فيكون الناسي معذوراً بفتواه.
ومنه كذلك عندما همَّ عمر رضي الله عنه أن يأخذ عيينة ابن حصن فذكّره الحُر بن قيس بقول الله عز وجل: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فأمسك.
ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة
فأصل حدوث الاختلاف والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين ولهذا قال الشاطبي رحمه الله: "الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني"([22]).(/6)
ولهذا روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلا يوماً فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما نزل القرآن علينا فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤن القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا([23]).
قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر.
فإذا وسد الأمر إلى غير أهله، وتصدر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن، مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة، إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.
وقد عدَّ أهل العلم من البلايا "أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: ((لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))"([24]).
وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي، قال الإمام مالك ــ رحمه الله ــ: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق([25]).
وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمات، والله المستعان.
ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع([26]):
أحدها عدم اعتقاده أن النبي قاله أو لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة ولعل في النماذج السابقة شيئاً من البيان ويمكن أن نجملها فيما يلي:
(1) قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالماً به، بل يكتفي المخالف أحيانا بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب([27])، قال شيخ الإسلام:"وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم تكن لأحد من الأمة"([28])، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: حكم أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً، فعن قبيصة بن ذؤيب قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال: لها ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ شيء، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فأعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر"([29]).
ثانياً: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ، فعن أبي سعيد الخدري قال:"كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ((إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع))، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال ذلك"([30])، فهذه سنة قد خفيت على عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ مع سعة علمه وفقهه في دين الله ــ تعالى ــ وليس في هذا مذمة لعمر ــ رضي الله عنه ــ فإن الله ــ تعالى ــ يقول: (وفوق كل ذي علم عليم)([31])، فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا:"العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله".(/7)
ثالثاً: خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد، فعن عبد الله بن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: "أن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ ولا نرى أن تُقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف ــ وكان متغيباً في بعض حاجته ــ فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه))، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف"([32]).
رابعاً: أن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ كان يفتي في بداية أمره بمنع الحائض من أن تنفر قبل أن تطوف طواف الوداع، ثم بلغه إذن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في ذلك فرجع عن قوله([33]).
خامساً: أن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ كان يرى أن المرأة لا ترث من دية زوجها، فحدِّث بأمر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بتوريث المرأة من دية زوجها، فلم يكن منه ــ رضي الله عنه ــ إلا أن ترك رأيه وصار إلى السنة([34]).
فهذه أمثلة من خفاء بعض النصوص الشرعية على بعض الناس، والذين هم أفضل هذه الأمة على الإطلاق، ولا يقولن قائل: كيف يختلف الصحابة وقد جُمعت عندهم السنة، ودُوِّنت الدواوين؟ فإن "هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ في دواوين معينة، ثم لو فُرض انحصار حديث رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها "([35]).
ومن هذا القبيل أيضاً:
أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ([36]).
ومن أمثلة ذلك: أن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أخذ بصفة التطبيق في الركوع مع أنها منسوخة، فعن علقمة، والأسود بن يزيد أنهما دخلا على عبد الله، فقال: أصلى من خلفكم([37])؟ قالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم"([38])، وهذه الصفة منسوخة بدليل حديث سعد بن أبي وقاص، فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال:"صليت إلى جنب أبي، فلما ركعت شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب"([39]).
ومن أمثلته كذلك اللبس الذي حصل أول الأمر في ربا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.
(2) أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه مجهول أو سيء الحفظ أو متهم، ولا يعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علَّق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.(/8)
اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثَّقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لا يرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..)، وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع، ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة([40])، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة، لكن عذره في ذلك ظنه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له ــ رحمه الله ــ بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر([41]) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس([42])، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما"([43]).
(3) اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح، ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.
(4) أن ينسى البعض حديثاً أو آية كما ذهل عمر رضي الله عنه عن قول الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) لمّا مات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا: العلم باللغة العربية، قال الشاطبي رحمه الله: "الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً).. وكان المنزَّل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم.. وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلاّ من الطريق الذي نزل عليه، وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها"([44])، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"([45])، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: "أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع"، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد([46]) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي([47]) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال يا أبا عمرو: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي منجز له وعدي([48])
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: "إنما أهلكتهم العجمة، يتأولونه على غير تأويله"([49]). ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لا تنم عن أصالة في اللسان العربي، فغيلان الدمشقي، أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن، كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.
ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملين:
الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذة، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير لا طلاق ولا عتاق في إغلاق. ففسره كثير من الحجازيين بالإكراه وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.
أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.
(6) معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ، إما لعدم تصوره لذلك الفرد، أو لعدم حضوره بباله، أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.
(7) عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربع حالات:
- أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف، الشارع فيحمله على خلاف مدلوله في العرف الشرعي.(/9)
- أن يكون له في عرف الشارع معنيان، فيحمله على أحدهما ويحمله المخالف على الآخر.
- أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً أو من المقيد مطلقاً.
- أن ينفي دلالة اللفظ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً، فمن نفى دلالة قول الله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) على حِلِّ أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط ومن نفى دلالته على ماعدا محل السبب غلط.
(8) اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساوٍ لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة([50]). ومن أمثلة ذلك:
أولاً: لما حدث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهم ــ أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه))([51])، أنكرت ذلك وقالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا ًوإن الله لهو (أضحك وأبكى)([52])، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)([53])"([54])، فأنكرت عائشة ــ رضي الله عنها ــ تحديث النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ بمثل هذا الحديث ظناً منها أنه يخالف مقتضى القرآن الكريم، ومن ثم اختلف العلماء أيضا في معنى هذا الحديث على أقوال، ليس هذا موضع بسطها([55]).
ثانياً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)([56])، وبين قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن)([57])، فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات، فالجمهور على جوازه، استنادا لآية المائدة، وقال بعض العلماء لا يجوز نكاح الكتابيات استنادا لآية البقرة، ظناً منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة([58]).
ثالثاً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) إلى قوله: (وأن تجمعوا بين الأختين)([59])، وبين قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)([60])، فالآية الأولى بعمومها تحرم الجمع بين الأختين مطلقاً، بعقد نكاح أو بملك يمين، والآية الثانية استثنت ما ملكت اليمين مطلقاً، ولهذا اختلف العلماء، فمنهم من حمل الآية الأولى على غير المملوكتين، فأجاز الجمع بين الأختين بملك اليمين، ومنهم من رأى أن الآية الأولى ناسخة للثانية، فمنع الجمع بينهما بملك اليمين، فالفريق الثاني رأى أن الآية الثانية معارضة بآية أقوى منها من حيث الدلالة فجعلها منسوخة([61]).
ومن أغرب ما نقل في هذا المقام، أن الإمام مالكاً قال:"لا أعلم أحداً أجاز شهادة العبد"([62])، هذا مع قول أنس ــ رضي الله عنه ــ:"لا أعلم أحداً ردَّ شهادة العبد"([63])، فإذا نظر المجتهد إلى أحد هذين النقلين ظن أن المسألة من مسائل الإجماع، ثم بنى على ذلك أحكاما كثيرة([64]).
ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف فساد الطوية وسوء النية
ومن هذا القبيل عدة أمور من أهمها ما يلي:
أولاً: البغي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ــ وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين ــ: "وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها؛ وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد و غيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا)"([65]).
والبغي ينجم عن أمور من أهمها:
الأهواء والشهوات:(/10)
الأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة فيقع الخلاف وينشأ الافتراق "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم ــ مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة ــ فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات" في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
الشبهات:
قد تدفع نحو البغي الشبهات والتأولات الفاسدة، ومن أظهر ذلك ما سجله التاريخ من تأولات الحجاج بن يوسف الثقفي والتي دفعته للولوغ في الدماء، وحجته حفظ هيبة السلطان وتوطيد أركان دولة الإسلام.
ثانياً: الغرور بالنفس.
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي قال الله تعالى له: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)([66])، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً([67]).
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين.
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذبه، أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته([68])، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تَورَّع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر([69]). "وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!"([70]).
رابعاً: حب الظهور بالجدل والمماراة
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أوالفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد([71]) وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون))).
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله: "الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر. وقال الله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن)([72])، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا"([73]).
وقال ابن قتيبة رحمه الله يصف الحال في أيام السلف عليهم الرحمة والرضوان: "كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم..
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى.."([74]).
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس([75]): قلت للحكم بن عتبة([76]): ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات([77]).(/11)
وقد روي عن أبي قلابة ــ وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون([78]).
قال معن بن عيسى: "انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.
قال: فإن غلبتني؟
قال: إن غلبتك اتبعني.
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك رحمه الله: يا عبد الله بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين".
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه([79])!
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولاسيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.
رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب ران يطغى على القلب والعقل فيحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.
يقول الماوردي رحمه الله: "ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه. فأمسك عنه المستدل تعجباً، ولأن شيخه كان محتشماً. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل, ثم أقبل المستدل عليَّ وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب, ومستعيذ بالله من جهل مغرب"([80]).
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعدُّ نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه، ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة! ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.
يقول الإمام العلم ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: "فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة. ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين. كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين, وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم. قال تعالى: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ليعذب الله المنافقين والمنافقات) إلى آخر السورة. وهذا أبو يوسف ومحمد، أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان؛ بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان. فإذا تبين له من العلم ما كان خافياً عليه اتبعه، وليس هذا مذبذباً؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى. وقد قال تعالى: (وقل رب زدني علماً). فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له"([81]).(/12)
وأما أمراض الحزبية الضيقة التي تحصر الأخوة الإسلامية في حدود الانتماء والولاء ولو في الظاهر فكأنما كانت لها جذور منذ زمن ابن تيمية رحمه الله حيث أشار إليها بقوله: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والأعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان"([82]).
خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان الأثر النصراني فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين، فبلال رضي الله عنه حبشي، وصهيب رومي، وسلمان فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دوَّن السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي، وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صدِّ الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ، وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم كما أشار قساوسة النصارى ورهبانهم.
ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي([83]):
"(1) يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
(2) ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
(3) ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل:
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
(4) وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
(5) من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربي كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضى علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضى على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين".
وقد ترجم المنصرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين.(/13)
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت "كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشمّيل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف. وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستنتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رموا بالماسونية، فإبراهيم اليازجي (1847 – 1906م) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 – 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك. وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 – 1883م)، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866م. وأعان الدكتور فانديك أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها، فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية.. ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان فارس الشدياق (1801 – 1887م)، الذي تسمى بعد إسلامه.. بأحمد، واتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوف كثيراً بين دول أوروبا والأستانة وتونس ومصر. ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م فأعان في ترجمتها إلى العربية. وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية أهمها (سر الليال في القلب والإبدال) و(الساق على الساق فيما هو الفارياق) و(الجاسوس على القاموس). وله مع ذلك شعر كثير في مدح سلاطين آل عثمان وباي تونس، وهو صاحب المقامات التي نالت في زمانها شهرة كبيرة، والمعروفة باسم (مجمع البحرين).
ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً سليم تقلا مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 – 1892م). تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية، التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية).
ومنهم جرجي زيدان (1861 – 1914م) كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان. وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881م لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي. وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية.. ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام"([84]).
ولما أضحت دعوة دعاة القومية بهذه المثابة هاجم الشاعر العراقي معروف الرصافي دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913م بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
أصبحت أوسعهم لوماً وتثريباً **لما امتطوا غارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً ** للشَّرِ موشِكةً أنْ تخُرِج القُوبَا([85])
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبَهم ** ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريزَ) مازالت مطامِعُها ** ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها ** تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم ** جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيبا(/14)
وما قاله تحقق فما انتهت الحرب العالمية الأولى إلاّ والشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب، فيقول له فيما يقول: "أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين؟" ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: "قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ تاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
يقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم، لأننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق"([86]).
وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فآتى أكله وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ "المراجع القديمة تثبت لنا أن القدرية أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي، قال ابن قتيبة رحمه الله عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني"([87]).
ونحواً مما ذكره ابن قتيبة نقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم.
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن البعض.
ثالثاً: آثار الافتراق المذموم
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه، فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها خاصة وأن الواقع يحكيها ويلقي دروساً مفصلة فيها ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر وفشل الأمة وعجزها، قال الله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).
قال ابن سعدي: "(وَلاَ تَنَازَعُوا) تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها، (فَتَفْشَلُوا ) أي: تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله"([88]).
وفي الآية السابقة "عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي.."([89]).
وقد علم العقلاء بأن الاجتماع سبب قوة ومنعة..
ثانياً: هلاك الأمة:
صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))([90]).
قال في تحفة الأحوذي: "واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة"([91]).(/15)
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم، وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، قال ثم انتهرنا، قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال أبهذا أمرتم؟ أو ليس عن هذا نهيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا)). وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: ((جلسنا مجلساً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أشد اغتباطاً، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً يُعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال: يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم))، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال أحمد بن صالح: أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله"([92]).
ثالثاً: العقوبات المعنوية:
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال إني خرجت لأخبركم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت))([93]) الحديث.
قال النووي: "وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية"([94])، وقال ابن حجر: "قوله (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها وهو التنازع والمخاصمة.. قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان"([95]).
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه:
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفون فيه على أقوال عديدة، وكل طرف منهم شط فيما اختار، التبس الأمر عليه وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي** لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
رابعاً: نماذج تاريخية ومعاصرة لمآسي الافتراق
نموذج من الماضي: افتراق الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً يوم الجمل:
ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فصل في أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقال فيه: "وقد قدَّمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة "([96]).
منهم المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وعمار بن يسار رضي الله عنهم أجمعين.
ومما نجم عنها غرس بذرة الرفض وفي مقابلها بدعة النصب، وكذلك خروج الخوارج الذين عانت أمة الإسلام من بغيهم قرون عدداً، ولا يزالون يتجددون حيناً بعد حين.
هذا مع أن قصد المختلفين ومرادهم هو تحصيل الخير، يصوِّر ذلك ابن كثير فيما نقل حيث يقول: "وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول : يعز علي أن أرى قريشاً صرعى .
وقد مرَّ على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول، فقال : لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر :
فتىً كان يُدنيه الغِنى من صديقه** إذا ما هو استغنى ويُبعده الفقرُ
وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً، ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشاً بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان .
وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله، ورضي عن الصحابة منهم "([97]).
وقال: "وقد رُوِي من غير وجهٍ عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُرٍ متقابلين)"([98]).
نموذج من الحاضر: افتراق المسلمين في أفغانستان والعراق:
هل كان من المتصور ظهور الأمريكان في أفغانستان والعراق لولا افتراق المسلمين، واستعانتهم ببعضهم في ضرب بعض؟
وهل كان بإمكانهم البقاء محتلين غاصبين لو لا افتراق المسلمين؟
أترك الجواب للحاضرين مذكِّراً بقول رب العالمين:(/16)
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ).
هذا ما تيسر جمعه في عجالة، أسأل الله أن ينفع به، وأن يرزقنا وإياكم العلم والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
--------------------------------
([1]) الصواعق المرسلة 2/519.
([2]) الصواعق المرسلة لابن القيم 2/214-218.
([3]) الموسوعة الفقهية 2/295.
([4]) الصواعق 2/219.
([5]) الموسوعة الفقهية 2/292-293.
([6]) ينظر كذلك فقه الائتلاف لمحمود الخزندار ص34.
([7]) الفتاوى 13/345.
([8]) الفتاوى 13/367.
([9]) إغاثة اللهفان ص369.
([10]) في أصل الموسوعة الفروع، وهذا محل نظر وإن جرى على ألسنة المتكلمين وقد بين ذلك المحققين من أهل العلم.
([11]) الموسوعة الفقهية 2/293ــ294 بتصرف يسير.
([12]) الممتع شرح زاد المستقنع لابن عثيمين كتاب الطهارة.
([13]) البحر الرائق لابن نجيم 4/55.
([14]) منح الجليل شرح مختصر خليل، لعليش 2/222.
([15]) المجموع 4/212.
([16]) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، 1/253.
([17]) نقل الإمام ابن تيمية تضعيفه عن الأئمة في منهاج السنة 4/238، وقال الحافظ العراقي في مختصر المنهاج: إسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتهم بالكذب، ص55. وقد حكم الألباني بوضعه في غير موضع انظر الضعيفة 58.
([18]) ذكر الألباني أنه موضوع لا سند له انظر ضعيف الجامع 230، وبداية السول ص19، وقد ذكر الحافظ العراقي أثر: اختلاف أصحابي لأمتي رحمة، وحكم بأنه مرسل ضعيف، مختصر المنهاج ص60.
([19]) الموسوعة الفقهية 2/295-296 بتصرف يسير.
([20]) الصواعق 2/519.
([21]) ممن ضعفها الألباني في الإرواء 6/348، وألف فيها نزار عرعور رسالة بعنوان القول المعتبر وبيَّن ضعفها، وكذلك أفرد لها مقالاً يوسف العتيق في كتابه قصص لا تثبت ص27، على أن بعضهم صححها ومنهم مصطفى العدوي في كتابه جامع أحكام النساء 3/301. ولعل الصواب أن القصة لا تتقوى بالشواهد التي ذكروها فهي إما معضلة أو في أسانيدها ضعاف لا يحتمل جبر مروياتهم، وبخاصة الآثار التي ورد فيها قول عمر رضي الله عنه: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
([22]) الاعتصام 2/172.
([23]) الاعتصام 2/183 باختصار يسير.
([24]) الاعتصام 2/172-173 باختصار يسير.
([25]) جامع بيان العلم وفضله ص578.
([26]) ملخص من الصواعق المرسلة 2/542-632 وزيدت عليه صور من مصادر أشير إليها في موضعها.
([27]) انظر مجموع الفتاوى 20/233، وانظر الإنكار في مسائل الخلاف ص 16، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي.
([28]) مجموع الفتاوى 20/233.
([29]) سنن أبي داود، كتاب الفرائض، باب في الجدة، 3/121، برقم 2894. أبو داود سليمان بن الأشعث، دار الفكر، مراجعة: محمد محيي الدين عبد الحميد. سنن ابن ماجة، أبواب الفرائض، باب ميراث الجدة، 2/163. سنن الترمذي، أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، 4/420، برقم 2101. وقال الحافظ في تلخيص الحبير 3/82: "إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل؛ فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة قاله ابن عبد البر بمعناه، وقد اختلف في مولده، والصحيح أنه ولد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة، وقد أعله عبد الحق تبعاً لابن حزم بالانقطاع، وقال الدارقطني في العلل بعد أن ذكر الاختلاف فيه عن الأزهري يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تابعه".
([30]) صحيح البخاري كتاب الاستئذان ــ باب التسليم واستئذان ثلاثاً، انظر الفتح 11 / 26 برقم 6245، صحيح مسلم كتاب الآداب ــ باب الاستئذان، انظر شرح النووي 7 / 381 برقم 2154.
([31]) سورة يوسف: 76.
([32]) صحيح البخاري، كتاب الطب ــ باب ما يذكر في الطاعون، انظر الفتح 10/179 برقم 5729، صحيح مسلم كتاب السلام ــ باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، انظر شرح النووي 7/460 ــ 462 برقم 2219.
([33]) صحيح البخاري، كتاب الحيض ــ باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، انظر الفتح 1/428 برقم 330.
([34]) سنن أبي داود، كتاب الفرائض ــ باب في المرأة ترث من دية زوجها، 3/129 برقم 2927، سنن الترمذي، كتاب الفرائض ــ باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها، 4/425 برقم 2110، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".(/17)
([35]) مجموع الفتاوى 20/238، 239.
([36]) انظر الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه، ص 23.
([37]) قال النووي: "يعني الأمير والتابعين له، وفيه إشارة إلى إنكار تأخيرهم الصلاة "، انظر شرح النووي على مسلم 3/20.
([38]) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ــ باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، انظر شرح النووي 3/20 برقم 534.
([39]) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ــ باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، انظر شرح النووي 3/21 برقم 535.
([40]) انظر الهداية شرح بداية المبتدي 1/106.
([41]) الحديث رواه الدارقطني بسنده عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قهقه أعاد الوضوء وأعاد الصلاة))، ثم قال الدارقطني:"فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية الرياحي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم" ا.هـ، انظر سنن الدارقطني، كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها، 1/164ــ165، على بن عمر الدارقطني، مراجعة: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة، الطبعة بدون، والحديث له طرق أخرى، انظر نصب الراية للزيلعي مع الهداية 1/106 ــ 114.
([42]) يشير ــ رحمه الله ــ إلى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال له ــ ليلة الجن ــ ((ما في إداوتك قال: نبيذ، قال تمرة طيبة وماء طهور))، مسند الإمام أحمد، مسند عبد الله بن مسعود، 1/663 برقم 3800. سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، 1/21، برقم 84. سنن ابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بالنبيذ، 1/135، برقم 384. سنن الترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء بالنبيذ، 1/147، برقم 88، قال الحافظ في الفتح 1/354: "وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه".
([43]) مجموع الفتاوى 20/304، 305.
([44]) الاعتصام 2/293ــ294 باختصار.
([45]) صون المنطق ص15.
([46]) أبو عثمان عمرو بن باب البصري 80 ــ 144، أصله من الموالي وولاؤه لبني تميم، وهو شيخ المعتزلة.
([47]) أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري 70 ــ 157، شيخ قراء العربية، اشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم.
([48]) سير أعلام النبلاء 6/408 ــ 409، وقد ذكرها غير واحد من أهل التراجم والأخبار.
([49]) الاعتصام 2/299.
([50]) للاستزادة في تفصيلها راجع الصواعق المحرقة لابن القيم 2/577 ــ 631.
([51]) صحيح البخاري، كتاب الجنائز ــ باب قول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3/151 برقم 1286. صحيح مسلم، كتاب الجنائز ــ باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3/483 برقم 927.
([52]) سورة النجم: 43.
([53]) سورة الأنعام: 6.
([54]) صحيح البخاري، كتاب الجنائز ــ باب قول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3/151 ــ 152 برقم 1288. صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3/485 ــ 486 برقم 928.
([55]) انظر فتح الباري 3/152 ــ 156.
([56]) سورة البقرة: 221.
([57]) سورة المائدة: 5.
([58]) انظر أسباب اختلاف الفقهاء، ص 18.
([59]) سورة النساء: 23.
([60]) سورة المؤمنون: 5،6.
([61]) انظر أسباب اختلاف الفقهاء، ص 17، 18.
([62]) انظر الصواعق المرسلة 2/583.
([63]) المغني 14/185.
([64]) انظر مجموع الفتاوى 20/248.
([65]) الفتاوى 14/482 ــ 483.
([66]) سورة آل عمران: 159.
([67]) أدب الخلاف للقرني، ص 27 ــ 29 بتصرف.
([68]) أدب الخلاف للقرني، ص 35.
([69]) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 11 بتصرف.
([70]) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 22 بتصرف يسير.
([71]) المسند 2/252 و 2/256 وحسنه الألباني في غير موضع انظر صحيح الجامع 5633.
([72]) سورة آل عمران:20.
([73]) الفتاوى 16/476.
([74]) الاختلاف في اللفظ ص10 ــ 11.
([75]) هو عمرو بن قيس الملائي أحد الثقات العباد، روى عن عطية العوفي وغيره، توفي 146هـ.
([76]) هو أبو محمد الحكم بن عتبة الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، توفي 113هـ.
([77]) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1/137.
([78]) سنن الدارمي 1/120.
([79]) راجع في النقول الثلاثة السابقة الشريعة للآجري ص56 ــ 57.
([80]) أدب الدنيا والدين ص70.
([81]) الفتاوى 22/252.
([82]) الفتاوى 11/92، وينظر فقه الائتلاف للخزندار.
([83]) مستقاة من كتاب: قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله.
([84]) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 باختصار وتصرف.(/18)
([85]) لعله أراد بالقائبة التي تقوب، والتقويب فلق الطير بيضه، فشبه الشر بتلك الحال للطائر، والقوبا: الفراخ وأراد به طير الشر. والعرب تقول: تَخَلَّصَتْ قَائِبَةٌ من قُوَبٍ: أي بيضة من فرخ.
([86]) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 بتصرف.
([87]) الماتوريدية للشيخ أحمد الحربي ص41.
([88]) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن، سورة الأنفال: 46.
([89]) الظلال، سورة الأنفال، الآية 46.
([90]) البخاري 6/2658، ومسلم 2/975، وغيرهما.
([91]) تحفة الأحوذي 7/372.
([92]) إعلام الموقعين 1/260.
([93]) صحيح البخاري 1/27.
([94]) شرح النووي على مسلم 8/63.
([95]) الفتح 1/113 باختصار، ومثلهما قال الشوكاني في النيل 4/370.
([96]) البداية والنهاية 7/276.
([97]) البداية والنهاية 7/274.
([98]) السابق 7/249.(/19)
أولاً: مقدمات.
أقسام الاختلاف:
انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه
انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم
الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:
حكم الاختلاف في العمل الإسلامي؟
ثانياً: أسباب الافتراق.
من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة
الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما
ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف اتباع الشهوات أوالشبهات
أولاً: مقدمات.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاق، إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلاسبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.
ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة"(1).
والاختلاف موضوع الحديث هو: "نقيض الاتفاق. جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساو فقد اختلف. والخلاف: المضادة، وخالفه إلى الشيء عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف"وبعض الفقهاء فرق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة، أما "(الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم. ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف"(2).
فليس كل اختلاف افتراق، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه وإن كان الغلب ذم أهل الفرقة والاختلاف.
أقسام الاختلاف:
الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة بعتبارات مختلفة يتباين الحكم عليها فمنها:
الانقسام الاختلاف باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها فمنه:
اختلاف صوري، ومن قبيله اختلاف التفاوت كالذي يكون في الكلام فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع وهو "أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. قد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع:
__________
(1) الصواعق المرسلة 2/519.
(2) الموسوعة الفقهية 2/291.(/1)
منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة. ومنها: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد. ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولا. ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزا، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها، إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع - وإن سميت خلافا - إلا أنها ترجع إلى الوفاق"(1).
تنبيه الاختلاف الصوري: منه المذموم وهو ماوقع في باطل.
اختلاف حقيقي ومنه اختلاف التضاد وهو قسمان سائغ وغير سائغ ولعله تأتي الإشارة إليهما(2).
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه فمنه:
اختلاف يقتضي عداوة وشقاقا، ويقع في الاختلاف الحقيقي، كالاختلاف في الأصول المجمع عليها.
اختلاف لايقتضي عداوة وشقاقا، ويقع في عامة الاختلاف الصوري وقد يقع في الاختلاف الحقيقي كالاختلاف في كثير من الفروع باجتهاد سائغ.
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار أثره فمنه:
اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.
اختلاف نظري ذهني لاينبني عليه شيء في أرض الواقع.
فالأول اختلاف مؤثر في العمل ومنه السائغ الذي لايضر ومنه غير السائغ، والآخر من قبيل اختلاف السفسطائية هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة! قال شيخ الإسلام: "وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فان الله نصب على الحق فيه دليلا فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف وفى البعض الذي ضرب به موسى من البقرة وفى مقدار سفينة نوح وما كان خشبها وفى اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريق العلم بها النقل فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة"(3) وقال: "وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً.."(4).
من أهم أقسام الاختلاف التي تحتاج إلى تحرير انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:
وقد حرر ذلك ابن القيم –رحمه الله- في الصواعق حيث قال:"الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) [آل عمران:105]، وهم الذين تسود وجوههم يوم القيامة وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) [البقرة:176]، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين ويوقع التحزب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم، فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) [البقرة:253]، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى:10].
والاختلاف المذموم كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين بخلاف أهل الحق فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف ويردون باطلهم فهؤلاء الذين قال الله فيهم: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [البقرة:213]، فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي يقول في دعائه: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
__________
(1) الموسوعة الفقهية 2/292-293.
(2) ينظر كذلك فقه الائتلاف لمحمود الخزندار ص34.
(3) الفتاوى 13/345.
(4) الفتاوى 13/367.(/2)
فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلا وأقومهم قيلا وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى يقر بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم، بالتناظر والتشاور وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته، فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة وعرضت على الحاكم الذي لا يجور وهو كتاب الله وسنة رسوله وتجرد الناظر عن التعصب والحمية واستفرغ وسعه وقصد طاعة الله ورسوله فقل أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كانوا كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه، فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق"(1).
وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم كالشاطبي –رحمه الله- يرجع في الحقيقة إلى وفاق، "فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافا، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحر لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضا. فالإصابة على قول المصوبة إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار. فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحاب والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ; لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعا، ولا تفرقوا فرقا"(2).
فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم وجدت الحمد منصباً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع وطلبهم لمراده واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.
ويتبع للتقسيم الذي سبق "نوع آخر من الاختلاف:
وهو وفاق في الحقيقة وهو اختلاف في الاختيار والأولى بعد الاتفاق على جواز الجميع كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة وصفات التشهد والاستفتاح وأنواع النسك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة وأنواع صلاة الخوف والأفضل من القنوت أو تركه ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها ونحو ذلك فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة"(3).
والأصل ذم الخلاف وتجنبه، مادام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين ففي السنة جاء النهي عن "الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء كخطبة الرجل على خطبة أخيه وسومه على سومه وبيعه على بيعه وسؤال المرأة طلاق ضرتها وقال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سدا لذريعة الفتنة والفرقة ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن"(4).
وأدلة القرآن كثيرة ومنها:
__________
(1) الصواعق المرسلة لابن القيم 2/214-218.
(2) الموسوعة الفقهية 2/295.
(3) الصواعق 2/219.
(4) إغاثة اللهفان ص369.(/3)
قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وقال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقال عزوجل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ).
وقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ).
بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لصحابه نصيب من الذم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
فالختلاف مادام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لايسلم منه إلاّ من كان معه الصواب، فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يعذر فيه المجتهد المخطئ بل يثاب لإرادته الخير وقصده، ولهذا يسلم من آثار الاختلاف المذموم المجتهدون الذين استفرغوا وسعهم في معرفة الحق والعمل به.
الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:
الاختلاف سنة كونية وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية، قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومع ذلك واجب على كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان، فالله عز وجل وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.
فالخلاف قد يكون قدراً كونياً فيه شر ولايخلو من خير –فالله لايخلق شراً محضاً- فلايستسلم له العبد بل يقاومه بالقدر، فإن لم يزله خفف من آثاره وخرج بأقل أضراره.
مسألة هل الاختلاف رحمة وخير أم عذاب وشر؟
رُويت في ذلك أحاديث لاتثبت مثل حديث أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم(1)، وحديث اختلاف أمتي رحمة(2).
ومع عدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر :"عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا ; لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
__________
(1) نقل الإمام ابن تيمية تضعيفه عن الأئمة في منهاج السنة 4/238، وقال الحافظ العراقي في مختصر المنهاج: إسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتهم بالكذب ص55، وقد حكم الألباني بوضعه في غير موضع انظر الضعيفة 58.
(2) ذكر الألباني أنه موضوع لاسند له انظر ضعيف الجامع 230، وبداية السول ص19، وقد ذكر الحافظ العراقي أثر: اختلاف أصحابي لأمتي رحمة وحكم بأنه مرسل ضعيف، مختصر المنهاج ص60.(/4)
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف - من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
وهذه القاعدة ليست متفقا عليها, فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة, وإنما الحق في واحد.
وقال المزني صاحب الشافعي: ذم الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.
وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين, فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة, وقد يكون عذاباً.
قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم). وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا, فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد"(1).
عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف:
لكون الاختلاف مذموم من حيث الجملة، فقد راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء(2).
ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف(3).
ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف(4).
ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاث أيام للخروج من الخلاف(5).
ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.
ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبدالسلام حيث يقول: "والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه، إذ كان ما اعتمد عليه لايصح نصه دليلاً شرعاً"(6) ثم قال: "وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا من كون الصواب مع الخصم والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات, كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات".
فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً بل هو من باب "دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك"، ويتأكد هذا بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف إن خشي ترتب مفسدة أعظم على الخلاف.
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.
فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبرا ... ... ًإلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظر
ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لاتصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جراء الفرقة فتقدر حينها الأمور بقدرها وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.
حكم الاختلاف في العمل الإسلامي؟
حكم الاختلاف على أنواع:
"النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله تعالى ووحدانيته، وملائكته وكتبه ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبعث بعد الموت ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف, من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي. فمن أصحابه من حمله على ظاهره. ومنهم من حمله على كفران النعم..
النوع الثالث: [الأمور(7)] المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعا للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.
__________
(1) الموسوعة الفقهية 2/295-296 بتصرف يسير.
(2) الممتع شرح زاد المستقنع لابن عثيمين كتاب الطهارة 1/.
(3) البحر الرائق لابن نجيم 4/55.
(4) منح الجليل شرح مختصر خليل، لعليش 2/222.
(5) المجموع 4/212.
(6) قواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام، 1/253.
(7) في أصل الموسوعة الفروع، وهذا محل نظر وإن جرى على ألسنة المتكلمين وقد بين ذلك المحققين من أهل العلم.(/5)
النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها. فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة. ويعذر المخالف فيها; لخفاء الأدلة أو تعارضها .. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذا بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافا في المسائل الشرعية، لأنه اجتهاد لم يصادف محلا، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة"(1).
أما واقع العمل الإسلامي فإذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف صوري وهو مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم. وكثير منه يقع في مسائل اجتهادية أو فرعية المخالف فيها معذور، ومثل هذا الخلاف لاينبغي أن يخرج بالناس إلى ساحة احتراب وتناحر، بل لأصحابه في صحابة رسول الله أسوة حسنة، فمع مخالفة بعضهم لبعض بقي إقرارهم بفضل ذوي الفضل وتوقيرهم مع عمل كل برأيه وسعيه لنشره.
والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من هذا القبيل إن لم يكن من قبيل اختلاف التنوع ولاسيما مع كثير من الشعارات المرفوعة، فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تسع الجميع بل تحتاجهم.
ولكن الواقع من الناحية العملية وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين!
وكما أن أهل العلم ذموا التعصب للمذهب وأنكروه فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لايتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق، فإن الذم قد لايتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.
وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أواجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.
ثانياً: أسباب الافتراق.
الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:
أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول.
قال ابن القيم رحمه الله: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم.."(2).
ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جلي في كثير من أشكال الاختلاف الواقع، فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه، فأبوبكر الرقيق الشفيق مال إلى المن أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.
فالطبيعة الخلقة والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير فيجنح كل طرف إلى ما لايجنح إليه الآخر.
وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره والناس متفاوتون في ذلك، ولايعني هذا أن الأكمل عقلاً هوالأرجح اختياراً أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً، وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر –على أن في ثبوتها مقال(3)- مع المرأة في الميراث يوم قال أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب واختلفوا لتبيان عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولايحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.
__________
(1) الموسوعة الفقهية 2/293-294 بتصرف يسير واختصار.
(2) الصواعق 2/519.
(3) ممن ضعفها الألباني في الإرواء 6/348، وألف فيها نزار عرعور رسالة بعنوان القول المعتبر وبين ضعفها، وكذلك أفرد لها مقالاً يوسف العتيق في كتابه قصص لاتثبت ص27، على أن بعضهم صححها ومنهم مصطفى العدوي في كتابه جامع أحكام النساء 3/301. ولعل الصواب أن القصة لاتتقوى بالشواهد التي ذكروها فهي إما معضلة أو في أسانيدها ضعاف لايحتمل جبر مروياتهم، وبخاصة الآثار التي ورد فيها قول عمر رضي الله عنه: أخطأ عمر وأصابت امرأة.(/6)
ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:
الاختلاف في الأمور الجبلّية: إذ أن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.
ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:
ومن قبيله ما يروى من أن علياً ذكر الزبير يوم الجمل شيئا عهده إليهما رسول الله فذكره فانصرف عن القتال قلت فيكون الناسي معذوراً بفتواه.
ومنه كذلك عندما هم عمر رضي الله عنه أن يأخذ عيينة ابن حصن فذكّره الحُر بن قيس بقول الله عزوجل: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فأمسك.
ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة.
فأصل حدوث الاختلاف المذموم والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين ولهذا قال الشاطبي رحمه الله: "الاختلاف في القواعد الكلية لايقع بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني"(1).
ولهذا روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلا يوماً فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: إنما نزل القرآن علينا فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤن القرآن ولايدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا(2).
قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعد ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لايذهب إليه الآخر.
فإذا وسد الأمر إلى غير أهله، وتصدر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.
وقد عد أهل العلم أن من البلايا "أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: (لايقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)"(3).
وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي قال الإمام مالك –رحمه الله-: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبدالرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لاعلم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق(4).
وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمات، والله المستعان.
ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع(5):
أحدها عدم اعتقاده أن النبي قاله أو لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة ولعل في النماذج السابقة شيء من البيان ويمكن أن نجملها فيما يلي:
1- قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالما به، بل يكتفي المخالف أحيانا بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب(6)، قال شيخ الإسلام:"وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن لأحد من الأمة "(7)، ومن أمثلة ذلك:
__________
(1) الاعتصام 2/172.
(2) الاعتصام 2/183 باختصار يسير.
(3) الاعتصام 2/172-173 باختصار يسير.
(4) جامع بيان العلم وفضله ص578.
(5) ملخص من الصواعق المرسلة 2/542-632 وزيدت عليه صور من مصادر أشير إليها في موضعها.
(6) انظر مجموع الفتاوى 20 / 233 ، وانظر الإنكار في مسائل الخلاف ص 16 ، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي.
(7) مجموع الفتاوى 20 / 233(/7)
أولا: حكم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً، فعن قبيصة بن ذؤيب قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال: لها ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر "(1).
ثانيا: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فعن أبي سعيد الخدري قال:"كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك "(2)، فهذه سنة قد خفيت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع سعة علمه وفقهه في دين الله - تعالى - وليس في هذا مذمة لعمر - رضي الله عنه - فإن الله - تعالى - يقول: (وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف:76]، فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا:"العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله".
والأمثلة كثيرة منها خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد(3)، ومنها حكم عمر بمنع الحائض من النفرة قبل أن تطوف طواف الإفاضة ثم رجوعه لما بلغه الخبر (4)، فهذه أمثلة على خفاء بعض نصوص الشريعة على من شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل، فخفاء بعض الأصول على من بعدهم أولى وأحرى، ولا يجوز لمن أتى بعدهم "أن يدعى انحصار حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها "(5).
ومن هذا القبيل أيضاً:
أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ(6).
ومن أمثلة ذلك اللبس الذي حصل أول الأمر في ربا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.
أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه مجهول أو سيء الحفظ أو متهم، ولايعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.
__________
(1) سنن أبي داود كتاب الفرائض 3 / 121 رقم 2894 ، وسنن ابن ماجة أبواب الفرائض 2 / 163، سنن الترمذي 4 / 420 رقم 2101. وقال الحافظ في تلخيص الحبير 3 / 82 :"إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل".
(2) صحيح البخاري كتاب الاستئذان، باب التسليم واستئذان ثلاثا، وانظر الفتح 11 / 26 برقم 6245 ، وصحيح مسلم كتاب الآداب، باب الاستئذان، انظر شرح النووي 7 / 381 برقم 2154 .
(3) ينظر صحيح البخاري كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، انظر الفتح 10 / 179 برقم 5729 ، صحيح مسلم كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، انظر شرح النووي 7 / 460 - 462 برقم 2219 .
(4) ينظر صحيح البخاري كتاب الحيض، باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، انظر الفتح 1 / 428 برقم 330 .
(5) مجموع الفتاوى 20 / 239 .
(6) انظر الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه ص 23 .(/8)
اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لايرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..) وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبدالله إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة(1)، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة،.. لكن عذره في ذلك ظنه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له - رحمه الله - بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر(2) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس(3)، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما "(4)
اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.
أن ينسى البعض حديثاً أو آية كما ذهل عمر رضي الله عنه عن قول الله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) لمّا مات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا العلم باللغة العربية، قال الشاطبي رحمه الله: "الله عزوجل أنزل القرآن عربياً لاعجمة فيه، بمعنى أنه جار في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً)... وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم... وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلاّ من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها"(5)، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"(6)، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: "أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع"، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد(7) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي(8) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال يا أبا عمرو: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال وذكر آية وعيد، فقال أبوعمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي منجز له وعدي(9)
__________
(1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي 1 / 106 .
(2) الحديث رواه الدارقطني بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قهقه أعاد الوضوء وأعاد الصلاة ، ثم قال الدارقطني:"فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية الرياحي مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ا.هـ، انظر سنن الدارقطني كتاب الطهارة - باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها 1/164-165 ،و انظر في تمام تخريجه نصب الراية للزيلعي مع الهداية 1/106-114.
(3) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له -ليلة الجن- ما في إداوتك قال: نبيذ، قال تمرة طيبة وماء طهور، رواه الإمام أحمد في مسند ابن مسعود 1/ 663، وأبو داود في سننه 1/21، برقم 84 ، وانظر سنن ابن ماجة1/135، رقم 384، وسنن الترمذي 1/147، رقم 88 ، قال الحافظ في الفتح 1 / 354 :"وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه".
(4) مجموع الفتاوى 20 / 304- 305 .
(5) الاعتصام 2/293-294 باختصار.
(6) صون المنطق ص15.
(7) أبوعثمان عمرو بن باب البصري 80-144 ، أصله من الموالي وولاؤه لبني تميم، وهو شيخ المعتزلة.
(8) أبوعمرو بن العلاء التميمي المازني البصري 70-157 ، شيخ قراء العربية، اشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم.
(9) سير أعلام النبلاء 6/408-409، وقد ذكرها غير واحد من أهل التراجم والأخبار.(/9)
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: "إنما أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله"(1). ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لاتنم عن أصالة في اللسان العربي، فغيلان الدمشقي أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.
ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملان:
الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذ، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير لاطلاق ولاعتاق في إغلاق. ففسره كثير من الحجازين بالإكراه وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.
أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.
معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لايتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ إما لعدم تصوره لذلك الفرد أو لعدم حضوره بباله أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.
عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربعة حالات:
أن لايعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع فيحمله على خلاف مدوله في العرف الشرعي.
أن يكون له في عرف الشارع معنيين فيحمله على أحدهما ويحمله المخالف على الآخر.
أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً أو من المقيد مطلقاً.
أن ينفي دلالة اللفظ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً، فمن نفى دلالة قول الله تعالى: (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) على حل أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط ومن نفى دلالته على ماعدا محل السبب غلط.
اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساو لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة(2). ومن أمثلة ذلك
أولا: لما حدث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: "إن الميت إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"(3)، أنكرت ذلك وقالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: "إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا، وإن الله لهو (أضحك وأبكى) ، (ولا تزر وازرة وزر أخرى) "(4)، فظنت عائشة رضي الله عنها أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه صلى الله عليه وسلم بل يخالف مقتضى القرآن الكريم(5).
ثانيا: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله - تعالى -:( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة:221] ، وبين قوله - تعالى -:( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) [المائدة:5]، فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات، فالجمهور على جوازه، استنادا لآية المائدة، وقال بعض العلماء لا يجوز نكاح الكتابيات استنادا لآية البقرة، وظنا منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة(6).
ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف اتباع الشهوات أوالشبهات.
__________
(1) الاعتصام 2/299.
(2) للاستزادة في تفصيلها راجع الصواعق المحرقة لابن القيم 2/577-631.
(3) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته ، انظر فتح الباري 3 / 151 رقم 1286 ، صحيح مسلم كتاب الجنائز - باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 483 رقم 927 .
(4) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته ، انظر فتح الباري 3 / 151 - 152 رقم 1288 ، صحيح مسلم كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 485 - 486 رقم 928 .
(5) فتح الباري 3 / 152 – 156 بتصرف يسير واختصار.
(6) انظر أسباب اختلاف الفقهاء ص 18 .(/10)
فالأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة فيقع الخلاف وينشأ الافتراق "فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات"في كفة، والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط"التي لا بد منها في المعركة.."(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة، فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من ىلآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهما ما يلي:
أولاً: البغي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين، قال رحمه الله (الفتاوى 14/482-483):"وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات و القرآن محنة أحمد و غيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته وكما قد تبغى المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا)".
ثانياً: الغرور بالنفس.
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صوابا، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلا واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيرا من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله - تعالى - له: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)(1)، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحا(2).
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين.
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيرا كذبه، أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلا عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته(3)، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعا، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر(4). "وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحا) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!"(5)
رابعاً: حب الظهور بالجدل والمماراة
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أوالفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد(6) وغيره عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية رقم 159.
(2) أدب الخلاف للقرني ص 27 - 29 بتصرف.
(3) أدب الخلاف للقرني ص 35 .
(4) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 11 بتصرف.
(5) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 22 بتصرف يسير.
(6) المسند 2/252 و 2/256 وحسنه الألباني في غير موضع انظر صحيح الجامع 5633.(/11)
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله: "الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لوكانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر. وقال اله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) [آل عمران:20]، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا"(1).
وقال ابن قتيبة رحمه الله يصف الحال في أيام السلف عليه الرحمة والرضوان: "كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لايقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم...
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى.."(2).
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس(3): قلت للحكم بن عتبة(4): ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات(5).
وقد روي عن أبي قلابة –وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون(6).
قال معن بن عيسى: "انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبوالحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: ياعبدالله! إسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.
قال: فإن غلبتني؟
قال: إن غلبتك اتبعني.
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك رحمه الله: يا عبدالله بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين".
وقال عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أباسعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه(7)!
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لاطائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لايثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لايكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولاسيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.
رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب.
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب ران يطغى على القلب والعقل فيحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يرها.
يقول الماوردي رحمه الله: "ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلا يناظر في مجلس حفل وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة, وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه. فأمسك عنه المستدل تعجبا; ولأن شيخه كان محتشما. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل, ثم أقبل المستدل علي وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب, ومستعيذ بالله من جهل مغرب"(8).
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه، ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة! ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.
__________
(1) الفتاوى 16/476.
(2) الاختلاف في اللفظ ص10-11.
(3) هو عمرو بن قيس الملائي أحد الثقات العباد روى عن عطية العوفي وغيره توفي 146هـ.
(4) هو أبومحمد الحكم بن عتبة الكندي الكوفي تثقة ثبت فقيه توفي 113هـ.
(5) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد 1/137.
(6) سنن الدارمي 1/120.
(7) راجع في النقول الثلاثة السابقة الشريعة للآجري ص56-57.
(8) أدب الدنيا والدين ص70.(/12)
يقول العلم الإمام ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: "ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين. كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين, وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم"(1).
وقال مشيراً لآفة التعصب للحزب أو الجماعة: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والأعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان"(2).
خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف.
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لايتشعب الحديث أتناول بالبيان العامل النصراني كمثال فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين، فبلال رضي الله عنه حبشي، وصهيب رومي، وسلمان فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخارى، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دون السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صد الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ، وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أردك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم عملاً بمشورة القساوسة ووصيتهم للساسة، ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي(3):
"1 - يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
2- ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3- ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل:
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
4- وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
5- من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربى كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضى علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضى على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
__________
(1) الفتاوى 22/252.
(2) الفتاوى 11/92، وينظر فقه الائتلاف للخزندار.
(3) مستقاة من كتاب: قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله.(/13)
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين".
وقد ترجم المنصرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين عرباً وتركاً.
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت "كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشمّيل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف. وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستانتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رموا بالماسونية، فإبراهيم اليازجي (1847 – 1906م) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 – 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك. وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت ... دهراً فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا ... فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما ... قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ و الأيام مقبلة ... يلوح للمرء في أحداثها العجبُ
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 – 1883م)، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولي منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866. وأعان الدكتور فانديك أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها، فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية... ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان فارس الشدياق (1801 – 1887)، الذي تسمى بعد إسلامه... بأحمد، واتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوف كثيراً بين دول أوروبا والأستانة وتونس ومصر. ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م فأعان في ترجمتها إلى العربية. وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية.. ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً سليم تقلا مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 – 1892م). تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية، التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية).
ومنهم جرجي زيدان (1861 – 1914م) الذي كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان. وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي. وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية... ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام"(1).
ولهذا لم يكن مستغرباً أن ينقلب الشاعر العراقي معروف الرصافي على دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913 بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
أصبحت أوسعهم لوماً وتثريباً ... لما امتطوا غارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً ... ... للشَّرِ موشِكةً أنْ تخُرِج القُوبَا(2)
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبَهم ... ... ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريزَ) مازالت مطامِعُها ... ... ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
__________
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 باختصار وتصرف.
(2) لعله أراد بالقائبة التي تقوب والتقويب فلق الطير بيضه، فشبه الشر بتلك الحال للطائر، والقوبا: الفراخ وأراد به طير الشر. والعرب تقول: تَخَلَّصَتْ قَائِبَةٌ من قُوَبٍ: أي بيضة من فرخ.(/14)
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها ... ... تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم ... ... جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيا
وما قاله تحقق فما انتهت الحرب العالمية الأولى إلاّ والشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب، فيقول له فيما يقول: "أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين؟"ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: "قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذا تاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
يقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم، لأننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق"(1).
وحتى لانستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فأتى أكله وثماره المريرة، ولايعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ"المراجع القديمة تثبت لنا أن القدرية أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي، قال ابن قتيبة رحمه الله عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني.. ونحواً مما ذكره ابن قتيبة نقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم"(2).
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لايتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن البعض.
ثالثاً: آثار الافتراق المذموم.
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه، فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها خاصة وأن الواقع يحكيها ويلقي دروساً مفصلة فيها ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز.
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر وفشل الأمة وعجزها، قال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).
قال ابن سعدي: "(وَلَا تَنَازَعُوا) تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، (فَتَفْشَلُوا ) أي: تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله"(3).
وفي الآية السابقة "عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي.."(4).
وقد علم العقلاء بأن الاجتماع سبب قوة ومنعة..
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى ... خطب و لا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... و إذا افترقن تكسرت آحادا
ثانياً: هلاك الأمة.
صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)(5).
قال في تحفة الأحوذي: "واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة"(6).
__________
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 بتصرف.
(2) الماتوريدية للدكتور أحمد الحربي ص41-42 باختصار.
(3) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن، سورة الأنفال: 46.
(4) الظلال، سورة الأنفال، الآية 46.
(5) البخاري 6/2658، ومسلم 2/975، وغيرهما.
(6) تحفة الأحوذي 7/372.(/15)
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قال ثم انتهرنا قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار ثم قال أبهذا أمرتم أو ليس عن هذا نهيتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا جلسنا مجلسا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أشد اغتباطا فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجرة يسمع كلامهم فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا يعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم قال البخاري رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال أحمد بن صالح أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله"(1).
ثالثاً: العقوبات المعنوية.
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال إني خرجت لأخبركم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت"(2) الحديث.
قال النووي: "وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية"(3)، وقال ابن حجر: "قوله (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها وهو التنازع والمخاصمة... قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان"(4).
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه.
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفين فيه على أقوال عدداً، وكل طرف منهم شط فيما اختار، التبس الأمر عليه وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
هذا والله نسأل أن يلم شعث الأمة، وأن يوحد صفها، وأن يجعل الدائرة لها، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
خامساً: براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المفترقين:
قال الله عزوجل: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، يقول القرطبي رحمه الله: "(إن الذين فرقوا دينهم) هم أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة،(شيعاً) فرقاً وأحزابا، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض؛ فهم شيع، (لست منهم في شيء) فأوجب براءته منهم"(5).
سادساً: اسوداد وجوه طوائف من المفترقين يوم القيامة:
كما قال الله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ ُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
هذا ما تيسر جمعه في عجالة، أسأل الله أن ينفع به وأن يرزقنا وإياكم العلم والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/260.
(2) صحيح البخاري 1/27.
(3) شرح النووي على مسلم 8/63.
(4) الفتح 1/113 باختصار، ومثلهما قال الشوكاني في النيل 4/370.
(5) تفسير القرطبي 7/150.(/16)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للثالث والعشرين من الشهر العاشر للعام الرابع عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية وعنوان هذا اللقاء الأخفياء .
ولقد كنت تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه [مسلم] في صحيحه في كتاب الزهد قوله "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وآله وسلم الخفي فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود من هو هذا العبد الخفي؟ من هو هذا الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فقلت فلربما أنه أو أنهم الذين قد عرفوا ربهم وعرفهم سبحانه وتعالى فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار والله سبحانه وتعالى يعلم أسرارهم فكان خيرا لهم وقلت ولربما أنهم هم الأنقياء الأتقياء فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور وهجمات الرياء وطلب الثناء والمحمدة من الناس فقلت فلربما أنهم هم الجنود المجهولون الناصحون العاملون الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة فكم ناصح وكم من مرب وكم من داع للحق وكم من كلمة وكم من رسالة وكم من شريط طار في كل مطار وصارت فيه الركبان كانت خلفه أخفياء وأخفياء فهنيئا لهم ثم هنيئا لهم وقلت فلربما أنهم أيضا هم الساجدون الراكعون في الخلوات فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء وكم من دمعة بللت الأرض وبهذه الدمعات وبهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا رُزِقْنَا وسقانا ربنا وقلت فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام لإطعام الطعام وبذل المال ليفكوا بها كربة مكروب وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شديدة الحال كثيرة العيال وقلت فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم وكفي بالله شهيدا فهنيئا لهم ثم قلت وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعا ما الذي يمنع أن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء ولذلك ترددت كثيرا في الحديث عن هذا الموضوع فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم وأستغفر الله جل وعلا ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا وقد قالها [عبد الله بن المبارك] ردد ذلك البيت عندما قال
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
رحمك الله يا ابن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك فماذا نقول نحن إذاً عن أنفسنا ورحم الله القائل أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة وأكره من سجيته المعاصي وإن كنا سواء في الإضاعة ولماذا الحديث عن الأخفياء؟ كان الحديث عن الأخفياء لأنني ولربما لأنك أيضا نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونري أثارهم ومصنفاتهم ونري أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أموات بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة فأسأل وتسأل معي ما هو السر في حياة أولئك الرجال والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى وكان حبه وبغضه لله وقوله وفعله لله حركاته وثكناته لله دقه وجله لله سره وعلانيته لله يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي ترفع وهي الكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب أما اليوم فتعال وانظر لحالنا يا أخي الكريم انظر لحالنا كأفراد فقلوبنا شذر مدر ونفوسنا عجب وكبر وأفعالنا تزين وإظهار وأقوالنا لربما كانت طلب الاشتهار، همومنا في الملذات وحديثنا في الشهوات وصدق صلى الله عليه وآله وسلم بقوله" كثرة سؤال وإضاعة للمال وقيلٍ وقال" إلا من رحم الله منا وانظر لحالنا كأمة ذل ومهانة وهوان واحتقار ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر ولكني أسوق لك دليلا قريبا في شهر رمضان ثلاث مذابح للمسلمين ثلاث مذابح للمسلمين مذبحة السوق في >سراييفو< ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين ومذبحة في السودان أكان يكون ذلك يا أخي الحبيب لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق لا والله أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى لا والله لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين إلى الله جل وعلا ، ربما معتصماهم قلقت ،لامست ملء أفواه الصبايا اليتامى،
لامست أسماعهم لكنها(/1)
... لم تلامس نخوة المعتصم
إذاً فالسر في حياة أولئك هو التوحيد لله ليس التوحيد قولا كلنا نقول لا إله إلا الله ولكنه التوحيد القلبي يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وثكناته كلها لله سبحانه وتعالى ،عرف هذا السر أولئك الأخفياء فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم ثم أيضا سبب آخر ومهم جدا عن الحديث عن الأخفياء فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة إن فقدت الأعمال والأقوال أيا كان نوعها إن فقدت خلوص النية لله جل وعلا انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحق المخالفات والعياذ بالله ألم تسمع لذلك الحديث المفزع للقلوب الذي كلما أراد [أبو هريرة] رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لنا أو يرويه لأصحابه وقع مغشيا عليه يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربعة من هول ذلك الحديث المفزع حديث "أول ثلاث تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن ، المجاهد ، المتصدق بماله" أفضل الطاعات وأفضل القربات إلى الله جل وعلا يوم صرفت لغير الله أصبحت أحق المخالفات بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله وهذا الحديث لما سمعه [معاوية] رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بعدهم فكيف بمن بعدهم أو فكيف بمن بغي من الناس ثم بكي معاوية رضي الله تعالي عنه وأرضاه بكاءً شديدا يقول الراوي حتى ظننا أنه هالك انظر صحابة رسول الله يغشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث فماذا نقول نحن عن أنفسنا يقول الراوي حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال صدق الله ورسوله صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي إليهم أعمالهم بها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) لأنهم فعلوا ذلك ليقال قارئ وليقال متصدق وليقال جريء ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء ومثل التسميع بأن يقول فلان سمعت وعلمت وفعلت وجئت وذهبت مسمعا للناس بأفعاله عياذا بالله فالتزم رعاك الله التزم التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية كحب الظهور أو التفوق على الأقران أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة أو طلب لمحمدة وثناء الناس فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متي شابت النية .ولذلك النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المخلصين جعلني الله وإياك منهم ثم سبب ثالث لأهمية الإخلاص ولخطر الرياء ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء في حد سواء ولإقبال الناس عموما على العبادات وحرصهم على الخيرات والحمد لله مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال وهذه العبادات عليهم سُدَىً من حيث لا يشعرون كان لزاما أن نتحدث في مثل هذا الموضوع وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس ولذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيرا وتنبيها وتحذيرا لشدة الحاجة إليه، والأخفياء منهج شرعي ولذلك اسمع أيها المحب لقول الحق عز وجل وإن تخفوها ـ الصدقة ـ (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) فهو خير لكم فهذه الآية كما يقول الحافظ [ ابن حجر] رحمه الله تعالى ظاهرة في تفويض صدقة السر وإخفائها ويقول سبحانه ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) ويقول المصطفي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه" انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة وقد أخرجه [البخاري] و[مسلم] في حديث أبي هريرة وقال أيضا الحافظ ابن حجر وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة وفي الحديث نفسه صورة أخري يذكرها صلى الله عليه وآله وسلم "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلا على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الأخفياء منهج شرعي أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث فأصبحوا يتحدثون بل وقع رواية أو لفظا صريحا كما في مسلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الرجل لأتصدقن الليلة لأتصدقن الليلة فدل ذلك على أن صدقته كانت سرا في الليل إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهارا لما خفي عنه حال من؟ حال من؟ حال الغني بخلاف حال الزانية وحال أيضا السارق فالغني ظاهرة حاله فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل وأيضا حديث النافلة صلاة النافلة في البيوت فمن حديث [زيد بن ثابت] رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "صلوا أيها الناس في بيوتكم صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" رواه [النسائي] و[ابن خزيمة] في صحيحه وإسناده صحيح وروى [البيهقي] أيضا(/2)
بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال "فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس" انظر الشاهد حيث يراه الناس إذا فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم" فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع" كفضل الفريضة على التطوع ومن حديث [جندب بن عبد الله] رضي الله تعالى عنه كما أخرج البخاري ومسلم قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من سمع سمّع الله به" من سمع أي من سمع الناس بأعماله وأقواله التي لا يراها الناس رؤيا وإنما يسمعها لهم تسميعا في قوله يقول "من سَمَّعَ سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" ومن حديث [عبد الله بن عمر] رضي الله تعالى عنها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره " أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح وذكر الذهبي في السير في ترجمة [عبد الله بن داود الخريبي] أنه رضي الله تعالى عنه قال كانوا يستحبون أي السلف الصالح كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ،ولا غيرها زوجته ولا غيرها وذكر الإمام [وكيع بن الجراحي في كتابه الزهد والإمام [النجم السري] في كتاب الزهد أيضا أن [الزبير بن العوام] قال من استطاع منكم أن يكون له خبأُ من عمل صالح فليفعله من استطاع منكم أن يكون خبأ من عمل صالح فليفعله وسنذكر بمشيئة الله صور عديدة لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجا لهم وكانوا يحرصون عليه ويتمسكون به وهل الأعمال تخفي دائما قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئا أبدا منها إذا الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام [ابن القيم] رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين الجزء الثاني صفحة أربع وثمانين عندما قال -فصل- قوله ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة قال ابن القيم رحمه الله تعالى هذا فيه تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان انتبه جيدا أولا مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه تبعث على العمل أو تقويه على العمل فهذه المراءاة خالصة أو مشوبة كما أن المشاهدة القاطعة عنه من الآفات والحجب كما أن المشاهدة تجعلك تقطع العمل بتاتا أيضا هي من الآفات والحجب ثم يقول ومشاهدة أي أخري لا تبعث عليه ولا تعين الباعث بل لا فرق عنده أي عند صاحبها بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها لا يهمه يراه الناس أو لا يروه فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة ،ولكنما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة ما هي المصلحة؟ يقول ابن القيم إما *** ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص أو قرب منك للإقتداء وتعريف الجاهل يقول ابن القيم هذا رياء محمود فهذا رياء محمود والله عنده أو والله عند نية القلب وقصده ثم يقول رحمه الله تعالى فالرياء المذموم أي يكون الباعث قصد التعظيم والمدح أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحوا ذلك فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء بل قد يتصدق العبد رياء مثلا وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر اسمع الكلام العجيب بل قد يتصدق العبد رياء فتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر مثال ذلك يقول ابن القيم رجل مغرور سأل قوما ما هو محتاج إليه فعلم رجل منهم أنه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد لم يقتدي به أحد ولم يحصل له سوي تلك العطية وأنه إن أعطاه جهرا اقتدي به واتبع وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين فهذه مراءاة محمودة حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطيين انتهى كلامه الجميل رحمه الله تعالى وينقل لنا أيضا الحافظ ابن حجر في فتح الباري لما تكلم عن صدقة الفرد وصدقة النفل وهل الأفضل إعلانهما أو إخفائهما قال رحمه الله تعالى ينقل عن[ الزين] في المنير قال لو قيل إن ذلك يختلف ـ أي الإخفاء أو الإظهار ـ إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا فإذا كان الإمام مثلا جائراً ومال من وجبت عليه ـ أي الزكاة صدقة الفرد ـ ، ومال من وجبت عليه مخفياً فالإسرار أولى وإن كان المتبرع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق(/3)
وسلم قصده فالإظهار أولى… انتهى كلامه رحمه الله تعالى ومن هنا نعلم أيها الأحبة أنه ليس دائما تخفى الأعمال بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى أخفياء ولكن يكثر في هذا الزمن الأخفياء ولكنهم أخفياء من نوع آخر أخفياء يختفون عن أعين الناس ويحرصون كل الحرص ألا يتطلع أحد من الناس على أعمالهم هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم بقوله "لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا "أعوذ بالله أعوذ بالله يقول راوي الحديث [ثوبان] رضي الله تعالى عنه يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم اسمع ثوبان الصحابي الجليل والذي يقول ألا نكون منهم ونحن لا نعلم فرحمك الله يا ثوبان رضي الله تعالى عنك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارب الله انتهكوها" ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارب الله انتهكوها أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح وأخفياء من نوع آخر وهم المقصرون الفاترون أهل الخمول والكسل فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله فقلت له مثلا ماذا حفظت من القرآن؟ وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟ أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يري حاله على حقيقتها فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه وتقول له ماذا قدمت للإسلام؟ وهل تنكر المنكرات؟ وهل وهل؟ إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه لأجابك هذا الشخص بقوله هذا بيني وبين الله ، هذا بيني وبين الله وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه انظر هو الآن ماذا يخفي هو يظهر لنا الإخلاص لكنه يخفي ما الذي يخفي؟ الحقيقة ما هي الحقيقة أنه قصر في أعماله وإنه قد لا يكون عنده شيء قد لا يكون حفظ من القرآن شيئا وإن حفظ فالقليل قد لا يكون قدم للإسلام شيئا وإن قدم فالقليل القليل وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك هذا بيني وبين الله ، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟ فانظر كيف وقع هذا المسكين أظهر الإخلاص وأخفي حقيقة النفس وتقصيرها فوقع في الرياء من حيث لا يشعر وما أكثر أولئك وللأسف وهذا لا شك خداع للنفس وتشبع بما لم يُعطى وهكذا التصنع والتزين والتظاهر أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبدا أن يخفيها (يومئذ تعرضون لا تخفي منكم خافية) يومئذ تعرضون لا تخفي منكم خافية فنعوذ بالله من حالهم ونستغفر الله لحالنا ويقول [ابن عمر] يقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ، شانه الله وذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين عقبات في طريق الأخفياء عقبات في طريق الأخفياء وانتبه لهذه العقبات والعقبات في طريق الأخفياء يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة كثيرة جدا فالحديث عن الرياء والعُجْب وغيرهما مما ينال الإخلاص طويل جدا ولكني أسوق هنا عقبتان من هذه العقبات بالاختصار العقبة الأولي هو ما ذكره [أبو حامد الغزالي] في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي قال وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الإطلاع ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا لذي لنفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس ولم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه ولكنه يريد ما دام عمل نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس فإن قصر الناس في هذه الأمور إذاً استبعد نفسه ونظر لحاله ولو لم يكن –يقول أبو حامد الغزالي- ولو لم يكن قد سبقت منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه إلى آخر كلامه هذه صورة وصورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء وهي ما أشار إليها [ابن رجب] رحمه الله تعالى في كتابه في شرح حديث ما ذئبان جائعان في صفحة 46 قال رحمه الله تعالى: وهنا نقطة دقيقة وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به وهذا من دقائق أبواب الرياء وقد نبه عليه السلف الصالح قال [مترف بن عبد الله بن الشخير] كفي بالنفس إطراءً أن تذمها أن تذمها على الملأ كأنك تريد(/4)
بذمها زينتها وذلك عند الله سفه وذلك عند الله سفه ، ما هو المعيار في الإخلاص والمعيار في الرياء ولا بد أن ننتبه لهذا الأمر ولعلكم تتساءلون إذاً فالقضية حساسة والقضية قد تصيب النفس بالخواطر والهواجيس وقد ينشغل الإنسان بملاحظة نفسه في هذا الباب إذاً ما هو المعيار والميزان الدقيق والضابط الصحيح في أن أعرف أنني مخلص أو غير مخلص ، ذكر ذلك أهل العلم فبينوا أن الضابط في الإخلاص هو استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن أن تستوي أعمالك في ظاهرك وباطنك هذا معيار الإخلاص وأما الضابط في الرياء أن يكون ظاهرك خيرٌ من باطنك وأما صفة الإخلاص أن يكون الباطن خيرا من الظاهر ليست قضية سواء فقط ليست قضية في السوي الظاهر والباطن هذا هو الإخلاص أما صدق الإخلاص أن يكون الباطن أفضل من الظاهر وهنا تنبيه هام جدا لا بد أن ننتبه له عند الحديث أو الكلام عن الإخلاص أو الرياء كما ذكرت لأنه مسلك شائك ولا ينبغي للإنسان أن يترك كثيرا من أعمال الخير بحجة الخوف من الرياء ، انتبه يا أخي الحبيب وانتبهي أيتها الأخت المسلمة لا ينبغي لكي ولا ينبغي لك أن تترك كثير من الأعمال بحجة الخوف من الرياء أو حتى أن تفتح على نفسك باب الهواجس والوساوس فيقع الإنسان فريسة لهذا الأمر فيدخل الشيطان على القلب فيصبح الإنسان دائما في وسواس وهواجس حول هذا الباب ولذلك اسمع للإمام النووي رحمه الله تعالى وهو يقول كلام جميل جدا حول هذا الأمر المهم في كتاب الأذكار يقول في صفحة أو في الصفحة الثامنة والتاسعة يقول فصلٌ الذكر يكون بالقلب ، فصل الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعا فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء خوفا من أن يظن به الرياء اسمع لكلام النووي رحمه الله تعالى ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد بها أو به وجه الله تعالى وقد قدمنا عن الفضيل رحمه الله تعالى أن ترك العمل لأجل الناس رياء ولو فتح الإنسان ـ اسمع لهذه الكلمات واحفظها جيدا ـ احفظ هذه الكلمات كما تحفظ اسمك حتى تنجو من قضية الوسواس والهواجس في الإخلاص والرياء ـ يقول ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تفرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير ، لانسد عليه أكثر أبواب الخير وضيع على نفسه وضيع على نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين وليس هذه أو وليس هذا طريقة العارفين انتهى كلامه رحمه الله وهو كلام نفيس جدا واسمع لكلام ابن القيم كلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في الفتاوى في الجزء الثالث والعشرين صفح أربع وسبعين ومائه عندما يقول ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فإنه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجر كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا أنه يفعله سرا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ، لله مع اجتهاده لسلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص إلى أن قال ومن نهي عن أمر مشروع ـ اسمع ـ إن بعض الناس يدخل على بعض الناس من هذا الباب فينهاه عن أمر لا يفعله أمام الناس لماذا؟ يقول خشية الرياء يقول ابن تيميه رحمه الله تعالى ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء فنهيه مردود عليه من وجوه ، الأول أن الأعمال المشروعة لا ينهي عنها خوفا من الرياء بل يؤمر بها بالإخلاص فيها بل يؤمر بها وبإخلاص فيها فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء وثانيهما أو الثاني لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إني لم أؤمر أن أنقي قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم" الثالث إن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمرا مشروعا قالوا هذا مراء فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذرا من لمزهم فيتعطل الخير فيتعطل الخير وهذه كلمات جميلة جدا من ابن تيميه رحمه الله تعالى والرابع يقول إن مثل هذا إن مثل هذا لإنكار الناس على أمل مشروع بحجة أنه رياء يقول إن مثل هذا من شعائر المنافقين وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة قال تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) انتهي كلامه مختصرا من الفتاوى.(/5)
نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس وهو صور من حياة الأخفياء ، صور من حياة الأخفياء وأسوق إليكم أيها الأحبة هذه الكوكبة وهذه المواقف وهذه الأحداث في حياة أولئك الأخفياء وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر ونظر وتدبر فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور طلبا للاختصار وثانيا حتى لا أقطع عليك لذة هذه المواقف والعيش معها برفعة إيمان وسمو روح ورقة في القلب فاسمع لهذه القصص واسمع لهذه الأحداث:
أولاً: الأخفياء والصدقة والقيام على الفقراء والمساكين ، خرج عمر بن الخطاب يوما في سواد الليل وحيدا حتى لا يراه أحد دخل بيتا ثم دخل بيتا آخر ورآه رجل لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه فظن أن في الأمر شيئا أوجس طلحة في نفسه لماذا دخل عمر هذا البيت ولماذا وحده ولماذا في الليل ولماذا يتسلل ولماذا لا يريد أن يراه أحد ، ارتاب طلحة في الأمر والأمر عند طلحة يدعو للريبة ولما كان الصباح ذهب طلحة فدخل ذلك البيت فلم يجد إلا عجوزا عمياء مقعدة فسألها ما بال هذا الرجل يأتيك وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه قالت العجوز العمياء المقعدة إنه يتعهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي أي يكنس بيتها ويقوم بحالها ويرعاها عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولا نعجب لا نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك فكم من المرات فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فهذه المواقف ليست عجباً في حياة عمر ولكننا نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل ، شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد وفي الليل وفي سواد الليل ويمشي لواذاً خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله ومثل ذلك صار عليه أيضا زين العابدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه [علي بن الحسين] فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة أن عليا بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول" إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل" وهذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق كثيرة لا يخلو أو لا تخلو أساليبها من مقال ولكنها بمجموع الطرق صحيحة وقد صحح ذلك الألباني في الصحيحة وعن عمران بن ثابت قال لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره فقالوا ما هذا فقالوا كان يحمل جُرُب الدقيق يعني أكياس الدقيق ليلا على ظهره يعطيه الفقراء في المدينة ، يعطيه فقراء أهل المدينة ، وذكر ابن عائشة قال قال أبي سمعت أهل المدينة يقولون ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن محمد بن عيسى قال كان [عبد الله بن المبارك] كثير الاختلاف إلى <برسوس> وكان ينزل <الرِّقة> في خان أي في فندق فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب وكان مستعجلا أي عبد الله بن المبارك فخرج في النفير أي في الجهاد فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا إنه محبوس لدين ركبه فقال عبد الله وكم مبلغ دينه فقالوا عشرة آلاف درهم فلم يزل يستقصي حتى دُلَّ على صاحب المال فدعي به ليلا ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه ألا يخبر أحداً ما دام عبد الله حيا ما دام عبد الله حيا وقال إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس وأدلج عبد الله أي سار في آخر الليل وأُخْرِجَ الفتي من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج فخرج الفتي في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة ، فقال يا فتي عبد الله بن المبارك يقول للفتي أين كنت ـ شف ـ عبد الله يتصانع ـ رضي الله عنه ـ أنه ما علم عن حال الفتى فقال عبد الله بن المبارك يا فتي أين كنت لم أرك في الخان قال نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوس بدين وقال وكيف كان سبب خلاصك قال جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أُخْرِجْتُ من الحبس فقال له عبد الله يا فتى احمد الله على ما وفق إليك من قضاء دينك فلم يخبر ذلك الرجل أحدا إلا بعد موت عبد الله.(/6)
والأخفياء والعبادة ؛ففي الصلاة مثلا قالت امرأة [حسان بن سنان] كان يجئ أي حسان فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم يصلي ثم يقوم فيصلي قالت فقلت له يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك كم تعذب نفسك ارفق بنفسك فقال اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا وعن[ بكر بن ماعز] قال ما رؤي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة وفي الصيام فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير قال قال الفلاس سمعت ابن أبي علي يقول صام [داود بن أبي هند] صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله لا يعلم به أهله كان خزازا يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق ، فيتصدق به في الطريق وكان بعضهم إذا أصبح صائما اِدَّهَن ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يراه أنه صائم وفي قراءة القرآن ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن سفيان قال أخبرتني مرية [الربيع بن خذيم] قالت كان عمل الربيع كله سرا إن كان لا يجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يري الرجل أنه يقرأ القرآن.(/7)
أما الأخفياء والبكاء ؛فقال [محمد بن واسع] لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بَلَّ ما تحت خده من دموعه ، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ويقول رحمه الله تعالى إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه ولا يشعر به الذي إلى جنبه وذكر الذهبي في السير عن [حماد بن زيد] رضي الله تعالى عنه ورحمه قال كان [أيوب السختياني] في مجلس فجاءته عَبْرَة فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام ما أشد الزكام يظهر رحمه الله تعالى أنه مزكوم لإخفاء البكاء هكذا كان حرصهم على هذه الصفة ، صفة الخفاء في الأعمال تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره وذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد يوم قال إن كان الرجل ، إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام ، فإذا خشي أن تسبقه قام واسمع لهذه القصة العجيبة الغريبة ، ووالله لقد أدهشتني هذه القصة واسمع لها يا أخي الحبيب وهي قصة طويلة فسر مع أحداثها وفصولها واسمع عن [محمد بن المنكدر] وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة وذكرها أيضا الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن المنكدر وفي ترجمته قال أي محمد بن المنكدر كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجلس أصلي إليها الليل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي فجاء رجل أسود تعلوه صُخْرَةٍ متزر بكساء وعلى رقبته كساء أصغر منه فتقدم إلى السارية التي بين يدي وكنت خلفه فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال أي رب أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم فأنا أقسم عليك لما سقيتهم فأنا أقسم عليك لما سقيتهم يعني إلا أن تسقيهم يقول ابن المنكدر فقلت مجنون فقلت مجنون قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي يعني كثرة المطر أهمني الرجوع إلى أهلي فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط قال ثم قال ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكن عدت بحمدك وعدت بقولك ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتين الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الأخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخبز وإذا هو إسكافي يعني يرقع الأحذية فإذا هو إسكافي فلما رآني عرفني وقال أبا عبد الله مرحبا أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة تريد أن أعمل لك خُفَّاً تريد أن أعمل لك خفا فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولي ألست صاحبي بارحة الأولي فاسود وجهه فاسود وجهه وصاح بي وقال ابن المنكدر ما أنت وذاك ما أنت وذاك قال وغضب قال وغضب قال ففرقت والله منه أي خفت والله من غضبه وقلت أخرج من عنده الآن أخرج من عنده الآن فلما كان في الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجئ فلم يجئ فقلت إنا لله ما صنعت إنا لله ما صنعت فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوحٌ وإذا ليس في البيت شيء فقال لي أهل الدار يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين ، ما كان بينك وبين هذا أمس قلت ماله قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كساءه ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب فلم ندر أين ذهب يقول ابن المنكدر فما تركت في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله فلم أجده رحمه الله خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عرف خرج من المدينة كلها فهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله يا أخي الحبيب يا أختي المسلمة أترك لكم هذه القصة العجيبة أتركها لكم لتعيشوا معها ولتقفوا معها وانظروا إليها وانظروا إلى أنفسكم لنري من أنفسنا عجبا وذكر الذهبي في السير بإسناده إلى [جبير بن نفيل ]أنه سمع أبي(/8)
الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق أبو الدرداء يتعوذ بالله من النفاق فأكثر التعوذ فقال له جبير وما لك يا أبي الدرداء أنت والنفاق وما لك يا أبي الدرداء أنت والنفاق فقال أبو الدرداء دعنا عنك دعنا عنك فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه فيخلع منه فقال الذهبي إسناده صحيح.
أما الأخفياء والجهاد ؛فقد ذكر الذهبي أيضا عن [أبي حاتم الرازي] قال حدثنا [عبدة بن سليمان المروزي] قال كنا سرية كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقي الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز فرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله أي الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فإذا هو هو فقال أي عبد الله بن المبارك لعبدة بن سليمان المروزي وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا يعني يفضحنا ، وعن [عبيد الله بن عبد الخالق] قال سبى الروم نساء أو نساء مسلمات فبلغ الخبر الرقة وبها [هارون الرشيد ] أمير المؤمنين فقيل [لمنصور بن عمار] أحد العلماء لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو ففعل منصور بن عمار وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم يقول إذ نحن في خرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار وإذ بكتاب مضموم إلى الصرة ففك الكتاب فقراءه فإذا فيه إني امرأة من أهل البيوتات إني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتَي يعني جديلتَي فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتَي فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرسٍ غازٍ في سبيل الله فلعل الله العظيم أن ينظر إليَّ على تلك الحال فينظر إلي نظرة فيرحمني بها فيرحمني بها قال فبكى منصور بن عمار وأبكي الناس وأمر هارون أن ينادي بالنفير فغزا بنفسه فأنكى بالروم وفتح الله عليهم وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول
كيف القرار وكيف يهدأ مسلمٌ
والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنةٍ
الدعيات نبيهن محمدِ
القائلات إذا خشين فضيحةً
جهد المقالة ليتنا لم نولدِ
ما تستطيع وما لها من حيلة
إلا التستر من أخيها باليد
أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات لينظرن أن المرأة المسلمة إذا أخلصت لله وكان همها العمل لله فإنها دائماً تبحث عن العمل أياً كان هذا العمل لا يقف أمامها ذلك السؤال ماذا أعمل وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع فإن من أهتم لأمر عمل وفكر بالعمل ووجد ماذا يعمل هذه المرأة علمت وسمعت واهتمت واحتار قلبها فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها أكرم شيء في بدنها حتى يصنع من هاتين الجديلتين قيد لفرسٍ غازٍ في سبيل الله وأقول ماذا قدمتي أيتها المسلمة للمسلمات وأنتي تسمعين الروم الآن كيف يفعلون بهن وماذا قدمت يا أخي الحبيب وماذا فعلنا وماذا فعلتي للمسلمين في كل مكان والروم وغيرهم ترون وتسمعون بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يُفْعَلُ بالمسلمات .(/9)
والأخفياء والعلم ؛فقد جاء في ترجمة [الإمام الماوردي] رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك [ابن خلكان] في كتاب وفيات الأعيان قال أن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يَدَيّ أو في يَدِي فإن قبضت فإن قبضت عليها وعثرتها فاعلم أو فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا وألقها في نهر دجلة ليلا وإن بَسَطْتُ وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وإني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة قال ذلك الشخص فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده وقبله كان [الإمام الشافعي] رحمه الله تعالى يقول وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إليَّ شيءٌ منه أبدا فأوجر عليه ولا يحمدوني فأوجر عليه ولا يحمدوني فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يظن أن حمد الناس له منقصة في الأجر ونقصا في صفة الخفاء تلك الصفة التي عشقت منهم رحمهم الله تعالى وينقل الذهبي أيضا في السير قول [هشام الدستوائي] واسمع لهذا القول يقول هشام والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل سبحان الله القائل هشام الدستوائي والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل يقول الذهبي معلقا على هذا الكلام والله ولا أنا والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم وطلبه قوم منهم أولا لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق إلى آخر كلامه الجميل في السير في الجزء السابع صفحة 5اثنين وخمسين ومائة لمن أراد أن يرجع إليه فإذا كان هذا كلام هشام وكلام الذهبي رحمهم الله تعالى ورضي عنهما فماذا يقول إذاً طلاب العلم اليوم بل ماذا يقول المتعالمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى ويصل الخفاء منتهاه عند [أبي عبد الله البخاري محمد بن إسماعيل البخاري] رحمه الله تعالى ورضي عنه قال [محمد بن منصور] كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض يعني في المسجد وطرحها إلى الأرض فرأيت البخاري ـ انظر لحركة البخاري ـ فرأيت البخاري ينظر إليها إلى القذاة وينظر إلى الناس فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض سبحان الله حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم هذه المواقف وهذه الصور من حياة أولئك الأعلام وحياة أولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار وتلك الأعمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا فتكشف الأعمال وتكشف الصحف فإذا الصحف مليئة بتلك الأعمال وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل والقصص وهذه الصور ليست لمجرد القص أيها الأخ الصالح وليست لمجرد الحديث بل هي للعبرة والعظة يا أخي الحبيب أنت تجلس في المجالس وتتحدث مع الآخرين ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها أو في الغيبة والنميمة والكلام عن فلان وعلان يا أختي المسلمة لنعلم مثل هذه المواقف ولنحفظ شيئا منها وإن كان قليلا ولنملأ مجالسنا بذكرها حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال فيتخرج الأجيال من مدارسهم رحمهم الله تعالى بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم .(/10)
الأخفياء في كلمات: قال ابن المبارك رحمه الله تعالى ما رأيت أحدا ارتفع مثل [مالك] ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة إلا أن تكون له سريرة إذاً فالقضية ليست قضية كثرة صيام ولا صلاة وإنما بالإخلاص والإخفاء لهذه الأعمال وقال [ابن وهب] ما رأيت أحداً أشد استخفاء بعمله من [حيوة بن شريح] وكان يعرف بالإجابة أي بإجابة الدعاء وقال [يوسف بن الحسين] أعز شيءٍ في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر فكأنه ينبت على لون آخر واسمع لقوله رحمه الله وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وقال لمحمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه رحمهم الله تعالى وقال ابن القيم أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق وقال الأخفياء رحمهم الله تعالى وصاحوا بملء أفواههم بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته ولمن غفل عن هذا الأمر صاحوا بقولهم كما يقول [ مالك بن دينار] قولوا لمن لم يكن صادقا قولوا لمن لم يكن صادقا لا يتأنى لا يتعنى فقولوا أيها الأحبة لمن لم يكن صادقاً بعمله لله جل وعلا ومخلصاً لعمله لله سبحانه وتعالى لا يتعنى لا يتعب نفسه قد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة التي أصبحت وبان على أصحابها فكانوا أول ثلاثة يسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقا في عمله وفي دعوته وفي أفعاله كلها لا يتعنى ، لا يتعب نفسه ثم أخيراً :
ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء ما هو العلاج والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى ألخصه بالنقاط السريعة التالية:
أولاً: الدعاء والإلحاح فيه ومواصلة هذا الدعاة وتحري ساعات الإجابة وأهمه الاستمرار في الدعاء ،الإلحاح والاستمرار في الدعاء لا تمل ولا تكل ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم وعلمنا بذلك الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره عندما قال "الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" وأستغفرك لما لا أعلم احفظ هذا الدعاء وكرره كثيرا واسأل الله بصدق أن يرزقنا الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.
ثانيا: الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين إن وجدت عليهم في هذا الزمن فَعِض عليهم النواجذ وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بقراءة أحوالهم والنظر في الكتب والتراجم للإطلاع على تلك الأحوال ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك.
ثالثا: معرفة عظمة الله تعالى معرفة الله من خلال أسماءه وصفاته أعرف من تعبد واعرف لمن تعمل واعرف عظمة الله جل وعلا واملأ قلبك بتوحيد الأسماء والصفات تطبيقاً عملياً حتى تعظم الله وقديما قالوا من كان بالله أعرف كان لله أخوف ومن عظم الناس خاف من الناس وعمل للناس وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس ولكن الله هو الذي سيجازيك وهو الذي يحاسبك.
رابعا: أحرص أن يكون لك خبء من عمل أحرص دائما أن يكون لك سر بينك وبين الله جل وعلا لا يعلمه أحد من الناس إن استطعت حتى ولا زوجك حتى ولا زوجك إن استطعت أن تفعل عملا بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك فلا شك أن هذه الأعمال هي المنجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
خامسا: دائماً كن خائفا من الله دائما كن خائفاً على عملك ألا يُقْبَلَ ، دائماً كن خائفاً أن يخالط هذا العمل رياءً أو سمعةً مع الانتباه لذلك التنبيه المهم الذي أشرنا إليه في أثناء الموضوع وقد تقدم الكلام عن ذلك وأخشى أن تقدم على الله جل وعلا بتلك الأعمال الكثيرة والأقوال الكثيرة فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا) عافانا الله وإياك من حال أولئك.
وسادسا وأخيراً: تذكر ثمرات الإخلاص تذكر هذه الثمرات تذكر حلاوة القلب تذكر حب أهل السماء للمخلص تذكر ***القبول له في الأرض وتذكر محبة الناس له وطمأنينة القلب وحسن الخاتمة واستجابة دعائه والنعيم له في القبر وفي الآخرة نسأل الله جل وعلا نعيم جنات الفردوس ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا إخلاصاً يخلصنا يوم أن نقف أمام الله سبحانه وتعالى ونستغفر الله ونتوب من أحوالنا ومن تقصيرنا واللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ونحن لا نعلم ونستغفرك ونحن نعلم ونستغفرك مما لا نعلم وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .(/11)
الاستبداد عقلية فرعونية
أ.د. ناصر العمر
استوقفتني آيات كثيرة من القرآن الكريم تتناول موضوعاً كثر طرقه وعرضه، فيذكر أحياناً في معرض الأمر به وأخرى في سياق الإخبار عنه أوالتنويه به، وذلكم هو موضوع الاستشارة، وقد كتبت عن الشورى في القرآن الكريم رسالة ربت صفحاتها على المائة وفيها من الشواهد ما تحسن مراجعته.
ثم تأملت السنة النبوية فوجدتها كذلك مليئة بالأمثلة الدالة على حرصه -صلى الله عليه وسلم- على استشارة أصحابه وأزواجه في دقيق الأمور وجليلها.
ورغم كل هذا الإرث النبوي الضخم الذي أمرنا بالتأسي به، وعلى الرغم من الإشادة بالشورى في القرآن الكريم، على الرغم من ذلك كله إذا تأملت مجالس الشورى في جل البلاد الإسلامية وجدتها صورية لا تستجلب آتياً ولا تذهب مقضياً.
والأدهى من ذلك أن ظاهرة الاستبداد تعدت لتقتحم الحركات الإسلامية، والمؤسسات الخيرية، التي ربما عانى كثير من الحادبين عليها من الاستبداد وانفراد شرذمة بالرأي، وربما عدم قبول النصح والمشورة، ولسان حال الملأ يقول مخاطباً المشير مردداً قول الهالكين: (..وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود:27]. ثم نتساءل: لماذا لم تكن القرارات رشيدة!
إن ما ينبغي هو أن تكون الشورى ديدن كل مؤسسة تريد أن يكتب لها النجاح، ابتداء من الأسرة وانتهاء بالدولة. أما العقلية الفرعونية: ?مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ? فهي التي ضيعت العباد، وأضلت الناس عن سبيل الرشاد.
وقد قيل من استقل بعقله ضل، ومن أعجب برأيه زل.
جنبنا الله وإياكم الزلل، والانسياق في طرق الضلالة، ووفقنا للصواب، وللأخذ بأسبابه، وهو المستعان(/1)
الاستحياء من الرب العظيم تبارك وتعالى
وهذا من أعظم الأدب مع الله تعالى فإن المؤمن متى وقر في نفسه أن الله تعالى سميع لكل كلام بصير لكل عمل عالم بكل سر ورقيب عليه مطلع إليه قائم على كل نفس بما كسبت حينئذِ يستحي من الله تعالى أن يراه متكلماً بسوء ، أو فاعلاً لشر، أو ساعياً في فساد ، ويكون هذا الاستحياء من الله تعالى ملازماً له في كل أحواله لا ينفك عنه ..
ولا يفارقه أبدا ولاسيما في الخلوات إذا خلا الإنسان بعيداً عن أعين الخلق ونفرد بنفسه فإذا به يستشعر معية الله تعالى له وحينئذ يستحي من الله تعالى أن يراه على معصية وهذا الاستحياء من أنفع الأشياء للعبد..
وله آثار عظيمة جدا منها :
1 ـ المسارعة إلى الطاعة والبعد عن المعاصي :
وذلك حياء من الله تعالى أن يطلع على عبده المؤمن وهو تارك للأمر أو مرتكب للنهي فإن المؤمن يستحي من الله عز وجل أن يراه كذالك ...
2 ـ غرس خلق الحياء في المؤمن :
فإن من أعتاد الحياء من الله زجره ذلك الحياء لفعل القبيح فإن الحياء يصير سجيه له وطبيعة فيه لا تفارقه فيصبح حييا مع الناس ويزجره ذلك الحياء عن فعل ما يستقبح والحياء من الإيمان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول :لاإله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ))رواه مسلم .
من كتاب : موسوعة الآداب الشرعية (بتصرف يسير )
الكاتب :: عبدالله العمري(/1)
الاستخارة في السنة النبوية
د. بندر بن نافع العبدلي كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم 25/6/1424
23/08/2003
*عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ، ويسِّره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: في عاجل أمري وآجله– فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به" قال: ويسمي حاجته.
فيه فوائد:
1- هذا الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من "صحيحه" : في التهجد –باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 1162، وفي الدعوات –باب الدعاء عند الاستخارة (6382) ، وفي التوحيد –باب قول الله تعالى (( قل هو القادر )) [7390].
وأخرجه: أحمد 3/344 ، وأبو داود ( 1538) والترمذي 480 ، والنسائي 3253 ، وابن ماجه 1383 .
كلهم من طريق عبد ا لرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
والحديث له شواهد أشار إليها ابن حجر" في الفتح 1" 1/184 وقال:" ليس في شيء منها ذكر الصلاة سوى حديث جابر، إلا أن لفظ أبي أيوب: "أكتم الخطبة وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك))، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر"
قلت: حديث أبي أيوب: أخرجه أحمد 5/423 ، والطبراني 4/3901 وابن حبان 4040 ، والحاكم 1/314 ، والبيهقي 7/147 وإسناده لا بأس به.
2- الاستخارة لغة: طلب الخير في الشيء ، يقال :استخر الله يخر لك(1).
واصطلاحاً: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما من الله جل وعلا.
3- فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة: وأنه متأكد مرغب فيه، لقوله "كما يعلمنا السورة من القرآن ".
قال العراقي : " ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة مستدلاً بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود:" كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ".
قال: ومما يدل على عدم وجوب الاستخارة: الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس من قوله: "هل علي غيرها ؟ قال: لا إلا أن تطوع " وغير ذلك (2).
والحكمة من مشروعيتها: التسليم لأمر الله ، والخروج من الحول والطول ، والالتجاء إليه سبحانه ، للجمع بين خيري الدنيا والآخرة، ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك ، ولاشيء أنجع لذلك من الصلاة والدعاء ، لما فيهما من تعظيم الله ، والثناء عليه ، والافتقار إليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة ، لما فيها من التعلق بالله وسؤاله ودعائه وخوفه ورجائه (3).
4- استحب بعض العلماء تقديم الاستشارة على الاستخارة ، قال النووي رحمه الله: "يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النصيحة والشفقة والخبرة ، ويثق بدينه ومعرفته، قال تعالى: (وشاورهم في الأمر)، وإذا استشار وظهر أنه مصلحة ، استخار الله تعالى في ذلك ".
قلت: والأمر في هذا واسع، إن قدم الاستشارة على الاستخارة فحسن، وإن قدم الاستخارة أولاً فلا بأس ، والمقصود هو الجمع بينهما.
قال ابن القيم :"وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ما ندم من استخار الخالق ، وشاور المخلوقين وثبت في أمره "(4).
5- فيه دليل على أن الاستخارة تكون عند الهم بالشيء ، لقوله " إذا هم أحدكم بالأمر ".
والهم: هو أول العزم على الفعل إذا أردته ولم تفعله ، وهو: عقد القلب على فعل شيء خير أو شر قبل أن يفعل (5).
بخلاف العزم فهو القصد المؤكد، يقال: عزمت علىكذا عَزَماً وعُزماً وعزيمة : إذا أردت فعله، وصممت عليه(6).
وحينئذ فينبغي أن يكون المستخير خالي الذهن ، غير عازم على أمر معين ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث " إذا هَّم" يشير إلى أن الاستخارة تكون عند أول مايرد على القلب ، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ماهو الخير ، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده ، وقويت عليه عزيمته وإرادته ، فإنه يصير إليه ميل وحب ، فيخشى أن يخفى عليه الرشاد لغلبة ميله إلى ما عزم عليه(7).
وفي "الاقناع مع شرحه": "ولا يكون -يعني المستخير– وقت الاستخارة عازماً على الأمر الذي يستخير فيه"(8).
6- قال العلماء:والاستخارة تكون في الأمور التي لايدري العبد وجه الصواب فيها، أما ماهو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف،أو معروف شره كالمعاصي والمنكرات فإنه لاحاجة إلى الاستخارة فيها، إلا إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحج مثلاً في هذه السنة، لاحتمال عدو أو فتنة، والرفقة فيه،أيرافق فلاناً أم لا؟(9).(/1)
قال الشوكاني رحمه الله: " قوله في الأمور كلها" دليل على العموم ، وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الأهتمام به فيترك الاستخارة فيه ، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله"(10).
قال محمود الورّاق:
توكل على الرحمن في كل حاجة ... ...
أردت فإن الله يقضي ويقدر
إذا ما يرد ذوالعرش أمراً بعبده ... ...
يصبه وما للعبد مايتخير
وقد يهلك الانسان من وجه حذره ... ...
وينجو بحمد الله من حيث يحذر(11)
وحينئذ فتشرع الاستخارة لمن أراد خطبة امرأة ، أو شراء سيارة ، أو شراء بيت، أو الدخول في صفقة تجارية ، وما أشبه ذلك.
7- أن السنة في الاستخارة كونها ركعتين ، لقوله " فليركع ركعتين من غير الفريضة "
وحينئذٍ فلا تجزئ الركعة الواحدة.
وأجاز بعض العلماء الزيادة على الركعتين ، لحديث أبي أيوب: (صل ماكتب الله لك).
قال ابن حجر :" والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يسلم من كل ركعتين ليحصل مسمى ركعتين، ولا يجزئ لو صلى أربعاً مثلاً بتسليمة ، وكلام النووي يشعر بالإجزاء "(12).
