وللتدليل علي ذلك نقول بأن تدرج عمارة الأرض بالخلق عبر فترة زمنية طويلة تقدر بحوالي 8 و 3 بليون سنة قد أغرت عددا من الكفار والمشركين ومن علي دربهم من المنافقين بالمناداة بنظرية التطور العضوي التي تنادي بمادية الخلق الأول الذي نشأ نتيجة لتفاعل أشعة الشمس مع طين الأرض بعفوية كاملة , ثم التطور الذاتي العشوائي وغير الواعي لهذا الخلق الأول حتي وصل إلي الإنسان . ولكن تعقيد بناء الخلية الحية ينفي امكانية إيجادها بغير تدبير حكيم مسبق . وتعقيد بناء العضيات المختلفة في الخلية الحية وبناء الشفرة الوراثية . ينفي ذلك نفيا مطلقا , وكل نشاط طبيعي أو كيميائي أو حيوي وكل منتج عن تلك الأنشطة يؤكد علي حقيقة الخلق , وعلي رعاية الخالق ( سبحانه وتعالي ). فالشفرة الوراثية سجل محكم من المعلومات والأوامر المنظمة تنظيما مذهلا , والتي تنفذ بدقة مبهرة علي مستوي أدق التفاصيل , مما يعطي الخلية الحية في أبسط صورها مستوي من عظمة التصميم , وتعقيد البناء , ومستوي التنفيذ لا يمكن أن يصل إليه أكبر المصانع التي أنشأها الإنسان بل التي فكر في انشائها ولم يتمكن من ذلك بعد فيستحيل علي أكثر التقنيات تقدما اليوم انتاج واحدة من أبسط الخلايا الحية علي الرغم من معرفتنا بتركيبها الكيميائي الدقيق مائة بالمائة .
ليس هذا فقط , بل إن لبنة بناء الخلية الحية وهي الجزيء البروتيني عبارة عن بناء معقد من جزيئات الأحماض الأمينية المحددة التي تبلغ العشرين , والمرتبة ترتيبا معينا , والمرتبطة مع بعضها البعض بروابط كيميائية محددة , في تتابعات خاصة , وبنسب مقدرة بدقة فائقة , ولارتباط تلك الأحماض الأمينية برابطة واحدة هي الرابطة البيبتيدية (PeptideBond) فإن البروتينات تعرف باسم عديدة البيبتيدات (Polypeptides). وقد يشترك عدد كبير من مختلف الأحماض الأمينية في تكوين السلسلة البيبتيدية للبروتين وهذا لا يمكن أن يتم بمحض الصدفة أبدا , وذلك لأن جميع البروتينات في أجساد كل الكائنات الحية مبنية من العشرين نوعا المحددة من أنواع الأحماض الأمينية , وكلها من أنموذج واحد يعرف باسم أنموذج أ (AlphaType), وكلها مرتبط ببعضه البعض برابطة محددة هي الرابطة البيبتيدية , وأبسط جزيء بروتيني معروف يتكون من خمسين جزيئا من جزيئات الأحماض الأمينية العشرين المحددة , وبعض الجزيئات البروتينية مكون من آلاف الجزيئات من الأحماض الأمينية . وجميع هذه الضوابط والقيود ـ وغيرها كثير ـ تجعل احتمال تكون جزيء بروتيني واحد بمحض الصدفة من أكبر المستحيلات .
فإذا أضفنا إلي ذلك تعقيد بناء جزيء الحمض الأميني نفسه الذي يتكون من ستة عناصر أساسية هي : الكربون , الإيدروجين , الأكسجين , النيتروجين , الكبريت , والفوسفور , وأن مجرد اختيار تلك العناصر الستة من بين أكثر من مائة عنصر معروفة لنا بمحض الصدفة يجعل الأمر أشد استحالة . ويزيد الأمر تعقيدا أن الذرات تترتب في الأحماض الأمينية ترتيبا يساريا في أجساد جميع الكائنات الحية , ولكن بمجرد موت الكائن الحي فإنها تعيد ترتيب ذاتها ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة مما يعين علي تحديد لحظة وفاة الكائن الحي بحساب نسبة الترتيب اليميني إلي اليساري في جزيئات الأحماض الأمينية في أية فضلة تبقي عن ذلك الكائن الحي .
ليس هذا فقط بل إن جزيئات الأحماض الأمينية تترتب في داخل الجزيئات البروتينية المكونة للخلية الحية ترتيبا يساريا كذلك في جميع الأحياء , بينما تترب الذرات في النويدات (Nucleotides) ترتيبا يمينيا والنويدات هي الحروف التي تكتب بها الشفيرة الوراثية (DNACODON).
وإذا أضفنا إلي كل ذلك إحكام بناء الخلية الحية علي ضآلة أبعادها فإن أية إمكانية للعشوائية أو الصدفة تنتفي تماما , فالخلية الحية لها جدار رقيق من غشاء حي في كل من الإنسان والحيوان يتبادل الغذاء والنفايات والأكسجين مع الخلايا المجاورة , ولها جدار من غشاء سميك غير حي في النباتات , والخلية لها السائل الخلوي الذي يتكون أساسا من البروتينات , والدهنيات , والسكريات , والعديد من العناصر الذائبة , ويسبح في هذا السائل الخلوي العديد من الصبغيات , والنواة التي لها جدار حي وتحتوي علي الشفرة الوراثية المحمولة علي عدد من الصبغيات المحدد لكل نوع من أنواع الحياة , وتتكون الصبغيات من جزيئات الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسجين , وبالنواة كذلك والحمض النووي الريبي المراسل , والبروتينات ( ومنها الهرمونات والإنزيمات ), والكربوهيدرات , والدهون (Lipids), والفيتامينات , والإليكتروليتات , وغيرها من المركبات الكيميائية المرتبة ترتيبا محكما وبنسب محددة , واختيار دقيق , وتناسق عجيب ليقوم كل منها بدوره علي أكمل وجه .(/5)
وللخلية الحية مصادرها المختلفة من الطاقة , ومصانعها , ومختبراتها , ومحطات التكرير الخاصة بكل منتج تنتجه , ووسائل الانتقال المحددة بداخلها , ولها شفرة وراثية شديدة التعقيد يضم الصبغي الواحد من بين 46 صبغيا في الخلية الواحدة من خلايا جسم الإنسان 6 و 18 بليون قاعدة كيميائية , وكل ذلك ينفي الصدفة , ويؤكد الخلق المتقن , والتدبير الحكيم الذي لا يقوي عليهما إلا رب العالمين .
وإذا استحالت الصدفة علي ايجاد خلية حية واحدة , فالأمر أشد استحالة بالنسبة للكائن الحي الكامل , وهو أبلغ بالنسبة إلي الإنسان الذي يتكون جسده في المتوسط من ألف مليون مليون خلية , تنتظمها أنسجة متخصصة , في أعضاء متخصصة , في أجهزة متخصصة , تعمل كلها في توافق عجيب يخدم هذا الجسد المكرم , ولذلك قال ربنا ( تبارك وتعالي ):
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل ( الأنعام :102)
.. قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ( الرعد :16)
الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل ( الزمر :62)
ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فاني تؤفكون ( غافر :62)
هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( الحشر :24)
فإذا قال هذا الخالق الباريء المصور أنه خلق الإنسان من تراب , أو من طين , أو من طين لازب , أو من سلالة من طين , أو من صلصال من حمأ مسنون , أو من صلصال كالفخار فلا يملك المؤمن بالله ( تعالي ) إلا أن يقول آمين , لأن هذا هو الخالق يتحدث عن خلقه , ومن أدري بالخلق من خالقه !!
وإذا خلق الله ( تعالي ) عبده ورسوله عيسي ابن مريم من أم بلا أب بأمره فهو نفس الأمر الإلهي بـ كن فيكون الذي خلق به آدم من تراب . والإنسان ـ في ضعفه ـ قد استطاع استنساخ عدد من الحيوانات من أم بلا أب فهل يعجز ذلك خالق الإنسان؟
والخلق من تراب ينطبق في الحالين : حال أبينا آدم ( عليه السلام ) الذي بدأ الله ( تعالي ) خلقه من تراب وكان جميع نسله في صلبه لحظة خلقه ومنهم عبد الله ورسوله عيسي ابن مريم . كما ينطبق الخلق من تراب علي المسيح عيسي ابن مريم نفسه لأنه نشأ من بيضة أمه الموروثة عن أبوينا آدم وحواء ( عليهما السلام ) وتغذي وهو جنين علي دمائها المستمدة من غذائها وهو مستمد من عناصر الأرض , وتغذي وهو رضيع علي لبنها , وهو مستمد من نفس المصدر , وتغذي بعد ذلك علي نباتات الأرض , وعلي منتجات المستباح من حيواناتها , وكل ذلك مستمد أصلا من عناصر تراب الأرض ومائها وهوائها ولذلك قال ربنا ( وهو أحكم القائلين ):
إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( آل عمران :59)
ولا يملك عاقل أن يقول بعد كلام الله الخالق الباريء المصور قولا ...!!
ولعل في ذلك ما يرد نفرا من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب ومنجزاته , وانبهروا بمعطياته المنطلقة من بوتقة الكفر والشرك والإلحاد , فتحدثوا عن التطور العضوي وزينوه في عقول نفر من غير المتخصصين , ومن المنهزمين نفسيا أمام الحضارة الغربية المزيفة فانطلقوا بخيال جامح يؤولون كلام الله تأويلا مرفوضا , وينكرون نصوصا قرآنية كريمة , وأحاديث نبوية شريفة قطعية الثبوت , قطعية الدلالة , وهم يعلمون جيدا حكم من ينكر معلوما من الدين بالضرورة , فافترضوا ـ دون أدني دليل علمي أو منطقي وجود بشر قبل آدم , والنصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة لا تفرق بين الآدمية والبشرية .
ويبقي في قول ربنا ( تبارك وتعالي ):
إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( آل عمران :59)
يبقي في ذلك سبق علمي حقيقي أثبتته الدراسات المتأخرة في علم الوراثة والتي أكدت أن انقسام الصبغيات الحاملة للشفرة الوراثية ينتهي بنسب بلايين الأفراد الذين يعمرون أرض اليوم , والبلايين الذين جاءوا من قبلنا ثم ماتوا , والذين سوف يأتون من بعدنا إلي قيام الساعة , هؤلاء جميعا ينتهي نسبهم إلي أب واحد وأم واحدة هما أبوانا آدم وحواء ( عليهما السلام ) ولما كان عيسي ( عليه السلام ) من نسل آدم , مخلوق من تراب فان جسد عيسي ابن مريم يحوي بالقطع جزءا من التراب الموروث عن أبيه آدم , وقد غذي بدم ولبن أمه وهو أيضا مستمد من عناصر تراب الأرض , فهو من تراب كما خلق أبوه آدم من تراب . كذلك أثبتت محاولات الاستنساخ في النبات والحيوان إمكانية انتاج جنين من أم بلا أب , وإذا استطاع الإنسان ـ علي ضعفه ـ تحقيق ذلك فإنه لا يعجز خالق الإنسان ..!!(/6)
فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله , وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه ( اللغة العربية ) كلمة كلمة , وحرفا حرفا , حتي يبقي حجة علي الخلق جميعا إلي قيام الساعة , وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد النبي والرسول الأمين الذي بلغ الرسالة , وأدي الأمانة , ونصح الثقلين حتي أتاه اليقين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/7)
الإشاعة وأثرها
علي بن عثمان محمد القرني
يعرّف كثير من المتخصصين الإشاعة بأنها : " رواية مصطنعة عن فرد ، أو أفراد ، أو مسؤولين يتم تداولها شفهياً بأية وسيلة متعارف عليها ، دون الرمز لمصدرها ، أو ما يدل على صحتها ، ومعظم الشائعات مختلفة ذات دوافع نفسية ، أو سياسية ، أو اجتماعية ، أو اقتصادية ، وتتعرض أثناء التداول للتحريف ، والزيادة ، والنقص ، وتميل غالباً للزيادة " [1] .
1- تاريخ الشائعة :
" يؤكد التاريخ أن الشائعة وجدت على الأرض مع وجود الإنسان " [2] ، وقد تطورت وترعرعت مع تطور الحضارات القديمة والحديثة ، واستخدمها المصريون والصينيون ، و اليونان ، في حروبهم قبل الميلاد بآلاف السنين للتأثير على الروح المعنوية للعدو ، وفي بداية العصر الإسلامي كانت حادثة الإفك التي تولى كبرها المنافقون ، وكادت تؤثر تأثيراً كبيراً على الروح المعنوية لبعض المسلمين ؛ حتى أنزل الله قرآناً يبين براءة عائشة رضي الله عنها ، ويكذب من جاء بالإفك .
وإشاعة مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد ، وما كان لها من أثر في صفوف المقاتلين المسلمين ، وقصة نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة الخندق لتفكيك قوى الأحزاب لا تخفى على أحد .
2- أنواع الإشاعة :
الشائعات لا يمكن حصرها ، ويحكمها الهدف ، أو الغرض من الإشاعة ؛ ولكنها لا تخلو من :
أ- إشاعة الخوف : وهي : ( إثارة القلق والرعب في نفوس السكان ) [3] ، أثناء الكوارث والحروب .
ب- إشاعة الأمل أو التمني : والتي يتمنى مروجوها أن تكون حقيقة واقعة [4] ويتناول هذا النوع قضايا مختلفة في مقدمتها الحصول على منافع معنوية ، أو اجتماعية ، أو اقتصادية .
ج- إشاعة الحقد : وهي ( أخطر أنواع الإشاعات ؛ لأنها تسعى إلى ضرب الوحدة الوطنية بإثارة البلبلة بين الطوائف الدينية ، والمذهبية ، والقومية ، وصولاً إلى بث روح الفرقة ، وتحطيم المعنويات ) [5] .
وتكثر الشائعات في غير الظروف العادية كظروف الحروب مثلاً ؛ بقصد غرس روح النصر في الجيوش الصديقة ، أو غرس روح الهزيمة في الأعداء ، أو رفع أسعار السلع في الأسواق .
3- أسباب انتشار الإشاعة :
هناك أسباب لانتشار الشائعات منها : الشعور بالقلق ، والخوف ، والكراهية لشخص أو أشخاص معينين لهم نفوذهم ، ولأسباب شخصية معينة ، ثم يأتي بعد ذلك الفراغ ، والأذن الصاغية . بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني ، والجهل ، والرغبة في تضخيم الأمور الصغيرة إلى أشياء كبيرة لأسباب نفسية ، والاستعداد النفسي ، والرغبة في إثارة مشاكل اجتماعية تهم أفراد المجتمع بأكمله
4- أثر الإشاعة :
الإشاعة وباء خطير إذا دب في مجتمع من المجتمعات أشاع فيه جواً من القلق والخوف والتوتر والاضطراب ، وعدم الاستقرار ، وانهيار الروح المعنوية ، وإشعال نار العداء بين عباد الله ، والوقوع في أعراضهم مما يكون له الأثر السيئ على الأمن والاستقرار ، وكثيراً ما ينتج عن ذلك الفوضى وتعطيل مصالح الدول والمجتمعات إذا لم تستطع الحكومة مواجهتها وتفنيدها وإطلاع مواطنيها على الحقائق التي تحاول الشائعات طمسها وتزويرها .
5- التحذير من الإشاعة :
لأن الإشاعة أقوال بين متكلم أو مروج وبين سامع مصدق ومكذب لتلك الأقوال ؛ فقد وصف الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم مبتدع الإشاعة ومروجها بأقبح الأوصاف ؛ فقد وصف بالفاسق في قوله تعالى : ] إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [ ( الحجرات : 6 ) ، والكاذب في قوله تعالى : ] إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ [ ( النحل : 105 ) ، والمنافق في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " [6] ، وحذر الله سبحانه وتعالى من الكذب وبين العقوبة التي يستحقها الكاذب لكذبه فقال تعالى : ] فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِين [ ( آل عمران : 61 ) ، وقال تعالى : ] وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ [ ( الزمر : 60 ) ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " [7] ، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع " [8] .(/1)
أما السامع فقد أمره الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتأكد مما يسمع ، وحذره من المسارعة في تصديق كل ما يبلغه فيقع في ندامة من أمره [9] ، والخطاب عام للمؤمنين قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [ ( الحجرات : 6 ) .
الخلاصة :
كم من إشاعة أطلقها مغرض ، وسمعها وصدقها متعجل أدت إلى تباغض الإخوان والأصدقاء ، والعداوة بين الأصحاب والزملاء ، وإساءة سمعة الفضلاء ، وتشتيت أسر ، وتفريق جماعات ، ونكبة شعوب ، وانهيار وهزيمة جيوش ، فترك ذلك جراحاً عميقة لا تندمل ، ودموعاً لا ترقأ ، وفرقة دائمة لا تجتمع .
ومع كل ما يعلمه المجتمع بما تسببه الإشاعة من مساوئ وويلات ، تظل المادة الأساسية والهواية المحببة لمروجيها ، ويبقى مروجوها بؤرة فاسدة في جسد المجتمع ، وطفح جلدي منتن يجب على أي جماعة ، أو أمة ، أو شعب محاربة هذه الآفة الفتاكة واستئصالها وانتزاعها من جذورها ؛ لتبقى الأمة متماسكة مترابطة ذات هدف واحد تبني مستقبلها وتقف ضد أي أخطار تعترض مسيرتها .
________________________
(1) د محمد عثمان الخشت ، الشائعات وكلام الناس ص :(1312) مكتبة ابن سينا(1996م) .
(2) محمد بن دغش القحطاني الإشاعة وأثرها على المجتمع ص :(12) دار طويق ط 1 (1418هـ) .
(3) أ د إبراهيم الجوير ، الشائعات ووظيفة المؤسسات الاجتماعية في مواجهتها ص :(9 - 10) مكتبة العبيكان ، ط 1 ،(1416هـ) .
(4) أ د إبراهيم الجوير ، الشائعات ووظيفة المؤسسات الاجتماعية في مواجهتها ص :(9 - 10) مكتبة العبيكان ، ط 1 ،(1416هـ) .
(5) أ د إبراهيم الجوير ، الشائعات ووظيفة المؤسسات الاجتماعية في مواجهتها ص :(9 - 10) مكتبة العبيكان ، ط 1 ،(1416هـ) .
(6) النووي ، رياض الصالحين ص :(606) دار الفكر المعاصر ، بيروت .
(7) النووي ، رياض الصالحين ص :(606) دار الفكر المعاصر ، بيروت .
(8) صحيح مسلم ، شرح النووي ص :(73) ، ج(1) ، ط(2) ،(1392ه) دار الفكر ، ببيروت .
(9) سلمان مندني جسور التواصل ص ،(19) ط1 ، 1413ه دار الدعوة للنشر الكويت .(/2)
الإصلاح ضرورة
سهيلة زين العابدين حمَّاد 24/8/1424
20/10/2003
تواجه أمتنا الإسلامية تحديات جمة وخطيرة تستهدف هويتها وعقيدتها وتراثها وحضارتها وثرواتها وعزتها وكرامتها وحريتها، والكعبة المشرفة هدف أعداء الأمة، ولقد أشار إليها رئيس الوزراء البريطاني مستر جلادستون في أواخر القرن التاسع عشر في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجلَّ، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلَّفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال:هذه الكعبة!!" (1).
ويحاول الآن الأعداء النفوذ إلينا من خلال ثغرات موجودة في مجتمعنا، واستغلال هذه الثغرات للانقضاض علينا مدعين أنَّهم يريدون لنا الحرية والعدل والديمقراطية، هذه الكلمات التي يخدعون بها البعض من أبناء أمتنا من المنبهرين بالغرب وحضارته وثقافته وحريته وديمقراطيته الزائفة، فينصاعوا وراء تلك الشعارات الزائفة، ويكونوا عوناً لأعدائنا علينا، وما يلبثوا أن يجدوا أنفسهم وقعوا وأوقعوا معهم أمتهم وأوطانهم في مستنقع عميق لا قرار له، ولا مخرج منه إلاَّ بعد تقديم الملايين من الشهداء خلال عدد من السنين لا يعلم مداها إلاَّ الله وحده.
ولئلاَّ تتكرر مأساة أفغانستان والعراق علينا أن نعمل على إصلاح ما بأنفسنا (إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم) ، ونحدد دور كل واحد منا في هذا الإصلاح، وأن نكون يداً واحدة وجبهة واحدة يتضامن فيها الشعب بكل فئاته وعناصره للعمل على سد كل المنافذ والثغرات التي قد ينفذ الأعداء إلينا منها.
لذا فإني سوف أقدم كامل رؤيتي لهذا الإصلاح في جانبه الثقافي والتربوي والإعلامي.
أولاً – الإصلاح الثقافي
لن يتحقق الإصلاح الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية إلاَّ إذا عملنا على تحقيق الآتي:
1-العمل على القضاء على الأمية في عالمنا العربي والإسلامي.
2- السعي إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم:
علينا أن نسعى إلى توحيد لغة المسلمين بنشر لغة القرآن الكريم وجعلها لغة كل مسلم ومسلمة.
3-التسلح بثقافة إسلامية واعية:
يجب أن نتسلح بثقافة إسلامية واعية، وأن نواجه تحديات العولمة بها، بل علينا أن ننشر الثقافة الإسلامية، وأن نقدمها للعالم بكل ما فيها من سمو وجمالية وقيم وفضائل وعدل وخير للبشرية، بدلاً من "الأمركة" المفروضة على العالم بكل أمراضها وشذوذها، وهيمنتها وسطوتها وغرورها وغطرستها وظلمها وانحيازها للصهيونية العالمية ولكل من يحارب الإسلام، ويبيد المسلمين.
فلتكن ثقافتنا ثقافة إسلامية واعية صامدة أمام تحديات العولمة، فارضة ذاتها على الآخر لتكون النموذج الذي نقدمه للعالم في هذا العصر، وبدلاً من أن يفرض علينا الآخر ثقافته، وقد مرَّت علينا قرون، ونحن نتلقى من الآخر، وقد آن الأوان أن نقدم ثقافتنا الإسلامية بكل رقيها وسموها وثراها وغناها وتجددها الدائم، لأنها من نبع لا ينضب، علينا أن نتبع الآتي:
أولاً - الاهتمام بالتربية الأسرية ولا سيما التربية الروحية:
إذ أرى أنّ ضعف الجانب الروحي في شبابنا -ذكور وإناث -هو العامل الرئيس في هذا الانحراف العقائدي، وتنمية هذا الجانب، وغرسه في روح الأبناء غرساً سليماً هو القاعدة الأساسية في الإصلاح، لما للتربية الإسلامية من أهمية بالغة في غرس حب الله والإيمان به في النفوس، ومراقبته والخوف منه، فللتربية الروحية أهمية بالغة في تحديد عقيدة النشء يجب الاهتمام بها، والتركيز عليها منذ الطفولة المبكرة ليستطيع الأبناء مواجهة تحديات العصر، وتيارات التشكيك الموجهة ضد ديننا وعقيدتنا بعقيدة ثابتة لا تتأثر بتلك المحاولات التي تعمل على إفقادهم عقيدتهم الإيمانية بالخالق، وصلاحية ما شرَّعه لهم في أمورهم الدنيوية، وما وعدهم من نعيم في حياتهم الأخروية إن التزموا بما أمرهم به، واجتنبوا عمَّا نهاهم عنه (2)،فإذا قوي في الإنسان الإيمان بالخالق جلّ شأنه ومراقبته في كل قول وعمل فاتبع أوامره، واجتنب نواهيه، ورَّوض نفسه ووطَّنها على كبح جماح الغرائز والشهوات، وأصبحت له إرادة قوية يستطيع أن يصمد بها أمام المغريات، وعالج نفسه من الانحرافات، بالاعتراف بالذنب، والتوبة النصوحة والاستغفار، وقاوم مصائب الدهر بالدعاء، وليس إلى ما يغيب عقله كالمخدرات والمسكرات، كما يكتب معظم كتاب القصص والروايات.
ثانياً - الاهتمام بعلم الاستغراب:
علينا أن نبدأ بدراسة الغرب وعلومهم ومناهجهم، ونقدها من المنظور الإسلامي، وذلك للاستفادة مما حققوه من إنجازات في مجال العلوم التطبيقية، ومن مناهجهم فيما لا يتعارض مع الدين، وتوضيح مثالب وعيوب الحضارة الغربية باتباع منهج علمي حقيقي مجرد من الميول والأهواء والنزعات الذي أرشدنا ووجهنا إليه ديننا الحنيف.(/1)
ثالثاً - الاهتمام بالجاليات الإسلامية:
أن يكون هناك تواصل فكري وثقافي بين أبناء الجاليات الإسلامية، وبين مفكري ومثقفي الأمة الإسلامية، عن طريق تنظيم المؤتمرات والملتقيات والمهرجانات والمواسم الثقافية، وعلى المؤسسات والمنظمات الإسلامية أن تنظم مؤتمرات في مختلف البلاد الإسلامية يشارك فيها مثقفو ومفكرو أبناء الجاليات الإسلامية لربطهم بوطنهم الأم، وليتم التواصل بينهم وبين أكبر عدد ممكن من مفكري ومثقفي الأمة.
إنَّ الصلة بيننا وبينهم تكاد تكون منقطعة، وهذا قصور منا نحن شعوبًا وحكومات، وعلينا أن نعمل على التواصل بيننا وبينهم فهم جزء لا يتجزأ منا، وسيسألنا الله عنهم إن فرَّط أحدهم في دينه، أو تعرض إلى ما يسيء إليه دون أن نقف إلى جانبه ونسانده للحفاظ على دينه ليجتاز محنته، ومتى أدركنا هذه المسؤولية، وقمنا بواجبنا نحوهم، نكون قد أسهمنا في أسلمة فكر وثقافة الأمة -وأقول هنا أسلمة فكر وثقافة الأمة لأنَّ الغالبية العظمى منا أضحت للأسف الشديد علمانية الفكر والثقافة، وأصبح معظم القائمين على وسائل الاتصال علمانيين-، ووحدنا توجهاتها لخير البشرية، وبذلك نكون قد أسهمنا في إعادة الدور الحضاري للأمة الإسلامية، وجعلنا الثقافة الإسلامية في موقع القوة والإبداع والابتكار لا موقف الضعف والتقليد والاتباع، كما هي حالنا الآن.
رابعاً – قيام مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية:
على مفكري ومثقفي الجاليات الإسلامية أن يقوموا بدورهم الثقافي في المجتمعات الغربية، بالتعريف بالإسلام ومبادئه وقيمه وحضارته وتاريخه؛ لتصحيح ما شوهه رجال الكنيسة والمستشرقين عن الإسلام ونبيه - عليه الصلاة والسلام- وتاريخه، وما يقوم بتشويهه الإعلام الغربي الذي تسيره وتتحكم فيه الصهيونية العالمية.
ثانياً – الإصلاح في المجال الإعلامي
أولاً - أن تضع الدول العربية والإسلامية خطة إعلامية موحدة لمواجهة ما يواجهنا من مخاطر وضغوط وتحديات:
وأن يراعى في هذه الخطة الآتي:
- إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية، وصحف وقنوات تلفازية بمختلف اللغات تشرح ديننا وقيمه وحضارته وتاريخه، وترد على ما يثار حوله من شبهات، مع شرح قضايانا، ومن المفارقات العجيبة أنَّنا نجد اليهود الصهاينة الذين لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر مليوناً يملكون أربع من خمس وكالات أنباء عالمية، وكبريات الصحف وشبكات التلفزة العالمية في أوربا وأمريكا، إضافة إلى سيطرتها على السينما الأمريكية، وامتلاكها كبريات شركات الإنتاج السينمائي العالمية، مع سيطرتها على المسارح، وشركات الإعلان في أمريكا، ونحن المسلمين البالغ عددنا مليار ونصف لا نملك ولا وكالة أنباء عالمية واحدة، ولا صحيفة أو مجلة أو قناة تلفازية عالمية.والولايات المتحدة وإسرائيل كل منهما سوف يوجه قناة فضائية تبث بالعربية إلى العالم العربي تقدمان مزيداً من التضليل والأكاذيب لتضليل الرأي العام العربي، ونحن الواقع علينا كل هذا الظلم والعدوان لم نبث قناة، ولو باللغة الإنجليزية تعمل على تكوين رأي عام عالمي سليم تجاه ديننا وقضايانا المصيرية.