قلت : الأفضل والأكمل الاقتصار على ماورد في الحديث وهو صلاة ركعتين فقط ، ويكون مقيداً للإطلاق في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
وهل يجزئ لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة الظهر مثلاً ، أو غيرها من النوافل كتحية المسجد ؟
ظاهر كلام النووي رحمه الله الإجزاء (13).
وتعقبه ابن حجر فقال : "كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة مما أجزأ ، بخلاف ما إذا لم ينو ، ويفارق صلاة تحية المسجد ، لأن المراد بها شغل البقعة بالدعاء ، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها أو فيها"(14).
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله :" ولا يقال دعاء الاستخارة إذا صلى تحية المسجد أو الراتبة ولم ينوه من قبل ، لأن الحديث صريح بطلب صلاة الركعتين من أجل الاستخارة ، فإذا صلاهما بغير هذه النية لم يحصل الامتثال ، وأما إذا نوى الاستخارة قبل التحية ، والراتبة ثم دعا بدعاء الاستخارة فظاهر الحديث أن ذلك يجزئه ، لقوله : "فليركع ركعتين من غير الفريضة " فإنه لم يستثن سوى الفريضة ، ويحتمل أن لايجزئه ، لأن قوله : "إذا هم فليركع" يدل على أنه لا سبب لهاتين الركعتين سوى الاستخارة ، والأولى عندي أن يركع ركعتين مستقلتين ، لأن هذا الاحتمال قائم ، وتخصيص الفريضة بالاستثناء قد يكون المراد به أن يتطوع بركعتين ، فكأنه قال : فليتطوع بركعتين، والله أعلم(15).
8- لم يرد في الحديث تعيين مايقرأ به في هاتين الركعتين . قال الزين العراقي رحمه الله:
"لم أجد في شيء من طرق الحديث مايقرأ في ركعتي الاستخارة".
واستحب النووي رحمه الله أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد)(16).
قال العراقي:" ماذكره النووي مناسب ، لأنهما سورتا الاخلاص فناسب الإيتان بهما في صلاة المراد منها إخلاص الرغبة ، وصدق التفويض ، وإظهار العجز "(17).
واستحب بعض السلف أن يزيد على القراءة بعد الفاتحة في الركعة الأولى بقوله تعالى:
(وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ماتكن صدورهم ومايعلنون * وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ) الآيات في سورة القصص وفي الركعة الثانية بقوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا) الآية في سورة الاحزاب(18).
قال ابن حجر: "والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والاية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية ".
فكأنه رحمه الله رأى الجمع بين القولين ، لأنه مناسب وإن لم يرد.
9- ظاهر الحديث يدل على صلاة هاتين الركعتين حتى في أوقات النهي ، لاسيما إذا كان الأمر المستخار له يفوت ، أولا يمكن تأجيله إلى خروج وقت النهي. وأصحاب المذاهب على منعها في أوقات النهي (19).
10- ظاهر الحديث أن ا لدعاء يكون عقب الصلاة ، وهو قول الجمهور.
قال القرطبي :" ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام " ومثله قال الشوكاني(20).
وأجاز ابن حجر الدعاء في أثناء الصلاة في السجود أو بعد التشهد (21).
واختار شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله أن الدعاء يكون قبل السلام (22).
قلت: والأقرب قول الجمهور لظاهر الحديث.
*ويستحب أن يستقبل القبلة في دعاء الاستخارة ، وأن يرفع يديه،ويراعي جميع آداب الدعاء
وهل يفتتح الدعاء بالحمد والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: استحب ذلك بعض أهل العلم ،
قال ابن عابدين: "ويستحب افتتاح الدعاء وختمه بالحمد له والصلاة" (23) وقال النووي: "ويستحب إفتتاح الدعاء المذكور، وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم)(24).(/2)
قلت: وقد يقال : إنه يقتصر على ماورد في الحديث من غير زيادة . والله أعلم
* ويستحب أن يكرر الدعاء ثلاثاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً.
11- علامة القبول هو انشراح الصدر ، والطمأنينة والسرور لما استُخير له.
فإن لم يظهر له شيء ، فقد قال العلماء رحمهم الله: "له أن يعيد الاستخارة مرة وثانية وثالثة وهكذا ، وأوصلها بعضهم إلى سبع مرات، استدلالاً بحديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه " و هذا الحديث –كما قال ابن حجر:"لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جداً "(25).
قال النووي رحمه الله : ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له ، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة ، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأساً ، وإلا فلا يكون مستخيراً لله بل يكون مستخيراً لهواه ، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة ، وفي التبرى من العلم والقدرة واثباتهما لله تعالى ، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ، ومن اختار نفسه)(26).
وفي قوله رحمه الله: "وقد يكون غير صادق مع الله في طلب الخيرة" ،إشارة إلى أنه ينبغي للمستخير أن يصدق مع الله في طلب الخيرة وأن يُظهر فقره وذله لربه جل وعلا ، فإن لم يظهر ذلك منه فربما لا يوافق ، أولا يظهر له باستخارته ما يريد ، وهذا قد يحدث لبعض الناس تجده يستخير وهو عازم على أمر من الأمور ، وإنما يريد فقط أن يأتي بسنة الاستخارة ، فحال هذا كما تقدم.
12- عموم الحديث يشمل الرجال والنساء في مشروعية الاستخارة ، فالمرأة كالرجل إذا همت بالأمر فإنها تستخير الله تعالى.
فإذا كانت معذورة بترك الصلاة ، كما لو كانت حائضاً أو نفساء واحتاجت الاستخارة ، فإنها تستقبل القبلة وترفع يديها وتدعو بهذا الدعاء من غير صلاة.
لاسيما إذا تقدم لها خاطب فإنها تستخير الله فيه ، وقد ثبت في "صحيح مسلم "في قصة زواج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حديث أنس رضي الله عنه قال" لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ فاذكرها عليَّ ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخِّمر عجينها ، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن …)(27).
قال النووي رحمه الله في شرحه :" وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا ؟ ثم قال: ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلى الله عليه وسلم"(28).
وقد بوب النسائي على هذا الحديث في (سننه) فقال: (باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها)(29).
________________________________________
(1)– "لسان العرب" ( 5/351).
(2)- "نيل الأوطار" (3/315).
(3)- "الموسوعة الفقهية" (3/242) بزيادة.
(4)- "الوابل الصيب" ص (175).
(5)- "التعريفات للجرجاني" ص (320) ، "والمصباح المنير" مادة (همم)).
(6)– "التعريفات مادة" :عزم.
(7)- "فتح الباري" (11/185)، " الموسوعة الفقهية " (3/243).
(8)– "كشاف القناع" (1/443).
(9)– "الموسوعة الفقهية" (3/242)، "الفتوحات الربانية" (1/347).
(10)– "نيل الأوطار" 3/315).
(11)– "تفسير القرطبي " 13/306).
(12)– "الفتح" (11/185).
(13)– "الأذكار" ص(179)
(14)– "الفتح" (11/185).
(15)– "مجموع الفتاوي" (14/322).
(16)- "الأذكار" ص(180).
(17)- "الفتوحات الربانية" (3/354).
(18)- "تفسير القرطبي" (13/307) والموسوعة الفقهية (3/245).
(19)- "الموسوعة الفقهية" (3/244).
(20)- "تفسير القرطبي" (13/307) نيل الأوطار (3/316).
(21)– "الفتح" (11/186).
(22– "مجموع الفتاوي" (23/2).
(23)– "حاشية ابن عابدين" (1/461).
(24)– "الأذكار" ص(179).
(25)- الفتح (11/187).
(26)– "نيل الأوطار" (3/317).
(27)– "صحيح مسلم" رقم (1428).
(28)– "شرح صحيح مسلم" (9/228).
(29)– "سنن النسائي" (6/79).(/3)
الاستخلاف ليس محلاًّ للإرث
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
اتّخذ الناسُ اليوم الاستخلافَ مكانَ المشايخ إرثاً يتوارثونه ، ولو كان الخليفة الذي ينصبونه مكانَ شيخٍ أحمقَ كالحمار. وقد كان في الماضي المشايخ يضعون العمائمَ على رؤوس المريدين، وأصبح الأمرُ اليوم عكسَ ذلك ؛ فعاد المريدون يُكْرِمُون المشايخَ بالعمائم ؛ فما إن مات الشيخُ حتى يُحِلُّون نجلَه محلّ أبيه ، ويُكْرِمُونَه بعمامة الخلافة ؛ فيصير شيخًا لهم جميعًا .
وقد مَحَا شيخُنا (الحاج إمداد الله المهاجر المكيّ رحمه الله تعالى 1233هـ / 1817هـ = 1317هـ / 1899م) هذا التقليدَ كليًّا ؛ فلا يَحْتَلُّ اليوم سجّادتَه أحدٌ . وكانت سجَّادةٌ له في بلدة "كنكوه" – إشارة إلى مريده الشيخ الفقيه المحدّث العالم الربّاني رشيد أحمد الكنكوهي 1244هـ / 1829م = 1323هـ / 1905م – وكانت سجَّادةٌ له في مدينة "ديوبند" – إشارة إلى الشيخ الناطق بالإسلام الإمام محمد قاسم النانوتويّ رحمه الله تعالى رئيس الطائفة المُؤَسِّسَة لجامعة دارالعلوم/ ديوبند 1248هـ / 1832م = 1297هـ / 1880م – فكانت سجّاداتُه مُتَوَزَّعَةً في أمكنة شتّى . وأَوَدُّ أن أُؤَكِّد أن هذا الموقفَ له قيمةٌ مزيدةٌ وأهميّةٌ قصوى؛ حيث السجّادات تَتَوزَّعُها الأمكنةُ . وليس بشيء أن تكون السجّادةُ واحدةً مُرَكَّزَة في مكان واحد . إنّ هذا الشيءَ وأمثالَه لاتحتمل التوريثَ والتوارثَ .
قصة وقعت لي :
طَلَبَ إليَّ ذاتَ مرة أهالي بلدتي – تَهانَهْ بَهوَنْ Thana bhawan بمديرية "مظفر نكر" Muzaffar Nagar بولاية "أترابراديش" Uttar Pardesh – أن أتحمّل مسؤوليّةَ الإمامة بالمصلين ، فقَبِلتُ طلبَهم بشروط ، كان من بينها أنّ الإمامةَ لاتصير حقًّا من حقوقي ، وأنّي لا أكون مُلْزَمًا بالإمامة ، فأَتَخَلَّى عنها عندَما أريد . ثم أعلنتُ على مرأى ومسمع منهم أني تولّيتُ الإمامةَ على إلحاحٍ من الناس ، و أَوَدُّ أن أُوَضِّح أن ذلك لايكون حقًّا لي، فلا يجري فيه التوارثُ . وعندما يكره أحدٌ إمامتي مهما كان من الذين يعتبرهم الناس من الحشوة ، فله أن يكتب إليَّ بطاقةً عن طريق البريد ، أني أكره إمامتَك . فأقول: والله لو أنّ ناسجًا للثياب أو جزّارًا منعني من الإمامة ، لامتنعتُ عنها فورًا . وعندما صرّحتُ لهم بذلك قمتُ بالإمامة ؛ لأنه بعدما صرّحتُ انْتَفَتْ احتمالاتُ التوارث . وبعد مدة تخلّيتُ عنها بدوري .
توارث السجّادة
فاليوم صار الاستخلاف إرثاً يتوارثونه . والناس يحترمون السجادةَ المُتَوَارَثَةَ ؛ حيث يرون أنّها ذاتُ أهميّة . فذلك احتفالٌ بالتقليد . وقد وجدنا لدى هؤلاء الناس تقليدًا آخر، وهو أنّ الشيخ القابع في السجّادة لايخرج من الزاوية . زرتُ مدينة "بهاكلبور" Bhagal pur – إحدى مدن ولاية "بيهار" بالهند – فسمعتُ أن شيخًا لم يخرج من الزاوية منذ 40 عامًا : منذ أن قَبَعَ في السجّادة . وكان مريدوه يَرْوُوْنَ عنه ذلك مُتَبَاهِيْنَ . قلتُ لهم: هل هو من الأنثى؟ إن الرجل يُطَوِّف بالخارج بالسيف غير المُغْمَدِ ؛ فالقَبْعُ في مكان واحد ليس رجولةً . أمّا إذا كان أحدٌ مُقْعَدًا أو قَعَدَتْ به الأعذار أو الدواعي الأخرى ، فلا بأس به.
ومثلُ هذا الشيخ إذا دَعَتْهُ الضرورةُ للمثول بين يدي المحكمة ، تُبْذَل محاولاتٌ مُكَثَّفَةٌ لإعفائه منه ؛ لأن المشايخ اليوم عادوا يَعُدُّون المثولَ لدى المحكمة عيبًا . ولم أدرِ أنا السببَ في كونه عيبًا .
قصةٌ أخرى حدثت لي
كانت هناك مُحَاكَمةٌ جارية في مدينة "كانبور" بولاية "أترابراديش" بالهند وكانت لاتُحْسَم بشكل ؛ فقال القاضي للخصمين : الأحسنُ أن تَصْطَنِعَا حَكَمًا يحكم في قضيّتكما ، ثم المحكمةُ تتولّى تنفيذَ ما يحكم به هو . و رَضِيَا باتّخاذ الحَكَمِ وسَمَّتِ المحكمةُ عددًا من العلماء لَم يتَّفِقَا على أحدٍ منهم ، ثم سَمَّتْني فرَضِيَا ، وبالتالي وَجَّهتْ إليَّ المحكمةُ أمرًا رسميًّا بالمثول أمام القاضي (Summons) لأُدْلِيَ بما يَعِنُّ لي من الحكم في القضيّة ، فاعْتَقَدَ إخوانٌ مثولي بين يدي القاضي مذلّةً لي . قلتُ لهم : ما هي المذلة في هذا الأمر؟ إنّها لعزّةٌ أن تُحْسَم قضيّةٌ بشهادتي . على كل فمثلتُ لدى القضاء ، وأدليتُ بما كان عندي ، وتَمَّ حسمُ القضيّة العالقة منذ الثمانية عشر عامًا بناءً على تصريحاتي .(/1)
وكذلك كانت لي رحلةٌ ذاتَ مرة إلى مدينة "بريلي" بولاية "أترابراديش" بالهند ، فأَبْدَى مديرٌ للشرطة رغبةً في الاجتماع بي ؛ لأنّه كان حريصًا على زيارة ذوي العلم والفضل . وعندها كذلك رَأَى بعضُ المحبين أن المديرَ ينبغي أن يحضر إلى منزلي ؛ لأن في ذلك إكرامًا لي ، أمّا حضوري إليه فهو مذلّة . أما أنا فرأيتُ غيرَ ما رَأَوْا ؛ حيث فكّرتُ أنه إذا جاء إليّ أكون أنا المُستَقْبِل له والمُحْتَفِي به، وإذا حضرتُ إليه يكون هو المُكْرِم لي؛ فذهبتُ أنا إليه ، فَتَنَاوَني بحفاوة بالغة .
وقد كان ما أبديتُ من السبب في حضوري إلى مدير الشرطة ، مبنيًّا على فكرة الإخوان . أما السبب الحقيقي أنّ الله أكرمه بمنحه السلطةَ ، وجعله مسيطرًا علينا ؛ فندمتُ على أن أجعل الحاكم محكومًا . إن الله إذا جعله حاكمًا فالأدبُ التكويني يقتضي أن نعامله معاملةَ المحكوم مع الحاكم . فإذا رَغِبَ حاكمٌ من الحكاّم في لقائي أُحِبُّ أن أزوره أنا . أمّا اليوم فقد سادتِ التقاليدُ التي تجعل الناس يحسبون أنّ في ذلك مذلّةً للعُلماء وذوي الفضل .
قصة أخرى
كان الحديث يدور أصلاً في توارث سجّادات المشايخ ، فأشير إلى مفسدةٍ أخرى من خلال قصة ممتعة ؛ ولكنها مثيرة لدرس كبير : يقال : اِنّ قاضيًا (مأذونًا شرعيًّا للإمامة والمناكحة والطلاق) مسلمًا صار مدينًا لمرابٍ هندوسيّ في مدينة ، فرفع المرابي ضدّه دعوىً إلى المحكمة ، فأصدرت الحكم بمصادرة مُمْتَلَكاَتِه وأراضيه الزراعيّة حتى ما كان يناله من المكافآت النقدية لقاءَ الخطابة والإمامة ؛ فقد كان دخلُه الحاصلُ أيام العيدين كبيرًا جدًّا . قال الراوي : إنه رأى ذات مرة يومَ العيد أن المسلمين يتوافدون إلى المُصَلّى في ملابس جديدة وبدأوا ينتظرون مقدمَ الإمام ، فما لبثوا أن رَأَوْا مُرَابِيًا هندوسيًّا يُغِذّ الخطى إليهم في "الدهوتي" – الإزار الطويل الأبيض الرقيق الذي يتّزر به الهندوس شعارًا لهم – وما إن وصل المُصَلَّى حتى ارتفع الضجيجُ بأن السيد الإمام قد حَضَرَ . وقضيتُ من عجبى – لايزال الحديث للراوي – وقلتُ في نفسي يا إلهى ! كيف هذا الإمام ؟ هل المرابي الهندوسيّ سيُصَلِّي العيدَ بالناس ؟!. وما هو إلاّ دقائق حتى صَعِدَ المرابي فعلاً المنبرَ ، وانْتَصَبَ قائمًا وخاطب الناسَ : أيّها الناس ! هل تسمحون لي ؟ قالوا : نعم ، نسمح لك ، فبسط ثوبًا على الأرض ، وبدأ الناس يقذفون عليه الفلوسَ والروبيّاتِ . وعندما انْتَهَوْا من دفع النقود ، عَدَّدَ ما تَجَمَّعَ منها على ثوبه ، وسَجَّلَ المجموعَ في دفتر حسابه بأنّ الدخلَ كان يومَ العيد هذا العامَ كذا من الروبيّات ، ثم جَعَلَها في صُرَّة ، وألقى الصُرَّةَ على إحدى كتفيه ، ثم قال للناس : هل تأذنون ؟ قالوا : نأذن لك . ثم قَدَّمَ إليهم التحيّةَ ، ورَجَعَ أدراجَه إلى بيته ، ثم لَحِقَه الناسُ إلى بيوتهم دونما صلاة أو خطبة تتبعها. وقد سألهم الراوي: أَوَلا تُؤَدَّى الصلاةُ ؟ فقَصُّوا عليه القصةَ بفصّها ونصّها ، وقالوا : إن السيد الإمام مدين للمرابي الهندوسي هذا ، وقد حَصَلَ على قرار قضائي بمصادرة ما كان يناله الإمام من الدخل يومي العيدين ، فاخْتَفَى هو منذ سنوات ، فلا يَطْلُعُ إلى المُصَلَّى . أمّا نحن فنحضره كالعادة ، وهذا المرابي يواظب على استخراج النقود وجمعها ؛ فصلاتا العيدين لاتُؤَدَّيَان منذ سنوات .
فالإرثُ المعمولُ به في أمثال هذه الأشياء ، إحدى مفاسده أن الدخل الحاصل بأسماء المشايخ والصالحين يضيع في غير موضعه ، فالأوقافُ الكثيرةُ تضيع ؛ لأنّ الغلاّت والحاصلات الموقوفه لصالح زوايا الصالحين تذهب هدرًا ؛ لأن تقليد استخلاف المشايخ وتوارثِ سجّاداتهم ، لايسمح بتولّي القيام على الأوقاف إلاّ لأولاد المشايخ سواء أكانوا صالحين أو طالحين ، ثم يمتد الأمرُ إلى ادّعائهم ملكَها . وعلى ذلك فضاعت آلافٌ من الأوقا(/2)
الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمنطقة العالم الإسلامي
جراء تمسك المسلمين بدينهم وعقيدتهم، وتطلعهم الجاد لإعادة الحكم بما أنزل الله، وبالتالي رجحان عودة الإسلام السياسي لواقع الحياة والتطبيق العملي، صار الغرب الكافر وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية, يدرك مدى هشاشة مخططاته التي وضعها وسار عليها منذ عقود مضت، لضرب الإسلام والإجهاز على عقيدته. وأميركا على وجه الخصوص, بوصفها رأس الكفر وحربته, وإحدى الدول الطامعة في بلاد المسلمين وثرواتهم، ترى على الدوام، في تمسك المسلمين بدينهم، وتحركهم الجاد للنهوض، تهديداً مباشراً لمصالحها، ليس في مناطق المسلمين فحسب بل وفي العالم بأسره.
لقد قررت أميركا، منذ زوال الشيوعية واندحارها، اتخاذ الإسلام عدواً لها، وذلك كمقدمة لإعادة صياغة مخططاتها لمنطقة العالم الإسلامي، بما يحقق لها إزالة أثر العقيدة الإسلامية من نفوس المسلمين، وتكريس هيمنتها ونفوذها على هذا الجزء الحيوي من العالم.
وإنه، وإن كان لسقوط الشيوعية وانحنائها أمام الحضارة الغربية, أثر بالغ في تنامي النزعة لدى صنّاع القرار في الغرب، وفي أميركا تحديداً، لجعل الرأسمالية مبدأ لكافة شعوب وأمم الأرض، بمن فيهم الأمة الإسلامية، إلا أن هذا السقوط للشيوعية قد ساهم إلى حد كبير في الكشف عن قوة الإسلام، ومدى تمكنه من نفوس المسلمين. إن الأحداث الجسام التي عصفت بالأمة الإسلامية ردحاً طويلاً من الزمن، لم تنل من إسلامية الأمة، الأمر الذي جعل من الأمة الإسلامية هدفاً لمخططات أميركا الجديدة، الهادفة لضرب الإسلام، وجعل الرأسمالية دينا جديدا للمسلمين، هذا من حيث الدوافع الكامنة وراء العداء الصليبي المتأصل في نفوس الكفر والكافرين تجاه الإسلام والأمة الإسلامية.
أما من حيث ترجمة هذا العداء إلى أقوال وأفعال ومخططات، ترسمها الدول الكافرة بزعامة أميركا, بقصد التصدي للمسلمين ولعقيدتهم, فإن الاستراتيجية الأميركية الجديدة لمنطقة العالم الإسلامي, إنما تنطلق من مفاهيم القوة، وغطرسة القوة. بمعنى محاولة فرض النظم والقيم الغربية على شعوب الأمة الإسلامية, بواسطة القوة, وبما يلزم لهذه الاستراتيجية من دعاية مضلِّلة، وغزو، واحتلال، كلما لزم الأمر. هذا فضلا عن اتباع شتى أساليب الضغط والتضييق على المسلمين، على مستوى العالم, وبالذات البلاد الإسلامية, لحمل المسلمين على نبذ عقيدتهم ودينهم, واتخاذ حضارة الغرب حضارة لهم.
وإنه، وإن كانت الإدارة الأميركية السابقة بزعامة كلينتون, هي صاحبة مشروع جعل الرأسمالية مبدأ لكافة شعوب وأمم الأرض, بمن فيهم شعوب الأمة الإسلامية, ولكن بأسلوب الدعاية والحوار واقتصاد السوق وغيره, إلا أن الجديد في الاستراتيجية الأميركية الحالية, هو عسكرة الحملة العالمية التي خطها كلينتون. وما نشاهده اليوم من غزو أميركا لأفغانستان والعراق, وقتل وتشريد للمسلمين في فلسطين وكشمير والعراق, لخير دليل على هذا التوجه لدى صناع القرار في إدارة بوش الحالية.
وعليه، فإن المجموعة المتشددة التي تتشكل منها إدارة بوش الحالية, تؤمن بأن القوة العسكرية التي توفرت للولايات المتحدة في هذا الظرف التاريخي النادر, يجب أن تسرع في حسم كل المعارك العسكرية منها والثقافية, لصالح الولايات المتحدة والمعسكر الديمقراطي, وذلك قبل أن تزداد المخاطر التي من شأنها أن تشكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة القومي.
هذه الفلسفة, التي تقوم على أساسها السياسة الخارجية للولايات المتحدة اليوم, جراء تبني إدارة بوش الابن لها, هي في واقعها مستوحاة من نظرة الفيلسوف الأميركي الياباني الأصل, فرانسيس فوكوياما -صاحب نظرية نهاية التاريخ _على حد زعمه_ يقول فيها: إن المعارك الكبرى التي دارت في القرن العشرين، وهو يقصد منذ هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، انتهت بنصر حاسم لقوى الحرية، وبروز نموذج واحد ومستدام, وعناصره هي: الحرية والديمقراطية والمشروع الحر؛ لهذا نجد أن وزير الدفاع الأميركي الحالي, دونالد رامسفيلد, يتبنى بل يعمل على مضاعفة القوات المسلحة الأميركية خارج الولايات المتحدة, إلى مستوى الضعف.
وكذلك يمكن ملاحظة هذا الطراز من التفكير لدى المتنفذين في إدارة بوش الحالية, من خلال الوثيقة الرسمية التي أعلنها البيت الأبيض رسميا في 20/9/2002م، تحت عنوان (الاستراتيجية الأميركية لأمن الولايات المتحدة القومي) ما نصه: «سوف تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية والاقتصادية, لتشجيع قيام المجتمعات الحرة والمفتوحة, وستعمل كل ما في إمكانها، بوصفها الدولة العظمى الوحيدة في العالم, لاستخدام المعونة الخارجية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي, لكسب معركة الأفكار والقيم المتنافسة, بما في ذلك كسب معركة العالم الإسلامي».(/1)
لهذا كله جاءت ردات فعل إدارة بوش الابن, على أحداث الحادي عشر من أيلول, سريعة وحاسمة, ودون تردد أو إبطاء, بخصوص عسكرة الحملة على ما يسمى بالإرهاب, أي عسكرة الحملة للقضاء على الإسلام. تمخض عن هذه العسكرة: إعلان الحرب على أفغانستان البلد المسلم, وتعزيز التواجد العسكري الأميركي، حول أطراف بلاد المسلمين، وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص.
ولا يخفى على أحد أنه من خلال الممارسات الحاقدة التي تتزعمها أميركا, بشأن ملاحقة المسلمين، وتضييق الخناق عليهم، في أميركا، وفي كل أرجاء العالم, والضغوط على معظم دول العالم، للوقوف معها وإلى جانبها، في حملتها المسعورة لاستئصال شأفة المسلمين وقتلهم، بحجة محاربة الإرهاب واستئصاله من جذوره. إنه صار من نافلة القول إن الحرب التي أعلنها بوش الابن، على ما يسمى بالإرهاب, هي في واقعها وحقيقتها حرب فعلية على الإسلام والأمة الإسلامية.
وبالرغم من أن للحملة الأميركية اليوم على المسلمين دوافع أخرى منها وضع اليد على الاحتياط النفطي الهائل, إلا أن العنوان الرئيس لهذه الحملة المسعورة, هو فشل المخططات السابقة لثني الأمة عن دينها وعقيدتها, إضافة إلى الخطر الكامن في الأمة الإسلامية, على مصالح الغرب ونفوذه، عندما تنطلق الأمة وتنهض وتحمل رسالتها للعالم.
أما الاستراتيجية الأميركية الجديدة على المستوى الثقافي فإنها لا تنفك عن مفاهيم القوة, وتجيير نتائج الحروب والغزو، لصالح بعث الديمقراطية والرأسمالية في بلاد المسلمين. وبمعنى آخر محاولة فرض الديمقراطية, بوصفها الإطار السياسي للفكر الرأسمالي, والقيم الغربية على الأمة الإسلامية, تحت طائلة الغزو والقوة العسكرية المتغطرسة. إنها حملة صليبية ثقافية في المقام الأول. ولا أدل على هذه الحملة وهذه الاستراتيجية مما جاء على لسان كونداليسارايس, بتاريخ 27/9/2002م قولها «إن الزلزال الذي حدث في الحادي عشر من أيلول, قلب موازين السياسة الدولية, وإن الفترة الحالية مع أخطارها, إلا أنها تمثل فرصة عظيمة, تماثل الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية, عندما تمكن العالم الحر من إعادة تأهيل ألمانيا واليابان، وضمهما إلى معسكر الديمقراطية والحرية». إن مستشارة الأمن القومي هذه, إنما تقصد، إعادة تأهيل العالم الإسلامي, أسوة بما آل به حال ألمانيا واليابان بعيد الحرب العالمية الثانية. بدليل أن تصريحها هذا قد جاء في معرض الرد على سؤال وجهته إليها إحدى الصحف البريطانية, حول المشروع الأميركي المعلن, بشأن فرص نجاح إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، بعيد الانتهاء من نظام حكم صدام حسين في العراق. وحول نفس السؤال، أضافت رايس بقولها «إن الفترة الانتقالية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي قد انتهت, الأمر الذي يتيح لواشنطن بصفته(/2)
الاستراتيجية العسرية بين الإسلام والغرب (2/1)
فهد بن عبدالرحمن الخريجي
لم يظهر المفهوم المعاصر للاستراتيجية العسكرية بوصفه علماً من العلوم بين عشية وضحاها؛ لأن صياغة أية مجموعة من المفاهيم لابد أن يسبقها تجميع الكثير من المعلومات فالإنسان ينتقل من الملاحظة والتجربة إلى النظرية في دارسته للكون.
ولأن الحرب واحدة من الظواهر الحتمية في حياة الإنسان، واكبت مسيرته على هذه الأرض وكانت معلماً بارزاً في تاريخه الطويل، فقد استحوذت - كسواها من فروع المعرفة الإنسانية - على اهتمام كثير من الدارسين والمفكرين الذين حاولوا الوصول إلى استنتاجات ومبادئ وقوانين عامة لهذه الظاهرة المعقدة ويمكن القول بأن القرن الخامس الميلادي هو بداية المحاولات الأولى لتنظيم معلومات التجارب والخبرات المكتسبة، وظهرت عبارة "استراتيجية" النابعة من تعبير "ستراتيجوس" الإغريقي الذي يعني "القائد" أو "قائد القوات".
ولم يتحقق حتى القرن السادس عشر أي مزيد من الإسهام في صياغة الاستراتيجية العسكرية باعتبارها علماً حتى جاء مكيافلي(1) الإيطالي في ذلك القرن وقام بمحاولات جادة للبحث في جميع القضايا المتعلقة بتسيير دفة الحرب ووضع كتاب "فن الحرب" الذي اعتمد فيه على تجارب القادة العسكريين القدامى.
ومع ذلك فإن التاريخ العسكري للغرب يحدد نصف القرن الثامن عشر كمستهل للعلم العسكري وذلك حين قام هنري لويد المؤلف العسكري الانجليزي بإعداد مجموعة من المفاهيم النظرية العامة ومبادئ الاستراتيجية العسكرية ومن ضمنها:مقدمة الكتاب الذي وضعه عن تاريخ حرب السنوات السبع(2).
تعريف الاستراتيجية العسكرية:
كما ذكرنا سابقاً بأن الكتّاب والمؤلفين لم يستطيعوا تحديد الهوية الصحيحة للاستراتيجية، وحيث إن لكل منهم وجهة نظره الشخصية ووجود الاختلاف بين مفاهيم هؤلاء الكتاب والمؤلفين فلا يوجد تعريف واضح لمعنى الاستراتيجية ووسائلها مما يوحى بأن مفهوم هذه الكلمة أو الاصطلاح لم يتبلور بعد في أذهان رواد الاستراتيجية ومفكريها.
ولكن سوف أورد بعض التعاريف التي يمكن أن تكون قريبة لمعنى الاستراتيجية حسب رأي أصحابها ومن هؤلاء كلاوزفتز حيث عرفها بأنها: (فن استخدام المعارك كوسيلة للوصول إلى هدف الحرب) أما بالنسبة لمولتكه فقد عرفها بأنها: "إجراء الملائمة العملية للوسائل الموضوعة تحت تصرف القائد للوصول إلى الهدف المطلوب" بينما عرفها ليدل هارت بأنها: "فن توزيع واستخدام مختلف الوسائط العسكرية لتحقيق هدف السياسة"(3) وأما الجنرال باليت فقد عرفها بأنها: "فن تعبئة وتوجيه موارد الأمة أو مجموعة من الأمم - بما فيها القوات المسلحة - لدعم وحماية مصالحها من أعدائها الفعليين أو المحتملين"(4).
أنواع الاستراتيجية العسكرية:
أولاً: الاستراتيجية العليا:
القيادة السياسية في الدولة هي التي تتولى الاستراتيجية العليا في حين تعتبر الاستراتيجية العسكرية هي نطاق النشاط العملي للقيادة العسكرية العليا، فالاستراتيجية العليا هي التي تقدر وتنمي وتحشد كافة الإمكانات والطاقات الاقتصادية والبشرية والعسكرية والمعنوية وسواها من قوى الضغط للتأثير على عزيمة الخصم ومعنوياته وإرادته لإجباره على الخضوع والتسليم وبالتالي تحقيق هدف السياسة، كما تحدد كافة المهام والأدوار لمختلف الاستراتيجيات العامة، وتؤمن توافقها وانسجامها، وتعالج كافة مراحل الصراع، وتؤمن التوافق بين شتى وسائط وأسلحة الصراع، وتنظم استخدامها وتوجيهها(5).
وتحتوي الاستراتيجية السياسية العليا على وجهين: أحدهما سياسي والآخر عسكري غير أن كلا الوجهين يشكل وحدة فكرية متجانسة ومترابطة ترمي إلى تحقيق أهداف موحدة ومحددة:
1- الوجه السياسي للسياسة العليا:
هو مجموع المبادئ ذات الصبغة السياسية التي تعالج المسائل المتعلقة بالصراع المسلح والتطور العسكري ككل وتشمل:
أ- الخواص السياسية المميزة للصراع المسلح وهي تشمل انعكاسات السياسة العالمية والاقليمية والمحلية على طبيعة الصراع المسلح.
ب - المحتوى الاجتماعي والسياسي للصراع المسلح وهو يشمل وجهة نظر الدولة تجاه آثار النظم الاجتماعية والسياسة القائمة لدى الطرفين على الصراع المسلح.
ج - اتجاهات التحضير للحرب وإدارتها.
د- اتجاهات إعداد الدولة للحرب اقتصادياً ومعنوياً.
ه - احتمالات تجنب الحرب أو قيامها وذلك بناءً على دراسة الأهداف السياسية والقومية للجانبين والعوامل السياسية التي تؤدي إلى احتمال قيام الحرب أو تجبنها.
و- إمكانيات عقد معاهدات سياسية - عسكرية لتوحيد الجهود السياسية والعسكرية تجاه هدف سياسي عسكري.
ز- العوامل السياسية التي تحدد بداية الحرب وسيرها وتوقفها وهي تعني دراسة للعوامل والشروط السياسية الإقليمية والعالمية التي تؤثر على تحديد بداية الحرب وسيرها وتوقفها.
ح - وجهة نظر الدولة بالنسبة لاستخدام الأسلحة الحديثة (كالسلاح الذري مثلاً)(6).(/1)
2- الوجه العسكري للسياسة العليا:
هو مجموع المبادئ ذات الصفة العسكرية الخاصة التي تعالج المسائل المتعلقة بإعداد واستخدام القوات المسلحة في الحرب، وتحدد مجالات تطور فن الحرب بمستوياته الاستراتيجية والتعبوية والتكتيكية بالإضافة إلى تطوير نظام تزويد القوات المسلحة بالمعدات الحربية وتشمل:
أ- المعالم المميزة للحرب وتحديد الهدف الاستراتيجي للحرب، وشكل الحرب، وشكل المرحلة الافتتاحية.
ب - أساليب دراسة القدرات العسكرية للعدو المنتظر ومستوى استعداده للحرب.
ج - دراسة تأثير العوامل المؤثرة على شكل الحرب، ومنها: المفاجأة والمدى الزمني والمدى الجغرافي للحرب والأسلحة الاستراتيجية.
د - مطالب الكفاءة القتالية ومستوى الاستعداد القتالي للقوات المسلحة وتشمل وسائل إعداد الفرد المقاتل وتهيئة القوات بعناصرها المختلفة ومدى استعدادها القتالي عند الحرب.
ه - المسائل الأساسية في تنظيم وتطوير القوات المسلحة وتشمل قواعد البناء التنظيمي للقوات وأساليب تطويرها.
و - الأساليب الاستراتيجية لإدارة الحرب وتشمل الأفكار الاستراتيجية الحيوية المتضمنة لنظريات فن الحرب وتطبيقها على مستوياته المختلفة.
ز- التدابير الرئيسية لإعداد الدولة اقتصادياً ومعنوياً للحرب ويشمل الإعداد الصناعي والزراعي وإعداد الدولة كمسرح للحرب، والإعداد المعنوي والوقائي لجماهير الشعب(7).
ثانياً: الاستراتيجية العسكرية:
وهي تختص بمرحلة الصراع المسلح أي أن مداها ونطاقها محدودان بالحرب واستخدام الوسائل والإمكانات العسكرية لتحقيق هدف الاستراتيجية العليا معتمدة في ذلك على التقدير السليم والمواءمة الناجحة بين وسائلها وإمكاناتها وبين غاياتها، فالاستراتيجية العسكرية هي أداة الاستراتيجية العليا لإحراز النصر في ميدان القتال وتحقيق هدف السياسة وهي تتبع لها وتعمل وفق مخططهاومنهجها كما أنها(8) تبحث في الأساليب والوسائل المتعلقة بالقضايا الآتية:
أ- طبيعة الحرب وفن إدارة الصراع المسلح - قواعد شن الحرب - طاقتها - مداها الزمني - مداها الجغرافي.
ب - الأهداف والمهام الاستراتيجية التي على القوات تنفيذها لكي تحدث تغييرات حادة في الموقف العسكري والسياسي عموماً أو في الموقف الاستراتيجي في جبهة القتال.
ج - كيف تبنى القوات المسلحة وكيف يتم تطويرها بحيث تستطيع تحقيق المهام والأهداف.
د - ماهو التوزيع المناسب للقوات جغرافياً وهو مايسمى بالتوزيع الاستراتيجي وهو أمر حيوي لكي تستطيع القوات مواجهة الضربات المفاجئة للعدو أو مواجهة الفترة الأولية للحرب عامة ويرتبط بذلك أن يبحث أيضاً في الأسلوب الاستراتيجي لاستخدام القوات.
ه - مبادئ التخطيط الاستراتيجي للأعمال القتالية وأساليب إدارة الصراع المسلح.
و - نظام إعداد الدولة للحرب الذي يمنحها القدرة على ردع العدوان في أية لحظة وتحقيق النصر في أقل وقت ممكن، والصمود لحرب طويلة الأجل، والتقليل من الخسائر الناتجة من ضربات العدو والمحافظة على مستوى عال من الروح المعنوية وتصميم الشعب على تحقيق النصر في الحرب.
ز- دراسة الأمور المتعلقة باحتياجات القوات المسلحة في الحرب من إمدادات وصناعات حربية وطرق وخطوط مواصلات.
ح - القيادة الاستراتيجية للحرب التي سوف تسيطر باستمرار على إدارة الحرب.
ط - دراسة العدو من جميع النواحي العسكرية والاقتصادية والمعنوية والاجتماعية ودراسة أهدافه(9).
وتشترك الاستراتيجية العسكرية في تحديد وتقرير نمط الصراع، وهل سيكون هجوماً عنيفاً مباشراً أم غير مباشر أم دفاعياً مخاتلاً في حين تنفرد بالتحكم والتوجيه لمسيرة التكتيك بصفته تابعاً لها وواحداً من وسائلها التطبيقية العملية الحاسمة للوصول للهدف(10).
أقسام الاستراتيجية العسكرية أو ما يسمى ب (الفن العسكري):
يقسم الاستراتيجيون الغربيون الفن العسكري إلى فروع ثلاثة يرتبونها تنازلياً، وهي: الاستراتيجية الكبرى(العليا)، والاستراتيجية، والتكتيك(11) ويقابلها في المدرسة الشرقية الاستراتيجية، والفن التعبوي (العمليات)، والتكتيك وسوف نبين مفهوم هذه الفروع ومحتوياتها باختصار:
أولاً: الاستراتيجية الكبرى (العليا):
وهي تنسيق وتوجيه كافة مصادر ثروة أمة أو مجموعة من الأمم بهدف تحقيق الغاية السياسية للحرب.
والاستراتيجية الكبرى يجب أن تقدر الموارد الاقتصادية ، وكذا الموارد البشرية للدولة ، وتستغل القوة المعنوية في الأمه باعتبارها المصدر الحقيقي للصمود وإدارة القتال(12).
ثانياً: الاستراتيجية:
وهي فن توزيع واستخدام الوسائل العسكرية مثل القوات المسلحة والإمدادات لتحقيق أهداف السياسة.
ثالثاً: التكتيك:
وهو عبارة عن التدابير أو الترتيبات الخاصة بالقوات المسلحة وقيادتها والعمليات التكتيكية أثناء القتال الفعلي.
وخلاصة القول وبعبارة موجزة يمكن التمييز بين أفرع الفن العسكري كما يلي:
أ- الاستراتيجية الكبرى (العليا) تختص بالمسائل العليا أو (سياسة الحرب).(/2)
ب - الاستراتيجية هي التطبيق العملي للاستراتيجية العليا على المستوى الأقل وهو (قيادة الحرب) .
ج - التكتيك: هو التطبيق العملي للاستراتيجية على المستوى الأقل وهو(القتال الفعلي)(13).
أهداف الاستراتيجية العسكرية :
تهدف الاستراتيجية إلى تحقيق هدف السياسة عن طريق الاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل المتوفرة ، وتختلف الأهداف من سياسة لأخرى، فقد لا يتحقق الهدف إلا باتباع أسلوب هجومي لاحتلال أراضي الغير، أو باتباع أسلوب دفاعي لحماية أرض الوطن ومصالح وقيم الأمة. وقد يكون الهدف سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو معنوياً وقد يكون صغيراً كاحتلال جزء من أرض دولة ما أو كبيراً كالقضاء على كيان تلك الدولة نهائياً ، وقد يكون من الضروري أحياناً للوصول إلى الهدف النهائي للسياسة تحديد وتحقيق عدد من الأهداف المرحلية التي يؤدي تحقيقها إلى إحداث تغييرات حادة وهامة في الموقف الاستراتيجي أو إلى توجيه الوضع الاستراتيجي باتجاه يؤدي حتماً إلى الهدف النهائي(14).
وسائل الاستراتيجية العسكرية:
تتباين الوسائل التي تستخدمها الاستراتيجية لتحقيق هدفها تبعاً للتباين في طبيعة وأهمية ذلك الهدف، وتبعاً للإمكانات والقدرات المتاحة، وللظروف والأجواء المحلية والدولية السائدة. فلقد كان بعض الاستراتيجيين القدماء مثل كلاوزفتز يرون أن الوسيلة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة الحاسمة للوصول للهدف في حين يرى المحدثون منهم أن الحل العسكري أو وسيلة القوة العسكرية هي واحدة من الوسائل، وأن الأفضل عدم اللجوء إليها فعلاً إلا بعد عجز واستنفاذ الوسائل الأخرى من دبلوماسية وسياسية واقتصادية ونفسية عن تحقيق الهدف(15).
والاستراتيجية الناجحة هي التي تنجح في تحقيق وتأمين التوافق والتلاءم بين الوسيلة والهدف، وفي خلق التأثير النفسي الكافي لزعزعة ثقة الخصم بنفسه وتفتيت إرادته وعزيمته وحرمانه من حرية العمل مما سيؤدي حتماً إلى قبوله بالشروط المفروضة عليه، فمن الضروري عمل دراسة واعية للموقف بشتى جوانبه لمعرفة العدد المطلوب قهره وتمييز نقاط ضعفه الأكثر حساسية مع تحليل عميق للتأثيرات الحاسمة التي يمكن أن تحدثها الوسيلة المختارة ، وهذا يقتضي إنشاء مخطط استراتيجي يتضمن كافة الأعمال الممكنة وردود الأفعال المتوقعة عليها محلياً ودولياً لوضع الحلول المناسبة كي يكون المخطط مترابط الاجزاء وقادراً على مواجهة أية مفاجئات أو ردود فعل غير ملائمة(16).
مبادئ الاستراتيجية العسكرية :
لكل موقف استراتيجية تلائمه ولكل دولة استراتيجية تناسبها وتتلائم مع ظروفها وقد يكون اختيار هذه الاستراتيجية أو تلك صائباً في مكان وزمان معينين وغير صائب في زمان أو مكان آخر فالاستراتيجية تتأثر بعوامل الزمان والمكان وعقلية المخططين وظروف العصر وتقنيته وغير ذلك من العوامل، ولقد حدد كلاوزفتز مبادئ الإستراتيجية بثلاثة عوامل وهي:
أ- تجميع القوى.
ب - عمل القوى ضد القوى.
ج - الحل الحاسم عن طريق المعركة في الحقل الرئيسي.
ونلاحظ أن كلاوزفتز وهو العسكري الألماني يعبر من خلال مبادئه عن روح العسكرية الألمانية العنيفة التي تعتمد على القوة.
أما ليدل هارت فقدم ثمانية عوامل هي:
أ- مطابقة الجهد مع الإمكانات .
ب - متابعة الجهد وعدم إضاعة الهدف.
ج - اختيار الخط الأقل توقعاً.
د - استثمار خط المقاومة الأضعف.
ه - اختيار خط عمليات يؤدي إلى أهداف متناوبة.
و - المرونة في المخطط والتشكيل بحيث يتلاءمان مع الظروف.
ز - عدم الزج بكافة الإمكانات إذا كان العدو محترساً.
ح - عدم تسديد الهجوم على نفس الخط أو بنفس طريقة الهجوم السابق.
ونلاحظ أن ليدل هارت صاحب العقلية الإنجليزية عبر عن مبادئه بالعقلية المجبولة على الحرص والتي تسعى للحصول على الكثير بأقل الخسائر.
أما ماوتس تونج فقد حدد للاستراتيجية ستة عوامل تختلف في كثير عن سابقاتها هي:
أ- الانسحاب أمام تقدم العدو.
ب - التقدم أمام العدو المتراجع.
ج - استراتيجية واحد ضد خمسة.
د - تكتيك خمسة ضد واحد.
ه - التمون من تموين العدو نفسه.
ز - تلاحم تام بين الجيش والشعب.
ونلاحظ عقلية ماوتس تونج الصينية المأخوذة من أفكار قدماء العسكريين والمفكرين الصينيين التي تعتمد على الإمكانات البشرية الهائلة وإمكانيات التقنية المحدودة.
أما لينين وستالين فوضعا ثلاثة عوامل هي:
أ- تلاحم معنوي بين الجيش والشعب في حرب شاملة.
ب - أهمية حماسة المؤخرات.
ج - ضرورة القيام بإعدادات نفسية قبل البدء بالعمل العنيف.
ونلاحظ أن المبادئ الروسية تهتم بقوة الشعب التي لا تقل عن القوة العسكرية من أجل الدفاع عن الوطن.
أما الاستراتيجيون الأمريكيون فوضعوا مبدأين فقط هما:
أ- ردع متدرج.
ب - رد مرن.
وقد استوحوا ذلك من ظروفهم في ظل أوضاع التوازن النووي في العالم.(/3)
ومن خلال استعراضنا للمبادئ الموضوعة سابقاً نلاحظ بالإضافة إلى اختلافها تأثر واضعيها بظروف بلادهم وعقائدهم وقيمهم العسكرية الموروثة وتأثر بعضهم بالأوضاع الخاصة التي واجهت كفاح بلادهم وبذلك فهي لا تشكل قوانين عامة يمكن تطبيقها بمجملها في جميع الظروف وعلى كافة الظروف وعلى كافة الحالات(17).
العوامل المؤثرة على الاستراتيجية العسكرية:
تتأثر السياسة العسكرية بالعوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية وبما أن هذه العوامل ليست ثابتة فإن قواعد الاستراتيجية العسكرية قد تتغير هي الأخرى؛ لذلك فإن الاستراتيجية الحديثة تتطور جنباً إلى جنب مع تطور الاقتصاد والسياسة وكذلك فإن تطورات العلم والتكنولوجيا تؤثر تأثيراً مباشراً في الاستراتيجية فهي تعتمد على أحدث الإنجازات في العلوم الحديثة وترتبط ارتباطاً مباشراً بالعلوم الاجتماعية والطبيعية(18).
@ الهوامش:
1- من أشهر الكتاب النظريين في العالم في مستهل القرون الحديثة ولد في فلورنسه في عام 1469م وأصبح من كتابها ومن المقربين إلى أسرة مديشي الحاكمة فيها ومن أشهر كتبه (الأمير) و (المطارحات).
2- حرب السنوات السبع (1756-1763) وقد دارت على القارة الأوروبية بين فريدريك الأكبر ملك بروسيا ومعه بريطانيا وبين حلف يضم النمسا وروسيا وفرنسا والسويد وسكسونيا وتحقق النصر لبروسيا.
3- الاستراتيجية وتاريخها في العالم - ليدل هارت، ص:476 .
4- أصول المعرفة العسكرية - د.ك. باليت ص: 91 .
5- استراتيجية الفتوحات الإسلامية - وليد محمد جرادات، ص: 12 .
6- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص: 15 .
7- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص: 15،16 .
8- استراتيجية الفتوحات الإسلامية - الرائد وليد محمد جرادات ص:12 .
9- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ ص: 30-31 .
10- مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية - أندريه بوفر، ص: 78 .
11- هناك مدرسة تقسم الفن العسكري إلى فرعين فقط هما الاستراتيجية والتكتيك.
12- مدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص: 28 .
13- مدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص: 32 .
14- استراتيجية الفتوحات الإسلامية - الرائد وليد محمد جرادات، ص: 13 .
15- الاستراتيجية وتاريخها في العالم - ليدل هارت، ص: 76 .
16- مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية -أندريه بوفر، ص: 33-34 .
17- استراتيجية الفتوحات الإسلامية - الرائد وليد محمد جرادات، ص: 14-16 .
18- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية - اللواء محمد جمال الدين محفوظ، ص: 29-30(/4)
الاستسقاء في بلاد الكفر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/مكروهات الصلاة
التاريخ ... 8/11/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضيلة الشيخ ... أصاب البلاد هذه السنة جدب وجفاف وقد أعلنت الحكومة حالة الجفاف هذا العام. فضيلة الشيخ ما حكم صلاة الاستسقاء في بلاد الكفر؟؟ لا سيما وأن أحد المساجد لبى دعوة الحكومة في طلب الاستسقاء الجماعي مع أصحاب الديانات الأخرى كالنصرانية والبوذية واليهودية وغيرها، مما أدى إلى حدوث نزاع بين المسلمين حول حل ذلك من عدمه. فما حكم الاستسقاء في بلاد الكفر؟ وإن كان الجواب بالجواز فما حكم المشاركة مع أصحاب الديانات الأخرى في تأدية هذه الشعيرة؟ آمل الإجابة بسرعة ليفض النزاع. شكر الله سعيكم.
الجواب
صلاة الاستسقاء سنة ثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أجدبت الأرض وحل الجفاف وقلت المياه أو تأخر المطر عن وقت نزوله، والسنة أن تصلى جماعة وإن قل العدد واحد يخطب واثنان يستمعان، وأجاز الإمام مالك بن أنس وأحمد بن حنبل أن يخرج أهل الذمة مع المسلمين في الاستسقاء ليؤمنوا على الدعاء ولا يجوز منعهم إذا طلبوا الخروج مع المسلمين (لأنهم يطلبون كما يقول بن قدامة في المغنى – أرزاقهم من ربهم سبحانه ولا يبعد أن يجيبهم الله لأن الله ضمن أرزاقهم كما ضمن أرزاق المؤمنين) قال تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون" [الذاريات:22] وقال "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" [هود:6] وأجاز الإمام أبو حنيفة والشافعي أن يخرج أهل الذمة مع المسلمين في صلاة الاستسقاء على أن يكون هؤلاء في مكان وأولئك في مكان فلا يجتمع المسلمون والكفار في مصلى واحد. هذا كله إذا كان للمسلين دولة تحكمهم بالإسلام وأهل الذمة من الرعية، أما إذا كان المسلمون أقلية تحكمهم دولة كافرة ودعت هذه الحكومة المسلمين أن يصلوا صلاة الاستسقاء فتجوز طاعتها في ذلك لأنها أمرت بمعروف في الشرع وكل من أمرنا بمعروف أو دعانا إليه وجبت طاعته مسلماً كان أو كافر، قال تعالى: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة من الحياة الدنيا" [النساء:94] وفي الحديث الصحيح "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" البخاري (2955)، ومسلم (1839) وهو عام في كل أنواع الطاعات والمعاصي ولكل بشر لأنهم مخلوقون لله وحده فتجب طاعتهم لأمره إذا أمروا به.
والكفار من أهل الكتاب أو غيرهم يدعون ربهم بل يخلصون له الدعاء عند الشدائد ويجيبهم الله سبحانه كما قال تعالى عن المشركين: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" [العنكبوت:65] ويقول سبحانه عن نفسه "أمن يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " [النمل:62] فالاضطرار وحصول السوء من الأمراض والأسقام والمجاعات والجفاف ليس خاصاً بالكفار وحدهم ولا بالمسلمين دون غيرهم فالكل يطلب كشف الشدائد ورفع الأضرار في حين الرخاء أو الشدة والمسلمون هم الذين يوحدون الله في الدعاء في الرخاء والشدة معاً.
وبعد هذا كله فيجوز لكم أن تصلوا صلاة الاستسقاء ولو أن الداعي لكم حكومة كافرة أو يشارككم أهل الديانات الأخرى، والله أعلم.(/1)
الاستشراق
الأستاذ أنور الجندي
لقد تبين من الدراسات الواعية المتعددة مدى خطر الاستشراق على الفكر الإسلامي، ولم تبق إلا دعوى "الدور الذي قاموا به في تحقيق التراث الإسلامي" ومنها تبويب بعض كتب السنة وغيرها. ولا ريب أن الاستشراق يعمل على إيجاد حصيلة واسعة من مفاهيم الإسلام بدأها بترجمة القرآن والحديث النبوي وبعض الكتب المعروفة، والهدف هو إحكام الرد على ما في هذه من قضايا معارضة للمسيحية من ناحية أو معارضة للنفوذ الأجنيب من ناحية أخرى والحقيقة أن هذه الأعمال لم تكن خاصة لوجه العلم وهل بالرغم من ضآلتها بالنسبة لعمل الاستشراق الواسع في ابتعاث كتب التراث المتصلة بالفلسفة والتصوف الفلسفي والفرق المتصارعة والباطنية وغيرها فإنها عمل مشكور لهم ولكنه لا يشكل ظاهرة يمكن أن تحول دون الغرض الحقيقي للاستشراق بما يخدع به دعاة التغريب ذوي النيات الجسنة منقومنا.
وهذه مجموعة من الحقائق:
أولاً: المستشرقون يدرسون قضايا الإسلام (لغته وتاريخه وشريعته وتراثه) بروح غير علمية، تقوم إما على سوء الفهم أو سوء النية، وهم لا يتصورون أي شيء إلا في حدود مفاهيمهم المسيحية اليونانية وعقليتهم الغربية التي تعودت على ربط الظواهر الإنسانية بالجنس واللغة القومية والبيئة في حدود المفهوم المادي القائم على المحسوس ومن هنا كان الإنسان عندهم ظاهرة قومية نشأت عن ظروف اقتاصدية ومن شأن هذا التصور أن يجعل كا أحكامهم على تاريخ الإسلام وشريعته وقيمه خائطة ومنحرفة لأن الإسلام يقوم على تصور جامع بين الروح والمادة والعقل والقلب.
ثانياً: قدم المستشرقون كتابات أعطوها صفة العلم في مختلف المسائل الإسلامية تدرس في بعض الجامعات على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، جاء بعضها محرفاً وبعضها لا يقيد حكمة الشارع ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح.
ثالثاً: أخضع المستشرقون تاريخ الإسلام لمفهوم المسيحية وتفسيراتها ثم أخضعوها لتفسيرات المادية الغربية ثم التفسيرات الماركسية.
رابعاً: دخل المستشرقون إلى مجامع اللغة وحولوا أهدافهم إلى مناهج براقة سواء في أحياء العامات أو الدعوة إلى تعديل النحو أو اللغة الوسطى أو الكتابة العربية المعاصرة وكلها محاولات ترمي إلى إيجاد فجوة بين لغة القرآن ولغة الكتابة.
ومن قبل ذلك تسللوا للبحث عن العاميات ولبسوا ملابس التجار والدبلوماسيين وصاروا يعملون بشتى الوسائل لجمع الأمثال العامية والمواويل بهدف مسموم هو القول بأن العامية لغة لها تراث.
وقد أولوا اهتماماً شديداً لدراسة اللهجات في البلاد العربية وعقدوا مؤتمراً خاصاً لذلك في مدينة ميونخ بألمانيا 1957 م وكتب المستشرقون في ذلك كتباً منها: كتاب في لغة الغجر في البلاد العربية ودراسات في اللهجات الأمهرية. السحرية والقطرية وغيرها من اللهجات المستعملة في جنوب الجزيرة العربية وعلى أطرافها.
والهدف في التركيز على اللهجات العامية واضح فهم الذين قدموا تلك الفلسفة الضالةة التي تقول إن العامية أقدر على تصوير المشاعر، مع أن هذه المشاعر التي تصورها العامية هي المشاعر الساذجة ومشاعر طفولة البشرية أين منها ذلك الشعر الرصين والبيان العربي الذي يحمل صور المجتمع الإسلامي والنفس الإسلامية في مراحل الرشد الفكري والهدف هو إضعاف لغة القرآن وتمييعها بالتحريض على استعمال اللهجات وتحطيم قواعد اللغة باسم التيسير.
خامساً: أثار الاستشراق دعوات مسمومة للتشكيك في الإسلام والطعن في مبادئه وتشويه الحضارة الإسلامية. ومن ذلك دعوتهم إلى رفع لواء الإنسلاخ من الماضي والتراث وإحياء النزعات القديمة كالفرعونية والفينيقية والآشورية وأمثالها والغض من شأن الشعوب الملونة في العالم الإسلامي ووصفهم بأنهم أقل قدرة من الجنس الأبيض (الأوربي) في مجال السياسة والمدنية والعلم والفن. والعمل على فصل الدين عن الدولة وإبطال فريضة الجهاد وإثارة الشبهات حول القرآن بطرح سموم على أيدي مسلمين وتوحي ببشرية القرآن للتشكيك في أنه من الله تبارك وتعالى والقول بتأثر الثقافة الإسلامية بالعقلية الإغريقية والفارسية، وهم في سبيل ذلك يعملون على انتزاع نصوص معينة من سياق المصادر لتأييد وجهة نظرهم ويعملون على إثارة التناقضات بين النصوص والمصادر.
سادساً: المبالغة في تمجيد الحضارات الشرقية القديمة السابقة للإسلام والإدعاء بأن الإسلام أخذ منها والبحث عن الأثر الغربي والأوربي في الفكر الإسلامي والمبالغة في تحديده وإكباره وجعله شيئاً أساسياً بالرغم من أنه أقل من ذلك ومحاولة إرجاع العلوم العربية إلى أصول يونانية.(/1)
سابعاً: دراسة الحركات المضادة للإسلام والتوسع فيها كالفتن الأهلية والخلافات المذهبية ومظاهر التفسخ والانقسام والإدعاء بأنها أبرز ظواهر تاريخ الإسلام مع أن تاريخ الإسلام حافل بالإيجابيات ومراحل القوة والتمكن وأن هذه الصور قليلة جداً وموجودة في تاريخ جميع الأمم والحضارات.
ثامناً: يدرس الاستشراق خصائص الفكر الإسلامي بروح خصومه وبفكرة مسبقة قائمة على أحكام قوامها سوء نية وعجز عن الإنصاف، ويعجز الاستشراق عن أن يتخلص من عواطفه الخاصة وهو يدرس مجتمعاً مختلفاً ومنهجاً متبايناً مع فكره ومنهجه.
تاسعاً: توسعة شقة الخلافات المذهبية بين المسلمين، بينما أن هذه الخلافات لم تصل إلى ما وصلت إليه بين فرق الأديان الأخرى وخاصة المسيحية لا في طبيعتها ولا في مداها فلا يوجد خلاف بين المسلمين على المبادئ الأساسية للإسلام مثل وحدانية الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والاعتقاد في أن القرآن الكريم هو كلام الله والإيمان باليوم الآخر. وإنما وجد الخلاف في الأمور التفصيلية فيما يعد أمراً طبيعياً في مجتمع إنساني يضم أناساً من مختلف هذه الخلافات اختلافات مذهبية لأنها ليست إلا خلافات فقهية محصورة في إطار ديني وقانوني عريض.
عاشراً: حاول الاستشراق الغض من عظمة الدعوة الإسلامية بإثارة شبهات متعددة منها محاولة الإدعاء بوجود صلة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني (وقد كشفت البحوث عكس دعوى الاستشراق فإن القانون الروماني الحديث مأخوذ من مذهب مالك نقله نابليون معه إلى أوربا) كذلك التشكيك في عالمية الرسالة الإسلامية بالقول بأن الآيات جاءت بعد استقرار الرسالة، والحقيقة أن آيات عالمية الرسالة كلها مكية، كذلك أثار الاستشراق الشكوك حول الكتب التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وزعموا أنها وضعت في صورتها الأولى بعد قرن من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذبتهم البحوث العلمية الحديثة التي أثبتت صحة هذه الرسائل.
حادي عشر: يذهب المستشرقون إلى أبعد حدود المغالطة حين يواجهون تاريخ الإسلام بأهوائهم فهم معجبون ببني أمية لأن أحدهم (أبا سفيان) كان عدو الرسول (ما كتبه هنري لامانس عن معاوية ويزيد).
أما عهد العباسيين فالدولة الإسلامية خرجت من يد العرب.
أما المغرب فيسمونها بلاد البربر وهذه التسمية دسيسة تافهة لأن أهل المغرب عرب وبربر ولكنهم مسلمون أولاً.
وهم لا يتحدثون عن الملوك الذين وطدوا الدولة بل عن الخارجين (بني رستم الخارجين أيام عبد الرحمن الداخل وبني مدرار أصحاب سلجمار) ويقولون عن المأمون أن دولته فارسية ونهضة العلوم في عصره نهضة غير عربية، ولا يتحدثون عن الرشيد إلا عن نكبة البرامكة وينقلون رسالة مذوبة عن أبي يوسف إلى ابن المقفع في معماملة أهل الذمة لكي يؤكدوا ما يدعيه المستشرقون من سوء حالتهم في ظل الإسلام ويهتمون بمدرسة حران الفلسفية ويقفون طويلاً عند المعتزلة وينقلون عنهم رأي المسعودي دون غيره ويتحدثون عن المعتصم والأتراك، ويتخيرون فقرأت من رسالة الجاحظ في فضلهم لا يوردون فقرة واحدة عن فضل العرب. أما القرامطة فهم عندهم طلاب عدل وإصلاح ويروون قصة مصرع الخليفة المتوكل برواية الطبري وتفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق بواية النويري وقصة القرامطة برواية الطبري ويأتي بخطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح وعندما يتحدثون عن الدول المنشقة التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية: الصفاريين والسلمانيين والطاهريين والبوهيين ويطلبون الوقوف عندهم لأنهم دول فارسية، في كتابة تاريخ المغرب حاولوا الوقيعة بين البربر والعرب وفي المشرق حاولوا الإيقاع بين العرب والفرس. ويعجبون بالفاطميين لأن مذهبهم لم يلق قبولاً من جماعة المسلمين وعندما يتحدثون عن الصليبيين يفخرون بأنهم قتلوا عندما دخلوا القدس 65 (ألفاً) من المسلمين.
ثاني عشر: وضعوا أساس الشبهات ثم نسبوها إلى كتاب عرب ومسلمين فالشعر الجاهلي والأدب الجاهلي أساسهما بحث عن انتحال الشعر لمرجليوث، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق أساسه كتاب عن الخلافة الإسلامية لمرجليوث. ومع المتنبي لطه حسين أساسه بحث لبلاشير، و...
ثالث عشر: غلبة التفسير المسيحي على التحليل والعرض، فدرمنجم يقول أن تعاليم أهل الكتاب هي التي لفتت نظر سيدنا محمد إلى الكمال الروحي والمثل الأعلى وجعلته يتحنث في الغار وهذا كذب صراح، كما يحاولون تصور أن القرآن جاء من الكتب السابقة وأن الهجرة كانت إلى الحبشة لأنها مسيحية، والحقيقة أن الدافع الحقيقي ليس لأن النجاشي مسيحي بل لأنه كان عادلاً قال النبي: لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق) ولذلك فليس للعاطفة الدينية أثر في تصرفاته وحاول درمنجم أن يستدل بأن الله رضي للناس الإسلام ديناً مع بقاء سائر الأديان التي سبقت وحدة مندمجة.(/2)
وهذا غير صحيح، لأن الإسلام جاء خاتماً للرسالات وداعياً أهل الكتاب للدخول فيه لأن دين الله الحق وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متصلاً بأهل الكتاب.
ويدعي مرجليوث أن النبي محمداً كان يعرف القراءة والكتابة ويتخذ من آية (اقرأ) مع أن اقرأ لا تعني قراءة المكتوب وإنما تعني قراءة ما يوحي إليه.
ومن أخطائهم إدعاؤهم بأن العرب كانوا قبل الإسلام على استعداد للملك والنهضة وأن دور النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من قيادة جماعة مهيأة، وذلك باطل صراح فإن العرب في مكة أمضوا ثلاثة عشر عاماً في محاربة الدعوة الإسلامية والإصرار على عبادة الأصنام حتى هاجر النبي إلى مجتمع آخر هو الذي تقبل دعوته. ولقد كانت دراستهم لأحوال العرب قبل الإسلام هو الذي شكل للعرب وجودهم الحقيقي، وأن دعوة الإسلام غلى التوحيد كانت شيئاً جديداً بالنسبة للوثنية العربية.
وهذه محاولة مضللة في الاهتمام بالغساسنة والمناذرة وإعلاء الجاهلية واعتبار الإسلام اقتباساً منها.
ومن ذلك إنكار الوحي للوصول إلى القول بأن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم.
وكل محاولات الاستشراق في القول بأن الأفكار الأساسية للإسلام مستقاة من الكتاب المقدس، أو أن طابع الإنجيل موجود في القرآن أو ان هناك أصلاً يهودياً للإسلام (بروكلمان – فون كريمر – مونتجمري وات) أو بروكلمان فكل هذا باطل.
ذلك لأن مصدر الأديان السماوية واحد ولذلك فلابد أن تكون هناك علاقة مشتركة لأن الدين كله من عند الله وهو التوحيد ولكن رؤساء الأديان حرفوه، أما الإسلام فقد حفظه الله تبارك وتعالى.
وقد عجز المستشرقون مع الأسف – كما يقول محمد أسد (ليوبولد فابس) عن استيعاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته الأساسية ومن ثم فإنهم لا يستطيعون أن ينفذوا إلى أعماق الحياة الإسلامية ويستحيل على المستشرق أن يفهم الوحي، أو الهجرة، أو ينفذ إلى أعماقها لأنه بعيد بحكم تكوينه النفسي وتفكيره عن هذا النظام.
ولهذا اعتبر (توينبي) الهجرة مبدأ التدهور في تاريخ الرسالة المحمدية ويزعم مونتجمري وات حين يتحدث عن المعاهدة التي عقدها بين المسلمين واليهود بعد الهجرة أن كلمتي إسلام ومسلم لم تكن مستعملة في الفترة المبكرة من العهد المدني ويرجع هذا إلى أنه تجاوز في الترجمة وحرف.
ومن الشبهات التي يثيرها المستشرق فون كريم الإدعاء بأن الإمامين الأوزاعي والشافعي وقد ولدا في سوريا كانا على علم بكثير من قواعد القانون الروماني البيزنطي وقد ثبت أن هذا القول مجرد أسطورة فمن الثابت أن مدرسة بيروت لم تكت موجودة عند الفتح الإسلامي للشام وأن الشافعي والأوزاعي لم يعرفا القانون البيزنطي.
رابع عشر: أن القول بأن مصادر النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هي التوراة والإنجيل من المسائل التي يكاد الاستشراق يجمع عليها ويرددها من كانوا من مستشرقي اليهود أو النصارى والواقع أن هذا الاتهام باطل بدليل واحد أن مفهوم القرآن للتوحيد يختلف عن مفهوم التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار أو الأناجيل الموجودة في أيدي الناس الآن فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم وحمل القرآن لواء الدعوة إلى التوحيد المطلق، كما يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: إله العالم كله واحد. إله مجرد من المادة وعن التركيب. كان الإله عند اليهود (يهوه) وهو الههم وحدهم وقد ظلوا على ذلك ردحاً من الزمن حتى جاء النبي (إليجا) أول من جهر بأنه إله العالم كله وظهر بشيء غريب أيضاً على اليهود هو أن حكم الله يجري على الملوك كما يجري على أبناء الشعب ولهذا لم تكن الديانة اليهودية موحدة بالمعنى الحقيقي وإنما كانت ديانة توحيد بالنسبة لجيرانها فقد كان لدى الآخرين آلهة متعددة للزرع والمطر والخصوبة والنجوم كل له إله خاص، وإذن فالتوحيد الإسلامي نوع فريد في كل ما أعلن من صفات الله خالق الكون سبحانه.
المسألة الثانية: أن القرآن لم يذكر قط قصص الإسرائيليين بل ذكر قصص داود وصالح والخضر وشعيب وسبأ، أما الكتاب المقدس فقد اقتصر على ذكر شعيب المختار وتاريخه وهو لم يتم بوضعه الحالي إلا بعد القرن الثاني الميلادي.
ولأنهم ينكرون الوحي السماوي فإنهم يبحثون عن مصدر معلومات الثرآن ولا يزالون مختلفين. قال مونتجمري وآت: أن محمداً نال معلومات ممتزجة من اليهودية والمسيحية معاً، وبذل جهداً واسعاً في سبيل الاستدلال على ذلك، كذلك فعل (درمنجم) ولكن الوقائع في المقارنة بين القرآن من ناحية وبين التوراة والإنجيل تكذبهم في هذا الإدعاء العريض.
خامس عشر: في محاولة لتأييد النفوذ الأجنبي الذي فرض القانون الوضعي كانت حملة الاستشراق على الشريعة الإسلامية، جولدزيهر وشاحت وغيرهم الذين كانوا ينشرون دعياتهم الرامية إلى القول بأن الفقه الإسلامي جامد ولم يتطور وسيبقى جامداً إلى الأبد وأنه لا يحتوي على قواعد عامة وإنما يتناول النوازل الخاصة.(/3)
وذهب بعضهم إلى القول بأنه لا يوجد فكر سياسي إسلامي، وإنما الذي عرفه المسلمون هو الفكر الفارسي واليوناني وقد كذبت الحقائق الناصعة دعاوي الاستشراق وكتب كثيرين كاشفين عن عظمة الشريعة الإسلامية وقدرتها على الاستجابة للعصور والبيئات وكيف أن للمسلمين فكرهم السياسي الخاص ومن أبرز هذه الدراسات كتابات الدكتور ضياء الدين الريس.
كذلك فإن مؤتمرات دولية من رجال القانون عقدت خلال القرن الرابع عشر الهجري شهدت بأصالة واستقلال وعظمة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأكدت أنها شريعة قائمة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها خلافاً لما قال خصومها حية وقابلة لمسايرة الحياة الاجتماعية في إطار القواعد الثابتة وأن مبادئها لها قيمة حقوقية تشريعية لا مراء فيها.
سادس عشر: كذبت الحقائق دعاوي الاستشراق في أن التصوف الإسلامي أخذ من الافلاطونية الحديثة أو مذاهب المسيحية أو أن البلاغة العربية أخذت من كتاب الخطابة لأرسطو أو أن الفقه الإسلامي أخذ من مدونة جوستنيات.
كذلك كذبت الوقائع دعاوي الاستشراق وأتباعهم عن إسقاط الرواية الإسلامية لشعر عصر البعثة النبوية وما كان منه طعناً على الإسلام وهجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن الإسلام لم يصادر هذا الأدب والدليل ما رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية من قصائد المشركين واليهود وهي لا تقل في الإحصاء عن قصائد الشعراء مع النبي وخاصة في موقعتي بدر وأحد.
سابع عشر: ليس أدل على سوء نية الاستشراق في البحث من إصرار لويس ماسنيون على متباعة آثار الحلاج خلال أربعين سنة حتى نشر ذلك المجلد الضخم في 1400 صفحة ثم أخذ يتتبع متروكاته فطبع ما ورد عنه في الفقرات النثرية ثم نشر ديوانه الشعري وقد جمعها قطعاً من نحو مائة مؤلف بين مخطوط ومطبوع.
وقد ركز اهتمامه على المقاطع التي يوضح بها الحلاج اتحاده بالله بل معادلته له به (جل شأن الله عن ذلك وعلاً) كذلك ما حرص الاستشراق وأتباعه من إبراز الشخصيات المعادية للسنة وللإسلام مثل أبحاثهم عن مسيلمة الكذاب، وعن عيلان الدمشقي والإشادة بهما أو كذاب اليمن الأسود العنسي ووصف كل منهم بالبطولة مع أنهم جميعاً خارجون عن مفهوم الإسلام الصادق.
ثامن عشر: لقد تجمع في تحرير دائرة المعارف الإسلامية أخبث وأخطر رجال الاستشراق من يهود وغيرهم ممن يكنون الكراهية للإسلام ولذلك فقد حرصوا على صنع مواد الدائرة بمفاهيم كنسية ويهودية وتأخذ دائرة المعارف الإسلامية القصة اليهودية للعهد القديم في خلق آدم عليه السلام فيحيلها مصدراً لقصة آدم في دائرة معارف إسلامية.
كذلك فهم يأخذون وجهة نظر اليهود في إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويزيفون مفهوم فلسطين وعروبتها ويحاول الاستشراق اليهودي إعطاء فكرة للعالم أن فلسطين كانت يهودية قبل الإسلام.
ويعمل رونسون في ركتابه عن الرأسمالية والإسلام تشويه التاريخ الإسلامي ورفع العنصر اليهودي على حساب العرب.
تاسع عشر: حرص الاستشراق على تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول على أنه مجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله، وهم في كل محاولاتهم المسمومة للانتقاص من الإسلام ولغته وتاريخه وتراثه يخضعون النصوص للفكرة التي يفرضونها مع تحريف حين لا يجدون مجالاً للتحريف وتجمهم في المصادر التي ينقلون منها فهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخه الفقه ويصححون ما نقله الدميري في كتاب الحيوان (وهو ليس ذا قيمة علمية صحيحة) ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ كل ذلك انسياقاً مع الهوى وانحرافاً عن الحق.
وهم يستخدمون كتب التراث استخداماً خبيثاً فيبرزون كل ما يفرق ويخفون كل ما يجمع ويغلب عليهم سوء الظن وسوء الفهم والهوى.
العشرون: يحاول كل من الاستشراق المسيحي خطة والاستشراق الشيوعي خطة مختلفة والاستشراق الصهيوني خطة ثالثة، كل منها يهدف إلى تحقيق غرض خاص ولكنها جميعاً تطبق على الإسلام بالعداوة والخصومة والحقد الدفين.(/4)
الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري
المؤلف : الدكتور محمود حمدي زقزوق
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول : يتناول الأول منها نظرة تاريخية لنشأة الاستشراق وتطوره، ثم يدرج المؤلف إلى تفصيل موقف المستشرقين من الإسلام في الفصل الثاني، أما الفصل الأخير فيوضح موقف المسلمين من الاستشراق.
المختصر المفيد للكتاب: يشكل الاستشراق الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد للتنصير والاستعمار، وتغذي عملية الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وتشكل المناخ الملائم من أجل فرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم والمصنع الفكري الذي يمد المنصَّرين والمستعمرين بالمواد يسوِّقونها في العالم الإسلامي لتحطيم عقيدته، وهدم عالم أفكاره، وقد جاء هذا الغزو الثقافي ثمرة لإخفاق الغزو العسكري وسقوطه، ولتربية جيل ما بعد الاستعمار .. لقد تطورت الوسائل وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات ، منها حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ثم دراسته وتحليله مقارناً مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار السياسي، ومن ثم تُبنى على أساس ذلك الخطط والاستراتيجيات، وتحدد وسائل التنفيذ. لقد أصبح كل شيء خاضعاً للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والدراسات الإنسانية أصبحت توازي تلك المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة حيث لا مجال للكسالى والنيام والعاجزين الأغبياء في عالم المجدين الأذكياء. لقد اكتفينا بمواقف لرفض والإدانة للاستشراق
والتنصير، اكتفينا بالانتصار العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيراً ولا نزال في التحذير من الغارة على العالم الإسلامي القادمة من الشرق والغرب دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث في هذا الموضوع، أو إيجاد وسيلة صحيحة في المواجهة، أو تحقيق البديل الصحيح للسيل الفكري والغزو الثقافي من هناك.. إلا من رحم الله من جهود فردية لا تفي بالغرض، فإذا كنَّا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح حيث يحاول بعضنا الوقوف أمامه للتبرك والمفاخرة دون أن تكون لدية القدرة على العودة من خلاله إلى أصولنا الثقافية المتمثلة في الكتاب والسنة، ويحاول آخرون القفز من فوقه ضاربين بعرض الحائط فُهوم علماء وجهود أجيال، بدعوى التناول المباشر، دون امتلاك القدرة على ذلك، فكيف يمكننا ، وهذا واقعنا وموقعنا، أن نواجه معركة الصراع الفكري، ونقدم فيها شيئاً؛ وإذا كان الكثير منا ما يزال يعيش على مائدة المستشرقين لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سُبقنا إليها، وإذا كانت مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات من وضعهم، كما أن الكثير من المخطوطات الإسلامية لم تر النور إلا بجهودهم على ما فيها ، فأنّى لنا الانتصار في معركة المواجهة العقائدية ؟ ! .(/1)
ويمكن لنا إذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين في تدوين السنة ووضع ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث الذي حفظ لنا السنّة إلى جانب بعض الدراسات الجادة في هذا الموضوع، فإننا لا نكاد نرى شيئاً يذكر، فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث، تضعيفاً أو تقوية لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنّة ومواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميته يبقى جهداً فردياً فكرياً دون سويّة الأمر المطلوب الذي يمكن من الانتفاع بكنوز التراث .. وأين هذا من عمل المستشرقين في إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، كعمل ضخم وكدليل علمي لا يستغني عنه أي مشتغل بالحديث .. لقد نجحت العقلية الأوربية بداية في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الاستشراق والمستشرقين إلى التحقيق والتمحيص والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاّ أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثقافي . ولقد نجحت العقلية الأوروبية، كما أسلفنا ، في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هذا النهج ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائز ثقافية عربية معبرة ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها؛ حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية ..ونستطيع القول: إن آثار الاستشراق وإنتاج المستشرقين لا يزال يحتل الكثير من مواقعنا الثقافية، وسوف لا يفيدنا في المواجهة مواقف الرفض والإدانة أو الهروب من المشكلة، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب في أنه لا يقتصر على تشخيص العلَّة ورصد آثارها فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى تحديد الأسباب التي أوجدتها، ومن ثم يصف العلاجيون الخطة التي لا مناص من التزامها في معركتنا الفكرية التي تستهدف وجودنا حيث نكون أو لا نكون .. وميزة هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم أن له صفة الأكاديمية، فقد اعتمد مؤلفه المنهج العلمي الوثائقي في التناول، وناقش المقدمات، وعقد المقارنات، وانتهى إلى النتائج، وقدم الحلول اللازمة بعيداً عن الانفعال والارتجال، لذلك نقول: إنها لا تكفي القراءة للكتاب بل لا بد من الدارسة له .. ومن ميزاته أيضاً أنه يُمكن أن يصل بالمثقف بشكل عام، والمثقف المسلم غير المخصص بشكل خاص إلى حد الكفاية في هذا الموضوع حيث إن الاطلاع على هذا القدر من المعلومات عن الاستشراق ومناهج المستشرقين يشكل ضرورة لكل مسلم، يبصره بالساحة الثقافية التي يتعامل معها، والخلفية الفكرية للصراع الحضاري.. خاصة وأن مؤلفه الأخ الدكتور محمود حمدي زقزوق يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد متخصصاً في هذه القضية الهامة، بعد أن عَرَف المستشرقين واطلع على إنتاجهم عن قرب بطبيعة متابعة دراساته العليا في الغرب، وأنه كان مقرراً للندوة التي دعت إليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في القاهرة لمناقشة إعداد موسوعة الرد على المستشرقين، وأعد التقرير عن المنهج العلمي الواجب اتباعه في إعداد الموسوعة .. وتبقى حاجة المكتبة الإسلامية قائمة لمجموعة من الكتب التي تعرض للقضايا الفكرية التي يعاني منها عالم المسلمين ، وتصل إلى حد الكفاية بالنسبة للمسلم غير المتخصص على حو هذا الكتاب بعيداً عن الانفعال والعاطفية وإثقال ذهنه بما ينفع وما لا ينفع. بقلم الدكتورعمر عبيد حسنة(/2)
الاستعاضة عن المسجد بقاعة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 20/8/1423هـ
السؤال
هل يجوز تأجير قاعة البلدية لإقامة صلاة الجمعة؟ في حين يوجد مسجد لا يبعد 500 متر، وذلك لخلافات شخصية مع إدارة المسجد.
إن مثل هذه الخلافات تحدث الآن بين مسلمين في الغربة من أجل التسلط والتحكم بدون عمل حساب أن أعمال المسلمين يجب أن تكون خالصة لوجه الله. رجاء توجيه كلمة بهذا الشأن، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
سبق أن أجبت على سؤال يقول: هل يجوز استئجار قاعة البلدية لإقامة صلاة الجمعة إذا لم يوجد مسجد؟ مع العلم أن هذه القاعة يمارس فيها الألعاب وغيرها قبل الصلاة أو بعدها.
فأجبت بالجواز ما دام لا يوجد مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، والقاعة في مثل هذه الحال هي مصلى، وليست مسجداً تأخذ أحكام المسجد كصلاة الركعتين عند الدخول ونحو ذلك.
ثم جاء سؤال آخر يعقب على ذلك السؤال، ويقول: هل يجوز تأجير قاعة البلدية لإقامة صلاة الجمعة في حين يوجد مسجد لا يبعد (500) متر، وذلك لخلافات شخصية مع إدارة المسجد؟
وأقول: إذا كانت الحال –كما ذكر السائل- في توضيحه فلا يجوز استئجار قاعة البلدية لغرض صلاة الجمعة حينئذ، والخلافات الشخصية مع مسؤولي المركز أو المسجد لا يجوز أن تكون سبباً لترك الجمعة أو تفويت فضل الصلاة في المسجد المبني لهذا الغرض، وتكثير سواد المصلين، وصلاة الجمعة إنما شرعت لغرض التعبد وسماع الخطبة لما فيها من أحكام ومواعظ واجتماع للمصلين، وتفقد أحوال بعضهم لبعض؛ لا سيما في ديار الغربة، وما دام الإمام –الخطيب- تصح الصلاة خلفه فلا يجوز التفرق نتيجة آراء شخصية، أو مذاهب فقهية، أو انتماءات سياسية، وفق الله الجميع، وهدانا لطاعته، آمين.(/1)
الاستعجال
معنى الاستعجال :
لغة : الاستعجال، والإعجال، والتعجّل كلها بمعنى واحد، وهو: الاستحثاث، وطلب العجلة أي السرعة، واستعجل الرجل الرجل حثّه، وأمره أن يعجل في الأمر ، ومنه قوله تعالى:
}وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ[11]{ [سورة يونس] أي: لو عجل الله للناس الشرَّ إذا دَعَوا به على أنفسهم عند الغضب، وعلى أهليهم، وأولادهم، واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير، فيسألونه الخير والرحمة؛ لقضي إليهم أجلهم، فماتوا.
اصطلاحًا : ومعناه في اصطلاح الدعاة: إرادة تغيير الواقع الذي يحياه المسلمون اليوم في لمحة، أو في أقل من طرفة عين دون نظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعداد جيد للمقدمات، أو للأساليب، والوسائل، بحيث يغمض الناس عيونهم ثم يفتحونها، أو ينامون ليلة ثم يستيقظون، فإذا بهم يرون كل شيء عاد إلى وضعه الطبيعي في حياتهم: زالت الجاهلية من طريقهم، ورفعت الراية الإسلامية من جديد، ووجد كل إنسان إنسانيته، وخلصت الفطرة منْ كل ما يكدرها ويعكر صفوها.
نظرة الإسلام إلى الاستعجال:
ولما كانت العجلة والاستعجال من طبيعة الإنسان بشهادة خالقه وصانعه، ومدبر أمره: }وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا[11]{[سورة الأسراء] }خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ{ [سورة الأنبياء] فإن الإسلام ينظر إلى الاستعجال نظرة عدالة وإنصاف، فلا يحمده بالمرة، ولا يذمه بالمرَّة، وإنما يحمد بعضه، ويذم البعض الآخر:
فالمحمود منه: ما كان ناشئاً عن تقدير دقيق للآثار والعواقب، وعن إدراك تام للظروف والملابسات، وعن حسن إعداد وجودة ترتيب.ولعل هذا النوع من الاستعجال هو المعنيُّ في قوله تعالى - حكاية عن موسى عليه السلام - :} وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى[83]قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[84]{ [سورة طه]إذ الظروف مناسبة، والفرصة مواتية، والعاقبة محمودة، والنفس صافية مشرقة، فما الذي يحمل موسى على التواني، والتأخير؟
والمذموم منه: ما كان مجرد فورة نفسية، خالية من تقدير العاقبة، ومن الإحاطة بالظروف والملابسات، ومن أخذ الأهبة والاستعداد.
وهذا النوع الأخير هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لخبّاب بن الأرت رضي الله تعالى عنه - وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو ما يلقاه هو وإخوانه من الأذى والاضطهاد، ويطلب منه أن يستنصر ربه، وأن يدعوه - قال له : [كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري وأبوداود وأحمد. وهو الذي نعنيه نحن هنا أيضاً.
مظاهر الاستعجال :
1- ضمُّ أشخاص إلى قافلة الدعاة قبل الاستيثاق ، والتأكد من مواهبهم، وقدراتهم، واستعداداتهم.
2- الارتقاء ببعض الدعاة إلى مستوى رفيع قبل اكتمال نضجهم، واستواء شخصيتهم .
3- القيام بتصرفات طائشة صغيرة تضر بالدعوة، ولا تفيدها .
آثار الاستعجال :
1- قد يؤدى إلى الفتور : وقليل دائم خير من كثير منقطع: [...وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ ]رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي وأحمد .
2- وقد يؤدي إلى موتة غير كريمة، وذلك حين لا يكون من ورائها عائد أو ثمرة: وهناك تكون المسئولية والمعاتبة بين يدي الجبار الأعلى، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله.
3- تعطيل العمل، أو على الأقل، الرجوع به إلى الوراء عشرات السنين: وذلك فيه ما فيه من استمرار تدنيس الحياة، والمضي في الاعتداء على الدماء، والأموال، والأعراض، وزيادة وضع الأحجار، والعقبات على الطريق.
أسباب الاستعجال:
1- الدافع النفسي : ذلك أن الاستعجال طبيعة مركوزة في فطرة الإنسان، كما قال تعالى: }خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ[37]{ [سورة الأنبياء] }وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا[11]{ [سورة الأسراء]} وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [11]{ [سورة يونس] وإذا لم يعمل الداعية على ضبط نفسه، وإلجامها بلجام العقل، والتخفيف من غلوائها؛ فإنها تدفعه إلى الاستعجال.(/1)
2- الحماس أو الحرارة الإيمانية : ذلك أن الإيمان إذا قوى، وتمكن من النفس؛ ولد طاقة ضخمة، تندفع - ما لم يتم السيطرة عليها وتوجيهها - إلى أعمال تؤذي أكثر مما تفيد وتضر أكثر مما تنفع.
ولعل هذا هو السر في أن الله سبحانه تولى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في المرحلة المكية إلى الصبر، والجلد، وقوة التحمّل فقال }وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا[10]{[سورة المزمل]} فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[60]{ [سورة الروم] }وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا[20]{ [سورة الفرقان]إلى غير ذلك من الآيات.
3- طبيعة العصر: فإننا نعيش في عصر يمضي بسرعة، ويتحرك فيه كل شيء بسرعة، فالإنسان يكون هنا وبعد ساعات يكون في أقصى أطراف الأرض، بسبب التقدم في وسائل المواصلات، والإنسان يضع أساس بيته اليوم، ويسكنه غداً، بسبب التمكن من وسائل العمارة الحديثة، وقس على ذلك أشياء كثيرة في حياة الإنسان، فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال لمواكبة ظروف العصر، والتمشِّي معها.
4- واقع الأعداء : وقد يكون واقع الأعداء هو السبب في الاستعجال، ذلك أنه ما يمر يوم الآن إلا وأعداء الله يحكمون القبضة، ويمسكون بزمام العالم الإسلامي، ويلاحقون العمل الإسلامي في كل مكان؛ لإسكات كل صوت حر نزيه، وحسبنا أن إسرائيل كانت بالأمس فكرة في الأذهان، فإذا بها اليوم واقع يحكم القبضة على جزء غال عزيز من ديار الإسلام هو فلسطين، وينطلق منه إلى لبنان، وسائر بلدان العالم العربي ليحقق حلم اليهود: 'إسرائيل من النيل إلى الفرات' فلعل ذلك مما يحمل بعض العاملين على الاستعجال، قبل أن يتفاقم الخطر، ويصعب الخلاص.
5- الجهل بأساليب الأعداء : فأعداء الله لهم أساليبهم الخبيثة، والمتنوعة، في الوصول إلى قلب العالم الإسلامي، وإحكام القبضة عليه، وأخطر هذه الوسائل، وأشدها دهاء ومكراً: أن يواجه المسلمين نفر من بينهم يعلنون الإسلام، ويبطنون الكفر، والحقد، والضلال.. إن مثل هذا الأسلوب من الكيد يحول دون تعبئة العامة في الأمة، بل إنه ليجعل العامة معهم وفي صفهم، ولقد لجأ أعداء الله لمثل هذا الأسلوب، بعد أن جربوا زماناً طويلاً، ومرات عديدة، أسلوب المواجهة الصريحة السافرة، ورأوا أنه لن يغني عنهم من الله شيئاً، وأنه يحمل المسلمين- حتى المفرطين المستهترين منهم- على التصدي وبذل الغالي والرخيص؛ فلعل الجهل بمثل هذا الأسلوب وفي غيره من الكيد يكون سببًا من الأسباب التي توقع في الاستعجال.
6- شيوع المنكرات مع الجهل بأسلوب تغييرها : فالإنسان لا يتحرك حركة الآن إلا وقد أحاطت به المنكرات، ولفّته من كل جانب، وواجب المسلم حين يرى ذلك أن يعمل على تغيير المنكر وإزالته ما في ذلك شك، لئلا تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد، قال تعالى: }وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [251]{[سورة البقرة] }وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]{ [سورة الحج].وقال صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ]رواه مسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد. بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدي إلى منكر أكبر منه، فإن أدى إلى منكر أكبر منه؛ وجب التوقف بشأنه، مع الكراهية القلبية له، ومع مقاطعته، ومع البحث عن أنجع الوسائل لإزالته، والأخذ بها، ومع العزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير، وفي السنة والسيرة النبوية شواهد على ذلك:(/2)
فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة، في العام الثامن من الهجرة، أي أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة؛ ليقينه بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم، قبل أن تحطم من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع، وأشنع، فيعظم الإثم، ويتفاقم الضرر، لذلك تركها، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة، ويزيل الأصنام، مردداً: }وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[81]{ [سورة الأسراء] وها هو صلى الله عليه وسلم يخاطب أم المؤمنين عائشة قائلا: [ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ] فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : [ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ]رواه البخاري ومسلم . فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا توقف في شأن تجديد الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى منكر أكبر، وهو الفرقة والشقاق، بدليل قوله في رواية أخرى: [...وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ] رواه البخاري ومسلم. بل إن المسلم حين يسكت عن منكر؛ خوفاً من أن يؤدي إلى منكر أكبر- مع الرفض القلبي والمقاطعة، ومع البحث عن أفضل السبل للتغيير، ومع العزم الصادق على أنه حين تتاح الفرصة لن يكون هناك توان ولا تباطؤ- لا يكون آثمًا بذلك، وصدق الله الذي يقول: }لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[286] {[سورة البقرة]، }فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ[16]{[سورة التغابن]. فإذا نسي العامل أو الداعية فقه أسلوب تغيير المنكر وإزالته، وقع في الاستعجال لظنه، أو لتصوره أن الأمر يجب تنفيذه فوراً وأنه آثم ومذنب إن لم يقم بذلك.
6- العجز عن تحمل مشاق ومتاعب الطريق : ذلك أن بعضاً من العاملين يملك جرأة وشجاعة، وحماساً لعمل وقتي، ولو أدّى به إلى الموت، لكنه لا يملك القدرة على تحمّل مشاق ومتاعب الطريق لزمن طويل، مع أن الرجولة الحقة هي التي يكون معها صبر، وجلد، وتحمل، ومثابرة، وجد، واجتهاد حتى تنتهي الحياة، لذلك تراه دائما مستعجلاً؛ ليجنّب نفسه المشاق والمتاعب، وإن تذرع بغير ذلك.
وقد أفرزت الحركة الإسلامية في العصر الحاضر صنفاً من هذا عجز عن التحمل والاستمرار فاستعجل، وانتهى، وصنفاً آخر أوذي في الله عشرات السنين، فصبر، وتحمل، واحتسب؛ لأن الظروف غير ملائمة، والفرص غير مواتية، والعواقب غير محمودة، والمقدمات ناقصة أو قاصرة، وكانت العاقبة أن وفقهم الله، وأعانهم، فثبت أقدامهم على الطريق، ولا تزال.
8- الظفر ببعض المقدمات أو ببعض الوسائل مع عدم تقدير العواقب : وقد يكون الظفر ببعض المقدمات، أو ببعض الوسائل مثل العدد البشري، ومثل الأدوات مع عدم تقدير العواقب، من زيادة تسلط أعداء الله، ومن حدوث فتنة وردة فعل لدى جماهير الناس، قد يكون كل ذلك هو السبب في الاستعجال. ولعل هذا هو السر في أمر الإسلام بالصبر على جور الأئمة، ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح، والخروج السافر عن الإسلام، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا: [ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان]رواه البخاري ومسلم. بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج إلا إذا أمنت الفتنة، وتوفرت القدرات، والإمكانات، وهذا لا يمنع أن ننكر عليهم باللسان وبالقلب . يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح حديث عبادة: [ معنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم، وأما الخروج عليهم، وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وان كانوا فسقة ظالمين'. ونقل ابن التين عن الداودي قال: 'الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر' .(/3)
9- عدم وجود برنامج أو منهاج يمتص الطاقات، ويخفف من حدّتها وغلوائها : ذلك أن نفس الإنسان التي ببن جنبيه إن لم يشغلها بالحق؛ شغلته بالباطل. ولعل ذلك هو السر في أن الإسلام غمر المسلم ببرنامج عمل في اليوم والليلة، وفي الأسبوع، وفي الشهر، وفي السنة، وفي العمر كلّه، بحيث إذا حافظ عليه كانت خطواته دقيقة وكانت جهوده مثمرة.. ولعلّه السر أيضًا في تشديد الإسلام على الأئمة أن يستفرغوا كل ما في وسعهم وكل ما في طاقتهم لاستنباط ما يملأ حياة المسلمين بالعمل الجاد المثمر الخالي من الضرر والشرر وإلا حرموا الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ]رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- والدارمي وأحمد.
10- العمل بعيداً عن ذوي الخبرة والتجربة : ذلك أن الإنسان يولد ولا علم له بشيء في هذه الحياة كما قال سبحانه: }وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا[78]{ [سورة النحل].
ثم يبدأ - عن طريق ما وهبه الله من السمع، والأبصار، والأفئدة - التعلّم، والتعلم لا يكون من الكتب وحدها، بل يتم أيضًا بواسطة التجربة، والممارسة، والعامل الواعي هو الذي ينتفع بخبرات وتجارب من سبقوه على الطريق، ليوفر على نفسه الجهد، والوقت، والتكاليف، أما إذا شمخ بأنفه، ونأى بنفسه، وبدأ العمل بعيداً عن ذوى الخبرة، والتجربة، فستكون له أخطاء، وقد يكون الاستعجال واحداً منها. ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام باحترام العلماء، وكبار السن الصالحين، وذوي الفضل، حيث يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ]رواه مسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد. ولعل السر في ذلك إنما هو الظفر بثمار تجارب هؤلاء، وخبرتهم بدرب الحياة الطويل؛ نظراً لأن الإنسان غالبًا ما يعطي من يعرف له حقه، ويضن ويبخل على من يهدر هذا الحق ولا يرعاه.