- إيقاف الدعاية والإعلان للبضائع والمطاعم واللحوم والمشروبات اليهودية والأمريكية. في المحطات التلفازية، والإذاعات الصحف والمجلات التي تصدر في البلاد العربية والإسلامية.
- مقاطعة الأفلام والمحطات التلفازية الأمريكية، بعدم بث الأفلام والبرامج والقنوات الأمريكية على الشبكات التلفازية المشفرة.
- أن يتبنى إعلامنا في البلاد الإسلامية الأدب الإسلامي، لأنه يشكل الآن الجبهة التي تجعلنا نحافظ على هويتنا الإسلامية وأصالتنا وتراثنا الفكري والحضاري، ويقينا شر الذوبان في ثقافة وحضارة الآخر.
- أن يُشجع أصحاب القنوات الفضائية المفتوحة والمشفرة على التنسيق فيما بينهم ليقدموا مواد جيدة بعيدة عن الإسفاف، تجمع بين الترفيه البريء والتثقيف الإسلامي الواعي، وعلى القنوات الفضائية المتخصصة ألاَّ تخرج عن المناهج والأهداف التي أُنشئت من أجلها.
- أن تتاح الفرص للأقلام الإسلامية الواعية المعتدلة غير المتطرفة بالكتابة في الصحف والمجلات.
- لا بد أن يتخذ وزراء العدل والإعلام والثقافة العرب والمسلمون خطوات إيجابية تجاه ما يقوم به اللوبي الصهيوني من إرهاب فكري وثقافي تجاه الأدباء والكتاب والمفكرين والصحفيين:(/2)
وهو تكميم أفواهنا كما كمموا سلاحنا ضد الجرائم الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، فأصبح الذين يدافعون عن الحق العربي في فلسطين ويكشفون أكاذيب وأضاليل اليهود وجرائمهم عبر التاريخ، يُحاكمون بتهمة " المعاداة للسامية" في المحاكم الغربية، يُحكم عليهم بالسجن؛ إذ عليهم المطالبة بإسقاط ما يسمى بتهمة المعاداة للسامية، و رفض المحاكم في كل دول العالم القضايا التي ترفع تحت مسمى هذا الاتهام لأنَّ هذه التهمة تقيد حرية التعبير، وحرية الرأي من جهة، ولأنَّها تعطي المشروعية للجرائم الإسرائيلية والصهيونية العالمية ضد الفلسطينيين والعرب من جهة أخرى.
ثانياً – الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي:
ففي الحادي والعشرين من شهر شوَّال عام 1400هـ الموافق 1سبتمبر عام 1980م عقد المؤتمر الأول للإعلام الإسلامي في جاكرتا بإندونيسيا، وشارك فيه ما يقارب من 450 شخصية إعلامية إسلامية من مختلف أنحاء العالم يمثلون كافة أشكال وسائل الإعلام الإسلامي، وقد أقر هذا المؤتمر ميثاق الشرف الإعلامي الإسلامي، وجاء في المادة الأولى من هذا الميثاق الآتي:
الالتزام:
أ- بترسيخ الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الخلقية.
ب- بالعمل على تكامل الشخصية الإسلامية.
ج- بتقديم الحقيقة له خالصة في حدود الآداب الإسلامية.
د- بتبيين واجباته له تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية.
وجاء في المادة الثانية الآتي:
يعمل الإعلاميون على جمع كلمة المسلمين، ويدعون إلى التحلي بالعقل والأخوة الإسلامية والتسامح في حل مشكلاتهم، ويلتزمون:
1- بمجاهدة الاستعمار والإلحاد في كل أشكاله والعدوان في شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية.
2- بمجاهدة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني بأشكال القمع والقهر التي يمارسها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
3- باليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للإسلام.
وجاء في المادة الثالثة الآتي:
يلتزمون:
1-بالتدقيق فيما يُذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الإسلامية من التأثيرات الضارة بشخصيتها الإسلامية وبقيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها.
2-بأداء رسالتهم في أسلوب عف كريم حرصاً على شرف المهنة، وعلى الآداب الإسلامية. فلا يستخدمون ألفاظاً نابية ولا ينشرون صوراً خليعة، ولا يتعرضون بالسخرية والطعن الشخصي والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن، ونشر الشائعات وسائر المهاترات.
بالامتناع عن إذاعة ونشر كل ما يمس الآداب العامة أو يوحي بالانحلال الخلقي، أو يرغب في الجريمة والعنف والانتحار، أو يبعث الرعب، أو يثير الغرائز سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر.
بالامتناع عن إذاعة ونشر الإعلان التجاري في حالة تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية.
وجاء في المادة الرابعة الآتي:
يلتزمون بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية، والدفاع عنها، وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والاهتمام بالتراث الإسلامي والتاريخ والحضارة الإسلامية، ومزيد العناية باللغة العربية، والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية، وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية.
وبإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لاسترجاع السيادة التشريعية للقرآن والسنة.
ويتعهدون بالمجاهدة من أجل تحرير فلسطين وفي مقدمتها القدس وكافة الأقطار الإسلامية المضطهدة.
ويلتزمون بتثبيت فكرة الأمة الإسلامية المنزهة عن الإقليمية الضيقة والتعصب العنصري والقبلي واستنهاض الهمم لمقاومة التخلف في جميع مظاهره وتحقيق التنمية الشاملة التي تضمن للأمة الازدهار والرقي والمناعة(3).
هذا هو ميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي، وعلى الإعلاميين في عالمنا الإسلامي الالتزام به، وكذلك الالتزام بتوصيات وقرارات هذا المؤتمر لمواجهة التحديات التي تواجه أمتنا الإسلامية.
ثالثاً – على أصحاب رؤوس الأموال العرب والمسلمين العمل على الآتي:
1- العمل على إنشاء وكالة أنباء عالمية إسلامية على مستوى وكالات الأنباء العالمية لتنوير الرأي العام العالمي بحقائق تسعى وكالات الأنباء الأجنبية -التي تسيرها الصهيونية العالمية- إلى طمسها، وتضليل الرأي العام العالمي، وتأليبه ضد المسلمين والعرب، وتشويه صورتهم.
2- إصدار صحف عالمية إسلامية، وبث قنوات فضائية بمختلف اللغات الأجنبية توضح للرأي العام العالمي قضايانا المصيرية، وتاريخنا الإسلامي المشرف، وحضارتنا الإسلامية التي تعد أرقى الحضارات الإنسانية. فإعلامنا حتى هذه اللحظة لا يزال يخاطب نفسه، ولم توجد إلى الآن لغة حوار بيننا وبين الغرب، فالصهيونية العالمية لا تزال تسيطر على الرأي العام العالمي وتوجيهه لتحكمها في معظم وكالات الأنباء العالمية، والصحافة العالمية وشبكات التلفاز العالمية، وكذلك السينما والمسرح.(/3)
3- إنتاج أفلام سينمائية تاريخية ضخمة، تدبلج بمختلف اللغات توضح روعة تاريخنا الإسلامي، وعظمة الإسلام وسماحته، كما تركز على إنجازات العلماء المسلمين في مختلف مجالات العلم والمعرفة، كما تركز على القضية الفلسطينية، والمذابح التي أحدثها الإسرائيليون في دير ياسين، وقانا، وصبرا وشاتيلا، وما يحدثونه الآن من جرائم بشعة في الأراضي المحتلة، وما أحدثوه من جرائم خلال خمسين عاماً، وعن استشهاد الطفل "محمد الدرة" وغيره من الأطفال، وكذلك إنتاج أفلام سينمائية مماثلة عن القضية الشيشانية، والألبانية، وقضية البوسنة والهرسك، وما تلاقيه الأقليات الإسلامية من اضطهاد في الفلبين، وسيرلانكا، وغيرها.
4- الاهتمام بالأقليات الإسلامية الموجودة في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما في أوربا والأمريكتين، والعمل على جعلها مراكز إشعاع حضاري للعالم، وتُوجّه لها برامج في القنوات الفضائية المقترح إنشاؤها، بإعداد برامج عن تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وبرامج توضح لهم أمور دينهم، وتربطهم بأوطانهم، وتحكي لهم تاريخهم، وتسهم في حل ما يواجههم من مشكلات.
5- على القنوات الفضائية العربية الخاصة الالتزام بميثاق جاكرتا للإعلام الإسلامي حفاظاً على بناء الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم بناءً سليماً، وحفاظاً على القيم الخلقية.
6- إنشاء دور نشر تهتم بترجمة كتب التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية إلى مختلف لغات العالم، وتوزيعها في أوربا والأمريكتين على وجه الخصوص.
وهكذا نجد أنّ مسؤولية كبرى تقع على عاتق أصحاب القنوات الفضائية العربية الخاصة، وعلى غيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة من العرب والمسلمين، وهذه مسؤولية يوجبها عليهم ديننا الإسلامي، فالأمة الإسلامية تمر بظروف حرجة، والرأي العام الغربي مضلل تجاه قضايانا من قبل الصهيونية العالمية التي تسيطر على معظم وسائل الإعلام الغربي، وصورة الإنسان العربي المسلم مشوهة في العالم الغربي.
وإنني أتساءل: لماذا الأثرياء العرب يقفون هذا الموقف السلبي تجاه أمتهم، فنحن مليار مسلم عاجزون حتى الآن عن تكوين مؤسسات إعلامية عالمية في حين أنَّ يهود العالم الذين لا يزيد عددهم عن ثلاثة عشر مليوناً، يمتلك معظم وكالات الأنباء العالمية والصحف وشبكات التلفاز والسينما العالمية؟
وكلنا أمل أن يدرك هؤلاء مسؤولياتهم الدينية والوطنية.
________________________________________
1 -محمَّد فهمي عبد الوهاب: الحركات النسائية في الشرق، وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية، ص7، دار الاعتصام، القاهرة.
2 - سهيلة زين العابدين حمَّاد:بناء الأسرة المسلمة، ص127، "الدار السعودية للنشر".
3 - د. محمد سيد محمد: المسؤولية الإعلامية في الإسلام، ص355-357.(/4)
الإصلاح على الطريقة الأميركية
- الإصلاح الأميركي قادم بسرعة الصاروخ، والكل في المنطقة يتأهب وشعاره «كن مستعداً لتنفيذ الأوامر». ففي الأسابيع الماضية، حاول عمرو موسى ورفاقه من وزراء الخارجية العرب، إصلاح جامعة الدول العربية أو ترميمها، أو نفض غبار احتلال العراق عنها، لكنه لم يصل إلى علاج ناجع ريثما يأتي الترياق من واشنطن.
- انعقد مؤتمر في مكتبة الإسكندرية في 12/3، تحت عنوان «قضايا الإصلاح العربي»، وألقى فيها الرئيس مبارك كلمة شدّد فيها على التحديث والتطوير، وحضر بعض المؤتمرين دون تمكنهم من الاطلاع على وثيقة «الشرق الأوسط الكبير» فبدأ في البحث عنها ليتمكنوا من نقدها، علماً أنها محور النقاش، وشارك في المؤتمر 170 شخصية من الناطقين بالعربية، وتحدثوا عن الإصلاح السياسي، والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ومشاركة المرأة والشباب في الحياة السياسية، وتحدثوا عن تداول السلطة سلمياً، والتعددية، ومنح المجتمع المدني دوراً أكبر.
- وأخيراً، بدأت الأنظمة العربية، بعد صدور الأوامر الأميركية، بالحديث في أمور كان الحديث فيها من الممنوعات، والأنظمة الآن في سباق مع الأوامر، لكي تقول للناس إنها قامت بمحاولات لتجميل صورتها، ليس امتثالاً لأوامر واشنطن، بل طوعاً واستباقاً للضغوط، لكن الصورة واضحة، والناس يعرفون كل ما يدور حولهم، وليسوا جهلاء، ولن تتركهم أميركا حتى تمرّغ كرامتهم في الوحل، والأيام القادمة حافلة بالأحداث المذلّة بسبب الهجمة الأميركية المتغطرسة.
- وفي 12/3 تحولت أعمال شغب بين جمهوري فريقي (الفتوة) من دير الزور، و(الجهاد) من مدينة الحسكة، إلى أعمال تخريب وعنف في مدينتي القامشلي، ودمشق، واعتدى خلالها متظاهرون على ممتلكات عامة، ورفعوا شعارات سياسية، وحرقوا ممتلكات، وكسروا سيارات خاصة، أو سيارة إسعاف، ومحلات ومؤسسات عامة. وتعليقاً على ذلك نقول دون الدفاع عن أحد من الحكام، أو هجوم على أحد من هواة كرة القدم، بل حزناً على هذه الأمة التي تساق سوقاً إلى المخططات المرسومة من قبل العدو الأميركي.
- لقد حدثت في منطقتنا في العقود الأخيرة أحداث زلزلت المنطقة زلزلة شديدة، ولا داعي لذكرها، إذ الكل يعرفها، لكنها لم تحرك الشارع في سوريا، لكن لعبة كرة قدم حركته تحريكاً يثير الريبة والشك، في أن له تداعيات ترتبط بالضغوط الخارجية، فقبل أيام قليلة تحرك أنصار حقوق الإنسان في تظاهرة في دمشق، وكان بينهم دبلوماسي أميركي، ثم تحرك أنصار «عون» في بيروت في يومين متتاليين، ثم تحركت خلال 24 ساعة أحداث القامشلي ودمشق، والاعتداء على السفارة في بروكسيل، والاعتداء على شاحنة مدنية في بغداد، كل ذلك ترافق مع تحريك قانون محاسبة سوريا!! قرآن كريم(/1)
الإصلاح وفلسفة الهجرة والاستيطان!
إبراهيم غرايبة 27/1/1425
18/03/2004
الهجرة استثناء والأصل أن يعيش الإنسان في وطنه، وبين أهله، وتجمع الناس حول المكان في عقد اجتماعي هو أول وأهم خطوات التحضر، فالمدن هي مركز العمل العام والاجتماعي والحضاري والإبداع، ويقتضي ذلك بالضرورة أن يكون الإنسان منتميًا إلى مدينة أو تجمع حضري، فالرعاة والصيادون لا يمكن أن يؤسسوا أعمالاً ومشاريع وبرامج اجتماعية وثقافية.
والفكرة الجامعة للناس حول المكان هي أساس الدول والحضارات والعمل العام، وكانت إقامة مجتمع إسلامي أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب "المدينة" في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويعمل ويطبق أساسا في مدينة، ولا يمكن أن تكون الرسالة إلا في المدينة، فلا تنجح ولا يصح أن تكون ابتداءً في القرى الصغيرة والمراعي والتجمعات المحدودة، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعًا مدينيًا.
والناظر في كثير من آيات القرآن الكريم توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجدها تؤسس لسلوك مدني متحضر يستوعب المكان الذي يجمع الناس.
انظر على سبيل المثال في الاستئذان عند دخول البيوت، والنهي عن رفع الصوت، والتجمل والتطيب والنظافة، والاستماع، وإشهار الزواج والشهادة عليه، وكتابة الدين، والانصراف بعد الطعام، والذوق العام، وغير ذلك كثير مما يصعب استيعابه في هذا المقام، ومما يستحق أن تفرد له دراسات عدة، فكلها تنشئ عادات وتقاليد وثقافة مكانية مدينة ومجتمعية، وضدها مما يكون عليه الناس الأجلاف البعيدون عن المدن والتجمعات السكانية، ومما عرفت العرب واعتبرته معيار (الأرستقراطية) إن صحت التسمية هي الكرم والشجاعة أو المروءة، وهي أخلاق قائمة على التجمع وحماية المكان والناس وخدمتهم والتضامن معهم، وهي في جوهرها فلسفة المكان والعلاقة به.
والإصلاح يقوم على الطبقة الوسطى في المجتمع، من المهنيين والأساتذة والتجار والأطباء والمهندسين، والطبقة الوسطى تنشأ وتعمل وتزدهر في المدن والتجمعات الحضرية، وهي التي تمنح المكان خصوصيته الثقافية والاجتماعية والعمرانية.
والمواطنة والجنسية عقد والتزام بين طرفين. الدولة والمواطن؛ وتقتضي الانتماء والمشاركة وأداء الواجبات. والمواطنة ليست عرقا أو إثنية، ولكنها تقوم على المكان، فمواطنو دولة هم الذين يتجمعون حول فكرة جامعة للدولة تقوم على أساس المواطنة والالتزام نحوها والتمتع بالحقوق والفرص التي تتيحها، فالانتماء يقوم أساسًا على المكان، والمواطنة والجنسية هي علاقة اجتماعية تنشأ مع المكان، فالسعوديون أو العراقيون أو الفلسطينيون أو الأردنيون أو اليمنيون ليسوا عرقًا أو جنسًا أو قبيلة من الناس، ولكنهم الناس الذين استوطنوا المكان وتعاقدوا على الانتماء إليه بغض النظر عن أصلهم وجنسهم، فالفلسطينيون على سبيل المثال تسمية أطلقت على الجماعات المهاجرة من جزر البحر المتوسط واستوطنت الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، ثم أطلقت التسمية على جميع الناس والسكان، الكنعانيين والآراميين والفينيقيين، والعرب، وكانت فلسطين تعني السواحل الجنوبية ومركزها عسقلان، ولكن التسمية امتدت مكانا لتشمل ما يعرف اليوم بفلسطين عام 1917، وكانت عكا قبل ذلك مركز ولاية لبنان، وكانت طبريا قصبة الأردن، ولكن تجمع الناس وتشاركهم في مصير وقضايا ومصالح وعلى مدى الزمن غيرت التسميات والأماكن.
وكانت وثيقة المدينة التي أسست للمجتمع والدولة تشمل جميع أهل المدينة، المسلمين والمشركين ممن لم يسلموا واليهود، وحددت لهم واجبات وحقوقًا بحكم كونهم جزءًا من المدينة، وأما المسلمون الذين لم يهاجروا إلى المدينة فهم ليسوا مشمولين بهذا العقد ولا يترتب عليهم التزامات ولا يتمتعون بحقوق أهل المدينة، (والذين آمنوا ولم يهاجروا فمالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) فهم ليسوا جزءًا من دولة المسلمين تشملهم ولايتها، ونصرتهم مشروطة أيضًا بعدم تعارضها مع مواثيق والتزامات دولة المسلمين (دولة المسلمين وليست الإسلامية)، ولم يكن المسلمون من غير أهل المدينة أو الملتزمين بولايتها عليهم مشمولين بصلح الحديبية، ولذلك وجد الصحابي أبو بصير نفسه في حل من الالتزام بعدم قتال قريش ومهاجمة قوافلها.
ومن يهاجر إلى بلد ويتوطنه فإنه ملتزم بالأساس نحو هذا البلد بالانتماء والولاء بقدر ما يتمتع بالحقوق والفرص التي يمنحها، وقد يظن أنه يستطيع أن يخلَّ ببعض هذه الالتزامات لكنه يقتلع نفسه، ويحرم نفسه وأهله حق الانتماء والمشاركة، وبعض الالتزامات مجبر على أدائها بقوة القانون.(/1)
وربما تكون غشيت الناس بيئة محيطة بفعل فكر منتسب إلى الإسلام صرفتهم عن اعتبار المكان والمواطنة في العمل والانتماء، لكنهم كانوا يمارسون الكثير من ذلك، ويتمتعون بالمواطنة ويشاركون المجتمع والناس كثيرًا من الهموم ويخوضون معهم تنافس الأفكار والمصالح، ويتدافعون على نحو ما، ربما لم يكن على بصيرة، ولكن فيه كثير من مقتضيات التمدن وممارساتها دون أن يدركوا أو لعلهم لا يريدون أن يعترفوا، ولكن المغترب والمهاجر سيدرك ذلك بالتأكيد، ويتذكر كثيرًا من الإنجازات العفوية التي كان يراها أمرًا عاديًا أو غير ذي بال وأهمية، فيفتقدها في الغربة والهجرة ويراها ذات شأن كبير. مطالعة الصحف مثلاً ومشاركة الناس في قضايا الضرائب والأسعار والقبول في الجامعات والتوظيف، والتشكيلات والبيانات الوزارية، والانتخابات البلدية والنقابية والنيابية وإن لم يشارك فيها، وطوابير المواصلات وزحام الأسواق، والحديث مع العابرين فضلاً عن الأصدقاء والزملاء والأقارب في المسائل العامة والصغيرة، عن التلوث، والطقس، والمباريات الرياضية، ومواقف الحكومة وبرامجها، وأزمة السكن والغلاء، والبطالة والمحسوبية، وحضور الندوات والمحاضرات ومتابعة القضايا والمستجدات صغيرها وكبيرها، وسيرى المرء في الغربة أنه ليس معنيا في شيء من ذلك كله، ولا يستطيع أن يشارك إن أراد.
والدعوة والرسالة تكون في القوم والأهل، (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فالأنبياء ثم الدعاة أقدر على العمل والنجاح في قومهم، ويملكون أسباب المنعة تلقائيا (ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
وقد ابتليت جميع مجتمعات المسلمين بالهجرة إلى أوطان وبلاد بعيدة، يختلف أهلها أحيانا في الدين واللغة والعادات والثقافة، وكل شيء تقريبًا، واستقبلت بعض دول المسلمين موجات من الهجرة من كل أنحاء العالم، من المسلمين وغيرهم، ونشأ عن ذلك كله أفكار وأسئلة ومشكلات وتحديات، لم تكن قضية الحجاب في فرنسا إلا جزءًا قليلاً منها، ولم يكن العمل الإسلامي يعطي هذه المسألة ما تستحقه من نظر وفقه يكفي لاستيعاب الظاهرة استيعابا كافيًا، وإن أُنشئت مساجد ومدارس ومراكز إسلامية، ولكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، حتى فاجأتنا أحداث الحادي عشر من أيلول بكثير من المشكلات والتحديات والأسئلة التي لم نكن مستعدين لها.
الهجرة ابتداء لغير ضرورة أو حاجة ومصلحة يصعب تحقيقها بغير الهجرة يجب تجنبها؛ لأنها ترتب التزامات يجب الالتفات إليها، أولها أنها عقد واجب الالتزام به مع الدولة والمكان المهاجر إليه، يقضي بالانتماء والمشاركة كما التمتع بالحقوق والحماية، أما وقد هاجر الإنسان. فلا يسعه أن يكون جزءًا فيزيائيًّا وقانونيًّا من المجتمع ويسعى لتحصيل حقوقه والمنافع المترتبة على الهجرة دون أن يؤدي الواجبات والالتزامات المقابلة، فذلك يناقض العقد ومنطق الهجرة والحياة أيضًا.
وقد يستطيع المهاجر أن ينطوي على نفسه وأهل ملته وقومه، أو يمتنع عن واجبات المشاركة في مهجره، ولكنه يخرق المبدأ الذي هاجر وفقه والتزم به مع الدولة التي هاجر إليها، ويضر أيضًا بنفسه وعائلته، فالانتماء والمشاركة حاجة قصوى للإنسان، لأنه إن لم يشعر بانتمائه للمجتمع الذي يعيش فيه ولم يشارك الناس حياتهم وقضاياهم وشؤونهم؛ فإنه يغرق نفسه في العزلة، ويتحول مع أسرته إلى كائن معزول مقتلع يعاني من التشوه والكراهية، كراهيته للآخرين وكراهية الآخرين له، وعلى المدى المتوسط من الزمن فإنه يتحول إلى هامشي يحرم أولاده وهو محروم ابتداء من فرص النمو الصحيح والتفوق والتنافس على الفرص والتكوين الصحيح للشخصية والقدرة على القيادة والعمل مع الآخرين والمشاركة معهم في الشؤون الضرورية والمهمة، وقد يتحول إلى كيان خطير على نفسه وعلى الآخرين.
ثمة تناقض كبير بين الهجرة والانغلاق والعزلة، فالهجرة انفتاح على الأمكنة والناس والتجارب، وبالضرورة فإن ذلك يعني المشاركة والانتماء، ومن عجب أن يكون المرء يرفض المشاركة ويسعى للهجرة، فهو بذلك يناقض نفسه.(/2)
لقد أسست الهجرة والاختلاط بالناس لأفكار ومقولات كانت تبدو بعيدة التطبيق، مثل العمل مع الناس. جميع الناس ومساعدتهم، فذلك واجب وعمل جميل لم يكن من قبل أمرًا عمليًا أو قريبًا من التطبيق، فالعون والمشاركة والحوار ليس خاصًّا بالمسلمين ولا محصورًا بينهم، قال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)؛ فقتل النفس أي نفس مسلمة أو غير مسلمة، وإحياء النفس أي نفس عمل عظيم في أثره وقيمته ضررًا أو نفعًا، وقال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان)؛ فالدعوة إلى القتال لأجل المستضعفين مهما كان دينهم أو انتماؤهم، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، وهكذا فعمل الخير والعمل العام لا يخص المسلمين وحدهم أبدا، والعدل أيضًا لا يجوز أن يكون محصورًا على المسلم؛ بل إنه أمر فظيع أن يحاول المسلم الانحياز في القضاء لغير المسلم، كما تخبرنا سورة النساء عن انحياز المسلمين مع مسلم في القضاء ضد غير مسلم (لعله يهودي)، (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ... إلى قوله: (ومن يعمل إثما ثم يرمي به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا)
ثمة اتجاه غير واعٍ تحكمه العصبية والانحياز الموجود لدى الناس جميعًا، ولكن يجب ملاحظة أنه كذلك وليس من الدين، ومحاولة تغطية التقاليد البدائية مما كان يحتاجه الناس عندما كانوا يعيشون جماعات قليلة قريبة لبعضها في النسب في الغابات والكهوف والمنعزلات بالدين هي القضية التي يجب مجادلتها ودحضها.
والعمل مع الناس ومشاركتهم هو دعوة لهم وتشجيع على تخفيف العداوة وكسب التأييد لأفكارنا وقضايانا، ونحتاج لذلك أمس الحاجة، وبخاصة في هذه الظروف التي أنشأت بيئةً معادية لنا ومضرة بفكرتنا وقضايانا. ففي المشاركة عون للفكرة ونصرة، وتخفيف من العداوة والأفكار الخاطئة.
ويجب على المسلمين بعامة والمهاجرين منهم بخاصة أن يدركوا أنهم مستضعفون وغرباء، فنحتاج إلى كسب صداقة الناس وحمايتهم، ولا يناسبنا التصرف كما لو كنا نهيمن على الناس أو أقوى منهم أو لا يقدرون على إيذائنا والإضرار بنا.
إن أسهل عمل هو اكتساب العداوة، ولكن العبرة بكسب الأصدقاء والمؤيدين(/3)
الإصلاحيون والخطاب الدعوي المنقوص
محمد جلال القصاص
</TD
في ثلث الليل الثَّاني هبّوا من مضاجعهم يتسللون على أطراف أصابعهم كالقِطى ـ كما يصف أحدهم ـ وهناك في آخر ( مِنى) عند العقبة وفي إحدى الشعب تجمع وفد يثرب ليبايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيعة العقبة الثانية، وينطق الأخيار: خذ لربك ودينك ما شئت يا رسول الله !
فيجيب الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وأن تنصروني إذا قدمت عليكم فتمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأنفسكم وأولادكم.
قالوا: وما لنا يا رسول الله إن فعلنا ؟
قال: ولكم الجنة .
قد كان - صلى الله عليه وسلم- موقنا أن الله سيتم هذا الأمر حتى لا يخاف الراكب إلا الله والذئب على غنمه، وأن الفُرس لن تأخذ إلا نطحة أو نطحتان وبعدها يرث المسلمون ديارهم وأموالهم، وأن عقر دار الإسلام بلاد الشام، ومع ذلك لم يشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن تنعقد البيعة على أمر دنيوي، بل أراد للنفوس أن تنصرف إلى ما عند الله .