11- الغفلة عن سنن الله في الكون، وفي النفس، وفي التشريع : ذلك أن من سنن الله في الكون: خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق الإنسان والحيوان والنبات على مراحل، مع أنه قادر على خلق ذلك كلّه وغيره بكلمة 'كن':} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[82]{ [سورةيس]. ومن سنن الله في النفس: أنّها لا تضحّي، ولا تبذل، ولا تعطي إلا إذا عولجت من داخلها، واقتلعت منها كل الحظوظ، وأدركت قيمة وفائدة التضحية، والبذل، والعطاء: } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ [سورة الشمس]وذلك لا يتم بسهولة ويسر، وإنما لابد له من جهد، ووقت وتكاليف.ومن سنن الله في التشريع: أن الخمر حرمت على مراحل، وكذلك الربا.وإذا نسي العامل أو الداعية هذه السنن؛ كانت السرعة، والعجلة، أما حين تظل ماثلة أمام عينيه، حاضرة في ذهنه، وفؤاده، فإنها تهدئ من نفسه وتضبط حركته، وتبصره بموضع قدميه.
12- نسيان الغاية التي يسعى إليها المسلم : فالمسلم يسعى أساساً لتحقيق مرضات الله، وهذا إنما يتحقق بالتزام منهجه، وعدم التفريط فيه، والثبات عليه إلى يوم اللقاء قدر الطاقة مع الإخلاص: }قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110]{ [سورة الكهف] }فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[16]{[سورة التغابن].وتلك مقدمات يسأل عنها المسلم بين يدي الله يوم القيامة، وعليها تكون النجاة أو عدم النجاة، أما النتائج من التمكين أو عدم التمكين، فلا يسأل عنها، لأنها بيد الله يأتي بها حيث يشاء وكما يشاء . فإذا حدث، ونسي العامل أو الداعية هذه الحقيقة؛ فإنه يقع لا محالة في الاستعجال.(/4)
13- الغفلة عن سنة الله مع العصاة والمكذبين : وقد تكون الغفلة عن سنة الله مع العصاة والمكذبين هي السبب في الاستعجال، ذلك أن من سنَّة الله مع العصاة والمكذبين: الإمهال، وعدم الاستعجال:}وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[183]{ [سورة الأعراف] }وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا[58]{ [سورة الكهف] ومن سنته كذلك معهم: أنه إذا أخذهم لم يفلتهم: }وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[102]{ [سورة هود] }وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ[59]{[سورة الأنفال] . ومن سنته أيضًا: أن أيامه ليست كأيامنا هذه: }وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[47]{ [سورة الحج]. وإذا غفل العامل أو الداعية عن هذه السنن تعجل، قائلا: نناجزهم قبل أن يستفحل شأنهم، وقبل أن يمسكوا بزمام الأمور، فتستحيل إزاحتهم بعد ذلك من طريق الناس.
14- صحبة نفر من ذوي العجلة وعدم التأني: فالطبع يعدي، والمرء على دين خليله، وإذا لم يحسن المسلم اختيار صاحبه، فإنه يقتدي به لا محالة فيما يعتنق، وفي كل ما يسلك - لاسيما إذا كان هذا الصاحب قوي الشخصية - وقد يكون من بين ذلك الاستعجال. ولعل هذا هو سر تأكيد الإسلام على ضرورة مراعاة الدقة، والأمانة في اختيار الصديق والصاحب، وقد قدّمنا طرفاً من الأحاديث الدالة على ذلك في أثناء الحديث عن 'الفتور'.
طريق علاج الاستعجال:
1- إمعان النظر في الآثار والعواقب المترتبة على الاستعجال: فإن ذلك مما يهدئ النفس، ويحمل على التريث والتأنّي.
2- دوام النظر في كتاب الله عز وجل: فإن ذلك يبصرنا بسنن الله في الكون وفي النفس، وفي التشريع، ومع العصاة والمكذبين، والبصيرة بهذه السنن تهدِّئ النفس، وتساعد على التأني، والتروّي، قال تعالى:} سَأُرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ[37]{ [سورة الأنبياء] }ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[2]{ [سورة البقرة] }إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [9]{ [سورة الإسراء].
3- دوام المطالعة في السنة، والسيرة النبوية: فإن ذلك مما يوقعنا على مقدار ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من الشدائد والمحن، وكيف أنه تحمّل، وصبر، ولم يستعجل، حتى كانت العاقبة له، وللمنهج الذي جاء به، ومعلوم أن الوقوف على ذلك مما يضبط حركة المسلم، اقتداء، وتأسياً به صلى الله عليه وسلم:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21]{ [سورة الأحزاب].
4- مطالعة كتب التراجم، والتاريخ: فإن ذلك مما يعرفنا بمنهج أصحاب الدعوات والسلف في مجابهة الباطل، وكيف أنهم تأنوا، وتريثوا حتى مُكِّن لهم؛ وهذا بدوره يحمل على الاقتداء، والتأسّي، أو على الأقل، المحاكاة والمشابهة .
5- العمل في أحضان وفي ظل ذوي الخبرة والتجربة ممن سبقوا على الطريق: فإن ذلك من شأنه أن بجعل خطوات العاملين دقيقة محسوبة، وأن يوفر عليهم كثيراً من الجهد، والوقت، وباقي التكاليف، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك حين قال: [لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ]رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد.
6- العمل من خلال منهاج أو برنامج واضح الأركان: محدد المعالم، يستوعب الحياة كلها، ويأخذ بيد العامل من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة، فيشبع تطلُّعاته، ويجيب على تساؤلاته، ويرفع من مستواه.
7- الفهم الدقيق لأساليب، ومخططات الأعداء: فإن ذلك من شأنه أن يحمل العامل على النظر في عواقب الأمور، وعلى التريث، والتأني، والتصرف بحكمة وعلى بينة.(/5)
8- عدم الرهبة أو الخوف من تسلط الأعداء، وإحكامهم القبضة على العالم الإسلامي: لأن ذلك يمكن أن يزول في لحظات، وما هو على الله بعزيز:} لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[197]{ [سورة آل عمران] }الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ[1]{ [سورة محمد] }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[36]{ [سورة الأنفال] . بيد أن هذا مشروط بأن نقيم الإسلام في أنفسنا، وفيمن حولنا بكل ما نملك، وبكل ما نستطيع:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] {[سورة محمد] }وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]{ [سورة الحج] }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ...[55]{ [سورة النور].
9-مجاهدة النفس، وتدريبها على ضرورة التريث، والتأني، والتروي : فإنما الحلم بالتحلم، ومن يتصبر؛ يصبره الله، والرجولة الحقة لا تكون إلا بذلك.
10- الانتباه إلى الغاية أو الهدف الذي من أجله يحيا المسلم : فإن ذلك يحول دون الاستعجال، ويحمل على إتقان المقدمات، والوقوف عندها، وعدم تجاوزها إلى النتائج.
11- الانتباه إلى موقف المسلم من المنكرات، وأسلوب تغييرها: فإن ذلك يبصِّره بمعالم الطريق، ويحول بينه، وبين الاستعجال.. تلك خطوات لابد منها على طريق العلاج.
الداعية بين الفتور والاستعجال :
ويظهر من حديثنا عن الفتور والاستعجال: تحديد موقع الداعية: إن موقعه يجب أن يكون وسطاً بين الفتور والاستعجال، على معنى أنه مع المقدمات كخلية النحل دائب النشاط، والحركة، لايقصر، ولا يتوانى لحظة من ليل أو من نهار، ولا يضيع فرصة تتاح له، أمّا مع النتائج فهو هادئ متريث، متأن، متروٍ، لا يستعجل شيئاً قبل أوانه؛ إلا عوقب بحرمانه.
تمت
من كتاب'آفات على الطريق' للدكتور/السيد محمد نوح(/6)
الاستعداد الفقهي
محمد بن صالح الدحيم 6/4/1426
14/05/2005
التغيّرات العالمية (القوية والسريعة والمصلحية) و (الخطيرة) لم تعد سراً من الأسرار، ولا الدخول في معمعتها خياراً من الاختيارات، و ربما كان كذلك حينما كانت أفكاراً وخططاً، ولكنها وقد أصبحت اليوم واقعاً متسارعاً يطال تأثيره العالم كله –إن خيراً فخير وإن شراً فشر- فلا ينفع إلا الحضور والتأثر والتأثير، وإلا فـ (مَنْ لم تكن له روح العصر كانت له شروره).
وقد كان في الناس مبادرون فاعلون، وكان فيهم متباطئون، وشر من الصنفين متفرجون متهالكون.
لست أريد هنا الحديث عن الفاعلية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية البحتة، ولكنني وأنا أرى رقماً كبيراً من المسلمين يشكل شريحة مؤثرة ومتأثرة في ذلك المجتمع العالمي؛ فهي بحاجة إلى الرأي الإسلامي في قضايا لم تعد قضية أقليات إسلامية كما كانت من قبل.
وأنا أرى ذلك أطرح السؤال الآتي: ما هو الاستعداد الفقهي لهذا العالم الجديد بتغيّراته كلها (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية)؟
وقبل أن يصدر الجواب البدائي (يتمثل الاستعداد بوجود مراكز الإفتاء ومجامع الفقه الإسلامية العالمية... الخ) فإنني أستبق وأقول: ليس هذا إلا جواب الدبلوماسية (الدينية والسياسية) الذي لا يشفي عليلاً، ولا يروي غليلاً.
سأضطر إلى تفكيك السؤال السابق إلى أسئلة:
1) هل تم الانتهاء من رصد الموروث الفقهي الإسلامي في جميع مذاهبه الموافق والمخالف؟
2) هل تم ربط دوائر الإفتاء ومجامع الفقه الإسلامي بشبكة عالمية تتيح للجميع التواصل والتّفاقُه أم أن...؟
3) هل تتيح الأنظمة للمنظمات الأهلية فرصة تأسيس الكيانات الفقهية.
4) ثم هل يشارك المال الإسلامي في دعم وتنشيط تلك الكيانات لو قامت، أم أن الحس القائل بمجانبة الفقه –في سذاجة عن تكاليف تحصيل وتوصيل المعلومة- لا يزال مسيطراً على الفكر التجاري؟
5) متى سيغادر الفقهاء القاعدون إلى العالم لينطلقوا في فقههم من واقع العالم ومتغيّراته، وحتى لو غادروا وهم جالسون عبر الاطلاع المكثف على الشبكة العنكبوتية؟
ربما لا يكون ذلك في المنظور القريب، وأنت ترى بعض المراجع الإفتائية لا تستخدم (الكمبيوتر) إلا في الطباعة (بعد الانتهاء من عمليتي التسويد والتبييض).
6) متى سنسمع المراجعة الصريحة لبعض المسائل والفتاوى التي بُنيت على تصوّر قاصر ومعطيات ناقصة، وأولى بالطمس تلك الفتاوى التي غاب عنها النظر المآلي، أو لا تنسجم مع روح الشريعة (التيسير ورفع الحرج)؟
ولماذا تتم الآن إعادة طباعة وتوزيع تلك الموضوعات؟
ولماذا لا تُطرح بعض المسائل على طبيعتها مسائل خلافية اجتهادية ومتغيرة أيضاً بتغيّر الزمان والمكان والأحوال والأشخاص؟
ولماذا لا يُعاد النظر في أحكام الضرورات الآخذة بالتوسع، والذي لم يعد محصوراً في (أكل الميتة وسد الرمّق) ليطال مسائل في الأموال والأعراض...؟
7) لماذا لا يمتلك الفقهاء ومؤسساتهم روح المبادرة، أي لماذا العناد الذي لا يفكّكه إلا قرار السلطان أو نسيان الزمان؟
8) ليس العالم لغة واحدة بل لغات متعددة؛ فأين هي التعددية في اللغة التي تتيح للإنجليزية والصينية والهندية و... و...و... الإفادة من الفقه الإسلامي؟ في تفاعل مع هدف الرسالة ومقصد النبوة (كافة للناس) (رحمة للعاملين).
هذه وغيرها أسئلة ستتوارد في فكر المهتم بنشر الإسلام الصحيح والمهتم أيضاً بواقع المسلمين والمدرك لحياة الناس.
هذه أسئلة نطرحها غير متجاهلين لجهود شخصيات علمية وهيئات ومؤسسات تحاول جاهدة احتواء هذه الإشكالية، ولكن ما جدّ اليوم هو أضخم من هذه الجهود وأكبر من هذه الإمكانات.
نطرح هذه، ولا نزعم أننا نملك الجواب فضلاً عن الحل لكن طرح السؤال هو تمهيد الطريق لوضع الجواب.
هذه الأسئلة ليس الغرض منها بيان المثالب، ولكن غايتها النهوض بالفقه الإسلامي في مقابل الحدث، والمساهمة في حضوره ولمعانه ليمثل الإسلام العظيم والنبوة الخالد(/1)
الاستعصام من الفتن بالإخلاص*
أ.د ناصر العمر
إن الإخلاص مما يُكسى العبد به ثوب العفة، وبه ينجو من الفتنة، فمن كان أشد حباً لله قدم محبوب الله على حظ نفسه، واضمحل عنده حب غيره مهما تعارض الحبان واعتركا، وبهذا نجَّا الله - تعالى- عبده يوسف - عليه السلام- من هذه الفتنة العظيمة، لأنه كان عبداً مخلَصاً، "إنه من عبادنا المخلصين" خلَّص قلبه من الشرك ومن اتباع الهوى، فخلَّصه الله - تعالى- بفضله من الفتن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (المخلِصين)، بكسر اللام، وذلك شأن الموحدين الذين هم أشد حباً لله، فهواهم تبع لأمره ونهيه، وهكذا بتحقيق التوحيد والإخلاص ينجي الله الذين آمنوا كما نجى الرسل وأتباعهم: "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس:103]، ينجون من الفتن ومن كل غم وبلاء في الدنيا والآخرة كما قال – تعالى-: "َاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" [الأنبياء:88]، ويوم القيامة يهديهم ربهم ويقيهم عذاب الجحيم كما قال – سبحانه-: "ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً" [مريم:72]، "وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [الزمر:61]، بل الله ينجي أهل الشرك في الدنيا –مع ما يدخره لهم في الآخرة من العذاب العظيم- إذا ركبوا في الفلك وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنه أحيط به فدعو الله مخلصين له الدين، فهنا عند إخلاصهم الدين –وقد كانوا مشركين- ينجيهم الله – تعالى- برحمته، كما قال – سبحانه- : "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" [يونس:22]، وقال عز من قائل في الأنعام: "قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" [الأنعام:64].
فالإخلاص والتوحيد من أعظم أسباب العصمة من الفتن، والنجاة من الشهوات والشبهات، وتحقيقه كافل العفة ضامن السلامة والعصمة. ومن كمال تحقيقه حفظ أوامر الله ونواهيه، وهذه السيرة الطاهرة لهذا النبي الكريم تدل على ذلك وتذكرنا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لابن عباس - رضي الله عنه-: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن؛ فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكرهه خيراً كثيراً، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر) (1) .
وينبغي لكل مسلم أن يتفيأ ظلال هذه النصيحة الغالية، ليتقيَ لفح الفتن في هذا الزمان الذي اشتد فيه هجير الجهل بدين الله، وحمِيت فيه رمضاء الابتعاد عن منهجه.
-----------
* مستل من كتاب الشيخ: (آيات للسائلين) تحت الطبع.
(1) رواه الإمام أحمد 1/293، 1/303، 1/307، ورواه الترمذي 4/667 (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/623(6303) والذي بعده، وجمع غيرهم، وقد حسن ابن رجب إسناده في رسائله 3/91، وابن حجر في موافقة الخبر الخبر 1/327، وجمع من المتأخرين.(/1)
الاستغفار ثماره العقدية وآثاره النفسية والاجتماعية
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطَّول. والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فلِلاستغفار ثِمارٌ يانعةٌ وآثارٌ نافعةٌ وبركاتٌ ظاهرةٌ، يعلمها من وفَّقَه الله إلى الإكثارِ من الاستغفارِ فأقبلَ على العزيز الغفَّار؛ معترفاً بالمعاصي والأوزار، ذليلَ القلب مُتبرِّئاً من كل ذنب، يلهج بالتوبة: يا رب يا رب!
وما أحسنَ ما رواه القرطبي عن الحسن بن الفضل في تفسيرِ قولِ الله عزَّ وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران 135). أنه قال: " وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ " أنَّ لهم رباًّ يغفر الذنب"![1] قال القرطبي رحمه الله: "وهذا أخذَه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عزَّ وجل قال: (أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب أغفر لي ذنبي فذكر مثله مرتين وفي آخره اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك) أخرجه مسلم... ودلت الآيةُ والحديثُ على عظيمِ فائدةِ الاعترافِ بالذنب والاستغفارِ منه قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ العبدَ إذا اعترفَ بذنبِه ثم تاب إلى الله؛ تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين، وقال:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترفْ ** بما جنى من الذنوب واقترفْ
وقال آخر:
أقْرِرْ بذنبِك ثم اطلبْ تجاوُزَه ** إنَّ الْجُحُودَ جُحودَ الذنبِ ذنبان!
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهبَ الله بكم وجاء بقوم يُذنِبُون ويستغفرون؛ فيغفر لهم)؛ وهذه فائدة اسم الله تعالى (الغفار) و(التواب)".[2]
فطُوبَى للمُستغفِرين الذين أثنى عليهم ربُّهم بأنهم : ( كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الذاريات 17-18)0 ومَدَحَهم بأنهم : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (السجدة 16-17)0
شدةُ عِنايةِ السلفِ بالاستغفارِ:
وقد عظمت عِنايةُ السلفِ بالاستغفارِ مع كَوْنِهم من الأبرار؛ لأنهم أكثرُ الناسِ عِلماً بربِّهم وأعلمُ بذُنوبِهم وعُيوبِهم، وأعظمُ محاسبةً لأنفسهم؛ فهم من الممدوحين المحمودين، كما قال الله عزَّ وجل في صفات المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) (آل عمران 135-136).
قال القرطبي رحمه الله: فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ أي: طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم، وكلُّ دعاءٍ فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفارٌ. وقد تقدم في صدر هذه السورة[3] سيد الأستغفار وأن وقته الأسحار؛ فالاستغفارُ عظيمٌ وثوابُه جَسِيم؛ حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن قال: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفر له وإن كان قد فرَّ من الزحف)، وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيتُ أكثرَ استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال مكحول: ما رأيتُ أكثرَ استغفاراً من أبي هريرة، وكان مكحولُ كثير الاستغفار".[4]
وللاستغفارِ: آثارٌ عَقديةٌ، وثِمارٌ نفسيةٌ واجتماعيةٌ.
(1) الثمار العقدية للاستغفار
فللاستغفارِ آثارٌ عقديَّةٌ وثمارٌ إيمانيةٌ جليلةٌ: منها: إنابة العبدِ إلى ربِّهِ، واعترافه بذنبه وإقراره بـ(أن له ربّاً يغفر الذنوب)، وتربية الخشوع والخضوع في نفس المسلم، وتلذُّذِه بالتذلُّل بين يدي ربِّه كما قال نبي الله صالح عليه السلام : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) (هود 61).(/1)
قال السعدي رحمه الله: "أي: فَاسْتَغْفِرُوهُ مِمَّن دعاه دُعاءَ مسألة أو دُعاءَ عِبادةٍ يجيبه بإعطائه سُؤالَه وقبولِ عِبادتِه وإثابتِه عليها أجلَّ الثواب. واعلَمْ أنَّ قُربَه تعالى نوعان: عامٌّ وخاصٌّ، فالقُربُ العام: قُربُه بِعِلمِه من جميعِ الخلق، وهو المذكورُ في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (ق 16)0 والقربُ الخاصُّ: قُربُه من عابدِيه وسائليه ومُحِبِّيه، وهو المذكورُ في قوله تعالى: ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) (العلق 19)0وفي هذه الآية وفي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (البقرة 186). وهذا النوع قرب يقتضي إلطافه تعالى وإجابته لدعواتهم وتحقيقه لمراداتهم؛ ولهذا يقرن باسمه القريب اسمه المجيب".[5]
وأعظم ما يُصاب به العبدُ حين يقترفُ الذنبَ ولا يستغفر الله عزَّ وجل نقصانُ إيمانه، فقد أجمعَ أهلُ السنةِ على أنَّ الإيمانَ يزيدُ بالطاعاتِ وينقُصُ بالمعاصي. حتى ترجمَ البخاري رحمه الله في كتاب (الإيمان) ترجمتَه الوافية: "هو قولٌ وفعلٌ ويزيد وينقص، قال الله تعالى: (لِيَزْدادُوا إيماناً مع إيمانِهم)،[6] (وزِدْناهم هُدًى)،[7] (ويَزيدُ اللهُ الذين اهْتَدَوْا هُدًى)،[8] (والذين اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهم)،[9] (ويزدادَ الذين آمَنُوا إيمانا)،[10] وقوله: (أيُّكم زادَتْهُ هذه إيماناً فأما الذين آمَنُوا فزادَتْهم إيمانا)،[11] وقوله جلَّ ذِكْرُه: (فاخْشَوْهُمْ فزادَهم إيمانا)،[12] وقوله تعالى (وما زادَهم إلا إيماناً وتسليماً)[13]".[14]
فالاستغفار يتضمن شهادةَ العبدِ برحمةِ ربِّهِ وتوبته على عباده؛ واستحضارِه قربَه وإجابتَه من دعاه،ورحمتَه ومحبَّتَه عِبادَه، كما قالَ نبيُّ الله شعيبٌ عليه السلام: (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (هود 90)0
ولعلَّ المتأمِّلَ في حديثِ سيِّدِ الاستغفار يُدرك هذه الصلة الوثيقة بين ما بين الأدعية والأذكار وبين الأصول العقديَّة والمعاني الإيمانيَّة؛ وهذا سِرُّ الوعدِ بالجنّة لكلماتٍ يقولُها العبدُ يسيرةٍ في حروفِها ومبانيها كبيرةٍ في رُوحها ومعانيها، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب (الدعوات) باب (أفضل الاستغفار) حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ؛ أعوذ بك من شرّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتِك عليَّ، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت. قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي؛ فهو من أهل الجنّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يُصبح؛ فهو من أهل الجنة).[15]
فالاستغفارُ يشتملُ على إظهارِ الرجاءِ في الله عز وجلَّ وحُسنِ الظنّ به جل جلاله؛ وهذه المعاني ظاهرةٌ في أذكار الاستغفار، كما روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابنَ آدم إنك ما دعوتني ورجوتني؛ غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرةً).
وقد أحسن التعبيرَ عن هذا المعنى يحيى بن معاذ رحمه الله حين قال: "يكاد لك رجائي مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال! لأنّي أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أصفّيها وأحزرها وأنا بالآفات معروف؟! وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوِك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟!".[16]
وأما حديث أبي هريرة الذي ختمَ البخاريُّ به صحيحَه الجامع، وهو آخرُ حديثٍ في كتاب (التوحيد)، فهو ناطقٌ بهذا المعنى حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللهِ وبحمده، سبحان الله العظيم). وقد ذكرَ الحافظ ابن حجر أنّ من فوائد الحديث "الحث على إدامة هذا الذِّكر، وقد تقدَّمَ في فضلِ التسبيح من وجهٍ آخر عن أبي هريرة حديثٌ آخر لفظه: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّةٍ؛ حُطَّتْ عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، وإذا ثبت هذا في قول (سبحان الله وبحمده) وحدها؛ فإذا انضمَّت إليها الكلمة الأخرى فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها، كما أنّ من قال الكلمة الأولى وليست له خطايا مثلاً فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك".[17](/2)
ورَحِم الله الإمامَ البخاريَّ؛ فقد ترجمَ في كتاب (الدعوات) ترجمةً نفيسةً وافيةً بهذا الغرض: [(باب أفضل الاستغفار، وقوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح 10-12)، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران 135)].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "إذا أراد الله بعبدِه خيراً فتحَ له من أبوابِ التوبة والندمِ والانكسارِ والذُّلِّ والافتقار والاستعانة وبه وصدقِ اللجوء إليه، ودوامِ التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات؛ ما تكون تلك السيئة به سبب رحمتِهِ؛ حتى يقول عدوُّ الله: ليتني تركتُهُ ولم أُوقِعْهُ! وهذا معنى قولِ بعضِ السلفِ: إنَّ العبدَ ليعمل الذنبَ يدخل به الجنّة! ويعمل الحسنة يدخل بها النار! قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب؛ فلا يزال نصبَ عينيهِ خائفاً منه مُشفِقاً وَجِلاً باكياً نادماً مُستَحِياً من ربِّهِ تعالى ناكسَ الرأسِ بين يديه منكسِرَ القلب له؛ فيكون ذلك الذنبُ أنفعَ له من طاعاتٍ كثيرةٍ بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادةُ العبد وفلاحُهُ؛ حتى يكون ذلك الذنبُ سببَ دخولِهِ الجنة! ويفعل الحسنةَ؛ فلا يزالُ يمُنُّ بها على ربِّهِ ويتكبَّرُ بها، ويرى نفسَهُ ويُعجَبُ بها ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ؛ فيُورِثُهُ من العُجْبِ والكِبْرِ والفخر والاستطالة؛ ما يكون سببَ هلاكِهِ؛ فإذا أراد اللهُ تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمرٍ يكسرُهُ بهِ ويُذِلُّ به عُنُقَهُ ويُصغِّرُ به نفسَه عنده! وإذا أراد به غيرَ ذلك؛ خلاه وعُجبَهُ وكِبْرَهُ؛ وهذا هو الخذلانُ المُوجِبُ لهلاكِهِ"![18]
الاستغفار توحيد وتمجيد:
لَما كان الدعاءُ قائماً على توحيدِ الله عزَّ وجلَّ وإظهارِ الذُّل والافتقارِ إلى الله؛ فقد نادى أيوب عليه السلام: (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)[19] و"جمع في هذا الدعاءِ بين حقيقةِ التوحيدِ وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى ربِّه ووُجودِ طعمِ المحبةِ في التملُّقِ له، والإقرارِ له بصفةِ الرحمةِ وأنه أرحَمُ الراحمين، والتوسُّلِ إليه بصفاتِه سبحانه وشدةِ حاجتِه هو وفَقرِه. ومتى وجد المبتلى هذا كُشِفَت عنه بلواه، وقد جرب أنه من قالها سبعَ مرات ولاسيما مع هذه المعرفة كشفَ الله ضُرَّه".[20]
ولله دَرُّ ابنِ القيم رحمه الله؛ حيث قال: "التوحِيدُ مَفزَعُ أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فيُنجِيهم من كُرَبِ الدنيا وشدائدها، (فإذا ركبوا في الفُلك دعوا الله مُخلِصِين له الدِّين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وأما أولياؤه فينجيهم من كُربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزعَ إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباعُ الرُّسلِ فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعدَّ لهم في الآخرة. ولما فزعَ إليه فرعون عند مُعاينة الهلاك وإدراك الغرق لم ينفعه؛ لأنَّ الإيمان عند المعايَنة لا يقبل، هذه سُنةُ الله في عِباده؛ فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد؛ ولذلك كان دعاءُ الكربِ بالتوحيد، ودعوةُ ذي النون التي ما دعا بها مَكرُوبٌ إلا فرَّجَ الله كربَه بالتوحيد؛ فلا يُلقي في الكَرْبِ العِظام إلا الشِّرك، ولا يُنْجِي منها إلا التوحيد؛ فهو مَفزَعُ الْخَلِيقة ومَلجؤها وحِصْنُها وغِياثها".[21]
إنَّ دُعاءَ الله تعالى أعظمُ تَعْبِيرٍ عن الاستِعانةِ بالله عزَّ وجَلَّ ورَجائه والخوفِ منه؛ فهو (سميعُ الدعاء)[22] يُجِيب دَعوةَ الداعي إذا دَعاه (تَضَرُّعاً وخُفْيةً)[23] و(خَوفاً وطَمَعاً).[24] وقد عبَّرَ الطيِّبي عن هذا المعنى أحْسَنَ تَعْبيِرٍ عند قولِ الله تعالى: (ادْعُوني اسْتَجِبْ لكم) فقال رحمه اللهُ: "الدُّعاءُ هو إظهارُ غايةِ التذلُّلِ والافتقارِ إلى الله والاستكانةِ إليه؛ وما شُرِعتْ العباداتُ إلا للخُضوعِ للباري وإظهارِ الافتقارِ إليه؛ ولهذا خَتَمَ الآيةَ بقوله تعالى: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي) حيث عبَّرَ عن عَدَمِ الخضوعِ والتذلُّلِ بالاستكبارِ, ووَضَعَ (عِبادتي) موضع (دُعائي), وجَعلَ جَزاءَ ذلك الاستِكبارَ والصَّغارَ والهَوان".[25]
الاستغفار استحضارٌ لمعاني العبودية:(/3)
ولا ريبَ أنَّ المؤمنَ الذاكرَ المستغفرَ دائمُ الاستحضارِ لِمَعاني العُبوديةِ لله عَزَّ وجلَّ؛ فهو يَستَغفِرُ اللهَ ويُنيب إليه، ويتوبُ مِن ذُنوبِه؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إنِّي لأسْتغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِن سَبعين مرّةً)![26]
ورَحِم الله الرازي حيث قال في تفسيرِ قولِ الله عزَّ وجل: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الذاريات 17-18): "اعلَمْ أنَّ الاستغفارَ بالسَّحَر له مزيدُ أثَرٍ في قوةِ الإيمان وفي كمالِ العُبودية من وُجُوهٍ: الأول: أن في وقتِ السَّحر يطلع نورُ الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل؛ وبسبب طلوع نورِ الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء؛ فهناك وقتُ الجود العام والفيضِ التام؛ فلا يبعد أن يكونَ عند طلوعِ صبحِ العالم الكبير يطلع صبحُ العالَمِ الصغير: وهو ظهورُ نورِ جلالِ الله تعالى في القلب. والثاني: أنَّ وقتَ السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النوم؛ فإذا أعرضَ العبدُ عن تلك اللذةِ وأقبلَ على العُبودية؛ كانت الطاعة أكمل".[27] وقال البغوي رحمه الله: "حُكِيَ عن الحسن أنَّ لقمان قال لابنه: يا بُنَيَّ لا تكنْ أعجَزَ من هذا الدِّيك: يُصَوِّت بالأسحارِ وأنتَ نائمٌ على فراشِك"![28]
وروى البخاري رحمه الله عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (ربِّ اغفرْ لي خطيئتي وجَهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفرْ لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي؛ وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر؛ وأنت على كل شيء قدير).[29] وفي روايةٍ: (اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطاياي وعَمْدي).[30]
وقد روى البخاري رحمه الله عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (عَلِّمْني دُعاءً أدْعُو به في صلاتي. قال: قُلِ اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت؛ فاغفِرْ لي مَغفرةً مِن عندِك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).[31] وقد روت عائشة[32] (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعواتِ: اللهم فإني أعوذُ بك مِن فتنةِ النارِ وعذابِ النار وفتنةِ القبر وعذابِ القبرِ ومِن شرِّ فِتنةِ الغِنَى ومِن شرِّ فِتنةِ الفقرِ، وأعوذُ بك مِن شرِّ فِتنةِ المسيح الدجال؛ اللهم اغْسِلْ خَطاياي بماءِ الثلجِ والبَرَد، ونَقِّ قلبي مِن الخطايا كما نَقَّيتَ الثوبَ الأبيضَ مِن الدَّنَس، وباعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعَدْتَ بين المشرقِ والمغربِ، اللهم فإني أعوذ بك مِن الكسلِ والْهَرَمِ والمأثَمِ والمغْرمِ).[33]
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "استُشكِلَ دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذُكِرَ مع أنه مَعصومٌ مَغفورٌ له ما تقدَّم وما تأخَّرَ؟ وأُجِيبَ بأجوبةٍ، أحدها: أنه قصدَ التعليمَ لأمته، ثانيها: أنَّ المرادَ السؤالُ منه لأُمَّتِه؛ فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سُلوكُ طريقِ التواضُعِ وإظهارُ العُبوديةِ وإلزامُ خَوفِ اللهِ وإعظامِه والافتقارِ إليه وامتثالِ أمْرِه في الرغبةِ إليه، ولا يمتنع تكرارُ الطلبِ مع تحققِ الإجابة؛ لأن ذلك يُحَصِّلُ الحسناتِ ويرفع الدرجات. وفِيهِ تَحْرِيضٌ لأمَّتِه على مُلازَمةِ ذلك؛ لأنه إذا كان مَع تحقُّقِ المغفرةِ لا يترك التضرع؛ فمَنْ لم يَتَحَقَّقْ ذلك أحْرَى بالملازَمة".[34]
الاستغفار دليلُ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ وخَشْيَتِه:
وقد عبَّر عن ذلك ابنُ مسعود رضي الله عنه خيرَ تعبِيرٍ فيما رواه البخاري في (كتاب الإيمان) من قولِ ابنِ مسعودٍ: (إنَّ المؤمنَ يرى ذُنوبَه كأنه قاعِدٌ تحت جَبلٍ يخافُ أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يرى ذُنوبَه كذُبابٍ مَرَّ على أنْفِه فقال به هكذا).[35] قال ابنُ أبي جَمْرة رحمه الله: "السببُ في ذلك أنَّ قلبَ المؤمنِ مُنَوَّرٌ؛ فإذا رأى مِن نَفْسِه ما يخالِفُ ما يُنوَّر به قلبُه عَظُمَ الأمرُ عليه! والحكمةُ في التمثيلِ بالجبلِ أنَّ غَيرَه مِن المهلِكات قد يحصلُ التسبُّبُ إلى النجاةِ منه عادةً، بخلافِ الجبل إذا سقط على الشخصِ لا ينجو منه عادةً. وحاصلُه أنَّ المؤمنَ يغلبُ عليه الخوف؛ لقوَّة ما عندَه من الإيمان؛ فلا يأمنُ العُقوبةَ بسببِها. وهذا شأنُ المسلم أنه دائم الخوفِ والمراقبةِ يستصغرُ عملَه الصالح، ويخشى مِن صَغيرِ عَمَلِه السيِّء".[36] وقال المحب الطبري رحمه الله: "إنما كانت هذه صِفةُ المؤمنِ؛ لِشدةِ خَوفِه مِن اللهِ ومِن عُقوبَتِه؛ لأنه على يقينٍ من الذنب, وليس على يَقينٍ من المغفرة, والفاجِرُ قليلُ المعرفةِ بالله؛ فَلِذلك قَلَّ خَوفُه واستهانَ بالمعصِية"[37](/4)
ورَحِم الله القرطبي حيث قال في تفسير قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران 135) "قوله تعالى :((وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) أي: ليس أحدٌ يغفر المعصية ولا يزيل عُقُوبتَها إلا الله (وَلَمْ يُصِرُّواْ) أي: ولم يثبتوا ويعزموا (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال مجاهد أي ولم يمضوا... الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه، ومنه صَرُّ الدنانير: أي الربط عليها... قال سهل بن عبد الله: الإصرار هو التسويف، والتسويف: أن يقول: أتوب غدا، وهذا دعوى النفس كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه سهل؟!... قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رَغباً ورَهباً، والرغبة والرهبة ثمرةُ الخوفِ والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب والله الموفق للصواب. وقد قيل: إنَّ الباعثَ على ذلك تنبيهٌ إلَهيٌّ يُنبِّه به من أراد سعادتَه لِقُبحِ الذنوبِ وضَرَرِها؛ إذ هي سُمومٌ مُهلِكَةٌ. قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى فإنَّ الإنسانَ لا يتفكرُ في وَعدِ الله ووَعِيدِه إلا بتنبيهِه؛ فإذا نظر العبدُ بتوفيقِ الله تعالى إلى نفسِه؛ فوجدها مشحونةً بذنوبٍ اكتسبَها وسيئاتٍ اقترفَها وانبعثَ منه الندمُ على ما فرطَ وترك مثل ما سبق مخافةَ عُقوبةِ الله تعالى صدقَ عليه أنه تائبٌ؛ فإن لم يكن كذلك كان مُصِراًّ على المعصية ومُلازِماً لأسبابِ الْهَلَكة، قال سهل بن عبد الله: علامة التائب أن يشغله الذنبُ عن الطعام والشراب كالثلاثة الذين خُلِّفوا".[38]
المبحث الثاني: الثمار النفسية للاستغفار:
من آثارِ الاستِغفارِ النجاةُ من الفِتَن والمكدِّرات:
فالاستِغفارُ أمانٌ يحفظ الإنسان، كما قال الله عزَّ وجل: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الأنفال 33)0ورَحِمَ الله ابنَ القيم حيث قال في تفسِيرِ الْمُعوِّذَتَيْن: "الشرُّ الذي يُصِيبُ العبدُ لا يخلُو من قسمَين: إما ذُنوبٌ وَقَعَتْ منه؛ يُعاقَبُ عليها؛ فيكون وُقوعُ ذلك بِفِعْلِه وقَصدِه وسَعيِه؛ ويكونُ هذا الشرُّ هو الذنوبَ ومُوجباتِها وهو أعظمُ الشَّرَّين وأدْوَمُهما وأشَدُّهما اتصالا بصاحبِه؛ وإما شرٌّ واقِعٌ به مِن غَيرِه... فتَضَمَّنَتْ هاتان السورتان الاستِعاذةَ مِن هذه الشرورِ كلِّها بأوجَزِ لفظٍ وأجْمَعِه وأدَلِّه على المرادِ وأعَمِّه استعاذةً؛ بحيث لم يَبقَ شَرٌّ مِن الشرورِ إلا دَخَلَ تحت الشرِّ المستعاذِ منه فيهما؛ فإنَّ سُورة (الفلق) تضمَّنَت الاستِعاذةَ مِن أمُورٍ أربعةٍ: أحدها: شر المخلوقات التي لها شَرٌّ عُموما، الثاني: شَرُّ الغاسِق إذا وَقَب، الثالث: شَرُّ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ، الرابع: شَرُّ الحاسِدِ إذا حَسَد".[39]
الاستغفار استقرار نفسي:
لا ريبَ أنَّ من أعرَضَ عن رَحمةِ ربِّه وأقبلَ على مَنْ ضَرُّه أقْربُ مِن نَفعِه؛ فقد ظلمَ نفسَه وحرمَها لذةَ الإقبالِ على اللهِ واستغفارَه والتوبةَ والإنابةَ إليه والاستِسلامِ بين يدَيه؛ "ففي القلبِ شَعَثٌ لا يلُمّه إلا الإقبالُ على الله، وفيه وِِحْشةٌ لا يُزيلها إلا الأُنسُ به في خلوته، وفيه حُزنٌ لا يُذهِبه إلا السرورُ بمعرفته وصدقُ مُعاملتِه، وفيه قَلقٌ لا يُسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه والفِرارُ منه إليه، وفيه نيرانُ حَسراتٍ لا يُطفئها إلا الرِّضا بأمرِه ونَهيِه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحدَه مَطلُوبَه، وفيه فاقةٌ لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له؛ ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبدا"! [مدارج السالكين لابن القيِّم 3/164].
الاستغفار سعادة ورضوان:(/5)
فمَن هُدِيَ إلى الاستغفارِ؛ فقد فُتِحَ له بابُ رضوانِ العزيزِ الغفار، ويا فوزَ المستغفِرين الموفَّقِين الأخيارِ الذين يُحاسِبُون أنفُسَهم ويعترفون بذنوبِهم؛ ذلك أنَّ "مُطالعةَ عَيبِِ النفسِِ والعملِ تُوجِِب له الذلََّ والانكسارَ والافتقارَ والتوبةَ في كلِّ وَقتٍ؛ وأن لا يرى نفسَه إلا مُفلِساً، وأقربُ بابٍ دخلَ منه العبدُ على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسِهِ حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلَّق به ولا وَسِيلةً منه يَمُنُّ بها! بل يدخلُ على اللهِ تعالى مِن بابِ الافتقارِ الصِّرفِ والإفلاسِ المحضِ دُخُولَ مَن قد كَسَرَ الفَقرُ والمسكنةُ قلبَه؛ حتى وَصَلتْ تلك الكَسْرةُ إلى سُوَيْدائه؛ فانْصَدعَ وشَمَلَتْهُ الكسرةُ مِن كلِّ كلِّ جهاتِهِ، وشَهِدَ ضَرورتَه إلى ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وكمالَ فاقتِهِ وفَقرِهِ إليه، وأنَّ في كلِّ ذَرَّةٍ من ذرّاتِهِ الظاهرة والباطنة فاقةً تامّةً، وضرورةً كاملةً إلى ربِّهِ تبارك وتعالى، وأنه إنْ تَخلَّى عنه طرفةَ عينٍ هَلَكَ وخَسِرَ خَسارةً لا تُجبَرُ؛ إلا أنْ يعودَ الله تعالى عليه ويَتَدارَكَه بِرَحمتِهِ؛ ولا طريقَ إلى الله تعالى أقْربَ مِن العُبوديّة، ولا حِجابَ أغْلظَ مِن الدعوى!"[40]
بيان القرآن أن الذنوب سبب الهزائم والمصائب:
ففي وَضْع الحرب وفي خِضَمِّ المعركة لم يَعْزُ القرآنُ مُصابَ المسلِمين في غزوة (أُحُد) إلى الخططِ العسكرية ولا إلى قلةِ العَدَدِ وضَعفِ العُدَد! بل إلى الأسباب النفسية؛ فقد جاءت الإجابة على استفهام الصحابة عن سَبب مُصابِهم في أحُد: (أنَّى هذا)؟ بقول الله عزَّ وجلَّ: (أولَمَّا أصابَتْكم مُصِيبةٌ قد أصَبْتُم مِثْلَيها قُلْتم أنَّى هذا قُلْ هو مِن عندِ أنفُسِكم)![41]
فتلك هي الإجابة الوافية الشافية؛ فالسببُ ليس عسكريا محضاً؛ بل هو سببٌ نفسِيٌّ في الأساس. قال الطبري رحمه الله: "(قُلْتُم أنَّى هذا)؟ يعني قلتم لما أصابتكم مصيبتكم بأحد: أنَّى هذا من أيِّ وجهٍ هذا؟ ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا ونحن مسلمون وهم مشركون؟ وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء وعدونا أهل كفر بالله وشرك؟! قل يا محمد للمؤمنين بك من أصحابك: (هو من عند أنفسكم) يقول: قل لهم أصابكم هذا الذي أصابكم (من عند أنفسكم) بخلافكم أمري وتَرْكِكم طاعتي لا من عند غيرِكم ولا من قِبَلِ أحدٍ سِواكم".[42]
فالذنبُ هو الذي يُردي الإنسانَ.. ويجلب عليه المصائب والمتاعب.. ويُعجِّل بسخطِ الله وعقوبته، والعياذ بالله، فقد قال الله عزَّ وجل: (فكلا أخَذْنا بِذَنبِه فمِنهم مَن أرْسَلْنا عليه حاصِباً ومنهم مَن أخذَتْه الصيحة ومنهم مَن خَسَفْنا به الأرضَ ومنهم من أغرَقْنا وما كان الله ليَظلِمَهم ولكن كانوا أنفُسَهم يظلمون).[43]
والذنبُ يُلقِي صاحبَه في الفِتن، وقد حكى القرآنُ حال الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم الذين (ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ وضاقت عليهم أنفُسُهم وظنُّّوا أن لا ملجأَ من اللهِ إلا إليه)،[44] قال ابن حجر رحمه الله: "فيها عِظَمُ أمرِ المعصيةِ، وقد نَبَّهَ الحسنُ البصري على ذلك فيما أخرجَه ابنُ أبي حاتم عنه قال: يا سُبْحانَ الله! ما أكَلَ هؤلاء الثلاثةُ مالاً حَراماً ولا سَفَكُوا دماً حَراماً ولا أفْسَدُوا في الأرضِ؛ أصابَهم ما سَمِعْتُمْ وضاقَتْ عَلَيْهم الأرضُ بِما رَحُبَتْ؛ فكيفَ بِمَنْ يُواقِعُ الفَواحِشَ والكبائرِ؟!".[45]
العمر ينقص والذنوب تزيد ** وتقال عثرات الفتى فيعودُ!
هل يستطيع جحود ذنبٍ واحدٍ** رجل جوارحه عليه شهودُ!
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي ** تقليلها وعن الممات يحيدُ![46]
فالذنب يُشقي صاحبه ويحولُ بينَه وبين الأهدافِ العظيمة، ويرغمه على القعود ويُبعِدُه عن منازلِ العرفان ومراقي السعود، كما قال الله عز وجل: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث)؛ فليس أضر على العبد من الذنب؛ فإنه يخدش قلبه، ويُمرض جسدَه، ويقلق رُوحَه... ويضيق عليه أمره، وينغص عليه حياته.. فكما أن الطاعة راحة وسعادةٌ وطمأنينة.. فكذلك الذنب قلقٌ وضيقٌ وشقاء.(/6)
ومن توفيق الله لعبدِه أن يدلَّه على ذنبِه، ويُطلِعَه على عيبِه؛ لعله يتوبُ ويفيء إلى ربِّه. ورَحِمَ الله ابنَ القيِّم حيث قال: "إنَّ العارِفِين كلَّهم مُجْمِعُون على أنَّ التوفيقَ: أن لا يَكِلَكَ اللهُ تعالى إلى نَفسِك، والخذلان: أن يَكِلَك الله تعالى إلى نفسِك؛ فمن أراد اللهُ به خيراً فتحَ له بابَ الذُلِّ والانكسارِ ودوامِ اللُّجوءِ إلى الله تعالى والافتقارِ إليه، ورؤيةِ عُيوبِ نَفسِهِ وجَهْلِها وعُدْوانِها، ومُشاهَدةِ فَضلِ ربِّهِ وإحْسانِهِ ورَحْمَتِهِ وجُودِهِ وبرِّهِ وغِناه وحَمْدِه. فالعارفُ سائرٌ إلى الله تعالى بين هذين الجناحَيْن؛ لا يُمكنه أن يسيرَ إلا بهما؛ فمتى فاتَه واحدٌ منهما فهو كالطيرِ الذي فقَدَ أحدَ جناحَيْه".[47]
ورَحِمَ الله السعدي ما أحْسَنَ قولَه في تفسيرِ قوله تعالى: (يومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَتْ مِن خيرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لو أنَّ بَيْنَها وبَيْنَه أمَداً بَعِيداً)[48]: "أي مَسافةً بعيدةً؛ لِعِظَمِ أسَفِها وشِدَّةِ حُزْنِها؛ فلْيَحْذَر العبدُ مِن أعْمالِ السُّوء التي لا بُدَّ أن يحزن عليها أشدَّ الحزن، ولْيتركْها وقتَ الإمكانِ قبلَ أنْ يقولَ: (يا حَسْرتَى على ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ الله)، (يومَئذ يَوَدُّ الذين كفروا وعَصَوا الرسولَ لَوْ تُسوَّى بهم الأرض)، (ويوم يَعَضُّ الظالِمُ على يَدَيْهِ يقولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَع الرسولِ سبيلاً يا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لم أتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً)، (حتى إذا جاءنا قال يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَك بُعْدَ المشرِقَيْن فبِئسَ القَرِين)؛ فواللهِ لَتَرْكُ كلِّ شَهوةٍ ولذَّةٍ وإنْ عَسُرَ تَرْكُها أيسرُ مِن مُعاناةِ تلك الشدائدِِ واحتمالِ تلك الفضائح؛ ولكنَّ العَبدَ مِن ظُلْمِه وجَهْلِه لا يَنظُرُ إلا الأمرَ الحاضِر؛ فليس له عَقلٌ كامِلٌ يَلْحَظ به عَواقِبَ الأمُور؛ فيُقْدِمُ على ما يَنْفَعُه عاجِلاً وآجِلاً، ويُحْجِمُ عَمَّا يَضُرُّه عاجِلاً وآجِلاً!"[49]
قال ابن القيم رحمه الله: "الشرور هي الآلام، وأسبابها فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شُرورٌ وإنْ كان لصاحبِها فيها نوعُ غَرضٍ ولذةٍ؛ لكنها شُرورٌ لأنها أسبابُ الآلامِ ومُفْضِيةٌ إليها... والمقصودُ أنَّ هذه الأسباب التي فيها لذةٌ ما: هي شرٌّ وإنْ نالتْ بها النفسُ مَسرَّةً عاجِلةً، وهي بمنزلةِ طعامٍ لذيذٍ شهيٍّ لكنه مَسمومٌ إذا تناولَه الآكِلُ لذَّ لآكلِه وطاب له مَساغُه؛ وبعد قليل يفعل به ما يفعل؛ فهكذا المعاصي والذنوبُ ولا بد؛ حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده. وهل زالَتْ عن أحَدٍ قط نِعمةٌ إلا بِشُؤمِ مَعْصيَتِه؛ فإنَّ الله إذا أنْعَمَ على عَبدٍ بنعمةٍ حَفِظَها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرِها عن نفسِه (إنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مَرَدَّ له وما لهم مِن دُونِه مِن وال).[50] ومَن تأمَّل ما قصَّ الله تعالى في كتابِه مِن أحوالِ الأُمَمِ الذين أزال نِعَمَه عنهم؛ وَجَدَ سببَ ذلك جميعَه إنما هو مُخالفةُ أمرِه وعصيانُ رسلِه. وكذلك مَنْ نظرَ في أحوالِ أهلِ عصرِه وما أزال الله عنهم مِن نِعَمِه؛ وَجَدَ ذلك كلَّه مِن سُوءِ عواقبِ الذنوب، كما قيل:
إذا كنتَ في نِعمةٍ فارْعَها ** فإنَّ المعاصي تزيلُ النِّعَمْ!
فما حُفِظَتْ نعمةُ الله بشيءٍ قط مثل طاعتِه، ولا حَصَلَتْ فيها الزيادةُ بمثلِ شُكرِه، ولا زالتْ عن العبدِ بمثل مَعصيتِه لربِّه؛ فإنها نارُ النِّعَمِ التي تعمل فيها كما تعملُ النارُ في الحطبِ اليابِس".[51]
وما أحسنَ ما قال الشاعر:
تتوب من الذنوب إذا مرضتا * وترجع للذنوب إذا برئتا!
إذا ما الضرُّ مسَّك أنت باكٍ ** وأخبث ما تكون إذا قويتا!
فكم من كُربةٍ نجاك منها ** وكم كشف البلاء إذا بليتا!
أما تخشى بأن تأتي المنايا ** وأنت على الخطايا قد دُهيتا!
ثالثا: الآثارالاجتماعية لللاستغفار:
ولو استحضرنا شروطَ التوبة التي اتفق أهلُ العلم على عَدمِ قبولِ التوبة إلا بتوفُّرِها؛ لألْفَينا الآثارَ الاجتماعية ظاهرةً فيها.
فقد قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: التوبةُ واجبةٌ من كلِّ ذنب: فإن كانت المعصية بين العبدِ وبين الله تعالى لا تتعلقُ بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني: أن يندم على فعلها، والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فُقِد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدميٍّ فشروطُها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها: فإن كانت مالا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان حدَّ قذفٍ ونحوه مكَّنه منه أو طلب عفوَه، وإن كان غيبة استحله منها".[52](/7)
فالإقلاعُ عن المعصية في الحاضر، والندمُ على فِعلِها في الماضي، والعَزمُ على عَدمِ العودةِ إليها في المستقبَل تُمثِّلُ ثِمارا إيمانيةً ونفسيةً للتوبة النصوح والاستغفار الصادق، وأما ردُّ الحقوقِ والمظالِمِ فتمثلُ الآثارَ الاجتماعية للتوبة. فليس بتائبٍ حقيقةً من لم يتُبْ عن حُقوقِ المسلمين؛ ولا تصحُّ للظالم توبةٌ وللمُتعدِّي على حقوقِ المسلمين!
ورَحِمَ الله القرطبي حيث قال: "قال علماؤنا: الاستغفارُ المطلوبُ هو الذي يحلُّ عُقَدَ الإصرارِ ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته؛ فاستغفارُه ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرتُه لاحقةٌ بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارُنا يحتاج إلى استغفار! قلتُ: هذا يقولُه في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مُكِباًًّ على الظلم حريصاً عليه لا يُقلِعُ والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر الله من ذنبه! وذلك استهزاء منه واستخفاف، وفي التنزيل (ولا تتخذوا آيات الله هزوا)".[53]
قال القرطبي رحمه الله في بيانِ الذنوبِ التي يُتاب منها تمييزاً لِحقِّ لله تعالى عن حقِّ غيرِه "وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها؛ فإن لم يوجدوا تصدق عنهم".[54]
فالتائبُ المستغفرُ المنيبُ إلى ربِّه الخائفُ من ذنبِه أبعدُ الناس عن الوقوعِ في أموالِ الناس وأعراضِهم وحقوقِهم والإساءة إليهم؛ لِمُراقَبتِه نفسَه وتوقِّيه من معاصي الله والوقوع في سخطه؛ وتلك ثمرةٌ اجتماعيةٌ للاستغفار وعلامةٌ صادقةُ على التوبة النصوح المباركة.
ويكفي من بركة الاستغفار وآثاره الاجتماعية الطيِّبة أنْ نستحضرَ أنَّ الاستغفارَ سببٌ للتواضعِ لله ولِعبادِه؛ فلا يتكبرُ المذنبُ المستغفرُ ولا يحتقرُ غيرَه بل يوقِّره، ولا يتطاول عليه بل يخفض له جناحَه! فيا سعادةَ المستغفِرين المتواضِعين! ويا شقاءَ المتكبرين الغافلين الذين يفعل الواحد منهم حسنة "فلا يزالُ يَمُُنُّ بها على ربِّهِ ويتكبَّرُ بها، ويرى نفسَهُ ويُعجَبُ بها ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ؛ فيُورِثُهُ من العُجْبِ والكِبْرِ والفخر والاستطالة؛ ما يكون سببَ هلاكِهِ؛ فإذا أراد اللهُ تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمرٍ يكسرُهُ بهِ ويُذِلُّ به عُنُقَهُ ويُصغِّرُ به نفسَه عنده"![55]
ولك أنْ تتبيَّنَ روعةَ اجتماعِ الشمائلِ الإيمانية والنفسية والاجتماعية: صبراً وصِدقاً وقنوتاً وإنفاقاً. ولا يخفى أنَّ ربطَ القرآن بين الاستغفار والإنفاق يمثل إشارةً إلى الثمرات الاجتماعية للاستغفار، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) (آل عمران 15-17)0
ومن الثمراتِ الاجتماعيةِ للاستغفارِ كظمُ الغيظِ والعفوُ عن الناسِ وإقالةُ عَثَراتِهم، كما قال الله عزَّ وجل: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران 133-135). قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله: "قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ((آل عمران 134)، أي: إذا ثار بهم الغيظُ كظموه: بمعنى كتموه؛ فلم يُعْمِلوه، وعفَوْا مع ذلك عمَّنْ أساء إليهم. وقد ورد في بعضِ الآثار (يقول الله تعالى: يا ابنَ آدم اذكُرْني إذا غضبتَ؛ أذْكُرْكَ إذا غَضِبتُ؛ فلا أُهْلِكُكَ فيمن أهْلَكَ) رواه ابن أبي حاتم".[56](/8)
وما الثمراتُ الاجتماعية في قصة الصِّدِّيق رضي الله عنه مع مِسْطح عنَّا ببعيدة! إذْ وَرَدَ تَعلِيقُ مَغفِرةِ اللهِ لِلعَبدِ على مَغفرتِه لأخيه، في قول الله عزَّ وجل: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (النور 22)0 فقد روت عائشة رضي الله عنها في حديثِ الإفك أنه لما أنزل الله عز وجل في براءتِها: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النور 11) العشر الآيات كلها؛[57] (قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان يُنفِق على مِسْطَح بن أُثاثَة؛ لِقَرابتِه منه وفَقْرِه: والله لا أُنفِقُ على مِسْطَح شيئا أبداً؛ بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله ((وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (النور 22)،[58] قال أبو بكر: بلى والله؛ إني أُحِبُّ أنْ يَغفِرَ الله لي؛ فرجع إلى مِسطح النفقةَ التي كان يُنفِق عليه. وقال: والله لا أنْزِعُها منه أبدا)؛[59] ولذلك روى مُسلم عن عبد الله بن المبارك قال: (هذه أرْجَى آيةٍ في كتابِ الله).[60]
ومن الثمرات الاجتماعية للاستغفار: المتاع الحسن والرزق الطيب المبارك، كما قال الله عز وجل: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) (هود 3). وتلك وصية نبي الله هود عليه السلام حين قال: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ) (هود 52)
ووصية نوح عليه السلام حين قال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح 10-12)0
وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضِيقٍ مَخرَجاً ومِن كلِّ همٍّ فَرَجاً، ورزقَه من حيث لا يحتسب). قال ابن القيم رحمه الله في الفصل الثامن عشر من (الوابل الصيِّب) في الأذكار الجالبة للرزق الدافعة للضيق والأذى: "قال الله سبحانه وتعالى عن نبيه نوح صلى الله عليه وسلم: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ) (نوح 10-12)0وفي بعض المسانيد عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فَرَجاً ومن كلِّ ضِيقٍ مَخرَجاً ورَزقَه من حيث لا يحتسب)".[61] "وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوةُ ذي النون إذْ دعا ربه وهو في بطن الحوت (لا إله سبحانك إني كنت من الظالمين) لم يدع بها رجلٌ مسلمٌ في شيء قط إلا استجيب له). وفي رواية (إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه: كلمة أخي يونس)".[62]
أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يجعلَنا من المستغفِرين التائبين المتواضِعين، كما قال القرطبي رحمه الله في تفسير قول الله عز وجل: (فاستجاب لهم ربهم): "أي: أجابهم، قال الحسن: مازالوا يقولون: ربَّنا ربَّنا! حتى استجاب لهم، وقال جعفر الصادق: مَن حَزَبَه أمرٌ، فقال خمسَ مرات: ربَّنا! أنْجاه الله مما يخافُ، وأعطاه ما أراد قيل وكيف ذلك قال: اقرءوا إن شئتم (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) إلى قوله: (إنك لا تخلف الميعاد)".[63]
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
- - - - - - - -
[1] الجامع لأحكام القرآن 4/212.
[2] الجامع لأحكام القرآن 4/212.
[3] أي سورة آل عمران.
[4] الجامع لأحكام القرآن 4/210.
[5] تفسير السعدي 1/384-385.
[6] الفتح 4.
[7] الكهف 13. (إنهم فتيةٌ آمنوا بربِّهم وزدناهم هدى).
[8] مريم 76.
[9] محمد 17.(/9)
[10] المدثر 31.
[11] التوبة 124. (وإذا ما أُنزِلَتْ سورةٌ فمِنهم مَن يقول أيُّكم زادَتْه هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون).
[12] آل عمران 173. (الذين قال لهم الناسُ إنَّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخْشَوْهُمْ فزادَهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
[13] الأحزاب 22. (ولما رأى المؤمنون الأحزابَ قالوا هذا ما وَعَدَنا اللهُ ورسولُه وصدقَ اللهُ ورسولُه وما زادَهم إلا إيمانا وتسليما).
[14] صحيح البخاري 1/11.
[15] فتح الباري 11/97-98.
[16] مدارج السالكين لابن القيّم 2/36-37. دار الفكر 1412هـ.
[17] فتح الباري 13/548.
[18] الوابل الصيِّب لابن القيم ص 13.
[19] الأنبياء 83.
[20] الفوائد لابن القيم ص 222-223.
[21] الفوائد لابن القيم ص 61.
[22] آل عمران 38.
[23] الأنعام 63.
[24] الأعراف 56.
[25] نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 11/95.
[26] فتح الباري 11/101.
[27] التفسير الكبير للرازي 7/176.
[28] تفسير البغوي ج1/ص285.
[29] صحيح البخاري باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت). حديث 6035.
[30] حديث 6036.
[31] صحيح البخاري 1/286.حديث 799.
[32] ونحوه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار! قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر! قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن! قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال! قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال) 4/2199.
[33] صحيح البخاري 4/2078. حديث 589.
[34] فتح الباري 2/319.
[35] المرجع السابق 11/105.
[36] المرجع السابق.
[37] المرجع السابق.
[38] الجامع لأحكام القرآن 4/411-412.
[39] بدائع الفوائد 2/431.
[40] الوابل الصيِّب ص 14-15.
[41] آل عمران 165.
[42] جامع البيان للطبري 4/164.
[43] العنكبوت 40.
[44] التوبة 118.
[45] فتح الباري 8/123. قال: "وفيها أنَّ القويَّ في الدينِ يُؤاخَذُ بِأشَدَّ مما يؤاخَذُ الضعيف في الدينِ، وجواز إخبار المرء عن تقصيرِه وتفريطِه وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة".
[46] الأبيات لعبد الأعلى الشامي.
[47] الوابل الصيِّب لابن القيم ص 14.
[48] آل عمران 30.
[49] تيسير الكريم الرحمن ص 128.
[50] الرعد 11.
[51] بدائع الفوائد 2/431-432.
[52] رياض الصالحين للنووي ص 46-47. المكتب الإسلامي بيروت.
[53] الجامع لأحكام القرآن 4/210-211.
[54] الجامع لأحكام القرآن 4/212.
[55] الوابل الصيِّب لابن القيم ص 13.
[56] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/527.
[57] النور 11-21.
[58] النور 22.
[59] صحيح البخاري 4/1777.
[60] فتح الباري 8/478.
[61] الوابل الصَّيِّب من الكلم الطيِّب1/161، دار الكتاب العربي، ط1، 1405 هـ.
[62] زاد المعاد في هدي خير العباد 4/199، مؤسسة الرسالة.
[63] الجامع لأحكام القرآن 4/318.(/10)
الاستقامة مفهومها وأحوالها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فلقد ورد ذكر الاستقامة في القرآن الكريم، في مواطن كثيرةٍ، مرةً بالأمر بها كما في قوله تعالى: ))فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ (( (هود : 112) .
ومرةً بالثناءِ على أهلها، وذكر ما أعد لهم من الخير والثواب، كما في قوله تعالى:
)) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ((( الأحقاف: 13) .
وكما في قوله تعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)) ( الجن: 16 ) .
ومرةً بطلبِ الهدايةِ إلى الطريق المستقيم، كما في قوله تعالى: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) ( الفاتحة: 6 ) .
كما جاء في السنة الحث على لزوم الاستقامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : (( قل آمنت بالله ثم استقم )) 1].
فما هو مفهوم الاستقامة وضابطه ؟
إن الاستقامة في أبسط معانيها، تعني لزوم الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا ميل، ولا إفراط ولا تفريط.
وهذا لا يتأتى إلا باتباع الرسول- صلى الله عليه وسلم، والاستسلام لما جاء به من ربه عز وجل، وبالطريقة التي فهمها أصحابه- رضي الله عنهم- وساروا على نهجها، والإخلاص لله عز وجل فيها.
ولا تكتمل الاستقامة إلا بأمورٍ أربعة:
الأمر الأول: معرفة طريقها، والعلم بها، واستبانتها بالدليل الشرعي الصحيح.
الأمر الثاني: العمل بها، والتزام تطبيقها ظاهرًا وباطنًا.
الأمر الثالث: الدعوة إليها، والتواصي بلزومها، ومدافعة ما يضعفها ويعيقها.
الأمر الرابع: الثبات عليها، والصبر على لزومها، ومدافعة ما يضادها حتى الممات، دون زيادة ولا نقصان.
ولو تأملنا هذه الأمور الأربعة، لرأيناها هي المذكورة في سورة العصر.
والتي هي مقومات الاستقامة، وبالتالي هي أسباب الفوز والنجاة من الخسران، فمن كملها كلها فقد كملت استقامته، ومن لم يُكملها نقصت استقامته بحسب ذلك.
ولا يصدقُ وصف الاستقامة على عبدٍ إلاَّ بتحقيق أمرين كبيرين.
الأمر الأول : الاستقامة على أمر الله عز وجل ظاهرًا وباطنًا، بالإخلاص لله تعالى، ومتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -في ذلك دون إفراط ولا تفريط، ولا جفاءٍ ولا غلو.
الأمر الثاني : الثبات على هذا الأمر وعدم اتباع السبل، والصبر على لزومه حتى الممات.
ونظرًا لأهمية التوسط بين الإفراط والتفريط في تحقيق الاستقامة، فإنَّهُ لا بُدَّ من تفصيل القول في هذا الضابط، وذلك لأن كثيرًا ممن يتحدث عن الاستقامة، لا يتطرق إلى أهمية التوسط في تحقيق وصف الاستقامة، وإنما يقصرُ أكثر الحديث عنها، على لزوم طاعة الله عز وجل وعدم التقصير فيها، والاستمرار على ذلك إلى الموت.
وقليلٌ منهم من يشير إلى أن مما يضاد الاستقامة أيضًا الغلو والزيادة، ولو كان بنية الطاعة والعبادة، فكما أنَّ مما يقدحُ في الاستقامة التفريط، وارتكاب المعاصي، فكذلك مما يقدح فيها الزيادة والطغيان، والغلو والإفراط.
قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)) ( هود : 112 ) .
ففهم من الآية أنَّ الزيادة والطغيان ممَّا يضاد الاستقامة، وبناءً على هذا الفهم الشامل للاستقامة، فإنَّ العبد مأمورٌ بالاستقامة في دينه كله، عقيدة وعبادة وسلوكًا، وأن يلزم الوسطية في كل أمور دينه، ويحذر من الميل إلى أحد الطرفين، طرف التفريط والتقصير، أو طرف الغلو والإفراط.
ولو تأملنا مذهب أهل السنة والجماعة، لرأيناه رمز الاستقامة في أبواب الدين كله؛ فهم وسطٌ في أبواب الاعتقاد بين الغالين والجافي،ن وفي أبواب العبادات بين المبتدعين الزائدين فيها، ما لم يأذن به الله عز وجل ، وبين المفرطين المضيعين لها من أهل الفساد والفجور، وكذلك في أبواب الأخلاق والسلوك فهم وسط في أخلاقهم بين الإفراط والتفريط إذ أن كل خلق محمود فهو مكتنف بخلقين ذميمين أحدهما غلو وإفراط والآخر تقصير وتفريط،
وهذا ما يوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله : »وكل خلق محمود مكتنَفٌ بخلقين ذميمين. وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير، والتواضع الذي يكتنفه خلقان الذل والمهانة، والكبر والعلو.
فإنَّ النفس متى انحرفت عن )التوسط« انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلق »التواضع«، انحرفت إما إلى كبرٍ وعلو، وإما إلى ذلٍ ومهانة وحقارة.(/1)
وإذا انحرفت عن خلق »الحياء« انحرفت: إما إلى قِحَةٍ وجرأة، وإما إلى عجزٍ وخور ومهانة، وإذا انحرفت عن خلق الحلم، انحرفت إما إلى الطيش والترف، والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة، وإذا انحرفت عن خُلق الأناة والرفق، انحرفت إما إلى عجلةٍ وطيشٍ وعنف، وإما إلى تفريطٍ وإضاعة، والرفق والأناة بينهما، وصاحب الخلق الوسط مهيبٌ محبوب، عزيز جانبه، حبيبٌ لقاؤه، وفي صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :»من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه)) أهـ [2]
والحاصلُ أن الاستقامة هي: التزام دين الله عز وجل، بلزوم الوسطية التي هي سمة هذا الدين، وهي دليلٌ اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه- رضي الله عنهم، مع الإخلاص لله عز وجل في ذلك كله، ولزوم ذلك كلهُ في حياة العبد، حتى يتوفاه الله عز وجل.
__________________
- [1] مسلم جـ2 ص8 باب جامع أوصاف الإسلام ( كتاب الإيمان ) .
[2] - مدارج السالكين 2 / 309 ، 310 ، 311 ، باختصار .(/2)
الاستقامة
بسم الله الرحمن الرحيم
د.ياسر برهامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد..
يقول الله عز وجل: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود:112- 123].
هذه التوجيهات التي تضمنتها تلك الآيات مِن أعظمِ التوجيهات الإيمانية التي يحتاجها أهل الإيمان خَاصَّةً في زمان الفتن التي يتساقط مَن يتساقط فيها مِن أهل الغواية، ويبتعد بسببِها عن الحق مَن يبتعد مِن أهل الضلالة، فتتحير العقول وتتقلَّب القلوب، فيُثَبِّت الله عز وجل قلوب المؤمنين بما أنزل مِن كتابه الكريم مِن آيات هي نور وهدى وشفاء لما في الصدور ورحمة لقوم يؤمنون.. فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
وهذه الأوامر القرآنية التي تضمنتها الآيات أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيها بتوجيهات عظيمة وآداب حكيمة أولها الاستقامة (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت).
وقد فسرها السلف بعدة تفسيرات كلها من الحق، منها وأعظمها: الاستقامة على التوحيد والإيمان وعدم الارتداد إلى الشرك؛ فإن الذي قال: ربي الله، ثم استقام على ذلك فلم يرجع ولم يبتعد قد حصَّل أصل الاستقامة, ولا تحصل الاستقامة إلا بالاستقامة على التوحيد والإيمان والابتعاد عن الشرك والطغيان الذي هو مجاوزة الحد والذي هو أعظم الظلم والعياذ بالله.
وأصل الاستقامة في القلب، فيستقيم القلب على الإيمان حباً لله عز وجل، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، وإنابةً، وشوقاً إليه سبحانه، وزهداً في الدنيا، ورغبةً في ما عند الله، وشكراً لنعمه، وصبراً على بلائه، ورضاً بقضائه.. فاستقامة القلب على الإيمان هو أصل الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها، وهو الذي يتفرع عليه بعد ذلك أنواعها, ولذلك فلابد أن يكون المؤمن مُهتماً بحال قلبه وبما يَرِدُ عليه مفتِّشاً فيما يقع في نفسه من خواطر وإرادات وعزائم ينظر فيها مستبصراً: من أين أتته؟ أهي مما أمر الله عز وجل به وذلك من فضله سبحانه؟ أم هي مما يلقي الشيطان من بذور الشر والفساد لتُنبت في القلب أنواعَ الأمراض التي يريد أن يهلك بها الإنسان من إرادات العلو والفساد في الأرض, إرادة العلو بالرياسة والملك والسلطان, وإرادة الفساد باتباع الشهوات الدنيئة الخسيسة ذلك الذي يضل به الناس عن الاستقامة, وقد جعل الله عز وجل الدار الآخرة (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً) [القصص: من الآية83], فمن الناس من يريد العلو ومنهم من يريد الفساد ومنهم من يريد العلو والفساد.
فالذين يريدون العلو -وإن لم يريدوا الفساد- يريدون ملكاً ورياسة على أي حال، ولا مانع عندهم أن يكون ذلك بالدين, وهذا يُخشى منه على الصالحين وذلك أنه لا يلزم أن يكونوا مفسدين، ولكن إذا أرادوا العلو لم يكونوا من أهل الآخرة.
وكذلك من الناس من يريد الفساد ولو لم يرد العلو, يريد أن يتمتع بالشهوات ولو كان في أذل حال ولو كان على أضل طريق وأخبثه والعياذ بالله, فليس إلا نوال خبيث وشهوة دنيئة ولو كان في أحواله كلها بأقذر مكان وعلى أضل سبيل.(/1)
فتجد كثيراً من الناس وقد جمع ذلاً وهواناً مع شهوات مستقذرة منحطة متردياً لم ينل من الحظوظ إلا أوهاها، ولا من المذاهب إلا أرداها، قد فاته عز الدنيا وكرامتها مع فناء أيامها وانصرام مهامها، لم ينل منها إلا منال البهائم، وربما كانت البهائم أحسن حالاً منه حيث لا تتحمل الهم ولا تخاف فتغتم, فلا مخافة من نائبة, ولا حساب في العاقبة.
ومن الخلق من يريد العلو والفساد معاً كإبليس واليهود, ومنهم من لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً وهم القلة فتلك الدار الآخرة يجعلها الله (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: من الآية83].
فأصل الاستقامة على الصراط استقامة القلب وحسن توجهه إلى الله, فلابد أن يبحث الإنسان في قلبه: هل يحب الله عز وجل حقاً؟ وهل يرجوه وحده ولا يرجو سواه؟ وهل يخافه وحده ولا يخاف سواه؟ وهل يخلص له سبحانه كما أمر (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر: من الآية65]؟
وكذلك يفتش في نفسه عن ضد ذلك: هل يقع منه من عمله ما يرائي به الناس ويقصد به غير وجه الله؟ هل يقع منه من الحقد والحسد والبغضاء والشحناء ما يصرفه عن الاستقامة على الصراط؟ هل يقع منه إرادة الدنيا وابتغاؤها وانشغال الهم بها وأن تكون هي أكبر الهم ومبلغ العلم؟
ينظر في حاله ويفتش في نفسه، والأمر يبدأ ببذور الخواطر وتنبت بعد ذلك الإرادات من الخواطر، فعندما يفكر الإنسان كثيراً في أمر معين ويسيطر ذلك على قلبه تنبت الإرادات الجازمة, فمرض العشق -مثلاً- يبدأ بنظرة تورث خاطراً يخطر بالقلب، ثم يستمر الفكر فتستمر سقى الشيطان لهذه البذرة، ثم تسيطر على القلب حتى لا يستطيع منها حراكاً ولا عنها انفكاكاً, ولا يتخيل الحياة بدونها.
وكذلك حب المال، فالإنسان يولَد وليس في قلبه حب المال، حتى ما عرفه صغيراً، فلو أعطيت طفلاًَ صغيراً مائة من الجنيهات أو أكثر لمزَّقها بيده ولربما ألقاها، ثم ينمو معه حب المال فيكثر التفكير فيه، ويزداد بتخيل الكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وغيرها من الأموال، حتى يجعل العبد عبداً لهذا المال عظيم الرغبة فيه, لذلك نقول لابد حتى يستقيم القلب لابد من تطهيره من الإرادات الفاسدة, وملئه بالإرادات الإيمانية والخواطر الرحمانية التي تشغل فكر الإنسان بالآخرة فيفكر في الدنيا.. في خلق السماوات والأرض، ويعلم أن الله ما خلق هذا باطلاً، وينزهه عن ذلك، ويدعوه أن يقيه عذاب النار, ويفكر كثيراً في الموقف بين يدي الله تعالى، وفي قيام الناس لرب العالمين، والشمس دانية فوق رءوسهم.. يفكر كثيراً في الحساب، وفي الميزان، وفي الصراط وكيف سيمر عليه بعمله وكيف سيجازى على أعماله كلها بميزان الحق والقسطاس المستقيم: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7، 8].
ويفكر في الجنة، وفي أحوال أهلها، ونعيمهم، وما يتمتعون به من مجاورة الرب الكريم سبحانه وتعالى، والنظر إلى وجهه عز وجل في جنات عدن التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويتأمَّل ويفكر كثيراً في أهل النار وهم يتضاغون فيها ويُعذَّبون بأنواع الحرمان وأنواع العذاب الأليم في طعامهم، وشرابهم، ولباسهم، وأحوالهم كلها.. ذلك الفكر الذي يثمر استقامة القلب؛ لأن هذه الخواطر تثمر الإرادات التي تجعل العبد يطلب الجنة ويبتعد ويفر من النار.
ويفكر في وحدانية الله عز وجل في: أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وقضائه، وقدره، وقدرته، وعظيم صنعه, ويفكر في ربوبيته وألوهيته؛ فيكون على أكمل الأحوال, ثم يُطهِّر قلبه من كل ما يضاد ذلك ويخالفه حتى يستقيم على سبيل غير معوجّة.
ثم الاستقامة بعد ذلك للسان فإنه رأس الجوارح بعد القلب, والأعضاء به, فإن استقام استقامت وان اعوج اعوجَّت فلينظر الإنسان فيما يتكلم به وليحذر مما حرَّم الله عز وجل من الكذب، والغيبة، والنميمة، والسب، والبذاء، والطعن في الناس، وأذيتهم بلسانه ذلك مما يكب الناس على وجوههم في النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "وهل يكب الناس على وجوههم أو قال على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم" صحيح رواه الترمذى وغيره.
فلابد من استقامة اللسان لاستقامة القلب والجوارح، ولابد من انشغاله بذكر الله تعالى؛ فإن أهل الجنة ليسوا يتحسرون إلا على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله فيها, ولابد أن يكفَّ لسانه إلا من خير فهو إما ذاكر غانم أو ساكت سالم، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".(/2)
ثم استقامة الجوارح بعده، وأهمها العين؛ فإنها أسرع المنافذ إلى القلب وأقصر الطرق إليه, والنظر دائماً يورث تقلُّب القلوب وتغيرها سريعاً، فليحذر الإنسان من النظر إلى ما حرم الله عز وجل، وكم من الناس سيطر عليهم الشيطان بالنظر إلى ما حرَّم الله من خلال ما تعرضه وسائل الإفساد التي يقوم عليها الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وفساد النظر في زماننا أعظم بكثير منه في الأزمنة الماضية حيث لم يكن الناس بهذه الكثرة، وما كانوا بهذا الفجور، وما كان الفساد بهذا الاتساع, كان غض البصر أمراً يُحتاج إليه رغم قلة الفساد، فكيف حين ازداد؟ وكيف إذا كان الشر يأتيك من المشرق والمغرب ومن العالم كله من خلال أجهزة الإفساد ومن خلال الجرائد والمجلات؟
وتأملوا كيف يسعى الشباب والرجال والنساء إلى النظر إلى الصور المحرمة والعورات المكشوفة، وأن المجلات التي تتضمن ذلك والجرائد هي أكثر الجرائد والمجلات مبيعاً، والأفلام التي تعرض فيها تلك الصور هي أكثرها عرضاً وانتشاراً، فصار الفجَّار يأتون الفاحشة وهم يبصرون ويأتون في نواديهم المنكر، فهذا وأمثاله مما يمرض القلوب ويميتها ويمنعها الاستقامة مما لا يجعلها ثابتة على الحق، فلابد من استقامة النظر بغض البصر، والكف عن المحارم، وأن يستعمل العبد نظره في طاعة الله عز وجل، فينظر في كتاب الله تعالى متدبراً، وفي ملكوت السماوات والأرض متفكراً، وذلك من عبودية العين, والله عز وجل يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: من الآية36].
وبعد ذلك استقامة الأذن أيضاً، وهي من أقصر الطرق إلى القلب بعد العين وربما تسبقها عند كثير من الناس، ولذلك تجد السماع المحرم من أعظم ما يُضل الشيطان به الناس, فيعكفون على سماع المعازف المحرمة والأغاني الفاسدة, ليُمنع القلب ويُحرم من استقامته على الصراط كي لا تفيق القلوب بعد لهوها من غفلتها, وكي لا تدرك أفضل ما يمكنها إدراكه بعد استقامتها من حب الله ومعرفته والأنس به والشوق إلى لقائه وإفراده بالخوف والرجاء والتوكل وسائر العبادات، فيمنعهم الشيطان أن يسمعوا كتاب الله عز وجل إلا في حالات الهم والغم والكرب والحزن, وإذا قيل لهم اسمعوا لهذا القرآن قالوا: أنحن في مأتم؟!، فجعلوا القرآن -الذي هو هدى وشفاء لما في الصدور- للمآتم والأحزان لا يذكرهم مفازع الآخرة، ولقد يسره الله للذكر ولكنهم كانوا قد أدمنوا سماع المعازف والألحان المطربة وسماع الأغاني السخيفة السمجة التي تحث على الفساد فحِيل بينهم وبين طعوم الإيمان وملاذه بالذكر الحكيم, وحرمت تلك القلوب ابتغاؤها أن تستقيم.
لماذا يصعب على الإنسان أن يستجيب للحق؟ لماذا لا يتأثر بسماع الموعظة من كتاب الله عز وجل ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل ربما لا يفهما أصلاً؟, قلة الفهم هذه سببها قلة الخير في القلب، كما قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال:23].
فكثير من الناس لا يفهم، وذلك لندرة الخير في قلبه، فمتى وجدت كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صعباً على الفهوم فاعلم أن الخير قليل في القلوب لأن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، يعني هل من متذكر.
ولذلك نقول: أصل الاستقامة استقامة القلب ثم استقامة اللسان والجوارح تؤثر على القلب بغير شك ويدخل إلى القلب منها ما يؤذيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والله الذي لا إله إلا هو إن الغناء لينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل), ولقد صدق رضي الله عنه عنه ويعني به الغناء المحرم الفاحش المشتمل على العبارات المنكرة والمعاني الفاسدة والمعازف المحرمة، وهذا كلام مجرب، وكلام ناصح عارف لما ينبت النفاق في القلوب.
ومن عجب أن الناس لا يستغنون عن الملاهي والمعازف ليل نهار, فكيف يمكن للقلب أن يستقيم؟ لابد أن يشغل العبد سمعه بذكر الله عز وجل ليستقيم على طاعته سبحانه.. لابد أن ينشغل بسماع القرآن، وسماع الموعظة الحسنة، وسماع دروس العلم حتى ينتفع بذلك ويهتدي إلى سواء السبيل.
وكذلك استقامة باقي الجوارح من: اليد، والرجل، والبطن، والفرج، فإن كلاً منها له أثره في استقامة القلب وصلاحه.
يقول تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) فلابد إذاً من المتابعة، وإذا كان الإنسان قد عزم على أن يسير في الطريق فلابد أن يعلم معالمه وحدوده.(/3)
(كَمَا أُمِرْتَ) لابد من متابعة الأمر, إذاً لابد أن نتعلم أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كيفية الاستقامة لا يكفي فيها مجرد العزم حتى نتعلم ما أمرنا به, فلابد أن نسمع أوامر الله بتفهم وتدبر لتعرف ما أمرك به عز وجل, ولابد إذاً من قراءة القرآن، ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.. لابد من تعلم العلم لكي نحدِّد حدود الأمر الذي أمرنا به؛ فإن كثيراً من الناس يريد أن يسلك إلى الله عز وجل ولكنه يخطئ الطريق فيسير في طريق غير الطريق المأمور به، ويبتدع في دين الله، فيرد عليه عمله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم.
يقول الله عز وجل في هذه الآية: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) وصف سبحانه المؤمنين هنا بالتائبين، وهو وصف تكرَّر ذكره مع الاستقامة في مواضع، كما في قوله تعالى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت: من الآية6]، وقال هنا: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) [هود: من الآية112]، إذاً لابد من زلات وأخطاء، وليس الشأن في وقوع تلك الأخطاء إنما الشأن في عدم تداركها؛ فإن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وقد علمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عبداً أذنب ذنباً، فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي, ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، قال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي" ويقول في الثالثة: "قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء".
فالشأن إذاً أن نكون دائماً من التائبين كما قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [النور: من الآية31]، لم يقل أيها العاصون ولا أيها الفاسقون، وإنما دُعى الأتقياء إلى مقام التوبة: مقام الابتداء ومقام الانتهاء.. مقام لابد أن يصحبك منذ البداية منذ أن تعزم على الاستقامة حتى تصل إلى الجنة إن شاء الله، لابد أن نكون رجَّاعين إلى الله تائبين دائماً, تحاسب نفسك فتدرك التقصير فتستغفر الله وتتوب إليه, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة" متفق عليه.
وقد أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد إكمال جهاده في رسالته ودعوته، وبعد أن تحققت الغاية المقصودة من حياته وبعثته، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، أنزل الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) [النصر:1- 3].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى الاستغفار ويؤمر به، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي", وإذا كان الصحابة يعدون له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"، وليس استغفاره صلى الله عليه وسلم كاستغفارنا الذي يحتاج إلى استغفار, إنما هو استغفار نابع من شهود حقيقي للتقصير, وتقصيره صلى الله عليه وسلم بمنزلة الحسنات لنا فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير".
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله هذه التوبة، ويستغفر هذا الاستغفار، وهو أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية، فما الظن بأحوالنا؟ ربما ظنَّ الواحد منا أنه غاية في الاستقامة وبحر من بحور العلم وقدوة في الدعوة والبذل والجهاد وآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نسأل الله العافية, وهذا كله من الخلل الذي يؤدي بنا إلى أنواع الفشل وأنواع الفساد، لذلك لابد من تحقيق التوبة في هذا المقام؛ لأن الاستضعاف إنما يحصل بالذنوب, ويتسلط الظلمة على المسلمين باقتراف الذنوب ووجود التقصير, فيُستدرك الأمر بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك قال المؤمنون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) [آل عمران: من الآية147]، وقالوا لما دعوا ربهم ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة:5].(/4)
وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لتفريج الكروب، وأمر بالاستغفار والتوبة في خواتيم العبادات ليس فقط بعد ارتكاب السيئات والوقوع في الزلات، فكان بعد الوقوف بعرفة الأمر بالاستغفار، قال عز وجل: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199], وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد الصلاة: "أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله", وبعد التشهد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يقول: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
فالتوبة إلى الله عز وجل مقام لا يستغني عنه الأنبياء والصديقون، فضلاً عن المقصرين والمفرطين.
إذاً لابد من وقوع التفريط، ولابد من معالجة التفريط، فلا تيأس من تكرار أخطائك وكثرتها، وعليك أن تستدرك تلك الأخطاء، وألا تصر عليها، هذا هو الداء فإنما يأتي البلاء من إهمال العبد معالجة نفسه، وما من مرض تبادر إلى علاجه ومداواة نفسك منه إلا زال بإذن الله؛ فإنك إذا أهملت أدمنت.
ولا يزال الوقوع في المعاصي والذنوب بالعبد وتركه الطاعات والإقبال عليها حتى يعضل به الداء فلابد من الرجوع والتوبة.
ثم تأمل قوله: (مَعَكَ) في قوله: (وَمَنْ تَابَ مَعَكَ)، لكي تنتبه إلى أمر عظيم وهو أنه لابد من معية الصالحين, لابد أن نكون أولاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمتابعة سنته وأن نكون معه عبر الزمان وعبر المكان، وهذا يحصل بالالتزام بدينه نصرة ومحبة وصدقاً، والالتزام بسنته تعلماً وتعليماً وتطبيقاً، ولا نعني بالسنة النوافل ولكن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، والمنهج الذي جاء به فهذا طريق النجاة وأصحابه هم الفرقة الناجية الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: "من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي"، وهذا يحصل بدراسة السيرة والسنة حتى يحب الإنسان هذه الطريقة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيثبت على الصراط, ودراسة هذا وتأمله وتدبره يجعلنا نسير على طريق الحق ونستقيم بإذن الله.
وكذلك لابد من معية الصالحين: معية من يكونون على نفس الطريق؛ فتلك المعية وهذه الصحبة من أعظم أسباب الاستقامة, أن تكون مع إخوانك في الله عز وجل, وكلما ابتعدت عن إخوانك كلما تفرد بك الشيطان، فالشيطان ذئب الإنسان، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فعليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
وصلاة الجماعة أحد مظاهر صحبة الصالحين حيث نراهم ويروننا، وننصحهم وينصحوننا، ونذكرهم ويذكروننا، فأنت عون لهم وهم عون لك على طاعة الله عز وجل, وصلاة الجماعة فرض على الأعيان على الصحيح، وذلك إشارة إلى أهمية تلك المعية وفضل تلك الصحبة.
ثم إياك وصحبة الأشرار فإن جليس السوء إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة.
ولابد أن يكون لك مع إخوانك أوقات تقضيها في طاعة الله عز وجل، ولا أعني بصحبة الصالحين مجرد قضاء الوقت بلا فائدة مع من تظن صلاحهم، بل لابد أن تكون معهم على الطاعة فتجتمع معهم على طاعة شُرع الاجتماع فيها: كصلاة الجماعة، ومجالس الذكر، ودروس العلم، وحفظ القرآن، وزيارة الإخوان، وعيادة المريض، وكل ما كان من أسباب الاجتماع مع أهل الخير والصلاح تكون فيه معهم ومنهم، وإياك أن تبتعد عنهم فإن غاية ما يريده الأعداء لكي يضلوا عباد الله رجالاً ونساءً أن يبتعدوا عن إخوانهم في الالتزام، وأن يتفرقوا في أهواء متعددة ومناهج متفرقة، فإن ذلك يؤدي إلى ضعف الإيمان والتردي بعيداً عن حقيقة الاستقامة.
ولذلك نقول مراراً لابد في الاستقامة من صحبة صالحة وهم القوم يُنتفع بهم بصلاحهم، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، ويغفر للعبد بوجوده معهم، ولو لم يكن منهم كما في الحديث الصحيح "أن الله عز وجل يشهد ملائكته أنه غفر للذين يسبحونه ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه ولم يروه ويسألونه الجنة ويعوذون به من النار فيقول الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم, فيقول واحد من الملائكة: يا رب فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم, إنما جلس لحاجة، فيقول الله: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
فكن مع هؤلاء الذين لا تشقى بهم تكن من المستقيمين على أمر الله عز وجل, وإن عدمت في محلتك من يعينك على الخير فلن تعدم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة الصالحين من تعيش معهم أوقاتاً تتذكر من خلالها طريق الهدى, وكلما نقرأ في سير الصالحين كلما نزداد استقامة على صراط الله ونعلم من أنفسنا مدى التقصير الذي نحن عليه، فنستغفر الله ونعاود العزم والهمة على السير على طريق الله سبحانه وتعالى, ولو نظر كل واحد منا في أسباب التزامه ابتداء ربما وجد صديقاً صالحاً كان عوناً له على طاعة الله.(/5)
ويكفي في شرف صحبة الصالحين أن الله عز وجل عندما ذكر أصحاب الكهف ذكر معهم كلبهم الذي صحبهم في المواضع المختلفة التي ذكرهم الله عز وجل فيها، فإذا كان كلبٌ صحب الصالحين ذكره الله معهم، فما الظن بمؤمن صادق الإيمان صحب الصالحين من المؤمنين؟
قال الله عز وجل: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف: من الآية22], ويقول سبحانه: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف: من الآية18]، فهذا ونحوه مما يدلنا على أن الإنسان إذا صحب الصالحين كان ذلك أكبر عون له على طاعة الله عز وجل.
وقد أمر المؤمنون أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلنكن معه دائماً على كل حال، ولنكن مع من كان معه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والصالحون نؤمر بمتابعتهم ومعيتهم لنكون دائماً ذاكرين لله عز وجل.
قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)، والطغيان مجاوزة الحد، فلا تتجاوز حدود الله عز وجل، ولا تبغ ولا تتعد، فالتعدي والتجاوز لحدود الشرع هو الذي يؤدي إلى الحرمان حتى ولو كان في مرحلة الاستضعاف, وكل مجاوزة لحدود الله هي من أسباب تأخير التمكين ومن أسباب البعد عن الاستقامة, فإذا كنت على طريق مستقيم ثم تجاوزت الحد خرجت عن الطريق, لابد أن تظل على الصراط.. وهذا مما يؤكد أهمية معرفة حدود الله حتى لا يطغى الإنسان، وحتى لا يظلم، وحتى لا يتجاوز كما قال تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) [التوبة: من الآية97].
والطغيان سببه أساساً الرغبة في الدنيا، وهذه الرغبة تحث المرء على تطلعه فيها تطلعاً لا ينقضي معه الطمع، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالثاً, ولن يملأ فاه ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب".
وظلم الناس من أعظم مظاهر الطغيان فاحذر أن تظلم إخوانك المسلمين، بل احذر أن تظلم أحداً قط أبداً؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, والطغيان ولو على مشرك من أسباب الحرمان ومن أسباب الفساد وتأخير النصر والتمكين.
قال تعالى: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهذا ترغيب وترهيب: ترغيب في الاكتفاء برؤية الله عز وجل إياك في استقامتك وتوبتك ومعيتك للصالحين؛ فإن كثيراً من الناس إنما ينظر في ذلك إلى نظر الناس لأنه لم يستشعر نظر الرب عز وجل إليه.. لو استحضر أن الله يبصر عمله والله ما التفت إلى الخلق طرفة عين.. إذا استحضر أن مالك الملك يراه ويطلع على عمله ماذا ينتظر بعد ذلك من رؤية الناس؟
والرياء طلب الرؤية، وإنما يحصل للعبد بالنظر إلى الناس ليروا عمله فهو يرائيهم أي يطلب رؤيتهم عمله ومن هنا سمي رياءً، وكذلك السمعة يطلب أن يسمعوه يطلب أن يتكلموا عنه وأن يُسمع بعضهم بعضاً مدحه وحسن الثناء عليه.
فمتى علمت أن الله سميع بصير كفاك نظر الله تعالى إليك.
وإذا قيل لأحد من الناس إن الرئيس أو الملك يقرأ تقارير عملك في خدمته بنفسه, هل يبحث عن الحراس الذين يحرسون الملك أو عن الخدم الذين يخدمون الرئيس أو عن الأتباع؟ لا شك أنه سوف يكون مهتماً جداً بأن أعماله سوف تعرض على هذا مباشرة.
أما بصر الرب سبحانه وتعالى وسمعه وشهادته فبغير وسائط كما في الآية: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فإذا ما استحضر العبد بصر الرب عز وجل عمله لم يطلب قطعاً رؤية الناس، ولا سمعهم فأخلص لله عز وجل.. وفي هذا التنبيه على شرط الإخلاص، وفيه الترهيب من أن تعمل خلاف ما أمرك به فإنه بما تعملون بصير.
فإذا راقبت الله سبحانه وتعالى واستحضرت أنه يبصر أعمالك فلن تعصيه بل ستخلص وتتابع وتطيع، وهذا أثر من آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته، فهذه شروط العبادة كلها من إخلاص وإتباع وطاعة تحصل كثمرة من ثمرات الإيمان باسم الله البصير.
وأنت ترى في الواقع مثلاً أن الطالب في الامتحان عندما يكون مستحضراً بصر المراقب له هل سيغش؟ لن يفعل بل سيكون حريصاً على النظر في حال نفسه مراعياً ما يؤمر به منتهياً عما ينهى عنه, لذلك نقول هذا ترغيب وترهيب, ترغيب لتخلص لله وحده وترهيب من أن تخالف أمره أو أن تبتغي بصر غيره.
ثم ننتقل إلى أدب آخر من تلك الآداب التي تضمنتها هذه الآيات في قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، وهو النهي عن الميل والركون إلى الظلمة.
وفترة الاستضعاف التي تمر بها الأمة فترة حرجة خطيرة فإن ثمة ضغوطاً شديدة تدفعك إلى أن تميل مع الباطل، وتركن إلى الظلمة، وتطمئن إليهم، وترضى بفعلهم، وتتمنى أن تكون مثلهم, وكم من أناس إنما صاروا مع الظلمة بالرضا بأفعالهم والمتابعة لهم والركون إليهم.(/6)
وكثير من الناس من يقول: "أنا أريد الحق ولكن ماذا أصنع؟ الناس يأمرونني بغير ذلك"، وكثير منهم من يضحي بدينه في سبيل أن يعيش -بزعمه- وهو في الحقيقة يموت.. يقولون نريد أن نعيش ونربي أبناءنا، ولذلك يتابعون على الظلم ويركنون إلى الذين ظلموا، ويأكلون السحت، ويشهدون الزور، ويربون أبناءهم على ذلك وبه، فيكونون سبباً لعذابهم لأنهم لم يربوهم على الإيمان والتوحيد, لم يربوهم على طاعة الله عز وجل ولو في مخالفة الناس ومفارقتهم إرضاءً لله؛ فإن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ولذلك فالركون إلى الذين ظلموا يكون بمتابعتهم على أي نحو فمن الناس من يتابعهم حتى لا يكون غريباً بينهم، كالذي يتابع الناس على شرب الدخان مثلاً مع أن الدخان ليس شهياً أو لذيذاً فإن من لا عادة له بشربه إذا اشتمه كرهه، ومع ذلك فالمبتلون به في ازدياد.. لماذا؟ يبدأ الأمر بالتقليد الأعمى حتى يكون الشاب مثل الرجل ومقارعاً له.. يريد الفتى أن يكون مثل الرجال فيفعل مثل فعلهم فيركن إليهم فيكون ظالماً مثلهم فيصيبه من بلائهم ما لا يستطيع معه أن يمتنع منه، ومثل ذلك في الخمر والمخدرات وغيرها من الفواحش التي هي من أخبث الأشياء رائحة وطعماً، ومع ذلك يدمنها كثير من الناس.
والعلة في مصاحبة أهل السوء ومتابعة الظالمين على ظلمهم حتى لا يكون المرء غريباً فبدلاً من أن يأنس بصحبة الأتقياء ومتابعة الصالحين هوى هوى الأشقياء وتزيّا بزيّ الظالمين.
ومنهم من يتابع على الباطل وعلى الظلم لأنه يؤمر به؛ فإن حقيقة التبعية استعداد التبيع لمتابعة المتبوع على كل حال، قال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب:67،68]، وقال: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:166، 167]، فذلك النصيب الوكس عاقبة الخزي بما ظلموا.
ولو أنك تأملت أنواع المخالفات المنافية للفطرة لما وجدت إلا الركون للذين ظلموا سبباً لها؛ ولذلك كان هذا من أعظم أسباب الانحراف وعدم الاستقامة.