وفي مكة حيث الضعف والانكسار وقلة العدد وانعدام العتاد، وقد تجمعت العرب على كلمة الكفر، وصموا عن الحق آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا على الضلال وإضلال الناس إصراراً، وأنفقوا الأموال كي لا تكون كلمة الله هي العليا كانت الدعوة لا تتكلم عن شيء أكثر مما تتكلم عن اليوم الأخر ابتداء من القبر وما فيه ويوم الحساب وما فيه والجنة والنار ، حتى أصبحت سمة بارزة للقرآن المكي .
بلغة العقلاء المفكرين ... الإصلاحيين : كان الحال يستدعي مرونة في الطرح بإظهار شيء مما تخفيه تلال الأيام ويستيقن منه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من نصر وفتح وغنيمة ، حتى يكثر العدد وتكون قوة تواجه هذه القوى ، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث ، وأصرت الدعوة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيباً وترهيباً.
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة .
ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هو أيضاً تربى على هذا المعني، فقد كان يتنزل عليه " وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [ يونس: 46] " وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ " [يونس: 40]
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم " تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا " فهذا وصف للظاهر" ركعاً سجداً" ووصف للباطن "يبتغون فضلاً من الله ورضوانا" ، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم، كما يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله ــ .
هذا حال من ابتدؤوا، وإنا نجد في كتاب ربنا أننا ملزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم، " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ". وما لنا أن لا نقتفي آثارهم ونسير على دربهم وهم أنجح جيل في التاريخ ولم يأت مثله في حياة الناس ؟
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم " تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا "
أقول: ومن يتدبر آيات الأحكام في كتاب الله يجد أن هناك إصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ ، المباشرة منها أو غير المباشر ( دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة .. الخ ) ، فمثلا يقول الله –تعالى-: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ... "
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع ؟
ولا أريد أن أعكر صفو النص بكلماتي .
ومثله " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور "
فهنا أمر بالسعي على الرزق، وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله -عز وجل- فيسأل المرء عن كسبه من أين وإلى أين ؟(/1)
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله -عز وجل- " ... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " " ... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " " .... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب .
وإذا كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة ، وهو ما تربى عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- فلم يغيب الطرح الأخروي عن المشاريع الفكرية التي تنتجها أقلام (الإصلاحيين) وخاصة حين يتكلمون إلى الكافرين أو العلمانيين ؟...لم هذا الخطاب الدعوي المنقوص ؟
لم لا نخاطبهم :آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم ؟
لم لا نناديهم: أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصفها كذا وكذا ؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها ...؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومطلب المخبر .
أسذاجة ؟
لا وربي .فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس ودونكم السيرة .(/2)
الإطاحة بعلم الكلام
عزيز محمد أبوخلف
باحث
amakhalaf@gawab.com
يبحث علم الكلام في الأدلة اليقينية المتعلقة بالعقائد الإسلامية ، وهذه الأدلة مبناها العقل المستند إلى المنطق أساساً ، وقد يأخذون بما تدل عليه النصوص القطعية فقط وفقاً لمعاييرهم . ويُعرف هذا العلم أيضاً بعلم التوحيد وعلم العقائد وعلم أصول الدين ، لأنه يركز على الدلائل القطعية ولا يأخذ بغيرها ، فهو يرد أحاديث الآحاد مثلاً لأنها ظنية الثبوت وفقاً لهذا العلم . وقد سُمي بعلم الكلام لأن المشتغلين به صنعتهم الكلام والجدل ، أو لأن اعظم مسائله التي جرى عليها الخلاف كانت صفة الكلام لله تعالى .
أدى علم الكلام إلى انقسام المسلمين عقائدياً إلى فرق شتى ، منها الجهمية والمعتزلة والماتريدية والأشاعرة والاباضية والامامية والزيدية وغيرهم كثير . ووقف أئمة السلف وعلماؤهم في وجه هذه الفرق وشنّعوا عليهم وفنّدوا أقوالهم بالعقل والنقل ، وطالبوهم بالكف عن ذلك والرجوع إلى النبع الصافي نصوص القرآن والسنة . والمتتبع لهذه الفرق يرى أن الاختلاف بينها هو في فروع العقائد وليس في أساسها المتفق عليه بين الجميع . فتراهم اختلفوا في صفات الله وأين يوجد ، وفي القضاء والقدر ومعنى ذلك ، وهل الإنسان مسير أم مخير ، وفي معنى الإيمان وهل الأعمال منه ، واختلفوا في طريق الإيمان هل هو واجب بالعقل أم لا ، إلى غير ذلك من الاختلافات الفرعية . وقد اندثرت كثير من هذه الفرق وبقي بعضها إلى عصرنا الحاضر .
طريقة علم الكلام
يستند علم الكلام في أدلته وبراهينه على علم المنطق بشكل أساسي ، فهو يقرر مسلمات معينة ثم ينطلق منها في إقامة البراهين من خلال مقدمات معينة . ولهذا العلم مصطلحاته الخاصة التي تحجَّر عليها اتباعه إما بسبب عدم وضوحها ، أو لرغبتهم في عدم مخالفة أسلافهم والاحتفاظ باستقلالية هذا العلم . فالجوهر الفرد مثلاً هو الجزء الذي لا يتجزأ وتتكون منه الجواهر أي الأجسام أو المواد بلغة عصرنا . ولا يستطيع المعاصرون أن يقرروا هل هو الذرة مثلاً أو الجزيء أو الإلكترون أو غير ذلك . فهم يقولون بأنه اصغر جزء يمكن تخيله وهو متحيز لكن ليس له مكان . وربما كان هذا ينطبق على الإلكترون الذي يتحرك بشكل موجي وليس له مكان محدد بالضبط ، لا ندري ! .
الضربات التي تلقاها علم الكلام
لاقى علم الكلام مواجهة عنيفة من أئمة السلف وعلمائهم ، أدت أحياناً إلى تقوية العلم وزيادة تمسك اتباعه به . لكنه تلقى ضربتين موجعتين جداً كان لهما الأثر البالغ في صرف الناس عنه أو ضعف مواقفه . وتأتي أهمية هاتين الضربتين من كونها أثَّرتا في اصل هذا العلم والأساس الذي يقوم عليه وهو المنطق والعقل بمفهوم هذا العلم .
الضربة الأولى كانت على يد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عمد إلى نقض المنطق ونسفه من أساسه ، وبيان انه لا فائدة ترجى منه ، وانه لم يأخذ به علماء الأمة المعتبرين في أصول الفقه . كما انه رد عليهم على نفس الصعيد في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل والذي جمع فيه آراء الأولين والآخرين ، ولم يصدر عليه رد معتبر إلى الآن . إلا أن ابن تيمية رحمه الله قد بدا وكأنه يسلم لهم اعتبار أفكارهم صادرة من العقل وذلك لأنه ناقشهم بنفس الأسلوب ، هذا على الرغم من أنه يرى أن العقل هو الغريزة أو العلوم المستفادة للتمييز بين الخير والشر . وعلى الرغم من ذلك فقد شنع عليهم اعتبار القواطع العقلية في زعمهم هي الأساس ، فقد نقض ذلك ونقده نقداً شديداً معتبراً أن القول بان السمع ليس قطعياً دونه خرط القتاد .
أما الضربة الثانية فكانت على يد الشيخ تقي الدين النبهاني من المعاصرين ، والذي اعتبر أفكار علم الكلام بأنها غير عقلية مطلقاً لان العقل لا يمكن أن يعمل في المغيبات ، هذا بالإضافة إلى موافقته ابن تيمية اعتبار المنطق أسلوباً عقيماً غير منتج أبداً ويجب تركه . وهذا الضربة كسابقتها هي في صميم علم الكلام لأنها نسفت الأصل العقلي الذي يقيمون عليه أفكارهم ، وكادت أن تقضي عليه لولا أن فكر النبهاني رحمه الله لم ينتشر بشكل واسع بسبب اشتغاله بالسياسة ، وعدم قيام اتباعه بنشر فكره وشرحه ، هذا بالإضافة إلى التزامه بأصول كلامية لقيت معارضة شديدة . منها وجوب الإيمان عن طريق العقل فقط ، واقتصار الإيمان على التصديق الجازم الذي يقتضي العمل ، وتحريم الأخذ بأخبار الآحاد في العقائد ، ورأيه الغريب في القضاء والقدر الذي اعتبره ركناً من أركان الإيمان على الرغم من عدم ورود دليل عليه من الكتاب والسنة سوى أن معناه ثابت . فقد اعتبر أن القضاء والقدر هو أفعال الإنسان التي تَحدُث جبراً عنه ، والخاصيات التي يُحدثها هو في الأشياء ، وهذه كلها ليست من الإنسان ، وانه مخير في أفعاله الاختيارية الأخرى . هذا بالإضافة إلى عدم رواج تعريف العقل الذي قال به ولم يجد قبولاً واسعاً عند الناس ، ربما لعدم وضوحه أو انطباقه .(/1)
هل نحن في حاجة إلى علم الكلام؟
تكشفت في عصرنا الحاضر الكثير من الحقائق العلمية ، وظهرت معارف جديدة متنوعة ، مما جعل الحاجة ماسة إلى مواجهة هذا الكم الهائل من المعلومات والنظريات بطريقة تخدم الدين بشكل فعال ومنتج . ولا بد من الاعتراف بان هذا لا سبيل إليه إلا بالتفكير الصحيح المنتج ، ولا يكون أبداً عن طريق المنطق ولا أساليب علم الكلام ، لأنه لا قِبَل لها بهذا الكم المتزايد من المعلومات . ومن اجل خدمة الدين والمساعدة على نشره بشكل واعي فلا بد لنا إما أن نلغي علم الكلام ، أو أن نجري عليه تعديلات جوهرية في الشكل والمضمون . إذ صار من المناسب أن يُطلق عليه علم العقائد لأنه في حاجة إلى مواجهة نظريات فلسفية وعملية جديدة ، وصار في حاجة إلى استخدام طرق وأساليب جديدة تناسب العصر وتخاطبه بلغته التي يفهمها . ولهذا فإني أرى ما يلي :
• إلغاء المنطق أو جعله جزءاً من علم العقائد لمن تهواه نفسه ويميل إليه تفكيره . فالمنطق نظام مغلق غير منتج ، والإبقاء عليه يعني الإبقاء على علم العقائد نظاماً مغلقاً إلى ابد الآبدين . كما أن المنطق عالة على الفكر الصحيح ، وقد رفضه أحفاد اليونان الغربيين أنفسهم ؛ فمنهم من اعتبره وُلد ميتاً ، ومنهم من اعتبره ولد كاملاً ولم يتقدم خطوة إلى الإمام ، ومنهم من اعتبره من موضوعات البلاغة ، بل قد عده بعضهم صنماً يحرف عن التفكير الصحيح .
• إعادة النظر في مفهوم العقل ، لا سيما على ضوء ما استجد من حقائق علمية عن التفكير وتركيبة الدماغ . وقد بيَّنتُ في اكثر من مقالة أن الفكر الإسلامي مصدر رحب لذلك ، وان رؤيته لمعنى العقل رؤية ليس لها مثيل ، وهذا ما جعلني اقرر مثلاً بان المقصود بنقصان عقل المرأة ليس هو ما درج عليه الناس على مر العصور من انه نقص في قدراتها العقلية ، بل الموضوع أوسع من ذلك واعمق . وقد يكون الانطلاق من تعريف النبهاني مفيداً جداً لان العقل لا يمكنه التفكير في المغيبات ، وإذا فعل فلا سبيل إليه إلا من خلال المحسوس . وأفكار علم الكلام تخالف ذلك بشكل صريح ، من هنا لا نستبعد أن تكون أفكاره بعيدة عن الواقع .
• وهذا يقودنا إلى ضرورة التركيز على القرآن الكريم والسنة المطهرة بما فيهما من مظاهر الإعجاز الفكري والعلمي . غير أن الإعجاز الفكري هو اقرب إلى حضارة الأمة وفكرها من الإعجاز العلمي الذي يُعتبر عالة على ما ينتجه الغرب فقط ، وحتى لو أجرى علماء المسلمين أبحاثاً فلن تمر دون موافقة الغرب لها . أما الإعجاز الفكري فينطلق من فهمنا للقرآن والسنة والفكر الإسلامي وبما استجد من حقائق بشكل جزئي نستأنس به على ما عندنا .
• ضرورة جعل نصوص القرآن والسنة هي المعتمد والمرجع لا ما نتوصل إليه بالعقل المستند إلى المنطق ، لان هذا الأخير يحتاج إلى مرجعية تصححه ، ومَنْ غير القرآن والسنة يكون مرجعاً يُفتخر به ! .
• عدم تقييد الناس بالإيمان عن طريق العقل ، فواقع العقائد الإسلامية انه يمكن تقبلها وعشقها بمجرد معرفتها والتعايش معها . فليعتنقها من شاء بالطريقة التي يشاء ، سواء كانت بالعقل أو بغيره .
• أن يجتمع أصحاب المذاهب العقائدية الإسلامية على كلمة سواء بينهم فهم أولى بها ، وان يتجادلوا بالتي هي احسن ، وان يحتكموا إلى الكتاب والسنة من اجل كشف الحقائق بموضوعية . وليس لهم إلا التفكير المتوازي المتعاون فهو السبيل إلى كشف الحقائق التي تخدم الدين والمسلمين وتجمع الكلمة .
• الاعتماد على الواقع في التفكير بدلاً من الخوض في فرضيات وتخيلات لا أساس لها . فالذين يقولون مثلاً أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ، يمكن أن يقال لهم وهو في العالم وخارجه معاً ، أو مرة هنا ومرة هناك ، أو في أي منها بشكل لا نتصوره . على أن هذا القول النظري ترد عليه إشكاليات منها أين الله قبل خلق العالم ، هل كان أيضا لا داخل العالم ولا خارجه؟ وهذا القول هو باعتبار العالم فقط . كذلك من يقول أن الله لا تحده حدود ، فبعد خلقه العالم ماذا حصل لهذا الواقع؟ . كذلك القول بأنه قديم هو باعتبار العالم ، فهل الحكم مستمر قبل ذلك ، والنسبة لا تكون إلا إليه؟ والمقصود أن التفكير في المغيبات ترد عليه إشكاليات كثيرة تبدو متناقضة يهدم بعضها بعضاً لأنها تفتقر إلى المرجعية . لهذا ليس من طريق سليم إلا الالتزام بنصوص الكتاب والسنة والعض عليها بالنواجذ .