ومن تلك الأنواع هذا التبرج الذي ينافي الفطرة الإنسانية وما فطر الله الناس عليه مما يدعو إليه الإسلام من التستر والحياء وحفظ العورات, وهذا أصل النوع الإنساني آدم وزوجه -عليهما السلام- ما إن بدت لهما سوءاتهما حتى طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، قال الله عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: من الآية27]، فالشيطان هو الذي يأمر بالعري، إذاً فطرة الإنسان السوية ليست في التعري وإنما في التستر؛ لذلك قال الله عز وجل عن آدم وزوجه: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: من الآية22] كان هو وزوجه فقط ومع ذلك طفقا يخصفان حياءً، فهذا هو الأصل في الإنسان وتلك فطرته.
فلما تغيرت الفطرة وتبدلت تجد الرجل يمشي عارياً بين الناس، وهكذا المرأة مع أنها أكثر حياءً بل المرأة أكثر تهتُّكاً مع أنها في الأصل أكثر حياءً على ما تنزع إليه هرموناتها الأنوثية، ولذلك كان حياء العذراء في خدرها يضرب مثلاً لحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن لماذا ينافون الفطرة ويخالفونها؟ الجواب: لأن الناس كذلك يفعلون، وهذا هو الركون إلى الذين ظلموا: ركون القلب ثم ركون الجوارح.. يريدون أن يتابعوهم على ما هم عليه حتى في الأمور التي يتأذون منها، وتضيق صدورهم بها، ولكن سرعان ما تتوق إليها نفوسهم، وتنفرج لها صدورهم، وهذا كلبس الملابس الضيقة التي يقضون فيها الساعات الطويلة أمام الناس مع قبح الصورة وتجسيم العورة الذي ينافي الفطرة السوية ولكنه التقليد الأعمى واتباع الكبراء.
فلابد من مراعاة هذين الأمرين المتلازمين: أن تبتعد عن الذين ظلموا، ولا تركن إليهم، ولا تحبهم، ولا تتابعهم، ولا تواليهم، ولا ترضى بفعلهم، ولا تنصرهم على باطلهم، وفي نفس الوقت تكون مع الذين تابوا.(/7)
فمتى تحقق الاستقامة في نفسك لا بد من الأمرين جميعاً، فلا تضحِّ بدينك من أجل موافقة الناس، وفارق الناس وأنت تحتاج إليهم حتى تكون يوم القيامة بعيداً عنهم إذا ذُهب بهم إلى النار, وتقول مع المؤمنين: "ربنا فارقناهم أفقر ما كنا إليهم" فلا تتبعهم يوم القيامة يوم ينادي منادٍ من قبل الله: "أن تتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت, ثم يؤتى باليهود فيقول الله عز وجل: "ماذا كنتم تعبدون؟"، فيقولون: "كنا نعبد عزير ابن الله"، فيقول الله: "كذبتم، ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً"، فيقال: "ماذا تريدون؟"، فيقولون: "عطشنا يا ربنا؛ فاسقنا"، فيقال: "ألا تردون؟" فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، ثم يؤتى بالنصارى فيقال: "ما كنتم تعبدون؟"، فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله صاحبة ولا ولداً, فيقول: ماذا تريدون؟، فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيقال: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم ربهم عز وجل فيقول: ماذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد, فيقولون: ربنا فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم.." يعني أحوج ما كنا إليهم.. (فارقنا الناس) أي في الدين.. من أجل الدين.. من أجل طاعة الله ومرضاته.. فارقناهم ونحن نحتاج إلى موافقتهم، فنحن الآن في غنى عن موافقتهم التي تؤدي بنا إلى النار، فيكرمهم الله بأن يهديهم إلى الصراط المستقيم كما هداهم سبحانه في دنياهم إلى صراطه المستقيم فيمرون عليه إلى جنات النعيم.
فكل تعاون على ظلم وكل موالاة لظالم محرمة في هذه المرحلة وفي غيرها.
ثم قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)، وهذا بيان أن موالاة الظلمة تفقد ولاية الله عز وجل، وتفقد نصرته سبحانه، وأن الاستقامة على أمره سبحانه بها ينصر أولياءه ويعينهم ويثبتهم.
وتأمل قوله: (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)، فإن ثم للعطف مع التراخي، والمعنى: أنهم سوف يكونون معاًُ فيما يبدو للناس منتصرين مدة من الزمن، لكن عاقبة الأمر إلى الخزي وعدم النصر.
وأنت إذا تأملت وتساءلت: "أين الكبراء والرؤساء والوزراء؟" وجدت أنهم كلهم عباد مأمورون، يقول أحدهم: "أنا أنفذ الأوامر، أنا عبد مأمور"، فهذا يركن إلى الذين ظلموا فيفقد ولاية الله عز وجل.. هو في أعين الناس وزير أو مشير، وهو في الحقيقة ما يقوله عن نفسه: (عبد مأمور).. وفي نهاية الأمر لا ينصر هذا المجموع.
ولكن لابد للطريق من معالم يصل بها القلب إلى الاستقامة وهذه المعالم هي العبادات الظاهرة التي شرعها الله عز وجل لتتحقق بها عبودية العبد، وأهمها الصلاة قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وصلاة طرفي النهار: صلاة الصبح في الطرف الأول، وصلاة الظهر وصلاة العصر في الطرف الآخر؛ لأن ما بعد زوال الشمس يكون نصف النهار الآخر.
(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ): المغرب والعشاء، وفيه إشارة إلى صلاة الليل أيضاً ولكن الأصل الواجب الصلوات الخمس.
ولابد من التقصير في سلوك الطريق، ولابد من تدارك هذا التقصير: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات) فالصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر كما قال صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن نهراً غمراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات في اليوم والليلة أيبقي ذلك من درنه شيء؟"، قالوا: لا يا رسول الله لا يبقي ذلك من درنه شيء، قال: "فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
فإذا أقيمت الصلاة فعلاً بتمامها كفَّر الله بها من سيئات العبد، والعبد الذي يواظب على الصلاة في أوقاتها، وعلى خشوعها، وركوعها، وسجودها يغفر له، وترجح كفة حسناته، وتذهب الحسنات بالسيئات، وقد ورد في الصحيح (أن رجلاً نال من امرأة بالمدينة قبلة أو مساًً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصبت حداً فأقمه عليّ"، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى صلى معه ثم قال له: "هل صليت معنا؟"، قال: "نعم"، فتلى عليه هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، فقال: "ألي خاصة أم للناس عامة؟"، فقال: "بل للناس عامة")، فهي عامة لكل مؤمن فالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع الإتيان بخشوعها الباطن والظاهر وأركانها وشروطها وواجباتها تذهب بها الخطايا وتكفر بها السيئات، فحسنات العبد في مقابلة سيئاته فكل حسنة تذهب سيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها).(/8)
ولما كانت الصلوات الخمس ونوافلها في كل وقت لم تزل تتبع السيئات فتمحوها, فجنودك من الحسنات هي التي تقضي على عدوك من جنود السيئات.
ولكن لماذا نعجز عن الطاعات؟ لأننا فرطنا في الطاعات قبلها؛ فإن الحسنة دليل الحسنة, وأنت إذا أطعت الله عز وجل وفقك إلى طاعة أخرى وأذهب عنك السيئات.
وصاحب السيئات يعجز لأنه مثقل بالجراح تلك الجراح التي تؤذي القلب، وتشغله بالهوى عن الهدى، وبملاذ الشهوات عن نور الإيمان، فينأى وقد أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
ولابد حتى تكف عن السيئات أن تنشغل بفعل الحسنات التي تذهب برجسها وتحفظك من شرها، ولا شيء أعظم من الصلوات المكتوبات وما يتلوها من النوافل المستحبات يمحو تلك السيئات الضخام ويذهب بالمخازي والآثام.
(ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) وهذا أعظم من تكفير السيئات كما قال الله عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: من الآية45]، فذكر الله الذي في الصلاة أكبر من محوها للسيئات، فالصلاة فيها فائدتان عظيمتان:
الأولى: ذكر الله، وهو مادة حياة القلب وأصل هدايته وصلاحه، فذكر الله الذي يسبق العبد به إلى ربه.
الثانية: تكفير السيئات، وذكر الله أكبر من تكفير السيئات، ومن ذلك النهي عن الفحشاء والمنكر، وبالصلاة التامة تنال الفائدتين وتحصل المنفعتين، وهذا كله في الواجب, والمستحب زيادة في الخير.
فكثرة صلاتك بالليل مما يزيد نصيبك من تكفير السيئات لأن الحسنات لديك بفضل الله وهكذا تجد التوافق بين قوله تعالى: (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، وقوله: (وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) في مثل هذه العبادة الجامعة، فالصلاة أعظم ذكر لله، وهي مع ذلك مكفرة للسيئات، وهذا هو غاية مراد التائبين.
ثم أمر الله بالصبر والإحسان فقال: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أمر بالصبر حتى يحمل العبد نفسه على طاعة الله، ويمنعها عن معاصيه، ويتحمل ما يصيبه في سبيل الله عز وجل؛ فإن الطريق إليه سبحانه محفوف بالمكاره لابد لمن يسير عليه ويخالف الناس مِن أن يصاب بأنواع المحن والابتلاءات، وفي خيرة الخلق أسوة؛ فقد أوذوا واتهموا وجرح منهم من جرح وقتل منهم من قتل، وقد حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كسروا رباعيته يوم أحد وشجوا وجهه فيقول: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟"، فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران:128]، وجاءه صلى الله عليه وسلم رجلٌ وهو يقسم قسماً فقال: "إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، وقال له: "اتق الله يا محمد"، وقال له: "اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، فقال: "ويحك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟"، وقال: "ويحك فمن يعدل إن لم أعدل"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
فلابد من الصبر على ما ينال الإنسان من الأذى، وإذا لم يدرك الإنسان بأنه سوف يصاب بأنواع الأذى فإن ذلك سوف يؤدي به إلى تخليه عن الطريق وإيثاره السلامة وليست بالسلامة فإنه كالمستجير من الرمضاء بالنار.. لابد أن تخالف وتُتَّهم وتُبتَلَى كما فعل بمن قبلك ممن أمرت أن تكون معهم في التائبين والصابرين والمحسنين.
ولا تظنن بالطريق الأخرى الحسنى، فإنما يصارع أهلها بعضهم بعضاً، ويكره بعضهم بعضاً، وذلك دأبهم في السر والجهار بالليل والنهار.. وإنما يكيد بعضهم بعضاً بما أشربته قلوبهم من حب الدنيا، وأنت إنما يكاد بك لأجل طاعتك واستقامتك، فأي شرف لك أكرم من هذا؟، وإنك إذاً على الله لكريم إذ يقيمك على طاعته فتُضطهَد لأنك التزمت بالدين، وأظهرت السنة، ولأنك تحافظ على الصلاة، وتتلو القرآن، ولأنك تدعو إلى الله عز وجل وليس بك قصد إلى من سواه وإنه لشرف عظيم ومنزل كريم.(/9)
واعلم أن الناس الكائدين الماكرين بالمؤمنين كما قال تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر: من الآية14]، فالكفرة والمنافقون ليل نهار يكيد بعضهم بعضاً، ويكره بعضهم بعضاً؛ فإن المعصية تجر إلى المقت والكراهية، وإن رؤية بعضه لبعض لتشقي بعضهم بعضاً والله عز وجل حَكَمٌ عَدلٌ جعل الخير في طاعته والشر في معصيته، وكما قال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) [غافر:10]، فهم في الحقيقة يمقتون أنفسهم، وتمقتهم الأرض التي يحيون عليها، ويمقتهم الزرع الذي يزرعون، والماء الذي يشربون، والنار التي يورون، ويستريح العباد من الكافر إذا مات، وتستريح البلاد والشجر والدواب، وإذا استراحت الأرض نفسها من نفسه أظهر ذلك أنها كانت تمقته، وما من بغيض إلا والراحة منه تحصل بهلاكه.
وعلى قدر المعصية يكون المقت والكراهية، وتكون البغضاء في القلوب، ثم يكون ذلك الشقاء، وإنما تكون هذه النفرة بمخالفة الفطرة، ذلك بأن الله تعالى حبَّب إلينا الإيمان وزيَّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
فلا تظن أنك وحدك الذي يُكاد بك، بل إنما يكيد بعضهم لبعض أعظم الكيد في مجتمعاتهم المنحرفة وأجوائهم الفاسدة, وكما قال عز وجل: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء: من الآية104]، ولكن شرف لك أنت أن يكون ابتلاؤك من أجل طاعتك، وأن تكون السخرية منك من أجل إيمانك: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين:29]، بلاؤهم بأنفسهم أضعاف مضاعفة.. الشقاء في النظر إلى وجوههم.. وأم جريج العابد إذ سخطت دعت على ابنها وقالت: "اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات"، فمجرد النظر معرة وبلاء.
هذا جريج اتهمته امرأة أنه زنا بها وأولدها غلاماً، فضربه الناس وهدموا صومعته، وقالوا: "زنيت بهذه المرأة؟"، فقال: "دعوني حتى أصلي ركعتين" فصلى ركعتين ثم طعن في بطن الغلام فقال: "يا غلام من أبوك؟" فقال: "أبي الراعي فلان", فجعلوا يقبِّلون يديه ورجليه ويقولون: "نبني لك صومعتك من ذهب", قال: "أعيدوها من طين كما كانت".
فاضطر أن ينظر إلى وجه المرأة المومسة ليبرئ نفسه, واليوم ينظر الرجل ليل نهار إلى وجوه المومسات، وينظر إلى وجوه مَن هو شر منهن من الكفرة والمنافقين.
فمتى صبر العبد على طاعة الله وعلى ما يصيبه في سبيله أثابه الله مثوبة حسنة وأنزله منزلاً كريماً وأناله شرفاً عظيماً.. وأما الناس ففي مشقة وتعب، متألمين بغير احتساب، راجعين بغير ثواب، والمؤمن يحتسب المصيبة، ويدخر الثواب، ولذلك يزول عنه ألمها، وتذوب مرارة الصبر في حلاوة الطاعة وطعم الإيمان، فيذهب أثر المصيبة بعيداً بحيث لا يضر المرء ثم يكون الإحسان.
والإحسان يكون فيما بينك وبين الله ويكون فيما بينك وبين الناس، وأصله الذي بينك وبين الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولو استحضر العبد هذا المقام، وأقام هذا المقام لما شعر بضغطة البلاء، ولا شدة المحنة؛ فإنه إذا كان مع الله عز وجل أي شيء يضره؟ يعبد الله كأنه يراه، فلو وصل إلى هذه الدرجة من القرب واستحضر معية الله في كل حال لم تَعْنِه الدنيا بأسرها فلا هي التي تفتنه بحسنها ولا هي التي تضره بسوئها.
وهذا نبي الله موسى عليه السلام والبحر أمامه قد تلاطمت أمواجه واشتد غضبه وكثر زبده، ومن ورائه فرعون وجنوده.. ملك كفور متكبر مغرور، وجند كثير، وشر مستطير, ثم أصحابٌ قليلون خائفون وجلون يقولون: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: من الآية61]، فيقول: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين) [الشعراء: من الآية62].
فهو بما وصل إليه من مقام الإحسان مطمئن غاية الاطمئنان فيضرب بعصاه البحر الكبير لينجو ويغرق الملك المغرور.
وإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام عندما ألقي في النار يستحضر معية الله ويقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
ونبينا صلى الله عليه وسلم وهو في الغار، والمشركون لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصره وصاحبه فيقول لصاحبه: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: من الآية40].(/10)
فاستحضار معية الله عز وجل هو الإحسان، وهؤلاء الذين يرجح الله بهم الكفة هم المحسنون, وربما تجد الواحد منهم بألف ألف من ضعاف الإيمان, وإنما تثقل كفة الصالحين بقلة من المحسنين وكثرة من الأبرار.. ولو كان أولئك الضعاف الإيمان أمماً ليس فيهم من الأبرار والمحسنين لما كانوا إلا غثاء كغثاء السيل وعدداً بلا حول ولا طول إذاً لن ترجح الكفة ولن تَغْلِب الأمة وستعمل فيها الأسلحة الذرية والكيماوية وكثرة العدة والعدد وستغلب هذه الأمة، ولكن متى تثقل الكفة وتَغلب الأمة؟ الجواب: حينما يكون فيهم طائفة من المحسنين وثلة من الأبرار، فينصر الله من ينصره، ويعز من يؤمن به ولا يكفره، ويذل من يكفره ويفجره.
إذاً فما لواجبات الشرعية في هذه المرحلة الحرجة هذه المرحلة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها سورة هود، فإن سورتي هود ويوسف من السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما مات عمه أبو طالب وماتت زوجته خديجة فتعرض صلى الله عليه وسلم لأذى المشركين, وما كانوا ينالون منه قبل ذلك.
نزلت هذه الآيات مثبتة أوامر واضحة: الاستقامة على الأمر, التوبة, معية الصالحين, عدم مجاوزة الحد بالطغيان, العلم بالله *سبحانه وبأنه مطلع على الأعمال,عدم الميل إلى الظلمة وعدم موالاتهم ومتابعتهم وعدم الرضا بأفعالهم فيفقد العبد ولاية الله التي يفقد بفقدها نصرته سبحانه, وأيضاً الأمر بإقامة الصلاة والصلوات الخمس على الخصوص وفعل الحسنات التي تذهب السيئات وذكر الله عز وجل والصبر، ثم الإحسان.
وهذا المقام الرفيع وهذه الدرجة العالية وهذا مقام الإحسان هو غاية مراد الطالبين ومنتهى قصد السالكين الذي يؤتي ثماره في كل حين، ومن ثماره الإحسان مع الناس بتحمل أذاهم وكف الأذى عنهم، فإن آذوه عفى وصبر وصفح وغفر، وإذا عامل الناس عاملهم بالفضل والإحسان فيعطيهم وإن منعوه، ويصلهم وإن قطعوه، ويمن عليهم وإن حرموه، وإنما يستخلص له ذلك ويصطفى له بأنه كان بالله غنياً، وبه راضياً، ومنه قريباً، ولديه حبيباً، فصارت الدنيا كجناح بعوضة فَمَنَّ بلا غَضَاضة.
فمن أحسن مع الله أحسن مع الناس ووجد في قلبه سهولة الإحسان إليهم كما قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34،35].
فنسأل الله أن يجعلنا من ذوي الحظ العظيم وأن يجعلنا من عباده المحسنين الصابرين.
وكتبه
ياسر برهامي(/11)
الاستمرار في قنوت النازلة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/ صلاة التطوع/الوتر والقنوت
التاريخ ... 16/3/1424هـ
السؤال
هل لقنوت النوازل زمن معين ينتهي بانتهائه؟ أم أنه يستمر إلى أن تزول النازلة، وسؤال يتعلق بما نعيشه الآن في العراق هل نستمر في القنوت أم لا؟
والله يحفظكم ويرعاكم.
الجواب
القنوت في النوازل سنة ثابتة، وليس لها زمن معين تنتهي عنده غير ارتفاع النازلة نفسها، والنبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أبي داود(1443) عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – قال: "قنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- شهراً متتابعاً في الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سليم على رِعْلٍ وذكوان وعُصَّية ويؤمِّن من خلفه" ، ووصف قنوته – صلى الله عليه وسلم – بشهر متتابعة أيامه وفي كل الصلوات الجهرية والسرية – يدل على استمرارية القنوت، وكون القنوت الوارد في السنة لمدة شهر لا يعني الاقتصار على الشهر فقط، بل إنه بعد مضي هذا ارتفعت النازلة فأسلمت هذه الأحياء من العرب (رعل، وذكوان، وعصية) فانتهي الغرض من القنوت عليهم، ولو لم يسلموا في هذا الوقت لاستمر النبي – صلى الله عليه وسلم – في القنوت (أما القنوت للنازلة التي حلت بالعراق فينبغي الاستمرار في القنوت وعدم قطعه، لأن النازلة التي من أجلها شرع القنوت -نصرة لإخواننا العراقيين- لا تزال باقية ما بقي الأمريكان وحلفاؤهم يعيثون فيها الفساد، وينشرون الكفر والفواحش، بل لو قيل إن مشروعية القنوت لم تبدأ إلاّ الآن لكان لذلك وجهاً؛ لأن احتلال الكافر واستعماره لبلاد المسلمين أعظم نازلة تلحق بهم، وإذا ضم إلى ذلك ما تخطط له أمريكا وما تنوي فعله في البلاد المجاورة للعراق مما صرحت به ونشر في وسائل الإعلام - لتعين استمرار القنوت وعدم التوقف عنه، فالواجب أن يستمر المسلمون في القنوت حتى يكشف ما بهم، وترفع عنهم هذه النازلة، كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في صلاة الكسوف "صلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم" رواه البخاري (1041)، ومسلم (911)، من حديث أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه- . والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
الاستنساخ البشري هل هو قادم ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
ما أن أطلت النعجة " دولي " - وهو اسم النعجة التي ظهرت بطريقة الاستنساخ - تغازل البشرية وتتحداها في شهر فبراير 1997 ، حتى ملأت الدنيا وشغلت الناس . والكل يسأل عن الاستنساخ . والاستنساخ باختصار هو الحصول على عدد من النسخ طبق الأصل من نبات أو حيوان أو إنسان بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية أو أنثوية .
ورغم أن الاستنساخ موجود أصلا في الطبيعة التي حولنا ، إلا أنه أخذ بعدا آخر عندما حاول العلماء تطبيقه على الحيوان . ففي عالم النبات حالات عديدة من الاستنساخ ، كما في الصفصاف والتين البنغالي والتوت وغيرها من النباتات التي يمكن فيها أخذ جزء من النبات وزرعه ، فنحصل على نبات كامل مماثل للأصل .
كيف تمت عملية استنساخ " دولي " ؟
أخذت خلية من ثدي شاة عمرها ست سنوات . ثم نزعت نواة هذه الخلية . ثم غرسوا هذه النواة في ببيضة من شاة أخرى مفرغة من نواتها . وبعد ذلك زرعت هذه البييضة بالنواة الجديدة في رحم شاة ثالثة بعد أن مرت بعملية حضانة مخبرية .
هذا هو الاستنساخ بإيجاز شديد . ولكن ما فعله العالم الاسكتلندي ( إيان ولموت ) وفريقه ، لم يكن بالطبع بهذه البساطة فقد قاموا بالخطوات التالية :
1.أخذوا 277 بييضة مما أفرزه مبيض النعجة الأنثى ذات الرأس الأسود ، وتم تفريغها من نواتها . وأبقوا على السيتوبلازم والغشاء الواقي .
2.أخذوا من ضرع نعجة بيضاء الرأس عددا من الخلايا .
3.نزعوا من كل خلية من خلايا الضرع نواتها ، ثم خدروا نشاطها .
4.غرسوا داخل كل بييضة مفرغة من نواتها نواة من خلية الضرع .. وهذه النواة تحتوي على الـ 46 صبغيا وهي ما يسمى بالحقيبة الوراثية التي تعطي جميع الخصائص الذاتية للمخلوق .
5.وضعت كل خلية في أنبوب اختبار .
6.سلطوا على الخلية في أنبوب الاختبار صعقة كهربائية ، فتحركت الخلايا للانقسام .
7.حدث الانقسام في 29 خلية فقط من أصل 277 خلية ، وبلغت هذه الخلايا مرحلة ( 8 - 10 خلايا متماثلة )
8.قاموا بزرع هذه العلقة ( 8 - 10 خلايا متماثلة ) في مكانها في الرحم .
9.من بين الـ 29 علقة ، واحدة فقط وصلت إلى إتمام النمو فولدت سخلة ( نعجة صغيرة ) تامة الخلق في شهر تموز ( يوليو ) 1996 ، وكانت تزيد 6.600 كيلو غراما ، وهي مماثلة لأمها ذات الرأس الأبيض .
10.راقب الباحثون نموها حتى بلغت الشهر السابع من العمر ، وعندها أعلنوا نجاحهم العلمي للعالم .
وانطلقت وسائل الإعلام تدوي عبر العالم ، وانقسمت ردود الفعل الأولى من مصفف للنجاح وبين رافض له .
وحققت شركة P . P . L الإنجليزية لصناعة الأدوية مكاسب كبيرة . وهي الشركة التي مولت مخبر بحوث روزلان في اسكتلندة ، حيث ولدت دولي . وارتفعت أسهم هذه الشركة غداة الإعلان بـ 13% في بورصة لندن .
ولما ظهرت صورة " دولي " على شاشات التلفاز في العالم أجمع ثار سيل عارم من الأسئلة :
فهل يعتبر هذا العمل تحديا للقدرة الإلهية ، وهل أصبح الإنسان خالقا ؟
فتصور ما قام به هؤلاء العلماء أنه خلق هو تصور وهمي بعيد جدا عن الحقيقة . وهو تصور يبنى عن سذاجة من توهمه فالاستنساخ ليس خلقا جديدا ، والعالم الاسكتلندي لم يخلق خلية ولا نواة ولا كروموسوما ( صبغيا ) واحدا . ولكنه وفريقه ، عرفوا كيف يدخلون على الخلية عوامل من خلق الله وصنعه ، فقد درسوا قوانين الخلق الإلهي ووعوها ، وقاموا بتطبيق ما علموا على ما عملوا . وما عملية الاستنساخ إلا صورة فوتوغرافية للأصل . فهل نستطيع الحصول على هذه الصورة بدون الأصل ؟
قال تعالى : { أم جعلوا لله شرعا خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } الرعد 16 .
وسؤال آخر ورد على ذهن كثير من الناس هو : " هل يمكن استنساخ الموتى ؟ وراحت خيالات الكتاب تسرح وتمرح ، فمن قائل باستنساخ هتلر وأنشتاين والمتنبي ومارلين موزو وغيرهم من الرجال والنساء ، إلى من قائل باستنساخ فراعنة حصر من المومياء !!
والحقيقة أنه لا بد في الاستنساخ من وجود خلية حية يمكن من خلالها إجراء عملية الاستنساخ .
ورغم عدم الإعلان حتى الآن عن تجارب على استنساخ البشر ، إلا أن هناك من يقول بأن تلك التجارب قد بدأت بالفعل ، إحداهما في أمريكا والثانية في بريطانيا ، وذلك تحت سرية تامة .
ما هي ردود الفعل العالمية تجاه الاستنساخ ؟
ما أن تم الإعلان عن بلوغ " دولي " شهرها السابع وانتشرت صورها في أرجاء العالم حتى أصدر البرلمان النرويجي قرارا يمنع منعا باتا إجراء التجارب أو القيام باستنساخ الإنسان .
ودعا رئيس الجمهورية الفرنسية في نفس اليوم المجلس الاستشاري القومي للأخلاق إلى دراسة القانون الفرنسي ليطمئن على سلامته من وجود ثغرات يمكن للباحثين الفرنسيين أن يقوموا في يوم من الأيام بالاستنساخ البشري . وتباينت الآراء من الاستنساخ البشري إلى ثلاثة موافق :(/1)
الأول يشجعه ، وهو موقف المتخصصين في علاج العقم .
والثاني يعارضه ، وهو الموقف الذي اتخذته حكومات إنجلترا وألمانيا وفرنسا .
والثالث يرى عدم التسرع في الرفض أو القبول ، بل تحديد فترة مؤقتة توقف فيها الأبحاث حتى تستكمل دراسة النواحي الاجتماعية والأخلاقية للاستنساخ . وبعدها يقرر استئنافه أو توقيفه . وهو موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي دعت إلى إيقاف تمويل الأبحاث المستخدمة في الاستنساخ البشري لمدة خمس سنوات . وستحدد هذه المواقف الثلاثة الفترة الزمنية التي ستمر قبل أن يصبح الاستنساخ البشري حقيقة .
الاستنساخ الحيواني " الاستنساخ البشري " :
ولا بد من التفريق بين " الاستنساخ الحيواني " و " الاستنساخ على البشر " . فللاستنساخ الحيواني مزايا وعيوب . ولكن مزاياه ربما قامت عيوبه . فمن مزاياه أنه يمكن استنساخ أعداد هائلة من الخراف والبقر لتوفير الغذاء في العالم ، واستنساخ أبقار تنتج حليبا ربما يعادل حليب الأم مثلا ، وقد يسهل الاستنساخ عند الحيوان الدراسات الجارية الآن للتعرف على مسببات السرطان وعلاجه .
" الهندسة الوراثية " و " الاستنساخ " :
وهناك أيضا فرق هام جدا بين " الهندسة الوراثية " و " الاستنساخ " . فالهندسة الوراثية في النبات والحيوان تهدف إلى التعرف على المورثات وعلاقتها بالأمراض الوراثية ومن ثم معالجتها . وهذا عمل جيد ومحمود . كما أنه يمكن بواسطة الهندسة الوراثية الحصول على عقاقير جديدة ومفيدة للإنسان ، كالأنسولين البشري الذي تم الحصول عليه وغيره من الأدوية كالسوماتاستاتين ، والأنترفيرون المستخدم في علاج السرطان والأمراض الفيروسية وغيرها .
ما هي الاستخدامات التي يقترحها أنصار الاستنساخ البشري ؟
يقول أنصار الاستنساخ البشري بأن هناك استخدامات متوقفة للاستنساخ البشري ومنها :
1.زوجان مصابان بالعقم ولا يصلحان لطفل الأنابيب .
2.أبوان لهما طفل واحد أصيب بمرض خطير وتوفي ، أو سنهما لا يسمح بالإنجاب بعد ذلك .
3.زوجان مصابان بمرض وراثي واحتمال حدوثه عال جدا عند الأبناء .
4.طفل أصيب بمرض خطير ويلزمه نقل نخاع عظمي ( مثلا ) دون أي فرصة أن يرفض جسمه النخاع الجديد .
وهذه بعض الأمثلة للاستخدامات المحتملة للاستنساخ البشري . وبما كان هناك الكثير من الاستخدامات الأخرى والخطيرة .
ما هي مخاطر الاستنساخ البشري ؟
إذا قدر للاستنساخ البشري أن يظهر للوجود ، وهو أمر محتمل جدا ، وربما في وقت قريب ، فإن ذلك سيترافق بمشاكل عديدة اجتماعية وإنسانية ونفسية .
فسيكون هناك اضطراب في الأنساب ، وما يتبعه من اضطراب في المجتمع ، وقد يضطرب أعداد الذكور أو الإناث ، فتخيلوا مثلا أن المستنسخين كلهم كانوا جميعا من الذكور ، فماذا سيحدث ؟ ولن يكون هناك مفهوم الفرد بذاته ، بل ستميع ذاتية الفرد ، وتختل المواريث ، ويتزلزل كيان
الأسرة . وقد يلجأ في الاستنساخ إلى طرق إجرامية كاستنساخ شخص بدون إذنه ، أو بيع أجنة مستنسخة ، أو الحصول على نسخ متماثلة من أشد المجرمين عنوة ووحشية ، أو اختيار سلالة متميزة تعتبر هي الجنس الأرقى ، وسلالة أخرى من العبيد ، وهكذا ..
الموقف الشرعي من الاستنساخ البشري :
لما كثرت التساؤلات عن حكم الشرع في الاستنساخ البشري ، ولما كان من الصعب جدا على فقيه واحد أن يدلي برأيه في مسألة مستحدثة ومعقدة كالاستنساخ ، فقد دعت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية إلى عقد ندوة تضم فريقا من الفقهاء الأجلاء ، والأطباء المتخصصين لدراسة أمر الاستنساخ البشري .
وقد عقدت الندوة في الدار البيضاء في المملكة المغربية ما بين 14 - 17 يونيو ( حزيران ) 1997 ، ودرست الموضوع دراسة جدية وعميقة ، وصدر في ختامها التوصيات التالية :
" أولا : تجريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحما أم
بويضة أم حيوانا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ .
ثانيا : منع الاستنساخ البشري العادي ، فإن ظهرت مستقبلا حالات استثنائية عرضت لبيان
حكمها الشرعي من جهة الجواز .
ثالثا : مناشدة الحكومات من التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام
الجهات الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها .
رابعا : متابعة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وغيرها لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية
وضبط مصطلحاته ، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به .
خامسا : الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة في مجال الأخلاقيات الحياتية لاعتماد بروتوكولات الأبحاث في الدول الإسلامية إعداد وثيقة عن حقوق الجنين .(/2)
الاستنساخ
د.عبد الرشيد قاسم 25/10/1425
08/12/2004
المبحث الأول: ... حقيقة الاستنساخ
المبحث الثاني: ... كيف تمت عملية الاستنساخ
المبحث الثالث: ... الحكم الشرعي في الاستنساخ
المطلب الأول: ... الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
المطلب الثاني: ... الحكم الشرعي في الاستنساخ الخلوي
تمهيد :
تطور العلم في القرن العشرين الميلادي فقفز قفزات جبارة في شتى العلوم وكان لها تأثير كبير في تغيير مجريات الأحداث وأنماط الحياة ومن أبرز ما ظهر في هذا القرن ما يلي :
1 – الثورة الذرية: حيث تمت صناعة قنابل ذرية واستخدمت على اليابان في مدينتي هيروشيما ونجازاكي عام 1945 م ، معلناً بذلك الانتقال من عصر الكهرباء والأسلحة التقليدية إلى عصر الذرة بكل مخاوفه وهواجسه وويلاته .
وتمتلك عدد من الدول قنابل ذرية تقدر قوتها بما يكفي لتدمير الأرض ست مرات .
2 – ثورة الإلكترونيات :
حيث ظهر علم السيبرنطيقا Cybernetics وكان ظهوره بمثابة الأساس لتقنية الحاسوب ( الكمبيوتر ) فيما بعد ، ومن ثم ثورة الانترنت Internet الذي أورث ثورة عارمة في المعلومات المختلفة في شتى الميادين بلا ضابط وتنشأ يوماً بعد يوم مئات المواقع وتدخل يومياً ملايين المعلومات المختلفة في شتى الميادين وبعدة لغات .
3 – غزو الفضاء :
حيث تمكن الروس من إطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك 1) عام 1957 م ، وتوالت بعدها المحاولات التي كان منها هبوط الإنسان على سطح القمر وإرسال مركبات للمريخ وزحل والكوكب الأخرى لدراسة أحوالها ، وتم وضع أقمار صناعية حول الأرض لأغراض متعددة منها تسهيل الاتصالات والتجسس ونقل الأحداث من شتى بقاع العالم مباشرة .
4 – الثورة البيوتكنولوجية ( الحيوية ) :
واتخذت عدة أشكال أشهرها :
1 – زراعة الأعضاء: حيث تم عام 1967م أول عملية زرع قلب بشري وحظيت بالنجاح ، ثم توسعت عمليات النقل والزرع حتى سجلت الكلى والبنكرياس والكبد والقلب والرئة معاً ،وقد تطور الأمر في البلاد الإسلامية ليشمل إنشاء مراكز للتبرع بالأعضاء بعد الموت .
2 – التلقيح الصناعي :
حيث نجحت أول عملية للإخصاب الصناعي عام 1978م وكانت ولادة أول طفلة سميت لويزا براون ، ثم أنشئ بعدها بعامين بنك المني حيث يودع فيه مني الرجل وبييضات المرأة لأغراض مختلفة وتوالت بعدها التقنيات المستجدة كتأجير الأرحام والأم البديلة والتحكم في جنس الجنين وبنك العباقرة وغيره .
3 – الهندسة الوراثية :
حيث تم الكشف عن الحمض الريبي النووي DNA ونال صاحبه جائزة نوبل عام 1962م ثم تم الكشف عن أنزيمات التحديد أو التقييد اللازمة لقص ذلك الحمض في مواقع محددة ، وتدريجياً بدأ مصطلح هندسة وراثية Genetic Engineering يتداول بين الناس لتشكل تلك الهندسة في ذاتها ثورة من أخطر الثورات العلمية وهي ثورة حقيقية تعتمد على مادة الحياة وهي الخلية وبداخلها الجينات وهي ثورة تشارك فيها ثلاثة علوم أساسية هي علوم الوراثة والخلية والأجنة وتقوم على فكرة التحكم في الجهاز الوراثي للإنسان ومن ثم إمكانية برمجة الجنس البشري وفق تصميمات معدة سلفاً ، وبذلك بدأ العلماء في تعديل أو العبث في أهم خصوصيات الإنسان وهي الشفرة الوراثية .
4 – الاستنساخ :
حيث فوجئ العالم عام 1997 م باستنساخ النعجة ( دوللي ) على يد العالم
إيان ويلمت وتوالت بعدها التجارب حتى أعلن في اكريكا عن استنساخ اثنين من القرود من خلايا جنينيه أعلن في أمريكا عن استنساخ اثنين من القرود من خلايا جنينية وأعلن في اليابان عن نجاح استنساخ ضفادع وقد وقف العالم ضد فكرة سريان الاستنساخ لعالم البشر حتى سمحت بريطانيا لاحقاً بإجراء التجارب تحت ضوابط معينة لأغراض خاصة(1).
فما هي حقيقة الاستنساخ وما هي آثاره ولماذا وقف العالم ضده ؟ وما هو الموقف الشرعي منه ؟ هذا ما سيكون الإجابة عليه في المباحث التالية :
المبحث الأول : حقيقة ا لاستنساخ
الاستنساخ في اللغة بمعنى : النقل ، يقال نسخت الكتاب نسخاً أي : نقلته من صورته المجردة إلى كتاب آخر ، ويأتي أيضاً بمعنى الإزالة ، يقال نسخت الشمس الظل أي : أزالته(2) .
أما معناها في الاصطلاح فهو عبارة عن : زرع خلية إنسانية أو حيوانية جسدية تحتوي على المحتوى الوراثي كاملاً في رحم طبيعي أو صناعي وذلك بغرض إنتاج كائن حي ( حيوان أو إنسان ) صورة طبق الأصل من نظيره صاحب الخلية الأولى(3).
أقسامه :
ينقسم الاستنساخ إلى قسمين :
أ – الاستنساخ الحيواني والنباتي
ب – الاستنساخ البشري وهو ثلاثة أنواع :
1 – الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
وهو العمل على فصل خلايا بييضة ملقحة بخلية منوية بعد انقسامها إلى خليتين أو أكثر لتصبح كل خلية منها أيضاً صالحة للانقسام أيضاً بعد تهيئة ظروف نموها وانقسامها ، وهكذا يتوالى الانقسام والفصل في كل خلية ثم تزرع بعض هذه الخلايا في رحم الأم ، ويتم تبريد الباقي ليحتفظ به إلى وقت اللزوم .
2 – الاستنساخ العضوي :(/1)
وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته حال حدوث عطب في هذا العضو .
3 – الاستنساخ الخلوي ( التنسيل )
وهو زرع خلية جسدية ( تحتوي على 46 كروموزوم ) مكان نواة منزوعة من بيضة ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ولادته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية(4) .
كيف بدأ الاستنساخ ؟
عندما نجح العلماء في معالجة البقرة ( روزي ) التي يمكنها إفراز حليب مقارب لحليب الأم البشرية بعد القيام بهندستها وراثياً هي وثمان بقرات أخر لإنتاج البروتين الآدمي ألفا لاكتالبومين Alpha-Human Lactalbumin ، وقد كلفت عملية إنتاج ( روزي ) وحدها 4 ملايين دولار أمريكي .
فكر ( ويلموت ) و ( كامبل ) في الحفاظ على هذه الخاصية في البقرة حيث أنه إذا تم التزاوج الطبيعي بين ( روزي ) وذكر آخر فقد تفقد الجين الوراثي الذي تم تهجينها به أثناء عملية اندماج الخلية المنوية بالبييضة لتكوين النطفة ، وبالتالي يضيع كل الجهد الذي بذله للوصول إلى هذا الاكتشاف ، ومن هنا بدأ العالم ( ويلموت ) يفكر في إمكانية حل المشكلة عن طريق الاستنساخ الجسدي أي من خلال أخذ نواة خلية من ثدي روزي تحتوي على كل صفاتها الوراثية بما في ذلك الجنين الذي يضع بروتين ( لاكتالبومين ) وتفرزه في لبنها ، ودمج هذه النواة مع بييضة نعجة أخرى بعد تفريغها من النواة التي تحمل كل صفاتها الوراثية ، لكي يكون الناتج جنيناً يحمل كل الصفات الوراثية لروزي التي أخذت منها الخلية الجسدية ، وهو مالا يمكن أن نضمنه لو تم تلقيح بييضة روزي التي تحمل نصف صفاتها الوراثية بخلية منوية من ذكر يحمل النصف الآخر وهكذا بدأت فكرة الاستنساخ(5).
المبحث الثاني : كيف تمت عملية الاستنساخ
إن الاعتقاد الطبي السائد كان يقوم على فكرة حصر عملية التكاثر عن طريق الخلايا الجنسية فقط إلا أن تقنية الاستنساخ صححت هذه الفكرة :
وقد تمت العملية على النحو التالي :
1 – تم أخذ خلية لبنية من ضرع النعجة ( أ ) وعمرها ست سنوات ووضعت في المعمل لتنميتها ووضعت في وسط حامضي يحتوي على نسب قليلة من المواد اللازمة لنموها لمدة خمسة أيام وبذلك تخرج الخلية من طور النمو إلى طور الراحة والتجويع .
2 – تم سحب بييضة من مبيض النعجة ( ب ) بواسطة إبرة خاصة ، ثم تفريغها من نواتها ووضعها في سائل كيميائي لإبطاء حركة نموها .
3 – تم حقن خلية ثدي النعجة ( أ ) في البييضة المفرغة للنعجة ( ب ) ثم تسليط كهربائي ضعيف عليها لإتمام عملية الالتحام والاندماج ، حيث تقوم الجزيئات في البييضة عندئذ ببرمجة الجينات في الخلية الثديية لإنتاج الخلية الأولية للجنين .
4 – تم وضع هذه الخلية المندمجة في محلول كيميائي لتنميتها .
5 – عند بلوغها مرحلة معينة من النمو والانقسام إلى خلايا متعددة تم نقلها إلى رحم النعجة ( ج ) لاحتضانها .
6 – بعد 160 يوماً تم ولادة النعجة التي سميت دوللي وعند تحليلها كروموزمياً ثبت أنها صورة طبق الأصل من النعجة ( أ ) التي أخذ منها الخلية الأصلية وليس من النعجة ( ب ) التي أعطت البييضة أو النعجة ( ج ) التي احتضنت البييضة طوال فترة الحمل(6).
وفي 24 شباط 1997م أعلن الدكتور ( أيان ويلموث ) وفريقه عن استنساخ
شاة استنساخاً جسديا وأسموها " دوللي " حيث أن هذه النعجة صارت أشهر نعجة في التاريخ حيث اشترك في وجودها ( ثلاث أمهات ) بدون أب الأولى أعطت الخلية المانحة للمورثات من ضرعها والثانية أعطت البييضة والثالثة حملت البييضة في رحمها حتى ولدت جنينيها الكامل وقد جاء هذا النجاح بعد 277 مرة وقد لوحظ على النعجة ما يلي :
1 - أن تركيبها الكروموزومي يتطابق تماماً مع النعجة ( أ ) التي أخذت الخلية منها .
2 – أنها كائن ثدي كامل سليم التكوين وقد ولدت ابنتها في نيسان 1998م بشكل طبيعي .
3 – أن الخلايا التي تحملها عمرها ( 6 )سنوات وليست كالنعاج الطبيعية وبالتالي ستصل لمرحلة الشيخوخة مبكراً .
وقد كانت المواقف متباينة تجاه الاستنساخ كما هو الشأن في عامة القضايا العلمية فالفريق المؤيد للاستفادة من الاستنساخ بضوابط يرى أنها ذات فوائد للأسباب التالية :
1 – أنه حل فاعل للرجال المصابين بالعقم الذين لا يوجد في منيهم خلايا منوية وكذلك للنساء اللواتي لا تقبل بييضاتهن التلقيح ، فالاستنساخ هو الحل الوحيد حتى الآن لأمثال هؤلاء(7) .
أما المجتمع الغربي الكافر فمشاكل العقم عندهم تحل عن طريق التبني أو أخذ خلايا منوية أو بييضات من متبرعين .
2 – أن بعض الرجال والنساء يفقدون قدرتهم على الإنجاب نتيجة تلقيهم علاجاً كيميائياً أو إشعاعياً بسبب إصابتهم بمرض السرطان ، وتعتبر هذه الوسيلة الوحيدة لهم كي ينجبوا كما في الحالة الأولى .(/2)
3 – أن الاستنساخ يمكن أن يكون حلا لبعض المرضى من الرجال والنساء الذين يعانون من الفشل الكلوي حيث أن هؤلاء يعانون بشدة من نقص الأعضاء المتوفرة ويحتاجون لثلاث جلسات أسبوعية على الأقل لعمل الغسيل الكلوي الذي يستغرق ساعات طويلة ، ولو حالفهم الحظ ووجدوا متبرعين للكلية فسوف تعمل بأجسادهم لعدة سنوات فقط ثم سيحتاجوا بعدها لعملية نقل كلى أخرى بسبب رفض جسمهم لها بسبب اختلاف فصائل الأنسجة .
بينما لو تمكن الإنسان من عمل نسخة منه فإنه يضمن الحصول على أعضاء كثيرة خلقها الله مزدوجة عند الإنسان مثل الكلى والرئتين والمبايض أو الخصيتين بل حتى يمكنه الحصول على جزء من الكبد أو نخاع العظم دون التأثير على الإنسان المنسوخ مع ضمان استمرار عمل الأعضاء المنقولة في المريض بكفاءة ؛ لأنها من نفس الفصيلة(8).
4 – أن العباقرة في عالمنا محدودين ، وهم يقدمون للبشر خدمات كبيرة ، وربما مات العالم وترك فراغاً لا يسد إلا بعد فترة من الزمان ، فلو أمكن أخذ عدة نسخ منه لأمكن إنجاب عباقرة آخرين لمصلحة البشرية .
5 – في حالة فقدان أي زوجين لطفل أو أكثر من أطفالهم بسبب المرض أو الحوادث يمكن التخفيف من هذه المصيبة بأخذ خلية ومن ثم زرعها في الرحم بعد إجراء العمليات المناسبة فتحصل على نسخة طبق الأصل من الطفل المفقود .
6 – اختيار جنس الجنين في المستقبل حسب الظروف العائلية ؛ لأن الطفل يكون نسخة طبق الأصل من الخلية الملقحة بالبييضة(9).
هذه أبرز الفوائد التي يمكن الحصول عليها من خلال هذه التقنية – بغض النظر عن حكمها الشرعي – .
الاعتراضات الواردة على تقنية الاستنساخ :
1 – أن الاستنساخ مدعاة لتكثير الجريمة وانتشار الفساد وتضييع الحقوق حيث يصعب التعرف على الجاني في الجريمة التي يكون الدليل فيها بصمات الأصابع أو حمض النوويك وهو دليل يفي بتحديد شخص واحد تماماً حتى الآن ، وكذلك في القضاء حيث يلتبس على الشهود الجاني ، والزوجة قد يتعذر عليها التفريق لا سيما إذا كانت حديثة الزواج وهكذا الأمور الأخرى .
2 – أن هناك التباس وإشكال كبير في علاقة المستنسخ فلو صنعت عذراء نسخة لها من أحد خلاياها ثم أودعت الزريعة في رحمها لتنمو حتى الميلاد ، كيف يكون الحمل شرعياً وهي لا زوج لها ؟ وما علاقتها بالمولودة ؟ هل ولدت نسختها أو توأمتها ( أختها ) أو ابنتها ؟
3 – أن الاستنساخ مدعاة لفتح أبواب شائكة وقضايا معقدة وأمور تتنافى مع الشرع ومن ذلك :
1 – إحداث نسخة بعد موت الشخص ولو بعد عشرات السنين وبعد توزيع التركة .
2 – قد تستغني المرأة عن الزواج الشرعي للحصول على الولد حيث يتم تخصيب بييضتها بخلية من جسدها ثم الحصول على الطفل بلا حاجة للأب وهذا يؤدي لخلخلة
اجتماعية ونفسية معقدة حيث يفقد الطفل العواطف الأبوية(10).
3 – أن ذلك مدعاة لشيوع الفاحشة ، حيث ترغب النساء في الحصول على طفل لها طبق الأصل من رجل مميز كلاعب أو فنان أو عالم بالحصول على خلية منه والقيام بالتخصيب كما هو حاصل في بنوك العباقرة في الغرب ..
4 – ينجم عن الاستنساخ اختلال التوازن السكاني بسبب الاستغناء عن أحد الجنسين وفقدان التنوع الذي هو أساس المجتمع فالاختلاف حكمة إلهية "ولو شاء لجعلكم أمة واحدة " (11).
5 – قد يؤدي الاستنساخ إلى إنتاج أشخاص مشوهين أو مجرمين لديهم الاستعداد للإفساد أو التخريب .
أو تتسابق الدول لاستنساخ أفراد ذوي صفات معينة مما يمهد للحروب واعتبار هؤلاء أسلحة تهدد الشعوب الأخرى(12).
6 – إمكانية التلاعب بالجينات والخلايا والأجنة حسب الرغبات والأهواء واستعمالها للكسب والتجارة وهذا كله مسخ للإنسان وامتهان لكرامته .
7 – احتمال حدوث خلل تقني أثناء إجراء عملية الاستنساخ مما ينتج عنه تشوهات جسمية وعقلية ونفسية لم نسمع بها من قبل .
8 – استبدال الطريقة الطبيعية للتكاثر وعمارة الأرض واختلال النظم الاجتماعية كالزواج والأسرة والأبوة والبنوة والميراث وغير ذلك من أسس النسيج الاجتماعي(13).
المبحث الثالث : الحكم الشرعي في الاستنساخ
لابد من إفراد كل نوع من الاستنساخ بحكمه الخاص ، ومن الخطأ تعميم فكرة الاستنساخ ابتداء .
أولاً : الاستنساخ النباتي والحيواني
يختلف الاستنساخ النباتي والحيواني كثيراً عن الاستنساخ البشري ، لأن هذه المخلوقات جاءت لمصلحة البشر ومسخرة لخدمته والانتفاع بها ، بخلاف بني آدم الذي كرمه الله سبحانه .
وقد ذهب عامة الفقهاء المعاصرين إلى جواز الاستفادة من تقنية الاستنساخ في غير البشر بما يعود عليهم بالنفع ؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل مصالح العباد وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها .
ويستدل للجواز بما يلي :
1 – قوله تعالى : "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " (14).
2 – قوله تعالى :"ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض "(15).
3 – قوله تعالى : "والأنعام خلقها لكم فيها دفٌ ومنافع ومنها تأكلون "(16).
وجه الدلالة :(/3)
أن الأرض وما فيها من نبات ودواب وغير ذلك مسخرة لنفع الإنسان ، فيجوز الانتفاع بتكثيرها باستنساخها وغير ذلك .
4 – حديث ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله
عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها "(17).
5 – قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة "(18).
حيث أن كل عمل يصب في دائرة الإباحة حتى يأتي الدليل المانع لذلك .
6 – قاعدة " الضرر يزال "(19).
حيث تبين أن الاستنساخ الحيواني والنباتي سيكون سبباً في توفر الثمار الكثيرة واللحوم الوفيرة والألبان بكميات هائلة مما يدفع ضرر التخوف من نقص موارد الأرض ، إضافة إلى تطلع العلماء إلى أنه سيكون سبباً في درء العديد من المضار والمفاسد نحو مقاومة بعض الأمراض المورثة والتغلب على نقص الدم وقلة الأعضاء .
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1418هـ - 1997م " يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد "(20).
وجاء في قرار الحكم الشرعي للجنة الطبية الفقهية بالأردن : " أولاً : استنساخ أو تنسيل النبات و الحيوان جائز ضمن الضوابط الشرعية التالية :
1 – أن تتحقق المصلحة الشرعية المفيدة من هذه الإجراءات .
2 – أن لا تدخل تحت باب العبث وتغيير خلق الله ، بمعنى العمل على إيجاد المسخ .
3 – أن لا يترتب عليها ضرر يربو على المصلحة المرتجاة .
4 – أن لا يترتب عليها إيذاء أو تعذيب للحيوان .
وقد خالف في هذا القرار الأستاذ الدكتور عمر الأشقر حيث رأى حرمة استنساخ الحيوان لمخالفته سنة الله في التكاثر والخلق "(21).
وهذه المخالفة التي انفرد بها عمر الأشقر مبنية على أن سنة الله في التكاثر تكون بين الذكر والأنثى حتى في الحيوان ، ووضع خلية جسدية في بييضة منزوعة النواة أمر مخالف لسنة الله في التكاثر ويخشى أن تظهر مفاسد وأضرار لهذا النوع ، لأن فتح باب الجواز في الحيوان قد يفتح المجال لإجرائه في الإنسان .
وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن التفريق بين خلق الله وسنن الله ليس له مستند شرعي يدل على التحريم وفرق عظيم بين قياس الإنسان على الحيوان فالجواز في الحيوان لا يعني البتة جوازه في الإنسان .
والرسول عليه الصلاة والسلام قال في قضية تأبير النخل حيث لم تثمر : " أنتم أعلم بأمور دنياكم "(22) .
فهذه قاعدة في جواز استخدام العقول والوسائل المختلفة التي تحسن شأن الحيوان والنبات ضمن الحدود الشرعية لا سيما أن الله أمرنا بإعمار الأرض واستخلفنا فيها(23).
وهذا التفريق يلزم منه تحريم أشياء كثيرة استجدت في حياتنا مثل حرمة أكل الدجاج الذي خرج بالفقس الصناعي ، لأنه لم يخرج عن طريق رقاد الدجاجة على البيض كما هو معهود ، وهو نوع من التكاثر الصناعي وهذا التحريم لم يقل به أحد من العلماء فيما أعلم والعلم عند الله .
ومن ثمرات تطبيق هذه التقنية :
1 – نجح اليابانيون في إنتاج سلالة من الأبقار كلها إناث في المختبر – فانتفت الحاجة إلى الذكور وبالتالي الاستمرار في إنتاج الحليب وتحقيق الكفاية من اللحوم .
2 – زراعة حقول ذات مساحات شاسعة من خلايا نبتة واحدة ، حيث تكون جميع النباتات الناتجة نسخاً متشابهة تماماً ولها نفس الخصائص من حيث كبر الثمرة وطعمها ومدى مقاومتها للأمراض .
3 – مواجهة مشكلة التلوث بإيجاد سلالات من البكتريا تقوم بتخليص البيئة من الملوثات بعد التحكم الجيني بها .
4 – تمكن العلماء باستخدام الكائنات الدقيقة الحية من إنتاج أصعب الأدوية وأندرها مثل الأنسولين المنظم لسكر الدم والسوماتاستاتين المنظم لأعمال بعض الغدد في الجسم والانترفيرونات التي تستخدم في علاج السرطان(24).
ثانياً : الاستنساخ البشري :
المطلب الأول : الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
وصورته تكون بتلقيح البييضة بماء الزوج وعند الانقسام تفصل الخلايا كل خلية على حده لتكون نسخاً متعددة ثم تودع في رحم الزوجة(25).
وقد بدأت فكرة هذا النوع عام 1993 م من العالمين الأمريكيين ستيلمان وهول حيث أخذا ( خلية منوية تحتوي على 23 كروموزوم ) ولقحا بييضة ( تحتوي على 23 كروموزوم ) لينتجا بييضة ملقحة بنواة ذات 46 كروموزوم ثم انقسمت هذه الخلية الملقحة لتعطي أربع خلايا .
والأمر الجديد في بحثهما ما يلي :
1 – أنهما توصلا إلى أنزيم ومواد كيميائية استطاعت أن تذيب الغشاء البروتيني السكري المحيط بهذه الخلايا فانفصلت عن بعضها البعض .
2 – توصلا إلى مادة جديدة من الطحالب البحرية لإصلاح جدار الخلايا المنفصلة وتغطيتها حتى لا تتأثر .
3 – أخذا كل خلية من هذه الخلايا وقاما باستنساخ كل واحدة على حدة لتنتج ( 4 ) خلايا مرة أخرى أي الناتج ( 16 ) خلية ثم فصلا هذه الخلايا واستنساخها على ( 64 ) .(/4)
ثم جمدوا هذه الخلايا التي هي البداية الأولى للجنين وأخذوا واحدة فقط لتنميتها حتى وصلت إلى 32خلية ولم يكملا العمل خوفاً من الجوانب الأخلاقية وهذا البحث جرى بعيداً عن أعين اللجان الأخلاقية وأذيع في أحد المؤتمرات عام 1993م وأثار زوبعة من الخلاف من علماء الدين وعلماء الأخلاقيات إلا أن علماء الخلايا والبيولوجيا منحوهما جائزة أحسن بحث في المؤتمر(26).
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم هذه الصورة على النحو التالي :
القول الأول : التحريم وعليه جمهور العلماء المعاصرين وعليه قرر مجمع الفقه الإسلامي بجدة .
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي " تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين
أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري "(27).
القول الثاني : جواز استنساخ الجنين وعليه قرار اللجنة الطبية الفقهية بالأردن .
وقد جاء في ملخص الحكم الشرعي للاستنساخ الجنين البشري : " فصل الخلايا من البييضة الملقحة بعد الانقسام الأول أو الثاني أو الثالث أو بعد ذلك بقصد استعمالها لإحداث الحمل في فترة الزوجية جائز شرعاً ، وتحكمه القواعد ذاتها التي تحكم موضوع التلقيح الاصطناعي الخارجي ( طفل الأنابيب ) In-Vitor-Fertilization (IVF) وقد وافق الفقهاء الحضور بالإجماع على ذلك … وقد تحفظ على هذا الرأي كل من الشيخ الدكتور راجح الكردي والشيخ الدكتور عبد الناصر أبو البصل ، الذي كان رأيه أن الاستنساخ الجنيني غير جائز إلا في حالة امرأة لديها مشكلة في ثبات الحمل ، فيجيز الاستنساخ والتجميد لهذه الغاية فقط "(28) .
المناقشة :
استدل المانعون بالأدلة والاعتراضات التي تمنع الاستنساخ ( الجسدي ) ورأوا أنها تأخذ نفس الحكم لكونها كالاستنساخ الجسدي من حيث الأصل .
أما القائلين بالجواز فرأوا أنها تأخذ حكم التلقيح الصناعي الخارجي لأن هذه العملية قائمة بين رجل وزوجته في ظل العلاقة الزوجية ولا علاقة لطرف ثالث في العملية ولها فوائد وهذه التقنية تفيد في الآتي :
1 – أنها علاج لبعض حالات العقم لدى المرأة والرجل فالمرأة التي تعاني مشكلة الفقر في التبويض ، والرجل الذي تكون خلاياه المنوية ميتة أو بها تشوهات إلا القليل منها فإن هذه التقنية تساعده في الإنجاب .
2 – أنه يمكن الاستفادة منها في تشخيص الأمراض الوراثية في المختبر فالنسخة التي تم استنساخها يمكن فحصها فإن كان ثمة مرض وراثي أهملت جميع النسخ ولم تودع في الرحم وبذلك نتحاشى ولادة أطفال مشوهين .
أدلة المانعين :
1 – قاعدة " يتحمل الضرر الخاص أمام الضرر العام "(29).
حيث أن المصلحة الجزئية لحالات محدودة ممن ابتلوا بالعقم والتي تحل مشكلة بعض الأسر لا تعارض هذه المفسدة بالمفاسد المترتبة بفتح أبواب الاستنساخ الجنيني حيث أن احتمال الاختلاط والعبث بالخلايا وارد خاصة في هذا الزمان الذي ضعفت فيه الأمانة وقاعدة سد الذرائع أخذ بها عامة العلماء .
2 – أن النطفة أصل الإنسان ، والإنسان مكرم وهو جنين منذ تكونه فلا يصح العبث بالنطفة ولا مساسها دون حاجة داعية لذلك واحتمال إجهاض النطفة أثناء العملية وارد(30).
3 – إن المحاذير الواردة في الاستنساخ الخلوي أكثرها موجود في الاستنساخ الجنيني .
الترجيح :
يظهر لي جواز الاستنساخ الجنيني عند وجود الحاجة الماسة أو الضرورة إليها كما هو الشأن في علاج بعض مشاكل العقم لكون الطريقة من حيث المبدأ سليمة .
أما في الأحوال العادية كالرغبة في الحصول على أجنة متشابهة فلا يجوز ؛ لأن الأصل في التلقيح الصناعي الجواز عند الضرورة و " الضرورة تقدر بقدرها " فلا يتوسع في استباحة المحظور والله أعلم .
وقد جاء في البيان الختامي لندوة ( رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة ) الصادر عن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الدار البيضاء في صفر – 1418هـ – يونيو 1997م في شأن استنساخ الجنين البشري " ترى الندوة أن الطريقة من حيث مبدأ التلقيح سليمة ، لكن تقويمها من ناحية النفع والضرر لا يزال في حوزة المستقبل ، ومن منافعها القريبة المنال إمكان تطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه ، فإن بانت سلامته سمح بأن يودع في الرحم ، وكذلك التغلب على بعض مشاكل العقم وينطبق عليها كل الضوابط المتعلقة بطفل الأنابيب "(31).
الاستنساخ والعقيدة الإسلامية :
توهم بعض الناس أن الاستنساخ يتصادم مع العقيدة الإسلامية القاضية بأن الخلق والإيجاد لله وحده ، وأن هذا الاستنساخ الذي هو من فعل البشر يضاهي خلق الله .
وقد جاء هذا التوهم نتيجة الإثارة الهائلة التي واكبت عملية الاستنساخ والعبارات التي صدرت بها بعض الصحف الغربية والعلمانية هذا الاكتشاف مما جعل البعض ينكر الاستنساخ أصلاً أو يظن أن في ذلك تحدي للخالق وهذا وهم ظاهر .
ويمكن الإجابة على هذه الشبه بما يلي :(/5)
1 – أن الاستنساخ ليس خلقاً ، بل هي طريقة جديدة للتكاثر غير الطريقة المعهودة في البشر فالخلية المستنسخة والبييضة كلها من خلق الله ، ولم تكن معدومة فأوجدت . بل غايته التلقيح بصورة جديدة فقط . فالعلماء يتعاملون مع عناصر مخلوقة من عند الله فالخلية من النعجة والنعجة لم يوجدها العلماء بل هي من خلق الله ، وعملية الانقسام الخلوي التي تتم بوسائل حيوية بالغة التعقيد داخل الخلية نفسها وكلها موجودة ولم يخلقها العلماء .
والخلق عند الإطلاق يدل على الإيجاد من العدم ويدل لذلك :
أ – قوله تعالى : "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً" (32).
ب – قوله تعالى : "أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً" (33).
ج – قوله تعالى : "إنه يبدأ الخلق ثم يعيده"(34).
2 – أن الله سبحانه أوجد القابلية للتكاثر في خلقه بهذه الطريقة وغاية ما فعله الإنسان هو اكتشاف هذه الخاصية وتسخيرها لخدمته ولا يعد هذا خلقاً كما هو الشأن في النبات حيث يمكن غرس غصن البرتقال في شجرة ليمون لتحمل شجرة واحدة ثمرتين أو تهجين نباتين مع بعضها لينتج ثمرة تحمل صفتين مثل ( الليم ) وكذلك الشأن في الحيوان مثل البغل الناتج من الحصان والحمار ، فكل هذا لا يعد خلقاً ولا يتعارض مع سنن الله .
3 – أن العمل لو كان فيه معنى الخلق ، فليوجد العلماء خلية أو بييضة من العدم أو من التراب كما هو شأن الخالق وهذا ما يستحيل تصوره عقلاً فضلاً عن إمكانية تحقيق ذلك لدى البشر .
وقد أعلمنا الله أن الآلهة التي يعبدها البعض لن تستطيع أن تخلق ذبابة صغيرة ولو اجتمعوا لذلك وإن سلب الذباب منهم شيئاً لن يستطيعوا رده البتة .
وهذا التحدي قائم أبداً لا يمكن للبشر أو غيرهم خرق هذا التحدي(35)، قال
تعالى : "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " (36).
هل يتنافى وقوع الاستنساخ في البشر مع العقيدة الإسلامية ؟؟
ظن البعض أن عملية الاستنساخ يستحيل وقوعها في البشر لأن ذلك يتنافى مع دلالة بعض النصوص كقوله تعالى : "يخرج من بين الصلب والترائب " (37) ، أي صلب الرجل وترائب ( صدر ) المرأة . والاستنساخ البشري قد يقع من أي خلية من الرجل مع بييضة المرأة أو خلية من المرأة نفسها مع بييضتها دون الرجل .
والجواب على هذا التوهم ما يلي :
1 – أن ولادة الطفل بالطريقة المعهودة لا يعني عدم وقوع غيرها ، فالنصوص دلت على الطريقة المعروفة ولم تنف ما سواها ، فالآية في سياق الخبر لا الحصر .
2 – أن المراد بقوله تعالى يخرج من بين الصلب والترائب ( الإنسان ) وليس كما هو مشهور أن ذلك مني الرجل من الصلب وماء المرأة من الصدر فالآية في سياق الخبر عن الإنسان ويفهم هذا من السياق على النحو التالي :
"فلينظر الإنسان مم خلق" - الخبر عن الإنسان –
"خلق من ماء دافق" - أي الإنسان –
"يخرج من بين الصلب والترائب" - أي الإنسان –
"إنه على رجعه لقادر" - أي الإنسان –
وهذا التفسير يدل عليه علم الأجنة حيث أن وضع الجنين في البطن عند خروجه يكون رأسه لأسفل ويمتد جسمه ليصل الصدر مع الظهر فهو يخرج من بين الصلب والترائب(38) .
المطلب الثاني : الحكم الشرعي في الاستنساخ الخلوي
والمراد به إحداث تلقيح بالبييضة عن طريق خلية من الجسم غير منوية كما تقدم ، وهذا النوع هو الذي تناولته وسائل الإعلام والكتاب وعليه الاعتراضات الكثيرة وقد نجحت في مجال الحيوان ويتوقع نجاحه في الإنسان ، وقد تقدم بيان موقف المؤيدين والمعارضين لقضية الاستنساخ .
أما الحكم الشرعي يمكن تلخيصه على النحو التالي :
القول الأول : التحريم وهو رأي عامة الفقهاء المعاصرين منهم محمد بن صالح العثيمين ، وعبد الكريم زيدان ، ويوسف القرضاوي ،ونصر فريد واصل ، ومحمد سيد طنطاوي ، ومحمد سعيد البوطي ، ومحمود السرطاوي ، وعجيل النشمي ، وعبد الستار أبو غدة ، وعبد الله بن منيع ، ومحمد الأشقر ، ووهبه الزحيلي(39).
وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي وقرار اللجنة الفقهية الطبية بالأردن(40).
القول الثاني : التوقف
وهو رأي محمد تقي الدين العثماني والشمري .
وهذا القول جاء بناء على أن الاستنساخ البشري ليس إلا نظرية وخيال ، ولم يأت إلى حيز الوجود ، ولكون المعلومات والصورة الحقيقية بهذا النوع لم تتضح بعد وقد كان بعض السلف يقول : " لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله "(41).
القول الثالث : تأييد الاستنساخ البشري
وهذا الرأي ذهب إليه من لا يعتد بقوله شرعاً من الشيعة والصحفيين والأطباء وغيرهم فلا يعول عليه(42).
الأدلة :
استدل القائلون بتحريم الاستنساخ البشري ( الخلوي ) بالأدلة التالية :
1 – قوله تعالى : "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم "(43).
وجه الدلالة :(/6)
أن التمايز بين أبناء البشر ضرورة للناس اقتضتها حكمة الباري سبحانه وتعالى والاستنساخ وشيوعه ينافي هذه الحكمة .
2 – قوله تعالى : "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً " (44).
وجه الدلالة :
الأمشاج هو المزيج المختلط بين ماء الرجل وماء المرأة وهذا الخليط في الاستنساخ ينتهي بنزع النواة من البييضة ، فيكون خصائص الأنثى معدومة وهذا نوع من تغيير خلق الله(45).
3 – قوله تعالى : "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى "(46).
4 – قوله تعالى : "فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب" (47).
وجه الدلالة :
أن الاستنساخ يتعارض مع النصوص الشرعية الدالة على طريق معهود للتكاثر عن طريق الزوجين بمائهما فقط(48).
5 – قوله تعالى : "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (49).
وجه الدلالة :
أن الزواج هو أساس التكاثر في الشرع وهو سبيل إيجاد المودة والرحمة ، وفي الاستنساخ مساس بالعلاقة التي أوجدها الله في النكاح ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم ، إضافة إلى أن الاستنساخ يخالف معنى التخليق الشرعي (من أنفسكم ) لأن
الكائن الجديد لا يحمل صفات الأبوين معاً(50).
6 – قوله تعالى : "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" (51).
وجه الدلالة :
أن النسخ يصطدم بفكرة الموت وهو سبيل الخلود عند بعض الباحثين عنه ، والخلود من الأفكار الشيطانية وكل سبيل يؤدي إليه له حكمه(52).
7 – قوله تعالى : "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" (53).
وجه الدلالة :
الآية تقرر أن بث الرجال والنساء وهم الذرية ناتج من الزوجين لقوله سبحانه : "وبث منهما" والقول بأن الإنجاب يصح من المرأة نفسها يعارض هذه الآية(54).
8 – حكاية الإجماع :
حيث انعقد إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على المعاني المتصلة بطريقة التكاثر البشري من خلال الاتصال الجنسي بين الزوجين .
قال نور الدين الخادمي: "إن الإجماع لم يكن شرعياً فقط إن لم يصدر من علماء الشرعية ومجتهديها فحسب ، وإنما صدر من جهات فكرية وسياسية مختلفة وانعقد من قبل هيئات ومنابر ومؤسسات وهياكل متعددة التخصصات والفنون والمعارف والاهتمامات ، فقد كان إجماعاً شرعياً وعالمياً ،واتفاقاً عاماً على وجوب منع هذا النوع من الاستنساخ الخسيس ، ولزوم حظر تجاربه ومنجزاته "(55).
7 – قاعدة " سد الذرائع " وقواعد الشريعة الأخرى " الضرر يزال " و " كل ما أدى إلى الحرام فهو حرام "(56).
حيث أن الاستنساخ يؤدي إلى مفاسد كثيرة سبق بيانها ومن أعظمها علاقة المستنسخ بالأصل هل هي البنوة أم الأخوة وإذا كانت الأخوة هل سيكون مثل الأخ الشقيق أم كالأخ لأم ، وكذا البنوة هل يتساوى مع ابن الصلب مما يؤثر على قضية الميراث والولاية والمحرمية والوصية وأحكام عديدة .
إضافة إلى اختلال الناحية الأمنية إذا حصلت جريمة حيث تتشابه بصمات الأصابع وكذلك البصمة الوراثية وكذلك يضطرب أمر القضاء إذا تعدد الشهود المتشابهين تماماً وفي حالة النكاح لا تدري المرأة زوجها من شبيهه المستنسخ إذا كانوا متعددين وأمور عديدة تنتج من ا لاستنساخ .
قال ابن تيمية : " ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً ولا مباحاً وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته مما أذن فيه الشرع
والمسلم يعلم أن الله لم يحرم شيئاً إلا ومفسدته محضة أو غالبة "(57).
ويظهر لي :
أن الأدلة التي ساقها الجمهور لتحريم الاستنساخ لا يخلوا من نظر ؛ لأن الشرع إذا أخبر عن طريق معهود للتكاثر لا يعني تحريم غيره فطفل الأنبوب جائز عند الجمهور رغم مجيئه بطريقة غير معهودة بل بتلقيح صناعي وليس هناك ثمة دليل يمنع إنجاب الولد بخلية جسدية إذا تعطلت الخلية المنوية .
لذا أرى أن التحريم للاستنساخ ليس في ذاته بل لغيره وذلك لما تجره من المفاسد الكثيرة للقاعدة الفقهية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " أما المصالح الفردية التي يمكن أن يستفاد منها فلا تعارض المصلحة العامة للبشر لكونها هي المقدمة عند التعارض للقاعدة الفقهية " يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام "(58).
ومع هذا فلا شك أن الأطباء سيمضون في تجاربهم لا سيما وأن بعض الدول كبريطانيا سمحت بإجراء هذه التجارب رسمياً ، ولعلهم ينجحون في تجاربهم في استنساخ البشر فإذا تم ذلك فيرى بعض الباحثين أنه لا مانع من إعطاء فرصة وحيز من الاجتهاد في إعادة النظر في حكم بعض الحالات الفردية كأخذ خلية جسدية من زوج عقيم لا يمكن الإنجاب إلا عن طريق الاستنساخ وتوضع في رحم زوجته أثناء قيام الزوجية والله أعلم.(/7)
(1) انظر : الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 13 – 19 ، حول الهندسة الوراثية وعلم الاستنساخ لمحمد صالح المحب 143 – 180 ، عصر الهندسة الوراثية لعبد الباسط الجمل ص 11 – 99 ، ثبت علمياً حقائق طبية جديدة لموسى محمد ص 125 ، آيات الله المبصرة لتوفيق علوان ص 131.
(2) انظر : مادة ( نسخ ) : معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص 1026 ، المصباح المنير للفيومي ص 310 ، المعجم الوسيط ص 917 .
(3) انظر : ا لاستنساخ البشري لتوفيق علوان ص 13 .
(4) انظر : رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة بحث الاستنساخ لحسن الشاذلي 2 / 267 وبحث الاستنساخ البشري بين الإقدام والإحجام لأحمد رجائي الجندي 2 / 133 – 135 بحث الاستنساخ ( الكلونة ) لصديقة العوضي 2 / 165 – ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية - .
(5) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 130 .
(6) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 144 ، اعطني طفلاً بأي ثمن لسمير عباس ص 303 ، آيات الله المبصرة لتوفيق علوان ص 146 .
(7) وقد تقدم أن الأطباء استطاعوا بفضل الله مساعدة زوجين في الإنجاب عن طريق خلايا مستديرة من أنسجة خصية الزوج وحقنها في بييضات الزوجة بواسطة الحقن المجهري وذلك لعدم وجود أي خلايا منوية لدى الزوج .
(8) انظر : أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 306 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 324 بحث الاستنساخ لصالح الكريم .
(9) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص186 – 194، أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 307.
(10) انظر : بين جنون البقر واستنساخ البشر للسيد وجيه ص 127 – 133 ، البيولوجيا ومصير الإنسان لسعيد الحفار ص 109 ، عصر الهندسة الوراثية لعبد الباسط الجمل ص 130 .
(11) سورة النحل : 93 .
(12) انظر : حول هندسة الوراثة وعلم الاستنساخ لمحمد صالح ص 183 ، الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 92 .
(13) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 97 – 98 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 324 – 327 بحث الاستنساخ لصالح الكريم .
(14) سورة البقرة : 29 .
(15) سورة لقمان : 20 .
(16) سورة النحل : 5 .
(17) أخرجه الدارقطني 4 / 184 برقم 42 ، وحسنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 275 .
(18) انظر : الضرر في الفقه الإسلامي لأحمد موافي 2 / 935 ، قاعدة اليقين لا يزول بالشك للباحسين 107، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لصالح بن حميد ص 107 بلفظ " الأصل في المنافع الإباحة " قواعد الفقه للبركتي ص 59 .
(19) انظر : الأشباه والنظائر لابن السبكي 1 / 41 ، المبادئ الفقهية لمحمد درويش ص 19 ، القواعد الكبرى للعجلان ص 90 الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 133 ويرى أن هذا النوع يمكن أن يكون مندوباً أو واجباً حسب الحاجة إليه .
(20) انظر : قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص 216 .
(21) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 119 .
(22) أخرجه مسلم كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً برقم 2363 .
(23) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 114 – 117 المناقشات الفقهية لموضوع الاستنساخ والرد لإبراهيم الكيلاني وزير الأوقاف السابق بالأردن .
(24) انظر : الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 147 ، الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 79 ، الهندسة الوراثية والأخلاق لناهد البقمي ص 96 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 244 ، 283 بحث الاستنساخ البشرى لأحمد الجندي و الاستنساخ لصالح الكريم .
(25) انظر : الاستنساخ البشري لتوفيق محمد ص 29 .
(26) انظر : مجلة المجمع الفقهي العدد العاشر 3 / 242 – 243 بحث الاستنساخ البشري لأحمد الجندي .
(27) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 421 والطريقتين هي الاستنساخ الجنيني والاستنساخ الخلوي ( الجسدي ) .
(28) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 173 ، والفقهاء الموافقون محمد الأشقر ومحمد شبير وعمر الأشقر وهمام سعيد وفضل عباس .
(29) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87 ، شرح المجلة للباز ص 31 ، النظريات الفقهية للزحيلي ص 226 .
(30) انظر : دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة بحث عمليات التنسيل ( الاستنساخ ) وأحكامها الشرعية لعبد الناصر أبو البصل 2 / 657 .
(31) انظر : رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة 2 / 509 – 510 .
(32) سورة مريم : 9 .
(33) سورة مريم : 67 .
(34) سورة يونس : 4 .
(35)انظر:الاستنساخ البشري بين القرآن والعلم الحديث لتوفيق علوان ص35–38،الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 214 ، موقع الإسلام على الإنترنت islamonline.net مقالة نحو اجتهاد لضبط قضية الاستنساخ .
(36) سورة الحج : 73 .
(37) سورة الطارق :5-8 .(/8)
(38) انظر : القرار المكين لمأمون شقفة ص 34 ويبدو لي أن البار تكلف في تفسير الآية علمياً حين ذكر أن التغذية الحاصلة للخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها أي من بين الصلب والترائب لذا فتكون المني في الخصية نسب للصلب باعتبار أنه استقى مواد التكوين من العروق والأعصاب المتدلية من الظهر وكذلك الشأن بالنسبة للمرأة وهذا خلاف الظاهر والله أعلم انظر كتابه خلق الإنسان ص 116 .
(39) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي – المناقشات الفقهية – العدد العاشر 3 / 392 ، 412 ، 371 ، جريدة المسلمون العدد 647 في 27 يونيو 1997م .
(40) انظر : قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص 216 ، قضايا طبية معاصرة 2 / 157 .
(41) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي – المناقشات الفقهية – العدد العاشر 3 / 368 ، 373 ولاحظ أن هذه المناقشات كانت عام 1418هـ / 1997م .
(42) انظر : أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 308 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 220 – 226 ، جريدة الشرق الأوسط مقال الاستنساخ البشري بين الحرمة والإباحة لعبد الهادي الحكيم بتاريخ 23 / 6 / 2001م .
(43) سورة الروم : 22 .
(44) سورة الإنسان : 2 .
(45) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 137 ، المناقشات الفقهية – والاستدلال لإبراهيم الكيلاني .
(46) سورة النجم : 45 .
(47) سورة الطارق : 5 – 7 .
(48) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 128 – المناقشات الفقهية - .
(49) سورة الروم : 21 .
(50) انظر : الأحكام الطبية المستجدة لمحمد النتشة 1 / 247 ، قضايا طبية معاصرة 2 / 131 – المناقشات الفقهية - .
(51) سورة طه : 120 .
(52) المصدر السابق .
(53) سورة النساء : 1 .
(54) انظر : دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة بحث عمليات التنسيل ( الاستنساخ ) وأحكامها الشرعية لعبد الناصر أبو البصل 2 / 678 .
(55) انظر : الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 84 – 85 وهذا الإجماع الذي حكاه غريب جداً ، وأعجب منه أن يدعي أنه على مستوى جميع التخصصات والفنون وهناك عدد كبير من الأطباء المسلمين وغيرهم يرحبون بهذا النوع ويؤيدونه ومن المؤيدين من الغرب الباحث فليتشر من جامعة فرجينا وادوارد من جامعة كامبردج – وهو أول من أجرى عمليات طفل الأنبوب – والباحث فيشل من إنجلترا وسيدل من جامعة كولورادو والباحث الشهير دات من كندا ودواكن من أكسفورد وديش من بريطانيا وهولمان وفليك ودوكاس من أمريكا ، انظر : الاستنساخ البشري بين التحليل والتحريم لفوزي محمد ص 248 – 249 .
(56) انظر هذه القواعد : النظريات الفقهية لمحمد الزحيلي ص 223 ، الوجيز للبورنو ص 201 ، روضة الفوائد لمصطفى مخدوم ص 51 ، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 328 ، مجلة المجمع الفقهي العدد العاشر 3 / 378 المناقشات الفقهية .
(57) انظر : طريق الوصول إلى العلم المأمول جمع عبد الرحمن السعدي ص 203 .
(58) انظر القاعدة : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87 ، شرح المجلة للباز ص 31 القاعدة 26، الضرر في الشريعة الإسلامية لأحمد موافي 2 / 944 ، النظريات الفقهية للزحيلي ص 226 .(/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله المبشر النذير والسراج المنير – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن من العقائد والأصول المقررة في الإسلام حب الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان واعتقاد فضيلتهم وصدقهم والترحم على صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم وصيانة أعراضهم وحرماتهم فذلك أمر ضروري وهو أحد الضروريات الخمس – الدين والنفس والنسل والعقل والمال – التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها وضبط حقوقها (1) والأخذ على يد من هتكها ، وقد قال النبي – صلى الله عليه – وسلم في مجمع عظيم من أعظم مجامع المسلمين ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب ) رواه البخاري (67) ومسلم (1679) من طريق ابن سيرين عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة رضي الله عنه .
فهتك عرض المسلم والجناية عليه عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين ، وهو من كبائر الذنوب ومن التشبه بالمنافقين وأعظم منه غمس الألسنة والأقلام في أهل العلم ومحاولة إسقاط قدرهم بأوهام من هنا وهناك والإيغال بالدخول في نياتهم ومقاصدهم والصد عن سبيلهم والاستخفاف بحقوقهم .
قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله ( من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ) (2).
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته : ( وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر – لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ) (3) .
وقال الحافظ ابن عساكر : ( واعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء - رحمة الله - عليهم مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ) (4) .
وأكبر ظلماً وأسوأ حالاً من هذه البلية العظيمة احتراف هذه الظاهرة في الصحابة الكرام وإطلاق العنان للسان يفري في أعراضهم وعدالتهم ويحطم حقائق تاريخهم .
وقد عدَّ أهل العلم ذلك زندقة وقرروا أنه ( لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته والإسلام والمسلمين ) (5) .
فهم خير الناس للناس وأفضل تابع لخير متبوع وهم الذين فتحوا البلاد بالسنان والقلوب بالإيمان ، ولم يعرف التاريخ البشري منذ بدايته تاريخاً أعظم من تاريخهم ولا رجالاً دون الأنبياء أفضل منهم ولا أشجع ، ومن داخله شك في هذا فلينظر في سيرهم على ضوء الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة يرى أمراً هائلاً من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة .
وحين ضن غيرهم بالنفس والمال واستثقلوا مفارقة الأهل والولدان استرخصوها في إقامة الدين وتمكين الأمم والشعوب من العيش في أمن ورغد تحت حكم الإسلام فلا كان ولا يكون مثلهم فهم غيض العداء وأهل الولاء والبراء وأنصار الدين ووزراء رسول رب العالمين .
وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام ، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر وتحطمت شعائر الإلحاد وذلت رقاب الجبابرة والطغاة ودانت لهم الممالك .
ولذا رأيت أن من خير الزاد ليوم المعاد تحريك القلم بلطائف من الإشارات المهمة وشذرات من المعارف المختصرة لدفع عدوان الظالمين وكشف زوبعة المتعالمين وتبرئة الصحابة المتقين ومناصرتهم من أقلام الحاقدين وجهلة الأدباء والمؤرخين الخائضين في هذا المقام الكبير بالجهل والهوى وقلب الحقائق والاعتماد في ذلك على الآثار الضعيفة والأخبار الواهية والمتروكة .
وقد زاد جرم هؤلاء وعظم فعلهم حين طعنوا في كوكبة من الصحابة وأوغروا الصدور عليهم بسوء الظن وفرض احتمالات وتكهنات ليس لها أصل في الشرع ولا مكان في العقل في حين ترى بعضاً من أولئك يحسنون الظن بالرافضة ودعاتهم والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومدارسهم ويعظمون رجالات الفكر المنحرفين وزعماء الفساد الملحدين ويحتفون بكتبهم وآرائهم ويضفون عليها الدقة في التحقيق والسلامة في القصد والعظمة في الإنصاف .
__________
(1) انظر الموافقات (1/31) للشاطبي .
(2) سير أعلام النبلاء (8/408 _ 17/251) .
(3) العقيدة الطحاوية ( ص 58 ) بتعليق الشيخ الألباني رحمه الله .
(4) تبيين كذب المفتري ( ص 49 ).
(5) كتاب الإمامة ( ص 376 ) للإمام أبي نعيم الأصبهاني .(/1)
وقد لقيت نفراً ممن تشبعت نفوسهم بهذا الفكر ، فكانت بداية الحديث عن العدل والإنصاف وحفظ حقوق العلماء والمجتهدين وأهل الفكر والأدب من المسلمين فعّمت الارتياحية وهشّوا وبشوا وبلغ التفاعل والحماس أشده ، وكنت أوافقهم على هذا الأصل ومشروعية العدل في تقويم الناس والحديث عن جهودهم بيد أن القوم يرمون إلى شيء ، فحين جاء الحديث عن الصحابة ومنزلتهم وضلال أعدائهم غاب العدل عن وعيهم وعميت بصيرتهم عن ذلك .
فتسارعوا في الكذب ورواية الأباطيل وجهدوا في تنقص أفراد من مسلمة قبل الفتح وجماعات ممن أسلم بعد ذلك ، وبالأخص معاوية - رضي الله عنه - فتعجبت حينئذ من دعواهم الإنصاف والمطالبة بالعدل في الحكم على الآخرين وهم يلوكون ألسنتهم في جند الله المفلحين الذين أقام الله بهم دينه ودفع بهم بأس أعدائه .
وعجلت آنذاك إلى الله وجهدت في الهرب من غضبه وسخطه فأطلقت العنان للّسان يبين سوء منهجهم ويبدي عظيم فعلهم وفساد أفكارهم .
وبسطت القول في حقوق الصحابة وكبير منزلتهم ولا سيما معاوية - رضي الله عنه - فقد ناله من سلاطة ألسنتهم ما لم ينل غيره .
فما كان جوابهم إلا أن قالوا هذه المسألة اجتهادية وليست من القطعيات فعلمت حينئذ أنهم دعاة هدم وفساد وليسوا من الإصلاح والعدل بشيء .
فإلى البيان في نصرة أئمة الدين وحماية أعراض زعماء تاريخ الأمة الإسلامية من مفتريات المفتونين بتصيد العثرات والتجريح بالشهوات .
فصل
من سمات أهل السنة والجماعة وعلامات أهل الأثر والاتباع سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار والذب عن حرماتهم وأعراضهم من رموز الجراحين وثلب العابثين وألسنة الحاقدين ، والزجر والتغليظ على من تعلق بخيوط الأوهام وبات في أودية الظلام فغمس لسانه في البهت والآثام وسلب من الصحابة العدالة وجعلهم كسائر الأنام لهم مالهم وعليهم ما عليهم فولغ في حرماتهم وأعراضهم وجمع مساويهم وعثراتهم .
وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – على من جمع الأخبار التي فيها طعن على بعض أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغضب لذلك غضباً شديداً وقال : ( لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته ، فكيف في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : أنا لم أكتب هذه الأحاديث ، قال المروذي : قلت لأبي عبدالله : فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الرديئة ويجمعها أيهجر؟ قال : نعم يستأهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم ) رواه الخلال في السنة (3/501) بسند صحيح (1).
وقد امتطى هذه الأخبار المروية في مساويهم دعاة الفتنة والضلالة فاستخفوا بحرمات المؤمنين ووزراء رسول رب العالمين فبسطوا ألسنتهم في تجريحهم والتشفي منهم بضروب من التطاول والقذف بالباطل ، وهذه التربص منتهاه نزع الثقة عن خيار الأمة والتشكيك في أعمالهم وفتوحاتهم وعلومهم وعدالتهم ، وقد مضت الأمة خياراً عن خيار على مدح الصحابة والثناء عليهم وحسن الظن بهم والكف عن مساويهم وسوء الظن بهم .
__________
(1) وانظر الشرح والإبانة لابن بطة ص (268-269) والحجة في بيان المحجة للإمام الأصبهاني (2/368-371) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي (7/1241-1270) وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للإمام أبي عثمان الصابوني = ص (80-81) والعقيدة الطحاوية ص (57) بتحقيق الشيخ الألباني -رحمه الله - والصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام (3/1085)(/2)
فيا ويل من تعرض لهم بسوء وأوقد نار الفتنة وجرأ السفهاء والغوغاء على الوقيعة فيهم وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد به (1) ، ورواه مسلم في صحيحه من طريق جرير عن الأعمش بلفظ : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لا تسبوا أحداً من أصحابي ... ) وهذه الزيادة في سبب ورود الحديث غير محفوظة ، فقد رواه عن الأعمش سفيان الثوري (2) وشعبة ووكيع وأبو معاوية وغيرهم وهم أضبط وأحفظ الناس لحديث الأعمش ولم يذكروا هذه الزيادة على أنه قد اختلف على جرير فيها فقد رواه ابن ماجه ( 161) عن محمد بن الصباح عن جرير (3)بدونها ولذا أعرض عنها البخاري – رحمه الله – وقال مسلم – رحمه الله - في صحيحه ( 4/1968) بعد ذكر الرواة عن الأعمش ( وليس في حديث شعبة ووكيع ذكر عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ) وهذا هو الصواب ، وروى أحمد في فضائل الصحابة (4) وابن ماجه (5) بسند صحيح من طريق سفيان عن نُسيرين ذُعلُوق وهو ثقة ، قال : كان ابن عمر يقول : ( لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم – فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمرَه ) .
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك (6) " علمت أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى - عليه السلام - وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى - صلى الله عليه وسلم – فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – وقد علمتُ من أين أُتيت ، لم يشغلك ذنبك ، أما لو شغلك ذنبك لخفتَ ربك ، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين ، فمن ثَّم عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب محمد ، فويحك ! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهار وأنت تتناول الأخيار ، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى ويحك ! هؤلاء شرفوا في أُحد وهؤلاء جاء العفو عن الله تعالى فيهم فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } آل عمران آية (155) فما تقول فيمن عفا الله عنه ؟ وبمَ تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، شر الخلف خلفُُُُ شتم السلف ، والله لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " (7) .
وقد اتفق أهل العلم على أنهم خير الناس بعد الأنبياء فقد جاء في الصحيحين من طريق إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( خير الناس قرني ... ) (8) وأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأدلة هذا كثيرة وعامة أهل العلم على هذا ، وقد جعل الله جل وعلا بقاء الصحابة أمنة للأمة فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن وظهرت البدع وفشا الجور والفساد ففي صحيح مسلم (9)من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا فخرج علينا فقال : ( ما زلتم ههنا ؟) قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب . ثم قلنا ، نجلس حتى نصلي معك العشاء ،قال : ( أحسنتم أو أصبتم ) قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء فقال ( النجوم أمنة للسماء . فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد . وأنا أمنة لصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى لأصحابي متى ما يوعدون ) .
وهذا دليل على فضلهم وعظيم ما دفع الله بهم من البدع والفتن والجور والفساد فلا جرم أن جعلهم الله وزراء نبيه وحزب خليله .
__________
(1) البخاري رقم (3673) ومسلم رقم ( 2541) ج (4/ 1967)
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة (988) عن عباس بن الوليد حدثنا بشر بن منصر عن سفيان به ، وجاء في زيادات القطيعي على فضائل الصحابة لأحمد ( 1/365) رواية الخبر من طريق سفيان عن الأعمش بالزيادة والأول أصح .
(3) وقد جعله من مسند أبي هريرة وهذا غلط .
(4) ج(1/57 ) .
(5) رقم (162) .
(6) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (5/368) .
(7) رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتابه الجليس الصالح (2/392) بأطول من هذا .
(8) البخاري (2652) ومسلم (2533).
(9) رقم (2531) .(/3)
قال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه ) رواه الإمام أحمد (1/379) من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله وسنده حسن .
وذكر قتادة عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : ( من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه – صلى الله عليه وسلم – فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (1) وفيه انقطاع ، فقد توفي ابن مسعود قبل أن يولد قتادة .
قال شيخ الإسلام –رحمه الله - : ( وقول عبدالله بن مسعود : كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ؛ كلام جامع بيّنَ فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف ) (2) .
وقال الإمام ابن أبي حاتم – رحمه الله – ( فأما أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة فحفظوا عنه – صلى الله عليه وسلم – ما بلغهم عن الله - عز وجل - وماسن وما شرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله - عز وجل - بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة ، فقال - عز ذكره - في محكم كتابه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (البقرة آية (143) ففسر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله - عز ذكره - قوله : ( وسطاً قال : عدلاً ، فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة . وندب الله -عز وجل - إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى... } ( النساء آية (115) (3) . )
وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني – رحمه الله – عن الصحابة : ( سمحت نفوسهم – رضي الله عنهم – بالنفس والمال والولد والأهل والدار ، ففارقوا الأوطان وهاجروا الإخوان وقتلوا الآباء والإخوان وبذلوا النفوس صابرين وأنفقوا الأموال محتسبين وناصبوا من ناوأهم متوكلين ، فآثروا رضاء الله على الغناء ، والذل على العز ، والغربة على الوطن ، هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون حقاً ، ثم إخوانهم من الأنصار أهل المواساة والإيثار أعز قبائل العرب جاراً ، واتخذ الرسول – عليه السلام - دارهم أمناً وقراراً ، الأَعفّاء الصبر والأصدقاء الزهر { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ( الحشر آية (9) .
__________
(1) 2/97) ورواه أبو نعيم في الحلية (1/305) من طريق عمر بن نبهان عن الحسن عن عبدالله ابن عمر - رضي الله عنه – وسنده ضعيف ، عمر بن نبهان : ضعفه يعقوب بن سفيان والعقيلي وجماعة ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيء ، وعنه : ثقة ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، وقال ابن حبان في المجروحين (2/90) : يروي المناكير عن المشاهير فلما كثر ذلك في حديثه استحق الترك .
وقال ابن حجر في التقريب (4975) ضعيف ، وهذا العدل فيه .والحسن عن ابن عمر قيل :لم يسمع ، وفيه نظر . قال بهز : سمع حديثاً " المراسيل لابن أبي حاتم ص43 " .
وقال أحمد وأبو حاتم : سمع الحسن من ابن عمر " المراسيل ص 43-44 " . وقيل لأبي زرعة : الحسن لقي ابن عمر ؟ قال : نعم .
وروى الخبر الآجري في الشريعة (1161) وابن عبدالبر (2/97) من طريق الدورقي نا حكّام بن سلم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن عبدربه قال كان الحسن في مجلس فذكر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال ( إنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً ... ) وهذا أصح .
(2) منهاج السنة (2/79 ) .
(3) انظر كتاب الجرح والتعديل (1/7) .(/4)
فمن انطوت سريرته على محبتهم ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم وتبرأ ممن أضمر بغضهم فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى فقال :{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم ٌ(10) } ( الحشر) .
فالصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين تولى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم وبشرهم برضوانه ورحمته فقال : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ }( التوبة آية (21) ) .
جعلهم خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله فجعلهم مثلاً للكتابين لأهل التوراة والإنجيل خير الأمم أمته وخير القرون قرنه يرفع الله من أقدارهم إذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشاورتهم لما علم من صدقهم وصحة إيمانهم وخالص مودتهم ووفور عقلهم ونبالة رأيهم وكمال نصيحتهم وتبين أمانتهم رضي الله عنهم أجمعين ) (1).
وهذا محل اتفاق من أهل السنة فلا كان ولا يكون مثل الصحابة – رضي الله عنهم – في إمامتهم وفضلهم وسبقهم وعلو مقامهم بالأمر والنهي والعلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ولهذا قيل : ( كل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله ، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة – رضي الله عنهم – الفضل إلى يوم القيامة ) (2) .
وقد قال تعالى – في فضلهم ومآلهم – { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ(100)} ( التوبة ) . والمراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم الذين تأخر إسلامهم من الصحابة - رضي الله عنهم - قاله جماعة من أهل العلم ويؤيده ما قاله الحافظ العلائي رحمه الله ( بأن الآيات كلها فيما يتعلق بالمتخلفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين في غزوة تبوك فأتبع الله ذلك بفضيلة الصحابة الذين غزوا معه صلى الله عليه وسلم وقسمهم إلى السابقين الأولين ومن بعدهم ثم أتبع ذلك بذكر الأعراب وأهل البوادي الذين في قلوبهم نفاق أو لم يرسخوا في الإسلام فقال تعالى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } التوبة (101) . فدل على أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم بقية الذين تأخر إسلامهم ، فشملت الآية جميع الصحابة ) (3).
ولفظ الصحبة يصدق على كل مسلم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لحظة ومات على ذلك ، ومن ثبت له شرف الصحبة لا يتطلب شروط التعديل بل يُكتفى بشرف الصحبة تعديلاً .
وقد زعم بعض أهل الأهواء أن الصحبة لا تصح إلا لمهاجري وأنصاري وحينئذ لا تثبت عدالة من جاء بعدهم إلا بما تثبت به عدالة غيرهم من التابعين فمن بعدهم ، وهذا غلط لم يقل به أحد من أهل السنة ، ونظيره المذهب المروي عن سعيد بن المسيب أنه لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين وهذا لا يصح (4) عن سعيد والإجماع على خلافه ، قال الحافظ العلائي - رحمه الله - ( والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في اسم الصحابي - كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً يسيراً واتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة ) .(5)
__________
(1) الإمامة والرد على الرافضة (209-211) .
(2) من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، وانظر طريق الهجرتين للإمام ابن القيم – رحمه الله – ( ص 362 ) .
(3) كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة ص 63.
(4) انظر التقييد والإيضاح ( ص 297 ) للحافظ العراقي .
(5) كتاب تحقيق منيف الرتبة ( ص 43 ) وانظر فتح الباري ( 7/4 ).(/5)
وقال تعالى في مدح الصحابة : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) } (الفتح) ، وقال تعالى :{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(10) } (الحديد).
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتح هنا فتح مكة وقيل الحديبية وفيه نظر ، وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله – فتح مكة وأنه ( الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل ا لناس به في دين الله أفواجاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ، خرج له رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان ) (1) وهذا فتح مكة لأن الحديبية كانت في السنة السادسة في ذي القعدة على قول عروة في أحد قوليه والزهري ومحمد بن إسحاق وغيرهم .
وقد أنزل الله - جل وعلا -على نبيه – صلى الله عليه وسلم – منصرفه من الحديبية { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) }( الفتح ) فسمى الله تعالى هذا الصلح فتحاً وأما الفتح المذكور في سورة الحديد وسورة النصر وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا هجرة بعد الفتح ) متفق عليه من حديث ابن عباس ،فلا ريب أنه فتح مكة فهو الفتح الأعظم وهذا أمر واضح .
والمقصود بيان دلالة الآية على عظيم مقام الصحابة وكبير قدرهم وعلى تفاوت منازلهم وتفضيل بعضهم على بعض وأن من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل أعظم أجراً وأعلى منزلة ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل وقد وعد الله – تعالى - كلاً من الطائفتين الجنة . فتحقق بهذا أن من أسلم بعد فتح مكة من الطلقاء وغيرهم وجاهد في سبيل الله وأنفق ماله أنه داخل في قوله تعالى :{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ( النساء آية (95) ) .
فمن أعمل لسانه وسخر قلمه في الطعن فيهم أو رميهم بالنفاق أو شكك في إسلامهم وأورد الاحتمالات بدون بيان من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وبدون برهان قام عليه الدليل فقد ردَّ على الله خبره وافترى على هؤلاء الصحابة بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثل هذا لا يصدر إلا ممن قلَّ دينه وعظم ظلمه واسودَّ قلبه وبلغ منه الجهل بالكتاب والسنة وسيرة القوم مبلغاً عظيماً وقد قال شيخ الإسلام – رحمه الله- : ( فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل معاوية وأخيه يزيد وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو قد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت ) (2)
وقال - تعالى - في وصف المهاجرين ومدح الأنصار وذكر من أسلم بعدهم وسار على طريقتهم : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } ( سورة الحشر ) .
... فاحفظ يا رعاك الله ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ولا يكن في قلبك غِل على أحد منهم فإن هذا من أعظم خبث القلوب ، واستوص بهم خيراً ففي سبيل ذلك تهون الأرواح والدماء .
__________
(1) زاد المعاد ( 3/394 )
(2) الفتاوى (4/466 ) .(/6)
بخلاف محترف الطعن وسوء الظن ، فقد اتعب نفسه وآذى غيره ، فركض وراء السراب وطعن في بعضهم بشبهة أحاديث ضعيفة ومكذوبة وأخبار لها محامل حميدة فقلبها هفوات ومثالب ، ونذر نفسه للوقيعة في أبي هريرة وجعله شخصية متأثرة بكعب الأحبار ، وشخصية توظف النصوص لصالح الأمويين (1) ، وآخر صبَّ شآبيب غضبه على معاوية وعمرو بن العاص وعبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم - ممتطياً في ذلك الدفاع عن أهل البيت (2) محتمياً بشبه كسراب بقيعة نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى فقد سلم منه اليهود والنصارى وقادة الكفر والضلال ولم يسلم من زوبعته أئمة الدين وغيض الأعداء ألا شاهت هذه الجهود وخابت مساعيهم .
__________
(1) السلطة في الإسلام ( ص 265- 275 ) وهذا شأن بعض الكتّاب المعاصرين المتأثرين بالمستشرقين وبآراء النظّام رخص عليهم دينهم ، فنصبوا أنفسهم حكاماً على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلبوا الحقائق وأتوا بالعجائب فطعنوا في أبي هريرة تصريحاً لا تلويحاً وزعموا ( أن معظم الإسرائيليات التوراتية وغير التوراتية التي تسربت إلى كتب الأحاديث بما فيها الصحيحان هي من مرويات تلاميذ كعب وعلى رأسهم أبو هريرة ...) وقد جعل هؤلاء من كعب شخصية تعمل على نشر اليهودية والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم –وهذا كلام ليس فيه شيئ من البيان والحجة ومصدره الهوى والجهل أو الخبيئة السيئة ، ولم يذكر قائله دليلاً ولا شبهة دليل على فريته ، ولوحصل شيء من هذا لنهض إليه الصحابة وفصلوا رأسه عن جسده ، فقد كان يعيش بينهم ويأخذ عنهم السنن ولم يعيبوا عليه سوى إكثاره من التحديث عن أهل الكتاب وإتيانه بالغرائب والعجائب ، على أن بعضاً مما يُنقل عنه لا أصل له ولم يأت عنه من وجه يصح .
وقد ذكر الحافظ الذهبي في السير (3/489) ( أنه كان حسن الإسلام متين الديانة من نبلاء العلماء ... ) وقد سمع منه أبو هريرة – رضي الله عنه – بعض الشيء من أخباره عن بني إسرائيل ، وعُذره في ذلك ترخيص النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتحديث عنهم رواه البخاري ( 3461) في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص فبسط بعض أهل الأهواء لسانه واتخذ من ذلك طعناً في أبي هريرة وتشكيكاً في مروياته واختلاطها بالإسرائيليات ، وهذا تحامل عظيم وطعن في الشريعة قبل أن يكون طعناً في أبي هريرة رضي الله عنه.
ومثل هذا الإفك المبين لو علم قائله حقيقته لأمسك عنه فهذا لا يقوله مسلم ولا ينطق به عاقل ، فقد كان أبو هريرة من أحفظ الناس للأحاديث باتفاق الأئمة ، وأضبطهم وأكثرهم تمييزاً لما يروي ولا يمكن أن تختلط عليه حكايات يسيرة سمعها من كعب الأحبار بكلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ويؤيد هذا أن أبا هريرة – رضي الله عنه – لم يكن ينسى شيئاً سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فروى البخاري – في صحيحه (119) من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : (( قلت – يا رسول الله – إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه ، قال : ابسط رداءك فبسطته قال : فغرف بيديه ثم قال : (( ضمه ))فضممته فما نسيت شيئاً بعده )) رواه البخاري (7354) ومسلم (2492) من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ آخر .
(2) وهذه الفئة ليس لها ثوابت شرعية تزن بها الأمور ، والغاية من منهجها غير واضح ومعالمه مشتبهة ، وقد قرأت كتاب الرسالة المنقذة للزيدي المستوري ، وكتاب عدالة الرواة والشهود للزيدي المرتضى المحطوري فوجدت تشابهاً في الطرح والعرض ، واتفاقاً في الطعن في بعض الصحابة . ورأيت في كلامهم تناقضات ، وخللاً في التقويم ، وتطفيفاً في الحكم . وقد تبين من مقالاتهم أنه لا يمكن نصر الحق إلا بشيء من الباطل ولا يتم تمييز الحق من الباطل إلا بالجور والعصبية والحمل على الأبرياء فمن ذلك أنه لا يمكن حب أهل البيت ونصرتهم وبيان محاسنهم وفضائلهم إلا بالطعن في معاوية – رضي الله عنه - ومن معه ، وهذا من الجهل والضلال ونصر الحق بالباطل ، فالطعن في آحاد الصحابة من أجل أهل البيت أو غير ذلك عمىً عن الحق وتوغل في الباطل ، فأهل السنة الذين هم أهلها يحبون أهل البيت بدون غلو ولا إطراء ويتولونهم ويذبون عن أعراضهم وحرماتهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يتولون عامة الصحابة ويعرفون لهم منزلتهم ولا يسبون أحداً منهم ، فهم وسط بين الرافضة والنواصب ، فالرافضة لما كانوا أعظم الناس تركاً لما أمر الله به وإتياناً لما حرم الله كفّروا عامة الصحابة إلا أهل البيت فقد غلوا فيهم وأضفوا عليهم خصائص الرب تبارك وتعالى ؛ والنواصب لما كثر جهلهم وغلظت طباعهم وكثر فيهم الشقاق والنفاق تبرؤا من أهل البيت ونصبوا العداوة لهم نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى .(/7)
ومن هنا كان الطعن في أبي هريرة راوية الإسلام أو معاوية بن أبي سفيان أحدكتّاب الوحي (1) للنبي – صلى الله عليه وسلم – دركاً للنيل من حُرَّاس الشريعة الآخرين فالمقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب تُفضي وتؤول إليها ، وحينئذ تأخذ الوسائل أحكام المقاصد .
وقد كان أئمة السلف يقولون : ( معاوية - رضي الله عنه – بمنزلة حلقة الباب من حرَّكه اتهمناه على من فوقه ) (2)
وقال الربيع بن نافع : ( معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه ) (3) من المهاجرين والأنصار وساقه ذلك إلى جحد الكتاب وتكذيب السنة والطعن في رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
وقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه (10/174) من طريق الزبير بن أبي بكر حدثني عمي مصعب بن عبدُالله قال : حدثني أبي عبدُالله بن مصعب قال : قال – لي أمير المؤمنين المهدي – يا أبا بكر ما تقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : قلت زنادقة ، قال ما سمعت أحداً قال هذا قبلك ، قال : قلت : هم أرادوا رسول الله بنقص ، فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك ، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء ، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء ، فكأنهم قالوا : رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصحبه صحابة السوء وما اقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء فقال : ما أراه إلا كما قلت .
قال الإمام أبو زرعة – رحمه الله – ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندنا حق والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة ) رواه الخطيب في الكفاية ( ص97) وابن عساكر في تاريخه (38/32) .
والمنقول عن أهل العلم في هذا الباب كثير فقد هتكوا سجف الخائضين في أعراض الصحابة المفتونين بتتبع هفواتهم وزلاتهم وقد أصاب معاوية – رضي الله عنه – من ظلم هؤلاء وبغيهم ما لم يصب غيره .
ونحن لا ننزه معاوية - رضي الله عنه - ولا من هو أفضل منه عن الذنوب غير أن هذا باب وله ضوابط ، وطعن هؤلاء فساد وله مرامي بعيدة فمعاوية – رضي الله عنه – علم في الأمة طلب المجد فارتقاه ، فظهر صدقه وعفافه وحلمه وعدله واهتمامه برعيته وحسن سياسته لهم على اختلاف منازلهم وتنوع رغباتهم وقد أجمع المسلمون على فضله وصدق إسلامه وأمانته .
وقد شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم – غزوة حنين فدخل في جملة المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم في قوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) } ( سورة التوبة ) .
فمن وصفه بالنفاق بعد الشهادة له بالإيمان فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثله تجب استتابته فإن تاب وأناب إلى ربه وإلا وجب على السلطان قتله في أصح قولي العلماء ، ولا عذر لمن ولاه الله أمر المسلمين ومكنه منه أن يدعه بدون عقاب ، أو على الأقل يخنق فكره الشاذ ويضع في يديه ورجليه الأغلال التي تعيقه عن مسار ظالم وهجوم غاشم وأوهام ليس لها زمام ولا خطام .
وقد يظن من لا علم عنده أن هذا من الحجر على الاجتهادات واحتكار الآراء والاعتداء على أصحابها وهذا غير صحيح وليس هذا الظن في مكانه .
__________
(1) جاء هذا بأسانيد صحيحة ، وفي صحيح مسلم (2501) من طريق عكرمة حدثنا أبو زُميل حدثني ابن عباس : أن أبا سفيان طلب من النبي –صلى الله عليه وسلم – أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه . فقال : نعم ... ) وقد تكلم بعض أهل العلم في هذا الإسناد ، واتهموا به عكرمة بن عمار لأسباب يطول شرحها . انظر زاد المعاد (1/109/110) بيد أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم في كون معاوية - رضي الله عنه - أحد كتاب الوحي لرسول الله –صلى الله عليه وسلم – وقد قرأت كتب الحديث والعقيدة وتتبعت كتب السير والمغازي وفتشت في بطون الكتب فلم أجد أحداً خالف في هذا الأمر . " قال أحمد بن محمد الصائغ وجّهنا رقعة إلى أبي عبدالله ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ولا أقول أنه خال المؤمنين ، فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ونبين أمرهم للناس " رواه الخلال في السنة (2/434) بسند صحيح .
(2) تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/210) .
(3) تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/209) .(/8)
فالاجتهاد في فروع الشريعة والمسائل المختلف فيها وترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه والنظر في مستجدات الحياة والاجتهاد في بيان حكمها أمر واجب على أهل العلم والنظر ، والحاجة داعية إليه .
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم – للحاكم المجتهد أجرين إن أصاب الحق ، وأجراً واحداً إن زلت قدمه عن طريق الصواب والخبر في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .
وهذا اللون من الاجتهاد بقيوده وشروطه الشرعية لا ينازع فيه أهل العلم ، ولهم فيه مصنفات ، ولكن الاجتهاد المذموم المطرح هو زوبعة هؤلاء الجرّاحين في الكلام عن الصحابة والخوض في عدالتهم وفتح المجال للطعن فيهم والحط من قدرهم أو تصنيفهم وتقويمهم كما هو الحال فيمن بعدهم .
وهذه حقيقة الفوضوية والخرق للإجماع الصحيح ، ومثل هؤلاء إذا لم يرتدعوا بالوعد والوعيد والبلاغ المقنع فلا عدول عن تقويمهم بالحديد والحكم عليهم بما يكف شرهم ويبطل كيدهم صيانة لعقائد المسلمين من لوثة الرفض ونزعة الاعتزال والله المستعان .
ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بوأه مكانة رفيعة وأَناله ثقة كبيرة فجعله كاتباً للوحي ، وناهيك بذلك عزا وشرفاً ، ولم يزل في المنقبة العظيمة حتى فارق النبي – صلى الله عليه وسلم – الدنيا .
واستعمله عمر – رضي الله عنه – على ولاية دمشق (1) بعد موت أخيه يزيد(2) ، ولم يتهمه في ولايته ولا طعن أحد من الصحابة في ذلك ، ولما ولي عثمان – رضي الله عنه – أقره على ذلك وزاده بلاداً أخرى فحصل من ذلك خير كثير ففي سنة سبع وعشرين افتتح جزيرة قبرص ( وسكنها المسلمون قريباً من ستين سنة في أيامه ومن بعده ولم تزل الفتوحات والجهاد قائماً على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها ) (3) فصار هذا كالإجماع من علية القوم على فضله وقدرته على سياسة البلاد على أحسن حال ، وهذه حقائق تاريخية ثابتة عند أهل العلم ، ولم يطعن في شيء منها عارف بحقيقة التاريخ ، ومن عميت عليه هذه الحقيقة فسلط قلمه في المخاصمة بها أو طمس حقائقها باحتمالات عقلية وصيحات صحفية فقد وقع في المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، فحقائق التاريخ لا يمكن أن تتغير بمثل هذا الإرجاف في الخصام فإن التاريخ كما أثبت ظلم الحجاج وفسقه وسفه يزيد بن معاوية فقد أثبت إيمان معاوية وعلمه وحلمه وعظيم فتوحاته .
ومن مناقبه أنه لما ملك وهو أفضل ملوك هذه الأمة (4) كان حسن السيرة كبير القدر عظيم العدل وقد تحقق على يده من الخير ونصرة الدين ما لم يتحقق على يدي من جاء بعده ولذلك أحبته رعيته وأثنى عليه المسلمون ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ... ) رواه مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه – وأحق الملوك بهذا الخبر معاوية - رضي الله عنه - ، فإن المسلمين يحبونه ويدعون له ، فلا يطعن فيه أو يتنقصه إلا من رخص عليه دينه .
قال إبراهيم بن ميسرة : ( ما رأيت عمر بن عبدالعزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناًَ شتم معاوية فضربه أسواطاً ) (5).
وقال عبدالله بن أحمد : ( سألت أبي عن رجل سب رجلاً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال أرى أن يضرب ، فقلت : له حد . فلم يقف على الحد إلا أنه قال:يضرب وما أراه على الإسلام )(6).
وقال رحمه الله : ( ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساويه كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم ويكون قلبه لهم سليماً ) (7) .
__________
(1) وذكر خليفة بن خياط في تاريخه (155) أن عمر ولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء ثم جمع الشام كلها لمعاوية ، قال الحافظ الذهبي في السير (3/133) والمحفوظ أن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان ) .
(2) وقيل إنّ يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لما مرض استخلف أخاه معاوية لما يعرفه عنه من الأهلية والكفاءة والقدرة على سياسية البلاد فأمضى ذلك أمير المؤمنين – رضي الله عنه – وحسبك به في معرفة الرجال ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه )) رواه الترمذي ( 3682 ) من طريق خارجة بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . وانظر البداية والنهاية ( 7/95 ) ، ( 8/21 ) للحافظ ابن كثير وفتاوي شيخ الإسلام ( 4/472 ) ، ( 35/64-65 ) .
(3) البداية والنهاية ( 8/ 118 ) للحافظ ابن كثير .
(4) بالإجماع قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى (4/478) .
(5) رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266) .
(6) رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266) .
(7) مناقب أحمد لابن الجوزي (210) .(/9)
وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبدالله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له : رافضي ؟ قال إنه لم يجتري عليهما إلا خبيئة سوء ما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا وله داخلة سوء (1).
وسئل المعافى بن عمران : أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية بن أبي سفيان فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد ، أما معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله - عز وجل - (2) .
وقيل للإمام أحمد هل يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أحد ؟ قال معاذ الله قيل : فمعاوية أفضل من عمر بن عبدالعزيز ؟ قال أي لعمري ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " خير الناس قرني " (3) .
وما جاء من الأخبار في ذم معاوية – رضي الله عنه – كحديث : ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه ) وحديث : ( يا معاوية كيف بك إذا وليت حقباً تتخذ السيئة حسنة والقبيح حسناً يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير أجلك يسير وظلمك عظيم ) وحديث : ( يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي فطلع معاوية ) وحديث : ( إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ) فهذه أخبار مكذوبة لا يشك من له عناية بالحديث أنها من وضع الكذابين ، ولم ترد في دواوين أهل الإسلام المعروفة ولا في مصنفاتهم المشهورة وقد عمدت الروافض إلى وضع أحاديث في ذم معاوية كما أشار إلى بعضها الخلال في العلل (4) وابن الجوزي في كتابه الموضوعات (2/15) وبقيتها منها.
ولم يقف كذب الروافض عند هذا فهم أكذب البرية ، فقد اختلقوا أحاديث في مدح أهل البيت ، وهم غنيون عن مدحهم بالكذب بما صح في السنة من فضلهم ، كما اختلقوا أحاديث في ذم بني أمية لكون بعضهم يسب عليا (5) رضي الله عنه بعد الفتنة ، وقد شاركهم في هذا الذم طوائف ضالة ليس لديها ميزان عدل فأقذعت في السب ورمت بالكلام على عواهنه .
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه (59/210) وانظر السنة للخلال (447) .
(2) رواه ابن عساكر في تاريخه (59/208) .
(3) السنة للخلال (435) .
(4) انظر المنتخب من العلل للخلال (227) لابن قدامة المقدسي، والمنار المنيف (117) لابن القيم .
(5) وفضل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وسبقه للإسلام وقرابته من النبي – صلى الله عليه وسلم – ومصاهرته وعلمه بالدين وأحكامه وسمو مقامه وجهاده وشجاعته وكونه رابع الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة أمر مقطوع به لا يجهله مسلم ولا يكابر فيه أحد من أهل القبلة ، ومن سبه أو طعن فيه فقد افترى قولاً عظيماً واحتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، والخبر المخرج في صحيح مسلم ( 2409 ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : (( استعمل على المدينة من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم علياً . قال : فأبى سهل . فقال : أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب )) فهذه زلة كبيرة يذوب لهو قلب المؤمن فلا يلتفت لذلك والحساب عند رب العالمين .(/10)
ولا وجه لهذا إلا الجهل والهوى والعصبية الجاهلية فإن في بني أمية ثالث الخلفاء عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وصحابة أبرارا خيار قد ماتوا قبل الفتنة كيزيد بن أبي سفيان وأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفيهم غير ذلك مما هو معروف في الأحاديث الصحاح ، ولكنهم لا يفقهون ولا يعقلون فيجعلون من الحسنة سيئة ومن المعصية كفرا ، ويأخذون الرجل بجريرة غيره ، فإذا أخطأ يزيد بن معاوية أو مروان بن الحكم ؛ حكموا بالخطأ والضلال على معاوية وبني أمية الذين ماتوا قبل أن يولد يزيد ومروان فسبحان من أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم فلا يفقهون الحق ولا يعونه ، ولهذه المسألة بحوث مستقلة تراجع لها ، فالمقصود هنا التنبيه على فضل معاوية - رضي الله عنه - والإنكار على من طعن فيه وهو مع هذا غير معصوم عن الخطأ بل يقع منه – كقتاله يوم صفين (1) كما يقع من غيره ، ولم يقل أحد من أهل السنة بعصمته أو عصمة أحد من الصحابة خلافاً للرافضة فإنهم يثبتون العصمة لعلي وأهل البيت وهذا باطل .
ولو أمكنة العصمة لعلي – رضي الله عنه – لأمكنة لمن هو أفضل منه كأبي بكر وعمر وعثمان فإذا امتنعت في حق هؤلاء علم بطلانها في حق علي – رضي الله عنه - .
والحق ما عليه عامة أهل السنة والجماعة وهو مذهب الصحابة والتابعين وأهل الهدى على مر العصور أنه لا عصمة لأحد من الصحابة عن كبائر الإثم وصغائرها بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة .
ولكن لهم من السبق في الإسلام والجهاد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونشر العلم وتبليغه وطمس معالم الشرك وإذلال أهله والذب عن حرمات الدين بنفس زكية وروح عالية - ما يكفر الله به سيئاتهم ويرفع درجاتهم وقد رضي الله عنهم وأرضاهم وما جاء من الآثار المروية في مساويهم فهي على ثلاث مراتب :
أولها : ما هو كذب محض لا يروى ولا يعرف إلا من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي الكذاب (2) أو سيف بن عمر التميمي صاحب كتاب ( الردة والفتوح ) وهو ليس بشيء عند أهل الحديث (3) أو الواقدي المتروك (4)
__________
(1) وقد اتخذت الرافضة وبعض الكتّاب المعاصرين من هذه الواقعة طعنا في معاوية وتعرية له من الفضائل والمكارم واتهاماًله في مقصده ونيته ، وهولوا في هذه القضية وزادوا ونقصوا ولبسوا الحق بالباطل واختلقوا الأكاذيب والحكايات لشينه وذمه والتشفي منه نعوذ بالله من الحقد والجور (( قيل للحسن يا أبا سعيد إن هاهنا قوماً يشتمون أو يلعنون معاوية وابن الزبير فقال : على أولئك الذين يلعنون لعنة الله )) رواه ابن عساكر في تاريخه ( 59/206) وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي فقال : يا أبا زرعة ، أنا أبغض معاوية قال : لم ؟ قال : لأنه قاتل علي بن أبي طالب فقال أبو زرعة : إن رب معاوية رب رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم . فأيش دخولك أنت بينهما – رضي الله عنهم أجمعين ) رواه ابن عساكر في التاريخ ( 59/141) ، وأهل السنة يقولون في هذه القضية إن الأقرب إلى الحق هو علي – رضي الله عنه – وأدلة هذا كثيرة والواقف عليها لا يستريب في ذلك ، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (4/433) (( فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون ، وأن علي بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقاتلة له )) ولا شك أن معاوية – رضي الله عنه – كان مجتهداً متأولاً له ما لأهل الاجتهاد والتأويل كما سيأتي إن شاء الله .
(2) قال عنه ابن معين : ليس بشيء ، وقال ابن عدي في الكامل (6/2110: ) ( وهذا الذي قاله ابن حبان يوافقه عليه الأئمة ، فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته واسمه ، حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين ، ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق ) وقال الذهبي ( 3/419) ( إخباري تالف لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره ) .
(3) قال عنه ابن معين – الكامل لابن عدي (2/1271) : ( فلس خير منه ) وقال أبو داود – تهذيب الكمال ( 12/326) - : ( ليس بشيء ) وقال ابن حبان في كتابه المجروحين ( 1/340) : ( اتهم بالزندقة يروي الموضوعات عن الإثبات) وذكر الإمام الدار قطني في الضعفاء والمتروكين ص ( 104) ، وقال الفسوي – المعرفة والتاريخ (3/58) - ( سيف حديثه وروايته ليست بشيء ) .
(4) وهو خير من أبي مخنف ، وسيف على ضعفه الشديد ، قال عنه يحيى بن معين – التارخ (2/532) - : ( ليس بشيء ) وقال على بن المديني – تهذيب الكمال ( 26/187) ( الهيثم ابن عدي أوثق عندي من الواقدي ولا أرضاه في الحديث ولا في الأنساب ولا في شيء ) ، وقد تركه الإمام البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والحاكم وانظر في ذلك ميزان الاعتدال ( 3/622) وتهذيب الكمال ( 26/180-194) والمجروحين لابن حبان ( 2/290) .(/11)
أو غيرهم ممن لا يعتمد عليهم ولا على مروياتهم وهم عمدة خصوم الصحابة - رضي الله عنهم - في نقل المساوي والمثالب والوقائع الملفقة وما كان أهل الحديث ونقاده وجهابذة الجرح والتعديل يعتمدون على واحد منهم لعدم ضبطهم وكثرة كذبهم .
ثانيها : ما صح سنده ، وله محمل حسن ، فيجب حمله عليه إحساناً للظن بهم ، فهم أحق الناس بهذا وأولاهم بحمل ألفاظهم وأفعالهم على أحسن مقصد وأنبل عمل ، ومن أبت نفسه الخير، وحرمت سلامة القصد ووثب على مقاصد وألفاظ أئمة الدين ، وجعل من المحتمل زلة ، ومن الظن جرحاً ؛ فقد عظم ظلمه وغلب جهله وناله من الحرمان ما نال أمثاله من مرضى القلوب .
ثالثها : ما صدر عن محض الاجتهاد والشبهة والتأويل ، كالوقائع التي كانت بينهم ، وغيرها من الأمور القولية والفعلية ، فهذه أمور واردة عن اجتهاد وتأويل ، فللمصيب فيها أجران وللمخطي أجر واحد ، والخطأ مغفور ، لما روى البخاري (7352 ) ومسلم (1716) من طريق يزيد بن عبدالله عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) .
فمن أفتى أو حكم أو قضى أو قال بخلاف الحق لشبهة قامت عنده أو سنة لم تبلغه أو تأويل له وجهه فإنه يثاب على هذا الاجتهاد والخطأ مغفور ، كما دل عليه هذا الخبر وكما قال تعالى في دعاء المؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ( سورة البقرة (286) ) وفي صحيح مسلم ( 2/146 نووي ) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً : (( أن الله تبارك وتعالى قال : ( قد فعلت )) .
وهذا الأصل مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن شابههم فلم يعذروا هذا الصنف من المجتهدين المتأولين وألحقوا بهم أدلة الوعيد وجعلوهم من المذمومين الضالين .
وهذا من فساد القلوب والجور في الحكم . فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن المجتهد المخطيء مرفوع عنه الإثم سواء تقدم عهده أم تأخر . ومن طعن فيه بالهوى وألحق به أدلة الوعيد على التعيين ورماه بالضلالة والبدعة فقد قال مالا علم له به وشابه في ذلك الخوارج المارقين ولحقه من الذم ما لحق أشباهه من المعتدين .
وأصل البلاء في هذا الباب ناتج عن سببين :
الأول : عدم التفريق بين القول بموجب نصوص الوعيد من الكتاب والسنة من حيث العموم والإطلاق وبين لحوق الوعيد ولزومه على الأشخاص على التعيين ، وقد نتج عن هذا القول الباطل فساد في المنهج وظلم للعباد واعتبر هذا بحال فئة من أبناء هذا العصر من تبديع بعضهم بعضاً وطعنهم في اجتهادات إخوانهم ورميهم الدعاة إلى الله بالضلال والخروج عن مذهب أهل السنة .
الثاني : الحسد والهوى اللذان يصدان العبد عن طريق الهدى واتباع الحق .
وطريق الخلاص منهما بأمرين عظيمين :
أولاً : العلم بأسماء الله وصفاته وأحكام الحلال والحرام وما يأتي المرء وما يذر ، فإن هذا يمنع من الجهل على العباد وظلمهم ، ويدعو إلى العدل في القول والعمل .
ثانياً : الإخلاص لله تعالى فهو أصل كل خير والباعث عليه ، وليس لحظوظ النفس وشهواتها دواء أنفع منه ، قال تعالى عن نبيه الكريم يوسف الصديق ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) ) ( سورة يوسف) .
قرأ نافع وأهل الكوفة ( المخلَصين ) بفتح اللام ، أي المختارين المصطفين ، وقرأ آخرون بكسرها ، فدلت على أن الإخلاص وقاية للعبد من الولوغ في الفواحش والبليات نسأل الله السلامة من ذلك .
فصل(/12)
إن ظاهرة احتراف الطعن في الآخرين بلية عظيمة وسجية قبيحة وعواقبها سيئة ومراميها خطيرة ولا سيما إذا كانت في أنصار الدين حزب الرحمن الموحدين فإن أبعادها قواصم التاريخ والدين ، ولهذا فإن محترفي الطعن لم يكتفوا بثلب معاوية وتتبع السقطات من هنا وهناك بل تجاوزوا ذلك إلى أعداد من الصحابة ونالهم نصيب من عدوانهم من القذف بالباطل والرمي بالنفاق أو التجبر والمحاباة والانحراف عن عدل الإسلام أو القتال للسياسة والعصبية وحماية قبائل العرب وغير ذلك من مفتريات المزورين للحقائق الثابته والمعالم الصحيحة ، وقد أصاب ابن عمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وابن حواريه من عواهن كلامهم وسقطه ما يبرأ منه كل مؤمن ويقطع ببطلانه كل منصف وقد اتفق الأكابر من أهل العلم على أن ابن الزبير أحد الصحابة الأبطال الذين جاهدوا في سبيل الله حق جهاده وأبلى في الإسلام بلاء حسنا وهانت عليه نفسه في سبيل الله وخاض المعارك والحروب ضد أعداء الدين وعبيد الشهوات واشترك في معظم الفتوحات الإسلامية من بلوغه الرابعة عشرة من عمره وكان صاحب علم ورواية وتأله وعبادة وقيام على أهل الباطل وجهاد للعدو ، وقد كان الصحابة - ولا سيما خالته أم المؤمنين عائشة - يحبونه ويعرفون له قدره وفضله ، وأما قيامه بالإمارة وقتاله على ذلك فالظن فيه وفي أمثاله من أهل الخير والصلاح أنه لله رب العالمين لإعلاء كلمته ونصر دينه ورفع راية التوحيد ودفع الظلم عن المظلومين واستخلاص حقوقهم ونشر الخير بين الرعية وإقامة الجهاد .
والخبر الوارد في المسند (1/64) من طريق يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى عن عثمان – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله عليه مثل نصف أوزار الناس ) فيه نظر وليس فيه ما يدل على أنه عبدالله بن الزبير .
قال الحافظ الذهبي – في السير (3/375) ( في إسناده مقال ) ، وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله - في البداية ( 8/339) - : هذا الحديث منكر جداً وفي إسناده ضعف ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع ومثل هذا لا يقبل تفرده به وبتقدير صحته فليس هو عبدالله بن الزبير فإنه كان على صفات حميدة وقيامه في الإمارة إنما كان لله عز وجل ، ثم هو كان الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر والله أعلم ) .
وهذا الكلام وجيه والخبر معلوم ولكن لا يصح تضعيفه بتشيع القمي (1) فلا يزال الأئمة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم يخرجون لأهل البدع ممن لا تخرجه بدعته عن الإسلام سواء كان داعية أم لا وسواء روى ما يؤيد بدعته أم لا (2)
__________
(1) وحقيقة التشيع عند أهل الحديث تخالف حقيقته عند المتأخرين فالغالب على تشيع المتأخرين الرفض وتكفير الصحابة والبراءة من أمهات المؤمنين ونحو ذلك من عظائم دينهم ومثل هذا الضرب لم يكن أهل الحديث يروون عند أحد منهم لكثرة كذبهم وعدم أمانتهم ، وتشيع القمي ومثله أبان بن تغلب وعبيدالله بن موسى وجمهرة كثيرة أحاديثهم في دواوين أهل العلم هو التشيع بلا غلو ولا طعن في الشيخين ولا تكفير للصحابة وقذف لعائشة رضي الله عنها وانظر في ذلك ميزان الاعتدال (1/5) .
(2) وتعديل الأئمة لرواية المبتدع الصدوق دليل على عظيم عدلهم وإنصافهم ، فهم يطعنون في رأي المبتدع ويحذرون منه فإذا جاءت روايته وكان متصفاً بالصدق والضبط لم يمنعهم مانع من قبول روايته وتدوينها في كتبهم والاحتجاج بها في مصنفاتهم وهذا من تمام العدل والقسط والقيام بالحق ، ومن نازع من الأئمة في قبول رواية المبتدع الذي لا تخرجه بدعته عن الإسلام ففي نزاعه نظر ، فإنه لا يخلو كتاب حديثي من التخريج لهذا النوع ، واعتبر ذلك في مسند أحمد والأمهات الست ومصنفي عبدالرزاق وابن أبي شيبة وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان والمعاجم الثلاثة للطبراني وغيرها ، وقد ذكر الإمام ابن حبان رحمه الله في مقدمة صحيحه ( أنه يقبل رواية المبتدع الثقة ما لم يكن داعية إلى ما ينتحل ) وفي هذا نظر وقد جاء في صحيحه ما يخالف هذا .
فقد روى لأبي معاوية محمد بن خازم الضرير أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أبو زرعة تاريخ بغداد (9/299) وغيره ، وروى لشبابة بن سوار أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أحمد بن حنبل ( ميزان الاعتدال (2/260) ، وقيل رجع شبابة عن رأيه . قاله أبو زرعة ( تاريخ بغداد (9/299) وفي الجعبة غير ذلك من دعاة أهل البدع المخرج لهم في صحيح ابن حبان وغيره من دواوين أهل الإسلام المشهورة فلا أطيل بذكر ذلك ، فالأمثلة تستغرق صفحات ، والموضوع من الوضوح مالا يحتاج معه إلى كثير تمثيل والله الموفق .(/13)
فالعبرة بحفظ الراوي وضبطه ، فإذا كان حافظاً ثقة عدلا صح حديثه (1) ويعقوب هذا قد وثقه غير واحد ، وقال عنه الإمام النسائي : ليس به بأس . وقد تقدم أنه لا يصح تفسير الخبر بعبدالله بن الزبير فإنه بهت وقول على الله بلا علم ، فأمر عبدالله بن الزبير من العلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والصدع بالحق وكثرة العبادة من صلاة وصوم أمر يستحيل معه أن يكون هو الملحد في مكة وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - في وقته يثنون عليه ويعرفون له حقه .وقد جاء في البخاري (8/326- الفتح ) عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنه – أنه قال - مثنياً عليه - : ( أما أبوه فحواري النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن ) فالحقائق ظاهرة والدلائل قائمة على فضله وجلالة قدره وسلامة دينه فلا تصغ لمن تعرض لمقت الله وسخطه ولج في الباطل وتقحم طرق الضلال وبسط لسانه في خيار الأمة وفضلاء الرجال فالصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتن ومن لم يلابسها لما لهم من المآثر العظيمة والفضائل الجليلة من نصر الدين وإغاظة الكفار والمجرمين وبذل الأموال والنفوس لحماية رسول الله –صلى الله عليه وسلم – والذب عنه وفتح البلاد شرقاً وغرباً وتبليغهم العلم في فجاج الأرض وأقطارها وإعلاء كلمة الإخلاص وتحقيق العمل بها باطناً وظاهراً وهذا كله بالاتفاق (2) لدلالات الكتاب والسنة فمن تزبع بعد هذا وزعم أنه مباح له الكلام في ابن الزبير وغيره من نخبة الرجال وحملة الدين فقد آذى نفسه وظلم غيره { وما للظالمين من أنصار } .
قيل لأبي عبدالله أحمد بن حنبل – رحمه الله – ( ما تقول فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوي أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال أبو عبدالله : هذا كلام سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ويبين أمرهم للناس ) رواه الخلال في السنة ( ص512) بسند صحيح .
وكلام الأئمة في ذم هذا الصنف وهجرهم والتحذير من مسالكهم كثير وتراه مبسوطاً في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي والشرح والإبانة لابن بطة والسنة للخلال وغيرها .
ولا أحسب أحداً ينقب عن عثرات الصحابة ويبحث لهم عن الزلات المبنية على الشبه الواهية إلا وقد رخص عليه دينه .
وقد قال الإمام أحمد – رحمه الله - : ( إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء فاتهمه على الإسلام ) (3) .
وكان المفترض ممن يدعي الإسلام والسنة محبة الصحابة ونصرتهم والذب عنهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم والكف عن مساويهم والرد على أعدائهم من الروافض وأمثالهم من أعداء الملة وأتباع الشيطان .
أما غض الطرف عن مجرمي هذا الزمان ومن قبل من روافض وشيوعيين وقوميين وعلمانيين والقفز إلى أئمة الإسلام كأبي هريرة ومعاوية وابن الزبير رضي الله عنهم ، وفريهم وتصيد عثراتهم واتهام مقاصدهم وإساءة الظن بهم وطمس محاسنهم بمجرد شبه واهية ومقامات محتملة فهذا ظلم مبين وهتك لأعراضهم ونزع للثقة بهم وبمروياتهم ، وتجرئة على تناول غيرهم على نسق أسلافهم ( لهم ما للناس وعليهم ما على الناس ) ) فيا ويلهم يوم تبلى السرائر ويقوم الناس لرب العالمين ، فإن هذا المشرب وهذا التجريح في أنصار الدين وحزب الرحمن الموحدين لغاية في القبح وفساد في الرأي ورقة في الدين فإن من تحركت نفسه للطعن في واحد من الصحابة الأخيار فليس بغريب منه أن يحركه جهله في ثلب آخرين وآخرين فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير .
وإنني – مع كثرة ما قرأت في السنة والحديث والتاريخ وغيرها – لم أعهد أحداً من أهل السنة المناوئين لأعدائها احترف ظاهرة التجريح لأحد من الصحابة لا معاوية ولا عبدالله بن الزبير ولا غيرهما ، وإنما جاء في كتب الروافض الطعن في معاوية - رضي الله عنه - واختلاق الأحاديث والحكايات في ذمه وشتمه .
وهذا غير غريب من الروافض المخذولين فهم همج الورى و أكذب الطوائف الضالة وأجهلهم بعلم المنقولات والمناظرة في المعقولات ، وليس على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – طائفة أضر منهم فقد جمعوا مستنقعات الضلال ومراتع الإلحاد ونتن الأمم السابقة فهم أشبه وألصق الطوائف الضالة باليهود .
ومن نظر في كتبهم استقل ما نقل عن بعض السلف من كونهم أكذب الناس وأجهلهم .
__________
(1) ما لم يطرأ على حديثه علة من تفرد عمن هو أوثق منه أو غير ذلك .
(2) انظر هذا الاتفاق في الكفاية للخطيب البغدادي والاستيعاب لابن عبدالبر وشرح النووي على مسلم والتقريب مع تدريب الراوي وغيرها .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/1252) للالكائي رحمه الله ، وتاريخ ابن عساكر (59/209) .(/14)
فقد جاءت في كتبهم التي يدينون الله بها ، ويعتقدونها ما فيها ويناضلون عنها ، شآبيب من العقائد الفاسدة والأكاذيب الباطلة المخالفة للمنقول والمعقول .
إلا أنهم لمكرهم وخداعهم لا يظهرون كثيراً من اعتقاداتهم لكل أحد ، إنما هو لأتباعهم ومن هو على دينهم ، وحين يخالطون أهل السنة ويناظرونهم يلجؤون معهم إلى التقية (1) . أوباصطلاح آخر ( الغاية تبرر الوسيلة ) وهذه عقيدة عندهم يأثم تاركها بل جعلوا تركها بمنزلة ترك الصلاة .
كما قال – الملقب برئيس المحدثين عندهم – ابن بابويه القمي : ( التقية واجبة من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة ) .
وقال آخر : ( الاعتقاد بالتقية والمتعة اعتقاد بالقرآن والإنكار لهما إنكار للقرآن وكفر به ) .
واختلقوا كذباًَ وزوراً على جعفر بن محمد أنه قال : ( إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له ) (2) . ولهم في التقية أقوال غير هذه فقد فسروا بعض الآيات بذلك ، ولولا خشية الإطالة لذكرت طرفاً من ذلك ؛ لكنني آثرت هنا الاختصار لأن القصد بيان حقيقة دينهم ليكون المسلم بصيراً بهم عالماً بعقيدتهم . وها أنا أنقل من كتبهم بعض عقائدهم فإن هذا أعظم زاجر وأبلغ شاهد ؛ لأن الخطر الأكبر والداء الأعظم أن يسمع بعض الناس من زخرف كلامهم وحفاوتهم مالا يعرف عن أفعالهم وعقيدتهم ، فينطوي عليه أمرهم أو يغتر بما يقولونه بألسنتهم دون قلوبهم ، فقد تقدم أن التقية عندهم تسعة أعشار الدين فاسمع من كتبهم ما يكشف لك حقيقتهم .
* يقول محمد الشيرازي – في مقالة الشيعة ( ص 8 ) : ( ونعتقد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – والأئمة الطاهرين أحياء عند ربهم يرزقون ، ولذا فإننا نزور قبورهم ونتبرك بآثارهم ونُقبّل أضرحتهم كما نقبل الحجر الأسود وكما نقبل جلد القرآن الكريم ) .
* وقال الرافضي محمد الرضوي : ( أما طلب الشيعة من أصحاب القبور أموراً لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، فليس هو إلا جعلهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء إليه في نجاحها امتثالاً لأمره تعالى ... )
أقول كذبتم – لعمر الله - فلم يأمر الله بهذا ، أتقولون على الله مالا تعلمون ؟! فالواسطة على هذا الوجه من اتخاذ شفعاء ووسائط يدعوهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار كفر باتفاق المسلمين وهذا شرك المشركين المذكور في القرآن قال تعالى : { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} (سورة الإسراء ) .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }( سورة الزمر ). وقال : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلإَِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} ( سورة يونس ) . وقال تعالى :{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} ( سورة فاطر ) .
والقرآن كله من فاتحته إلى ختمته يقرر هذا الأصل ويبين أن من دعا غير الله أو غلا في نبي من الأنبياء أو برجل من الأولياء فجعل فيه شيئاً من الإلهية أو استغاث بالأموات وتوكل عليهم وأنزل بهم فاقته وحاجته أو طاف على قبورهم وسألهم غفران الذنوب وتفريج الكروب ؛ أنه مشرك بالله ومستحق للخلود في الجحيم .
قال تعالى :{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)} ( سورة المائدة ) .
__________
(1) وهي أن يظهر عند مخالفيه خلاف ما يبطن ليتوصل للأغراض الفاسدة والتعمية لأمره .
(2) وهذا كذب على الله وعلى رسوله –صلى الله عليه وسلم – فليست التقية على ما اصطلحوا عليه من الدين بل هي نفاق محض ، وانظر – إن كنت ذا علم – أقوالهم في التقية في المراجع الآتية : الأصول من الكافي (2/217-226) والاعتقادات (114-115) لابن بابويه و المحاسن (259) ، وكذبوا على الشيعة (373) .(/15)
وقال تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}( سورة الحج ) .
والمشرك بالله أجهل الخلق وأخبثهم ؛ حيث شبه المخلوق بالخالق ، والخالق بالمخلوق ، وجعل العابد معبوداً ، والعاجز غنياً قادراً ، والباطل حقاً ، والحق باطلاً ، وهذا غاية الجهل بالله والظلم للنفس .
وقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الذنب أعظم عند الله قال : ( أن تجعل لله ، ندا وهو خلقك ) رواه البخاري (4477) ومسلم (86) من طريق جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - .
والندُّ هو الشبيه والمثيل قال تعالى :{ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}( سورة البقرة ) .
* وقد قالوا – في زيارة قبر علي –رضي الله عنه – : ( انكب على القبر ، فقبله وقل أشهد أنك تسمع كلامي وتشهد مقامي ، وأشهد لك يا ولي الله بالبلاغ والأداء يا مولاي يا حجة الله يا أمين الله يا ولي الله إن بيني وبين الله ذنوباً قد أثقلت ظهري ، فبحق من أئتمنك على سره واسترعاك أمر خلقه وقرن طاعتك بطاعته وموالاتك بموالاته كن لي شفيعاً ، ومن النار مجيراً وعلى الدهر ظهيراً ، ثم انكب على القبر فقبله أيضاً) (1) .
ومثل هذا الشرك في القبور كثير في كتبهم ورسائلهم ، فهم يعظمون القبور ويطوفون حولها ويصلون إليها ، ولو لغير القبلة ، ولها ينذرون وينحرون القرابين ، وقد جعل بعض شيوخهم قبور المخلوقين مكاناً للطائفين ، وصنفوا لها مناسك كمناسك الحج إلى بيت الله العتيق ، وهم أول من بنىعليها المساجد (2) مشابهة لليهود والنصارى ، وغلواً في أئمتهم وقد حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من فعل هذا ولعن فاعله ،فروى البخاري ( 435) ومسلم (531) من طريق الزهري أخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عائشة وعبدالله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه سلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا .
وقال – صلى الله عليه وسلم – " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " رواه مسلم (532) من طريق زيد بن أبي أُنيسة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث النجراني عن جندب –رضي الله عنه - .
والأدلة متواترة في تحريم البناء على القبور ، ودلت السنة الصحيحة على وجوب هدم هذه الأبنية وإزالتها ، وهي بالهدم أولى من مسجد الضرار وبناء الغاصب ، ونحو ذلك قال أبو الهياج الأسدي قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته . ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " رواه مسلم (989) في صحيحه تحت ( باب الأمر بتسوية القبر ) .
* وقال الرافضي نعمة الله الجزائري : ( إنا لم نجتمع معهم – أي أهل السنة – على الله ولا على نبي ولا على إمام وذلك أنهم يقولون : ( إن ربهم هو الذي كان محمداً نبيه وخليفته بعده أبو بكر ، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي ، إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا ) (3) .
وقالت الروافض – عن القرآن - : بأنه محرف ومبدل ، وأنه قد زيد فيه ونقص ، قال نعمة الله الجزائري الرافضي : ( إن الأصحاب – يعني بذلك أهل الرفض – قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بتصريحها على وقوع التحريف في القرآن ) .(4)
وقدكتب أحد علمائهم كتاباً أسماه ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) ، وهذا القول بالتحريف والتبديل في القرآن قول لجماعة منهم (5) وبعضهم ينكر هذا وينفر منه وأكثر عوامهم لا يعرفون عن هذا شيئاً .
__________
(1) ضياء الصالحين للجوهرجي ) هكذا اسم هذا الكتاب ، وهو خليق أن يسمى عقيدة القبوريين .
(2) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (1/62) .
(3) الأنوار النعمانية (1/278 ) .
(4) الأنوار النعمانية (2/357 ) .
(5) انظر كتاب الشيعة والتصحيح ، مبحث تحريف القرآن ص (183-189) .(/16)
وقد جاء في أقاويل رجال الدين عند النصارى ما يفيد شهرة هذا القول عن الرافضة ، فحين أثبت الإمام ابن حزم – رحمه الله – ما في كتب النصارى من التحريف والتبديل ، اعترضوا عليه بقول الروافض عن القرآن بأنه مبدل وقد زيد فيه ونقص ، وكان جوابه – رحمه الله – موفقاً حيث قال لهم : ( وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن ، فإن الروافض ليسوا من المسلمين إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس وعشرين سنة وكان مبدؤها إجابة ممن خذله الله تعالى لدعوة من كاد الإسلام ، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ) (1) .
وقال – بعد حجج ظاهرة وبراهين قاطعة على دحض قول الرافضة من امتداد أيدي التحريف على القرآن الكريم – : ( ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الذي هو عند أكثرهم إله خالق ، وعند بعضهم نبي ناطق ، وعند سائرهم إمام معصوم مفترضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً للدنيا ، حاشا الشام ومصر والفرات ، والقرآن يُقرأ في المساجد وفي كل مكان وهو يؤم الناس به ، والمصاحف معه وبين يديه ، فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك ؟!
ثم ولي ابنه الحسن – رضي الله عنه – وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك ، كيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا : إن في المصحف حرفاً زائداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ؟! ) .(2)
وأما القول في أئمتهم فأعظم القول وأشنعه ، وهو تجهيل للعقول وخروج عن الدين بإجماع المسلمين ، فقد قالوا عن جعفر بن محمد : أنه قال : ( إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون ) (3) .
وذكروا عن الصادق أنه قال : ( والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين ، فقال له : ويحك إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء ) (4) .
وجاء في كتابهم الكافي أن الأئمة ( يعني أئمة الرافضى ) يعلمون ما كان وما يكون وأنهم لا يخفى عليهم شيء ، ومثل هذا الإفك العظيم والقول الأثيم تستغرب اعتقاده والنطق به ، لولا قلوب غلف ران عليها كسب الكفر ، وعقول حساكل تكابر في المحسوسات ، وتعارض المعقولات ، وتكذب بالمنقولات ، فلو قيل في أفضل الأنبياء والمرسلين وأعظم الملائكة المقربين بأنه يعلم الغيب المطلق ويعلم ما في السماوات والأرض وما كان ، وما يكون ولا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء لكان كفراً بإجماع المسلمين ، فقد اختص الله - جل وعلا - بعلم الغيب فلا ينازعه فيه إلا مشرك قال تعالى :{ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) }( سورة النمل ) ، وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} ( سورة الأعراف ) . وقال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } ( سورة لقمان ) .
وفي صحيح البخاري (1039) من طريق سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم أحد ما يكون في غدٍ ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر " .
وأما عقيدتهم في الصحابة فشر العقائد وأخبثها فلا تقرأ كتاباً من كتبهم إلا وتجد أبواباً مخصصة للعن الصحابة وسبهم وتكفيرهم إلا قليلا منهم .
قال الرضوي الرافضي : ( إن مما لا يختلف فيه اثنان ممن هم على وجه الأرض أن الثلاثة الذين هم في طليعة الصحابة – يعني أبا بكر وعمر وعثمان – كانوا عبدة أوثان ) (5) .
وقال عن أبي بكر رضي الله عنه : ( كان (6) يصلي خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصنم معلق في عنقه يسجد له ) .
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/213) .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/216-217) .
(3) الأصول من الكافي ( 1/261) ، واعلم أن هذا لا يصح عن جعفر ، ولكن الروافض لا يطيب لهم الكلام إلا بالكذب .
(4) بحار الأنوار (26/27) بواسطة بذل المجهود (2/456) .
(5) كذبوا على الشيعة لمحمد الرضوي ص (223) .
(6) الأنوار النعمانية للجزائري (1/53) .(/17)
وقالوا عن عمر رضي الله عنه : ( إن كفره مساو لكفر إبليس إن لم يكن أشد (1) ، وقال نعمة الله الجزائري الرافضي : ( كان عثمان في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم - ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق ) .
ومثل هذه الألفاظ التي هم أحق بها وأهلها دارجة على ألسنتهم ، ولا تخلو من مثلها ونظائرها مصنفهاتهم فقد اعتادوا الكذب في الأخبار وتلفيق الروايات في سب الصحابة الأبرار ، والقدح في عدالتهم وقذفهم بالموبقات ، ورميهم بالمكفرات ، ولا سيما الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ، فقد جعلوهم عبدة أوثان وأهل كفر ونفاق .
وقد تواترت الأخبار الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحت الآثار عن أهل البيت بأن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -خير الناس بعد نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وأفضل الصحابة وأقومهم بأمر الله وأطوعهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد روى البخاري (3662) ومسلم (2384) من طريق خالد الحذاء حدثنا أبو عثمان قال حدثني عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي –صلى الله عليه وسلم – بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة فقلت من الرجال ؟ فقال أبوها . قلت ثم من ؟ قال : ثم عمر بن الخطاب فعد رجالاً ) وأجمع أهل السنة على تفضيل عثمان – رضي الله عنه – بعدهما للاتفاق على تقديمه في الخلافة ، ولقول عبدالله ابن عمر - رضي الله عنهما - : " كنا نخير بين الناس في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان –رضي الله عنهم – " رواه البخاري في صحيحه (3655) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر . ورواه(3697) من طريق عبيدالله عن نافع بلفظ " كنا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – لا نفاضل بينهم "
وروى البخاري في صحيحه (3671) من طريق جامع بن أبي راشد حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي : أي الناس خيربعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال أبوبكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر . وخشيت أن يقول عثمان ، قلت ثم أنت . قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين " .
وهذا النقل عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - متواتر ، وانظر طرق ذلك في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد ص (300) إلى ص (313) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (7/34) قد سبق بيان الاختلاف في أي الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر : عثمان أو علي وأن الإجماع انعقد بآخره بين أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين " .
وقد جاء في الصحيحين(2) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبشر أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة .
وروى البخاري في صحيحه (3675) من طريق سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم . فقال " اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان " .
وهذه الأحاديث الصحيحة في فضائل الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان غيض من فيض ،فالطعن فيهم بعد هذا ، نفاق محض ، ودعوى ردتهم وعبادتهم للأصنام كفر أكبر لا ينازع فيه مسلم ، فقد دل الكتاب والسنة المتواترة وإجماع المسلمين على خلاف قول الروافض قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} ( سورة التوبة ) .
وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} ( سورة الحديد ) .
فمن آمن بالقرآن ؛ آمن بفضل الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وحفظ لهم سابقتهم وجهادهم وقيامهم بالحق والعدل به ، وتبرأ من كل قول يناقض ذلك ، ويدعو إلى السطو على حقائق تاريخهم ، أو الحط من قدرهم والقدح في عدالتهم .
__________
(1) تفسير العياشي (2/223-224) .
(2) البخاري ( 3674 ) ، ومسلم ( 2403 ) .(/18)
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبدالله بن صالح حدثني خالد بن حميد عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي يوماً : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما كان من رأيهم ، وإنما أريد الفتن فقال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأوجب الله لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم .قلت : في أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه ؟ فقال : سبحان الله ! تقرأ قوله : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } ( سورة التوبة ) .
فأوجب الله لجميع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه عليهم ، قلت : وما اشترط عليهم ، قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، يقول : بأعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك ، قال أبو صخر : فوالله لكأني لم أقرأها قط وما عرفت لتفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب) (1) .
والرافضة يحملون لأهل السنة كل كيد ، وبغض ويزعمون ردتهم ، وأنهم من أصحاب السعير ، وهذا من أعظم أنواع الردة عن الدين وأقبح الكفر .
وقد انتزع الإمام مالك – رحمه الله – كفر الروافض من قوله تعالى :{ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } ( سورة الفتح ( آية 29)) . وهذا مما لا شك فيه كما نص عليه أئمة الإسلام ، فقد اتفقوا على أن من كان في قلبه غيض على الصحابة ، وزعم ردتهم ، أو فسقهم ، أو خيانتهم في تبليغ الدين أنه كافر .
قال بشر بن الحارث : من شتم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين (2) ) وقال الأوزاعي : ( من شتم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه – فقد ارتد عن دينه وأباح دمه (3) ) .
وقال المروزي : سالت أبا عبدالله – يعني الإمام أحمد - : عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة –رضي الله عنهم – فقال : ما أراه على الإسلام (4) .
وقال أبو طالب للإمام أحمد : الرجل يشتم عثمان ؟ فأخبروني أن رجلاً تكلم فيه فقال هذه زندقة " رواه الخلال (3/493) بسند صحيح .
والشتم أو السب نوعان :
أحدهما : أن لا يكون في عدالتهم أو دينهم فهذا لا يكفر ، ولكنه ضال. ويجب تعزيره وتأديبه ، وذلك أن يقول هذا بخيل أو هذا جبان ونحو ذلك مما يوهم التنقص لقدرهم والتقليل من شأنهم .
الثاني : أن يكون الطعن في دينهم أو عدالتهم أو يتجاوز ذلك ، فيزعم ردتهم أو فسقهم فهذا مرتد ، وقد تقدم قبل قليل . وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - من ( زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره ، فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم ، بل من يشك في كفر مثل هذا ؛ فإن كفره متعين ، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وخيرها هو القرن الأول ، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً , ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها ، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة ، إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات ) .(5)
وقال السرخسي – في أصوله ( 2/134) : ( فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب ).
وقد فعل ذلك المؤمنون في سنة ست وستين وسبع مائة كما في البداية والنهاية ( 13/310) للحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال : ( وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي ، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنهما ، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال المسلاتي ، فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب ، فأول ضربة قال : لا إله إلا الله ، علي ولي الله ، ولما ضربه الثانية ، لعن أبا بكر وعمر ، فالتهمه العامة وأوسعوه ضرباً مبرحاً فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك ، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال : كانوا على الضلال ، فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة ، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه ، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله) .
__________
(1) تاريخ دمشق (55/146-147) .
(2) الشرح والإبانة للإمام ابن بطة ص (162) .
(3) المرجع السابق ص (161) .
(4) المرجع السابق ص (161) .
(5) الصارم المسلول (3/1110-1111) .(/19)
ثم اعلم أن ما ذكر هنا عن الروافض غيض من فيض فلم أقصد الإطالة فضلاً عن الاستيعاب في بيان عقائدهم في الأولياء والصالحين وسائر الأموات من الطواغيت وغيرهم فقد زادوا على شرك مشركي العرب زمن بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد مر بك وسمعت كيف كان غلوهم في أئمتهم وصرف خالص حق الله لهم .
فكن منهم على حذر فقد كان أئمة المسلمين يحذرون منهم وينهون عن مجالستهم ومخالطتهم والركون إليهم والاستعانة بهم وتوليتهم شيئاً من أعمال المسلمين (1).
فهم خونه ليس لهم دين ولا ذمة ولا إمام ولا بيعة ولا يشهدون جمعة ولا جماعة ، وقد كانوا سبباً في سقوط الدولة الإسلامية في بغداد ، يتولون المشركين وأهل الكتاب ويعاونونهم على المسلمين حتى صارت بلاد المسلمين مجازرلهؤلاء الملاعين ،يخربون ويفسدون وينتهكون الأعراض وينهبون الأموال ، وقد ذكر أهل العلم والمؤرخون أموراً من ذلك يطول ذكرها ووصفها ، فلها تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون! .
وقد جاء في المنهاج (6/374) (2) لشيخ الإسلام – رحمه الله – حديث عن ظلم الرافضة وجورهم ومعاونتهم لأعداء الله ومعاداتهم لحزب الرحمن قال : الرافضة يعاونون الكفار وينصرونهم على المسلمين كما شاهده الناس ، لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وست مائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم ، كانوا من أعظم الناس أنصاراً وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين .
وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة – ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق ، وقتل الخليفة ، وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها .
وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكيز خان ، وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها ، إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ، ويكرهون فتح مدائنهم ، كما كرهوا فتح عكا وغيرها ، ويختارون إدالتهم على المسلمين ، حتى أنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان ، سنة تسع وتسعين وخمس مائة ، وخلت الشام من جيش المسلمين ، عاثوا في البلاد ، وسعوا في أنواع من الفساد ،من القتل وأخذ الأموال ، وحمل راية الصليب ، وتفضيل النصارى على المسلمين ، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى ، أهل الحرب بقبرص وغيرها ) .
وهذا قليل من كثير من خيانة الروافض للمسلمين ، وإعانة الكفار عليهم ، ولو أخذت أتتبع ما ذكره أهل العلم من تاريخهم الأسود ، لطال المقام ، وما جاء في كلام الشيخ – رحمه الله – من خيانة الوزير ابن العلقمي ، فهذا له أشباه ونظائر في الماضي والحاضر ، فإن الخميني لما تولى ، أهلك الحرث والنسل وجنى على الدين مالا يمكن وصفه هاهنا ، والوزير ابن العلقمي لما استمكن من الخليفة المعتصم العباسي ، تآمر مع التتار على نهب ديار المسلمين ، وقتل علمائهم وخيارهم فتم أمر الله : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} ( سورة الأحزاب ) .
__________
(1) ولا يعني هذا التخلي عن مناظرتهم ودعوتهم وزعزعة دينهم وكشف التناقضات الموجودة فيه ،فإن هذا القول - وإن قاله من قاله - خلاف الكتاب والسنة والنظر الصحيح ،فإن الله أمر بدعوة المشركين وعباد القبور والأوثان وأهل الكتابين وأذن بمناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، وأمر الله - جل وعلا - نبيه وكليمه موسى بأن يذهب هو وأخوه هارون - عليهما السلام - إلى فرعون أكفر أهل الأرض القائل أنا ربكم الأعلى فيدعواه إلى التوحيد والإيمان بالله ، فلا نتحجّر رحمة الله تعالى وهدايته لعباده مهما بلغ كفرهم وإعراضهم ، ومهما تنوعت مسالكهم وتوجهاتهم فإن الحق يفرض نفسه ، ويعلو ولا يُعلى ، وقد أحسن من قال .
اين وجه قول الحق في صدر سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق .
ثم إن ترك هؤلاء وشأنهم يقتضي تزايدهم وتفاقم أمرهم وإحداث الأضرار بالدين والدنيا . وهذا ما تجنيه نظرية التخلي عنهم مطلقاً ؛ لأنه لا يوجد من يكمم أفواههم ويأخذ على أيديهم فلم يبق إلا سبيل المناصحة والمناظرة وكشف شبههم ونصر الحق بقدر الإمكان والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
غير أن الداعي إلى الله والمناظر يجب عليه أمران أساسيان :
أولاً : العلم بدين المسلمين وعقيدة أهل السنة والجماعة لئلا يلبسوا عليه ويوقعوه في الهلكة .
ثانياً : العلم بدينهم وأحوالهم عن طريق كتبهم وواقعهم .
وبدون هذين الأمرين لا تجوز مناظرتهم .
(2) ونحوه في الفتاوى (28/477-480) .(/20)
وهذا الجراح والمواجع في الأمة الإسلامية بصائر لأمور الخير وعواقب الشر ، فلا بد من الاعتبار بها ، وأخذ الدروس ، والعبر من أسباب آلامها ، والسعي بقدر الإمكان لتنحية الرافضة المفسدين واستئصال شرهم ، ومنعهم من تولي المناصب والأعمال ، والاعتياض عنهم بالمصلحين ،قبل أن نكون سلباً للأعداء وحديثاً للغابرين ، فهم فساد الديار وخراب البلاد .
ليس لهم عهد ولا ذمة ولا دين يمنعهم عن منكرات الأخلاق وفساد الأعمال ، ولا يرون بيعة لأحد لأنهم يعتبرون الحكومات الإسلامية وقضاتها في كل العصور طواغيت متآمرين على الإسلام ، كما قال بعضهم : ( تلاعبت الأيادي الأثيمة بالإسلام والمسلمين من الحكام والحاكمين منذ وفاة النبي الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم - ) .
وقد يستثني بعضهم حكومات التشيع إلى أن يظهر مهديهم المزعوم ! محمد بن الحسن العسكري الذي دخل في سرداب سامراء (1) عام ستين ومئتين عن عمر لا يتجاوز التاسعة في قول (2) ، ولا يزال مختفياً عن الأنظار حتى الآن ، وتزعم الرافضة أن الأخبار الواردة في فضل انتظار هذا الغائب كثيرة متواترة ، وأن من جحده كمن جحد نبياً من الأنبياء ، وقال أحد علمائهم " ومثل من أنكر القائم - عليه السلام - في غيبته مثل إبليس في امتناعه عن السجود لآدم ) (3) .
قال الإمام ابن القيم في حديث عن الرافضة الإمامية ومهديها المستحيل المعدوم ( وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ، ويصيحون به أن يخرج إليهم : اُخرجْ يا مولانا ، اُخرجْ يا مولانا ثم يرجعون بالخيبة والحرمان . فهذا دأبهم ودأبه .
ولقد أحسن من قال :
ما آن للسرداب أن يَلِدَ الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاءُ فإنكم ... ... ثلثتمُ العَنْقاءَ والغِيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل ) (4)
نسأل الله العافية والمعافاة .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
في 29/1/1419هـ
القصيم – بريدة
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... 2
اتفقت الأمة على أن الشريعة أتت بالمحافظة على الضروريات الخمس . 2
قال ابن المبارك من استخف بالعلماء ذهبت آخرته . ... ... 3
لحوم العلماء مسمومة . ... ... ... ... ... 3 ...
حكم الطعن في الصحابة والقدح في عدالتهم . ... ... ... ... 3
لم يعرف التاريخ البشري تاريخاً أعظم من تاريخ الصحابة . ... ... ... ... 3
الباعث على تأليف هذا الكتاب . ... ... ... ... ... 4
فصل في صفات أهل السنة ... ... ... ... ... 6
أنكر الإمام أحمد .. جمع الأحاديث التي فيها طعن على بعض الصحابة . ... 6
تخريج حديث (( لا تسبوا أصحابي .......... ... 7
تخريج قول ابن مسعود ] من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . 9
كل مؤمن آمن بالله فللصحابة الفضل إلى يوم القيامة . ... 11
معنى قوله تعالى { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } . ... 12
من ثبَت صحبته لا يتطلب شروط التعديل . ... 12
الرد على من حصر الصحبة بالمهاجرين والأنصار . ... 12
المراد بالفتح في قوله تعالى { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ } . ... 13
تفاوت منازل الصحابة . ... ... 14
تعليق على كتاب السلطة في الإسلام . ... ... 15
حاشية مهمة . ... ... 15
الموضوع ... الصفحة
كان السلف يقولون (( معاوية بمنزلة حلقة الباب ... ... 16
قول عبد الله بن مصعب فيمن ينتقص الصحابة . ... 17
قول الإمام أبي زرعة في ذلك ... ... 17
معاوية رضي الله عنه علم في الأمة ... ... ... 17
حكم الحجر على الإجتهاد . ... ... 18 ...
معاوية أفضل ملوك هذه الأمة . ... ... 19
حكم سب الصحابة . ... ... 20
الأحاديث الواردة في ذم معاوية رضي الله عنه كلها كذب . ... 21
إشارة مختصرة إلى كذب الروافض على بني أمية . ... 21
حاشية في فضل على ابن أبي طالب رضي الله عنه . ... 21
لم يقل أحدمن أهل السنة بعصمة أحد من الصحابة . ... 22
الآثار المروية في مساوي الصحابة على ثلاث مراتب . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في الرافضي لوط بن يحيى . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في سيف بن عمر التميمي . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في الواقدي . ... 23
ليس على المجتهد المخطئ إثم . ... ... 24
أصل البلاء في تضليل أهل الإجتهاد . ... ... 25
فصل في خطورة احتراف الطعن في الآخرين . ... 26
فضائل عبدالله بن الزبير . ... ... 26
تضعيف حديث ] يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله [ . ... 26
حاشية في حقيقة التشيع عند أهل الحديث . ... 27
الموضوع ... ... الصفحة ...
قول الإمام أحمد فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوي الصحابة . ... 28
__________
(1) انظر الكامل لابن الأثير (5/373) وسير أعلام النبلاء (13/120) .
(2) انظر السير للذهبي (13/121)
(3) إكمال الدين ( ص13 ) للرافضي ابن بابويه .
(4) المنار المنيف ص ( 152).(/21)
ليس على أمة محمد صلى الله عليه وسلم طائفة أضر من الروافض . ... 30
التقية عند الروافض . ... ... 30
عقيدة الرافضة في أصحاب القبور . ... ... 31
القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته يقرر التوحيد ويبطل الشرك ... 32
الأدلة متواترة في تحريم البناء على القبور . ... 33
عقيدة الرافضة في القرآن . ... ... 34
قول الإمام ابن حزم بأن الرافضة ليسوا في عداد المسلمين . ... 34
عقيدة الرافضة في أئمتهم وأنهم يعلمون الغيب . ... 35
نقل الإجماع على كفر من قال بهذا القول . ... 35
عقيدة الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم . ... 36
الأدلة الصحيحة على فضل أبي بكر وعمر وعثمان . ... 37
قال الحافظ ابن حجر (( إن الإجماع انعقد بين أهل السنة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة ... 37
مَنْ آمن بالقرآن وأنه كلام الله آمن بفضل الصحابة . ... 38
أقوال أئمة السلف في تكفير الرافضة . ... ... 39
الشتم أو السب للصحابة نوعان .... ... ... 40
الحذر من مجالس الرافضة . ... ... 41
حاشية مهمة في مناظرة الرافضة . ... ... 41
قول ابن تيمية في ظلم الرافضة وجورهم ومعاونتهم للكفار . ... 42
الجراح والمواجع في أمة الإسلام بصائر لأمور الخير وعواقب الشر . ... 43
الحديث عن مهدي الرافضة المزعوم . ... ... 43(/22)
الاسلام والبيئة ..خطوات نحو فقه بيئي
نزار دندش
تعتبر الأزمة التي تعيشها البيئة في عصرنا المشكلة العالمية الأهم التي تجمع حولها شرائح بشرية من مختلف الأطياف وتشكل اهتماما مشتركا لأوسع حركة اعتراضية في العالم. لذلك نجد كل الأحزاب السياسية في العالم وكل الحركات الاجتماعية التوعوية تحجز لنفسها أمكنة في حركات الاعتراض البيئية خوفا من ان تصبح غريبة عن التاريخ.
ولحماية بيئتهم يتسلح الغربيون بقوة القانون حيث يلجأ أصدقاء البيئة الى تنظيم حملات الضغط على حكوماتهم لسن التشريعات التي تحد من التلوث وتمنع الاستغلال المفرط للطبيعة معوّلين في ذلك على دور القوانين الوضعية التي تأخذ طريقها الى التطبيق في ردع المخالفين. ويختلف الأمر في الدول النامية حيث الاستنسابية في تطبيق القوانين، فإلى جانب الاعتماد على القانون تحتاج مهمة حماية البيئة الى صحوة الضمير وفعل الرقابة الذاتية الجدية. والدين الذي ينظم علاقة الانسان بخالقه وينظم علاقته بالمجتمع (بالآخر) ينظم أيضا علاقته بالطبيعة المحيطة به بكل ما فيها من كائناتت وموجودات. ولا شك في أن لقوانين الدين في المجتمعات الشرقية قوة رادعة تفوق مثيلاتها في الغرب وتتفوق على قوة القوانين الوضعية (التي لا يُطبق الكثير منها) في الشرق، لا سيما أنها مشفوعة بحوافز احساس المتدين بالرقابة الإلهية الدائمة وحساب الآخرة المؤكد.
وإذا كانت فلسفة الدين المسيحي لا تمنحه الطواعية الكافية لسن قوانين حياتية مستجدة كقوانين حماية البيئة ومنع تلوثها، فإن التشريعات الاسلامية تدخل في صلب حياة المسلم اليومية <فكل واقعة او حادثة لها في الاسلام حكم (حتى أرش الخدش) كما ورد في الحديث الشريف>. لذلك يعول أنصار البيئة على هذه التشريعات للجم عمليات التعدي على الطبيعة واغتصابها. ويلاحظ أنه رغم توفر النصوص والتعاليم والقواعد الاسلامية الصالحة فإن فقهاء الدين الاسلامي قد تأخروا في استنباط وسن القوانين البيئية من الكتاب والسنة وفي تشكيل فقه بيئي وسن قوانين اسلامية بيئية، كما تأخر رجال الدين المسلمون والمسيحيون في ادخال البيئة مادة في خطبهم ومواعظهم في الكنائس والمساجد.
الشيخ حسين الخشن هو أحد رجال الدين المسلمين الذي يتصدى لموضوع الفقه البيئي الموسع والممنهج، وقد صدر له مؤخرا كتاب بعنوان <الاسلام والبيئة خطوات نحو فقه بيئي> استعرض فيه أهم المشاكل التي تعاني منها البيئة، كما استعرض موقف الاسلام الداعم للبيئة وتاريخ تعاطيه معها وتبنيه مسألة احتضانها والحفاظ عليها على مر العصور مدعماً أقواله بكثير مما جاء في الكتاب والسنة والأحاديث ومما جاء على ألسنة الخلفاء والأئمة. فالقرآن الكريم يدعو الى المحافظة على الطبيعة والتمتع بجمالها ويحرم الافساد في الأرض (وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الأرض...) <ومن مصاديق الفساد المنهي عنه الأعمال المضرة بالبيئة والثروة الحيوانية كاستئصال الغابات والأحراج واتلاف المزروعات وتسميم المياه بما يؤدي الى القضاء على الثروة الحيوانية فيها...>. <والاسلام لا يكتفي بتحميل الانسان، وهو خليفة الله على الارض، المسؤولية عن حماية البيئة وحفظها، بل يدعوه الى الاقتراب منها ومصادقتها وإحيائها. فالنبي (ص) يدعو الى الاهتمام بالنخل كما بالأرحام (أكرموا عمتكم النخلة)>.
ويلاحظ المؤلف <أن وضع البيئة في تاريخنا الاسلامي كان أفضل حالا مما عليه الآن...> حيث ان المسلمين قد اعتنوا بالبيئة وعملوا على رعايتها لا سيما في عصور الازدهار. وقد شرح في كتابه <نظام الحسبة> الذي <بدأت ملامحه في عهد النبي> <وهو نظام يجمع بين الارشاد والرقابة والقضاء والتنفيذ>. ويوضح الشيخ حسين الخشن مسألة تسخير الأرض للانسان الذي <لا يمنح ولا يعطي الانسان سلطة على تخريب الكون وإفساده... فالتسخير في الحقيقة يشكل دعوة لاستثمار نِعم الكون بعد اكتشافها والتلذذ والاستمتاع بها والاحساس بجمالها... أما العبث بنواميس الكون وسننه وتغيير معالمه فإنه يضاد النعمة ويقابلها بالكفر بدل الشكر>.
وفي كتابه <الاسلام والبيئة> يذكرنا المؤلف بعدة أحكام شرعية ومفاهيم وآداب اسلامية تصب في خانة الحفاظ على البيئة نذكر منها ما يلي:(/1)
ويرى المؤلف ان حفظ البيئة مسؤولية خاصة <تقع على عاتق الدولة> ومسؤولية عامة <تقع على جميع أفراد المجتمع>. ويخلص الى <ان كل عمل يعمله الانسان في البيئة والمحيط العام ويكون له انعكاسات سلبية على صحة البشر وراحتهم بحيث يوقعهم في الضرر او المرض او الحرج فهو محرم من الناحية الشرعية>، و <... لا يجوز للانسان ان يعمر بيته بما يؤدي الى تخريب بيوت الآخرين...، ولا ان يرفع صوت جهاز التلفاز او الراديو بما يؤدي الى اقلاق راحة جيرانه وازعاجهم، ولا ان يلقي المواد السامة ومخلفات التصنيع او النفايات الطبية السامة في الأنهار او البحار او على اليابسة بما يؤدي الى تضرر البشر نتيجة تلوث مصادر المياه او المزروعات. ويدخل في هذا ايضا على رأي بعض الفقهاء ان يشعل السجائر في الأماكن العامة بما يؤدي الى تضرر الآخرين صغارا أو كبارا>.
(?) أستاذ جامعي
الكتاب: الإسلام والبيئة
تأليف: الشيخ حسين الخشن(/2)
الاسلام والعلم الحديث
* محمد جواد مغنية
(مَن ظن أن للعلم غاية فقد بخسه حظه، ووضعه في غير منزلته التي وضعه الله فيها حيث يقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.. لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإن ظن أنه قد علم فقد جهل.. أعلم الناس مَن جمع علوم الناس إلى علمه).
- حد العلم أن لا حد له:
من المستحيل على محمد (ص) أن ينظر هذه النظرة إلى العلم لولا الوحي: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) الإسراء/ 85. إن عقل الانسان ينتقل من معلوم إلى مجهول، من شاهد إلى غائب. ولا مذياع وتلفاز ولا عقل إلكتروني وصعود على القمر ولا أي شيء، يوم قال هذا محمد (ص) يومئ من قريب أو بعيد إلى مكانة العلم وعظمته.
ولكن الذين يؤمنون بأن المادة هي الموجود الوحيد، يسخرون من هذه النظرة إلى العلم، ويرونها سفسطة (وكلاماً فارغاً) لأن العلم كله ـ بزعمهم ـ مسجون ومحصور بما تراه العين، وتلمسه اليد، ويشمه الأنف، ويقرع السمع، ويقع في الفم، ويخرج من البطن! .. أبداً لا أسرار في طيات الكون ولا غرائز في أعماق النفس! أما حكم العقل فمجرد أحلام وأوهام!
ونسأل هؤلاء: هل يستند حكمكم هذا إلى العقل أو الحواس؟ فإن قالوا: إلى العقل، فقد ناقضوا أنفسهم وأبرموا ما نقضوا، وإن قالوا: إلى الحواس. كذبوا لأن وظيفة الحواس أن تشهد لا أن تحكم.
- زدني علماً:
في الحديث الشريف: (أبى الله أن يجري الأمور إلى على أسبابها)وعليه يكون معنى قوله تعالى: (وقل ربي زدني علماً) طه/ 114، أطلب العلم طول العمر، لأن العالم حقاً وصدقاً هو الذي يزداد علماً على كر الأيام بالمتابعة والمراجعة، ومَن تراءى له أنه قد أتم، وبلغ من العلم الغاية والنهاية هرب منه إلى غير رجعة. وفي الجزء الثاني من العقد الفريد: أن قتادة قال: (ما سمعت شيئاً قط إلا وحفظته، ولا حفظت شيئاً قط فنسيته، ثم قال يا غلام هات نعلي. فقال: هو في رجليك. ففضحه الله.. وأيضاً قال قتادة: حفظت ما لم يحفظ حد ونسيت ما لم ينس أحد، حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي وأنا أريد أن أقطع ما تحت يدي فقطعت ما فوقها!)
وهكذا يُعمي الزهو والغرور صاحبه عن الواضحات حتى عن نعله ولحيته.
- العقول وأهل القبور:
قال السلفية: العلم حرام محرم إلا ما كان موروثاً عن السلف الصالح! ونجيب:
1 ـ إن الارتياب في العلم ارتياب في العقل، وهذا هو الخبل المحض وعين الجهالة والضلالة، قال سبحانه: (والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر/ 19، وقال الرسول الأعظم (ص): (الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها.. أعلم الناس مَن جمع علوم الناس إلى علمه). إلى كثير من أحاديث هذا الباب.
2 ـ لماذا شدّ العقول إلى أهل القبور؟ أحرصاً على الاسلام؟ وهل فيه ما يعارض العلم والعقل؟ وكيف ونبي الاسلام يقول: أصل ديني العقل وعلى هذا الأساس خاطب جميع الناس وكان خاتمة الأديان، وأيضاً على هذا الأساس قال الشيخ الأنصاري الكبير في كتابه المعروف بالرسائل، ما نصه بالحرف الواحد: (العقل شرع من الداخل، والشرع عقل من الخارج.. وكلما حصل القطع من دليل عقلي فلا يجوز أن يعارضه دليل نقلي، وإن وجد ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله).
3 ـ لقد تناول العلم الحديث كل جانب من جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، ولو حرمنا على أي انسان هذا العلم وثماره لوجب أن يُربط مع الدواب!
وبعد، فمن الضروري لكل عالم أو متعلم منا أن يلم بجملة من الاتجاهات والثقافة السائدة وبخاصة الغربية، فإنها تزيده، ولا شك تفهماً لواقعه المعاصر، وتمسح من ذهنه العديد من الأخطاء. لأن الاطلاع على علوم الآخرين يساهم في نمو العقل وتطوره، ومَن أنكر أية فكرة من غير بحث وتمحيص لا لشيء إلا أنها مستوردة فقد خالف الكتاب والسنة من حيث لا يشعر.
لقد كتب القدامى عن الاسلام ونبيه، وأيضاً كتب عنهما الجديد الذين تغذوا بالثقافة الحديثة، فأين هذا من ذاك؟ هذا تحليل وتعليل لحقيقة الاسلام وكشف عن كنوزه وأسراره، وذاك مجرد سرد ورواية. وبكلمة إن وسيلة الإثبات عند الكثير من أولئك النقل، وهي عند هؤلاء الحس والنتائج العلمية.
وأخيراً صدق مَن قال: كلما تقدم العلم زادنا فهماً لمعاني كلمات الله تعالى.(/1)
الاشتراك في جمعيات المآتم
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/ البدع/مسائل متفرقة
التاريخ ... 3/9/1424هـ
السؤال
ما حكم الاشتراك في جمعيات المآتم ؟ وذلك بأن يتفق مجموعة من الناس تربطهم رابطة نسب على أن يدفعوا مبلغا من المال كل شهر، على أن تدفع قيمة من المبلغ متفق عليها لكل من حدث له حالة وفاة، مع العلم أن الجمعية تتكفل بمصاريف المأتم لمدة أربعة أيام متتالية.
أرجو منكم الإجابة بالتفصيل مع الأدلة الشرعية.
الجواب
إنشاء جمعيات للمآتم أو الاشتراك بها حرام، لا يجوز، وبدعة محدثة في الدين، حيث لم تكن من سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم- من قريب أو بعيد، فما يتعلق بالميت من الصلاة عليه وتكفينه ودفنه، وتعزية أقاربه، كل هذا من العبادات المحضة المبنية على التوقيف، ولا يجوز فيها الاجتهاد؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" البخاري(2697)، ومسلم(1718)، والله تعالى يقول:"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" [الحشر: 7] والسنة أن يعزى أهل الميت، وأن يصنع لهم طعام يأكلونه، لأنهم قد شغلوا بميتهم عن أنفسهم في مدة العزاء، والمعمول به في هذه العصور كما في السؤال خلاف السنة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم- لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب –رضي الله عنه- في معركة مؤته قال: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" أحمد(1751)، وأبو داود(3132)، وابن ماجة(1610)، والترمذي(998)، وقال حسن صحيح وكذلك حسنه الألباني، ودفع النقود لأهل الميت لا يجوز، إلا إن كانوا فقراء، فتدفع إليهم لفقرهم، لا بسبب موت صاحبهم.
وفقنا الله وإياك للقول النافع والعمل الصالح. آمين.(/1)
الاطار الفكري العام للأعمال الصالحة
* محمد باقر الصدر
(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله، شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون).
(إنما يعمر مساجد الله مَن آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين).
(مَن عمل صالحاً فلنفسه ومَن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون).
لسنا نريد ـ ونحن نعيش لحظة في ضوء هذه الآيات الكريمة ـ أن ندرس قيمة العمل في نظر الاسلام من وجهة النظر الاقتصادية، أو أن نبحث عن موقف الاسلام من الطابع البضاعي للعمل في السوق الرأسمالية، التي يعرض فيها الاجراء أعمالهم بوصفها بضاعة تباع وتشرى، وتخضع لقوانين العرض والطلب كسائر السلع السوقية.
نحن إزاء تقدير الاسلام لقيمة العمل ـ أي عمل ـ من وجهة النظر الانسانية والقيم الخلقية التي يؤمن بها، لا من وجهة النظر الاقتصادية التي تعالج طبيعة العمل المأجور، ودوره الخلقي في الانتاج ونصيبه العادل من التوزيع. وبكلمة أخرى: ندرس الآن تسعيراً أخلاقياً للعمل البشري، لا تسعيراً اقتصادياً.
فما هو العمل الانساني الجدير بالاعجاب والاحترام؟ أو ما هي المقاييس التي يجب اتباعها في سبيل الكشف عن قيمة هذا العمل أو ذاك؟ ومدى أهميته ودرجة احترامه من الناحية الخلقية والمعنوية؟
هذا هو السؤال الذي نريد الجواب عليه من ناحية الاسلام ونحاول الحصول على هذا الجواب من خلال الحقيقة التي تقررها الآيات الكريمة التي استمعنا إليها في فاتحة هذا المقال، بالقدر الذي يتناسب مع درجة البحث بوصفه مقالاً محدوداً.
والواقع أن الجواب على هذا السؤال من أي مذهب، إنّما ينبثق عن نوعية المفاهيم الخلقية التي يتبناها هذا المذهب. وهذه المفاهيم تحددها ـ بدورها ـ طبيعة الأهداف العامة التي يرمي المذهب إلى تحقيقها. ويتكون من مجموعها المثل الذي يسعى نحو ايجاده أو تصعيد البشرية إلى مستواه.
فالحضارة الرأسمالية ـ بوصفها ذات مذهب يعنى بالمصالح الحياتية للمجتمع، والجوانب الموضوعية من علاقات أفراده بعضهم ببعض ـ ترى أن كل عمل يحقق مصلحة للمجتمع، ويساهم في تأكيد المظهر الخارجي والاجتماعي للعلاقات بين الأفراد، واقامتها على أساس من الحرية والمنفعة المتبادلة.. فهو عمل شريف جدير بالاحترام وفقاً لمدى توفر هذه العنصار الخيرة فيه. وكلما كانت الثمار التي يؤتيها في الحقل الاجتماعي والحياتي العام أكثر، كان العمل أرفع قيمة وأعظم مجداً في هذا الحساب الخلقي، أي ن العمل يقاس بمنافعه التي تنشأ عنه لا بدوافعه النفسية التي ينشأ العمل نفسه عنها. وحينما طغى الاتجاه النفعي في الحضارة الرأسمالية أصبح يعد كل عمل يسير في هذا الاتجاه نبيلاً، حتى اعتبر رجل الأعمال محسناً مهما كانت دوافعه الأنانية ومشاعره الخاصة، كما لاحظ بحق الدكتور الكسيس كارل.
فالثرى النبيل يحسن صنعاً في العرف الرأسمالي إذا أشاد مدرسة، وتبرع بمعونة الشتاء للفقراء المنكوبين، أو أقرض الدولة في أزمة من أزماتها قرضاً دون فائدة.. غير أن عمل هذا الثري لن يصل إلى درجة العمل البطولي، الذي ينفقه قائد سياسي محنك في سبيل تحرير بلاده من الأسر السياسي، واعادة كرامتها المغتصبة إليها، لأن الجانب الموضوعي لهذا العمل أضخم ومنفعته في حياة الناس أكبر.
ودون هذا أو ذاك تلك الأعمال الضيقة في مفعولها التي لا تعالج إلا حاجة ة نية محدودة، كحاجة هذا الأعمى الذي يتخبط في طريقه فيخفق قلبك شفقة عليه فتأخذ بيده لترشده إلى الاتجاه الذي يريده.. فهذا عمل نبيل أيضاً ولكنه لا يصل إلى مستوى تلك الأعمال في مقاييس الأخلاق الرأسمالية ما دام لا يتمخض عن نتائج مماثلة في أهميتها وضخامتها.
وأما الماركسية: فهي تتفق مع هذا إلى حد ما وتختلف عنه بعض الاختلاف. فهي ترى أن الصراع الطبقي في داخل كيان المجتمع يجعل مصالح المجتمع متناقضة، فهناك مصالح تدافع عنها الطبقة القديمة التي بدأت تفقد ضرورتها التاريخية وتعرقل القوى المحركة للتاريخ، وهناك بازائها مصالح أخرى للطبقة أو الطبقات الجديدة التي نمت جرثومتها على مر الزمن، حتى اكتملت ووقفت على قدميها تصارع الطبقة القديمة وجهاً لوجه، وتطالب بحقوقها ومصالحها.(/1)
فالمسألة إذن ـ باستثناء بعض الأعمال الفردية ـ ليست مسألة عمل نافع وعمل غير نافع، بل مسألة عمل نافع للطبقة الجديدة وعمل لا ينفعها أو يعارضها. فكل عمل يحقق مصلحة ومكسباً للطبقة الجديدة فهو عمل مجيد يساهم في تطوير التاريخ، وكل عمل يحقق مصلحة الطبقة القديمة ويعمق وجودها الاجتماعي ويطيل من فترة صراعها واحتضارها.. فهو عمل رجعي دنيء ما دام لا يتفق مع الأهداف العليا التي تؤمن الماركسية بضرورة تحقيقها، وهي انتصار الطبقة الجديدة وسحق الطبقة القديمة التي تعارض في زحف التاريخ إلى الأمام. فالمصلحة والمنفعة الطبقية التي يحققها العمل هي المقياس الخلقي والأساس في تسعير العمل من الناحية المعنوية.
ولأجل ذلك قال لينين كلمته المشهورة: «لا وجود عندنا للآداب المعتبرة فوق المجتمع، أنها لأكذوبة سافرة، فالآداب خاضعة عندنا لمنفعة نضال الطبقة العمالية».
وأما الاسلام: فهو يختلف في دراسته للمسألة، وفي النظرة التي يتبناها عما مرت بنا من نظرات. ومرد هذا الاختلاف إلى الفروق الجوهرية بين الأهداف العالية التي يرمي الاسلام إلى تحقيقها ويستوحي منها مفاهيمه الخلقية، وبين الغايات المحدودة التي تستهدفها مجتمعات رأسمالية ومادية.
فالاسلام يهتم بدوافع العمل لا بمنافعه، ويرى أنه يستمد قيمته من الدوافع لا من المنافع، فلا عمل إلا بنية، وما لم تتوفر النية الصالحة لا يكون العمل صالحاً مهما كانت منافعه التي تنشأ عنه. لأن الاسلام لا ينظر إلى المظهر الخارجي للعلاقات الاجتماعية فحسب، ولا يعني بالجانب الموضوعي من التعايش الاجتماعي وحياة الناس فقط، إيماناً منه بأن هذا الجانب وذلك المظهر ليس إلا صورة عن حقيقة أعمق وأخطر تعيش في داخل الانسان. وما لم يتمكن المذهب من كسب تلك الحقيقة وتطويرها وصبها في قالبها الخاص، لا يستطيع أن يمتلك القيادة الحقيقية في المجتمع. فليس المهم في نظر الاسلام: أن يصنع علاقات اجتماعية بين الناس ذات جانب موضوعي نظيف، أي ذات منافع وفوائد في الحقل الاجتماعي، وإنما المهم أن يصنع انساناً نظيفاً ويشيد علاقات نابعة من جوانب ذاتية مشرقة. وبكلمة واحدة فإن الاسلام يريد أن يصنع الانسان نفسه صنعاً اسلامياً، فهو يتبنى لأجل ذلك تربية هذا الانسان، ويستتهدف قبل كل شيء تكوين محتواه الداخلي والروحي وفقاً لمفهومه، بينما تتخلى الرأسمالية عن هذه الوظيفة الأساسية وتترك الانسان ليصنع نفسه بنفسه، وتكتفي بتنظيم العلاقات بين الناس وتهتم بالنتائج والمنافع دون الدوافع الفكرية، والأرصدة الروحية التي تختفي وراء تلك العلاقات وتنعكس فيها.
وهكذا نجد: أن الاسلام يقيس قيمة الأعمال بالدوافع والمقدمات والاطارات الفكرية العامة التي تختمر بذرة العمل ضمن نطاقها، بينما يقيس غيره قيمة الأعمال بالنتائج والمنافع والمجالات الحياتية التي يساهم العمل في اصلاحها.
فالاطار الفكري العام الذي يقرره الاسلام هو: الايمان بالله واليوم الآخر. والدوافع هي: العواطف والميول الخيرة التي تنسجم مع هذا الاطار العام، وتندمج معه في وحدة روحية يتكون منها الانسان المسلم. والعمل الصالح هو: العمل الذي ينبثق عن هذه العواطف والميول ضمن الاطار العام.
وعلى هذا الأساس رفض القرآن رفضاً باتاً امكان المقايسة والمقارنة: بين العمل الذي يحققه الانسان ضمن الاطار الايماني العام، مندفعاً بالميول والدوافع الإلهية التي يحددها هذا الاطار. وبين العمل الذي يوجد بعيداً عن ذلك الاطار وينبثق عن ميول ودوافع أخرى. فان هذا العمل لا يمكن أن يقارن في المفهوم القرآني بذلك العمل. مهما كانت نتائجه ومنافعه: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
وقد جاء في تفسير الآية الكريمة وسبب نزولها: ان شيبة بن عبدالدار والعباس بن عبدالمطلب افتخرا بعملهما الاجتماعي في حماية الكعبة ورفادة الحاج، فقال شيبة: في أيدينا مفاتيح الكعبة فنحن خير الناس بعد رسول الله (ص)، وقال العباس: في أيدينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام فنحن خير الناس بعد الرسول (ص)، ومرّ بهم أمير المؤمنين علي (ع) وهما في فورة عاطفية، فحدثاه بحديثهما معبرين بذلك عن مقاييس الجاهلية ومفاهيمها الخلقية، فابتدرهما هذا الرجل القرآني المدرّب على مفاهيم القرآن واستيعابها في واقع الحياة قائلاً: ألا أدلكما على مَن هو خير منكما؟ قالا له: ومَن هو؟ فقال: هو الذي أدخلكما في الاسلام وآمن بالله وجاهد في سبيله. ولم يرق هذا للعباس وشيبة فاحتكموا عند النبي (ص)، فأنزل الله الآية المباركة ليؤكد أن العمل في اطار الايمان وبدافع إلهي لا يمكن أن يقارن بأي عمل آخر خارج هذا النطاق مهما بدا عظيماً، لأن قيمة العمل تنبثق من اطاره ودوافعه لا من مظهره الخارجي نتائجه.(/2)
ولأجل هذا أيضاً حرم الاسلام الرياء، واعتبر العبادة التي يجردها العابد عن الاطار الايماني والدوافع الإلهية جريمة وشركاً، مهما كان أثرها في المجتمع أو لونها الظاهري. فليس من الغريب ـ بعد هذا أن ينقلب عمران المسجد عملاً باطلاً وساقطاً، حين يكون هذا العمران بعيداً عن الاطار والدوافع الايمانية، كما نجد في قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله مَن آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين).
وكذلك حث الاسلام على صدقة السر والتكتم ببعض ألوان البر، حرصاً منه على توفير المقومات الأساسية للعمل الصالح، فهو يطلب من الفرد أن يبتعد بعمله الصالح عن مجالات الاغراء ليتأكد من صلاحه وسلامة رصيده الروحي ومدلوله النفسي، بينما نجد المجتمعات الغربية أو غير الاسلامي في سلوكها الحياتي والنفسي تحشد كل وسائل الاغراء لدفع الناس إلى الأعمال المفيدة، حتى يفقد العمل المفيد كل قيمة خلقية في ضجة الاغراء المحموم. والسبب في هذا أنها لا تملك دوافع روحية حقيقية كالدوافع التي يمكلها المجتمع الاسلامي الصحيح، الذي يؤمن بربه ومعاده وارتباط الدنيا بعالم الآخرة. ومن هنا كانت القيم الخلقية مرتبطة تاريخياً بالدين منذ أبعد أدوار الحضارة البشرية إلى يومنا هذا.
وفي هذا الضوء الاسلامي قد يكون العمل الضئيل التافه في مظهره الاجتماعي أرفع وأسمى من عمل جبار يدوي له التاريخ، قد تكون هذه الخفقة التي يخفق بها قلبك شفقة على الأعمى حين تجده يتسكع الطريق فتأخذ بيده لترشده السبيل طلباً لرضا الله.. أفضل ألف مرة من تضحية يترتب عليها أهم المصالح الاجتماعية، يدفعك إليها دافع من الدوافع المادية بعيداً عن الاطار الاجتماعي العام.. (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
وبهذا يفتح الاسلام السبيل أمام أي فرد، مهما كانت امكاناته وقدرته على النفع الاجتماعي والعمل النافع للارتقاء إلى أسمى درجة في .. سلّم النفس البشرية ومراحل كمالها الروحي، ويفرض على المجتمع أن يقيم تقديراته للأشخاص على مقدار ما تكشف عنه الأعمال من أرصدة روحية ونفسية، لا على المظاهر الخلابة الخاوية مهما بدت عظيمة.