• التوقف عن السب والشتم والتجهيل فهذا من أمارات نقصان العقل ! .
مواضيع ذات صلة
التفكير ومهارات التفكير
http://www.islamway.com/bindex.php?section=articles&article_id=269
نقص العقل أم نقص الثقافة؟
http://www.saaid.net/female/m155.htm
الإعجاز الفكري في القرآن والسنة
http://www.lahaonline.com/Studies/DesertedSu/a1-11-07-2003.doc_cvt.htm#_edn1(/2)
الإعجاز البياني في قوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه )
صالح أحمد البوريني
saleh_alborini@yahoo.com
عضو رابطة الأدب الإسلامي
يظل القرآن الكريم كتاب الله المهيمن على الكتاب كله ، وحجة الخالق على خلقه ، وآية صدق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعجزته الأبدية الخالدة على مر العصور إلى يوم النشور .
ويظل نظْم القرآن اللغوي وأسلوبه البياني منبع الإعجاز القرآني ؛ الذي تفيض منه كل أنواع الإعجاز الأخرى ؛ التي تتسع بها دائرة التحدي الإلهي للثقلين أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أو أن يأتوا بسورة من مثله أو حتى بآية .
وما زال النظر في القرآن الكريم وتدبر آياته يفتح مغاليق الفهم ، وتشرق به أنوار المعرفة ، وتظهر به أسرار وخفايا هذا الكون العجيب ؛ لتعزز اليقين القائم ، وتؤكد الإيمان الراسخ بوحدانية الخالق عز وجل وألوهيته وجلاله وعظمته ، وصدق نبوة أنبيائه ورسله ، وإعجاز قرآنه وإشراق أنوار بيانه .
أجل ؛ إن النظر في نظم آي القرآن ، وتأمل أساليبه وتراكيبه يزيل ـ مع ظهور آيات الأكوان وتبَدّي سنن الله تعالى في حياة الإنسان ـ ما عسى أن يكون قد غشي بعض الأبصار من الإبهام ؛ فحارت في إدراك معانيه الأفهام .
ومن ذلك ما سنطرق لبيانه باب آية من كتاب الله عز وجل ، لندخل إلى رحابها ، ونطلع على سر من أسرار إعجازها البياني الذي ظل خافيا دهورا طويلة ، حتى انكشف لأهل هذا الزمان الذي شهد اختصار المسافات ، وتوفير الجهود والأوقات ، بما تَيَسّر لأهله من قدرة على الطيران ، وتسخير المادة لركوب الهواء واختراق الأجواء .
تلكم هي الآية الثامنة والثلاثون من سورة الأنعام ، حيث يقول تعالى : (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) .
يبين الحق سبحانه أن دواب الأرض وطيورها التي تطير بأجنحتها ما هي إلا أصناف وأجناس وأمم كأمم الناس ، يسري عليها ما يسري على البشر من سنن الله تعالى في الوجود والتكاثر والرزق وغير ذلك ، وأن كتاب الله تعالى محكم لا تفريط فيه ، وأن هذه الأمم جميعا في النهاية محشورة إلى الله تعالى . وهذا هو المعنى الذي نقله العلماء عن أكثر أهل التفسير .
واسمح لي عزيزي القارئ أن أقف بك على جملة قرآنية من الآية هي قوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) لننظر في هذه الإضافة الاحترازية، وهي قوله تعالى ( يطير بجناحيه ) . لقد مر عن هذه الجملة القرآنية كثير من المفسرين دون أن يتعرضوا لتفسيرها ولا بيان سبب ورودها ، واجتهد بعضهم في بيان سببها فجاء بأقوال لا تصح . ومن هؤلاء إمام المفسرين ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ حيث يقول : " فإن قال قائل: فما وجه قوله ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه ؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة ؟ " . ثم يبين أن ذكرها إنما جاء من قبيل " إرادة المبالغة جريا على قول العرب في خطابهم : كلّمْته بفمي و ضربته بيدي " . وأما القرطبي في تفسيره فبيّن أنها جاءت : " للتأكيد وإزالة الإبهام ، فإنّ العرب تستعمل الطيران لغير الطائر : تقول للرجل : طِرْ في حاجتي " . ولا شك أن هذا التأويل بعيد .
ومع ذلك فإن وقوف الطبري عندها ، وغيره ممن حاولوا النظر فيها ؛ لدليل على فطنتهم وسعة فهمهم وعمق نظرهم ، وإن لم يدركوا سرها فإن ذلك لا ينقص بتاتا من قدرهم ولا يحط من مكانتهم ولا يهوّن من شأن علمهم ، لأن علمها في الحقيقة يتجاوز عصرهم ويمتد وراء آفاق مدركاتهم .
نعرف عزيزي القارئ أن الطائر يتميز عن سائر الدواب بجناحيه الذين يمكنانه الطيران ، فإذا ذكر الطائر تبادرت إلى الذهن صورته بجناحين اثنين مطويين أو منشورين ، يخطر على الأرض أو يحلق في الفضاء . لذلك فإنّ ذكْر الطائر يغني عن ذكر جناحيه . فإذا ذكر الطائر وتلاه ذكر جناحيه فلا بد أن يكون وراء ذكرهما قصد مقصود وهدف منشود . فما هو القصد من ذكر الجناحين بعد ذكر الطائر في الآية السابقة ؟ لماذا قال تعالى ( ولا طائر) ولم يكتف بذكر الطائر بل جاء بعده بذكر صفته اللازمة قائلا ( يطير بجناحيه ) ؟(/1)
الجواب ـ والله أعلم ـ : لأن هناك ما يطير في الفضاء ويحلق في الأجواء ولكنه ليس أمما أمثالنا ، وإنما هو شيء مختلف وصنع مختلف ، لا يدركه الإنسان العربي القديم في عصره ، ولا يعرف عنه شيئا . أما إنسان عصر العلم والتكنولوجيا وغزو الفضاء ؛ فإنه يعرفه تمام المعرفة ، لأنه رآه بعينه وسمعه بأذنه ، وشاهد فعله وأثره ، وأدرك خيره وشره . ألا ترى عزيز القارئ كيف تحول الفضاء حول الأرض في هذا العصر إلى شبكة من الخطوط الملاحية التي تطير فيها الطائرات وتعبرها النفاثات محلقة في الفضاء ، مختصرة مسافات الأرض ، مختزلة أبعاد الزمان . ولكنها كلها تطير مدفوعة بقوة احتراق الوقود . فإذا لم تزود خزاناتها بالوقود النفاث ظلت جاثمة في أماكنها عاجزة عن الطيران . وإذا نفد وقودها وهي في الجو هوت ركاما وأمست حطاما . إن هذه الأجسام الطائرة في جو السماء لا تطير طيرانا ذاتيا بأجنحتها بل بقوة احتراق الوقود ، فهل هي أمم أمثالنا ؟
تتضح حكمة الله تعالى هنا ، ويبرز وجه الإعجاز البياني القرآني بذكر هذه العبارة التي استثنت من طيور السماء كل ما أخرجته مصانع الطائرات العسكرية والمدنية من وسائط النقل الجوي في هذا العصر . ولو لم تأت هذه العبارة الاحترازية الإعجازية ( يطير بجناحيه ) لكان لقائل أن يقول : إن القرآن لا يفرق بين الكائن الحي والجماد ولا بين الطائر الحقيقي والطائر الصناعي ، إذ كيف تكون الطائرات النفاثة والمروحية وغيرها أمما أمثال البشر ؟؟ إن هذا لمحال .
لقد كان كافيا للعربي زمن نزول القرآن ليدرك المعنى أن تأتي الآية من غير هذه العبارة التي تساءل عن سر ذكرها المفسرون ، ولكن القرآن لم ينزل للعرب فحسب ، ولا لذلك الزمان وحده ، وإنما نزل للعالمين وإلى يوم الدين . وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) .(/2)
الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد:
فإن من مقاصد هذا الدين الحنيف الحفاظ على الكليات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال, وجاء لكل واحد منها تشريعات وأحكام خاصة به.
فنلاحظ أن الإسلام حافظ على النفس من خلال عدة أمور, منها الحفاظ على الصحة وحماية الإنسان من كل ما يسبب له الضرر والفساد في جسمه.
ولهذا جاءت النصوص القرآنية الكريمة, والأحاديث النبوية الشريفة مبينة ما يحل وما يحرم من الأطعمة والأشربة, ووضعت لذلك قاعدة عظيمة, وهي إباحة كل الطيبات وتحريم كل الخبائث, وصارت هذه القاعدة عامة في كل ما يؤكل أو يشرب, يقول الله تبارك وتعالى: ?وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِث?[الأعراف :157].
وقال تعالى آمراً جميع البشر بأكل الطيبات على سبيل الإباحة: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?[البقرة :168].
وبهذه الآيات المعجزات وضع الله سبحانه للبشرية جمعاء قانوناً ثابتاً وميزاناً دقيقاً يمكنهم من خلاله قياس كل المستجدات بعد زمن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام وإلى قيام الساعة؛ ليعرفوا طيبها من خبيثها, ونافعها من ضارها, فيُقبلوا على الطيبات ويبتعدوا عن الخبائث المحرمات، فأكّد بكل وضوحٍ وجلاء أنّ شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
وسنتناول في هذا البحث بعضاً من الأسباب العديدة التي من أجلها حرم الله تعالى أكل لحم الخنزير، مؤكدين في هذا الصدد أنّ الدراسات المنشورة-على كثرتها-لا تظهر إلاّ نزراً يسيراً من مضار أكل لحم الخنزير، والتعايش مع هذا الحيوان الموغل في القذارة, ونحن على يقين تام بأنّ السنوات القادمة ستكشف للناس مزيداً من جوانب الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير.
لكن مهما بلغ التقدم العلمي, فسيبقى علم البشر قاصراً, وإدراكهم محدوداً, والله هو العليم الحكيم.
تحريم لحم الخنزير في القرآن الكريم:
جاء تحريم لحم الخنزير في أربع مواضع في القرآن العظيم :
1- قال تعالى: ?إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?.[البقرة:173].
2- قال تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?[المائدة:3].
3- قال تعالى: ?قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم?[الأنعام :145].
4- قال تعالى: ? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم?[النحل:115].
ومما سبق نلاحظ أن لحم الخنزير ينفرد من بين جميع اللحوم المذكورة في آيات التحريم بأنه حرام لذاته، أي لعلة مستقرة فيه، أو وصف لاصق به، أما اللحوم الأخرى فهي محرمة لعلة عارضة عليها، فالشاة مثلاً إذا ذكيت فلحمها حلال طيب ولا تحرم إلا إذا كانت ميتة أو ذبحت لغير الله . ونحن نؤكد أن المؤمن ملتزم حين يأتيه الأمر أو النهي من الله, ويمكن أن نجتهد في تفهم علة الأمر والنهي، لكن تحريم لحم الخنزير بالذات تحريم معلل ?فإنه رجس? فاجتهادنا محصور إذن في محاولة فهمنالخبث ذلك المحرم ورجاسته حتى نزداد شكراً لله على نعمائه(1).
تحريم لحم الخنزير في الأحاديث الشريفة:
جاءت الأحاديث دالةً على تحريم بيع لحم الخنزير, ومن تلك الأحاديث ما جاء في صحيح مسلم(/1)
عن جابر بن عبدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال: «لا هو حرام», ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»(2). وهذا الحديث فيه التصريح بتحريم بيع الخنزير أو الاستفادة من أي جزء منه , حتى لو كان ذلك بتحويله إلى شيء آخر .
ومما جاء في بيان شناعة هذا الحيوان ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه»(3), والحديث يشبه اللعب بالنردشير(4) بغمس اليد في لحم الخنزير ودمه, ووجه الشبه هو القبح في كلا الأمرين, والمعروف عند أهل البلاغة أن وجه الشبه يكون أقوى في المشبه به, أي أن ملامسة اليد للحم الخنزير ودمه أشد قبحاً, وسنشير إلى الخطورة الكامنة في التعامل مع لحم الخنزير وباقي منتجاته في هذا البحث.
أقوال العلماء في لحم الخنزير :
أجمع العلماء على تحريم لحم الخنزير, ولم يجعلوا التحريم مقصوراً على اللحم بل أفتوا بتحريم كل أجزائه, فالآيات القرآنية نصت على تحريم لحمه على جهة القطع, أما بقية أجزائه فلأنهم عدوا الخنزير من النجاسات والخبائث, وقد نص الله تعالى في كتابه الكريم على تحريم الخبائث, والخنزير من جملة الخبائث, وممن نقل الإجماع على تحريم كل أجزائه الإمام النووي فيقول:"وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه"(5).
وكذلك ابن رشد حيث يقول: "فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده"(6).
ولكن ماذا نعرف عن الخنزير؟:
الخنزير حيوان لاحم عشبي تجتمع فيه الصفات السبعية والبهيمية، فهو آكل لكل شيء، وهو نهم كانس كنس الحقل والزريبة فيأكل القمامات والفضلات والنجاسات بشراهة ونهم، وهو مفترس يأكل الجرذ والفئران وغيرها كما يأكل الجيف حتى جيف أقرانه(7), والخنزير من الحيوانات السريعة النمو إذ تضع الخنزيرة ما بين عشرة إلى عشرين خنوصاً, وينمو الخنزير من أقل من كيلوجرامين عند الولادة إلى أكثر من مائة كيلوجرام خلال مائتي يوم . وسبب هذا النمو السريع زيادة كبيرة في هرمونات النموGrowth Hormone, والهرمونات المنمية للغدد التناسلية Gonadotrophin, وهذا الأمر له علاقة بارتباط لحم الخنزير وشحمه بأنواع السرطان التي تزداد لدى آكلي لحم الخنزير وشحمه, ويوجد الدهن متداخلاً مع خلايا لحم الخنزير بكميات كبيرة خلافاً لبقية أنواع اللحوم مثل البقر والغنم والماعز والدجاج والتي يوجد فيها الدهن بشكل نسيج دهني شبه مستقل(8).