وقد يتبادر إلى بعض الأذهان: أن العرف غير الاسلامي في تقدير الأعمال أكثر واقعية من العرف الاسلامي الذي يقرره القرآن، لأن المهم قبل كل شيء توفير مصالح المجتمع وحماية هذه المصالح. فكل عمل كان يواكب هذا الهدف فهو عمل مجيد من مصلحتنا جميعاً أن نقدره ونمجده لنشجع على الاتيان بمثله، وماذا يهمنا ـ بعد أن نصل عن طريقة إلى مكاسب موضوعية ـ الدافع الذي يختفي وراءه والظروف النفسية التي اكتنفت تصميم العامل على العمل؟! إن الشيء الجدير بالتقدير حقاً هو أن يشيد الغني مدرسة لأبنائنا، لأن هذا التقدير والاعجاب سوف يشجعه في عمله فتتضاعف مكاسبنا، ولا يهمنا أن يكون لهذا الغني طمع شخصي يدفعه، ما دام هذا الطمع يدفعه إلى فعل الخير وخدمة المجتمع.
ولكن نظرة سطحية كهذه: تقف عند ظواهر الأعمال ولا تغوص إلى الأعماق، تختلف مع طبيعة الرسالة الاسلامية من ناحية، ومع مفهوم الاسلام من الارتباط الكامل بين العمل ورصيده الروحي والفكري من ناحية أخرى.
فمن الناحية الأولى: ليس الاسلام مجرد تنظيم للسلوك الخارجي، وإنما هو رسالة تهدف إلى صنع الانسان قبل كل شيء ومنحه الحياة الجديرة به (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون).
فالاسلام يريد أن يعطي للانسان حياة لا سلوكاً فحسب، ولا يمكن لرسالة هذه طبيعتها أن تترك المحتوى الداخلي للانسان وتنظر إليه من مظهره الخارجي فحسب.
ومن الناحية الأخرى: ينظر الاسلام إلى العمل بوصفه التعبير الخارجي عن الاطار الروحي والجو الفكري الذي نمت فيه بذرة العمل، فلا يمكن أنى جرد عن طابع ذلك الاطار ومزاج ذلك الجو. ولا ينكر الاسلام بطبيعة الحال: أن العمل الذي ينشأ عن اطارات وفي أجواء فكرية وروحية غير صالحة قد يكون عملاً مفيداً ونافعاً، بالرغم من كونه عملاً ناشئاً عن طمع شخصي أو غرض خبيث.. ولكننا إذا سمحنا لتلك الاطارات والأجواء غير الصالحة أن تنمو وتترعرع، في ظل قيم ومقاييس خلقية كهذه التي تسود العرف غير الاسلامي.. فمن يضمن لنا أنها سوف تدفع الفرد إلى العمل المفيد والنافع دائماً؟! وكيف يمكن أن نترقب حينئذ هذا العمل المفيد والنافع إذا كان يتعارض مع مصالح الفرد الخاصة وأغراضه العاجلة؟!
وهكذا نعرف أن ربط العمل بالمحتوى الداخلي هو الطريقة الواقعية التي تضمن استمرار العمل المفيد وتنميته والتشجيع عليه.(/3)
الاعتبار بمصارع الأمم
أولاً: مقدمة .
ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها.
ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟
رابعاً: صور العذاب.
خامساً: أسباب وقوع العذاب على الأمم.
أولاً: مقدمة:
يقف العالم اليوم في منعطف خطير، خطير لما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار، وخطير لما وصل إليه حال المسلمين اليوم من ذلة وفرقة واختلاف.
والناظر في هذا الحال يبحث عن السبب والمخرج، ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضروب الذلة؟ وما مصير الأمة الكافرة الباغية المتجبرة؟ وهل هي أشد على الله من الأمم التي أهلكها؟ ومتى يصيبها ما أصاب السابقين؟
في هذه السطور نقف مع مصارع الأمم الغابرة وصور العذاب الأليم الذي أنزله الله بها، ليكون لنا في هذه الوقفة صرخة نذير أن يصيبنا ما أصابهم، وبشارة بشير بقرب هلاك الظلم والطغيان، {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
ثانياً: التحذير من سنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بمصارعها:
يقص القرآن علينا أمة الإسلام مصارع الأمم الغابرة، لنقرأ سيرهم فنحذر ما أحل بهم العذاب، ولكي نرى ما ينتظر الأمم التي تقع في أمثال هذه المعاصي والآثام، وجاء هذا التحذير في كثير من آيات القرآن الكريم، ومنه:
1- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} [الإسراء:17].
قال القرطبي: "ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم" [تفسير القرطبي 6/391].
قال الطبري: "وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قروناً كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به وتكذيب رسله على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم لأنه لا مناسبة بين أحد وبين الله جل ثناؤه، فيعذب قوماً بما لا يعذب به آخرين أو يعفو عن ذنوب ناس فيعاقب عليها آخرين" [تفسير الطبري 15/57].
2- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَال} [الروم:41]، وقال تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال:53، 54].
قال الشوكاني: "والمعنى أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم" [فتح القدير 2/318].
3- {قُلْ سِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} [الروم:42].
قال ابن تيمية: "وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان" [العقود الدرية 1/137].
4- {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
قال الطبري: "فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه" [تفسير الطبري 4/209].
وذكرت الآيات أن المصائب والمهالك عقوبات تصيب الأمم بسبب ذنوبهم وآثامهم، فالله حكم عدل لا يظلم أحداً، ومن هذه الآيات:
1- {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فبما كسبت أيديكم يقول فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترحتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم فلا يعاقبكم بها" [الطبري 25/32].
2- {أَلَم يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [التوبة:70].
3- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [يونس:44].(/1)
قال ابن مسعود: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]" [تفسير القرطبي10/120].
والعذاب والعقوبة التي أوعد الله بها الأمم لها موعد صدق يأتيها وإن طال على سبيل الاستدراج أو الإمهال، إذ هو سنة كونية يعذب الله بها الأمم أمة تلو أمة، وهذه السنن لا تحابي أمة، ولا تتجاوز مستحقاً للعذاب، وإن تأخر ذلك إلى حين أجله، وقد قال الله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون" [تفسير القرطبي10/120].
وقال: {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [ن:44-45]. قال القرطبي: "واعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم بل سنة الله إمهال العصاة مدة" [تفسير القرطبي 9/376].
فالعقوبة الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ} [آل عمران:137]. قال القرطبي: "المعنى قد خلت من قبلكم سنن يعني بالهلاك فيمن كذب قبلكم كعاد وثمود والعاقبة آخر الأمر وهذا في يوم أحد يقول فأنا أمهلهم وأملي لهم وأستدرجهم حتى يبلغ الكتاب أجله يعني بنصره النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين" [تفسير القرطبي 4/216].
وقال: {اسْتِكْبَاراً فِى الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيّىء وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "سنة الله في خلقه يرفع من تخشع، ويضع من ترفع" [تفسير القرطبي 9/42].
ثالثاً: هل يصيب هذه الأمة عذاب الأمم السابقة؟
ابتلى الله الأمم الغابرة بأصناف العذاب البالغة، وهذا العذاب على ضربين:
أولهما: عذاب الاسئئصال، وهو الذي يودي بجميع الأمة فلا يبقي منها ولا يذر، كما حصل مع قوم نوح عاد وثمود.
والثاني: هو ذلكم العذاب الشديد الذي يصيب الأمة ويزلزلها كالطواعين والطوفان والكوارث من خسف ومسخ، وقد عذب الله به فرعون وبني إسرائيل، وهذا النوع من العذاب لا يؤدي إلى فناء الأمة المعذبة برمتها.
وقد ذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله عن البشرية ببالغ رحمته، ولو عذبهم به كان عادلاً جل وعلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر:45]. ولم يرفع من هذا العذاب أصل جنسه، إذ من الممكن أن يسلط الله الريح أو الحاصب على أمة من الأمم من غير أن يستأصلهم به.
قال الحافظ المقدسي: "وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظم قوى وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته" [مفتاح دار السعادة 1/255].
ويبين شيخ الإسلام أن الاستئصال إنما رفع برسالة موسى عليه السلام فيقول: "وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذاباً عاجلاً، يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عاداً وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون،.... إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} [القصص:43]. بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر، ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية" [الجواب الصحيح 6/442].
ويقول رحمه الله مبيناً الصورة الجديدة التي أرادها الله لردع أعدائه، ألا وهي الجهاد لهؤلاء الكفار ومراغمتهم حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله: " المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة" [الجواب الصحيح 2/251].(/2)
ولما بعث رسول الله كان رحمة للبشرية جمعاء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. قال ابن عباس: "كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" [القرطبي 11/350]. ومقصوده الخسف الشامل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع بعضه فيما بينه وبين الساعة-كما سيأتي في حينه-.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه دعا الله أن لا يهلك أمته بسنة عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((وإني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة... وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة)) [رواه الطبري في تفسيره 7/226، قال ابن حجر: إسناده صحيح. فتح الباري 8/293].
لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.
وأما حديث جابر لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: ((أعوذ بوجهك)) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) [البخاري ح4628]. ففيه قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" [فتح الباري 8/293]. أي وقوع العذاب لبعض الأمة دون بعض.
قال شيخ الإسلام: "وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمداً أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب" [الجواب الصحيح 6/443].
كما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان لأمته، حين سأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فقال: ((وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها وعشرون عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)) [مسلم ح2889].
قال شيخ الإسلام: "هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة و لا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح، فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، و لولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم" [مجموع الفتاوى 14/150].
رابعاً: صور العذاب:
يورد القرآن والسنة في عشرات المواضع التي يتحدث الله فيها عن عذابه ورجزه الذي أنزله في الأمم السابقة، وكيف تنوعت صورة انتقام الله العظيم من أعدائه المجرمين والكافرين.
وقد تفاوتت العقوبات التي أصابت الأمم بتفاوت جرائمهم وعصيانهم لله عز وجل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون" [مجموع الفتاوى 16/249].
قال السعدي: "فكل من هؤلاء الأمم المكذبة أخذنا بذنبه على قدره وبعقوبة مناسبة له" [تيسير الكريم 4/60].(/3)
كما أن هذه العقوبات الإلهية كانت - في كثير من صورها - صورة لما ارتكبته الأمم من جرائم وقبائح، فكان الجزاء من جنس العمل، يقول ابن القيم: "وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجذب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم والآم وغموم تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسّير بصيرته بين الأقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته" [زاد المعاد 4/363].
ومن صور العذاب الكثيرة نتوقف مع هذه الصور:
1. الغرق والطوفان:
وهو أول عذاب استئصال عذب الله به الكافرين من قوم نوح {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14].
{مّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ} [نوح:25]. قال ابن كثير: "من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا ناراً" [تفسير ابن كثير 8/263].
ثم عذب الله فرعون وجنوده بالغرق في اليم {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ} [الأعراف:136]. {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77].
كما عذب بالسيل والطوفان مملكة سبأ {فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16-17].
وهدد الله الآمنين من مكره بعذاب الغرق فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69].
2. الريح:
وهو عذاب الله عذب به قوم عاد لما كفروا بربهم.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6]. ويقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [فصلت:16].
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24].
وقد كان نبينا إذا رأى ريحاً خاف وظهر ذلك في وجهه، وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا عصفت الريح يقول: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) [مسلم ح(889)].
تقول عائشة رضي الله عنها: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، ورأى قوم العذاب فقالوا: {هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا})) [البخاري ح(4829)، مسلم ح (889)].
3. الصيحة:
والصيحة هي كما قال القرطبي في تفسيرها: "صيح بهم فماتوا، وقيل صاح بهم جبريل، وقيل غيره. وقال أيضاً: كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم" [تفسير القرطبي 7/42، 9/61].
وهي عذاب الله الذي عذب به قوم صالح {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]. وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:31].
ويهدد الله المشركين بمثل هذا العذاب فيقول: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص:15].
4. الحاصب:
والحاصب كما قال أبو عبيدة: الحجارة وقال ابن حجر: الحصباء في الريح. [انظر تفسير القرطبي 17/143، فتح الباري 8/391].
وهو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط لما كفروا وارتكبوا الموبقات فقال: {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} [العنكبوت:40] وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} [القمر:34].
وهو قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ d مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82، 83].(/4)
ونقل القرطبي في تفسيره {وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. عن مجاهد أنه قال: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد.
وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالماً بعد. [تفسير القرطبي 9/83].
وهو العذاب الذي عذب الله به أصحاب الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ} [الفيل:1-4].
ومن جنسه الحد الذي جعله الله عقوبة للزاني المحصن، وهو الرجم.
والحاصب هو العذاب الذي حذر الله قريشاً به فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17].
وقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68].
5. الخسف:
والخسف هو كما عرفه القرطبي هو "الذهاب في الأرض" [تفسير القرطبي13/318] وهو ذهاب المكان ومن عليه وغيبوبته في بطن الأرض.
وهو عذاب الله به قارون لما بغى وأفسد فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص:81]. {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} [العنكبوت:40].
وهو أحد أنواع العذاب التي تكون في آخر الزمان كما في حديث عمران بن حصين حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القينات والمعازف، وشرب الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وقد حذر الله العصاة من هذا العذاب {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل:45]. وقال: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [سبأ:9].
ومن صور الخسف الزلازل التي تميد بالأرض فتخرب المدن بعد عمارها، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الزلازل تكثر بين يدي الساعة قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتل.... وتكثر الزلازل)) [البخاري ح(7121)].
قال ابن حجر: "وقد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها" [فتح الباري 13/87].
6. الجوع والعطش وضيق الأرزاق:
وهو ما عذب به قوم سبأ حيث قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].وقال أيضا:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:16، 17].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [العنكبوت:41].
قال ابن كثير: "بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي ليذيقهم بعض الذي عملوا". وقال: "يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه على صنيعهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن المعاصي" [تفسير ابن كثير 6/327].
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من وقوع بعض هذا البلاء: ((يا معشر المهاجرين. . خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن. .. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
7. الخوف والفرقة وتسليط الأعداء والذل وكثرة القتل والحروب:
وهذا النوع من العذاب عذب الله به بني إسرائيل فجعلهم فرقاً كثيرة وأضاف إلى ذلك الهوان والذلة إلى يوم القيامة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
وقد صدق الله فكانوا أذل الأمم وأرذلها، وما نراه اليوم من عز وسؤدد فإنما هو بسبب تخاذل المسلمين عن قتالهم، ومصانعة النصارى لهم بحجة أنهم الشعب المبارك، وذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ} [الأعراف:112].(/5)
ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65].
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن:....، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
8. المسخ:
وهو كما عرفه المباركفوري التغير في الصورة [تحفة الأحوذي 3/151].
وقد عذب الله بني إسرائيل عندما اعتدوا في السبت {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]. وقال: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا العذاب يكون في هذه الأمة، ووصف ذنب أولئك الممسوخين والذي بسببه يمسخهم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) [الترمذي ح(2152)، ابن ماجه (4061)].
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور)) [الترمذي ح(2138) ونحوه في أبي داود].
وعن ابن حبان: ((لا تقوم الساعة حتى يكون في أمتي خسف ومسخ)) [صحيح ابن حبان ح (1890) بإسناد حسن].
قال ابن تيمية: "المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو واقع في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين قبلوا دينه، والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم...".
وقال: "إنما يكون الخسف والمسخ إذا استحلوا هذه المحرمات بتأويل فاسد فإنهم لو يستحلوها مع اعتقاد أن الشارع حرمها كفروا ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بحرمتها لما عقبوا بالمسخ كسائر من يفعل هذه المعاصي، مع اعترافهم بأنها معصية".
9. الأمراض والبلايا والطواعين:
وهو نوع آخر من العذاب يصبه الله على الأمم المتجبرة الكافرة أو المسلمة العاصية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم)) [البخاري ح3214، مسلم ح4108].
وقد توعد الله فيه عصاة الأمم فيما جعل الطاعون رحمة وشهادة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح(4019)، والحاكم (4/540) ووافقه الذهبي على تصحيحه].
قال القرطبي: "الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة". [تفسير القرطبي 9/292].
خامساً: أسباب وقوع العذاب على الأمم:
أسباب العذاب والمهالك التي تحيق بالمجتمعات كثيرة، ومنها:
1. الظلم والكفر:
والظلم هو تجاوز الحد، وله صور أعظمها الشرك كما قال الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، قال ابن حجر: "تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به".[فتح الباري 8/355]
ومما يوقفنا على عظم جريمة الشرك والكفر قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً} [مريم:89-91].
قال تعالى محذراً من الشرك الذي أحل العقوبة بالأمم السابقة: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لما ظلموا} [الكهف:59]. قال ابن كثير: "الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم... وكذلك أنتم أيها المشركون: احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر". [تفسير ابن كثير 4/169].
وقال تعالى يحكي عن مصارع الأمم المعذبة بسبب كفرها: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر:18-20].
وقال عن قوم فرعون وغيرهم: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [آل عمران:11].(/6)
يقول ابن كثير: "فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم فقلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل" [تفسير ابن كثير 2/320].
وقد جعل الله العقوبة للأمم الكافرة سنة له في خلقه، فقال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليم العقاب، يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم" [الطبري 22/146].
وقد جاءت الآيات تتوعد الأمم الكافرة بسنة الله الماضية في أهل الشرك والكفر {وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58].
قال ابن كثير: "هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاباً شديداً إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود:101]. وقال تعالى: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:8، 9]" [تفسير ابن كثير 3/47].
وهذه السنة لا مهرب منها ولا محيص عنها، إذ هي قدر الله الذي لا يغلب، وقد يؤخره الله ليبلغ أجله، لكن {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]. قال القرطبي: "أي: أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره" [تفسير القرطبي 14/360].
2. الطغيان وظلم العباد:
ومن الأسباب التي تحل العذاب في الأمم استضعاف العباد وظلمهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59].
والظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) [أبو داود ح4902، الترمذي ح2511، أحمد ح19861]. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) [أبو داود ح4338، الترمذي ح2168، أحمد ح30].
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) قال ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] [البخاري ح4409].
وحكى الله عن مصارع الأمم الظالمة الطاغية كقوم عاد وثمود وفرعون، فقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:9-14]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ} [الأنبياء:11]. وقال: {فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج:45].
3. كثرة المعاصي والمنكرات وقلة الأمر بالمعروف:
ومن الأسباب التي تحل العذاب العاجل في الأمم فشو المنكرات وشيوعها، وذلك عندما تقصر الأمة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. وعن زينب بنت جحش أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحشٍ: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)) [البخاري ح3346، مسلم ح2880].(/7)
يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب)) [أحمد ح2629، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 10/193].
والمنكرات إنما تفشو وتظهر حين تقصر الأمة عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصبح المعصية في المجتمع ظاهرة مألوفة، وحينها تعم العقوبة الجميع ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) [ الترمذي ح2169، وقال: هذا حديث حسن، أحمد ح22790]
وعن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [ابن ماجه ح4019، وصححه الألباني ح3246 ].
قال القرطبي: "وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع". [تفسير القرطبي 1/401].
يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقابٍ)) [أبو داود ح3775، أحمد ح16]. قال أبو الطيب الآبادي: "قال القاري: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثر من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمهم العذاب. وقال العزيزي: لأن من لم يعمل إذا كانوا أكثر ممن يعمل كانوا قادرين على تغيير المنكر غالبًا، فتركهم له رضًا به" [عون المعبود 11/329].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر عليه العامة أن تغيره ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله تعالى في هلاك العامة والخاصة)) [أحمد ح،17267، الطبراني 17/138، ورجاله ثقات، قال ابن حجر: إسناده حسن، فتح الباري 13/4]. قال المباركفوري: "تصيبكم عامة بسبب مداهنتكم" [تحفة الأحوذي 6/329].
قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكرين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم" [تفسير البغوي 2/241].
والعقاب الدنيوي الذي ينزل بالجميع لا يعني الاشتراك في العذاب في الآخرة، بل كل يحاسب عن عمله، فعن أم سلمة مرفوعاً: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) [أحمد ح26056].
قال القرطبي: "فإن قيل فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم قيل يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاءا وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم))" [تفسير القرطبي10/120].
4. العتو والكبر والغرور:
والأمة العاتية المغرورة المستكبرة أمة تعرضت لعقوبة الله ونازعت الله ما يستحقه من الكبرياء والعظمة قال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52].
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: وأنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، إنهم كانوا هم أشد ظلماً لأنفسهم وأعظم كفراً بربهم وأشد طغياناً وتمرداً على الله من الذين أهلكهم من بعد من الأمم، وكان طغيانهم الذي وصفهم الله به، وأنهم كانوا بذلك أكثر طغياناً من غيرهم من الأمم" [تفسير الطبري 27/78].
{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
قال ابن كثير: "كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم. . وأكثر أموالاً وأولاداً، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم" [تفسير ابن كثير3/428].(/8)
وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصة بني إسرائيل عندما أصابهم شيء من العزة بالكثرة والعدد، فجاءتهم العقوبة من الله، وأصابتهم سنن الله العادلة التي تحيق بمن أصابه شيء من الكبر أو الغرور أو العزة بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطى جنوداً من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء؟ أو من يقوم لهؤلاء؟ - أو غيرها من الكلام - فأوحى إليه أن اختر لقومك إحدى ثلاث أما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم أو الجوع أو الموت، فاستشار قومه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله، فكل ذلك إليك، خر لنا، فقام إلى الصلاة، كانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة، فصلى ما شاء الله.
قال ثم قال: أي رب، أما عدو من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت.
فسلط عليهم الموت، فمات منهم سبعون ألفاً، فهمسي ـ أي: همس النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صدر الحديث ـ الذي ترون أني أقول: اللهم بك أقاتل وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) [أحمد ح23972].
5. الغلو في الدين:
((يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) [أحمد ح3238، ابن ماجه ح3029،الحاكم 1/456] قال المناوي: "إياكم والغلو في الدين أي التشديد فيه ومجاوزة الحد والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها "[فيض القدير 3/125]
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) [البخاري ح6744، مسلم ح2380].
قال النووي: "المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم , وابتداعهم , فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم".
قال ابن حجر عن المسائل الوارد ذمها في الحديث: "ما كان على وجه التعنت والتكلف" [فتح الباري 13/263].
ويفسر ابن تيمية الاختلاف على الأنبياء بالمخالفة لما فيه، قال ابن تيمية: "فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللاً ذلك بأن سبب هلاك الأولين ما كان إلا لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء، كما يقال: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه" [اقتضاء الصراط المستقيم1/36]. ومن غلو أهل الكتاب إطراؤهم المسيح وقولهم أنه ابن الله، ومثله طاعتهم المطلقة لأحبارهم ورهبانهم.
6. كفران النعم:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
يقول الطبري في بيان معنى الآية: "ولئن كفرتم أيها القوم نعمة الله فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه وركوبكم معاصيه إن عذابي لشديد، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي" [تفسير الطبري 13/186].
وحكى الله مصارع الأمم التي كفرت نعم الله فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. قال المناوي: "ما زال شيء عن قوم أشد من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما ثبتت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم، وفي الحِكم: من لم يشكر النعمة فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها. وقال الغزالي: والشكر قيد النعم، به تدوم وتبقى، وبتركه ينعقد وتتحول، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]" [فيض القدير 3/41].
وكما قال الله: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره" [ تفسير الطبري 13/121].
7. التنافس في الدنيا والشح بما فيها:
ومن أسباب العذاب الركون إلى الدنيا والتسابق فيها، وهو الداء الذي أهلك الأمم السابقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)) [أبو داود ح1698، أحمد ح2753، الحاكم ح1516، ووافقه الذهبي].
قال ابن حجر: "فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" [فتح الباري6/263].(/9)
وهو ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه حين حذرها من فتنة الدنيا والتسابق فيها فقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)) [البخاري ح4015، مسلم ح2961]. وقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [البخاري ح1465، مسلم ح1052].
فبسطة الدنيا على العباد سبب طغيانهم كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]. قال الطبري: "إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه فيكفر به لأن رأى نفسه استغنت" [تفسير الطبري30/253].
قال الله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْق لبغوا في الأرض ولمن ينزل بقدر ما يشاءَ} [الشورى:27]. قال ابن كثير: "أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً" [تفسير ابن كثير 4/116].(/10)
الاعتداء على ثروات المسلمين
إن العدوان على أموال الناس واقتصادهم من قبل الكفار، وأذنابهم المنافقين، لم يعد خافياً على أحد من المهتمين بأمر هذا الدين وأهله، حتى آل الأمر إلى أن يكون المال دُولة بين الأغنياء، الذين احتكروا المال، وأوقدوا فيه نار الربا، وأغرقوا الفقراء – وهم الكثرة من المسلمين – بسيل من الديون التي تتضاعف مع الزمن، فأكل القوي فيها الضعيف، ومحقت فيه بركة المال، وأُكل المال بالباطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأسوق فيما يلي بعض صور هذا العدوان على أمن الأموال والاقتصاد:
أولاً: التشبه بالكفار في حبهم العظيم للمال، وكونه غاية عندهم لا يبالون من أي جهة حصلوا عليه من حلال أو حرام، ولذلك صدروا إلى ديار المسلمين صنوفاً من البضائع المحرمة، وأدخلوا على مجتمعات المسلمين وسائل كثيرة من المعاملات المحرمة.
ومن أعظمها وأخطرها نشر الربا الصريح، واستحداث المعاملات المصرفية التي تقوم على الربا تارة، وعلى الجهالة والغرر تارة، وعلى التحايل تارة.
ولا يخفى ما في ذلك من محق لبركة المال، وغش وتحايل على المسلمين، وظلم للفقراء وما أكثرهم، وفي كل ذلك عدوان على أمن الناس في أموالهم، ومؤذن بعقوبة من الله عز وجل، قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )) (البقرة : 279,278).
ثانياً: استنزاف الكفار لأموال المسلمين، وسحب رؤوس أموال المسلمين إلى الاتجار بها في ديار الكفار.
ولا يخفى ما في ذلك من دعم لاقتصاد الكفرة، وفي المقابل إضعاف لاقتصاد المجتمعات المسلمة، فوق أن غالب هذه الاستثمارات الخارجية يقوم على الربا والتحايل والمعاملات المحرمة ، المهم عندهم كسب المال بأية وسيلة كانت، ولا يخفى ما في ذلك من إضعاف للمسلمين، ونهب لأموالهم، وتسلط على مقدراتهم.
ثالثاً: نشأ من غزو الكفار وعدوانهم على الدين والأخلاق والأعراض، والذي سبق الكلام عنه أن قل الخوف من الله عز وجل، وقل الوازع الديني، فانتشرت الجرائم ومنها السرقات، والاعتداء على أموال الناس بالقوة أو بالخلسة.
رابعاً: إشغال مجتمعات المسلمين باللهث وراء الدنيا، وجرهم إلى صنوف من المعاملات التي جعلتهم في دوامة من أمرهم، وجعلتهم في سعار شديد، وتنافس ممقوت على كسب المال.
وأذكر من ذلك تجارة الأسهم، التي في أغلبها هي أشبه شيء بالقمار والميسر، حيث يصبح الرجل غنياً ويمسى فقيراً، ويمسي عاقلاً ويصبح منهاراً كئيباً، وقد أدى هذا إلى عمى القلوب عن الآخرة، وعن شئون المسلمين ومآسيهم، وهذا ما يريده الأعداء الكفرة وإخوانهم المنافقون.
خامساً: تضييق الخناق على الجمعيات الخيرية للمسلمين، التي كان لها الأثر العظيم في مواساة فقراء المسلمين في كل مكان، وكفالة أيتامهم ودعاتهم، وطباعة الكتب الإسلامية ونشرها، ونصر المجاهدين في سبيل الله تعالى، وإغاثة اللاجئين والمنكوبين من المسلمين، ولم يقف الأمر عند التضييق، بل ذهبوا إلى مصادرة أموال هذه الجمعيات أو تجميدها، وتخويف الناس وإرهابهم من دعم هذه الجمعيات، أو الانفاق في وجوه الخير، فهل بعد هذا من عدوان على المال، بل إنه تعداه إلى العدوان على الأنفس، وإطعامها وكسوتها وإغاثتها.
سادساً: امتصاص الخيرات من الأراضي المسلمة، وبخاصة البترول والنفط، والتحكم في إنتاجه وأسعاره.
سابعاً: إغراق أسواق المسلمين بآلاف الأصناف من البضائع المختلفة، التي تستورد من بلاد الكفار .
وهذا بدوره يقوي اقتصاد الأعداء من الكفرة، ويجعل بلاد المسلمين بلاداً مستوردة ومستهلكة، لا منتجة مصدرة، بل إن الكفار يضعون العوائق أمام كون بلدان المسلمين مصنعة منتجة، تستغني عن مصانع الكفار، ولا يخفى ما في ذلك من عدوان على أموال المسلمين وإرادتهم، وإضعاف لاقتصادهم .
فوق ما في ذلك من تبعية للأعداء، وبخاصة فيما يتعلق بالغذاء والطعام. ولا يخفى على ذي لب أن أمة لا تمتلك ولاتنتج غذاءها فإنها لا تمتلك أمنها.
فالأمن على الغذاء ليس هو فقط أمن أكل وشرب، يأمن صاحبه فيه من الموت، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى أن يؤثر على أمن الدين والنفس والعرض، لأن المرأ تحت وطأة الجوع، معرض أن يتنازل عن دينه أو عن عرضه عياذاً بالله تعالى.
ثامناً: القيام بالحملات الدعائية الفاجرة الكاذبة، التي تروج السلع، وتخدع الناس، وتؤزهم إلى شرائها أزاً.
وبهذا تمتص الأموال من جيوب الناس، ولو كانوا كارهين.
ولا يخفى ما في ذلك من أكل لأموال الناس بالباطل، لأنه يقوم على الخداع والكذب والدجل.
وفي هذا عدوان على أموال الناس ولو كان برضاهم.(/1)
الاعتدال في الدعوة
يتناول الدرس أهمية الدعوة إلى الله وأن الدعوة إلى الله صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط ثم ذكر التفريط وصوره في مجال الدعوة، وذكر الإفراط ونماذج تدل عليه، ثم ذكر الوسط والاعتدال وأهم ضوابطه ومظاهره .
بسم الله ، ونصلي على رسول الله ، أما بعد : فإن موضوع الدعوة موضوع مهم ، فقد قال تعالى : [ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[33]] سورة فصلت ، أي : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ، وقال إنني من المسلمين , والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته ، وهي أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح إلا بها كما قال الله تعالى: [ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3] ] سورة العصر , فإن التواصي بالحقّ يلزم منه الدعوة إلى الحق ، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله تعالى في أصوله وفروعه .
إن الدعوة إلى الله صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط ، أما الطرفان فهما قسمان :
1- الإفراط : وهذا القسم إما أن يكون :
أ-إفراط في الدين : بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله , ولا يتسامح عن شيء الدين يتسامح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة ذهب يدعوهم دعاء الغليظ الجافي ، وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات، ومن الأمثلة على ذلك :
المثال الأول : رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية ، أو عند القيام إلى الركعة الرابعة جلسة الاستراحة ، فهو يرى أنها سنة ، ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتدّ عليه ، ويتكلم معه كأنه يقول بوجوبها ، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة .
المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع وضع يده اليمنى على اليسرى ، فيقول له : أنت مبتدع لا بد أن تسدل يديك ، مع أن المسألة مسألة اجتهادية ، وقد يكون الدليل مع من قال : إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر ؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه سهل بن سعد رضي الله عنه قال : [كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ] رواه البخاري وأحمد ومالك.
المثال الثالث : كذلك بعض الناس ينكر على من يصلّي إذا تحرك أدنى حركة ، وإن كانت هذه الحركة مباحة ، وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر ، فقد كان أبو جحيفة رضي الله عنه ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده ، فتقدمت الفرس ، فذهب رضي الله عنه وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً ؛ حتى انتهى من صلاته ، فرآه رجل فجعل يقول : انظروا إلى هذا الرجل , فلما سلم أبو جحيفة بيّن لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز، وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل.
كذلك جاء عن أَبَي قَتَادَةَ أنه قال : [ بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ صَبِيَّةٌ يَحْمِلُهَا فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ وَيُعِيدُهَا إِذَا قَامَ حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد ومالك , وهذا فيه حركة و ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤمّ الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الطفلة , ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم - وهو أتقى الناس لله تعالى وأعلمهم بما يتقي - كان يفعل ذلك .(/1)
المثال الرابع : جاء عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال : جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : [ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي] رواه الشيخان والنسائي وأحمد .
المثال الخامس : وهناك من يكون شديداً على أهله ، بحيث لا يتسع صدره لما يكونون عليه من الأمور المباحة ، فتجده يريد منهم الالتزام بشريعة الله ، وهذا غير صحيح ، فالواجب عليه إذا رآهم على منكر أن ينهاهم عنه، أما إذا رآهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي له أن يشتد معهم ، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليه إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا يضيق بهم ذرعاً ، وأن لا يشتد عليهم .
وهذا كله يدل على أنه لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله ، سواء أكان في دعاء غيرنا إلى دين الله ، أم في أعمالنا الخاصة بنا ، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى بذلك ، وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول: } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153] { سورة الأنعام , والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : [لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ] أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ومالك والدارمي كلهم من حديث ابن عباس ، وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى بكفه , وجعل يقول : [بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ] رواه النسائي عن ابن عباس .
ب-إفراط ضد الدين : ومن التطرف ما يكون من بعض الآباء والأمهات في زمننا هذا , حيث صاروا يضايقون الشباب الطيبين من بنيهم وبناتهم ، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف ، مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ،ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف ، كمن يقول لأولاده: لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض ، أو الاثنين، أو الخميس , وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة ، وهذا على خطر ، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة ؛ لأن الله تعالى يقول : } ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ[9] {سورة محمد , ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى : } وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[217] { سورة البقرة .
2- التفريط : فهو من يتهاون في الدعوة إلى الله تعالى , فتجده يرى الفرص مواتية للدعوة إلى الله ، ولكن يضيع ذلك ، وذلك لأعذار يعتذر بها مثل :
1- أن يملي عليه الشيطان أن هذا ليس وقتاً للدعوة.
2- أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منه .(/2)
3-اليأس من صلاح صاحب المعصية : فبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه ، واشمأز منه ، وابتعد عنه ، مع أن الله سبحانه بيّن لنا أن نصبر ، قال الله تعالى لنبيه : } فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ[35] { سورة الأحقاف ,4-الخوف من الضرر البدني : مع أن الإنسان يجب عليه أن يصبر ، وإذا رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة، فليجعل ذلك في ذات الله تعالى ، فهذا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ : [ هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد عن جندب بن سفيان.
5-الخوف من تفرق الأمة : فنسمع أن بعض الناس يقول : يجب أن تجعل الأمة الإسلامية طائفة واحدة غير متميزة ، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة ، وهذا لا شك خطأ وخطر ؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل ، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبيّن، أما لو اندمج الناس جميعاً، وقالوا :نعيش كلنا في ظل الإسلام، وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام، فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
6-الخوف من الضرر المعنوي : يوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله ، ويشاهدون الناس يخلّون في أشياء ، ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم .
ضوابط الاعتدال في الدعوة
1- فالذي ينبغي للإنسان سواء أكان داعية لغيره إلى الله ، أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير، مستقيماً على دين الله تعالى كما أمر الله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: } شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [13] { سورة الشورى , وإقامة الدين: الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله تعالى
2- إذا دار الأمر بين الشدة واليسر فإنه يسلك طريق التيسير ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ] رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة ,ولما بعث معاذاً و أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: [ يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ]، ولما مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال السّام عليك يا محمد – يريد الموت عليك ؛ لأن السام بمعنى الموت - وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت : [[عليك السّام واللعنة ]] فقتال لها النبي عليه الصلاة والسلام : [ إن الله رفيق يحب الرفق ، وإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف ]، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: [ إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف] عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن استعمل الشدة ، أو استعمل السهولة كان الأولى أن أستعمل السهولة ثقة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: [ إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف ].
3-الحذر من الفرقة : وقد نهى عن ذلك سبحانه وتعالى؛ لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات , كما قال الله تعالى: } وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ …[46] {سورة الأنعام، فإذا تنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم، ولم يكن لهم وزن ، وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً ، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق ، وهم الذين يشعلون ناره ، فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه،ويدل على ذلك قوله تعالى : }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105] {سورة آل عمران ، وقوله: }إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ….[159] {سورة الأنعام ، وقوله : }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ …[13] { سورة الشورى .(/3)
والصحابة -رضوان الله عليهم - حصل بينهم اختلاف حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ، ومن ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه يَوْمَ الْأَحْزَاب: [ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ] أخرجه الشيخان عن ابن عمر، فعندما حان وقت صلاة العصر اختلف الصحابة ، فمنهم من قال : لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : [لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ] فنقول سمعنا وأطعنا .
ومنهم من قال : إن النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج، وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم ، ولم يتفرقوا من أجل اختلاف الرأي في فهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق، وأن نكون أمة واحدة .
الموقف من أصحاب البدع
إن البدع تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول: بدع مكفرة .
القسم الثاني: بدع دون ذلك .
والواجب علينا في القسمين أن نتبع مرحلتين :
المرحلة الأولى : أن ندعوهما إلى الحق ببيانه بأدلته ، دون أن نهاجم ما هم عليه إلاّ بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق .
المرحلة الثانية : إذا بين الحق فلم يستجب له وكانت البدعة مكفرة وجب هجر صاحبها ،وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر إلى الأمر، فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه،وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : [لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين، والصلحاء المصلحين إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملخص من الاعتدال في الدعوة ….. للشيخ ابن عثيمين(/4)
الاعتدالُ الإسلاميّ استحقاقٌ حضاريّ
محمد أبو رمان 21/12/1426
21/01/2006
ثمة خطاب فكري وسياسي عربي، يصدر في أغلبه من معاقل العلمانيين واليساريين العرب، ينظر بعين الريبة والاتهام إلى مفهوم "الإسلام المعتدل" بدعوى أنّ هذا المفهوم أصبح اسماً حركياً تستخدمه الإدارة الأميركية لتفريغ الإسلام من محتواه النضالي والجهادي، وللانقلاب على الحركات الإسلامية المقاتلة، بافتعال حروب داخل النشاط الإسلامي، تتولى فيها التيارات الإسلامية المعتدلة الحرب، بالوكالة عن الولايات المتحدة، على التيار الإسلامي المتشدد، وتكون محصلة ذلك خدمة المصالح الأميركية في المنطقة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه بعض الدراسات والرؤى الصادرة عن مراكز الخبرة والتخطيط الأميركية لهذه الدعوى، كدراسة (راند) "الإسلام المدني الديمقراطي"، التي توصي بدعم الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين العرب لمواجهة الإسلام الراديكالي. إلا أنّ ذلك لا يعني الانسياق وراء هذه القراءة المختزلة لنجعل قيم الاعتدال والوسطية والعقلانية في الإسلام وكأنها "وصفة غربية" دخيلة على المجتمعات العربية والمسلمة، ونجعل – في المقابل- التطرف والتشدد بمثابة الأصل والجوهر العام الذي يصبغ أحكام الإسلام وتشريعاته!
بالتأكيد هناك دعاوى أميركية لإيجاد صيغة من الإسلام المهجن الوديع، لا يتناقض مع المصالح الأميركية في المنطقة العربية. لكن هذه الصيغة المطروحة تتناقض مع منطق الإسلام ذاته أولاً، ولن يكتسب أي تيار إسلامي، أيا كانت توجهاته، يقبل بالصيغة الأميركية أي دور اجتماعي فاعل ثانياً. والموضوع- من ناحية أخرى- لا يرتبط بطبيعة الخطاب الإسلامي بقدر ما يرتبط بمصالح سياسية على أرض الواقع، تحكم بدرجة رئيسة طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والحركات الإسلامية وغيرها من القوى العربية أينما وُجدت. إذ يمكن أن تتحالف الإدارة الأميركية مع أكثر التيارات الإسلامية تشدداً وتطرفاً إذا كانت مصالحها تقتضي ذلك، ويمكن أن تعادي أكثر التيارات الإسلامية اعتدالاً وفقاً لاعتبار المصالح.
ولماذا نذهب بعيداً فلدينا أمثلة ملموسة واضحة؛ فتقرير مؤسسة (راند) ذاته يدعو إلى استخدام "الإسلام التقليدي" في مواجهة "الإسلام الثوري"، ومن المعروف أن الإسلام التقليدي يمثل حالة من الانغلاق ورفض الاجتهاد والتجديد العقلاني في الرؤى والتشريعات الإسلامية. كما تعتمد الحكومات العربية على اتجاهات تقليدية متعصبة في مواجهة الإسلام العقلاني المعتدل. حتى "الجهاد الأفغاني" فقد تم توظيفه - بامتياز- من قبل الولايات المتحدة والحكومات العربية المحافظة في مواجهة الاتحاد السوفيتي والحكومة الموالية لموسكو في أفغانستان، ولما انتهت وظيفته جعلوا منه مصدر تهديد ليخدم مصالح أميركية أيضاً!
وفي الوقت الذي رفض فيه البرلمان التركي، الذي يسيطر عليه حزب (العدالة والتنمية) المعتدل جداً، أن يسمح للقوات الأميركية بالانطلاق من الأراضي التركية في حرب العراق الأخيرة، فإنّ "قوى إسلامية شيعية" ساهمت- وهي جد متشددة مقارنة بالعدالة التنمية- باحتلال العراق وخدمة أجندات إقليمية.
ما سبق يطرح أسئلة مشروعة على ما يُسمى بوصفات الإسلام المعتدل والمتطرف؛ فمن الأقدر على التعبير عن مصالح الشعوب العربية والمسلمة والدفاع عنها وخدمتها: الإسلام المعتدل العقلاني أم الإسلام المتطرف المأزوم؟! وأي خدمة أسدتها خلايا القاعدة للمحافظين الجدد وإسرائيل في أحداث 11 أيلول؟ من كان المستفيد الأول والأهم من هذه الأحداث ومن مثيلاتها في لندن وباريس ومدريد وشرم الشيخ وعمان؟ ومن يمثل المقاومة الحقّة التي تخدم العراقيين: هل هو الزرقاوي وجماعته وخطابه وممارساته النزقة التي تدفع باتجاه احتراب داخلي وفوضى قاتلة؟ أم المقاومة الوطنية والإسلامية القادرة على توظيف السلاح لخدمة المصالح السياسية وقيادة مشروع الاستقلال والبناء والحوار الداخلي؟
حتى في المنظور التاريخي، وفي سياق تحليل الشروط الواقعية، فإنّ الإسلام المعتدل انتشر في فترات الانفتاح والازدهار واللحظات التي شهدت قدرة من النظام العام على الاستجابة للتحديات ومواجهة الأسئلة الكبرى. بينما انتشرت تيارات التطرف والتشدد في فترات الأزمات والإخفاق، وعجز هذا النظام عن مواجهة التحديات. وما فِرَق الخوارج والحشاشين إلا نتاج أزمات كبرى في الخبرة الإسلامية، أدّت دوراً تخريبياً دموياً. ومثلت رؤى منحرفة خطيرة ابتعدت عن مقاصد الإسلام وغاياته، وكانت بمثابة انعكاس للأزمات والشروط التي أنتجتها أكثر منها تعبيراً عن الإسلام ورسالته الإنسانية والأخلاقية.
وفي هذا العصر، خرجت حركات التطرف والتشدد الإسلامي من أتون الأزمات ومن رحم المعتقلات والسجون والتعذيب. أما مجموعات وخلايا القاعدة المنتشرة في كثير من دول العالم، فهي رد خاطئ على أزمات سياسية ومجتمعية، أخفق النظام العام بإيجاد فرص ومناهج صحيحة للتعامل معها.(/1)
الإسلام المعتدل الوطني يمثل تعبيراً عن مصالح المجتمعات العربية وبوابة للعبور إلى المستقبل، وهو التهديد الحقيقي للنظم الاستبدادية العربية الغارقة في الفساد السياسي وفي الاستئساد على الداخل والانبطاح أمام الخارج. في المقابل لطالما استخدمت هذه الحكومات الجماعات الأصولية المتطرفة ذريعة لها لعدم القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، ومصادرة حق المجتمعات والأفراد في ممارسة سياسية نقية حرة بعيداً عن عصا الأمن والإرهاب الرسمي. فجعلت هذه النظم من "الإسلام السياسي" (بعبعاً) أمام الإعلام الغربي. في الوقت الذي حاصرت فيه الخطاب الإسلامي المعتدل وأغلقت عليه القنوات والمنافذ.
والإسلام العقلاني هو الذي يمتلك مفاتيح إدارة الصراع- الحوار الناجح مع الغرب، والدفاع عن مصالح المجتمعات والدول الإسلامية بطريقة فاعلة صحيحة، بعيداً عن العمليات العدمية التي تضر أولاً وأخيراًَ بالشعوب والمجتمعات والجاليات المسلمة، وخارج سياق الخطاب المأزوم المرتبك الذي يسير وعيونه إلى الماضي وأزماته لا المستقبل وفرصه!
الإسلام المستنير هو الجواب على أزمة المجتمعات العربية الفكرية والسياسية ومعضلة الارتباك بين التراث والمعاصرة، والقدرة على المواءمة بين شغف المسلمين الروحي واستحقاقات العصر، وبناء رؤى إسلامية للمشكلات المعاصرة التي تعاني منها المجتمعات العربية: الاقتصاد والتنمية، النهضة الوطنية، الاندماج القومي، المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة، حقوق المرأة والأقليات، وفي صوغ مفاهيم لممارسة اجتماعية وفردية إسلامية حضارية.
ما تحتاج إليه هذه المجتمعات اليوم هو اجتهاد فكري إسلامي يدفع بالتناقضات بعيداً عن حياة المسلمين، ويدمجهم في دورة التاريخ والفعل، بدلاً أن يكونوا ظواهر احتجاج وغضب على كل ما حولهم. وبدلاً من تقديم نماذج مشوهة تصور الإسلام وكأنه دين القرون الوسطى ومحاربة الجديد واحتقار المرأة والتعصب والجهل المدقع!
الخطاب الإسلامي المعتدل الوسطي العقلاني هو الأصل في التعبير عن جوهر الإسلام ومقاصده، وليس وليد اليوم، أو بدعة غربية، إنما استحقاق حضاري وحاجة اجتماعية ملحة. بينما التطرف المنغلق المأزوم يمثل تعبيراً بامتياز عن أزمة سياسية ومجتمعية واقتصادية تقتضي العلاج(/2)
الاعتماد على تواطؤ الرؤى
د.فهد بن عبد الرحمن اليحيى الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم/قسم الفقه 14/4/1424
14/06/2003
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله، النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين وبعد ...
فقد كثر الحديث عن الرؤى في هذا الزمن ، وأصبح البعض يسرد الرؤى في إثبات حوادث معينة ، أو في الدلالة على دنوّها وقربها ، وقد يكون من تلك الحوادث ما قد جاء في الأحاديث الصحيحة كالمهدي ، والدجال ونحو ذلك .
ولما رأيت ذلك وأدركت خطورته ، رغبت أن أكتب ما أرجو به من الله التوفيق والسداد لبيان ما ينبغي بيانه في هذا الباب ، لينتفع به كل طالب للحق .
وقد اقتصرت على ما يتعلق بموضوع الاعتماد على الرؤى كالاستناد إلى معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه : « إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ »، وإلى تواطؤ الرؤى والعمل بها ونحو ذلك دون التفصيل في جميع ما يتعلق بالرؤى حيث قد كُتب فيه وأُلقي ما تحصل به الكفاية .
حديث إذا اقترب الزمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب...»(1).
فما معنى اقترب الزمان ؟ .
ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (2) أقوالا في معناه فمنها :
أن معناه تقارب زمان الليل والنهار ، وهو وقت الاعتدالين.
وإن كان قد رجح أن معناه اقتراب آخر الزمان،ويؤيد هذا المعنى رواية الترمذي:«في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب »(3).
فإذا قيل : نحن في آخر الزمان فينطبق علينا هذا الحديث .
فنقول : إن « آخر الزمان » أمر نسبي ، بمعنى : أن كل جيل بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أنه في آخر الزمان ؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«بعثت أنا والساعة كهاتين »(4).
وفي الصحيحين (5)عن عبد الله بن عمر قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد قال ابن عمر فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن .
ففي هذا الحديث إشارة من ابن عمر أن من الناس من كان يظن قيام الساعة في نهاية المائة الأولى من الهجرة .
ومن المعلوم على مر التاريخ من لدن قرن الصحابة رضي الله عنهم إلى القرن الذي نعيش فيه وكل قرن يظنون أنهم في آخر الزمان .
وعلى هذا فتنْزيل : « آخر الزمان » على واقع معين ليس دقيقاً ، وما يدرينا فلعل بيننا وبين الساعة أكثر مما مضى من الزمان بيننا وبين عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وعلى كل حال فلا ينبغي الاستدلال بهذا الحديث على مزية الرؤى في زماننا والأخذ بها والدلالة على تصديقها(6).
التواطؤ في الرؤيا
تكلم البعض عن التواطؤ في الرؤيا ، وأن الرؤيا إذا تواطأت دل ذلك على صدقها ؛ بل جزم بعضهم بصدقها بمجرد هذا التواطؤ ؛ بل ورتبوا على هذا الصدق العمل بمقتضى ما دلت عليه .
ولا بد هنا من الإشارة أولاً إلى مستند ما يقال عن التواطؤ لدى البعض .
ذلكم هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما : « أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر »متفق عليه(7).
ثم من تمسك بهذا النص أضاف إليه قول ابن حجر : " في هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا ، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية ، بشرط ألا يخالف القواعد الشرعية "(8)، وقال في موضع آخر:"ويستفاد : أن تواطؤ جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما يستفاد:قوة الخبر من التوارد على الأخبار من جماعة "(9).
وهاهنا وقفات مهمة :
1 - هل يمكن اعتبار الرؤيا هنا وحدها هي المستند لدى النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين ليلة القدر ؟ .
لا يمكن القول بذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما يستند إلى الوحي ، وإنما استأنس النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرؤيا .
ثم هل يمكن قياس غيره عليه ؟ .
كلا ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - وحده الذي يتلقى منه التشريع ، فيكون المعتبر للمسلمين في تعيين ليلة القدر في السبع الأواخر ، أو تأكيدها فيها هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وقوله .
2 -يدل على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم استأنس برؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه في الأذان ، وأخذ بالأذان فيها (10)، ذلك الأذان الذي لا يزال شعار المسلمين من لدن ذلك العهد إلى أن تقوم الساعة ، مع أن تلك الرؤيا لم تتواتر ويتواطأ عليها جماعة من الصحابة .(/1)
إذاً ، فالمعتمد ليس هو الرؤيا ، وإنما المعتمد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعه ، والتشريع يكون بأسباب وطرائق شتى .
ومن ذلك أيضا :
ما جاء في المسند (11)عن ربعي بن حراش عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال من أنتم قالوا نحن اليهود قال إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله فقالت اليهود وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مر برهط من النصارى فقال من أنتم قالوا نحن النصارى فقال إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال هل أخبرت بها أحدا قال عفان قال نعم فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها قال لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد .
ومن هنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استفاد من الرؤى لم يتوقف على تواطئها، ولذا كانت رؤيا عبد الله بن زيد سبباً في مشروعية الأذان، مع عدم وجود التواطؤ فيها .
وكذلك الرؤيا الأخرى كانت سبباً للتنبيه على هذا الخطأ في الألفاظ ، مع عدم تحقق التواطؤ فيها .
مع أن كلاً من الأذان والخطأ في الألفاظ أعظم شأناً من مجرد تعيين ليلة القدر في السبع الأواخر؛ لا سيما الأذان .
وعلى هذا فقد يقال : إن مقتضى هذه الأحاديث إذاً الأخذ بالرؤى وإن لم تتواطأ ، والجزم بصدقها ، والعمل بمقتضاها، وهذا لا يقولون به لبُعده .
فيلزمهم الإجابة عن حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه ، وحديث الطفيل فإن أجابوا بأن العبرة والمستند هو تشريع النبي صلى الله عليه وسلم ، قلنا : كذلك يجاب عن حديث ابن عمر - رَضِيَ الله عَنْهُمَا - ولا فرق .
وخلاصة الأمر : أن التواطؤ الوارد في الحديث لا ينبغي أن نأخذ منه أن تواطؤ الرؤى يحمل على الجزم بها بإطلاق ؛ حيث لا دلالة فيه على ذلك كما تقدم .
3 -أما ما ذكره ابن حجر - رحمه الله - فنقول : إما ألا يسلم بمعنى الجزم بالرؤيا ، ولكن يمكن اعتباره كقرينة لا أكثر ، وكلامه يشعر بذلك ، وقد تقدم ما في الاستدلال بحديث ابن عمر - رَضِيَ الله عَنْهُمَا - من النظر .
وإما أن يقال : قد علَّق ابن حجر ذلك بألا يخالف القواعد الشرعية ، وما يفعله البعض بوضع الرؤى في منْزلة لم يجعلها الشارع لها مخالف للقواعد الشرعية .
وعلى التسليم بكلام ابن حجر واستدلاله فإنما يجري كلامه على التواطؤ الصحيح التام بشروطه ، وهذا ما سأشير إليه في الوجه التالي .
4 -على فرض التسليم بأن التواطؤ يمكن اعتباره دليلاً على صدق الرؤيا ، فإن التواطؤ هنا له شروط من أهمها : صدق من رأى تلك الرؤيا ، فمن أين لنا في هذا الزمن رجالاً كصحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ .
إن من يدعي التواطؤ في بعض الرؤى إنما يعتمد على من لا يمكن الجزم بصدقه وثقته ؛ بل وكثير منهم مجاهيل ؛ كمن يقول : اتصلت بي امرأة ، أو شيخ كبير ، أو طفل..... ، أو عن طريق الهاتف ، وآخر يقول رأت ابنة صديقي ، أو زوجة أحد المشايخ ... في الله هل هؤلاء يفرح بهم في (ادعاء التواطؤ ؟)، وبعضهم أحسن أحواله أن يكون مستور الحال .
فإذاً لا يمكن اعتبار التواطؤ إلا ممن هو معروف بصدقه وثقته وصحة عقله ، فهذا شرط .
ثم شرط ثانٍ وهو : العدد في التواطؤ .
ثم هناك شروط أخرى مثل : ألا تكون الرؤيا من حديث النفس ، أو من وسوسة الشيطان، فإذا دلت القرائن على احتمال كونها كذلك فلا ينبغي التعويل عليها ، فقد تتوارد الرؤى لدى جماعة من الناس في أمر لكثرة تفكيرهم فيه .
فإذا تردد في النفوس أن عهد المهدي ربما قرب زمانه وردده الناس في مجالسهم ، فما الذي يمنع أن يتحول لدى البعض إلى رؤيا مما يحدث نفسه ؛ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الرؤيا ، وأن منها ما يحدث المرء نفسه(12).
أما تدخل الشيطان في هذا التواطؤ فغير بعيد ، بمعنى: أن الشيطان قد يأتي لهذا ولذاك من أجل أن يصل إلى تصديق الناس بتلك الرؤيا ؛ ثم يعملون بمقتضاها ، فيتحقق له ما يريد من فتنة ، أو إرجاف ، أو تحزين ، كما في تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه قريبا أن الرؤيا قد تكون تحزيناً من الشيطان .
والتحزين قد لا يكون بالرؤيا السيئة فقط ؛ بل قد يكون بالرؤيا الحسنة من الشيطان ، والتي يتعلق بها الشخص ويترقب حصولها ؛ ثم لا تحصل فيقع الحزن حقاً للرائي وبكل من صدقه في رؤياه .
وقد وجدنا أمثلة واقعية لتواطؤ رؤى ؛ ثم انجلى الأمر وظهر أنها من الشيطان .(/2)
فمن ذلك قصة محمد القحطاني في فتنة الحرم عام 1400 هـ حيث تواترت الرؤى بأن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي وهي رؤى كثيرة ؛ ثم في آخر الأمر قتل هذا الرجل وعرف الناس أنه ليس المهدي ، وإن كان أهل العلم قد عرفوا ذلك من قبل .
ومهما حاول البعض أن ينفي وجود التواطؤ في هذه الرؤى فإنه لم يصنع شيئاً ؛ لأن تلك المنامات قد اشتهرت ، والقول بأنها لم تصل إلا إلى بضع عشرة ، وفي أقصى احتمال أنها أربعون ، قد خالفه آخرون فقالوا : إنها كانت أكثر من ذلك ؛ ثم بضع عشرة رؤيا ألا تعتبر تواتراً ، فضلاً عن أربعين رؤيا ؟! .
وأما القول بأن ما وقع من تلك الرؤى قد يكون من حديث النفس فلا عبرة به ، وإنما العبرة بالتواطؤ في الرؤى التي ليست من هذا القبيل ، فهذا هروب لا يفيد شيئاً، إذ هذه دعوى تحتاج إلى دليل، فأهل ذاك الزمن كانوا يجزمون أنها ليست من حديث النفس؛ ثم من يضمن لنا أن تواطؤ الرؤى الآن ليس من قبيل حديث النفس؛ بل ومن وسوسة الشيطان وحِيَلِه؟! ؛ ثم على كل الأحوال هو اعتراف بأن التواطؤ في الرؤى قد يعتريه ما يمنع الأخذ به، ولذا فلا يمكن الركون إليه، حتى على القول بأهميته .
وفي أفغانستان كثرت الرؤى بأشياء كثيرة وانتصارات ، ولم يحصل من ذلك شيء ، وقد كنت أقول للبعض : إن تحزين الشيطان بالرؤيا قد يكون بمثل هذه الرؤى ، إذ يتعلق الناس بها ويعلقون كل آمالهم عليها ، وبعد ذلك لا يرون شيئاً ، فيقع الحزن ؛ بل والشك في نفوسهم ، وهذا من أعظم ما يفرح به عدو الله إبليس ، نعوذ بالله منه ومن وساوسه .
5 -على فرض التسليم أن التواطؤ دال على صدق الرؤيا، وأن التواطؤ حصل في بعض الرؤى التي تذكر هذه الأيام ، فها هنا ثلاثة أسئلة مهمة :
أحدها : هل هذه الرؤى فيها تحديد زمان بعينه ؟
إن المتتبع لرؤى الصالحين ؛ بل وحتى الأنبياء-عليهم السلام-لا يجد تحديداً إلا في القليل منها ، فمثلا رؤيا يوسف-عليه السلام-المذكورة في أول سورة يوسف:(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(13)، لم تتحقق إلا بعد سنوات طويلة ، ولم يكن يعلم بذلك ولم يكن في الرؤيا دلالة عليها .
قال ابن حجر في الفتح(14):واختلف في المدة التي كانت بين الرؤيا وتفسيرها , فأخرج الطبري والحاكم والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن سلمان الفارسي قال " كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما " وذكر البيهقي له شاهدا عن عبد الله بن شداد وزاد " وإليها ينتهي أمد الرؤيا " وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري قال : كانت مدة المفارقة بين يعقوب ويوسف ثمانين سنة وفي لفظ ثلاثا وثمانين سنة , ومن طريق قتادة خمسا وثلاثين سنة , ونقل الثعلبي عن ابن مسعود تسعين سنة , وعن الكلبي اثنتين وعشرين سنة قال وقيل سبعا وسبعين , ونقل ابن إسحاق قولا أنها كانت ثمانية عشر عاما والأول أقوى والعلم عند الله ا.هـ
وكذلك رؤى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ كرؤياه أنه يهاجر إلى المدينة ، ورؤياه في البقر التي تذبح وغيرها ليس فيها إشارة إلى الزمن(15).
نعم في رؤيا الملك):وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون)(16) كان هناك تحديد للسبع لكن بدايتها ليست محددة فيما يظهر،وعلى كل حال فهذه من القليل التي فيها التحديد مع أن قياس غير الأنبياء على الأنبياء -عليهم السلام-غير صحيح ذلك أن تعبير الأنبياء حق وصدق ووحي بخلاف غيرهم ممن يخطئ ويصيب.
السؤال الثاني:أن التواطؤ إنما هو في غالب الأمر فيما يعتقده المعبِّر بتعبيره:
أي: ليست الرؤى تحكي مثالاً واحداً يراه أولئك، أو يرون أمثلة متشابهة، وإنما يعتقد المعبّر أن تعبير هذه الرؤيا، خروج المهدي مثلاً، والرؤيا الثانية يعبرها بخروج المهدي، وإن كانت مختلفة، وهكذا الثالثة والرابعة، .....إلخ .
فنقول : هل تعبير المعبّر مجزوم بصدقه وإصابته؟!
لقد عبّر أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وقد كان معروفاً بالتعبير وهو أبو بكر رضي الله عنه ، ومع ذلك لم يصب وأخطأ في تعبير تلك الرؤيا(17). فما بالنا نجزم بتعبير هؤلاء المعبرين ؟ .
السؤال الثالث : وهو المهم هنا ، على فرض التسليم بأن للتواطؤ أثراً ،وبأن بعض الرؤى قد تواطأت وفق الشروط المعتبرة ، ولزم من ذلك صدقها ، فهل يترتب على هذا أمر عملي ؟ وهل المسلم مطالب بأن يرتِّب خططه وإستراتيجيته بناءً على تلك الرؤيا ؟ ، وهل يترقب ذلك الموعود في الرؤيا ؟ .
أجيب عن هذا في الفقرة التالية .
هل يترتب على الرؤيا عمل ؟(/3)
يذهب البعض إلى أن الرؤيا إذا صدقت لكونها بلغت مبلغ التواتر كما يقولون أو مبلغ التواطؤ واعتقدنا صدقها أننا نبني على هذا العمل بمقتضاها وترتيب الأمور وفق ما دلت عليه.ويستدل على ذلك بأدلة، منها :
1 -قصة يوسف - عليه السلام - في رؤيا الملك : ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون(45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون) (49) (18).
فيوسف عليه السلام رتب على هذه الرؤيا عملاً ، حيث قال :( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ)
2 -حديث ابن عمر رضي الله عنهما : « أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر » متفق عليه(19) وقد تقدم .
فرتب عليه العمل فقال: فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر .
3 -قصة ثابت بن قيس :
فعن عطاء الخراساني قال : قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني عن حديث ثابت بن قيس بن شماس، فأرشدوني إلى ابنته ، فسألتها فقالت : سمعت أبي يقول : لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(20)اشتد على ثابت وأغلق بابه عليه..... الحديث إلى أن قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة، فلما استنفر أبو بكر رضي الله عنه المسلمين إلى قتال أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب سار ثابت بن قيس فيمن سار ، فلما لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قتلا ، قال وأُري رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه فقال : إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعا نفيسة، ومنْزله في أقصى العسكر وعند منْزله فرس يستن في طوله وقد أكفأ على الدرع برمة ، وجعل فوق البرمة رجلا ، فائت خالد بن الوليد فليبعث إلى درعي فليأخذها ، فإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أن عليّ من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق ، وإياك أن يقول هذا حلم تضيعه .
قال فأتى خالد بن الوليد فوجه إلى الدرع فوجدها كما ذكر ، وقدم على أبي بكر رضي الله عنه فأخبره فأنفذ أبو بكر رضي الله عنه وصيته بعد موته ، فلا نعلم أن أحدا جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/322) : "رواه الطبراني ، وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح ، والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية ، فإنها قالت : سمعت أبي ، والله أعلم " .
هذا ما يمكن الاستدلال به للعمل بالرؤى ، والجواب عن هذه الاستدلالات ما يلي :
1-أما الآية فقد قدمنا أن غير الأنبياء لا تقاس رؤاهم على رؤى الأنبياء - عليهم السلام - ؛ لأنها وحي إلهي ، وكذلك تعبيرهم لا يقاس على تعبير الأنبياء ، كما تقدم ؛ لأنه مؤيد بالوحي .
2-أما الحديث : « أرى رؤياكم قد تواطأت » ، فقد قدمنا أن العمل ليس بمقتضى الرؤى ؛ وإنما هو بمقتضى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وقوله .
3-أما قصة ثابت بن قيس ؛ فليت شعري من لي بصحتها فإن الهيثمي تردد قليلاً فيها ؛ حيث حكم على ابنة ثابت بالجهالة، ولم يجزم بصحبتها .
وعلى فرض صحة هذه القصة فمن لنا بمثل الصحابة - رضي الله عنهم - فالرائي فيها والمرئي والناقل والحاكم كلهم صحابة عدول ، فهل لنا بمعشارهم ؟ ! .(/4)
بل في القصة ما يفيد أن ذلك لم يحدث في غيرها حتى في عصر الصحابة ، وإنما أنفذوا الوصية فيها لما احتف بها من قرائن .
وعلى التسليم بعموم الاستدلال بها هل مجرد إنفاذ وصية شخصٍ من الناس لا يتعدى الضرر فيها - لو وجد - هَذا الشخصَ ومالَه وأهلَه وهو ضرر نسبي فيها يتعلق بالوصية .
هل ذلك كمثل الأخذ بالرؤيا لدفع الأمة إلى أمر خطير وتعبئة الناس لعمل لا يسلم من دماء وأموال ؟! .
لا شك أن إلحاق هذا بذاك مما لا يقره لبيب فقيه ، وقد قال الشاطبي - رحمه الله - في هذه القصة: "إنها قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها؛ فلعل الورثة رضوا بذلك "(21).
وقد يستدل البعض على العمل بالرؤيا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة »(22).
وقد جاءت أحاديث بهذا المعنى وان اختلفت في النسبة ؛ حيث في بعضها كما هنا جزء من ستة وأربعين، وفي بعضها جزء من سبعين(23)وذكر بعضهم في ذلك خمسة عشر لفظاً ، وللعلماء كلام في توجيهها ، ليس هذا موضع بسطه .
أقول : قد يستدل البعض بذلك فيقول: ما دامت الرؤيا جزءاً من النبوة فإن النبوة لا تكذب ، وعلى هذا فهي صادقة ويترتب عليها عمل .
فأقول وبالله التوفيق : إن مما يدل على فساد هذا النظر أنه ينتهي بصاحبه إلى الزيادة على التشريع والله تعالى يقول : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم)ٌ (24).
حيث إن المقدمتين المذكورتين وهما كون الرؤيا من الوحي وكون الوحي لا يكذب ، تؤديان إلى هذه النتيجة . فقد يحتج علينا الآخذون بالرؤى في الأحكام الشرعية بهاتين المقدمتين (25).
وقد يقول قائل :وهل في هاتين المقدمتين شك ؟ .
نقول : إن هذا هو مكمن الخطورة ؛ حيث إن الإطلاق ، وعدم فهم كون الرؤيا جزءاً من النبوة يوقع في الخلل ، وفي هذا يقول الشاطبي - رحمه الله - : " وربما قال بعضهم : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال لي : كذا ، وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال ، إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوَّغتها عمل بمقتضاها ، وإلا وجب تركها ، والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة ، وأما استفادة الأحكام فلا ، فلو رأى في النوم قائلاً يقول : إن فلانا سرق فاقطعه ، أو عالم فأسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحده ، وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقول له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملاً بغير شريعة، إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي .
ولا يُقالُ : إن الرؤيا من أجزاء النبوة ، فلا ينبغي أن تُهْمَلَ ، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد قال : « مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي حَقَاً ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّل بِي » فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة .
لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ؛ بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ؛ بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صُرِفَتْ إلى جهة البشارة والنذارة .
وأيضاً ، فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، قد تتوفر ، وقد لا تتوفر .
وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون بسبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة ؟ ويلزم أيضاً على ذلك أن تكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهي عنه بالإجماع .
يُحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهديِّ ، فلما رآه قال : « عليَّ بالسيف والنِّطْع ، قال : ولم يا أمير المؤمنين ؟ قال: « رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي ، وأنت معرض عني ، قصصت رؤياي على من عبَّرها ، فقال لي : يظهر لك طاعة ، ويضمر معصية ، فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيى المهدي ، وقال : اخرج عني ؛ ثم صرفه وأبعده » ا.هـ(/5)
سؤال : لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن فلاناً هو المهدي ، فهل يأخذ بذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ رآني فقد رأى الحق، وفي لفظ فقد رآني، لا يتمثل الشيطان بي »(26).
الجواب:قد تضمن كلام الشاطبي قاعدة في هذا ، وهي : أن الأخذ بالرؤيا على الإطلاق خطأ محض .
وأما الجواب عن الحديث فقد قال ابن حجر - رحمه الله - : "وقوله لا يستطيع أن يتمثل بي " يشير إلى أن الله تعالى - وإن أمكن الشيطان من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم -، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث : إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها"(27).
وذكر الحافظ - أيضاً - عن أيوب قال : " كان محمد - يعني ابن سيرين - إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : صف لي الذي رأيته ، فإذا وصف له صفة لا يعرفها قال : لم تره" . وسنده صحيح .
قال الحافظ : "ووجدت له ما يؤيده : فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب : حدثني أبي ، قال: قلت لابن عباس : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : صفه لي ، قال : ذكرت الحسن بن علي ، فشبهته به ، قال : قد رأيته ". وسنده جيد .ونحو ما قال ابن حجر قال آخرون كابن رشد والشاطبي(29).
فعلم من هذا أن مجرد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لا تدل قطعاً على أنه شخصه الشريف حتى تنطبق عليه الصفات .
وهنا تنبيه مهم وهو أن تطبيق صفة النبي صلى الله عليه وسلم المنقولة في السنة على الشخص المرئي في المنام قد يعتريها الخطأ ، ومن أجل هذا فلا ينبغي الجزم بكون النبي صلى الله عليه وسلم هو المرئي ، وعليه فما كان من أمرٍ منه في المنام فإنه يُعرض على الشرع من جميع الجوانب .
وقد ذُكر أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ، فقال له : اذهب إلى موضع كذا فاحفره فإن فيه ركازاً فخذه لك ، ولا خمس عليك فيه ، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع ، فحفره فوجد الركاز فيه ، فاستفتى علماء عصره فأفتوه بأن لا خمس عليه لهذه الرؤيا، وأفتى العز بن عبد السلام بأن عليه الخمس ، وقال : أكثر ما ينْزل منامه منْزلة حديث صحيح ، وقد عارضه ما هو أصح منه ، وهو حديث في الركاز الخمس(30).
فانظر إلى فقه العز بن عبد السلام حيث لم يُبالِ بهذه الرؤيا في مخالفة ما جاء في الشرع ، ولم يكن له حاجة أن يتأكد من صفات من رأى ، ومثل ذلك ما جاء عن ابن رشد أنه سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية فلما نام الحاكم رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : « مَا تَحْكُم بِهَذِهِ الشَّهَادَة فَإِنَها بَاطِلة » ، فأجاب ابن رشد : لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا وذلك باطل (31).
فإذا تبين أن الرؤيا صالحة ومن رجل صالح ، وظهر لنا صدقها وأنها ستقع ، فلا بأس بكل ذلك من غير جزم، ولكن لا ينبغي بحال أن يرتب المسلم عليها عملاً بناء على أنها جزء من النبوة ؛ لأنك مهما عرفت صدق الرائي وصلاحه ، وصدق الرؤيا وصلاحها فلا يمكن الجزم بأنها جزء من النبوة ؛ ثم مع كل ذلك فلا يجوز التعامل معها ، كما نتعامل مع الوحي ، وإلا كان ذلك هو عين ما يفعله المبتدعة ، وكان تشريعاً من دون الله استناداً إلى المنامات .
فالرؤيا لا تعدو أن تكون بشارة - كما أشار الشاطبي ، وكما سنشير إليه في الفقرة التالية - ولا يجوز وضعها بمنْزلة الوحي في العمل بموجبها ، لا من حيث الوجوب، ولا من حيث الجزم بها .
وقد استشهد البعض بكلامٍ لأهل العلم يحمله على صحة العمل بالرؤيا ولا سيما إذا تواطأت . فمن ذلك :
ما تقدم من كلام الحافظ ابن حجر حول حديث ابن عمر - رَضِيَ الله عَنْهُمَا - : « أرى رؤياكم قد تواطأت » وقد تقدم الكلام عليه ومناقشته .
ومن ذلك ما ينقله البعض عن شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ حيث قال في منهاج السنة
:"والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات (32)المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت وجبت ، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال : وجبت وجبت ، فقالوا : يا رسول الله ، ما قولك : وجبت وجبت ؟ ، قال : هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت : وجبت لها النار ، أنتم شهداء الله في الأرض » .
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار ، قالوا : بم يا ر سول الله ؟ ، قال : بالثناء الحسن والثناء السيء » .(/6)
وقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن الصالح ، أو ترى له ، وسئل عن قوله تعالى : ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)ُ (33) قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له » . وقد فسرها - أيضا - بثناء المؤمنين فقيل : يا رسول الله، الرجل يعمل، العمل لنفسه فيحمده الناس عليه ، فقال : « تلك عاجل بشرى المؤمن » .
والرؤيا قد تكون من الله ، وقد تكون من حديث النفس ، وقد تكون من الشيطان ، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقا ، كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم فإن الواحد قد يغلط أو يكذب وقد يخطئ في الرأي ، أو يتعمد الباطل ، فإذا اجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة وإذا تواترت الروايات أورثت العلم ، وكذلك الرؤيا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر ، فمن كان منكم متحريها فيلتحرها في السبع الأواخر » . اهـ .
والجواب عن مثل هذه النقول ما يلي:
أولاً : قد قلت : إن البعض يستشهد بها ، وإن كان سياق بعضهم إنما هو استدلال لا استشهاد، وهذا لا يستقيم مع كلام غير المعصوم صلى الله عليه وسلم فإن كلام غيره يستدل له ولا يستدل به كما هو معلوم مقرر مجمع عليه . وإذا كان كذلك كان الواجب على المسلم أن يتأمل النصوص الشرعية وما تحتمله دون أن يتلمّس من أقوال العلماء ما يوافق استدلاله وإن كان قد لا تحتمله دلالة النصوص .
ثانياً : إن سياق مثل هذا الكلام في إثبات أن الرؤيا يترتب عليها عمل ، هو سياق في غير محله وتحميل لكلام شيخ الإسلام ما لا يحتمل ، وإذا تأملت كلامه هنا وجدت أنه يتكلم عن صدق الرؤيا فإن التواطؤ يدل على صدقها ولم يجعل ذلك سبباً للعمل بها كما قد يفهم البعض منها العمل بالرؤى .
وقد بينا فيما تقدم أنه لا تلازم بين اعتقاد صدق الرؤيا وبين العمل بمقتضى ذلك .
بل إن شيخ الإسلام هنا إنما يتحدث عن أمر لا يترتب عليه عمل أصلاً ، وهو بشارة للمؤمن حياً أو ميتاً بأنه من أهل الجنة ولم يجعل ذلك سبباً لعمل معين .
ثالثاً : قد بينا فيما تقدم أن التواطؤ إذا قيل به فإنما يقال به عند تحقق شروطه ، وعليه يحمل كلام شيخ الإسلام وغيره ممن ذكر التواطؤ، أما تواطؤ لا ندري ما هو وكيف هو وبمن حصل ، فحاشا شيخ الإسلام أن يقول به ، وحاشاه من التعلق بالرؤى ، والاعتماد عليها .
رابعاً : إن شيخ الإسلام - رحمه الله - قد بيّن في مواضع أخرى أن الاعتماد على الرؤى خطأ، فقد قال في الفتاوى(33):" ..وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء ( يعني القبورية ): أن يدعي أنه رأى مناما أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه إما رائحة طيبة وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك وإما حكاية عن بعض الناس أنه كان يعظم ذلك القبر .
فأما المنامات فكثير منها بل أكثرها كذب وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأى منامات تتعلق ببعض البقاع أنه قبر نبي أو أن فيه أثر نبي ونحو ذلك . ويكون كاذبا وهذا الشيء منتشر . فرائي المنام غالبا ما يكون كاذبا وبتقدير صدقه : فقد يكون الذي أخبره بذلك شيطاناً . والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق " .
وقال في الرد على المنطقيين(34): " وأما الرؤيا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام ورؤيا من الشيطان فقد بين الصادق المصدوق أن من الرؤيا ما هو من حديث النفس ومنها ما هو من وسوسة الشيطان وقد امرنا سبحانه أن نستعيذ من هذين الوسواسين في قوله قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الناس ولا بد من التمييز بين الصدق والكذب وليس فيما ذكروه ولا فيما يذكره غيرهم ما يميز بين هذا وهذا ولا يميز بين هذا وهذا مطلقا إلا الأنبياء ولهذا أمرنا الله أن نؤمن بكل ما جاء به الأنبياء فإنهم معصومون لا يقرون على الخطأ فيما يبلغونه عن الله باتفاق المسلمين قال تعالى قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ، وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين .
ولهذا كان أهل الرياضة والزهد والعبادة من الصوفية وغيرهم يرون أشياء في الباطن يظنونها حقا ويكون باطلا ولهذا يقول من يقول من أهل العلم كأبى القاسم السهيلى وغيره نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي وهذا مما كان يقوله شيخه أبو بكر بن العربي ".(/7)
وقال في درء التعارض (35) في كلامه عن الكشف : " وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه يظنه من الله تعالى حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج كما سمعه موسى بن عمران ومنهم من يكون ما يراه شياطين و ما يسمعه كلامهم وهو يظنه من كرامات الأولياء وهذا باب واسع بسطه موضع آخر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه " ا.هـ
فإن قيل : إذا لم يترتب على الرؤيا عمل فما فائدة الرؤيا ، وما موقف المسلم منها؟
جواب هذا في الفقرة التالية :
الرؤيا مبشرات
في البخاري في كتاب التعبير ( باب المبشرات ) وساق فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة"(36).
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ...الحديث(37).
وفي الترمذي في كتاب الرؤيا (باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) ثم ساق الحديث عن المختار بن فلفل حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي "قال فشق ذلك على الناس ،فقال : لكن المبشرات . قالوا : يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال :" رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة "(38).
وعند الإمام أحمد (39) وابن ماجه(40) عن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذهبت النبوة وبقيت المبشرات .
وعند الإمام أحمد (41)عن أبي الطفيل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبوة بعدي إلا المبشرات ، قال : قيل وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال : "الرؤيا الحسنة أو قال الرؤيا الصالحة ".
وعند الإمام أحمد أيضا(42)عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات . قالوا : يا رسول الله وما المبشرات ؟ قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له ".
قد تأملت هذه النصوص كثيراً فوجدت أنها تؤكد هذا المعنى أن الرؤيا بشارة ، وكأن في هذا قصراً لها على هذه الغاية وهي أن تكون بشارة للمسلم ، ولا مانع أيضاً أن تكون بشارة لجماعة المؤمنين أي : للأمة ، وقد تقدم من كلام الشاطبي ما يفيد هذا المعنى ؛ حيث قال: "وإنما فائدتها البشارة، أو النذارة خاصة" .
وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن نضع الرؤيا موضعاً أبعد من هذا الغرض، فالرؤيا حين يراها المسلم لنفسه أو ترى له تبعث في نفسه التفاؤل ؛ لكنه لا يركن إليها ولا يغتر بها ، ولا يرتب أموره على وفقها ، فهي تشبه بعض المعالم على الطريق التي توحي لك أنك على الجادة ، لكنك لا يمكن أن تعدّل مسارك على وفقها ؛ لأنها غير مؤكدة .
ولذا قال الإمام الرباني الفقيه حقاً أحمد بن حنبل - رحمه الله - : " الرؤيا تسر ولا تغر "، فعن المروذي قال: أدخلت إبراهيم الحُصْري على أبي عبد الله - أي: الإمام أحمد - وكان رجلاً صالحاً فقال : إن أمي رأت لك مناماً ، هو كذا وكذا ، وذكرت الجنة ، فقال : يا أخي ، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا ، وخرج إلى سفك الدماء، وقال : الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره .
وعن محمد بن يزيد قال : كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة ، فإذا أخبر بها اشتد بكاؤه ، وقال: " قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان " .
وعلى هذا فالمؤمن يسير وفق ما أمره الله تعالى في جميع أموره ، وعلى المنهج الصحيح الذي يأخذ بالأسباب وبكل ما ينبغي الأخذ به ، وعلى وفق ما يعلم من الواقع أو ما يتوقعه من المستقبل حسب المعطيات الصحيحة ، لا مجرد منامات الله أعلم بها ثم بعد ذلك لا يضيره أن يستأنس بالرؤيا ويتفاءل بها فقد كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل(43).
هل تكون الرؤيا إنذاراً وتحذيراً ؟
يجيب الحافظ ابن حجر نقلا عن المهلب (44).
: " التعبير بالمبشرات خرج للأغلب ، فإن من الرؤيا ما تكون منذرةً وهي صادقة يريها الله للمؤمن رفقاً به ليستعد لما يقع قبل وقوعه " اهـ .
وأقول : إن الإنذار هو بشارة في المآل كما دل عليه كلام المهلب .(/8)
فرق بين تحليل الأحداث والاعتماد على الرؤى
قد يتحدث البعض عن توقعات المستقبل ، ولا أحد يحجر على الناس توقعهم وتحليلهم للأحداث .. .
ولكن حينما يجزم البعض بذلك مستنداً إلى الرؤى فهنا يكمن الخطر، وهذا ما يُنكر من وضعٍ للرؤيا في غير موضعها .
هذا المسلك مشتمل على محذورين :
أحدهما : الاعتماد على الرؤى .
والثاني : الجزم بالحدث المتوقع .
وكلاهما محذور حتى لو انفرد بنفسه فكيف إذا اجتمعا ؟!
ولذا فمن اعتمد على الرؤى ، وإن لم يجزم لم يسلم من الخطأ ، ومن جزم بتوقعاته وتحليلاته للمستقبل ، وإن لم يعتمد على الرؤى فقد جانب الصواب أيضاً .
ويضاف إلى هذا أن توقعات المستقبل التي لا تستند إلى معطيات مدروسة من الواقع ، وسَبْر للأحداث المتعاقبة ، ودراية باستراتيجيات الدول وأهدافها ونحو ذلك تصبح تلك التوقعات ضرباً من التخرص والرجم بالغيب ينأى المسلم بنفسه عنها ،وهي لا تفيد مسار الأمة شيئاً حين تخلو من تلك المقوّمات .
وعلى هذا فيمكن إيجاز ضوابط التوقعات والاحتمالات المستقبلية ، أو ما يمكن تسميته باستشراف المستقبل بما يلي :
1-أن تكون ثمرةً لدراسة بل لدراسات عميقة للأحداث الماضية ولأهداف الدول واستراتيجياتها وخططها المستقبلية .
2-أن تكون ذات أكثر من احتمال ، فإن التوقع المقتصر على احتمال واحد فيه قصور ظاهر .
3-ألا تكون بصيغة الجزم واليقين .
خروج من يدعي المهدي
قد يذكر البعض ما يتعلق بالمهدي من رؤى وأنه يوشك أن يخرج ، ويجزم بذلك بناءً على تواطؤ الرؤى كما يقال .
ومع ذلك يذكر أن هناك من الرؤى ما يفيد خروج من يدعي أنه المهدي ، ولا يكون كذلك .
والسؤال هنا : ما الأسباب لخروج من يدعي أنه المهدي ؛ بل ربما التبس عليه الأمر وتوهم أنه المهدي وانخدع بذلك من يتبعه ؟!
لا أشك أن من أعظم الأسباب هو الاعتماد على الرؤى كما حدث في قضية محمد القحطاني التي أشرنا إليها سابقاً .
وحينئذٍ فإن ما أخشاه هو أن يكون من يردد الرؤى عن المهدي مشاركاً في خروج المهدي المُدّعي الذي حذر منه بنفسه بناءً على الرؤى التي وجدت .
اعتماد الرؤى وتنزيل أحاديث الفتن
إن الاعتماد على الرؤى منهج خطير كما أسلفنا ، وإذا أضيف إليه تنزيل أحاديث الفتن على الواقع، فقد اقترن منهج خطير بمنهج خطير .
إن تنزيل أحاديث الفتن وأشراط الساعة على الواقع مزلة أقدام ، وكم شطحت فيه من أحلام وضل فيه فئام . ولذا فإن على المسلم ألا يتعجل في هذا الباب ؛ بل الإعراض عنه أسلم .
وقد وقفت حول علامات الساعة ونحو ذلك مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع فتن وملاحم فظهر لي أن النصوص ليس فيها تطلّب معرفة تلك العلامات والبحث عنها ؛ بل الظاهر أنها تقع فيعرف أهل العلم بعد وقوعها أنها هي التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل يعرف ذلك كل من كان عنده منها علم، ولو قيل: إن علمهم بها يقع في نفوسهم لا يتكلفونه لم يكن ذلك بعيداً.
ولم أجد في النصوص ما فيه تحرٍّ لمعرفته سوى الدجال نعوذ بالله منه ، وليس فيها التحري والبحث بل فيها التحذير منه ، فإن التحذير قد ورد في النصوص خشية الالتباس فيه إذا خرج ،مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحذر من اعتقاد شخص أنه الدجال وليس كذلك ؛ بل حذرنا من اللبس في شأن الدجال إذا خرج وعدم معرفته .
وهذا قد يفيد أن وجود الالتباس أن شخصاً ما هو الدجال بعيد ، ومع هذا أيضاً فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب(45).
وفي هذا إشارة إلى العناية العظيمة بالإيمان وبكل ما يزيده ويكمله ، وأن النجاة من الدجال ليست بالعقل والثقافة ، وإنما تكون بالإيمان والعمل الصالح حتى إن المؤمن يُهدى لمعرفته ، وإن كان أمياً لا يعرف القراءة فيقرأ في جبين الدجال أنه كافر .
وإذا كان هذا في شأن الدجال فهو أيضاً في شأن أشراط الساعة الأخرى أيضاً وفي أحاديث الفتن والملاحم .فعلى المسلم أن يأخذ بالمنهج النبوي القائم على الاعتماد على كل ما من شأنه زيادة الإيمان من علم نافع ، وعمل صالح يشمل ذلك أعمال القلوب والجوارح ؛ ثم الأخذ بالأسباب على وفق قوله تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(46)وغير ذلك من الآيات .
أما المشتغل بالتنزيل فلا أظنه إلا سينشغل عما هو أهم منه .
ومن أمثلة التنزيل الخطير تنزيل البعض ما جاء في السفياني على صدام حسين وهذا من أعجب ما رأيت من التنزيل فإن ما جاء في السفياني ليس فيه من المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث واحد أو اثنين ولم يثبت عند أهل العلم بالحديث شيء منها .(/9)
ولو ثبت فليس في الحديث المرفوع الوارد علامة يمكن انطباقها على صدام حسين ، وأما بقية ما ورد فيه من موقوفات على الصحابة أو آثار عن غيرهم ، كما في الفتن لنعيم بن حماد ، فإنها تذكر تفصيلات كثيرة فيها تعارض فيما بينها؛ ثم إنها بمجموعها تزيد انطباقها على صدام حسين بُعداً(47).
ثم ليت شعري ماذا يقول الآن هؤلاء بعد ما حدث لصدام ، ولاسيما حين يتبين موته أو لجوؤه .
سؤال : قد يقول قائل إذا لم يكن للتنزيل فائدة وللبحث والتحري أهمية فلم تذكر النصوصُ تلك الأحداثَ والأشخاصَ ..؟!
والجواب من وجوه:
1-يمكن أن يقلب السؤال فيقال فما الفائدة إذاً من ذكر الدابة وطلوع الشمس من مغربها والخسوف الثلاثة وأمثال ذلك مما لا يمكن معرفته إلا بوقوعه ، والغالب ألا يشتبه أمره ، بمعنى أن البحث عن كون هذه هي الدابة مثلاً أم لا ، لا حاجة له ، والله أعلم.
2-أن الفائدة من ذلك هي اليقين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإخبار عن المغيبات من علامات نبوته ؛ ثم اليقين بأن علامة من علامات الساعة قد وقعت كما في حديث جبريل - عليه السلام - : «وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا».
3-أننا نقول لمن يتكلف البحث عن المهدي أو عن السفياني أو عن الرجل القحطاني الذي يسوق الناس بعصاه ، هل هذا التكلف من أجل نصرته ؟ (48).
إن المهدي يقوم بهذا الدين كما يقوم به غيره من المصلحين ، ولكنه سيكون أصلح منهم وأتقى لله ، فيجري الله على يديه من الخير ما لم يكن لمن قبله ، وعلى هذا فإن واجب النصرة لا يختص بالمهدي ؛ بل بكل مصلح قائم لله بالحق فلا حاجة للتكلف في البحث عنه ؛ بل المسلم الذي ينصر المصلحين ويؤيدهم سيكون أول الناس نصرةً للمهدي إن أدركه حتى لو لم يعلم بذلك إلا فيما بعد .
وتأمل في أحاديث المهدي ، أو نزول عيسى بن مريم - عليه السلام - لتجد أن من أكرمهم الله فصاروا جنداً لهم لا يركنون إلى ما ورد في الأحاديث فيها ، وهم بلا شك على علم بها مع أن تلك الأحاديث واضحة الدلالة في أن العاقبة والنصر والتمكين للمهدي، وكذلك لعيسى بن مريم - عليه السلام -، حين ينزل بعده أو في زمنه كما صرحت بذلك بعض الروايات .
ولا يستريب مسلم أن من أدرك المهدي أو عيسى عليه السلام فقعد عن نصرتهما اتكالاً على أنهما سينصران كما في الأحاديث فذلك الضلال بعينه .
ونزيد قضية المهدي إيضاحاً فنقول :
ـ لم يأت في الأحاديث أنه يُستدل على المهدي بالرؤى والمنامات ولا أنها تسبقه.
ـ لم يأت في الأحاديث التحذير من الالتباس في أمره كما جاء ذلك في الدجال؛ بل الظاهر أن المهدي إذا خرج عرفه المسلمون دون التباس.
ـ ومن تأمل الأحاديث تبين له أن المهدي لا يبتدع أمراً جديداً يحتاج فيه إلى إيمان الناس به ؛ بل إنما هو قائد مصلح كغيره من المصلحين كما تقدم .
فكما أن كل مصلح قائم لله بالحق تجب إعانته ما دام عمله وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك المهدي حين يقوم فإنما يقوم معه من كان يتمثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب)(49).
وعلى هذا فلا حاجة إلى الترقّب والتطلع والبحث عن المهدي وعن قرب زمنه ؛ بل يجب الاشتغال بما أمر الله تعالى به من العلم النافع والعمل الصالح ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله تعالى ، وإعانة كل داع إلى الخير ، وآمر بالمعروف ، وناهٍ عن المنكر ، ومجاهد في سبيل الله .
فمن فعل ذلك فهو حريّ أن يكون من أول أنصار المهدي إن أدرك زمنه ، وإن لم يدرك زمنه فقد فعل ما ينبغي فعله من المسلم الذي يعمل لدين الله ويرجو ثواب الله .
4 -أن من خفيت عليه علامة من علامات الساعة ، أو لم يتيقن أن هذا الحدث هو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان في حقيقة الأمر كذلك فلا لوم عليه ، وليس الإيمان بذلك على الواقع من مستلزمات الإيمان أو أركانه أو شروطه ، وإنما الواجب هو الإيمان بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وأما معرفته في واقع الأمر فقد يمنع منه موانع كثيرة لا يلام المسلم فيها ما دام ذلك لم ينشأ عن عدم تصديق بالنصوص أو شك فيها .
وختاماً فإن الجزم بأن كذا هو الوارد في الحديث من أحاديث الفتن وعلامات الساعة ، ربما حمل البعض على الشك بها ، أو حملهم على نوع من السخرية ، ومثل ذلك الاعتماد على الرؤى .(/10)
وقد قال الله تعالى:( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون)َ(50).
وبيان ذلك أن هذا الجزم سيتبين عاجلاً في اختبار دقيق على صفحة الواقع ، فإذا لم يقع ما جزم به من تكلم في أحاديث الفتن ، وما جزم بن المعبرّ ، فهنا ستجد المشككين في أصل الأحاديث والساخرين بشيء منها ، أو بالرؤى جملةً وتفصيلاً ، وإنما فتح هذا الباب من جزم .
وقفة أخيرة
هل تعبير الرؤيا فتيا ؟
نسمع أحياناً أن تعبير الرؤيا فتيا، وأن من عبّر بغير علم فكأنما أفتى بغير علم، وقد يُستدل بأن الله تعالى سمى تعبير الرؤيا فتيا ؛ كما قال تعالى : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان )(51) ، وقوله : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ )(52)،وقوله:(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)(53).
وقد يذكر في هذا الباب ما يُروى عن الإمام مالك - رحمه الله -(54)أنه سُئل : أيعبّر الرؤيا كل أحد ؟ ، فقال: أبالنبوة يُلعب ؟ ؛... إلى أن قال : الرؤيا جزء من النبوة ، فلا يتلاعب بالنبوة .
ولكنَّ إطلاق أن التعبير كالفتوى فيه نظر من وجوه :
1 - أن العلم المقصود بالرؤيا غير محدد ولا منضبط فهل المقصود أن يكون من المعبرين المشهورين ؟ .
هذا لا يمكن القول به لأنه تعليق على العرف ولربما كان معبرٌ غير معروف أكثر درايةً من المعروف، ثم إنه يلزم فيه الدور فقبل أن يعرف بأي شيء كان يعبر ؟!
إذاً فالعلم في تعبير الرؤيا لا يمكن ضبطه، بخلاف العلم بالفتيا فهو واضح منضبط فمن لم يعرف حكم المسألة بدليلها من كتاب أو سنّة فليس عنده علم في هذه المسألة إلا أن يكون ناقلاً عن غيره فيكون ناقلاً للفتوى وفي نقل الفتوى خلاف .
2 -أن هذا الإطلاق ( بأن التعبير كالفتوى ) يخالفه حديث ابن عباس - رَضِيَ الله عَنْهُمَا - في الصحيحين، في الذي رأى ظلة تنطف السمن والعسل – وقد تقدم - ، ففيه أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في تعبير الرؤيا فأذن له ، ولو كان التعبير كالفتيا من كل وجه لما تجرأ رضي الله عنه على ذلك، ثم لما أخطأ في تعبيره وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره بخطئه قال: لا تقسم ولم يخبره ، ولو كان التعبير كالفتيا لأخبره؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم .
3 -أما الآيات المذكورة فإن مجرد التسمية بالفتيا لا أثر لها ، فإن لفظ (أفتى) هو في اللغة بمعنى شرح وأبان ، قال في لسان العرب ( مادة فتا ): أفتاه في الأمر: أبانه له إلى أن قال : يقال : أفتيت فلاناً رؤيا رآها إذا عبّرتها له ، أ.هـ .
وقد ذكر الله تعالى الاستفتاء بمعنى السؤال قال سبحانه : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ)(55)، وقال سبحانه : فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون)(56)، فعلم من هذا أن اصطلاح (الفتوى والفتيا والإفتاء والاستفتاء) للمسائل الفقهية هو اصطلاح حادث لا يفسّر به القرآن ، والله أعلم .
4 -أما قول الإمام مالك رحمه الله فهو محمول على عدم التعجل في تعبير الرؤيا والتلاعب في ذلك ، وأما أن يجتهد الشخص في تعبير الرؤيا استناداً لما تدل عليه من رموز دون أن يجزم بذلك أو يُشعر الرائي أنه من أهل التعبير فلا يظهر المنع منه ، يدل لذلك حديث ابن عباس كما تقدم كما يمكن الاستدلال له بقول الملك في قصة يوسف عليه السلام: ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون) ولم ينكر يوسف عليه السلام سؤال الملك عن رؤياه عامةَ الناس .
والحاصل من هذا أن إطلاق أن من عبر من قبل نفسه رؤيا كمن أفتى في حكم من قبل نفسه إطلاق غير صحيح ، والله أعلم .
هذا آخر ما خطه القلم في هذه المسائل المتعلقة بالرؤيا سائلاً الله تعالى أن يكون قد ألهمني الصواب فيها وأن ينفع بها كاتبها وقارئها ، وما كان من صواب فمن الله وما كان غير ذلك فأنا حري بالخطأ.(/11)
والله أعلم وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
(1)-متفق عليه : البخاري (7017،6988) ، مسلم (2263) .
(2 )- 12/405 .
(3) - برقم(2291) .