الأمراض التي ينقلها الخنزير للإنسان:
يبلغ عدد الأمراض التي تصيب الخنزير (450) مرضاً, منها (57) مرضاً طفيلياً, تنتقل منه إلى الإنسان, بعضها خطير بل وقاتل, ويختص الخنزير بمفرده بنقل(27) مرضاً وبائياً إلى الإنسان, وتشاركه بعض الحيوانات الأخرى في نقل بقية الأمراض, لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيسي لهذه الأمراض, هذا عدا الأمراض الكثيرة التي يسببها أكل لحمه كتليّف الكبد, وتصلب الشرايين, وضعف الذاكرة, والعقم, والتهاب المفاصل, والسرطانات المختلفة, وغيرها كثير(9).ونحن على يقين بأن عدد الأمراض سيزداد مع مرور الأيام, وأن السنوات القادمة ستكشف أمراضاً جديدة تنتقل من الخنزير إلى الإنسان(10).
وهذه الأوبئة يمكن أن تنتقل من الخنزير إلى الإنسان بطرق مختلفة:
الأول: عن طريق مخالطته أثناء تربيته أو التعامل مع منتجاته (وتعتبر أمراضاً مهنية), وهي لا تقل عن 32 وباءاً تصيب في الأغلب عمال الزرائب والمجازر والبيطريين, ومنها: أنواع من الفطور العميقة, والزحار, والديدان, والزحار الزقي, والحمى اليابانية الدماغية, والتهاب الفم البثري الساري.
الثاني: عن طريق تلوث الطعام والشراب بفضلاته, وهي لا تقل عن 28 مرضاً منها: الزحار, والأسكاريس, والانسمام الوشيقي, والديدان القنفذية والكبدية والمفلطحة وشوكية الرأس,والدودة المسلحة الخنزيرية والشعيرات الحلزونية وغيرها.
الثالث: عن طريق تناول لحمه ومنتجاته, وهي أكثر من 16 مرضاً منها داء المبيضات ـ داء الحويصلات الخنزيرية، الحمى المالطية ـ والدودة الكبدية, وداء وايل, والدودة الشعرية الحلزونية والشريطية والسل وغيرها(11).
ومما سبق يتضح لنا أن الخطورة ليست قاصرة على تناول لحم الخنزير فقط, بل هي تشمل كل أنواع التعامل مع هذا الكائن الخبيث, وقد سبقت الإشارة في الحديث النبوي السابق إلى حظر التعامل مع لحم الخنزير أو دمه , وهذا يؤكد ما ذهب إليه العالم (كرول) من أن الحظر المفروض على المسلمين بعدم ملامسة الخنازير ليس بحاجة إلى تبرير(12).
ومن هذه الأمراض التي تنتقل من الخنزير إلى الإنسان:
أولاً: البريونات (Prions):(/2)
1- (مرض جنون البقر): يسبب هذا المرض الفتاك أجسام بروتينية صغيرة تسمى البريونات, وهذه الأجسام لها قدرة على إحداث أمراض خطيرة للحيوانات وللبشر أيضاً, ومصدر الخطورة يكمن في قدرة البريونات على تغيير شكل البروتينات الطبيعية الموجودة في خلايا مناطق حساسة- كالدماغ مثلاً- وتحويلها إلى بريونات, مسببة تلف الدماغ, فالجنون ثم الموت.
ولقد أكدت التقارير العلمية أنّ الخنازير تصاب بهذا المرض، مما يجعل آكلي لحم الخنزير عرضة للإصابة بهذا المرض (13).
ثانياً: الفيروسات (Viruses):
يصيب الخنزير مجموعة كبيرة من الفيروسات، منها ما تنقله الخنازير إلى الإنسان، فيسبب له أمراضاً فيروسية خطيرة، مثل:
2- فيروس الأنفلونزا: لقد تمّ عزل فيروس الأنفلونزا من عينات أخذت من الإنسان والخيل والخنازير والطيور الداجنة والبرية، وحتى من بعض الثدييات البحرية.
وكان أخطر وباء أصاب العالم من هذه الأنفلونزا: الوباء الذي حدث عام 1918م، وأطلق عليه آنذاك اسم "الأنفلونزا الأسبانية". فقد تفشى هذا الوباء في شتى أنحاء المعمورة, مخلِّفاً وراءه ملايين الجثث، وناشراً الذعر والهلع في كل مكان.
ويؤكد بعض الباحثين، بأنّ الفيروس المسبب لهذا الوباء المهلك تحوّر عن فيروس أنفلونزا الخنازير في الولايات المتحدة (14).
3 - فيروس نيبا (Nipah virus): لم يعرف العالم هذا الفيروس المميت قبل أكتوبر/ تشرين أول من عام 1998م, فقد عالج الأطباء في ماليزيا 300 إصابة بما يشبه أعراض الأنفلونزا، سرعان ما توفي 117 مريضاً منهم بفيروس "نيبا" الغامض، وأصيب العشرات منهم بتلف دماغي. ويعتقد الأطباء الماليزيون أنّ الفيروس الخطير ربما انتقل من خفاش الفواكه إلى الخنازير، ومنها إلى الإنسان, حيث أظهرت المتابعات الطبية أنّ جميع المصابين بالمرض كانت تربطهم علاقة قوية بالخنازير, مما حدا بالدوائر الصحية في ماليزيا إلى قتل مليون خنزير(15).
4-فيروس الحمى القلاعية:
فيما يبدو ليس من سبيل إلى وضع حد لوباء الحمى القلاعيّة التي أهلكت الثروة الحيوانية البريطانية في بداية عام 2001م, فبعد أيام قليلة على تشخيص الأطباء البيطريين 27 إصابة بين خنازير أحد المسالخ الريفيّة، فرضت الحكومة حظراً على كافة عمليات نقل الحيوانات, لكن هذا الإجراء لم يحل دون انتشار المرض خارج بريطانيا، فسرعان ما انتشر الوباء في القارة الأوروبية, ولم يجد البريطانيون مناصاً من القيام بحملة واسعة النطاق للقضاء على الخنازير المصابة، ذهب ضحيتها 3.75 مليون من حيوانات المزرعة.
يذكر أنّ مرض الحمى القلاعية انتشر عام 1997م في جزيرة تايوان برمتها، في أقلّ من شهرين وطالت آثاره المدمرة 6000 مزرعة، وأسفر عن ذبح 3.8 مليون خنزير, ومن المعروف علمياً أنّ المرض ينتقل من الخنازير إلى الإنسان(16).
5-فيروس التهاب الدماغ الياباني (Japanese encephalitis):
ينتشر هذا الفيروس بين مربيي الخنازير في مناطق شرق آسيا، وهو يصيب الطيور، وينتقل منها بواسطة البعوض إلى الخنازير، التي بدورها تنقله إلى الإنسان. ويسبب هذا الفيروس التهاب الدماغ في الإنسان، الذي يكون مميتاً في بعض الأحيان(17).
6-فيروس الخنزير التقرحي (Swine Vesicular Virus):
سُجِّل أول ظهور لهذا الفيروس عام 1966م في إيطاليا، ليظهر بشكل وبائي في بريطانيا عام 1972م، حيث أصاب خلال السنوات العشر التالية أكثر من 322 ألف خنزير في بريطانيا وحدها. ينتقل هذا الفيروس من الخنازير إلى البشر عن طريق المخالطة، حيث يسبب حمى وآلاماً في المفاصل والعضلات, يذكر أنّ الخنزير هو العائل الطبيعي الوحيد لهذا الفيروس(18).
7-فيروس التهاب الدماغ والقلب (Encephalomyocarditis): تعتبر الجرذان مستودع هذا الفيروس الخطير، كما تعتبر الخنازير أكثر حيوانات الحظيرة إصابة بالمرض, وعادة ما تنتقل العدوى من الجرذان إلى الخنازير.
يسبب هذا الفيروس التهاب الدماغ والقلب، مما قد يودي بحياة المرضى(19).
ثالثاً: البكتيريا (Bacteria):
يصيب الخنزير مجموعة كبيرة من البكتيريا، حيث تنتقل منه إلى الإنسان، مسببة له أمراضاً خطيرة، بل وقاتلة.
وسنستعرض باختصار أهم الأنواع الممرضة وعلاقة الخنزير بنقلها إلى الإنسان:
8-بكتيريا الحمى المالطية (Brucellosis): تسبب مرض الحمى المالطية ثلاثة أنواع من البكتيريا، وهي تصيب الماشية والخنازير، حيث تنتقل منها إلى الإنسان.
لكنّ أخطر الثلاثة هو النوع الذي يصيب الخنازير (Brucella suis)، إذ إنّه يسبب للمصابين به من بني البشر التهاب السحايا، والتهاب عضلة القلب، والتهاب المفاصل، وتورم الطحال، وغير ذلك من الأمراض الخطيرة(20).
9- بكتيريا السالمونيلا (Salmonellosis):
تسبب هذه البكتيريا للإنسان عدة أمراض، مثل: التيفوئيد وبارا التيفوئيد والتسمم الغذائي(21).
10- بكتيريا لستيريا (Listeria monocytogenes):
تسبب هذه البكتيريا مرض الالتهاب السحائي الدماغي, وموت الأجنة، وتسمم الدم,(/3)
وقد تبين أن هذه الجراثيم شديدة الفتك بالإنسان, إذ تسبب له التهاب السحايا، كما تفرز سموماً في دم المصاب، كما تبلغ نسبة الوفاة بالمرض 40% من الحالات الشديدة. والذين أصيبوا بهذا المرض ونجوا من الموت بعد علاج شاق، عانوا الصمم الدائم وفقدان التوازن(22).
11- بكتيريا الحمرة الخبيثة (Bacillus anthracis):
تنتقل بكتيريا الحمرة الخنزيرية الخبيثة من الخنزير إلى اللحامين والدباغين, وتكون بشكل لوحة محمرة مؤلمة جداً، وحارقة على الأيدي مع ارتفاع الحرارة والقشعريرة، والتهاب العقد والأوعية اللمفاوية(23).
12- بكتيريا يرسينيا (Yersinia enterocolitis ):
يصيب الإنسان نوعان من بكتيريا يرسينيا هما: (Yersinia enterocolitis ) التي تسبب في الأطفال الإسهالات المصحوبة بالدم والمخاط.
أما النوع الثاني فهو ( Yersinia poeudotuberculosis) الذي يسبب أحياناً تسمم الدم والتهاب المفاصل، كما يسبب أيضاً ألماً معوياً يشبه إلى حد كبير التهاب الزائدة الدودية، الأمر الذي قد يلتبس على الأطباء فيخطئون التشخيص.
ويعتبر الخنزير أكثر الحيوانات نقلاً لنوعي يرسينيا للإنسان، حيث يصاب المتعاملون بلحوم الخنازير وآكلوها بنوعي بكتيريا يرسينيا(24).
رابعاً: الأوليات/ وحيدة الخلية (Protozoa):
ينقل الخنزير للإنسان مجموعة من الكائنات الأولية، بعضها يحدث اضطرابات خفيفة له، والبعض الآخر يسبب أمراضاً خطيرة ومميتة.
ومن أبرز الأمراض التي تسببها هذه الأوليات، ودور الخنزير في نقلها إلى الإنسان:
13-الزحار البلنتيدي/ الزقي (Balantidial Dysentery):
الطفيلي المسبب لهذا المرض هو نوع من الأوليات الهدبية (لها أهداب)، يعرف بـ (Balantidium coli), وهو أكبر الأوليات التي تصيب الإنسان، وهو النوع الوحيد من الأوليات الهدبية التي تصيب الإنسان، كما أنّه من طفيليات الأمعاء الغليظة (القولون) في الخنازير والقردة وبخاصة الشمبانزي, ولأنّ فرص اتصال الإنسان بالقردة ضئيلة، فتبقى الخنازير من الناحية العملية المصدر الوحيد لعدوى الإنسان. ويوجد هذا الميكروب في براز الخنزير وينتقل إلى طعام الإنسان بطرق عديدة، ليستقر في الأمعاء الغليظة، فيحدث إسهالاً مصحوباً بالمخاط والدم، قد يؤدي للوفاة. وعادة لا ينتشر الزحار البلنتيدي إلا بين مريي الخنازير أو المتعاملين معها (ذبحها ونقلها وتجارتها)، فتتلوث أيديهم بحوصلات الطفيلي المعدية(25).
14-داء النوم الإفريقي (African Sleeping Sickness):
الطفيلي المسبب لهذا الداء الفتاك هو (Trypanosoma gambiense), تنقل هذا الطفيلي ذبابة التسي-تسي بطريق الحقن، وذلك عندما تلدغ الإنسان.
يسبب الطفيلي اضطراباً دماغياً، لا يلبث أن يتطور إلى مرض النوم, وفي حال إهمال معالجة المريض فإنّه يدخل في غيبوبة ويموت, وللخنزير دور كبير في نقل هذا المرض(26).
15- مرض شاغاس (Chagas’ Sickness):
هذا المرض أشد خطورة من النوع الأفريقي، والطفيلي المسبب له (Trypanosoma cruzi) أشد فتكاً. ينتشر هذا المرض في أمريكا الجنوبية والوسطى، وأعراضه مشابهة لأعراض داء النوم الإفريقي، لكنه أكثر شراسة منه(27).
خامساً: الديدان المفلطحة (Trematoda):
ينقل الخنزير للإنسان عدداً من الديدان المفلطحة، غالبيتها يسبب له اضطرابات خطيرة.
وأهم الديدان التي ينقلها الخنزير إلى الإنسان هي:
16- البلهارسيا اليابانية (Schistosoma japonicum):
تصيب البلهارسيا أكثر من 200 مليون نسمة, ويموت بسببها قرابة المليون شخص سنوياً.
تعيش هذه الدودة في الأوعية الدموية المعوية، حيث تضع بيوضاً تخترق هذه الأوعية الدموية، لتخرج إلى البيئة الخارجية, وتعيش هذه الديدان في جسم الإنسان مدة تصل إلى 30 سنة، وتحدث دماراً شديداً يؤدي أحياناً إلى الموت. ويصاب الخنزير بديدان البلهارسيا اليابانية والتي تنزل بويضاتها مع برازه، ومنه تنتقل للإنسان في كثير من بلدان العالم(28).