(4 )- متفق عليه : البخاري(4936) ، مسلم (2950) عن سهل بن سعد رضي الله عنهما ، وكذلك أخرجه البخاري(6504) ، ومسلم (2951) عن أنس ، وأخرجه البخاري(6505) أيضا عن أبي هريرة ، ولابن حجر في شرح هذا الحديث كلام مهم في مناقشة من أخذ منه عمر الأمة أو أخذ ذلك من نصوص أخرى .
(5 )- البخاري(601) ، مسلم (2537).
(6)- مع العلم أن من العلماء من خص آخر الزمان في الحديث بالطائفة الباقية مع عيسى عليه السلام ، قال : لأنهم أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول وأصدقهم أقوالا . انظر الفتح12/406.
(7 )- البخاري(2015) ، مسلم (1165) .
(8)- الفتح (4/302) .
(9 )- الفتح (12/ 397) .
(10 )- القصة مشهورة مخرجة عند الإمام أحمد (16042) ، وأبي داود (498) ، والترمذي مختصرة (189) وقال حسن صحيح . والحديث صححه البخاري .
(11)-برقم (19773) كما أخرجه مختصرا ابن ماجه (2109)، والدارمي (2583 ) ورواته ثقات .
(12 )- أخرجه مسلم (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ونصه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاثة فرؤيا الصالحة بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء نفسه "، وقد أخرجه البخاري أيضا (7017) ، ولكن لم يجزم برفع هذا التقسيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
(13)- آية (4) من سورة يوسف .
(14)- 12/376 .
(15)- روى البخاري (2622) ومسلم (2272) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ثم هززته بأخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين ورأيت فيها بقرا والله خير فإذا هم المؤمنون يوم أحد وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر .
(16)- آية (43) من سورة يوسف .
(17)-أخرج البخاري(7046) ، ومسلم (2269) عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا قال أبو بكر يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبرنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعبرها قال أبو بكر أما الظلة فظلة الإسلام وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله به ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت قال لا تقسم .
(18)- الآيات (43-49) من سورة يوسف .
(19) البخاري(2015) ، مسلم (1165) .
(20)- آية (18) من سورة لقمان .
(21)- انظر : الموافقات (2/457) .
(22)-ثبت ذلك في أكثر من حديث ، منها حديث عبادة بن الصامت عند البخاري(6987) ، مسلم (2264) ومنها حديث أبي هريرة عند البخاري(6988) ، مسلم (2263) ومها حديث أبي سعيد عند البخاري(6989) ، وحديث أنس عند البخاري(6983) .
(23)-كما في حديث ابن عمر عند مسلم (2265).
(24)- آية (3) من سورة المائدة .
(25)- كما قال ابن عربي صاحب الضلالات والخرافات : " إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرةٍ رؤيا أريتها في العشر الأواخر من المحرم سنة 627 هـ بدمشق، وبيده كتاب ، فقال : هذا كتاب (فصوص الحكم) ، خذه واخرج به إلى الناس" .
(26)- ثبت ذلك في أكثر من حديث ، منها حديث أبي هريرة عند البخاري(110) ، مسلم (2266) ومنها حديث جابر عند مسلم (2268) ومها حديث أبي سعيد عند البخاري(6997) ، وحديث أنس عند البخاري(6994) .
(27)- الفتح (12/386) .
(28)- انظر : الاعتصام (1/260) .
(29)- شرح الزرقاني (2/101) من طريق كتاب المهدي وفق أشراط الساعة ، ص(331) .
(30)- انظر : الاعتصام (1/1260) .
(31)- (3/497-500) ،ومثل ذلك ما في الروح ص136، وإعلام الموقعين 1/84 كلاهما لابن القيم .
(32)- آية (64) من سورة يونس .
(33)- (27/457) .
(34)-1/482 .
(35)-5/352 .
(36)- البخاري(6990) .(/12)
(37)-مسلم (479) .
(38)-أخرجه الإمام أحمد (13412) والترمذي (2272) وقال : وفي الباب عن أبي هريرة وحذيفة بن أسيد وابن عباس وأم كرز وأبي أسيد قال هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث المختار بن فلفل .
(39)- برقم (26600) .
(40)- برقم (3896) .
(41)- برقم (23283) .
(42)- برقم (24456) .
(43)- في البخاري(5756) ، ومسلم (2224) عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قال قيل وما الفأل قال الكلمة الطيبة .وكذا أخرجاه من حديث أبي هريرة البخاري(5717) ، مسلم (2223) .
(44)- الفتح (12/375) .
(45)- في البخاري(7131) ، مسلم (2933) عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال الدجال مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر .وعند مسلم (2934) عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب .
(46)- سورة الأنفال : الآية (60) .
(47) -انظر كتاب الفتن لنعيم بن حماد ص165-219 ، فهذه أكثر من خمسين صفحة أتحدى من ينزل
السفياني على صدام أن يثبت من خلالها ذلك ؛ بل أن يخرج بصورة واضحة لما يسمى بالسفياني .
(48)- وهذا ينطق على المهدي فقط أما السفياني فالظاهر على فرض ثبوته أنه ليس من أهل الصلاح وكذلك الذي يسوق الناس بعصاه ليس في النصوص ما يدل على صلاحه حتى يتبع وينصر .
(49) سورة المائدة ، الآية (2) .
(50)- سورة الأنعام: الآية (108) .
(51)- آية (41) من سورة يوسف .
(52)- آية (43) من سورة يوسف .
(53)- آية (46) من سورة يوسف .
(54)- التمهيد1/288 ، وفي المنتقى للباجي 7/277 : سئل مالك عن رجل يعبر الرؤيا لكل أحد ؟ قال : أبالنبوة ....الخ .
(55)- سورة الصافات : الآية (11) .
(56)- سورة الصافات : الآية (149) .(/13)
الاعجاز العلمي في القران..
الإعجاز العلمى في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد ... الكاتبإثبات كروية الأرض
إن القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة . ومعنى ذلك أنه لا يجب أن يحدث تصادم بينه وبين الحقائق العلمية في الكون .. لأن القرآن الكريم لا يتغير ولا يتبدل ولو حدث مثل هذا التصادم لضاعت قضية الدين كلها .. ولكن التصادم يحدث من شيئين عدم فهم حقيقة قرآنية أو عدم صحة حقيقة علمية .. فإذا لم نفهم القرآن جيدا وفسرناه بغير ما فيه حدث التصادم .. وإذا كانت الحقيقة العلمية كاذبة حدث التصادم .. ولكن كيف لا نفهم الحقيقة القرآنية ؟ .. سنضرب مثلا لذلك ليعلم الناس أن عدم فهم الحقيقة القرآنية قد تؤدي إلى تصادم مع حقائق الكون .. الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز : ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا )سورة الحجر : 19 .. المد معناه البسط .. ومعنى ذلك أن الأرض مبسوطة .. ولو فهمنا الآية على هذا المعنى لا تّهمنا كل من تحدّث عن كروية الأرض بالكفر خصوصا أننا الآن بواسطة سفن الفضاء والأقمار الصناعية قد استطعنا أن نرى الأرض على هيئة كرة تدور حول نفسها .. نقول إن كل من فهم الآية الكريمة ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ) بمعنى أن الأرض مبسوطة لم يفهم الحقيقة القرآنية التي ذكرتها هذه الآية الكريمة .. ولكن المعنى يجمع الإعجاز اللغوي والإعجاز العلمي معا ويعطي الحقيقة الظاهرة للعين والحقيقة العلمية المختفية عن العقول في وقت نزول القرآن . عندما قال الحق سبحانه وتعالى : ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ) أي بسطناها .. أقال أي أرض ؟ لا.. لم يحدد أرضا بعينها .. بل قال الأرض على إطلاقها .. ومعنى ذلك أنك إذا وصلت إلى أي مكان يسمى أرضا تراها أمامك ممدودة أي منبسطة .. فإذا كنت في القطب الجنوبي أو في القطب الشمالي .. أو في أمريكا أو أوروبا أو في افريقيا أو آسيا .. أو في أي بقعة من الأرض .. فأنك ترها أمامك منبسطة .. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية .. فلو كانت الأرض مربعة أو مثلثة أو مسدسة أو على أي شكل هندسي آخر .. فإنك تصل فيها إلى حافة .. لا ترى أمامك الأرض منبسطة .. ولكنك ترى حافة الأرض ثم الفضاء .. ولكن الشكل الهندسي الوحيد الذي يمكن أن تكون فيه الأرض ممدودة في كل بقعة تصل إليها هي أن تكون الأرض كروية .. حتى إذا بدأت من أي نقطة محددة على سطح الكرة الأرضية ثم ظللت تسير حتى عدت إلى نقطة البداية .. فإنك طوال مشوارك حول الأرض ستراها أمامك دائما منبسطة .. وما دام الأمر كذلك فإنك لا تسير في أي بقعة على الأرض إلا وأنت تراها أمامك منبسطة وهكذا كانت الآية الكريمة ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ) لقد فهمها بعض الناس على أن الأرض مبسوطة دليل على كروية الأرض .. وهذا هو الإعجاز في القرآن الكريم .. يأتي باللفظ الواحد ليناسب ظاهر الأشياء ويدل على حقيقتها الكونية . ولذلك فإن الذين أساءوا فهم هذه الآية الكريمة وأخذوها على أن معناها أن الأرض منبسطة .. قالوا هناك تصادم بين الدين والعلم .. والذين فهموا معنى الآية الكريمة فهما صحيحا قالوا إن القرآن الكريم هو أول كتاب في العالم ذكر أن الأرض كروية وكانت هذه الحقيقة وحدها كافية بأن يؤمنوا .. ولكنهم لا يؤمنون(/1)
وهكذا نرى الإعجاز القرآني .. فالقائل هو الله .. والخالق هو الله .. والمتكلم هو الله .. فجاء في جزء من آية قرآنية ليخبرنا إن الأرض كروية وأنها تدور حول نفسها .. ولا ينسجم معنى هذه الآية الكريمة إلا بهاتين الحقيقتين معا .. هل يوجد أكثر من ذلك دليل مادي على أن الله هو خالق هذا الكون ؟ ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليؤكد المعنى في هذه الحقيقة الكونية لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يُري خلقه آياته فيقول : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ )سورة الزمر : 5 .. وهكذا يصف الحق سبحانه وتعالى بأن الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير .. وبما أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض معا فلا يمكن أن يكونا على هيئة التكوير .. إلا إذا كانت الأرض نفسها كروية . بحيث يكون نصف الكرة مظلما والنصف الآخر مضيئا وهذه حقيقة قرآنية أخرى تذكر لنا أن نصف الأرض يكون مضيئا والنصف الآخر مظلما ..فلو أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض غير متساويين في المساحة . بحيث كان أحدهما يبدو شريطا رفيعا .. في حين يغطي الآخر معظم المساحة , ما كان الاثنان معا على هيئة كرة .. لأن الشريط الرفيع في هذه الحالة سيكون في شكل مستطيل أو مثلث أو مربع .. أو أي شكل هندسي آخر حسب المساحة التي يحتلها فوق سطح الأرض .. وكان من الممكن أن يكون الوضع كذلك باختلاف مساحة الليل والنهار .. ولكن قوله تعالى :( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل ) دليل على أن نصف الكرة الأرضية يكون ليلا والنصف الآخر نهارا وعندما تقدم العلم وصعد الإنسان إلى الفضاء ورأى الأرض وصورها ..وجدنا فعلا أن نصفها مضئ ونصفها مظلم كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى : فإذا أردنا دليلا آخر على دوران الأرض حول نفسها لابد أن نلتفت إلى الآية الكريمة في قوله تعالى ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) سورة النمل : 88 .. عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجب .. لأن الله سبحانه وتعالى يقول :( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينيه .. ولكن هناك شيئا خلقه الله سبحانه وتعالى وخفى عن أبصارنا .. فمادمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة .. أي أن ما نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها .. ليس حقيقة كونية .. وإنما إتقان من الله سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة الخالق .. لأن الجبل ضخم كبير بحيث لا يخفى عن أي عين .. فلو كان حجم الجبل دقيقا لقلنا لم تدركه أبصارنا كما يجب .. أوأننا لدقة حجمة لم نلتفت إليه هل هو متحرك أم ثابت .. ولكن الله خلق الجبل ضخما يراه أقل الناس إبصارا حتى لا يحتج أحد بأن بصره ضعيف لا يدرك الأشياء الدقيقة وفي نفس الوقت قال لنا أن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مر السحاب . ولماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحرك الجبال ؟ .. لأن السحب ليست ذاتية الحركة .. فهي لا تتحرك من مكان إلى آخر بقدرتها الذاتية .. بل لابد أن تتحرك بقوة تحرك الرياح ولو سكنت الريح لبقيت السحب في مكانها بلا حركة .. وكذلك الجبال . الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليست لها حركة ذاتية أي أنها لا تنتقل بذاتيتها من مكان إلى آخر .. فلا يكون هناك جبل في أوروبا , ثم نجده بعد ذلك في أمريكا أو آسيا .. ولكن تحركها يتم بقوة خارجة عنها هي التي تحركها .. وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض .. فلا توجد قوة تحرك الجبال إلا إذا كانت الأرض نفسها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها . وهكذا تبدو الجبال أمامنا ثابتة لأنها لا تغير مكانها .. ولكنها في نفس الوقت تتحرك لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض , فهي تدور معها تماما كما تحرك الريح السحاب .. ونحن لا نحس بدوران الأرض حول نفسها ... ولذلك لا نحس أيضا بحركة الجبال وقوله تعالى : ( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) معناها أن هناك فترة زمنية بين كل فترة تمر فيها .. ذلك لأن السحاب لا يبقى دائما بل تأتى فترات ممطرة وفترات جافة وفترات تسطع فيها الشمس .. وكذلك حركة الجبال تدور وتعود إلى نفس المكان كل فترة . وإذا أردنا أن نمضي فالأرض مليئة بالآيات .. ولكننا نحن الذين لا نتنبه .. وإذا نبه الكفار فإنهم يعرضون عن آيات الله ... تماما كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حين قال له الكفار في قوله تعالى : ( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ(/2)
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ) سورة الإسراء : 90 - 91 .. وكان كل هذا معاندة منهم .. لأن الآيات التي نزلت في القرآن الكريم فيها من المعجزات الكثيرة التي تجعلهم يؤمنون ..
المصدر " الأدلة المادية على وجود الله " لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
إتساع الكون
أهم اكتشاف في سنة 1929 كان وقعه كالقنبلة عندما نشر في الأوساط العلمية , حتى اللحظة كان الاعتقاد السائد أن المجرات تسير في حركة عشوائية تشابه حركة جزئيات الغازات بعضها في تقارب والبعض الآخر في تباعد ولكن هذا الاكتشاف قلب ذلك الاعتقاد رأسا على عقب , لقد اكتشف هابل أن كل هذه الملايين المؤلفة من المجرات في ابتعاد مستمر عن بعضها بسرعات هائلة قد تصل في بعض الأحيان إلى كسور من سرعة الضوء وكذلك بالنسبة لنا فكل المجرات التى نراها حولنا - ما عدا الأندروميدا وبعض المجرات الأخرى القريبة - في ابتعاد مستمر عنا . ولنا الآن أن نتساءل عن معنى هذا الاكتشاف . إذا كانت وحدات الكون كلها في ابتعاد مستمر عن بعضها فإن ذلك لا يعنى إلا شيئا واحدا وهو أن الكون في تمدد حجمي أو اتساع مستمر قال تعالى : ( وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) الضوء كما نعلم مركب من سبع ألوان وكل لون منهم له موجة ذات طول وذبذبة معينة وأقصر موجة أعلى ذبذبة هي موجة اللون الأزرق وأطولها أوطاها ذبذبة هي موجة اللون الأحمر وعندما حلل هابل الضوء الصادر من المجرات التي درسها وجد أنه في جميع الحالات - ماعدا في حالة الأندروميدا وبعض المجرات الأخرى القريبة يحدث إنزياح تجاه اللون الأحمر وكلما زاد مقدار الإنزياح الأحمر زادت بُعدا المجرات عنا وبعد اكتشاف هذا الأمر ظهرت دلائل كميات كبيرة من الفجوات المظلمة وخلف هذه الفجوات جاذب هائل يؤدي بنا إلى الانزياح الأحمر يتمدد الكون ويتسع من نقطة البداية إلى الإشعاع الأحمر .. قد تبدو الآن معاني الآية الكريمة قريبة إلى أذهاننا بعد توصل العلم الى حقيقة أن الكون له بداية يتسع منها ويتمدد ( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) يقول سبحانه إنا بنينا السماوات وإنا لموسعون قول لا يحتمل التأويل , وهذا ما يحدث للكون الآن بل ومنذ بلايين السنين إتساع وتمدد مستمر السماوات تتسع والكون يتمدد وكما لاحظنا أن هذه الحقيقة ليست قائمة على نظرية أو إفتراض أو نموذج فحسب ولكن المشاهدات قد أثبتت هذه النظرية وإتفاق التجارب التي قام بها الكثير من الفلكيون في أزمان وأماكن مختلفة قد جعلت من هذه النظرية حقيقة علمية , إذ لم يظهر حتى الآن ما قد يعارضها أو ينال من صحتها فأصبحت حقيقة اتساع الكون كحقيقة دوران الأرض حول الشمس أو كروية الأرض
المصدر " آيات قرآنية في مشكاة العلم " د . يحيى المحجري
أسرار البحار(/3)
قال تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * ) المرجان : هذا نوع من الحلي لا يوجد إلا في البحار المالحة فقوله تعالى : ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) أي أن البحرين المذكورين مالحان فالاية تتكلم عن بحر يخرج منه مرجان وبحر آخر يخرج منه مرجان الأول ملح وهذا ملح متى عرف الإنسان أن البحار المالحة مختلفة وليست بحرا متجانسا واحدا لم يعرف هذا إلا عام 1942 في عام 1873 عرف الإنسان أن مناطق معينة في البحار المختلفة تختلف في تركيب المياه فيها .. عندما خرجت رحلة تشالنجر وطافت حول البحار ثلاثة أعوام وتعتبر هذه السفينة رحلة تشالنجر هي الحد الفاصل بين علوم البحار التقليدية القديمة المليئة بالخرافة والأساطير وبين الأبحاث الرصينة القائمة على التحقيق والبحث هذه الباخرة هي أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها لقد أقامت محطات ثم بقياس نتائج هذه المحطات وجدوا أن البحار المالحة تختلف والحرارة والكثافة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين وفي عام 1942 فقط ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت نتيجة لإقامة مئات المحطات البحرية في البحار فوجدوا أن المحيط الأطلنطي مثلا لا يتكون من بحر واحد بل من بحار مختلفة وهو محيط واحد لما جاءت مئات المحطات ووضعت ميزت .. هذه المحطات المختلفة أن هذا بحر ملح وهذا كذلك أيضا بحر مالح آخر .. هذا له خصائصه وهذا له خصائصه في إطار هذا البحر تختلف : الحرارة والكثافة والملوحة والأحياء المائية قابلية ذوبان الأكسجين خاصة بهذه المنطقة بجميع مناطقها هذان بحران مختلفان مالحان يلتقيان في محيط واحد فضلا عن بحرين مختلفين يلتقيان كذلك كالبحر الأبيض والبحر الأحمر وكالبحر الأبيض والمحيط الأطلنطي وكالبحر الأحمر وخليج عدن يلتقيان أيضا في مضايق معينة ففي 1942 عرف لأول مرة أن هناك بحارا كاملة يختلف بعضها عن بعض في الخصائص والصفات وتلتقى وعلماء البحار يقولون : إن أعظم وصف للبحار ومياه البحار : أنها ليست ثابتة . .. ليست ساكنة ..أهم شيء في البحار أنها متحركة .. فالمد والجزر والتيارات المائية والأمواج والأعاصير عوامل كثيرة جدا كلها عوامل خلط بين هذه البحار وهنا يرد على الخاطر سؤال : فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تمتزج هذه البحار ولا تتجانس ؟ ! درسوا ذلك فوجدوا الإجابة : أن هناك برزخا مائيا وفاصلا مائيا يفصل بين كل بحرين يلتقيان في مكان واحد سواء في محيط أو في مضيق هناك برزخ وفاصل يفصل بين هذا البحر وهذا البحر .. تمكنوا من معرفة هذا الفاصل وتحديد ماهيته بماذا ؟ هل بالعين ؟ لا .. وإنما بالقياسات الدقيقة لدرجة الملوحة ولدرجة الحرارة والكثافة وهذه الأمور لا ترى بالعين المجردة
المصدر " العلاج هو الأسلام " للشيخ عبد المجيد الزندانى
أسرار السحاب
قال تعالى : ( ألم تر أن الله يزجى سحابا ) النور وقال تعالى : ( وجئنا ببضاعة مزجة ) أي مدفوعة .. أي الدفع رويدا .. رويدا ( ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركما فترى الودق يخرج من خلاله )دراسة تكوين السحاب الركامى أولا - يبدأ السحاب الركامي عبارة عن ( قزح ) قطعة هنا وقطعة هناك يأتي هواء خفيف فيدفع هذه السحب قليلا قليلا يزجى سحابا ثم يؤلف بينه قالوا : السحاب الركامي يتكون حين تجتمع سحابتان أو سحابة تنمو سحابة بسرعة .. فإذا اجتمعت سحابتان او نمت سحابة بسرعة يتكون تيار هواء تلقائى في داخلها وهذا التيار الهوائي الذى بداخلها يصعد إلى أعلى وحين يصعد إلى أعلى يعمل مثل الشفاطة هذه الشفاطة التي تشفط الهواء من الجنب .. وتقوم بسحب السحب ( ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ) النور: بالشفط بعدما تكوّنت على هذا النحو وأصبح لها قوة سحب وجذب للسحب المجاورة وهذا هو التأليف ( ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ) وبعد أن يؤلف بين السحاب وتتباعد بقية السحب بعدا كبيرا يتوقف الشفط هذا ويحدث شيء قوى جدا : نموّ رأسى إلى أعلى هذا النمو الرأسى إلى أعلى يركم السحاب بعضه فوق بعض يصير ركاما ولذلك قالت الآية : ( ثم يجعله ركاما ) نفس السحابة تطلع تعلو فوق وتعلو وتعلو بعضها فوق بعض .. ثم تأخذ وقتا أما الفاء فلا تراخى فيها( فترى الودق ) فالفرق بين ثم و الفاء أن ثم : تفيد الترتيب مع التراخي اما الفاء فتفيد الترتيب مع التعقيب بسرعة فعندما يتوقف الركم يتوقف ويضعف فإذا ضعف فإن المطر ينزل على الأثر ولذلك قال : ( فترى الودق يخرج من خلاله )النور سبحان الله ! كم يشاهد الناس السحب .. هل عرفوا سرها ؟ فكلما ازداد الناس علما ازدادوا إيمانا بأن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى وأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(/4)
المصدر" وغدا عصر الإيمان " للشيخ عبد المجيد الزنداني
سر الجبال
الجبال كتلا ضخمة من الاحجار والصخور توجد على قطعة ضخمة كبيرة هي سطح الأرض الذي يتكون من نفس المادة فكتلة هائلة من الصخور تجثم على كتلة أخرى هي سطح الأرض هذا الذي يعلمه الناس عن الجبال ولكن الإنسان عندما تعمق في بصره ورأى ما تحت هذه الطبقات وما تحت قدمه وكشف الطبقات التي تتكون منها الأرض وجد أن الجبال تخترق الطبقة الأولى التي يصل سمكها إلى خمسين كيلو مترا من الصخور هي قشرة الأرض يخترق هذه الطبقة ليمد جذرا له في الطبقة الثانية المتحركة تحتها وتحت أرضنا هذه طبقة أخرى تتحرك لكن الله ثبت هذه الأرض على تلك الطبقة المتحركة بجبال تخترق الطبقتين فتثبتها كما يثبت الوتد الخيمة بالأرض التي تحت الخيمة وهكذا وجدوا جذرا تحت كل جبل وكانت دهشت الباحثين والدارسين عظيمة وهم يكتشفون أن هذا كله قد سجل في كتاب الله من قبل فقال تعالى : ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) النبأ: 7 وقال تعالى : ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) النازعات وقال تعالى : ( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ) لقمان : 10
المصدر " وغدا عصر الإيمان " للشيخ عبد المجيد الزنداني
البرزخ البحري
الصور الحديثة التي التقطت للبحار قد اثبتت أن بحار الدنيا ليست موحدة التكوين .. بل هي تختلف في الحرارة والملوحة والكثافة ونسبة الأوكسجين .. وفي صورة التقطت بالاقمار الصناعية .. ظهر كل بحر بلون مختلف عن البحر الآخر .. فبعضها أزرق قاتم وبعضها أسود وبعضها أصفر .. وذلك بسبب اختلاف درجات الحرارة في كل بحر عن الآخر .. وقد التقطت هذه الصورة بالخاصية الحرارية وبالأقمار الصناعية ومن سفن الفضاء .. وظهر خط أبيض رفيع يفصل بين كل بحر وآخر قال تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ) نجد أن وسائل العلم الحديث قد وصلت إلى تصوير البرزخ بين البحرين .. وبينت معنى ( لَّا يَبْغِيَانِ) بأن مياه أي بحر حين تدخل إلى البحر الآخر عن طريق البرزخ فلا تبغي مياه بحر على مياه بحر آخر فتغيرها
المصدر " الأدلة المادية على وجود الله " فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
الجلد
الناس من قبل كانوا يتصورون أن جسم الإنسان حساس كله أينما ضربته يتألم تضربه في رأسه يتألم تضربه في عينيه يتألم وكانوا يعتقدون أن جسمه حساس كله للألم حتى تقدم علم التشريح فجاء بحقيقة قال : لا ليس الجسم كله الجلد فقط بدليل أنك لو جئت بإبرة ووضعتها في جسم الإنسان فإنها بعد أن تدخل من جلد الإنسان إلى اللحم لا يتألم ثم شرحوا هذا تحت المجهر فوجدوا أن الأعصاب تتركز في الجلد ووجدوا أن أعصاب الإحساس متعددة وأنها أنواع مختلفة : منها ما يحس باللمس ومنها ما يحس بالضغط ومنها ما يحس بالحرارة ومنها ما يحس بالبرودة ووجدوا أن أعصاب الإحساس بالحرارة والبرودة لا توجد إلا في الجلد فقط وعليه إذا دخل الكافر النار يوم القيامة وأكلت النار جلده كيف تكون المسألة ؟ فالكفار ليس لديهم آية تبين لهم المسألة , فتصبح مشكلة عندى أهل الإيمان في مواجهة أهل الإلحاد يقولون : تخوفونا من النار ! فالنار تأكل الجلد ثم نرتاح . لكن الجواب يأتي من المولى جل وعلا كاشفا للسر ونذيرا للكافرين فيقول المولى جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء : 56 وإذا كان المولى جل وعلا يخبرنا بأنه سيبدل الجلد جلدا آخر لنذوق عذاب النار فإنه عندما أخبرنا بالعذاب الذي سيكون بالمعدة من شراب النار لا يكون بتغيير معدة أخرى للتألم لا قال تعالى : ( وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ) محمد: 15 ولماذا هنا قطع امعاءهم ؟ لأنهم وجدوا تشريحيا أنه لا يوجد أبدا أعصاب للإحساس بالحرارة أو البرودة بالأمعاء وإنما تتقطع الأمعاء فإذا قطعت الأمعاء ونزلت في الأحشاء فإنه من أشد أنواع الآلام تلك الآلام التي عندما تنزل مادة غذائية إلى الأحشاء عندئذ يحس المريض كأنه يطعن بالخناجر فوصف القرآن ما يكون في الجلد ووصف ما يكون هنا بالمعدة والأمعاء وكان وصفا لا يكون إلا من عند من يعلم سر تركيب الجلد وسر تركيب الأمعاء .
المصدر "العلم طريق الإيمان " للشيخ عبد المجيد الزنداني
الحجامة
قال صلى الله عليه وسلم : ( نعم العبد الحجام يذهب الدم ويجفف الصلب ويجلو عن البصر ) رواه الترمذي وقد روي أيضا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجرة ) البخاري ومسلم(/5)
لقد أثبت العلم الحديث أن الحجامة قد تكون شفاء لبعض أمراض القلب وبعض امراض الدم وبعض أمراض الكبد .. ففي حالة شدة احتقان الرئتين نتيجة هبوط القلب وعندما تفشل جميع الوسائل العلاجية من مدرات البول وربط الأيدي والقدمين لتقليل اندفاع الدم إلى القلب فقد يكون إخراج الدم بفصده عاملا جوهريا هاما لسرعة شفاء هبوط القلب كما أن الارتفاع المفاجئ لضغط الدم المصحوب بشبه الغيبوبة وفقد التمييز للزمان والمكان أو المصاحب للغيبوبة نتيجة تأثير هذا الارتفاع الشديد المفاجئ لضغط الدم - قد يكون إخراج الدم بفصده علاجا لمثل هذه الحالة كما أن بعض أمراض الكبد مثل التليف الكبدي لا يوجد علاج ناجح لها سوى إخراج الدم بفصده فضلا عن بعض أمراض الدم التي تتميز بكثرة كرات الدم الحمراء وزيادة نسبة الهيموجلوبين في الدم تلك التي تتطلب إخراج الدم بفصده حيث يكون هو العلاج الناجح لمثل هذه الحالات منعا لحدوث مضاعفات جديدة ومما هو جدير بالذكر أن زيادة كرات الدم الحمراء قد تكون نتيجة الحياة في الجبال المرتفعة ونقص نسبة الأوكسجين في الجو وقد تكون نتيجة الحرارة الشديدة بما لها من تأثير واضح في زيادة إفرازات الغدد العرقية مما ينتج عنها زيادة عدد كرات الدم الحمراء .. ومن ثم كان إخراج الدم بفصده هو العلاج المناسب لمثل هذه الحلات ومن هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم : ( خيرما تداويتم به الحجامة ) ورد في الطب النبوي : ابن قيم الجوزية . وهو قول اجتمعت فيه الحكمة العلمية التي كشفتها البحوث العلمية مؤخرا
المصدر " الإعجاز العلمى في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد
الحديد
قال أشهر علماء العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم .. الدكتور استروخ وهو من أشهر علماء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء .. قال : لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثا معملية .. ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد .. قدرات الحديد لها تكوين مميز .. إن الالكترونات والنيترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية .. ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض .. ولابد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) سورة الحديد : 25
المصدر " الأدلة المادية على وجود الله " لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي
الحمى
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ) رواه البخاري وقوله عندما ذكرت الحمى فسبها رجل : ( لا تسبها فإنها تنقى الذنوب كما تنقى النار خبث الحديد ) رواه مسلم(/6)
لقد تبين أنه عند الإصابة بالحمى ذات الحرارة الشديدة التي قد تصل إلى 41 درجة مئوية والتي وصفها عليه الصلاة والسلام بأنها من فيح جهنم وقد يؤدي ذلك إلى هياج شديد ثم هبوط عام وغيبوبة تكون سببا في الوفاة ... ولذا كان لزاما تخفيض هذه الحرارة المشتعلة بالجسم فورا حتى ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ وليس لذلك وسيلة إلا وضع المريض في ماء أو عمل كمادات من الماء البارد والثلج حيث إنه إذا انخفضت شدة هذه الحرارة عاد الجسم كحالته الطبيعية بعد أن ينتظم مركز تنظيم الحرارة بالمخ ويقلل هذه الحرارة بوسائله المختلفة من تبخير وإشعاع وغيرهما ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأس فاغتسل ولما كانت الحمى يستلزمها حمية عن الأغذية الردئية وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على تنقية البدن وتصفيته من مواده الردئية التي تفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفى جوهر الحديد وقد ثبت علميا أنه عند الإصابة بالحمى تزيد نسبة مادة( الأنترفيرون ) لدرجة كبيرة كما ثبت أن هذه المادة التي تفرزها خلايا الدم البيضاء تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم وتكون أكثر قدرة على تكوين الأجسام المضادة الواقية ... فضلا عن ذلك فقد ثبت أن مادة ( الأنترفيرون ) التي تفرز بغزارة أثناء الإصابة بالحمى لا تخلص الجسم من الفيروسات والبكتريا فحسب ولكنها تزيد مقاومة الجسم ضد الأمراض وقدرتها على القضاء على الخلايا السرطانية منذ بدء تكوينها وبالتالي حماية الجسم من ظهور أي خلايا سرطانية يمكن أن تؤدى إلى إصابة الجسم بمرض السرطان ولذا قال بعض الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيها أنفع من شرب الدواء بكثير مثل مرض الرماتيزم المفصلى الذي تتصلب فيه المفاصل وتصبح غير قادرة على التحرك ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات الحمى الصناعية أي إيجاد حالة حمى في المريض يحقنه بمواد معينة ومن هنا ندرك حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفض سب الحمى بل والإشادة بها بوصفها تنقى الذنوب كما تنقى النار خبث الحديد كما أشار الحديث الشريف الذي نحن بصدده
المصدر " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد
علة تحريم أكل لحم الجوارح وكل ذي ناب
قال صلى الله عليه وسلم :( حرم علىأمتي كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع ) رواه أبو داود(/7)
أثبت علم التغذية الحديثة أن الشعوب تكتسب بعض صفات الحيوانات التي تأكلها لاحتواء لحومها على سميات ومفرزات داخلية تسري في الدماء وتنتقل إلى معدة البشر فتؤثر في أخلاقياتهم.. فقد تبين أن الحيوان المفترس عندما يهم باقتناص فريسته تفرز في جسمه هرمونات ومواد تساعده على القتال واقتناص الفريسة .. ويقول الدكتور ( س ليبج ) أستاذ علم التغذية في بريطانيا : إن هذه الإفرازات تخرج في جسم الحيوان حتى وهو حبيس في قفص عندما تقدم له قطعة لحم لكي يأكلها .. ويعلل نظريته هذه بقوله : ما عليك إلا أن تزور حديقة الحيوانات مرة وتلقى نظرة على النمر في حركاته العصبية الهائجة أثناء تقطيعة قطعة اللحم ومضغها فترى صورة الغضب والاكفهرار المرسومة على وجهه ثم ارجع ببصرك إلى الفيل وراقب حالته الوديعة عندنا يأكل وهو يلعب مع الأطفال والزائرين وانظر إلى الأسد وقارن بطشه وشراسته بالجمل ووداعته وقد لوحظ على الشعوب آكلات لحوم الجوارح أو غيرها من اللحوم التي حرم الإسلام أكلها - أنها تصاب بنوع من الشراسة والميل إلى العنف ولو بدون سبب إلا الرغبة في سفك الدماء .. ولقد تأكدت الدراسات والبحوث من هذه الظاهرة على القبائل المتخلفة التي تستمرئ أكل مثل تلك اللحوم إلى حد أن بعضها يصاب بالضراوة فيأكل لحوم البشر كما انتهت تلك الدراسات والبحوث أيضا إلى ظاهرة أخرى في هذه القبائل وهي إصابتها بنوع من الفوضى الجنسية وانعدام الغيرة على الجنس الآخر فضلا عن عدم احترام نظام الأسرة ومسألة العرض والشرف .. وهي حالة أقرب إلى حياة تلك الحيوانات المفترسة حيث إن الذكر يهجم على الذكر الآخر من القطيع ويقتله لكي يحظى بإناثه إلى أن يأتي ذكر آخر أكثر شبابا وحيوية وقوة فيقتل الذكر المغتصب السابق وهكذا .. ولعل أكل الخنزير أحد أسباب انعدام الغيرة الجنسية بين الأوربيين وظهور الكثير من حالات ظواهر الشذوذ الجنسي مثل تبادل الزوجات والزواج الجماعي ومن المعلوم أن الخنزير إذا ربى ولو في الحظائر النظيفة - فإنه إذا ترك طليقا لكي يرعى في الغابات فإنه يعود إلى أصله فيأكل الجيفة والميتة التي يجدها في طريقة بل يستلذ بها أكثر من البقول والبطاطس التي تعوّد على أكلها في الحظائر النظيفة المعقمة وهذا هو السبب في احتواء جسم الخنزير على ديدان وطفيليات وميكروبات مختلفة الأنواع فضلا عن زيادة نسبة حامض البوليك التي يفرزها والتي تنتقل إلى جسم من يأكل لحمه .. كما يحتوي لحم الخنزير على أكبر كمية من الدهن من بين جميع أنواع اللحوم المختلفة مما يجعل لحمه عسير الهضم.. فمن المعروف علميا أن اللحوم التي يأكلها الإنسان تتوقف سهولة هضمها في المعدة على كميات الدهنيات التي تحويها وعلى نوع هذه الدهون فكلما زادت كمية الدهنيات كان اللحم أصعب في الهضم وقد جاء في الموسوعة الأمريكية أن كل مائة رطل من لحم الخنزير تحتوي على خمسين رطلا من الدهن .. أي بنسبة 50 % في حين أن الدهن في الضأن يمثل نحو 17 % فقط وفي العجول لا يزيد عن 5 % كما ثبت بالتحليل أن دهن الخنزير يحتوي على نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة .. وأن نسبة الكولسترول في دهن الخنزير إلى الضأن وإلى العجول 9:7:6 ومعنى ذلك بحساب بسيط أن نسبة الكولسترول في لحم الخنزير أكثر من عشرة أضعاف ما في البقر .. ولهذه الحقيقة دلالة خطيرة لأن هذه الدهنيات تزيد مادة الكولسترول في دم الإنسان وهذه المادة عندما تزيد عن المعدل الطبيعي تترسب في الشرايين وخصوصا شرايين القلب .. وبالتالي تسبب تصلب الشرايين وارتفاع الضغط وهي السبب الرئيسى في معظم حالات الذبحة القلبية المنتشرة في أوروبا حيث ظهر من الإحصاءات التي نشرت بصدد مرض الذبحة القلبية وتصلب الشرايين أن نسبة الإصابة بهذين المرضين في أوروبا تعادل خمسة أضعاف النسبة في العالم الإسلامي وذلك بجانب تأثير التوتر العصبى الذي لا ينكره العلم الحديث ومما هو جدير بالذكر أن آكلات اللحوم تعرف علميا بأنها ذات الناب التي أشار إليها الحديث الشريف الذي نحن بصدده لأن لها أربعة أنياب كبيرة في الفك العلوي والسفلي .. وهذا لا يقتصر على الحيوانات وحدها بل يشمل الطيور أيضا إذ تنقسم إلى آكلات العشب والنبات كالدجاج والحمام .. وإلى آكلات الحوم كالصقور والنسور وللتمييز العلمي بينهما يقال : إن الطائر آكل اللحوم له مخلب حاد ولا يوجد هذا المخلب في الطيور المستأنسة الداجنة ومن المعلوم أن الفطرة الإنسانية بطبيعتها تنفر من أكل لحم الحيوانات او الطيور آكلة اللحوم إلا في بعض المجتمعات التي يقال عنها إنها مجتمعات متحضرة أو في بعض القبائل المتخلفة كما سبق أن أشرنا . ومن الحقائق المذهلة أن الاسلام قد حدد هذا التقسيم العلمي ونبه إليه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان
المصدر " الإعجاز العلمى في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد ...(/8)
الاغتراب الروحي
لدى المسلم المعاصر
بقلم: أديب إبراهم الدباغ
(1)
لا أود أن اخدش حس التفاؤل والأمل في نفوسكم الكريمة، بحديثي عن غربة المسلم واغترابه الروحي في هذا العصر العصي الذي يبدو وكأنه مدسوس على الدنيا في حين غرة من أهلها. ليهدم بمعاوله كل منارات الهدى، ويطمس على كل ما يمكن للجنس البشري أن يسترشد به من معالم الحق والعدل والخير، فالتفاؤل والأمل هو ينبوع قوة المسلمين وسرّ استعصائهم على ضربات الزمن الوجيعة، وهو النور المسكوب من وجدان الغيب ليشرق بسنائه فوق ليالي اليأس والحزن والألم. لذا أبادر فأقول: إن اغتراب المسلم وغربته ليسا دليل ضعف دائما، وليسا دليل رغبة بالانكفاء والانفصام عن عالمه المحيط به، بل هما – في كثير من الأحيان – علامة على الصحة والقوة، وآية على الائتلاف الحميم بينه وبين إيمانه وعقيدته. فكلما زادت غربة المسلم، وعمق اغترابه، كان ذلك إشارة إلى حياة إيمانية سليمة، إن كانت اليوم مستعصية على الفهم بعض الشيء، إلا أنها توشك غدا أن تصبح الروح الذي يحيي موات الإنسان، ويوقظ قلبه وينير عقله.
والغربة في روح المسلم وعقله، إنما هي نتاج مصارعته للتمزق والانشطار بين الوجوب والنفي، بين وجوده الإيماني وعدمية هذا الوجود، بين سلبيات الدنيا ولاشيئيتها وإيجابيات الآخرة ويقين حقيقتها، وهي ثمرة ذلك القلق الممض بين أن يكون أو ألا يكون، وهو قلق يخصب الفكر، ويغني الوجود، ويفتح منافذ الخيال والوجدان على حقيقة الإنسان وهو قمين بنفوس المتميزين من رجال العقيدة والإيمان.
(2)
وتظل هذه الغربة هاجس المسلم الدائم، وقدره وقضاءه. يلازمه ولا ينفك عنه مادام حيا يتنفس أنفاس الحياة فوق أديم هذه الأرض... صحيح إنه يسكن الأرض ويدرج فوقها، إلا أنها ليست المحط الذي يمكن أن يحط عليها رحاله، ولا المكان الذي تنتهي إليه آماله، ولا الوطن الذي يملأ عليه خياله أو يحتوي عظمة روحه... هذا الروح الذي لا تزن الأرض كلها إلى جانبه اكبر من ذرة هباء غبية، تعجز عن فهم أشواقه، وتضيق عن استيعاب ما يضطرم به فؤاده من توق وحنين إلى العالم الأخروي... عالم المعرفة المطلق الذي تحيا فيه الحقائق خالصة من غير لبس ولا وهم...
إنه يمكن أن يملك الأرض، وان يعمرها، ويحكمها بالعدل، ويقيم فوقها شرع الله... غير أنها تبقى ملك يمينه يأخذها إلى الأقوم والأحسن والأفضل، بينما يظل قلبه مغلقا دونها، فلا يخلد إليها، ولا يطمئن لها، بل يحس بالوحشة والخوف منها، لأنها وطن الموت والفناء والعدم، ففي كيانه وفي كل ذرة من دمه نزوع إلى عالم هو الوجود كلها، ووطن هو الخلود كله وأرض هي الحياة كلها، لا يتهددها موت ولا يكتنفها زوال أو عدم... إنه ذلك العالم القدسي الذي أُبعدَ عنه أبوه آدم عليه السلام بسبب عصيانه المعروف... فالعصيان شر والشر موات وعدم، ومحال أن تستنبت بذرة الموت والعدم فوق أرض الحياة والوجود، لذا نزل بالأرض أم الموت والعدم، لأن شبيه الشيء منجذب إليه، فصارت الأرض دار غربته، ووطن وحشته، لا يسكن إليها ولا يطمئن بها، وقد أورث أبناءه من خاصية ذاته، مرارة الغربة، ولوعة الحنين إلى الموطن الأول، فذاكرة الإنسان الباطنة، وحافظة وجدانه تخفي في تلافيفها جذور ذلك الاغتراب الآدمي، وأصول ذلك النزوع إلى عالم الأب الأول.
ومما يثير الدهشة أن يغدو حرص آدم عليه السلام وزوجه على البقاء الدائم والخلود الأبدي – وهما في دار الخلود والبقاء – المنفذ الذي نفذ منه الشيطان إليهما بوسوسته: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ( الأعراف:20) مما يدل على أن الآدمية مفطورة على هذا التوق، وأن في أصل خلقة كل آدمي نزوعا عارما إلى البقاء والخلود، ففعلت وسوسته معهما فعلها، ودفعت بهما إلى اقتراف المعصية بأكلهما منها ففقدا بذلك سر الخلود، وسلبا إكسير الحياة، الذي قال الله تعالى فيه (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ( العنكبوت:29).
(3)
إن ما يعتلج في نفوسنا من توق إلى الخلود والبقاء، ونفور من الموت والعدم دليل على وجود البقاء والخلود خارج عالمنا – اكبر من كل دليل وأعظمه – لان الإنسان – كما هو معلوم – لا يشتاق إلى عدم لا وجود له، ولا يرتبط معه بسبب من الأسباب، فنحن نحسه في تجليه على أرواحنا بأنواره وأندائه في لحظات صفاء الروح وفي أوقات استضاءة القلب بنور الله لذا فسيظل القلق الحاد يعتور "النفس الإنسانية" ويؤرق وجودها بسبب ذلك الإحساس المبهم بالوحشة، والشعور الغامض بالاغتراب في هذا العالم، وهو حس عميق الغور في النفوس، لا يسهل الخلاص منه أو الانفكاك عنه، لأنه يشكل جانبا مهما من جوانب الوجدان البشري.(/1)
غير أن الشعور بالاغتراب الفكري والروحي، رغم ما يخلفه من آلام وأحزان، يشكل عامل تحريك لقوى النفس، وتنشيط لخلايا الفكر والروح. فالابداعات الفكرية الإيمانية مدينة إلى هذا الشعور بالاغتراب عند المبدعين وإحساسهم بأنهم غرباء في أوطانهم وأزمانهم بغربة ما يملكون من فكر لم تتهيأ الأوطان والأزمان بعد لقبوله، والتواصل معه، إلا أنهم يمضون في أداء رسالتهم على أمل أن يأتي ذلك الزمان الذي يحسن الفهم عنهم والتلقي منهم. وما من أذن مهما بلغ بها الصمم إلا وهي جائعة إلى الكلمة الناضحة برحيق الروح، والندية بعسل القلب، حين يتفجر بها لسان صدق يريد أن يرأب بها ما أحدثه الناس في نفوسهم من صدوع، ويرمم ما خلفوه فيها من شروخ، ومهما قام بين المسلم وزمانه من سدود الغربة والاغتراب، وجدران الخلف والاختلاف، إلا أن القلب المفعم بإيمانه، والعقل الزخار بفكره، والروح الجبار بقوته، قادر على تحطيم السدود، وخرق الحدود، والوصول إلى شغاف القلوب، ولباب الأرواح والعقول.
(4)
ورغم علمنا أن الحقيقة – أية حقيقة – قادرة على الدفاع عن نفسها، وشق طريقها في الحياة مهما كانت العوائق، إلا أننا – للأسف الشديد – قد نشكل بعض هذه العوائق من غير قصد منا... فهناك مساحة شاسعة بين ما نطمح إليه، وبين الجهد الذي نقدمه في سبيله... بين القمة الشامخة التي تنتصب فوقها حضارتنا وبين قزمية الأفكار التي نجعلها سلمنا للارتقاء إليها... إننا في الحقيقة بنا حاجة إلى بُنَى فكرية شامخة تطول شموخ حضارتنا، وعقول إيمانية كبيرة شمولية جامعة تجمع الشتيت، وتقرب البعيد... وسنكون سعداء غاية السعادة ونحن نقف إزاء عقل عميق يرفد عقولنا بجليل الأفكار، ويغني وجودنا بعظيم الآراء... وسوف نكون اكثر سعادة ونحن نصغي إلى هتاف روح سام متجرد لله، يشحذ أرواحنا، ويرهف ضمائرنا، ويسكب فينا من روحه قوى حية تدفع بنا إلى التغيير والتجديد... وهذا هو الرجل الذي سنمنحه الكثير من حبنا واحترامنا، لأنه إن كان عظيما من يستطيع تفجير طاقات المادة وتحويلها من صورة إلى أخرى، فان الأعظم منه من يستطيع تغيير العقول والنفوس من حال إلى حال.
(5)
غير انه ومنذ دخول العالم الإسلامي شتاءه الحضاري القاسي، وعقل المسلم لم يعد عقلا فاعلا، انه في حالة استرخاء دائم، لم يعد ذلك العقل المستوفز المشدود اليقظ، والمستعد دوما لالتقاط إيماءات، واستلام إشارات الطبيعة، ولم يعد عقلا مغامرا يستهويه المجهول، ويفتنه المستور، حتى لكأنه يخاف الحقائق ويستهولها، فيتحاشاها ويهرب منها، وبذا لم تَعُد حياتنا الإيمانية وحدها مهددة باليبس والنضوب، بل غدا إدراكنا نفسه مهددا بالشلل والجمود، إن دم إسلامنا الطيب الطهور يسري في عروقنا، ولكنه دم خامل هامد، به حاجة إلى عملية فصد لكي يتجدد ويستعيد حيويته ونشاطه، ولن يقدم على عملية الفصد هذه إلا واحد من مفكرينا، يمتشق قلمه، ويجعل منه مشرطا حادا يغوص عميقا في عقل المسلم وروحه، ليحرك سكونهما، ويستفز همودهما، وهذه هي السبيل التي لا مناص منها لكي تنشط عقولنا، وتتجدد قلوبنا وأرواحنا، وهذا المفكر آت لا أشك بمجيئه، لان زلزالا فكريا رهيبا يعصف اليوم بعقول مفكري هذه الأمة، ويوشك أن ينجلي عن منجم إيماني عظيم يعد المسلمين بكل نفيس وجديد من الأفكار، انه المفكر المنتظر، ذو العقل الموسوعي، والحس الحضاري، المتفتح على تجارب الحضارات، فيعرف منها وينكر، ويقبل منها ويرفض.
(6)
كانت "أوروبة" في إبان حضارتنا قد آنست نارا عظيمة في الشرق، فقالت لأهلها: (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (طه:10 ). فلما جاءتها قبست من نورها أقباسا، وذهبت بهذه الأقباس فأنارت بها عقول أذكياء أبنائها فإذا بهذه القبسة الحضارية تنمو وتكبر، وتبلغ من النضج ما يشاء الله لها أن تبلغ، ثم تعود إلينا من أبوابنا المشرعة، وتتعرض لنا بسحرها ومفاتنها، فإذا بنا نعرف منها وننكر، فهي قريبة إلى نفوسنا في بعض جوانبها وغريبة بعيدة عنا في بعضها الآخر... نعرف منها روحها المغامر الطلعة، لأنه روحنا المفقود، ونعرف منها شغفها بالمجهول، وشوقها إلى كشف الأستار عن المعارف والعلوم لأنه شغفنا وشوقنا الموءود...
ونعرف منها علومها في الحياة والفلك والطب والنبات والحيوان، لان جذور هذه العلوم ممتدة في عقول الافذاد من علماء حضارتنا الماضين، ولكننا ننكر منها عقلها المغرور الجحود، وقلبها المتفسق، وجسدها الذي يغلي بالحسيات... فهذه جوانب منها ليست منا، ولسنا منها، فهي غريبة عنا، ونحن غرباء عنها.
(7)(/2)
فمن المعلوم أن "الدين" هو الذي يقود مسيرة الحضارات في فجرها الصادق، ويهيمن عليها، ويعمر ضميرها، ويرسي قواعد سلوكياتها وأخلاقياتها، حتى إذا قويت واشتد ساعدها، وعلا ضحاها، ودلفت إلى ظهيرة عمرها، جاء دور العقل لينشر سلطانه فوقها، ويستحكم فيها، ويتحكم بها، وربما صار وثنا يتعبد له الناس من دون الله تعالى... ثم تمضي في سيرها حتى تميل شمسها نحو الزوال ثم الغروب، فإذا بالعقل يتخلى عن عرشه ويتركه للحس ليتربع فوقه ويصبح هذا الحس سيد العقل وسلطانه بعد أن كان خادما له، ولا يعني هذا التقسيم الاعتباري لأدوار الحضارات أن هناك حواجز وفواصل ظاهرة وحادة بين دور ودور. فقد تتداخل الأدوار بعضها ببعض غير أن طابعاً عاماُ يظل يميز الأدوار ويدفعها بشارته ويعطي كل جزء زمني منها صفته الغالبة عليه. والدور الحسي الذي يطغى اليوم على حضارة الغرب. قد فجر حسيات الإنسان إلى آخر مداها وطاقاتها، وفجر مع ذلك حس الأرض والسماء، وأثار خفايا الأرض بترابها ومائها وهوائها، فإذا بها تتزلزل وتلقي بأثقالها وأسرارها بين يديه ليبتني من عناصرها مدنيته الحسية الباردة والمفتقرة إلى دفء الروح وشفافية الدين والإيمان. ولعل ثمار هذه الحسية ترجع في جذورها إلى ذلك التصور الحسي للألوهية والربوبية في العقيدة التي يدين بها أبناؤها.
(8)
أما الإسلام، أو بالأحرى حضارة الإسلام، فهي وحدة واحدة، تبدأ بالعقيدة وتنتهي إليها، فالروح والعقل والحس يتداخل بعضها في بعض، وتمشي جميعها جنبا إلى جنب في جميع مراحل تطورها، فالسمع والبصر والفؤاد والعقل، كل هؤلاء موضع الخطاب القرآني، وهي مناط التكليف في الدنيا، والمسؤولية في الآخرة، فحضارة هذا شأنها وإن غابت عن حس المسلم، ولم يعد يتلمس وجودها في واقع حياته إلا أنها حاضرة قائمة في عقله وروحه، شاخصة في خياله وذاكرته، فسماء ذاته ما أقفرت يوما من خفقات نجومها، وومضات كواكبها ورغم انه يعاني اليتم، وكوالح الاغتراب، إلا أنه سيبقى متشبثا بها، متعلقا بأمراسها، وأبدا لن يشد للرحيل عنها الرحال، لانها تمتزج بأجزاء نفسه، وتجري في مجاري روحه.
(9)
إن قوة الفكر الذي تحتاجه هذه الحضارة لتنهض من جديد قمين بعقول عظماء الرجال ممن عانوا الاغتراب الفكري ووقفوا على مشارف الخطر المحدق بها من خلال البنى الفكرية التقليدية المكرورة، والتي فقدت وهجها وحرارة تأثيرها. فظهور هذا الفكر بين ظهرانينا هو منعطف تاريخي مهم في حياة الإسلام والمسلمين والسعي إليه فرض عين على كل صاحب قلم يحرص على وجودها كما يحرص على ماء عينه وإذا كنا نصر على أن يكون للفكر الإسلامي مكان مرموق في عالم اليوم، فلابد أن ينجم من بين فحول مفكرينا فكر رجولي جديد يتسم بالأصالة والقوة والحيوية، ليغزو كيان المسلم المعاصر وهو على أبواب العقد الثاني من القرن الخامس عشر. إن التجديد الذي تحدث عنه الأثر النبوي الشريف والقائل بأن الله سبحانه وتعالى يبعث على راس كل مئة سنة من يجدد هذا الدين هو أحد مفاخر ديننا، بل هو اعظم مفاخره، ففيه إشارة إلى ذلك الالتحام الأبدي بين ديننا وبين صيرورتي الزمان والمكان، وهو سر خلود هذا الدين وبقائه ما بقي الزمن والمكان.
(10)
وليس من همي هنا أن استطرد في وصف هذا الفكر وما ينبغي أن يكون عليه، إلا أنني لا أرى ما يمنع من الإشارة إلى بعض ما نريده منه، لاسيما وانه قد ومضت منه ومضات عند البعض من مفكري الإسلام وعلمائه المُحدَثين... فنريده كالعاصفة المنطلقة من سجنها يوقظ هاجع الأفكار في جميع الأذهان. ويعصف بقبور العقول ومدافن النفوس لتقذف بأموات أفكارها، وظلمات أرواحها بعيدا عنها ونرجوه فكرا كونيا شموليا يربط ربطا محكما بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، ويصل ما بين قلب الكون وقلب الإنسان، ونتمناه حارا دافقا يهدر بالأفكار كما تهدر شلالات الطبيعة، ليس فيه برودة الأكاديمية وجفافها ولا ضبابية الإنشائية، وتهويماتها، وانما هو مزيج من فيض الروح ودفقه، ووقدة القلب وضرامه، وحرارة العقل وجلاله. إنه باختصار فكر قرآني يمنح الإنسان قدرة على فض أختام العالم، وحل لغز الوجود، وتمزيق ما تحجبت به الحياة من قمط النواميس والسنن وقوانين الأسباب والمسببات، فيأخذ بيده مخترقا مفازات هذه الحُجب ليوقفه بين يدي خالقه وبارئه، تاركا العوالم كلها وراء ظهره في عبودية خالصة مخلصة لرب العالمين.
(11)(/3)
والله سبحانه وتعالى قد دل على وجوده بجموع هائلة من الآيات الآفاقية والانفسية، إلا أن أعظم آياته، وأكثرها ظهورا، وأبهرها إعجازا بعد القرآن الكريم، إنما هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بصفاء جوهره، وكريم عنصره، وعظم خلقه، فهو المعنى الجليل الذي انتدبت البشرية إلى فهمه، وهو القلم الذي علم الإنسان ما لم يعلم من معاني الإيمان والتوحيد، ووضع النقاط المضيئة فوق حروف الوجود لكي يمكن قراءته والتعرف على معناه ومغزاه، فما من قلم في يد مسلم إلا وهو يستمد فكره من هذا النبي الأمي عليه افضل الصلاة والسلام، ويتعلم منه ويسترشد به، لأنه مرآة القرآن الكبرى، يعكس على العالم افكاره وآياته ومعانيه عبر حركة الزمان المتجدد، وهو بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، اعظم مجدديهم، واكثرهم نجاحا فيما انتدبوا له من مهام، فقد جدد ما رثَّ من تعاليمهم، وخَلُقَ من أفكارهم، وحُرّفَ من رسالاتهم، وهو الذي أحيا عقيدة التوحيد الخالص وبعثها من رمسها، وأناط بها خلاص الجنس البشري من الشقاء الأبدي، فالإسلام – قرآنا وسنة – وإن كان قد نسخ شرائع ما قبله، إلا انه – بحد ذاته – تجديد لأصول هذه الشرائع وأساساتها التي هي محور كل دين الهي، فالتجديد إذن قد بدأ في تاريخنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن يتوقف في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
(12)
وكل ما هو غير مطروق ولا مألوف من الأشياء والأفكار جديد يتوجس منه الجامدون خيفة، وكل مجدد غريب في قومه ووطنه، منكر بينهم لا يكادون يفقهون عنه، أو يسمعون منه، وقد عاش رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة والتسليم غريبا في قومه بمكة ثلاث عشرة سنة، لأنه جاءهم بما لم يألفوا أو يعرفوا من الدين والإيمان، ومن هنا بات المسلم رهين غربتين: غربة مكانية حسية ورثها عن جده آدم عليه السلام، وغربة فكرية إيمانية ينزع فيه إليها عرق روحي تمتد جذوره عميقا إلى غربة رسوله المكية الأولى. وبين طوايا هاتين الغربتين في وجدان المسلم، تتشكل بصمت قواه الروحية، وتستكمل شخصيته عناصر تفردها وتميزها، ليصبح من بعد نوعا إنسانيا متفردا قبالة الكم البشري العادي، وهو وان كان غريبا في نظر هذا الكم، ولغزا مبهما لا يعرف كيف يفسره ويفهمه، إلا أنه مع ذلك يحس بأنه يضرب بعرق في كل نفس. ويمت بصلة إلى كل قلب، وربما رأى فيه تكفيراً واعتذاراً عن تخلفه وعجزه عن التفرد والتميز. فهو غريب لكنه مستطاب الغربة، بعيد لكنه اقرب ما يكون من الأرواح الحبيسة المعذبة في سجون أجسامها، واسمع ما يكون إلى أنين الإنسان وصراخه المفجع في دياجير الضلال، وأندى ما يكون على النفوس العطشى في بلقع الهوى الرهيب. وهو بعد هذا وذاك سلّم الراسبين في قرارة الوحل والطين من الراغبين في الصعود إلى ذروة الشرف الباذخ، شرف الإيمان والإسلام، وهو حاسة الأمة السادسة التي تتلمس من خلالها دربها إلى الصراط المستقيم، وهو بُعدها الرابع الذي تنفذ من خلاله إلى أغوار روحها الموار بخوالج الإيمان الدفينة، وهو عقلها الذي يفكر لها إذا ما اعتل عقلها، وداءت نفسها، وهو صبح اليقين الذي يجلوها من غياهب الشبهات. وان تشأ مزيدا من الوصف يزدك معرفة به، فاعلم أنه الحزن الهادئ الصموت، الذي وصف الرسول الكريم عليه السلام نفسه به حين قال: (والشوق مركبي، والحزن رفيقي، وقرة عيني في الصلاة) وهو الشجن الهامس العميق والوجد اللاهف المنيف، كل ذلك في إطار من جمال الروح، وجلال الفكر، وهيبة النبل والطهر، حتى لكأنه بصفاته هذه اثقل من أن تتحمله طينة الأرض، وأوسع من أن تحتويه دنيا الناس، واشد تماسكا وقوة من أن يجرفه زبد سيل العالم، وهو الغريب نفسه الذي وصفه من أُوتي جوامع الكِلمْ "صلى الله عليه وسلم" فقال في حقه وفي أمثاله مبشرا: (بدأ الإسلام غريبا وسعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء).(/4)
الاغتصاب أحكام وآثار
هاني بن عبدالله بن محمد الجبير 27/1/1426
08/03/2005
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :
فالفقه الإسلامي بأدلته العامة وقواعده وضوابطه يتسع ليشمل حياة المكلفين بجميع جوانبها، فمهما حدث من مسائل ونوازل ومستجدات فسيجد الباحث المتأمل توصفياً شرعياً يجلى حقائقها ويبين أحكامها .
وفي هذه الأوراق نظرات عجلى لجملة فروع، يشملها كلها أنّها إجراءات وأحكام في بعض قضايا الاغتصاب والحمل السفاحي رتبتها في مسائل يتفرع عن كل مسألة منها فروع أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه صواباً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المسألة الأولى : تعريف الاغتصاب
الاغتصاب في اللغة افتعال من غصب .
والغصب : أخذ الشيء ظلماً . يقال غصبه منه وغصبه عليه .
وغصب فلاناً على الشيء : قهره,
وغصب الجلد: أزال عنه شعره نتفاً (1).
وقال في اللسان: (وتكرر في الحديث ذكرُ الغصب , وهو أخذ مال الغير ظلماً وعدواناً . وفي الحديث أنّه غصبها نَفْسَها : أراد أنّه واقعها كرهاً , فاستعاره للجماع ) (2).
وهذا المعنى الأخير هو الذي شاع استعماله حتى غلب في العرف فصار الإكراه على الجماع يسمى اغتصاباً .
ولكن لما كان جماع الرجل امرأته ولو بالكُره , ليس فيه اعتداء ولا ظلم لها إذ الجماع حق له لا يجوز لها الامتناع عنه إلا لموجب شرعي ؛ فقد خص الاغتصاب بالإكراه على الوقاع المحرم .
وعليه فإن الاغتصاب هو الإكراه على الزنا واللواط .
والزنا هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين (3).
المسألة الثانية : حكم الاغتصاب :
الاغتصاب إكراه على الزنا . والزنا حرام من المحرمات الظاهرة المعلومة بالضرورة . قال تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (الفرقان 68 - 70) .
وفي الزنا من الشرور والمفاسد الشيء الكثير . قال ابن القيم رحمه الله : "والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع وفساد المروءة وقلة الغيرة ...
ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمة عياله ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت ومنها ظلمة القلب وطمس نوره .. ومنها ضيق الصدر وحرجه " (4).
ويزيد الاغتصاب أنّه إكراهٌ على ممارسة الزِّنا فهو أشد حرمةً من مجرد الزنا .
أما المكره فإنه لا إثم عليه قال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (الأنعام: من الآية119) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (5).
وقد روي أن امرأةً استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد (6).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأةً استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي : ما ترى فيها قال إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها (7).
وهذا لا إشكال فيه بحمد الله (8). لكن اختلف أهل العلم هل يُكْرَه الرجل على الزنا أم لا على قولين :
القول الأوّل : أنه لا يمكن إكراهه فإذا أُكره فزنى حُدَّ على زناه وهو مذهب أبي حنيفة (9) والحنابلة (10).
القول الثاني : أنه يمكن إكراهه فإذا أُكره فزنى دُرِأ عنه الحد وهو مذهب الشافعيّة (11).
واستدل أصحاب القول الأول بأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار والإكراه ينافيه .
فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزمه الحد (12).
واستدل أصحاب القول الثاني بعموم النصوص الواردة في رفع الحرج عن المكره .
وبأنه لا فرق بين الرجل والمرأة فإذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه أيضاً.
ولأن الانتشار قد يكون لفحولة الشخص أكثر مما يكون دليلاً على الطواعية (13).
ولعل الأقرب من هذين القولين أن من أكره على الزنا يدرأ عنه الحد إعمالاً لقاعدة درء الحد بالشبهة .
المسألة الثالثة : بم يحصل الإكراه .
لا خلاف أن إكراه المرأة على الزنا إذا كان إكراهاً ملجئاً أنها غير مؤاخذة , كما لو أضجعت المرأة وفعل بها الزنا قهراً . لأنها والحال ما ذكر غير مكلَّفة ولا إرادة لها (14).
واختلف أهل العلم فيما لو أُكرهت المرأة – أو الغلام – على الزنا بالتهديد بالقتل ومنع الطّعام والضرب ونحو ذلك هل يكون إكراهاً أم لا .
وسبب الخلاف أن هذا المكره يستطيع الفعل والامتناع فهو مختار للفعل ولكن ليس غرضه نفس الفعل وإنما مراده دفع الضرر عن نفسه (15).(/1)
وذكر بعض أهل العلم شروطاً للإكراه منها :
1- أن يكون الإكراه من قادر بسلطان أو تغلب .
2- أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به , والعجز عن دفعه والهرب منه .
3- أن يكون مما يلحق الضرر به (16).
والذي يظهر لي أن الله تعالى رفع المؤاخذة عن المكره والإكراه خلاف الرضا والمحبَّة (17), وهو حمل إنسان على عملٍ أو ترك بغير رضاه بحيث لو ترك بدون إكراه لما قام به (18).
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في ما يحملهم على العمل أو الترك فمنهم من يغلب عليه الخوف والضعف فأدنى الأمور تحمله على ما يحب ومنهم ذو البأس الذي لا يحمله على الفعل إلا كثير الإكراه .
والشرع بحمد الله لا يساوي بين مختلفات ولا يفرق بين متماثلات فتحديد مناط الإكراه يختلف باختلاف الناس فما رأوه إكراهاً فهو كذلك .
وأمّا عند الحكم فإنه يعمل بدلالة الحال ؛ إذ دلالة الأحوال يختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها (19). والله أعلم .
المسألة الرابعة : عقوبة المغتصب :
من اختطف امرأةً مكابرةً فهو محارب لله , وممن يسعى في الأرض بالفساد وهو مشمول بقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (المائدة:33) .
وهذا هو ما تضمنه قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 85 في 11/11/1401هـ ومما جاء فيه : ( إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة والسعي في الأرض فساداً المستحقة للعقاب الذي ذكره الله سبحانه في آية المائدة سواء وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض ولا فرق في ذلك بين وقوعه في المدن والقرى أو الصحارى والقفار كما هو الراجح من آراء العلماء رحمهم الله تعالى قال ابن العربي يحكي عن وقت قضائه : دفع إليّ قومٌ خرجوا محاربين إلى رفقة فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملنها ثم جَدّ فيهم الطلب فأُخذوا وجيء بهم فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين فقالوا : ليسوا محاربين ؛ لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج فقلت لهم : إنا لله وإنا إليه راجعون !. ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال , وأن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم , ولا يحرب المرء من زوجته وبنته ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج ) (20).
المسألة الخامسة: إجهاض الحامل عن طريق الاغتصاب :
1- تعريف الإجهاض :
الإجهاض في اللغة مصدر أجهض ، يقال أجهضت الناقة إذا ألقت ولدها فهي مُجْهِض (21). ويطلق على إلقاء الحمل ناقص الخلق أو ناقص المدة (22). والأغلب استعماله في الإبل واستعمال الاسقاط في بني آدم (23).
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة إجهاض عن هذا المعنى (24). وقد يعبر عنه بالإسقاط والإلقاء والطرح والإملاص ، وكلها مترادفات .
والإجهاض يكون عفوياً تلقائياً دون تحريض خارجي وقد يكون عمداً بفعل فاعل. ودوافع الإجهاض مختلفة منها سلامة الأم ودفع الخطر عنها ، ومنها ستر جريمة الزنا . وتذكر الإحصائيات الرسميّة أن حالات الإجهاض التي تتم سنويّاً بشكل غير نظامي تتجاوز سبعين مليون إجهاض في البلدان النامية فقط وفق احصائيات منظمة الصحة العالمية (WHO) .
ويموت من جراء الإجهاض أكثر من مليوني امرأة سنويّاً لكونه غالباً يتم بطرق بدائية أو على أيدي غير المؤهلات (25).
2- حكم الإجهاض :
لا يخلو الإجهاض إما أن يكون قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح ، ونفخ الروح يكون بعد مرور مائة وعشرين يوماً .
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنَّة فيدخلها)) (26).
هذا في نفخ الروح وقد ورد في التخلق أنه يكون قبل ذلك عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظاما ثم قال يا رب ذكر أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ... الحديث )) (27).(/2)
قال ابن رجب : " أما نفخ الروح فقد روى صريحاً عن الصحابة رضي الله عنهم أنه إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود " (28).
أ – حكم الإجهاض بعد نفخ الروح :
اتفق الفقهاء على تحريم اسقاط الجنين بعد مرور أربعة أشهر على تكوينه في بطن أمّه ، حيث ينفخ فيه الروح وبذلك يصير نفساً آدميَّة وإسقاطها قتلٌ بلا خلاف.
ويستوي عند الفقهاء ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على الأم أو لا (29). وذلك أن قتل النفس المحترمة لا يجوز بحال قال تعالى : {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} (30)
ولا يجوز التضحية بنفس معصومة لإنقاذ نفس أُخرى ، كما لا يحل لمن أصابته مخمصة أن يقتل آدميّاً ويأكله لينقذ نفسه من الهلاك إذ ليست احدى النفسين أولى بالحياة من الأخرى (31).
لكن اختارت اللجنة العلمية للموسوعة الفقهيَّة التي تصدرها وزارة الأوقاف بالكويت جواز إسقاط الجنين وإن نفخ فيه الروح إذا كان ذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذ أمه من هلاك محقق ، وقالت : " الحفاظ على حياة الام إذا كان في بقاء الجنين في بطنها خطر عليها ، أولى بالاعتبار لأنّها الأصل تةوحياتها ثابتة بيقين" (32).مو مخ 04
وبهذا الاختيار أفتت هيئة كبار العلماء في قرارها رقم 140 في 20/6/1407هـ حيث تضمن : " بعد إكمال أربعة أشهر للحمل لا يحل إسقاطه حتى يقرر جمع من المختصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمّه يسبب موتها وذلك بعد استنفاد كافّة الوسائل لإنقاذ حياته " .
ب – حكم الإجهاض قبل نفخ الروح:
اختلف الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح على أقوال أشير إليها بإيجاز فيما يلي :
القول الأول : الإباحة مطلقاً ، وقال به بعض الحنفيّة (33),وقال به بعض الشافعية (34) والحنابلة (35) فيما قبل الأربعين يوماً فقط .
القول الثاني : الإباحة إذا كان الإجهاض لعذر وهو مذهب الحنفيَّة (36).
القول الثالث : الكراهة وهو قول عند الحنفيَّة (37)والمالكية (38) والشافعية (39).
القول الرابع : التحريم وهو مذهب المالكية (40)والاوجه عند الشافعية (41) والمذهب عند الحنابلة (42).
وعند اعتبار آراء الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح يتبين لنا ما يلي :
1- أن الإجهاض قبل نفخ الروح وتمام الأشهر الأربعة الأولى من عمر الجنين يختلف في حكمه وحقيقته عن الإجهاض بعدها .
2- أن الإجهاض في هذه المرحلة لا يعتبر قتلاً لآدمي.
3- أن بعض من منع من الإجهاض نظّرة بإتلاف بيض الصيد في الحرم (43). (مما يشعر أن ملحظ المنع عندهم أن الإجهاض إتلاف وإفساد لغير ما هو ضار فيشمله التحريم ) ومنهم من علل المنع بأن النطفة بعد استقرارها صارت مهيأة لنفخ الروح (44).
4- أن للجنين حرمة منذ تكوّنه بدليل أن الشرع جاء بتأخير تنفيذ الحد على الحامل حتى تضع حملها حفاظاً عليه .
وقد صدر في حكم الإجهاض قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية المتضمن ما يلي :
" لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي وفي حدود ضيقة جداً ، إن كان الحمل في الطور الأول وهي مدة الأربعين وكان في إسقاطه مصلحة شرعيّة أو دفع ضرر متوقع جاز إسقاطه ، أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقّة في تربية أولادٍ أو خوفاً من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم أو من أجل مستقبلهم أو اكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد فغير جائز.
ولا يجوز إسقاط الحمل إن كان علقةً أو مضغة إلا إذا قررت لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمّه بأن يُخشى عليها الهلاك من استمراره جاز إسقاطه بعد استنفاد كافة الوسائلة لتلافي الأخطار " .
وتضمن المادة 24 من نظام مزاولة مهنة الطب البشري أنه يحظر على الطبيب إجهاض امرأة حامل إلا إذا اقتضت ذلك الضرورة لإنقاذ حياتها ومع ذلك يجوز الإجهاض إذا لم يكن الحمل قد تم أربعة أشهر وثبت أن استمراره يهدد صحة الأم بضرر جسيم .
3- إجهاض الحمل من سفاح :
لم يتعرَّض الفقهاء المتقدمون رحمهم الله لهذه المسألة بخصوصها ولعل ذلك لعدم تفريقهم بين الحمل من سفاح وغيره .
ولا يخلو الحمل من سفاح إما أن يكون برضى الطرفين أو نتيجة اغتصاب.
أ – الحمل من سفاح برضى الطرفين :
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى جواز إجهاض الحمل قبل نفخ الروح إذا كان الحمل ناشئاً عن زناً سواء كان الزنا بالتراضي أولاً.
قال الرملي (45) : " لو كانت النطفة من زنا فقد يتخيّل الجواز فلو تركت حتى نفخ الروح فلا شك في التحريم " .
ومنع ذلك بعض الباحثين استدلالاً بقصّة الغامديَّة حينما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعترفت بالزنا وأبلغته بحملها فقال : ((أما لا فاذهبي حتى تلدي)) (46). ووجه الاستدلال أن النبي عليه الصلاة والسلام أخّر إقامة الحد على المرأة وإقامته واجبة حفاظاً على حياة الجنين ومع أن أمه قد وقعت في الزنا المحرم, وعدم استفصال النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر الجنين يدل على حرمة إسقاطه مطلقاً (47).(/3)
وعند محاولة الوصل لرأي مختار في هذه المسألة وحيث إن إباحة إجهاض الحمل الناشيء عن زنا يترتب عليه انتشار الفاحشة وشيوعها وسهولة الوصول إليها وهو مؤدي إلى تقليص الحياة الزوجية وانتشار الأمراض الفتاكة .
وحيث إن جمهور أهل العلم يمنعون من إجهاض الحمل الشرعي الناشيء من نكاح صحيح ولو تراضى الزوجان على ذلك .
وحيث إن الحمل في مدة الأربعين يغلب عليه وصف النطفة وهي في الأصل نطفة غير محترمة لكونها من زنا مع أن النطفة يجوز إلقاؤها بالعزل.
وحيث أجازت هيئة كبار العلماء إسقاط الحمل في هذه المرحلة لمصلحة شرعيّة أو دفعاً لضرر متوقع .
لذا فإنَّ الظاهر لي جواز إسقاط الحمل في الطور الأول من الحمل قبل مرور أربعين يوماً وتحريمه بعد ذلك .
إذا كان ظاهر حال المرأة أنها ليست ممن اعتاد الفجور والفساد أما من اعتادت عليه فإنه يتجه القول بالتحريم مطلقاً لها إعمالاً لقاعدة المعاملة بنقيض القصد وسداً لذريعة الفساد والله أعلم .
ب – الحمل الناشيء عن الاغتصاب :
الاغتصاب هو الإكراه على الزنا ، وهو مما انتشر في بعض المجتمعات انتشاراً مخيفاً ففي دراسة أجريت في ألمانيا تبين أن واحدة من كل سبع نسوة قد اغتصبت ، وفي الولايات المتحدة وجد أن (25%) من البنات قد تعرّضن للاغتصاب (48).
وليس في إجهاض الحمل الناشيء عن الاغتصاب نقل للفقهاء المتقدمين أو المتأخرين فيما وقفت عليه من مراجع .
وأما المعاصرون فإن فتاواهم تتضافر على جواز إجهاض هذا الحمل قبل مرور مائة وعشرين يوماً وتحريمه بعدها لكونه قد نفخ فيه الروح.
ففي فتوى مفتي مصر الصادرة في 26/6/1419هـ ما يلي : " لا مانع شرعاً من تفريغ ما في أحشاء أنثى من نطفة نتيجة الاختطاف والإكراه على المواقعة بشرط أن لا يكون قد مرَّ على هذا الحمل مائة وعشرين يوماً، لأنه لا يحل في هذه الحالة إسقاط الجنين لكونه أصبح نفساً ذات روح يجب المحافظة عليها " (49).
ويدل على هذا الرأي أن إجهاض الحمل قبل نفخ الروح فيه ليس قتلاً وإنما هو إتلاف لما يمكن أن يكون آدميّاً ولا تكون الجناية على الحي الذي نفخت فيه الروح كالذي لم تنفخ فيه الروح ، فيكون خاضعاً للأعذار والحاجات .
وقد وجدنا أن من الفقهاء من أباح الإجهاض لعذر كما لو انقطع لبن الأم وليس لأب الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه (50).
كما أن آثار الحمل من سفاح على الأم قد تكون كبيرة وقد لا تتحمّلها نفسيّاً, وهو يفتح باب القالة السوء عليها لعدم التفريق بين الإكراه والرضا في الزنا, مع أنها لا ذنب لها ولا يد في الجريمة, ويمكن التخفيف من آثار ذلك دون إضرار بأحد ومن مقررات الشريعة الإسلامية أن الضرر يزال والضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
وهذا كله يقوي القول بجواز إجهاض الحمل الناشيء عن الاغتصاب قبل نفخ الروح وأما بعده فهو باق على الأصل لا يحل اسقاطه إلا أن يكون في بقائه خطر على حياة أُمِّه (51) والله أعلم.
المسألة السادسة : منع حمل المغتصبة :
قد يحصل أن يعتدى على امرأة وتفعل بها فاحشة الزنا عن طريق الإكراه فهل يجوز إعطاؤها عقاراً يمنع الحمل عنها بعد حصول الاعتداء أم لا ؟
ومما سبق في المسألة الثالثة من جواز إجهاض الحمل نتيجة اغتصاب فإن منع الحمل أولى بالجواز والإباحة.
وقد صدرت عدة فتاوى من شخصيات وهيئات علميَّة بجواز التحكم المؤقت في الإنجاب عن طريق استخدام وسائل منع الحمل إذا دعت لذلك حاجة معتبرة ولم يترتب على ذلك ضرر (52) .
المسألة السابعة : رتق غشاء البكارة :
1- تعريف البكارة :
البكارة : فعالة من البكر، وهو أوّل كلِّ شيء والمرأة البكر هي العذراء وهي التي لم تجامع بنكاح ولا غيره ، وعلامة ذلك غشاء أو جلدة يكون في القبل يسمى غشاء البكارة أو الغشاء العُذْري (53).
وليس وجود الغشاء أو عدم وجوده دليل حتمي قاطع على حصول الوطء ، فإن بعض البنات يولدن دون غشاء بكارة كما قد تكون فتحة غشاء البكارة واسعة خلقةً لا تتأثر بالوطء ، كما أن تمزقه قد يحصل نتيجة حادث عادي وقد تحتاج المرأة لإجراء عملية لفتح غشاء بكارة مقفل يمنع خروج دم الحيض. ولكنه مع ذلك قرينة تدل على حصول الوطء من عدمه (54). ومعنى رتق الغشاء العذري أي إصلاحه طبياً ليعود إلى وضعه قبل التمزق.
2- حكم رتق غشاء البكارة :
أ – لا خلاف بين الباحثين المعاصرين ممن وقفت على رأيه أنَّ تمزق غشاء البكارة إذا كان سببه قد حصل بسبب وطء في عقد نكاح صحيح أنَّه يحرم رتقه سواء كانت المرأة متزوجة أو مطلقة أو أرملة لأنه بذلك لا مصلحة فيه .
ب – كما أنّه لا خلاف بينهم أن تمزق غشاء البكارة إذا كان بسبب زنى اشتهر بين الناس إما نتيجة صدور حكم على الفتاة بالزنى أو لتكرره منها واشتهارها به فإنه يحرم على الطبيب رتق غشاء البكارة لعدم المصلحة واشتماله على المفسدة.
ج – واختلف الباحثون في حكم رتق غشاء البكارة إذا كان سبب التمزق حادثاً ليس وطئاً أو إذا كان بسبب زنى لم يشتهر بين الناس (55)على قولين :(/4)
الأول : أنه لا يجوز الرتق مطلقاً.
الثاني : أنه يجوز في هذه الحالات .
واستدل من منعه بعدة أدلة منها :
أن رتق غشاء البكارة يسّهل إرتكاب الزنى وفيه اطلاع على العورة دون موجب ضروري وأنه قد يؤدي إلى اختلاط الانساب, إذ قد تحمل المرأة من جماع سابق ثم تتزوج بعد الرتق فيلحق الحمل بالزوج, ولأنه نوع من غش الزوج والغش محرم .
وأما الضرر اللاحق بالمرأة فيكفي في منعه إعطاؤها شهادة طبيَّة بحقيقة حالها .
واستدل من أجاز بأن الستر مندوب إليه في الشرع والرتق يحقق ذلك وأنه يمنع انتشار الفاحشة وإشاعة الحديث حولها وهذا له أثرٌ تربوي عام في المجتمع . وأن المرأة في هذه الحالات بريئة من الفاحشة وفي اجراء الرتق قفل لباب سوء الظن فيها .
وقد اختار د. محمد الشنقيطي والشيخ عز الدين الخطيب وغيرهما تحريم الرتق مطلقاً .
والحقيقة أن المتأمل لهذه العملية والذي يريد توصيف حكمها الشرعي كما أنه لا يغفل عن أثرها وكيفيّة تطبيقها فإنه لا يمنعه ذلك من النظر الواقعي الذي ينزل الحكم عليه.
وتأمل رجلاً تقدم لخطبة فتاة يبرز لها أهلها قبل العقد تقريراً طبياً بزوال عذريتها نتيجة اغتصاب لا ذنب لها فيه أو أثراً لعمليّة احتاجت لإجرائها فهل هذا الحل الذي اقترحه أصحاب الفضيلة محققاً للغرض؟
وكيف يمكن أن يتساوى حال المرأة التي وقعت في الزنا ومن زالت بكارتها بغير الوطء؟
هذه الأسئلة تحتاج لجواب أعتقد أنه لن يتفق مع ما اختاروه .
ولعل أقوى ما يتمسك به من منع الرتق أنه فيه سداً لذريعة انتشار الفساد وسهولة ارتكاب الزنى للعلم بإمكان الرتق بعد ذلك ، وهذا وجيه جداً لكن إعطاء المرأة شهادة طبيّة عند زوال بكارتها بغير ذنب منها يفتح أيضاً الباب للفاسدات بأخذ شهادات طبيَّة مماثلة ومعلوم أن كتابة التقرير الطبي سهل وأيسر من اجراء عمليّة الرتق.
وحيث إن أهل العلم عرفوا البكر بأنها التي لم تجامع ووصفوا من زالت بكارتها بغير الوطء بأنها بكر حقيقة وكما قال ابن قدامة : " وإذا ذهبت عذريتها بغير جماع كالوثبة أو لشدة حيضة أو بإصبع أو عود ونحوه فحكمها حكم الإبكار " (56).
وعليه فإن الظاهر لي أن من زالت بكارتها بغير وطء فإنّه يجوز إصلاح غشائها العذري لكونها بكراً ورتق غشاء البكارة دليل على حالها التي هي متصفة به فلا يكون في ذلك غش ولا تدليس ولا كذب.
وكشف العورة لذلك كشف لها لمصلحة وهو جائز للحاجة .
وأما زوال البكارة بسبب الزنى فإنه لا يظهر لي وجه جواز برتقه، وتبقى بعد ذلك الحاجة إلى ضبط هذا الإجراء وعدم السماح به إلا تابعاً للعملية التي تم فيه علاجها من الحادث الذي تسبب في تمزق البكارة والله أعلم .
3- رتق غشاء البكارة في حالات الاغتصاب :
معلوم أن الاغتصاب إكراه للمرأة على ممارسة جنسية ، ونحتاج عند بيان حكم الرتق في هذه الحالة إلى بيان مقدمات :
أولاً : المكره غير مُؤاخذ :
المكره إكراهاً تاماً غير مكلف إجماعاً ولا إثم عليه (57). قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } (58) .
قال الشافعي : "إن الله تعالى لما وضع الكفر عمّن تلفظ به حال الإكراه أسقط عنه أحكام الكفر ,كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر، لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو دونه من باب أولى" (59).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (60).
ثانياً : البكارة قد تزول بغير وطء وقد تبقى مع حصول الوطء:
وهذا مما يعرفه الأطباء ويقررونه وإن كان الغالب أن زوال البكارة قرينة على حصول الوطء وقد سبق.
ثالثاً: إذا تزوج الرجل على أنها بكر فبانت ثيباً فلا تردَّ في ذلك . فقد روى الزهري أن رجلاً تزوج امرأة فلم يجدها عذراء فأرسلت إليه عائشة رضي الله عنها إن الحيضة تُذْهِب العذرة (61).
وكذلك ورد عن الحسن والشعبي وإبراهيم النخعي أن الرجل إذا لم يجد امرأته عذراء فليس عليه شيء للعذرة فإن الحيضة تُذهب العذرة ، والوثبة والتعنس والحمل الثقيل (62).
وهو قول الثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وهو رواية عن الإمام أحمد (63). وهذا إذا كان زوال البكارة بما لا تأثم فيه المرأة أما لو كان زوالها بزنى هي فيه آثمة فإن للزوج فسخ النكاح لأنه يتبين به عدم عفتها .
وبناء على المقدمات الثلاث السابقة وحيث إن المغتصبة ونحوها غير آثمة ولا هي زانية لغة ولا شرعاً ، ولا ينسب إليها ما لم تفعله ولم ترض به وقد ابتليت ببلاء كبير يمكن إزالته .
ومن تزوجها وقد زالت بكارتها بسببٍ ليس من قِبَلِها ولم تأثم به فإنه لا يكون مغشوشاً ولا مخدوعاً إذ كان السلف يعتبرون من زالت عذريتها بغير الوطء بكراً ليس لزوجها فسخ نكاحها كما سبق.(/5)
ومن تأمل المصلحة المترتبة على رتق المغتصبة فإنه لايظهر لي مانع من إجراء عملية رتق الغشاء العذري لمن اغتصبت سواء كانت كبيرة أو قاصرة ، لكن بشرط أن يكون إجراؤها مبنياً على الإجراء الجنائي الذي يثبت التعرض للاغتصاب وأن لا يجري الطبيب الرتق بدون ذلك سداً لباب التلاعب والتحايل .
وقد صدرت فتوى مفتي مصر في 26/6/1419هـ تتضمن : " أنه لا مانع شرعاً من العمليات الجراحية التي تجرى للأنثى التي اختطفت وأكرهت على مواقعتها جنسياً لإعادة بكارتها " (64).
كما لا يلزمها ولا أهلها إطلاع الخاطب الذي يتقدم لها بذلك والله أعلم .
وبعد ! فجميع ما سبق نظرات موجزة في مسائل فقهية لا شك تستدعي مزيد نظر واجتهاد وبحثٍ وتأمل يتوجب عليّ مع إتمام مسائل ازدحم وقتي قبل تحريرها وكتابتها فلعلي أن أفرغ لها وهي نفقة المغتصبة والتعويض عن الاغتصاب ونفقة المولود إثراً للاغتصاب . فأسأل الله تعالى أن يُيَسّر الكتابة ويمنح الإصابة ويجزل الأجر ويحسن القصد .
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه .
________________________________________
(1) القاموس المحيط (غصب) ص154 .
(2) لسان العرب (غصب) [1/648] .
(3) وبعض الفقهاء يقول هو فعل الفاحشة في القبل أو الدبر انظر : الروض المربع ص505 ؛ وهذا راجع لاختلافهم هل اللواط زنا أو لا . فأجمعوا أنه زنا خلافاً لأبي حنيفة , مواهب الجليل [6/290] , فتح القدير [4/138] , نهاية المحتاج (7/402) .
(4) روضة المحبين ص360 .
(5) ابن ماجه (2045) , الدار قطني (497) , ابن حبان (360) , الحاكم (2/198) وصححه ووافقه الذهبي وله طرق عن ابن عمر وعقبة ابن عامر وثوبان . انظر نصب الراية (2/65) وقد صححه الألباني إرواء الغليل (82) .
(6) سنن الترمذي 1453 , سنن ابن ماجه 2598 ؛ مسند أحمد (4/318) , وانظر إرواء الغليل 7/341 .
(7) المصنف لعبد الرزاق (7/407) , سنن سعيد بن منصور (2/69) , سنن البيهقي (8/236) .
(8) قال في المغنى (لا نعلم فيه مخالفاً) [12/346] .
(9) شرح فتح القدير (4/157) .
(10) المغني (12/346) .
(11) المهذب (2/284) .
(12) المغني (12/348) .
(13) شرح الذرقاني (8/80) , أسنى المطالب (4/127) , المهذب (2/284) .
(14) المستصفى للغزالي (1/91) , شرح مختصر الروضة (1/194) , جامع العلوم والحكم ص375 .
(15) روضة الناظر وشرحها (1/142) , جامع العلوم والحكم 375 , وانظر زاد المعاد (5/205) ؛ تفسير القرطبي (10/188) .
(16) انظر : بداية المجتهد (2/61) , مغني المحتاج (3/289) , كشاف القناع (5/236) .
(17) لسان العرب (3865) (كره) , معجم مقاييس اللغة (5/172) .
(18) معجم لغة الفقهاء ص85 .
(19) القواعد لابن رجب ص322 القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة .
(20) مجلة البحوث الإسلامية 12/75 .
(21) تاج العروس من جواهر القاموس ، (10/30) مادة جهض .
(22) القاموس المحيط جهض، لسان العرب (7/131) جهض .
(23) تاج العروس (10/284) سقط، لسان العرب (7/316) سقط .
(24) الموسوعة الفقهية (2/56) .
(25) انظر الموسوعة الفقهيّة الطبيّة ص43 .
(26) صحيح البخاري 3208، صحيح مسلم 2643 .
(27) صحيح مسلم 2645 . ومما ذكره العلامة ابن رجب.جمعاً بين حديثي ابن مسعود وحذيفة أن لفظة ثم في حديث ابن مسعود لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه في نفسه . وأن الكتابة تأخرت في حديث ابن مسعود مع تقدمها لئلا ينقطع ذكر الأطوار التي يتقلب فيها الجنين . جامع العلوم والحكم ص50 ؛ شرح صحيح مسلم للنووي ص1567 .
(28) جامع العلوم والحكم ص51 ، وحكى النووي وابن حجر اتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر انظر فتح الباري 11/490 . شرح مسلم ص1567 .
(29) حاشية ابن عابدين (1/602) ، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/267) ، نهاية المحتاج (8/416) ، الفروع (1/191).
(30) سورة الإسراء آية 33 .
(31) أنظر أحكام القرآن لابن العربي (4/1623) .
(32) الموسوعة الفقهية (2/57) .
(33) حاشية ابن عابدين (6/591) .
(34) نهاية المحتاج (8/416) .
(35) الفروع (6/191) .
(36) حاشية ابن عابدين (2/380) .
(37) حاشية ابن عابدين (2/380) .
(38) حاشية الدسوقي (2/266) .
(39) نهاية المحتاج (8/416) .
(40) الشرح الكبير (2/266) .
(41) نهاية المحتاج (8/416) .
(42) الفروع (6/191) .
(43) حاشية ابن عابدين (2/380) .
(44) نهاية المحتاج (8/416) .
(45) نهاية المحتاج (8/442) .
(46) صحيح مسلم 1695 .
(47) انظر مسألة تحديد النسل د. البوطي ص130 .
(48) الموسوعة الفقهية الطبية ص526 .
(49) أنظر مسألة تحديد النسل د. البوطي 142، الإجهاض آثاره وأحكامه د. النفيسه ، أحكام الإجهاض د. ابراهيم رحيم ص136.
(50) حاشية ابن عابدين 2/380 .
(51) المعاناة النفسيّة لا تكفي سبباً لإزهاق نفسٍ وقتلها دفعاً لمعاناة نفسية من وجوده .(/6)
(52) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 39 في 1409هـ ، قرار هيئة كبار العلماء رقم 42 في 13/4/1396هـ .
(53) الموسوعة الطبية الفقهية ص154، القاموس الفقهي ص41 .
(54) رؤية لبعض القضايا الطبية د. عبدالله باسلامة ص100 ، الموسوعة الطبية ص154 .
(55) غشاء البكارة من منظرو إسلامي ، عز الدين الخطيب، رتق غشاء البكارة في ميزان المقاصد الشرعية د. محمد نعيم ياسين، أحكام الجراحة الطبية للشنقيطي ص428 ، الموسوعة الطبية الفقهية ص156 .
(56) المغني (9/411) .
(57) المستصفى للغزالي (1/91) ، شرح مختصر الروضة (1/194) .
(58) سورة النحل (106) .
(59) الأم له ونقله عند الصنعاني في سبل السلام (3/370) .
(60) الدارقطني (497) ، ابن حبان (360) ، الحاكم (2/198) وصحهه ووافقه الذهبي وأخرجه ابن ماجة (2045) لكنه منقطع . وفي الباب عن ابن عمر وثوبان وعقبة بن عامر نصب الراية (2/65) ، قال السخاوي في المقاصد الحسنة : " مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلاً " ص 230 . قال الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه " تلقاه العلماء بالقبول " ص 33 . وصححه الألباني في إرواء الغليل 82 .
(61) سنن سعيد بن منصور باب الرجل يحد امراته غير عذراء (2/76) .
(62) المصدر السابق (2/75) .
(63) الشرح الكبير (20/429) .
(64) جريدة الشرق الأوسط الأربعاء غرة رجب عام 1419هـ .(/7)
الافتراق مفهومه،أسبابه،سبل الوقاية منه
يتناول الدرس موضوعا من من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعني بها أهل العلم وطلابه في هذا العصر، والتي هي أحوج ما يحتاج إليه المسلمون بعامة، وطلاب العلم بخاصة، مسألة الافتراق: مفهومه وأسبابه، وسبل الترقي منه، والحذر من الوقوع فيه. لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وسيطرت علي الناس، وكثر فيه الخبث والنفاق .
إن من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعني بها أهل العلم وطلابه في هذا العصر، والتي هي أحوج ما يحتاج إليه المسلمون بعامة، وطلاب العلم بخاصة، مسألة الافتراق: مفهومه وأسبابه، وسبل الترقي منه، والحذر من الوقوع فيه. لا سيما في هذا العصر الذي كشرت فيه البدع وأخرجت أعناقها، وكثرت فيه الأهواء، وسيطرت علي الناس، وكثر فيه الخبث والنفاق.
نعم، لقد كثرت الأهواء، رغم كثرة العلم وانتشاره، إلا أنه لا بركة فيه لأصحابه، ولا يفيد الكثيرين ممن تلقوه؛ لأنه إما أن يكون تلقيه عن غير المصادر الأصلية، أو عن غير أهله، أي من غير الكتاب والسنة، والآثار ومصنفات أئمة الهدي المقتدي بهم في الدين، أو علي غير منهج أهل العلم والفقه في الدين، والبركة إنما تتحقق في العلم الذي يؤخذ عن العلماء، وهو الأصل الذي هو سبيل المؤمنين، أما أخذ العلم عن الوسائل دون الرجال فإنه لا ينفع، مما نتج عنه ظهور الأهواء والآراء الشاذة عن السنة، وشيوع مظاهرة الافتراق، وبحثنا هذا سيكون عن: الافتراق، مفهومه، أسبابه، وسبل التوقي منه.
المسألة الأولي: مفهوم الافتراق:
في اللغة: من المفارقة، وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع، والافتراق أيضاً مأخوذ من الانشعاب والشذوذ ومنه الخروج عن الأصل، والخروج عن الجادة، والخروج عن الجماعة.
وفي الاصطلاح: الافتراق هو الخروج عن السنة والجماعة في أصل من أصول الدين القطعية أو أكثر، سواءً كانت الأصول الاعتقادية، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمي، أو بهما معًا.
فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين في العقيدة افتراق، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق. والخروج عن إجماع المسلمين عملاً افتراق، وكل كفر أكبر يعد افتراقًا وليس كل افتراق كفرًا. كل عمل أو اعتقاد يخرج به الإنسان عن أصول الإسلام وعن قطعيات الدين وعن السنة والجماعة وهو يقتضي الكفر فإنه مفارقة، لكن ليس كل افتراق كفرًا بمعني أنه قد يقع الافتراق من طائفة، أو فريق من الناس، أو جماعة، لكن قد لا توصف بالكفر، حتي إن افترقت عن جماعة المسلمين في عمل ما، كافتراق الخوارج، فالخوارج الأولون افترقوا عن الأمة، وخرجوا عليها بالسيف، وفارقوا جماعة المسلمين وإمامهم، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم، بل اختلفوا فيه.
المسألة الثانية: الفرق بين الاختلاف والافتراق:الفرق بن الافتراق والاختلاف أمر مهم جدًا، وينبغي أن يعني به أهل العلم، لأن كثيرًا من الناس خاصة بعض الدعاة، وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق، ومن هنا قد يرتب بعضهم علي مسائل الاختلاف أحكام الافتراق، وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتي يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص، أو جماعة ما؟ من هنا كان لا بد من ذكر بعض الفروق بين الاختلاف وبين الافتراق، وسأذكر خمسة فروق علي سبيل المثال لا علي سبيل الحصر:
الفرق الأول: أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف، إذ قد يصل الخلاف إلي حد الافتراق، وقد لا يصل فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراق، وينبني علي هذا الفرق الثاني.
الفرق الثاني: وهو أنه ليس كل اختلاف افتراق، بل كل افتراق اختلاف، فكثير من المسائل التي تنازع فيها المسلمون هي من المسائل الخلافية، ولا يجوز الحكم علي المخالف فيها بالكفر، ولا المفارقة، ولا الخروج من السنة.
الفرق الثالث: أن الافتراق لا يكون إلا علي أصول كبرى، أي أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع، أو استقرت منهجًا عمليًا لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، من خالف فيه فهو مفترق، أما مادون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف، فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد في الرأي، ويقبل الاجتهاد، ويحتمل ذلك كله، وتكون له مسوغات عند قائله، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات، ويكون في بعض الأصول التي يعذر فيها بالعوارض عند المعتبرين من أئمة الدين، والفرعيات أحياناً قد تكون في:
بعض مسائل العقيدة التي يتفق علي أصولها، ويختلف علي جزئياتها، كإجماع الأئمة علي وقوع الإسراء والمعراج، واختلافهم وتنازعهم في رؤية النبي صلي الله عليه وسلم لربه فيه، هل كانت عينيه، أو قلبيه؟(/1)
الفرق الرابع: أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد، وعن حسن نية، ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحرياً للحق، والمصيب أكثر أجراً، وقد يحمد المخطئ علي الاجتهاد أيضاً، أما إذا وصل إلي حد الافتراق، فهو مذموم كله. بينما الافتراق لا يكون عن اجتهاد، ولا عن حسن نية، وصاحبة لا يؤجر بل هو مذموم وآثم علي كل حال، ومن هنا فهو لا يكون إلا عن ابتداع، أو عن اتباع هوى، أو تقليد مذموم.
الفرق الخامس: أن الافتراق يتعلق به الوعيد وكله شذوذ وهلكة، أما الاختلاف فليس كذلك مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ، أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل بالدليل ولم تقم عليه الحجة، أو عن إكراه يعذر به قد لا يطلع عليه أحد، أو عن تأول ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة.
التنبيه علي بعض الأخطاء : وبمناسبة الفرق بين الاختلاف والافتراق لا بد من التنبيه علي بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس في هذا العصر، خاصة الذين يواجهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلي الله مع ضعف في العلم، وضعف في الفقه في الدين، أو قلة التجربة، أو انحراف في التصرف، وأخص بعض رواد الحركات الإسلامية المعاصرة. فمن هذه الأخطاء:
الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق : وينبني عليه نزوع بعضهم إلي إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم، وهذا خطأ فادح، وهو بذلك يزعم أنه يريد أن يظهر حسن النية في الأمة، وأن يعامل بالظاهر، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله، أو يصرف الافتراق إلي فرق خارجة عن الإسلام قطعاً، أو إلي فرق في الأمة هي من غير المسلمين، وهذا خطأ فادح بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي صلي الله عليه وسلم، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة، تدل علي وقوع الافتراق.
فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده، والله سبحانه كتب منذ الأزل ألا يبقي علي الحق إلا الأقلون، وعلي هذا فإن الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة، بل هو أمر واقع لا بد الاعتراف به، ولا بد من تصديق خبر النبي صلي الله عليه وسلم، فيه كما أخبر.
وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يسلم بالأمر الواقع، أو يزعم أن المفارقة مشروعة، أو يرضي بأن يفارق، أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عن استسلامًا لقدر المفارقة، بل إن وقوع الافتراق هو دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق ويستمسك به، ويعرف الشر ليحذره ويتجنب مسالكه، وليعلم أن الحق لا بد متحدد في نهج النبي صلي الله عليه وسلم، وفي نهج صحابته، ونهج السلف الصالح.
الخطأ الثاني: وهو اعتقاد أن المفارقة مادامت أمراً واقعاً فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضًا وتسليم : وأنه يشرع للدعاة أن يرضوا بواقع الافتراق ويسلموا به، وأن يقبلوا هذا الضلال دون أن يسعوا لعلاجه، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان؛ لأن المفارقة أمر واقع، فعلي المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق، أو يتعاطف معهم.
وهذه أيضاً دعوى باطلة، بل هي تلبيس علي المسلمين، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة، أو ذريعة للرضا بالبدع، أو ذريعة للرضا بالأهواء والرضا بالخطأ لأن الخبر عن الافتراق في الدين جاء بمعرض النهي والتحذير الشديد، ولقد وصل الأمر عند البعض ممن ينتسبون للدعوة أن يقول ما دام الرسول صلي الله عليه وسلم، أخبر بأن الأمة ستفترق، فإذا لا بد أن نرضي بالبدع ونقرها أمراً واقعاً، ونرضي بالأهواء ونقرها أمراً واقعاً، ونسلم للأمر الواقع ولنعرف بأنه لا دين إلا بدخن !!
وهذه دعوى باطلة بل هي من مداخل الشيطان علي الإنسان؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم، حينما أخبر عن الافتراق، أخبر بأنه ستبقي طائفة من هذه الأمة علي الحق، ظاهرة منصورة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ] رواه مسلم. ظاهرة بالحق، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهدي بها من أراد الهدى، ويقتدي بها من أراد الحق والخير والسنة.
فإذاً الحجة لا بد أن تكون قائمة، والحق لا بد أن يظهر، ولا يمكن أن يخفي علي كل ذي بصيرة، ولا علي كل من يريد الحق ويسعى إليها صادقًا، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا. فمن هنا كان الرضا بالبدع والأهواء علي أنها أمر واقع لا يجوز شرعًا، بل هو تلبيس علي المسلمين، وهو أيضا تحقيق للباطل، وإعراض عن الحق، واتباع لغير سبيل المؤمنين، نسأل الله السلامة.(/2)
الخطأ الثالث: خطأ الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة للتسرع في وصف المخالفين بالخروج، أو المفارقة، أو المروق من الدين: وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم علي المخالفين دون رجوع إلي قواعد الشرع وأصول الحكم، ومناهج أئمة الدين في ذلك، لأن التكفير له ضوابطه وأصوله، حتى مع مرتكبي البدع والأهواء، لأن ترتيب الأحكام عليهم بالكفر، أو بالبراء والبغض والهجر، والتحذير من المخالف مطلقاً، دون التثبت ودون إقامة الحجة لا يجوز، أعني بذلك: أنه لا ينبغي لكل من رأي أي بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة، ولا كل من رأي أمرًا مخالفًا للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة، لأن من الناس من يجهل الأحكام، والجاهل معذور حتي يعلم، ومن الناس من يكون مكرهًا في بيئة، أو في مكان ما، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يكره فيها المسلمون ـ مثلاً ـ علي حق اللحي، أوعلي ترك الجماعة، أو علي التلفظ بالكفر، أو علي ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعًا، ويكرهون علي ذلك، ولو لم يفعلوا لقتلوا، أو عذبوا، أو انتهكت أعراضهم، أو نحو ذلك.
إذاً: فإن عارض الإكراه لا بد أن يرد في ذهن الحاكم علي الناس بأي حكم من الأحكام، وقد يكون فاعل البدع، أو معتقد الضلالة متأولاً، ولم تقم عليه الحجة، فلا بد من إقامة الحجة علي الناس، فقد يري أحد منا إنساناً يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق ـ كبدعة المولد مثلاً ـ فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالابتداع، حتي يبين له الأمر، وتقام علي الحجة، ولا أن يوصف بالافتراق، أو أنه خارج عن الجماعة، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتي تقام عليه الحجة اللهم إلا البدع المكفرة، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها.
بل اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات لا يجوز، بل هو من التعجل المذموم، وينبغي علي من رأي شيئًا من ذلك: أن يتثبت، وأن يسأل أهل العمل، ويفترض أن المسلم الذي وقع في ذلك جاهل، أو متأول، أو مقلد يحتاج إلي نصح، وبيان، وإرشاد، وأن يعامل ابتداءً بإشفاق ورفق؛ لأن القصد هدايته لا تجريحه.
الخطأ الرابع: الجهل بما يسع فيه الخلاف وبما لا يسع: أي عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام، بل المنتسبين للدعوة، بين ما هو من أمور الخلاف، وما هو من الأمور التي لا يصح فيها خلاف، وأضرب لذلك أمثلة:
? من الناس من يعد بعض المسائل الخلافية من القطعيات والأصول دون أن يرجع إلي أصول أهل العلم، وإلي أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين، الذين يبصرون في هذه الأمور.
? ومن ذلك: عدم التفريق بين الأمور المكفرة وغير المكفرة.
? عدم التفريق بين البدعيات الكبرى وما دونها، والبدعيات المخرجة من الدين، أو المكفرة وما دونها، فإن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر، كالقول مثلًا: بأن القرآن مخلوق، طبقه علي كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، وعدم التفريق بين الأصل، وبين الحكم علي المعين أمر مخالف لأصول السلف، وأصول أهل السنة والجماعة.
إن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الأحكام بالكفر، أو بالفسق، أو بالتبديع علي وجه العموم، وبين الحكم علي المعين، فقد نحكم علي عمل أو شئ ما بأنه كفر، ونحكم علي مقولة ما من المقولات بأنها كفر، وهذا لا يعني أن كل من اعتقد، أو فعل هذا الكفر يكفر، ولا من قال بهذا القول يكفر، هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل؛ فيكفرون باللوازم، ويكفرون دون الأخذ بضوابط التكفير، مع أن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى يتم التثبت، وبيان الحجة وإقامتها، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود العوارض المانعة من إطلاق التكفير علي المعين، كالجهل وعدم وجود التأول، وهذه المسألة تحتاج إلي مقامات طويلة، إلي مقابلة للأشخاص، وإلي الجلوس إليهم، ونقاشهم ونصيحتهم، أما أن نرتب أحكام الكفر علي كل من ظهرت منه حالة كفر، أو مقولة كفر، أو اعتقاد كفر، فإن هذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة، كمن أنكر أن يشهد أن لا إله إلا الله، فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من أنكر أن يشهد أن محمدًا رسول الله، فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من سب الرسول، صلي الله عليه وسلم، فهذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، لكن هناك من أصول الدين ما تخفي دقائقه وتفصيلاته، وألفاظ الاعتقاد به علي العامة، ومن في حكمهم، وكمسائل الصفات، ومسائل القدر، ومسائل الرؤية، والشفاعة، ومسائل الصحابة، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة، بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلي العلم، تخفي عليهم تفاصيله، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر وهو لا يشعر، أو وهو لم يتعمد، أو هو لا يدري، أو لم يتمعن العبارة، فهل هذا يحكم بكفره؟ طبعاً لا.(/3)
إن من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم علي الناس، خاصة صغار طلاب العلم والأحداث منهم، الذين لم يتفقهوا في الدين علي أهل العلم، إنما أخذوا العلوم الشرعية عن الكتب والوسائل دون اهتداء، ودون اقتداء، ودون مراعاة للأصول، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام، هؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة، وهي عدم التفريق بين الأصول، وبين تطبيق الأصول علي الجزئيات والحوادث والنوازل.
فأحكام الكفر والتكفير وأحواله، لا تعني تكفير كل شخص يقول بها، أو يعلمها، أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء، مثل أحكام التكفير، لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء علي كل من يظهر منه موجبه، حتي يتم التأكد، أقصد بذلك البراء بخاصة، أما الولاء فهو الأصل لكل مسلم، ولا يجوز التوقف والتبين في الولاء إذ الولاء واجب لكل من يظهر منه الإسلام، حتي يظهر ويتأكد ما يخالفه.
المسألة الثالثة: وقوع الافتراق في الأمة:
هل وقع الافتراق هي الأمة؟ وهلي يقع أو لا يقع؟هذه المسألة محسومة بأمور:
أولها: الأخبار المتواترة عن النبي صلي الله عليه وسلم، بوقوع الافتراق في هذه الأمة: ومن ذلك حديث الافتراق: [ تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً] هذا حديث النبي صلي الله عليه وسلم، مشهور وقد رواه جمع من الصحابة، وخرجه الأئمة العدول، الحفاظ في السنن، كما صححه جمع من أهل العلم، كالترمذي والحاكم، والذهبي، والسيوطي، والشاطبي، وأيضا للحديث طرق حسنة كثيرة جدًا، بمجموعها تصل إلي حد الجزم بصحته.
الثاني: أن النبي صلي الله عليه وسلم، أخبر أن الأمة ستتبع الأمم السابقة: فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ] قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ:[ فَمَنْ] رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الألفاظ التي تدل علي أن النبي صلي الله عليه وسلم، أخبر علي سبيل التحذير، أن الأمة ستقع في الافتراق حتماً، وأن هذا أمر واقع تبتلي به هذه الأمة، وليس وقوع الافتراق ذم إلا للمفترقين، وليس هو ذم علي الإسلام، ولا انتقاص، ولا ذم لأهل السنة والجماعة، وأهل الحق، إنما هو ذم للمتفرقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعة، بل أهل السنة هم الباقون علي الأصل، وهم الذين أقام بهم الله الحجة علي الناس، إلي قيام الساعة.
الثالث: والنصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من اتباع السبل وهي الأهواء والفرق:
من ذلك: قوله تعالي: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [103]{ [سورة آل عمران]. وقال تعالي: } وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [46]{ [سورة الأنفال]. وقوله تعالي: } وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]{ [سورة آل عمران]. وقوله تعالي: } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153]{ [سورة الأنعام]. وقد شرح النبي صلي الله عليه وسلم، هذه الآية شرحاً مفصلاً، بأن خط خطاً طويلاً مستقيمًا، ثم خط خطوطًا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فبين صلي الله عليه وسلم أن هذا صراط الله، وهذه السبل هي الجواد التي تخرج عن السبيل الأساسية، وأنه سيكون علي سبل الهلاك دعاة يدعون إلي سبل الشيطان، فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة.
رابعاً: ونهانا الله سبحانه عن التنازع، فقال: } وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [46]{ [سورة الأنفال].
والتنازع قد وقع في طوائف من هذه الأمة، وافترقت به الفرق.
خامسًا: كذلك توعد سبحانه الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين، قالتعالي:} وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[115]{ [سورة النساء].
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.(/4)
سادسًا: كما أن النبي صلي الله عليه وسلم، رتب أحكاماً علي المفارقة بدليل أنها ستقع، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ] رواه البخاري ومسلم.
سابعًا: وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم، بالافتراق في الأمة، حين أخبر عن الخوارج، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون من الدين، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة قطعًا، إنما المروق قد يعني الخروج من أصل الإسلام، أو عن حدوده، أو بعض ذلك، والخروج يكون بالكفر، أو ما دون الكفر، وقد يعني الخروج من أمة الإسلام وهي جماعته، أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة.
ثامناً: والنبي صلي الله عليه وسلم، أمر بقتل المفارق للجماعة، كما مر في الحديث السابق، وهذا تشريع في أمر لا بد حاصل، إذ لا يكون تشريع النبي صلي الله عليه وسلم ترفًا أو افتراضًا.
تاسعًا: كذلك بين النبي صلي الله عليه وسلم، أن من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة الجاهلية، وأن الفرقة عذاب وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل علي أن الفرقة واقعة، والتحذير منها لم يكن عبثاً، إنما لأنها ستقع ابتلاء ولا تقع إلا والناس علي بصيرة، يعرفون الحق وهو الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، والباحثون عن الحق يميزون بين الحق والباطل، فمن اهتدي اهتدى علي بصيرة، ومن ضل بعد ذلك ضل علي علم، نسأل الله العافية من الضلالة.
? وبعد: فإن هذه الأدلة قاطعة علي صحة حدوث الافتراق في الأمة، وأنه من سنن الله التي لا تتبدل، وأن الافتراق كله مذموم، وعلي المسلم أن يعرفه، ويعرف أهله، فيتجنب مواطن الزلل.
المسألة الرابعة: تاريخ الافتراق في الإسلام :
وتاريخ الافتراق مفيد؛ لأن ما حدث في أول الإسلام عبرة، ولا بد من تصحيح المفهوم فيها، وفيما أخطأ فيه كثير من الناس في العصر الحاضر:
أولًا: أول عقائد الافتراق التي ظهرت في الأمة كانت مجرد أفكار وعقائد مغمورة لا تسمع إلا همسًا، وهي العقائد السبئية:'عقائد الشيعة وأصول الخوارج' وهي أول ما سمع الصحابة من عقائد الافتراق وبذور الفرقة بين المسلمين، وقد قال بها شخص غريب الأطوار، اختلف في اسمه، والأشهر أنه عبد الله بن سبأ، فقال بها، وأخذ يوسوس بها بين المسلمين، فاعتنقها كثير من المنافقين، ومن الكائدين الذين كادوا للإسلام، ومن الجهلة وحدثاء السن، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام علي بلادهم، وعلي أديانهم، وقوض ملكهم، فاعتنقوا مقولات ابن سبأ، فسارت بين المسلمين سرًا، حتي ظهرت منها الشيعة والخوارج..هذا بالنسبة لأول العقائد، ومقولات الفرق التي ظهرت بين المسلمين وهي تخالف أصول الإسلام.
أما أول الفرق ظهوراً وافتراقاً عن جماعة المسلمين فهي الخوارج، والخوارج نبتة من نبتات السبئية هذا ورغم ما بين الخوارج والشيعة من بعض الفوارق، إلا أن الأصل واحد، وكلها نشأت عن أحداث الفتنة على عثمان رضي الله عنه.
ثانيا: أمر لا بد من التنبيه عليه: وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة افتراق البتة، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع، وإما بالخضوع لرأي الجماعة، والالتفاف حول الإمام، هذا ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابي أن كان مفترقًا عن الجماعة، وليس فيهم من قال ببدعة، أو عمل محدثًا في الدين، إن الصحابة وهم الأئمة المقتدى بهم في الدين، لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبدًا، ولم يحصل أن أحدًا منهم أيضًا يعد قوله أصلاً في البدع، ولا أصلاً في الافتراق، والذين نسبوا بعض المقولات، أو نسبوا بعض الفرق إلي بعض الصحابة، إنما كذبوا عليهم، وافتروا عليهم أكبر الفرية، فلا صحة لما يقال من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية، أو أن أهل الصفة هم أصل الصوفية، أو أن معاوية هو أصل الجبرية، أو أن أبا الدرداء أصل القدرية، أو أن فلاناً من الصحابة هو أصل كذا من المقولات، أو المحدثات أو البدع أو المواقف الشاذة، بل كل ذلك، إنما هو من الباطل المحض . ثم إن الصحابة قاوموا الافتراق، ولا يظن ظان أن الصحابة غفلوا، أو أنهم جهلوا، أو أنهم لم يتنبهوا لمسائل الافتراق، سواء كانت أفكارًا أو عقائد، أو مواقف أو أعمالاً، بل لقد وقفوا ضد الافتراق أشد الوقوف، وأبلوا في ذلك بلاء حسناً بحزم وقوة، لكن أمر الله لا بد أن يقع.
المسألة الخامسة: أسباب الافتراق: هناك أسباب كبرى رئيسية، وتكاد تتفق عليها أصول الفرق قديماً وحديثاً، ألخصها بما يلي:(/5)
السبب الأول:كيد الكائدين بأصنافهم من أهل الديانات: كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس والدهريين، وكذلك من الموتورين، أي الذين حقدوا علي الإسلام والمسلمين؛ لأن الجهاد قضى علي دولتهم، ومحى عزة أديانهم، وهيمنة سلطانهم من الأرض، كالفرس والروم، فهؤلاء منهم الذين بقوا علي كفرهم، وحقدهم علي المسلمين والدين والإسلام، وآثروا النفاق والزندقة بإعلان الإسلام ظاهرًا فقط، أو البقاء علي دياناتهم مع دفع الجزية حفاظًا علي رقابهم، وإيثارًا للسلامة، للتعايش مع المسلمين، وهؤلاء هم أشد المعاول عملا في الفتك بالمسلمين، والكيد لهم بالأفكار وبث المبادئ والبدع والأهواء بينهم.
السبب الثاني: أهل الأهواء الذين يجدون مصالح شخصية، أو شعوبية، في الافتراق: فكثير من أتباع الفرق نجد أنهم يجدون في الفرق تحقيقاً لمصالح شعبية: إما شهوات، وإما أهواء، وإما أغراض عصبية، أو شعوبية، أو قبلية، أو غيرها، وربما بعضهم يقاتل لهذا الأمر لهوى، أو لعصبية، هذا الصنف هم مادة وقود الفرق، فهم الذين يكثرون أتباع تلك الفرق، ويجتمعون حولهم لتحقيق هذه المصالح، وهذه الفئة موجودة في كل زمان وفي كل مكان، فإنه متي ما ظهر في الناس رأي شاذ، أو بدعة أو صاحب هوى، فإنه يجد من الغوغاء، ومن أصحاب الأهواء، والشهوات والأغراض الشخصية، من يتبعه لتحقيق ذلك، وما أكثرهم في كل زمان.
السبب الثالث: الجهل: والجهل قاسم مشترك يمثل كل الأسباب، لكن الجهل المقصود هنا هو: عدم التفقه في الدين، والجهل بالسنة وأصولها وقواعدها ومناهجها، وليس مجرد عدم تحصيل المعلومات؛ لأن الإنسان قد يكفيه أن يحصل ما يحصن به نفسه، وما يحفظ به دينه، والعكس كذلك قد يوجد من الناس من يعلم الشئ الكثير، وذهنه محشو بالمعلومات، لكنه يجهل بديهيات الأصول والقواعد الشرعية في الدين، فلا يفقه أحكام الخلاف وأحكام الافتراق، وأحكام التعامل مع الآخرين، وهذه مصيبة كبرى أصيب بها كثير من الناس اليوم، وهي أن الواحد منهم توجد لديه معلومات شرعية، أو يكون ممن يتعلمون ويأخذون العلم الشرعي عن مصادر كثيرة، لكن تجده جاهلاً في فقه أحكام الإسلام، وفي الأحكام علي الآخرين، وفي أحكام التعامل مع الناس، وفي أحكام الدعوة، وفي أحكام الأمر المعروف والنهي عن المنكر، فيفسد من حيث لا يشعر، فالجهل مصيبة، والجهل سبب رئيسي لوجود الافتراق، والجهلاء هم مادة الفرق، وهم وقودها.
السبب الرابع: الخلل في منهج تلقي الدين: فيوجد لدي كثير من الناس علم، وقد يطلع علي كثير من الكتب، لكنه يجهل، أو اختل عنده منهج تلقي الدين، لأن تلقي الدين له منهج مأثور منذ عهد النبي صلي الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، وسلف الأمة، واقتفاه أئمة الهدى إلي يومنا هذا.
وهذا المنهج إنما هو العلم والعمل والاهتداء، والاقتداء والسلوك والتعامل، وهو الإلمام بالقواعد الشرعية، والأصول العامة أكثر من مجرد الإلمام بفرعيات الأحكام، أو بكميات النصوص.
ومن مظاهر هذا الخلل في منهج التلقي التي يتبين بها المقصود:
? أخذ العام عن غير أهله: وأقصد بذلك أن الناس صاروا يأخذون العلم عن كل من دعاهم إلي التعلم، وكل من رفع فوق رأسه راية الدعوة، وقال أنا داعية، جعلوه إماماً في الدين، وتلقوا عنه، وقد لا يفقه من الدين شيئًا، فلذلك ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى، ينضوي تحت لوائها جهلة في بديهيات الدين، فيفتون بغير علم، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ ، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعاً لهم يأخذون عنهم دون تروٍ، ودون تثبت، ودون منهج صحيح سليم، ولا يتثبتون من حال القادة في كونهم أهل لأخذ الدين، أو التلقي عنهم، ثم إن كثيرًا من الناس تجذبهم العواطف أكثر مما يجذبهم العلم والفقه، وهذا خطأ فادح، بمعني أنه مجرد أن يظهر داعية له شهرة وأثر في ناحية ما، يجعله الناس إماماً في الدين، حتى لو لم يكن يعلم من السنة والفقه شيئًا، وهذا مصداق قول الرسول صلي الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ]رواه البخاري ومسلم.
ولا ينبغي أن يتصدر الدعوة إلي الله، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العلماء الأجلاء، الذين يفقهون الدين ويأخذونه عن أصوله، علي منهج سليم صحيح، وإلا فليس كل من حشي ذهنه بالمعلومات والثقافة والأفكار يكون إماماً في الدين، لأنه قد يوجد من الفسقة بل من الكفرة من يعلم من فرعيات الدين الشيء الكثير، وقد وجد من المستشرقين من يحفظ بعض الكتب الكبيرة في الفقه الإسلامي، بل منهم من يحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخارى، وبعض السنن ونحو ذلك.(/6)
فهذا الصنف يحفظ العلم لكن لا يفقه من الدين شيئًا، وكذا بعض من يدعي الإسلام، وقد يكون عنده من المعلومات الشيء الكثير، لكن لا يفقه منهج التلقي والعمل، والتعامل والتزام السنة، ولم يأخذ الدين علي منهجه الصحيح، وعلي العلماء الربانيين، فصار يفتي بغير علم، ويوجه بلا فقه.
? الاستقلالية عن العلماء والأئمة: أي استقلالية بعض المتعلمين وبعض الدعاة، وبعض الأحداث عن العلماء، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة، ويعزفون عن التلقي عن العلماء، وهذا منهج خطير بل هو بذرة خطيرة للافتراق، ولو رجعنا إلي أسباب الافتراق في أول تاريخ الإسلام، كافتراق الخوارج والرافضة، لوجدنا أن من أهم أسباب وجود هذا الافتراق عند من ينتسبون للإسلام- لا أقصد أصحاب الأغراض، أو المنافقين، أو الزنادقة، لكن ممن ينتسبون للإسلام- أعظم أسباب هلاكهم وافتراقهم؛ استقلالهم وانعزالهم عن الصحابة، واستهانتهم بهم، وترك أخذ الدين عنهم، وأخذهم العلم عن أنفسهم، وعن بعضهم، قالوا: علمنا القرآن، وعلمنا السنة، فلسنا بحاجة إلي رجال، وهذا حق أريد به باطل، فمن هنا استقلوا وخرجوا عن منهج التلقي الصحيح، وعن سبيل المؤمنين المأخوذ عن النبي صلي الله عليه وسلم، بالقدوة والاهتداء، والذي أخذه التابعون عن الصحابة بهذا الطريق، ثم عنهم السلف، ويأخذه الأئمة العدول جيل عن جيل. وكما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: [يَحْمِلُ هَذَا اَلْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ] أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث 28/29 وابن عدي في الكامل 1/152، 153 و3/002 وحسنه، وصححه العلاني في بغية الملتمس 34، 35 .
العدول هم:الحفاظ الثقات، الذين يأخذون الدين عن أئمته، ثم ينقلونه إلي الآخرين.
فالاستقلالية عن العلماء خطر كبير جداً؛ لأن العلم إنما تكون بركته وتلقيه الصحيح عن العلماء، والعلماء لا يمكن أن ينقطعوا في أي زمان. ودعوى بعض الناس أن في العلماء نقصًا وتقصيرًا، دعوى مضلله، نعم، العلماء بشر، لا يخلون من نقص وتقصير، لكنهم مع ذلك في جملتهم هم القدوة، وهم الحجة، وهم الذين جعل الله الدين يؤخذ عن طريقهم، وهم أهل الذكر، وهم الراسخون، وهم أئمة الهدى، وهم المؤمنون الذين من تخلف عن سبيلهم هلك، وهم الجماعة، ومن فارقهم هلك، وتلقي العلم من غير أهله خطر علي أصحابه، وعلي الأمة.
? من مظاهر الخلل عند بعض المتعالين والدعاة: ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم: وهذه مظاهر شاذة مع الأسف بدأنا نرى نماذج منها، وهذا أمر مقلق، يجب أن نتناصح فيه، وما لم يعالجه طلاب العلم والعلماء، فالأمر خطير.
? تتلمذ الأحداث أي صغار السن علي بعضهم، أو علي طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم: بمعني التتلمذ الكامل، وترك المشايخ الكبار والانقطاع عنهم، ولا أقصد بذلك أنه لا يجوز أخذ العلم عن أي طالب علم، بل من أجاد أي علم من العلوم الشرعية وكان صالحًا أخذ عنه، ولكن لا يعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه، أو الانقطاع إليه، وترك المشايخ الكبار، وهذا هو مكمن الانحراف، أي أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته ودعوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم، وهذا مسلك خطير، بل أخطر منه أن يكون الصغار بعضهم شيوخًا لبعض في العلم، ولا أقصد بذلك عدم جواز المجالسة والمخالطة والمشاركة في الدعوة إلي الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذا أمر مطلوب، والاجتماع علي ذلك مطلب شرعي ضروري، لكن أقصد أن تلقي العلم بهذه الطريقة الخاطئة، والاستغناء بها عن أخذه عن هؤلاء العلماء، من سمات أهل الفرق والأهواء، وهذا مسلك خطير، وهو من أبرز أسباب وجود الافتراق، لأن هذا يؤدي إلي حصر أخذ الدين عن أناس معينين، والتحزب لهم، التعصب لهم، لا سيما وهم لا تتوفر فيهم صفات العالم والقدوة، ومن ثم تكون بذورًا للافتراق.
السبب الخامس: اعتبار اتباع الأئمة علي هدي وبصيرة؛ تقليدًا: وهذه شنشنة نسمعها كثيراً من بعض المتعالمين، فيقولون: إن اتباع المشايخ تقليد، والتقليد لا يجوز في الدين، وهم رجال ونحن رجال، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، ونحن نملك الوسائل والكتب، والآن توفرت وسائل العلم، فما لنا وأخذ العلم عن العلماء، بل أخذ العلم عن العلماء تقليد والتقليد باطل.(/7)
نعم، التقليد باطل، لكن ما مفهوم التقليد؟ هناك فرق بين التقليد وبين الاتباع والاهتداء، والاتباع واجب شرعًا، وعامة المسلمين بل كثير من طلاب العلم لا يجيدون ممارسة الاجتهاد، أو أخذ أصول العلم علي الطريقة الصحيحة، فممن يأخذون العلم؟ وكيف يأخذون أصول التلقي ومنهج السنة ومنهج السلف الصالح، ومنهج الأئمة؟ لا يمكن أن يأخذوه إلا باتباع العلماء، والاتباع ليس بتقليد وإلا فهذا يعني أن كل إنسان هو إمام نفسه، ومن هنا يكون كل إنسان فرقة، وتكون الفرق بعدد الناس، وهذا باطل قطعًا، إذاً اتباع الأئمة علي هدي وبصيرة ليس بتقليد، إنما الاتباع الأعمى هو التقليد.
?ومن المظاهر الخطيرة: التمشيخ، أو التتلمذ علي مجرد الوسائل، وهو أن يكتفي طالب العلم بأخذ العلم عن الكتب وينطوي وينعزل عن الناس، وينعزل عن أهل العلم، وينعزل عن أهل الخير، وأهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن العلماء، ويقول: أنا أتلقي العلم عن الكتب وعن الوسائل، ولدي شريط، والكتاب والإذاعة . . . الخ، من الوسائل المقروءة والمسموعة ثم يقول: أنا بإمكاني أن أتعلم بهذه الوسائل.
أقول: لا شك أن هذه الوسائل نعمة، لكنها أيضا سلاح ذو حدين، فالاكتفاء بأخذ العلوم الشرعية عنها إنما هو مسلك زلل، وهو من أسباب الافتراق؛ لأن هذا ينمي العزلة المحرمة، أو يوجد أشخاصًا صورًا ممسوخة لأهل العلم، يأخذون العلم علي غير أصوله، وعلي غير قواعده، بغير اهتداء، وبغير اقتداء ويأخذون العلم بمشاربهم هم وبأهوائهم، وبأمزجتهم، وبأحكامهم المفردة، فإذا ظهرت الأحداث والفتن، شذوا عن العلماء، وازدروا آراءهم، والإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والتأهل للعلم، فإنه وحده لا يستطيع أن يصل إلي الحق ما لم يعرف ما عليه السلف، وما عليه أهل العلم في وقته، ويعالج قضايا العلم وقضايا الأمة والأحداث مع العلماء، فإنه إن لم يفعل ذلك، فقد يهلك ويهلك.
بل إن الوسائل هذه أوجدت عندنا صورًا ممسوخة لمن يسمون بالمثقفين، وعندهم من المعلومات ما يعجب الناس ويبهرهم لكنهم لا يقرون بأصل، ولا يفهمون منهج السلف، ويجدون من يقتدي بهم بغير علم، وهذا الأمر أو هذه الظاهرة كثرت بشكل مزعج، حتى وجد من هذا الصنف أناس يتصدرون الدعوة إلي الله، وتوجيه الشباب علي هذا النمط، لمجرد أنهم يملكون من المعرفة والثقافة العامة ما يبهر السذج، وعندهم كم هائل من المعلومات الشرعية، دون معرفة للضوابط، ولا للأصول، ولا للمناهج، ولا لكيفيات التطبيق، وكيفيات العمل، ولا لطريقة أئمة الدين في تناول مسائل العلم وتطبيقها علي النوازل والحوادث.
السبب السادس: من أسباب وجود الافتراق التقصير في فهم فقه الخلاف: وأقصد بفقه الخلاف معرفة أحكام الخلاف بين المسلمين، وماذا يترتب علي وقوع الخلاف؟ وما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز؟ وإذا خالف المخالف متي يعذر ومتي لا يعذر؟ وماذا نطلق عليه؟ ومتي نطلق عليه الكفر أو الفسوق؟ وهل إطلاق، الحكم علي المخالف أو الموقف منه متروك لكل أحد، وتفصيل ذلك أمر يجهله كثير من الناس، ومن هنا قد يحدث الافتراق في أمور لا يجوز الافتراق عليها.
وكذلك التقصير في فقه الاجتماع والجماعة، وهو فقه مهم جدًا قد غفل عنه الكثير من الشباب الذين يأخذون العلوم الشرعية، كما غفلوا عن المقاصد العظمي للدين في الاجتماع!، اجتماع الأمة وجمع الشمل وفقه الجماعة، وأكثرهم لا يفقه محاذير الافتراق، وكيف يكون؟ ومحاذير الفتن، وما توصل إليه؟ ولا يحسن التفريق بين الثوابت وبين المتغيرات من الأحكام والأصول.
وسمتهم الجهل بقواعد الشرع العامة، وبمقاصد الشرع العامة مثل قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة التيسير، ومسألة متي يكون للناس في أمر من الأمور رخصة؟، ومتي يكون لهم ضرورة؟، واللجوء إلي الضرورة كيف يكون؟ وأحكام الفتن، وأحكام السلم، ولا يجيدون أحكام التعامل مع المخالفين، ولا أحكام التعامل مع العلماء، ولا أحكام التعامل مع ولاة الأمور، لذلك نجد كثيرًا من الناس لا يفرق في كلامه وأحكامه بين ظروف الشدة والفتن، وبين ظروف السلم والأمن وهذا خلل كبير، وسبب للافتراق.(/8)
السبب السابع: التشدد والتعمق في الدين هو من أعظم الأسباب:والتشدد يقصد به التضييق علي النفس، أو علي الناس في الأحكام الشرعية، أو المواقف تجاه الآخرين، أو التعامل معهم بما لا يقتضيه قواعد الشرع ومقاصد الدين، لأن الدين مبني علي الأخذ بالأحكام الشرعية، مع مراعاة التيسير ودفع المشقة والتوسع، والأخذ بالرخص في مواطنها، وإحسان الظن بالناس، والإشفاق عليهم، ودرء الحدود بالشبهات، والإحسان إليهم، والنصح لهم، والعفو عنهم والتماس الأعذار لهم، وهذا هو الأصل، والخروج عنه لغير مصلحة راجحة مقدرة عند أهل الفقه في الدين، يعد من التشديد المنهي عنه في قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ] رواه البخاري.
وقد يقول قائل: كيف نفرق بين التشدد المذموم والتمسك المشروع؟ فأقول: إن العبرة بهدي الرسول صلي الله عليه وسلم، فهو الأنموذج الأعلى، وعليه سار الصحابة والتابعون وأئمة الهدى، وهو سمت العلماء المقتدي بهم ، وفي يومنا هذا توزن الأمور بمن كان علي السنة من خلال أمور:
العلماء العاملون المهتدون: فهم القدوة والمثل الأعلى، فمن زاد علي هديهم وعلى سمتهم في الأحكام والمواقف، وفي الهدي والسلوك، فهو المتشدد إن كان غاليًا، والمقصر والمفرط إن كان متساهلاً.
الخروج عن مقتضى التيسير وإيقاع المسلمين في العنت والحرج في أمور دنيهم: وأقصد المسلمين الذين هم علي السنة ـ إذ لا عبرة بالفساق وأهل الفجور ـ فمن أوقع المؤمنين في حرج في دينهم، أو شدد عليهم، ولم يسلك مسلك التيسير في أمورهم التي يضطرون إليها؛ فهو متشدد.
التسرع في إطلاق الأحكام: إذ بمجرد أن يسمع أحدهم قضية، أو خبرًا، أو مقولة ما، يحكم علي صاحبها غيابيًا، أو يحكم قبل أن يتثبت، أو يحكم باللوازم، كأن يقول:' إذا كان فلان قد قال كذا فهو كافر'. بدون نقاش، ومثل قولهم: 'من لم يكفر فلانًا فهو كافر' وربما لم يتبين له كفر فلان. ومثل قولهم: 'فلان رأي بدعة فلم ينكرها، أو تنتشر بين قومه فلم يغيرها، إذاً فهو مبتدع' وهكذا، فنزعة إطلاق الأحكام والإلزامات في الأقوال، والإكثار من التكفير من مظاهر التشدد في الدين.
الحكم علي القلوب وإساءة الظن والتوقف في مجهول الحال والمستور، والبراء علي المسائل الخلافية.
فالتشدد في الدين سبب رئيسي من أسباب الافتراق، وهو الذي افترقت به الخوارج عن الأمة، ثم ما تلاها من فرق وأهواء.
السبب الثامن:الابتداع والبدع في الدين: سواء في العقائد والعبادات والأحكام أو غيرها، وهذا أمر معلوم وواضح لا يحتاج إلي مزيد من التفصيل.
السبب التاسع:العصبيات بشتى أصنافها،سواءً كانت مذهبية، أو قبلية، أو حزبية، أو شعارات، أو غيرها، وأخطر تلكم العصبيات هي ما يكون في مجال الدعوة مبررة باسم الدين. وهذا السمة من أبرز السمات في أكثر الدعوات الإسلامية المعاصرة التي يقل في أتباعها وقادتها الفقه في الدين، وتعتمد علي الفكر والثقافة والحركة أكثر من اعتمادها علي العلوم الشرعية والعلماء.
السبب العاشر:تأثر المسلمين بالأفكار والفلسفات الوافدة من بلاد الكفار علي المسلمين: أيًا كان نوع هذه الأفكار والفلسفات، ما دامت تتعلق بأمور الدين، أو الأحكام، أو العادات، والأخلاق.(/9)
السبب الحادي عشر: من الأسباب للافتراق والتي حدثت بعد القرون الثلاثة الفاضلة، هي دعاوى التجديد في الدين : وقد صح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا] أخرجه أبو داود والحاكم، في المستدرك والبيهقي في المعرفة عن أبي هريرة وهو حديث صحيح، راجع صحيح الجامع الصغير رقم [1870]. والمفهوم الحقيقي للتجديد إنما يعني استئناف العمل بالدين: اعتقادًا وعملاً، وإحياء ما اندثر من السنن، وإماتة ما ابتدع من البدع والمحدثات، كما صنع المجددون من أئمة الدين في تاريخ المسلمين إلي يومنا، حيث كانوا يجددون العمل بالسنة، وهدي السلف الصالح في العلم والعمل، وليس التجديد وضع أصول وقواعد ومناهج جديدة للدين، كما يزعم كثير من المفكرين والكتاب، فما بين وقت وآخر يظهر علي المسلمين بلية يدعي صاحبها أنه يريد أن يجدد للناس أمر دينهم وقد يكون هذا المجدد ينسف بتجدده قواعد أهل العلم، وما عليه أهل السنة والجماعة في المناهج والأصول، وهذه الدعاوى التي تدعو إلي الافتراق كثرت في الآونة الأخيرة في مجال الدعوات المعاصرة، وقد كثر الذين يدعون إلي التجديد، وليتهم قصدوا بالتجديد تجديد أمور الحياة والوسائل والأساليب والأسباب، هذا أمر بديهي وهو من سنن الله في خلقه، لكنهم قصدوا بالتجديد تجديد الأصول والمناهج في الدين، وتجديد العلوم وما استقر عند الأئمة في الدين، ومآخذ الفقه في الدين، ومآخذ الأحكام من النصوص وغير ذلك، وهذا أمر خطير ينسف كل ما كان عليه أهل السنة والجماعة من الأصول التي أبقتهم علي هدي النبي صلي الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعين والقرون الفاضلة، وذلك هو غير سبيل المؤمنين، الذي حذرنا الله منه.
السبب الثاني عشر: التساهل في مقاومة ومحاربة مظاهر البدع في المسلمين: بمعني أنه قد تظهر بعض البدع فيغفل عنها الناس، ويتساهلون فيها، ثم تنمو وتزيد وتكثر، وقد تظهر بعض البدع أول أمرها بمظاهر ملبّسة، تظهر علي شكل عادات معينة، فتأخذ تبريرات وأشكال وأسماء أخرى غير أسماء البدع حتى تستقر، ثم تتحول مع مرور الزمن إلي البدع، ثم بعد ذلك ينزع أصحابها إلي الفرقة، أو الافتراق عن الدين، وعن الأمة، وأغلب البدع وبذور الافتراق عن الدين وعن الأمة، وأغلب البدع وبذور الافتراق في التاريخ نشأت بهذا التدرج وهي من حيل الشيطان علي الأمم.
السبب الثالث عشر: كذلك من أسبابه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذوي الشأن في الأمة، ووقوع المداهنة في الدين، وعدم قيام طائفة من الأمة في أداء النصيحة ودرء الفساد والافتراق عنها: والمناصحة باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وقوة للخير، وإعذار عند الله، أو دفع للبلاء والنقمة عن الأمة.
وأخيراً: كيف نتوفي الافتراق؟
لاشك أن توقي الافتراق وسد ذرائعه قبل وقوعه؛ خير من علاجه بعد وقوعه، وتوقي الافتراق يكون بتوقي الأسباب التي ذكرتها، وهناك أمور أخرى تكون سببًا للوقاية من الافتراق، وهي عامة وخاصة:
فمن الأسباب العامة: الاعتصام بالكتاب والسنة، وهذه قاعدة كبرى لا بد أن يندرج تحتها توصيات وأمور كثيرة، وهي الأسباب الخاصة، ومن ذلك:
? معرفة هدي النبي صلي الله عليه وسلم، والتمسك به، ومن فعل هذا سيهتدي إن شاء الله ويكون من دينه علي بصيرة، ومن ثم يبتعد عن الافتراق، أو النزع إلي الفرقة، أو الوقوع فيها وهو لا يشعر.
? السير علي نهج السلف الصالح، الصحابة والتابعين وأئمة الدين أهل السنة والجماعة.
? التفقه في الدين بأخذه عن العلماء، وبطريقته الصحيحة بمنهج أهل العلم.
? الالتفات حول علماء الأمة، الأئمة المهتدين الذين تثق الأمة بدينهم وعلمهم وأمانتهم، وهم بحمد الله كثيرون ولا يمكن أن تفقدهم الأمة، ومن زعم أنهم يفقدون، فقد زعم أن الدين ينتهي، وهذا لا يصح؛ لأن الله تكفل بحفظه إلي قيام الساعة.
? الحذر من التعالي علي العلماء، أو الشذوذ عنهم بأي نوع من أنواع الشذوذ التي تؤدي إلي الفتنة، أو المفارقة.
? ضرورة معالجة مظاهرة الفرقة خاصة عند بعض الأحداث، أو المتعجلين، والذين تخفي عليهم الحكمة في الدعوة، وينقصهم الفقه في الدين والتجارب.
? الحرص علي الجماعة والاجتماع والإصلاح بمعانيها العامة وبأصولها، إذ لا بد أن يحرص كل مسلم وكل طالب علم بالأخص وكل داعية بشكل أخص، علي الجماعة والاجتماع والإصلاح بين الدعاة وأهل الخير، وعلي جمع الكلمة علي البر والتقوى.
? من أراد أن يعتصم بالسنة والجماعة وينجوا إن شاء الله من الافتراق فعليه أن يلازم أهل العلم، ويلازم الصالحين من أهل التقوى والخير والاستقامة، فهم القوم لا يشقي بهم جليسهم، ولا يضل عن الهدى رفيقهم وأنيسهم، ومن أراد بحبوحة الجنة؛ فليزم الجماعة، والجماعة من كان علي ما أن عليه الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه.(/10)
? تجنب الحزبيات وإن كانت في الدعوة، وكذلك العصبيات أيًا كان نوعها ومصدرها؛ لأنها بذور للفرقة.
? النصيحة لولاة الأمور أبرارًا كانوا أو فجارًا، وكذلك بذل النصيحة للعامة؛ لأن النصيحة لولاة الأمور تتحقق فيها مصالح كبرى للأمة، أو يكون بها الأعذار ودفع البلاء العام، ويرتفع بها الغل من القلوب، وتقام بها الحجة، وهي من وصايا النبي صلي الله عليه وسلم العظمى التي أمر أمته بالصبر عليها والاستمساك بها، وهي من نهج السلف الصالح الذي يميزهم عن أهل الأهواء والافتراق، والتقصير في مناصحة ولاة الأمر ـ أيا كانوا ـ تفريط بحق الإسلام والمسلمين، ونزعة هوى تؤذن بشر وفتنة.
? إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علي فقه وبصيرة.
خاتمة أخص بها الشاب: بأنهم ينبغي أن يلتفوا حول العلماء، وعلي طلاب العلم، ويتلقوا عنهم الدين ويتفقهوا علي أيدهم، ويحترموهم ويوقروهم، ويصدروا عن رأيهم في كل أمر ذي بال من أمور الأمة، ويلتزموا ما يقررونه في مصالح الأمة، وفي مشكلات المسلمين الكبرى، وعليهم أن يلتزموا بتوجيهات أهل العلم والفقه والتجربة تحقيقاً للمصلحة، وجمعًا للشمل، وصونًا من الفرقة، وذلك هو منهج السلف الصالح، وهو الهدي، وهو الذي به نستطيع أن نقتدي بأئمة الدين أهل السنة وأهل الجماعة، وذلك علي سبيل المؤمنين، وهدي الصالحين، والصراط المستقيم. وصلي الله علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم أجمعين.
من رسالة:'الافتراق،مفهومه،أسبابه،سبل الوقاية منه' للشيخ/ناصر عبد الكريم العق(/11)
الاقتراض بالربا لبناء مدرسة إسلامية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ الربا والقرض/مسائل متفرقة
التاريخ ... 17/10/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قمنا بفضل الله تعالى- في دعوة الإسلام- ببناء روضات إسلامية تعلم النشء الصغير وتربيهم على مبادئ الإسلام ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولكننا لاحظنا أن الأطفال بمجرد أن ينتقلوا إلى التعليم في المدارس الحكومية والمناهج الإسرائيلية فإن جهودنا تذهب أدراج الرياح، وهذه تجربة عشرين سنة.
اليوم لدينا مشروع جديد لحل هذه الأزمة، حيث إننا عزمنا على افتتاح مدرسة إسلامية، واستعملنا كافة الحِيل على وزارة التربية والتعليم حتى حصلنا على رخصة بناء مدرسة خاصة.
سؤالنا هو: إننا في سبيل تحقيق هذا الهدف نحتاج إلى حوالي مليوني دولار لشراء قطعة أرض وبناء مدرسة إسلامية عليها، ولكن كل الموارد وكل القروض الحسنة والتبرعات من أهل الخير لم تف بهذا الأمر، فكان أن جاءنا اقتراح من أحد المناصرين لنا يعمل في بنك بأن نأخذ قرضا ربويًّا مقابل أن نرهن قطعة الأرض التي عليها سوف يتم بناء المدرسة، فهل يجوز لنا ذلك؟ نريد جوابًا شافيًا مدعومًا بالأدلة الفقهية، علمًا بأن الهدف من هذا كله هو حفظ الدين لأبناء هذه البلدة التي تقع تحت الاحتلال منذ 56 سنة، وحفظ الدين من مقاصد الشريعة، ولكننا نعلم في نفس الوقت أن الغاية الشريفة لا تبرر الوسيلة الحرام فالنقاش عندنا في أوجه. أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أخذ الربا أو ما يعرف بـ (الفائدة) حرام لا يجوز بنص القرآن والسنة النبوية، كما هو معلوم لكم، فالربا هو كل زيادة مشروطة على رأس المال بغير مشاركة أو مخاطرة، أو مضاربة، فردية كانت هذه المعاملة أو اجتماعية، ولم يقل أحد من أهل العلم بجواز الفائدة، وإنما قال بعضهم أو نسب إليهم: إذا كانت ضرورة للفرد لا للجماعة أو المجتمع. وهذا اجتهاد خاطئ لا يجوز اتباعه، والضرورة تقدَّر بقدرها، ولا يجوز أن يزاد عليها ولو بشعرة، والضرورة الشرعية المعتبرة هي إذا لم يأخذ بها الإنسان مات لساعته، كالأكل من الميتة، يأكل منها بقدر ما يقيم به صلبه ويبقيه على الحياة، وبناء روضة لتعليم الناشئة وتربيتهم لا ينطبق عليها قاعدة الضرورة الشرعية "الضرورات تبيح المحظورات"؛ لأن الوسيلة لها حكم الغاية، والغاية في هذا المشروع مع البنك هي الربا المحرم، وكل الوسائل الموصلة إلى الحرام حرام، وكل زيادة عين أو منفعة يشترطها المسلف (البنك مثلاً) على المتسلف- فهي ربا، وقد نص الفقهاء على أن الربا لا تصح إباحته في الشرع تبعًا، فكيف إذا كان استقلالاً وقصدًا، كما هو مذكور في السؤال. كما نصوا على أن الربا اليسير في البيع لا يجوز مع الضرورة، بخلاف الغرر اليسير في البيع فيجوز للضرورة، ولا يغيب عن البال أنكم تعيشون في دار حرب مع الكفار اليهود فتأخذون بفتوى من يجيز التعامل بالربا في دار الحرب؛ لأن مذهب جمهور علماء الإسلام أن ما كان محرمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب بين المسلمين، كالربا، ثم إن بلادكم ليست بلاد كفر، وإن احتلها اليهود قهرًا وعدوانًا، فالبلاد بلاد إسلام وليس لغاصب يد. وفقنا الله وإياكم إلى كل خير، وثبتنا وإياكم على الحق، آمين.(/1)
الاقتراض ببطاقة الفيزا
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 3/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قمت بتأسيس مؤسسة لبيع الأسماك الطازجة، وبعد اكتمال كافة المصاريف من استقدام عمال وتجهيز محل، بقي علي توفير المال لشراء الأسماك، وقد كنت أحتاج إلى 25000 ريال لشراء هذه الأسماك، وكان المتوفر لدي هو 9000 ريال، وأحتاج إلى 16000 ريال، فبحثت عن من يقرضني هذا المبلغ ولم أجد، وحيث إنني أملك بطاقة (فيزا) قمت باستخدامها، فقمت بسحب مبلغ 16000 ريال، عن طريق هذه البطاقة (سحب كاش) ووضعت هذا المبلغ مع 9000 ريال الموجودة لدي لتصبح 25000 ريال، وأعطيتها أحد العمال لدي ليقوم بشراء الأسماك بهذا المبلغ.
وتم شراء الأسماك بهذا المبلغ، ومن ثم استمرت تجارة الأسماك، وكان هذا المبلغ هو البداية.
وحيث إنكم كما تعلمون أن البنك سيأخذ فائدة على استخدام الفيزا –حيث إنه في حالة سحب الكاش بالفيزا سيأخذ البنك نسبة 3% على المبلغ المسحوب، وأيضاً سيأخذ نسبة أخرى مع انقضاء كل شهر وعدم تسديد كامل المبلغ-، فما هو الحكم في هذه الحالة؟ وماذا يترتب علي فعله؟ فنحن الآن لنا 11 شهراً منذ بداية العمل بهذه المؤسسة. وجزاكم الله خيراًً.
الجواب
فعلك هذا حرام؛ لأنك اقترضت من البنك بفائدة هي الربا المحرم، وعليك أن تتوب، وتستغفر الله من ذنبك، والربا أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، ويظهر من حال سؤالك أنك نادم على ما فرط منك، ومن هذه حاله بينته آية سورة البقرة بقوله تعالى:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون" [البقرة: 279]، فلا يجوز للبنك أن يأخذ أكثر مما دفع، ولا يجوز لك أن تدفع أكثر مما أخذت، ومعلوم أن البنك لن يقبل بحكم الشرع هذا، فإن كان لديك مبالغ أخرى اكتسبتها من حرام قبل أن تتوب فلا بأس أن تعطي البنك منها هذه الفائدة الربوية التي يطالبك بها، تعطيها البنك بنية التخلص منها؛ لا بنية قضاء الدين؛ لأنه لا دين عليك للبنك في نظر الشرع إلا ما اقترضت منه لا غير، وإن لم يكن عندك مال تتخلص منه؛ فأنصح لك بألا تبادر إلى تسديد الفائدة المحرمة حتى يلاحقك البنك ملاحقة شديدة، وحينئذ لا بأس بتسديد ما يطلبه منك عن الفائدة، لأنك مضطر حينئذ والضرورات تبيح المحظورات، والله أعلم.(/1)
الاقتصاد الإسلامي وعولمة الاقتصاد
1/10/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والعولمة:
يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي بميزتين متناقضتين، الأولى فيما يتعلق بتشريعاته وأحكامه، والثانية فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، أما الأولى: فهي مُنَزّلة من لدن حكيم خبير، ولهذا جاءت تشريعاته الاقتصادية -كشأن سائر تشريعات وأحكام دين الإسلام- وسطاً بين النظام الاقتصادي الاشتراكي الشرقي المجحف، والنظام الرأس مالي الغربي الجشع.
فالإسلام يحث على العمل والكسب وفي الصحيحين: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالة يتكففون الناس) (1)، ولكن جعل للكسب ضوابط تحكمه وفقاً لمصالح عامة وحكم عظيمة، فأحل الله البيع وحرم الربا، ونهى عن معاملات كالاحتكار، وأنواعٍ من البيوع المحرمة، وحض على أخرى كعقود الإرفاق التي تجاوز فيها عن أمور راعاها في عقود المعاوضة، ووضع شروطاً تؤثر في الحكم على العقود وتبين الصحيح من الفاسد.
ثم أوجب في المال المكتسب حقاً معلوماً للسائل والمحروم، وأيضاً ندب إلى إخراج جزء منه كصدقة، كل ذلك وفق ضوابط ومعاير محكمة دقيقة.
ولم يكتف الشارع في النظام الإسلامي بسن القوانين التي تنظم العملية الاقتصادية المجردة، بل سن كذلك التشريعات التي تحكم الأخلاقيات والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتعاملون.
وقد بدأت البنوك العالمية في الاستفادة من نظرية البنك الإسلامي، والذي من صوره ما يعرف بالبنوك التساهمية، التي تقوم على أنواع من المضاربات وقد يتحمل فيها الزبون كلاً من الربح والخسارة مع الخضوع لمتغيرات السوق في تحديد معدلات الفائدة على رؤوس الأموال والودائع.
أما الميزة الثانية فهي عكس الأولى، وذلك فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، فهذه تتميز -في العقود الأخيرة- بالعقم والقصور، على الرغم من وجود الموجهات التشريعية التي تحث على إتقان العمل والإعداد وحسن التفكير والسياسة والتدبير.
وما زال هذا القصور قائماً والتقصير متواصلاً حتى يومنا هذا على الرغم من إمكانية الاستفادة من وسائل التقنية العالمية، وربما كان السبب في هذا التأخر والقصور هو مشاكل الإدارة العامة والخاصة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كافة مؤسساته على اختلاف مستوياتها اللهم إلاّ القليل النادر.
أما نظام العولمة الحالي فهو قائم على تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم، وهو النظام الذي تعطبه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعاً، فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دولٌ الفائض من إنتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه نوازع الشركات متعددة الجنسيات العملاقة أو حتى الشركات المحلية منها.
كما أنه لا مجال فيه لتشريعات سمحة تنظر إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أوتمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها ... إلى غير ذلك.
"ومما لا شك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام فأصبحت المؤسسات متعددة الجنسية المائة الكبرى في العالم تتحكم بـ 20% من إجمالي أموال العالم كما أن 51% من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ49% الباقية فقط ويبدو في الإطار نفسه من المقارنة بأن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و(فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي.بي.ام) و(بي.بي) و(جنرال الكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم، كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبرماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها! بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا ... إلخ.
وللوصول إلى هذه المراحل دخلت المؤسسات الضخمة في شراكات مريبة من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى في أبسط حاجات حياته اليومية.
وهذا يسميه بعضهم بـ(الاستملاك الصامت)، أو قل بعبارة أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والناس مقيدين بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها، فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لازدهار المؤسسات المعنية وتوفير البنى الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة وحماية نظام التجارة الحرة في العالم.(/1)
وهذا ما سيضطر حكومات الدول النامية في نهاية المطاف للانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي"(2)، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية كالتي أشرنا إليها سابقاً، لايربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة، فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد محوره استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم.
ومن بعض ثمار هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم لبعض المواد الاستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة.
فلا عجب إن أثبتت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية، وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها تحت وطئة تضخم ديونها لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه دول مجتمعة!
وأخيراً وهو من الأهمية بمكان، النظام العالمي الاقتصادي نظام لا يخضع لأي تشريع إلهي، فما قضى به الرأسماليون هو التشريع الماضي سواءً خالف الوحي المنزل أو وافقه، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية والتي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة.
ولا شك أن نظام الإسلام هو النظام الجدير بأن يكون النظام العالمي البناء، والذي تعود مصلحته على جميع الشعوب سواءً أكانوا ضمن القطاع المالك المنتج، أو المستهلك المستخدم، وما يطلب من بني الإسلام ورواده، وخاصة أهل التخصص الاقتصادي والسياسي والإداري هو العمل على إيجاد آليات فعاله وأجهزة ومؤسسات تنفيذية، تتبناه وتبني اقتصاد دولها عليه، ومن ثم تبين محاسنه وتدعو الآخرين إليه، وعندها لن تستطيع الدكتاتوريات الوقوف أمامه إذا أقنعت الأمم به وتحولت الشعوب إليه، ووجدت فيه بديلاً لتلك المؤسسات الضخمة التي تحكمت في كل صغيرة وكبيرة من حياتها وكادت أن تملكها.
--------------------------------------------------------------------------------
1 صحيح البخاري 1/435، وصحيح مسلم 3/1251.
2 مستفاد من مقال يتحدث عن كتاب المديرة المساعدة لمركز الأعمال الدولية والإدارة التابع لجامعة كمبردج، وهو بعنوان الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، الاستملاك الصامت، وقد نشر في جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 25/1/1423.(/2)
الاكتتاب في شركة المراعي
22/5/1426
29/06/2005
كثرت التساؤلات عن حكم الاكتتاب في شركة المراعي بعد الإعلان عن طرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام، نعرض فيما يلي وجهتي نظر في الموضوع بالإباحة والتحريم؛ لتكتمل الصورة بمجموعهما للقارئ، ويحصل التفهم لاختلاف وجهتي النظر في هذه القضية.
إجابة: د. سامي بن إبراهيم السويلم
(باحث في الاقتصاد الإسلامي)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وفقاً للقوائم المالية لشركة المراعي المعلنة على موقع الشركة، فإن مجموع القروض من البنوك التجارية يبلغ 535 مليون ريال في عام 2004م، وهو ما يعادل 22.3% من موجودات الشركة البالغة 2400 مليون ريال. أما النقد لدى البنوك فيبلغ 46 مليون ريال. وبحسب تقرير الشركة فإن هذه القروض والودائع تتضمن معاملات مبنية على الفائدة، وهي من الربا المحرم.
وبناءً على هذه الأرقام فإن الغالب على الشركة هو النشاط المشروع، كما أن الغالب على موجوداتها هو الحلال.
وأصول الشريعة وقواعدها -وهو الذي عليه جماهير العلماء- أن الحلال إذا اختلط بالحرام فالعبرة بالغالب، كما أن المصلحة إذا عارضتها مفسدة فالعبرة بالأرجح منهما. فإذا كانت المصلحة المشروعة هي الأرجح لم تترك بسبب المفسدة المرجوحة، بل يجب تحصيل المصلحة مع السعي لإزالة المفسدة قدر الإمكان. ومن كان هذا قصده فإنه لا يؤاخذ ديانة بملابسة المفسدة، فإن القاعدة أن من تلبَّس بالحرام لعذر، وسعى للتخلص منه فإنه لا يؤاخذ على ما تلبَّس به.
ومعلوم أن تقديم المصلحة الراجحة أصل شرعي كلي، فهو مقدَّم على دفع المفسدة المرجوحة، فيكون التلبس بهذه المفسدة حينئذ مغتفراً؛ لأنها ليست هي المقصودة، بل المقصود هو المصلحة الراجحة. فإذا انضم لذلك السعي للتخلص من المفسدة المرجوحة كان المسلم قد أدى ما عليه بحسب استطاعته، والله –تعالى- يقول: "فاتقوا الله ما استطعتم".
ولا يخفى أن تنمية المال في بلاد المسلمين، وإقامة المشاريع الاقتصادية النافعة التي تغنيهم عن أعدائهم، وتحقِّق لهم التمكين في الأرض: أنه مصلحة ضرورية كلية قطعية. وإذا كان كذلك كان إقامة هذه المشاريع والاستثمار فيها مصلحة راجحة قطعاً، وهي أقوى من مفسدة التعاملات الربوية اليسيرة التي قد تخالطها.
وهذا لا يعني أن يسير الربا حلال، بل الربا محرَّم قليله وكثيره.
كما أنه لا يعفي المساهمين ومجالس الإدارة من مسؤولية السعي الحثيث للتخلص من الربا، شكلاً ومضموناً، والعمل على إيجاد الوسائل والأدوات الإسلامية التي تغنيهم عن الوقوع في المحرمات. ولا يغني عن ذلك الحيل الربوية التي انتشرت اليوم –للأسف- بشكل كبير، بل إن هذه الحيل قد تكون أشد ضرراً من الربا الصريح، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وانتشار هذه الحيل يمثل نتيجة طبيعية لانتشار الربا وتغلغله في النشاط المالي اليوم. فالأمر يحتاج لعمل جاد وسعي دؤوب لاجتثاث هذه البلوى من جذورها عن بلاد المسلمين. ولا يعني هذا تعطيل الاستثمار، وبناء الاقتصاد لحين التخلص من الربا نهائياً، بل يجب السعي في الأمرين بحسب الاستطاعة، وقد قال الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
إجابة: د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
(عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد
فمن خلال دراسة نشرة الإصدار الخاصة بشركة المراعي وقوائمها المالية المعلنة في موقعها على الانترنت تبين أن نشاط الشركة قائم على إنتاج المواد الغذائية من الألبان وغيرها، وأن على الشركة قروضاً بنكية تبلغ 535 مليون ريال في عام 2004م، وهي تعادل 22.3% من مطلوبات الشركة البالغة 2400 مليون ريال.وهذا يعني أن الشركة من الشركات المختلطة، وهي الشركات التي أصل نشاطها مباح، ولكنها تقترض أو تودع بالربا. وقد اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين:
القول الأول: تحريم المساهمة فيها مطلقاً، وممن اختار هذا القول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، واللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة في بعض فتاويها السابقة.
والقول الثاني: جواز المساهمة فيها بشرط أن يتخلص المساهم من الأرباح المحرمة التي تأتيه من الشركة، وممن اختار هذا القول فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله، وهيئة المعايير المحاسبية الشرعية، ومعظم الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية.
والاختلاف في هذه المسألة من الخلاف المقبول، إذ إن المسألة اجتهادية، للمجتهد المصيب فيها أجران، وللمجتهد المخطئ أجر واحد بإذن الله.(/1)
والأقرب –والله أعلم- أنه إذا كان النشاط الأساس للشركة مباحاً وكانت معاملاتها المحرمة يسيرة عرفاً فلا حرج على المساهم من الدخول فيها لاسيما إذا قصد تخليصها من تلك المعاملات المحرمة، والإثم على من باشر العقد المحرم أو أذن أو رضي به؛ لأن الشركة بشخصيتها الاعتبارية مستقلة عن المساهمين، وتصرفاتها المحرمة لا تعد تصرفاً للمساهمين.يؤيد ذلك أن الأسهم صكوك مالية قابلة للتداول، وتداولها منفصل عن نشاط الشركة، فلا ترتبط قيمة الأسهم بنشاط الشركة بل بالعرض والطلب، كما أن ارتفاع قيمة الأسهم أو انخفاضها لا يؤثر بشكلٍ مباشرٍ إيجاباً أو سلباً على نشاط الشركة؛ لأن ما يدفعه المساهم لشراء الأسهم بعد طرحها للتداول لا تأخذ منه الشركة ريالاً واحداً، ولا يدعم به نشاط الشركة، بل يذهب جميعه للمساهم البائع، وكذلك المساهم البائع لا يأخذ ثمن أسهمه من الشركة بل من المساهم المشتري، ولا يختلف الأمر في الأسهم المطروحة للاكتتاب في هذه الشركة- شركة المراعي- حيث نصت المادة الثامنة عشرة من نشرة الاكتتاب على أنه "سيتم توزيع جميع الأموال المتحصلة من الاكتتاب على المساهمين البائعين فقط ولن تستلم الشركة منها أي شيء".
وبالنظر في نسبة المعاملات المحرمة في شركة المراعي إلى إجمالي نشاطها فإنها تعد يسيرة؛ لأن الجزء الذي يحرم على الشركة دفعه من القروض التي عليها هو الفوائد المستحقة على تلك القروض، أي الربا، أما أصل القرض فإنه يجب على الشركة دفعه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط".ومجموع الفوائد التي دفعتها الشركة في عام 2004 على جميع القروض والتسهيلات البنكية لا تتجاوز 2% من مجموع مصروفاتها البالغة ملياراً وخمسمائة مليون ريال.
وخلاصة القول هي جواز المساهمة في هذه الشركة. ومع ذلك فالذي أنصح به إخواني المستثمرين في الأسهم هو ترك المساهمة في الشركات المختلطة عموماً –مع قولنا بجوازها- والاقتصار على الشركات النقية؛ لأمرين:
الأول:أن هذا هو الأحوط والأسلم، إذ إن الخلاف في هذه المسألة قائم، والأقوال متقاربة في القوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:" ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
والثاني:أن في ذلك دعماً للشركات النقية، وتشجيعاً للشركات الأخرى على تطهير معاملاتها من الحرام، فيرجى لمن لمن كانت هذه نيته أن يثاب على ذلك؛ فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وجواز الاكتتاب في الشركة لا يعني أن الربا الذي فيها أصبح مباحاً، فالربا محرم قليله وكثيره، وإنما الإثم على من باشر تلك المعاملة المحرمة أو أذن أو رضي بها، أما المساهم فإنه إذا أخذ شيئاً من الأرباح التي توزعها الشركة فعليه أن يتخلص من الأرباح الموزعة بقدر نسبة الإيرادات المحرمة منها، وذلك بصرفها في المشاريع الخيرية، أما الأرباح الناتجة من بيع الأسهم فلا يلزم التخلص من شيءٍ منها، والله أعلم.
نقلاً عن موقع المسلم.
إجابة: د. عبد الله بن ناصر السلمي
(عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
شركة المراعي من الشركات ذات المسؤولية المحدودة، وقد تحوَّلت إلى شركة مساهمة بموجب القرار الوزاري رقم (773)، وتاريخ 6/5/1426هـ، الموافق 13/6/2005م.
وشركة المراعي من الشركات ذات الأنشطة المباحة، ونصَّ عقدها التأسيسي على ذلك، حيث تقوم بتسويق أنواع متعدِّدة من المنتجات الغذائية والمشروبات تحت العلامات التجارية (المراعي) و(اليوم) و(سموذي) و(زادي)، وتشمل هذه المنتجات الألبان قصيرة وطويلة الأجل المصنوعة من الحليب الطازج، وكذلك الأجبان والزبدة، وبعض المنتجات الغذائية من غير الألبان.
وبناءً على نشرة الإصدار الخاصة بالشركة وقوائمها المالية لعام 2004م الموجودة في موقع هيئة سوق المال يتبين الآتي:
1- أنه بلغ مجموع أصول الشركة (2.400.000.000) ريال سعودي.
2- حصلت الشركة على قروض لبرامجها الاستثمارية الرئيسة من بعض الجهات الحكومية، وبالتحديد من كل من صندوق التنمية الصناعية السعودي، والبنك الزراعي العربي السعودي، وبعض البنوك التجارية، على النحو الآتي:
1- صندوق التنمية الصناعية السعودي (220.300.000).
2- البنك الزراعي العربي السعودي (12.100.000).
3- البنوك التجارية (535) مليون ريال.
وقد صرَّحت الشركة أن هذه القروض كلها التزامات عليها، تنشأ عنها فوائد ربوية ماعدا التمويل الذي حصلت عليه الشركة من صندوق التنمية الصناعية، فقد صرَّحت بأنها بدون فوائد، ولو استبعدنا القرض من صندوق التنمية لكان مجموع القروض الربوية التي اقترضتها الشركة تبلغ (547.100.000) خمسمائة وسبعة وأربعون مليون ومائة ألف ريال سعودي.
وتبلغ نسبة هذه القروض الربوية من إجمالي أصول الشركة (22.796%).
وتبلغ نسبة القروض الربوية إلى حقوق المساهمين، والتي تبلغ (1.292.700.000) = 42.32%.(/2)
وهذه التسهيلات التمويلية (القروض الربوية) هي القروض المستغلة الفعلية التي استغلتها الشركة لبرامجها الاستثمارية، علماً أن الشركة قد حصلت على حق الاقتراض بفائدة من البنوك والبنك الزراعي، قابلة للتجديد تصل إلى (1.067.100.000)، أي بنسبة 44.46% من مجموع أصول الشركة.
وهي ما يسمى بالمحاسبة التسهيلات المتاحة. علماً أن الشركة لم تصرح بأنها سوف تنهي القروض البنكية المحرمة لتجعلها بطريق المرابحة الشرعية.
وبناءً على ما سبق، فالذي يظهر لي هو عدم جواز الاكتتاب في شركة المراعي؛ لأنها تتعامل بالمعاملات الربوية، وشراء أسهم الشركات المساهمة التي نصَّ عقدها التأسيسي على التعامل المحرم، أو كان غرضها الأنشطة المباحة، ولكنها تقرض أو تقترض بالربا- وهو غالب الشركات المساهمة في البلاد الإسلامية مع بالغ الأسى والأسف- إن ذلك كله محرَّم ولا يجوز، وهذا ما ذهب إليه المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة شيخنا العلامة ابن باز، وعضوية أكثر من خمسة عشر عالماً من علماء الإسلام، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، برئاسة الشيخ بكر أبو زيد، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعض الهيئات الشرعية في بعض البنوك الإسلامية، وهذا هو قول أكثر الفقهاء المعاصرين؛ وذلك لأن المساهم بقبوله المساهمة بالشركة، قد فوَّض أعضاء مجلس الإدارة ووكَّّلهم في التصرف بالمال، وهذا أمر مشروط في لائحة الاكتتاب، وهو ما يدل عليه أيضاً نظام الشركات المساهمة.
وبناءً عليه فأي عمل تقوم به إدارة الشركة من أعمال مباحة أو محرَّمة فيكون المساهم كأنه عمل هذا العمل؛ لأن الشركة فيها معنى الوكالة ، ولا يغني هذا من قول بعضهم بأن المساهم لم يرض بذلك ولا علم له به ، لأن المساهم إما أن يكون راضياً في تصرف الشركة أو غير راض ، فإن كان راضياً في إدارتها فلا شك في أن أي تعامل بالمحرم يكون رضا منه بذلك . وإن كان غير راضٍ في ذلك فليس أمامه إلا أحد أمرين:
الأول : أن يمنع هذا التصرف ، ولا شك أن القادر على ذلك ولم يفعل فهو آثم وواقع في الإثم والعدوان، فكل الذين يملكون أسهمًا في شركة تتعامل بالأنشطة المحرمة- قرضًا أو اقتراضًا- يجب عليهم حضور الجمعية العمومية العادية، والإدلاء بأصواتهم بمنع هذه التصرفات المحرَّمة، خاصة وأن مثل هذه القروض البنكية وجد في المعاملات المصرفية الإسلامية ما يغني عن مثل هذه التعاملات البنكية المحرمة، فإن لم يستطع ذلك أو كانت أسهمه قليلة لا تؤثر في قرارات الشركة فعليه القسم الثاني، وهو: الخروج من هذا السهم، واستمرارية ملكية السهم مع تعامل الشركة بالربا لا يخرج المرء من إثمها بأن يخرج نسبة المحرم؛ لأن بقاء التعامل بالحرام قائم، وهو إن لم يأكل الربا ولكنه أعان على أكله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه". أخرجه أحمد
(3725)، ومسلم (1597) من حديث أن مسعود-رضي الله عنه- وزاد مسلم
(1598) من حديث جابر –رضي الله عنه-: قال: "هم سواء".
ثم إن التفريق بين ملكية الشركة وملكية السهم -بحيث يجعل السهم عروض تجارة، مما يترتب عليه جواز المضاربة بأسهم الشركات التي تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً ما لم ينص عقدها التأسيسي على المتاجرة بالمحرمات- تفريق شكلي وليس جوهرياً، فالعبرة بحقائق الأشياء ومقاصدها ومآلاتها، لا بأشكالها وألفاظها ومعانيها، علماً أن جميع الشركات المساهمة -ذات الأنشطة المباحة التي تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً- تتعامل بربا النسأ وهو محرم تحريماً نهائياً ولم يرد من الشرع نص صريح ولا ظاهر في إباحة جزء يسير من ربا النسأ، مع العلم أن الربا حرام كله، لا فرق بين ربا النسأ وربا الفضل، إلا ما ورد النص الشرعي باستثنائه ولعله يكون ثمة بسط لأدلة الفريقين في مقام أوسع من هذه الفتوى المختصرة.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إجابة: د. يوسف بن عبدالله الأحمد
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام / كلية الشريعة بالرياض .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
بعد الاطلاع على القوائم المالية للشركة ، تبين أن الشركة تقرض وتقترض بالربا ، ومجموع القروض الربوية من البنوك الربوية (535000000) ريالاً سعودياً ، والودائع الربوية في البنوك التجارية (46109000) ريالاً سعودياً .
وعليه فإن الاكتتاب أو المساهمة فيها محرم شرعاً ؛ لأن السهم ملك مشاع في الشركة ؛ فأي نشاط للشركة فالمساهم شريك فيه .(/3)
قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ" (البقرة 278، 279 ) . و عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه . وقال : هم سواء " أخرجه مسلم .
ولعل من المهم أن أنبه في الجواب على هذا السؤال على الأمور الآتية :
أولاً : أدعو جميع الشركات إلى ضرورة التزام شرع الله تعالى في معاملاتها ، وأن تضع لجنة شرعية ترشح من قبل الجهات العلمية كدار الإفتاء أو المجمع الفقهي أو الأقسام العلمية في الكليات الشرعية ، وليس انتقاءً من الشركة .
ثانياً : توعية الناس بمطالبة الشركات باللجان الشرعية ، وأن يعرفوا سبب امتناع الشركة من وضع اللجنة الشرعية .
ثالثاً : أنشأ بعض أهل العلم المعاصرين قولاً جديداً في التفصيل بين الربا الكثير والربا اليسير ؛ فإن كان الربا قليلاً في الشركة جاز المساهمة فيها وإلا فلا ، وحددوا الربا اليسير وفق الشروط الآتية :
1. ألا يتجاوز إجمالي المبلغ المقترض بالربا عن الثلث ، والرأي الآخر ألا يتجاوز 25% من إجمالي موجودات الشركة .
2. ألا تتجاوز الفوائد الربوية أو أي عنصر محرم عن 5% من إيرادات الشركة .
3. ألا يتجاوز الإقراض بالربا أو أي استثمار أو تملك محرم عن 15% من إجمالي موجودات الشركة. ثم اختلفوا في تحديد هذه النسب بين الرفع والخفض إلى أكثر من أربعة أقوال .
وقد عللوا الجواز بالحاجة ، وعموم البلوى ، فجميع الشركات الكبرى المساهمة ترابي إلا ما ندر ، والناس بحاجة إلى تنمية أموالهم ولا يجدون إلا هذه الشركات وخصوصاً أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة ، وفي القول بالتحريم تضييق عليهم ، ومتى ما اندفعت هذه الحاجة عاد الحكم إلى التحريم ، وتندفع الحاجة بوجود الشركات الملتزمة بالضوابط الشرعية . وأن العفو عن اليسير من الربا كعفو الشرع عن يسير بعض أنواع النجاسة ( هذا خلاصة ما وقفت عليه من البحوث المنشورة ) .
والصواب أن المساهمة في الشركات التي تقع في الربا اليسير محرم شرعاً ، وهو قول جماهير العلماء المعاصرين ، والأدلة على التحريم:
أولاً : أن الربا محرم شرعاً قليله وكثيره ، وقد أجمع العلماء على حرمته مطلقاً ، ولا أعرف أحداً من أهل العلم المتقدمين قال بجواز ربا النسيئة عند الحاجة إذا كان أقل من الثلث . بل جاءت النصوص بتعظيم جريمة الربا حتى لو كان قليلاً ؛ فعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية " أخرجه أحمد بسند صحيح . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه .. " أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . والحديث صحيح بمجموع شواهده.
ثانياً : لو سلمنا جدلاً بالجواز عند الحاجة ، فإن المساهمة في هذه الشركات ليست من الحاجة ؛ لأن حاجة تنمية الأموال مندفعة بأنواع التجارة الأخرى ؛ كالبيع والشراء الفردي أو بالتوكيل ، أو بالمضاربة ، أو بأسهم شركات العقار وغيرها التي لا تتعامل بالربا وهي كثيرة ولله الحمد ، وغير ذلك.
ثالثاً : أن هذا القول ( وهو القول بجواز المساهمة في الشركات التي تتعامل بالربا القليل ) : فيه إسهام في بقاء هذه الشركات على هذا المسلك الربوي ، ودعوة لمشاركة الناس فيها ، وتضييق ضمني للشركات الإسلامية الناشئة ، وسببٌ في تأخير مشروع الإصلاح الاقتصادي وتنقيته من الربا ومما حرم الله.
ولو كانت الفتوى صريحة في المنع للجأت هذه الشركات إن شاء الله في بلاد المسلمين إلى وضع اللجان الشرعية والبعد عن الربا ؛ لأن معظم الناس أقدموا على المساهمة بناءً على الفتوى الشرعية ، وخصوصاً مع الوعي الشرعي في السنوات الأخيرة ، والمشايخ يدركون هذه الحقيقة من خلال كثرة أسئلة الناس عنها والتي ربما طغت على أسئلتهم في الطهارة والصلاة .
وللحديث عن هذه التنبيهات مزيد تفصيل سيخرج بعد اكتماله بإذن الله تعالى.
إجابة: د. محمد بن سعود العصيمي
(أستاذ الاقتصاد الإسلامي المشارك بجامعة الإمام).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فبعد قراءة نشرة الإصدار المفصلة الخاصة بالشركة (133 صفحة)، والمشتملة على جميع التفاصيل الخاصة بالاكتتاب، ومنها ملخص النظام الأساسي للشركة، وتقرير مراجعي الحسابات عن قوائم الشركة المالية عن المدة المنتهية في 31/3/2004م مقارنة بسنتين ماضيتين هما 2003، و2002. وأثني على الشفافية العالية في نشرة الإصدار هذه، وأتمنى أن تحذو الشركات المساهمة حذوها.(/4)
وحيث إن نشاط الشركة مباح، لكن تبين لي أن الشركة قد اقترضت قروضًا ربوية، واستثمرت استثمارات محرمة، وتعاملت في بيوع العملات الآجلة. ومن المعروف أن الأصل عند العلماء تحريم المشاركة في شركة يعلم أنها اقترضت أو استثمرت في الربا؛ لأن المساهم موكل لمجلس الإدارة بالتصرف، ولا يصح مثل ذلك التوكيل. فلا أرى جواز الاكتتاب في المراعي في وضعها الراهن؛ لأنها ليست من الشركات النقية من الربا في قروضها واستثماراتها.
وإني أدعو الله لهذه الشركة بالتوفيق في عملها، وأن تسد حاجة كبيرة في الصناعة التي أنشئت لها، وأسأله تعالى أن يوفقها على تحويل القروض الربوية والاستثمار المحرم إلى معاملات إسلامية، خاصة في ظل المسيرة المباركة للبنوك التجارية في المملكة التي تقدم منتجات التمويل الإسلامي بمختلف أنواعها، وفي ظل التحول الكبير في الشركات المساهمة السعودية نحو أسلمة القروض والاستثمارات.
كما أسأل الله جلت قدرته أن يوفق القائمين على الشركات المساهمة السعودية لاتباع سبل التمويل الإسلامي المتاحة في المملكة بفضل الله تعالى، حتى يستقيموا على أمر الله، وحتى تؤتي تجربة البنوك الإسلامية ثمارها المرتجاة.
كما أدعو إخواني وأخواتي القراء لهذه الرسالة أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أمورهم كلها، وأن يجتنبوا الأمور المشتبة، كما هي وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن النُّعْمان بن بشير رضي اللّهُ عَنْهما قال: سمعتُ رسُولَ اللّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقولُ: "إنَّ الحلال بيِّنٌ وإنَّ الحرَامَ بيِّنٌ وبينَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النّاس، فَمن اتّقى الشُّبُهات فقد استبرأَ لدينهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرَام؛ كالرَّاعي يرْعَى حوْلَ الحمى يوشِكُ أنْ يقعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حمى إلا وإنَّ حمى الله محارمهُ، ألا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةٌ إذا صَلَحتْ صلحَ الجسدُ كُلُّهُ وإذا فسدتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهي القلبُ".
وفق الله الجميع لهداه، وجنبنا سخطه، وجعل رزقنا حلالاً مباركًا فيه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نقلاً عن موقع المسلم(/5)
الالتزام الأجوف :
أسباب الكلام في هذا الموضوع :
1- إن القرآن الكريم أمرنا بالالتزام الجاد. يقول الله تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) .
ويقول سبحانه ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) .
2- أن السنة أمرتنا بالالتزام الجاد، يقول صلى الله عليه وسلم ( حجبت النار بالشهوات
وحجبت الجنة بالمكارة ). وقال عليه الصلاة والسلام ( استعن بالله ولا تعجز)
3- كثرة الفتن والمغريات في هذا العصر.
4- ما نراه من كثرة شباب الصحوه،فلابد أن نبدأ بعلاج ما يظهرمن ملاحظات على هذه الصحوة.
5- أن الملتزم الجاد يتحمل البرامج الجادة ويحتمل المسؤولية.
6- أننا نظن أن طرح مثل هذا الموضوع، خطوة للنقد البناء والغرض منها : محاولة تصحيح الأخطاء.
معنى الالتزام الأجوف :
هو أن ترى الشخص ظاهره الالتزام ومع ذلك عنده تقصير في العبادة أياً كان نوعها،
سواء بترك الفرائض أو أدائها على كسل وعدم لذة أو ترك النوافل أو كثير منها.
مظاهر هذا المرض :
1- النوم عن الصلاة المكتوبة ، خصوصاً صلاة الفجر والعصر .
2- عدم الخشوع في الصلاة .
3- عدم التبكير للصلاة .
4- عدم أداء النوافل من الصيام والقيام والسنن والرواتب.
5- عدم قراءة القرآن وحفظه.
6- ترك الأوراد اليومية والأذكار .
7- سوء الأخلاق والمعاملة .
8- عدم قبول النصيحة من الآخرين .
9- حب التسيب وعدم الانضباط.
10- إضاعة الوقت فيما لافائدة منه .
11- كثرة الضحك .
12- الإنشغال بالملهيات .
13- عدم الجد في طلب العلم .
14- التعلق بغير الله سبحانه وتعالى .
15- الاهتمام بالمظهر اهتماماً فوق المعتاد .
16- عدم إنكار المنكر .
17- إخلاف الوعد .
18- عدم التخلص من رواسب الجاهلية .
19- عدم الورع في الفتوى والوقوع في الشبهات .
20- عدم صلة الرحم .
21- التقصير في تربية الأهل والأولاد .
22- السهر إلى ساعات متأخرة من الليل.
23- الولع بالخصام وكثرة المجاملة ، وهذا سبب لنسيان العلم وقسوة القلب ، وتضييع الوقت .
أسباب هذا المرض :
1- الوقوع في المعاصي .
2- التوسع في المباحات ؛ في المأكل والمشرب والمركب والملبس وغير ذلك .وذلك لأنه يورث الكسل والركود والتفريط في العبادة.
3- انعدام المجاهدة وإيثار الراحة .
4- اعتقاد أنه ليس بحاجة إلى العبادة ، كأن يفرط في أداء النوافل ثم يقوده ذلك إلى التكاسل في الواجبات ثم تركها.
5- فإذا كان راضياً عن واقعه الذي يعيش فيه فلن يجتهد .
6- عدم إدراك خطورة ترك العبادة أو التقصير فيها .
7- عدم إدراك الأجر العظيم في المحافظة على العبادة .
8- طول الأمل ونسيان التكليف
9- كثرة المشاغل التي لا فائدة منها
10- التسويف .
11- القدوة السيئة .
12- عدم مناصحة الآخرين له ، فإنه عند ذلك يظن أنه على شيء صحيح ولم يكتشف مرضه.
13- اختلاط المفاهيم عنده ، فمثلا يسهر في برنامج معين ثم ينام عن صلاة الفجر.
آثار ترك العبادة :
1- عدم الاطمئنان النفسي .
2- الفتور ومن ثم الانتكاس عن طريق الهداية .
3- التساهل بالصغائر وهذا يجره إلى التساهل بالكبائر.
4- عدم توفيق الله له ،لأنه ترك طاعة الله وانشغل بمعصيته فلم ينل توفيقه.
5- فقد الهيبة أو التأثير في الناس.
6- عدم الثبات في المحن والشدائد.
أهمية العبادة في حياة المسلم:
1- أن العبادة هي الغاية التي خلقنا الله من أجلها قال تعالى : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
2- أنها وسيلة لمرضاة الله ، وخاصة إذا كانت قريبة من الإخلاص والمتابعة .
3- أن العبادة هي الزاد الذي يتقرب به العبد لربه .
4- أن الله سبحانه وتعالى أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ، قال تعال :{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
5- أنها أعلى مقامات الخلق(العبوديه).
6- الانشغال بالعبادة يبعد الإنسان عن الشيطان وبالتالي يبعده عن الانتكاس.
7- أنها تعطي العبد قوة على مواجهة الشدائد والمحن.
8- أنها تحبب إليه فعل الخيرات وترك المنكرات.
9- أن ذلك مصدر للقوة البدنية.
10- العبادة تقودك إلى محبة الآخرين للعبد وذلك لمحبة الله له.
11- أن العبادة وقاية من الفتن.
12- أنها تعود إلى العلم أي علم العبد بالصحيح الوارد عن العبادة لأن من أراد العبادة أحب أن تكون صائبة على الوجه الأكمل.
13- تحصيل لذة العبادة ، لأن كل عبادة ستجر أختها حتى يحب هذا العمل .
14- حصول الأمن والاطمئنان الدنيوي والأخروي .
15- العبادة والقيام بها سياج قوي يحمي الالتزام الحقيقي من أن يدخل فيه ما ليس منه.
صور من حياةالعباد :
.أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغفور له ذنبه كله : كان يقول صلى الله عليه وسلم ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) وكان يصوم الدهر حتى يقولون لا يفطر وكان يفطر حتى يقولون لا يصوم , وكان يقوم الليل وكان يجلس في المسجد حتى تطلع الشمس وغير ذلك كثير.
.أبو بكر الصديق يدخل الجنة من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء.(/1)
.عمر الفاروق كان في وجهه خطان أسودان من البكاء من خشية الله .
. عثمان ذو النورين كان منفق ماله في سبيل الله .
.أسيد بن حضير يتلو القرآن حتى نزلت الملائكة.
. معاذ بن جبل يقول عند موته " إنما أبكي على ظمأ الهواجر ، وقيام يوم الشتاء ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
.علاج هذا المرض :
1- تذكر القرآن والسنة وما فيها من الثواب للطائعين وعقاب للعاصين.
2- اجتناب الصغائر ؛ قال صلى الله عليه وسلم ( إياكم ومحقرات الذنوب) .
3- التوسط في المباحات .
4- محاولة التوفيق بين ارتباطات العمل والقيام بالطاعات.
5- مجاهدة النفس وتربيتها على الجد والحزم .
6- ملازمة الجماعة والعيش في وسط صالح .
7- الاستعانة بالله سبحانه وتعالى.
8- معرفة واجبة في الدنيا واعتبار الدنيا مزرعة للآخرة.
9- عدم الاغترار بأحد.
10- قراءة السير .
11- تذكر الموت والاتعاظ به.
12- اتهام النفس بالتقصير في الطاعات والعبادات .
13- الدعاء لأن يسددك الله ويوفقك لما يحب ويرضى من الأقوال و الأعمال.
هذا والله اعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين......
محبكم في الله : أبو عبدالرحمن البقمي
من شريط / الالتزام الأجوف ؛ للشيخ / عبدالرحمن العايد(/2)
الالتزام في العمل الإسلامي ضعفه وأسس علاجه ومراحله
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
1- ضعف الالتزام :
مع مسيرة العمل الإسلامي في العصر الحديث، تبيّن بصورة واضحة أن البذل كان كبيراً، والصبر كان كبيراً، والمحاولات كثيرة، إلا أن العمل الإسلامي لم يدرك النجاح أو النصر فيما اعترضه من مشكلات وتحدّيات في مختلف المواقع. لقد توالت الهزائم والفواجع والنكبات بصورة تفرض الوقفة الإيمانية ومراجعة المسيرة، والبحث عن الأخطاء ومواطن الخلل.
الشعارات لم تخفِ الحقائق المؤلمة، والكِبْر لا يزيل المآسي، والإِصرار على الخطأ سيزيد البلاء والمحن. فلابدَّ من التوبة والمراجعة والعلاج.
لابد من بذل الجهد الصادق بنيّة خالصة لله، نيّة نرجو بها الله والدار الآخرة، عسى أن يَهدي الله القلوب إلى مراجعة سليمة ومعالجة صادقة.
لذلك نقدم هذا النهج بعد دراسة موسَّعة لنواحي كثيرة في الواقع : فكراً وأحداثاً، فقهاً وممارسةً، أدباً وتطبيقاً، مع ردّ جميع الأمور إلى منهاج الله.
إننا نهدف من هذا النهج لإِبراز أهم المشكلات في واقعنا اليوم، ووضع الحلول لها من خلال منهاج الله، ليكون هذا النهج موضع دراسة وتمحيص أمين، ليخرج الرأي بعد ذلك صادقاً أميناً، ويساهم في نمو الجهود والبذل، وليظل التقويم، والنصيحة، والرأي الملتزم بشروطه الإيمانية، خطاً ممتداً وقاعدة أساسية.
من أهم الأخطاء التي نودّ إِبرازها في هذه الكلمة ضعف الالتزام بمنهاج الله وضعف فهم الواقع من خلاله هذا لمن يتلو كتاب الله، ولكنَّ الملايين من المسلمين لا يتلون الكتاب ولا يدرسون السنّة. فقد تجد المسلم الذي يتلو كتاب الله ويحفظ منه ما أعانه الله عليه، ويدرس السنة، ثم ترى بعد ذلك من لا يلتَزمون ما يقرؤون ولا يطبّقون ما يعون. لو رجع أي مسلم اليوم ودرس واقع المسلمين لوجد أن كثيراً من القواعد الأساسية المقررة في الإسلام منسِيَّة أو لا تُلَتَزَم. ولكنّ الذي يُخفي ذلك عواملُ نفسيةٌ من رغبة في التنصُّل، أو عدم رغبة بالاعتراف بالخطأ، أو خلل في الإيمان.
إن القضيّة الأساسية التي نثيرها الآن هي : الالتزام، التزام الكتاب والسنّة والتزام النهج القائم على الكتاب والسنة والملبي لحاجة الواقع.
مهما كان النهج دقيقاً وصحيحاً فإنه لا يُثْمِرُ ولا يفيد إلا إذا وُجِدت النيّة الصادقة والعزيمة الأكيدة، والرغبة الملحّة والحوافز الإيمانية، لتدفع هذه كلها صاحبها إِلى صدق الالتزام وأمانته.
ولا يصدق الالتزام إِلا إِذا توافر الوعي والدراسة والتدبُّر، ثم القناعة واليقين. عندئذ يمكن أن تنطلق الجهود لبناء " الجيل المؤمن ". وبغير ذلك تذهب الجهود وتضيع، وتمضي السنون، وأحوال المسلمين تتناوبها الهزائم والفواجع تحت دويّ الشعارات والمزايدات.
أيُّها المسلم ! يجب أن تقف مع نفسك وقفة صادقةً لا تخدع فيها نفسك ولا الآخرين، ولا تظنّ أن الله غافل عما في الصدور. إنه سميع بصير عليم حكيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يجب عليك أَيها المسلم أَن تَقف مع نفسك وقفة طويلة لتقرّر هل ستلتزم، هل أَنت قادر على الالتزام والوفاء بالأَمانة والعهد ؟!
يجب أَن يحتَرِمَ المسلمُ نفسه ودينه ودعوته ! يجب أن يدرك أن هذا الدين حقٌّ من عند الله، لا يصلح معه إلا صدق الالتزام والوفاء بالأمانة والعهد. ولا يصحُّ في دين الله الإكراه، ولا يصحّ في الدعوة الإِكراه، والتّفلّت أو التهاون والتماس الأَعذار كلَّ حين، الأعذار الواهية بغية التفلّت وتسويغه.إن الدين جِدٌّ لا هزل فيه :
( إنهُ لقولٌ فصلٌ. وما هو بالهزل . )
[ الطارق :13،14 ]
ومن خلال التجربة سنين عديدة وضح أن الالتزام بالمعنى الإيمانيّ الربّانيّ يغيب في كثير من الأَحيان، أو كثير من الواقع. أو يكون الالتزام في جزء وتترك أجزاء أخرى كثيرة من هذا الدين، أو يأخذ الالتزام صورة من العصبيّة الجاهلية.
كثيرون يؤدون الصلاة ويصومون، وقد يحجّون، وقد يؤدون الزكاة، ولو سألتهم عن الشهادتين لأجابوا، اعتقدوا أن الأركان الخمسة كافية للمسلم ولا حاجة لأيّ نشاط آخر.
ولقد بيّنّا في دراساتنا السابقة أن الأركان الخمسة سُميّت أركاناً لأنها هي الأساس، ولأّنَّ هنالك تكاليف ربانيةً تقوم عليها، ولذلك شبّه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك التكاليف الربانيَّة التي تؤلف الإسلام كله بالبناء الذي له أساس يقوم عليه، فلا يصحّ البناء دون أساس. فالشعائر ليست هي وحدها التكاليف الربانيّة، ولكنها هي الأساس والأركان.(/1)