17- الدودة المتوارقة البسكية (Fasciolopsis buski):
وهي من الديدان المعوية-الكبدية، والخنزير هو العائل الرئيس لنشر العدوى, وتعيش الديدان البالغة في الأمعاء محدثة التهابات موضعية ونزيفاً وتقرحات في جذر المعي الدقيق، وتتسبب في حدوث إسهال مزمن وفقر دم وقد تحدث استسقاء البطن مؤدية إلى الوفاة(29).
18- الدودة الكبدية الصينية (Chlonorchis sinensis):
تنتشر الدودة الكبدية الصينية في بلدان الشرق الأقصى كاليابان والصين، والخنزير العائل الرئيسي لها, تعيش هذه الديدان في القنوات الصفراوية الكبدية، حيث تتكاثر بأعداد كبيرة, وإذا ما كثرت أعدادها عند المصاب، أحدثت تضخماً في الكبد وإسهالاً مزمناً ويرقاناً شديداً ينتهي بالوفاة(30).
سادساً: الديدان الشريطية (Cestoda):
ينقل الخنزير للإنسان أنواعاً متعددة من الديدان الشريطية، بعضها بالغ الخطورة على حياته، والبعض الآخر يسبب له اضطرابات تتراوح ما بين الخفيفة والشديدة.(/4)
وأهم الديدان الشريطية التي ينقلها الخنزير إلى الإنسان هي:
19- الدودة الشريطية المسلحة/تينيا سوليوم (Taenia solium):
والمشهورة أيضاً بالدودة الوحيدة. يعيش طورها البالغ في أمعاء الإنسان، ويبلغ طولها من 2-3 أمتار، لها رأس أصغر من الدبوس مزود بأربع ممصات ويطوق قمته طوق من الأشواك، يلي الرأس عنق قصير ينمو منه باستمرار قطع أو أسلات صغيرة تنمو كلما بعدت عن الرأس مكونة شريطاً يحتوي أكثر من 1000 قطعة , وتنفصل الأسلات الناضجة الممتلئة بآلاف البيوض، لتخرج مع براز المصاب، حيث تعيش في التربة الرطبة زمناً طويلاً إلى أن يأتي خنزير فيلتهمها وما فيها من بيوض. وتعمل عصارات أمعاء الخنزير الهاضمة على حل هذه البيوض لتنطلق منها الأجنة، فتخترق جدار الأمعاء، لتسبح مع الدورة الدموية إلى كل أنحاء الجسم. وتستقر الأجنة في عضلات الخنزير مكونة حويصلات بطول 6-18 ملم، في كل منها يرقانة لها رأس صالح لكي يكون دودة جديدة. فإذا ما تناول الإنسان من اللحم المصاب دون أن ينضجه تماماً لقتل ما فيه من اليرقات، فإنها تنطلق من الحويصلات في أمعائه لتخترق جدارها، وتدخل إلى دورته الدموية، لتستقر بعد ذلك في العضلات أو الرئتين أو الكبد أو القلب أو العيون أو الدماغ.
إنّ نمو هذه الحويصلات في المخ يؤدي إلى الإصابة بحالات من الصرع، وإلى شلل عضوي جزئي، مع دوار واضطرابات عصبية حسية. كما ينطلق منها إلى الدم ذيفانات سامة، قد تؤدي إلى الموت, ولا يعرف لهذا المرض علاج ناجع حتى يومنا هذا, ويعتبر الخنزير المصدر الوحيد لعدوى البشر (31).
20- الدودة الشريطية العوساء العريضة (D. latum):
يصاب الإنسان بالطور البالغ لهذه الدودة، التي تعتبر واحدة من الديدان المعوية, ويبلغ طول الدودة البالغة 10 أمتار، وتستطيع أن تضع عددا هائلاًمن البيوض، يصل إلى مليون بويضة كل يوم(32).
21-الدودة شوكية الرأس (Macracanthorynchus hirudinaceus):
هذا النوع من الديدان شائع في الخنزير، ولكنه أيضا يصيب الإنسان، فقد اكتشف بين فلاحي وادي الفولجا في جنوبي روسيا(33).
سابعاً: الديدان الخيطية أو الاسطوانية (Nematoda):
الديدان الخيطية أو الاسطوانية التي ينقلها الخنزير للإنسان متعددة الأنواع، ومتفاوتة الخطورة، لكنها جميعاً لا تخلو من إشكالات صحية تسببها للعائل. أما أهم هذه الديدان التي يرتبط نقلها إلى الإنسان بأكل لحوم الخنازير أو التعايش معها فهي على النحو التالي:
22 - الدودة الشعرية الحلزونية/ ترايكنيلاّ (Trichinella spiralis):
تعيش الديدان البالغة في أمعاء الإنسان والخنزير، وهي ديدان قصيرة يتراوح طولها بين 2-4 ملم. تتغلغل الإناث المثقلة بالبيوض بين الزغابات المعوية لتضع اليرقات هناك ، فهي لا تضع بيضاً. تخترق اليرقانات جدر الأمعاء إلى الدم وتطوف معه لتستقر في عضلات العائل, حيث تنمو إلى 1 ملم، ثم تلتف على نفسها وتتحوصل. تظل اليرقات المكيسة داخل العضلات حية لمدة تصل إلى 25 سنة في الإنسان، و 11 سنة في الخنزير. وعندما يأكل إنسان لحم الخنزير المصاب، فإنّ الحويصلات تنحل في أمعائه، لتنطلق منها أجنة سرعان ما تتطور في أمعائه إلى الديدان البالغة.
والدودة الشعرية البالغة ليست مصدر الخطر الحقيقي على صحة الإنسان، بل اليرقات هي الخطر الداهم. فبعد التزاوج تموت الذكور، وتبقى الإناث الملقحة في جدران الأمعاء لتضع يرقاناتها بعد أسبوع واحد. ولا تلبث هذه اليرقانات وقتاً طويلاً قبل أن تخترق جدر الأمعاء، لتسير مع الدم إلى جميع أجزاء بدن الإنسان، حيث تستقر في عضلات الحجاب الحاجز والحنجرة واللسان والعين والقلب، محدثة الجنون أو الشلل أو العمى أو الاختناق أو الذبحة القلبية(34) .
22- ثعبان البطن الخنزيري (Ascaris suum):
تعيش الديدان البالغة في أمعاء الخنزير، حيث تضع بيوضها، التي تخرج مع البراز إلى البيئة الخارجية. وإذا ما دخلت هذه البيوض جسم شخص ما (بطريق مخالطة الخنازير)، فإنها تفقس وتخرج منها يرقات تخترق جدار الأمعاء، ثمّ تسير محمولة مع الدم حتى تصل الرئتين، فتثقب الأوعية الدموية وتموت داخل الرئتين، مسببة الالتهاب الرئوي الإسكاريسي الذي يعتبر من الأمراض القاتلة(35).
ثامناً/ أمراض جسمانية غير طفيلية :
يحتوي لحم الخنزير على أنواع عديدة من المركبات الكيميائية الضارة، التي لا تتناسب ولا تنسجم مع مركبات جسم الإنسان، وبالتالي فهي تسبب له أمراضاً وعللاً متنوعة، تزداد وطأتها كلما تزايد استهلاك الشخص للحوم ومنتجات الخنزير.
وسنعرض إلى بعض هذه الأمراض:
1- السرطانات :(/5)
يحتوي جسم الخنزير على كميات كبيرة من هرمون النمو (Growth Hormone) والهرمونات المنمية للغدد التناسلية (Gonadotrophins) , لذا تزداد الإصابة بالسرطان لدى آكلي لحم الخنزير. فقد بينت الدراسات وجود علاقة قوية بين استهلاك لحم الخنزير وسرطان الأمعاء الغليظة والمستقيم، وسرطان البروستاتا، وسرطان الثدي، وسرطان البنكرياس، وسرطان عنق الرحم وبطانة الرحم، وسرطان المرارة، وسرطان الكبد(36).
2 - السمنة وأمراض الشرايين والقلب:
يوجد الدهن متداخلاً مع خلايا لحم الخنزير بكميات كبيرة، خلافاً للحوم البقر والغنم والدجاج، والتي يكون فيها الدهن على شكل نسيج دهني شبه مفصول عن النسيج العضلي. وبالإضافة إلى ذلك فإن دهون الخنزير ترتبط بالمواد المخاطية النشوية، مما يجعل إزالتها من الجسم أمراً عسير, ذلك لأن الدهون الغليسيريدية الثلاثية للحيوانات آكلة العشب، تحتوي على حمض دهني غير مشبع على ذرة الجلسرول الثانية، وإنزيمات الإنسان الدهنية قادرة على هضمها بسهولة. أما الدهون الغليسيريدية الثلاثية في الخنزير وفي آكلة اللحوم، فتحتوي على حمض دهني مشبع على ذرة الجلسرول الثانية، فلا تقدر إنزيمات الإنسان الدهنية على هضمها، ويسبب دهن الخنزير مجموعة من الأمراض نحو تصلب الشرايين، الذبحة الصدرية، جلطات القلب، ضغط الدم، سكري البول، وحصوات المرارة، وما يتبع ذلك من تعقيدات مرضية خطيرة, وبذلك تترسب في جسم آكليها من البشر، محدثة أضراراً بليغة(37).
3- التهاب المفاصل:
يحتوي لحم الخنزير على كميات كبيرة من حامض البوليك، ذلك لأنّ جسمه لا يتخلص إلا من قدر يسير من حامض البوليك، لا يتعدى 3%، بينما يتخلص الإنسان من 90% من نفس الحامض, ونظرا لهذه النسبة العالية من حامض البوليك؛ فإن آكلي لحم الخنزير يشكون عادة من آلام روماتيزمية، والتهابات المفاصل، ومشاكل في الكلى(38).
4-الأمراض التحسسية :
يحتوي لحم الخنزير على كميات عالية من مركبات الهستامين والإميدازول (histamine and imidazole)، تحدث عند آكليها أمراضاً تحسسية جلدية، مثل الأكزيما والشرى والتهاب الجلد العصبي والحكة وغيرها. وإذا امتنع آكلوا لحم الخنزير عن أكله بشكل مطلق، فإن هذه الأمراض التحسسية تتلاشى.
5-أمراض أوتار العضلات والغضاريف:
يحتوي لحم الخنزير على مواد مخاطية نشوية فيها مادة الكبريت، التي تترسب في أوتار العضلات والنسيج الغضروفي، مسببة رخاوة تلك الأنسجة ومحدثة تغيرات باثولجية في المفاصل والعمود الفقري(39).
خاتمة :
وبعد هذا كله فإننا نقف أمام معجزة من معجزات التشريع الإسلامي. فتبارك الذي أحل لنا الطيبات, وحرم علينا الخبائث, وها هو العلم الحديث يكشف لنا كل هذه الأمراض التي يسببها وينقلها الخنزير إلى الإنسان, وكل هذا يثبت التطابق بين ديننا وبين الحقائق العلمية الحديثة, وأن هذا الدين نزل بعلم الله تعالى . إعداد/ عادل الصعدي.
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد.
(1) - الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد عن مقالة " العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن" مجلة عالم الفكر ـ المجلد 12,العدد ( 4) الكويت يناير 1982.
(2) -صحيح مسلم (3/1207) رقم: (1581)
(3) - صحيح مسلم (4/1770) رقم: (2260) .
(4)- النردشير هو: الزهر, وهي كلمة فارسية.
(5) - شرح صحيح مسلم للإمام النووي (13/96)
(6) - بداية المجتهد (1/653) .
(7) - الخنزير بين ميزان الشرع ومنظار العلم, للدكتور أحمد جواد.
(8) - الأمراض غير المعدية والخنزير, للدكتورين سفيان العسولي و محمد علي البار.
(9) - نظرات طبية في محرمات إسلامية, للدكتور أحمد حسن ضميري (ج 1) دمشق 1995.
(10) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود .
(11) - الخنزير بين ميزان الشرع ومنظار العلم, للدكتور أحمد جواد, دارالسلام 1987
(12) - نقلاً عن مقالة العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن , للدكتور عبد الحافظ حلمي محمد , مجلة عالم الفكر, المجلد 12ع ـ 4 الكويت يناير 1982.
(13) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: Biology. Neil A. Campbell, Jane B. Reece, and Lawrence G. Mitchell. Addisons-Wisely Publishing. Fifth edition, 1999, pp. 329.
(14) - المرجع السابق , نقلاً عن: Nichol S.T., Arikawa J., and Kawaoka Y. (2000). Emerging Viral Diseases. Natl. Acad. Sci. USA, 97 (23): 12411-12412.
(15) - المرجع السابق .
(16) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.fao.org/ag/ar/magazine/0206sp1.htm
(17) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.islamset.com/hip/pork/index.html
(18) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.islamset.com/hip/pork/index.html
(19) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.thepigsite.com/DiseaseInfo/Default.asp?Display=35(/6)
(20) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.alsehha.net/fiqh/0090.htm
(21) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.islamset.com/hip/pork/index.html
(22) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.science4islam.com/html/3-1-04a.html
(23) - الطب الوقائي في الإسلام, للدكاترة أحمد بربور وزملاؤه.
(24) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://vm.cfsan.fda.gov/~mow/chap5.htm l
(25) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: www.geocities.com/TIBNABAWI/new_page_12.htm
(26) - المرجع السابق, نقلاً عن: http://www.arabinow.com/sn/health/conditions/inf_brain.htm
و الطب الوقائي في الإسلام, للدكاترة أحمد بربور وزملاؤه.
(27) - نفس المراجع السابقة.
(28) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://www.biosci.ohio-state.edu/~parasite/schistosoma.html
(29) - نقلاً عن مقالة العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن , للدكتور عبد الحافظ حلمي محمد , مجلة عالم الفكر, المجلد 12ع ـ 4 الكويت يناير 1982.
(30) - المرجع السابق, والإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://www.science4islam.com/html/3-1-04a.html
(31) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://www.niaid.nih.gov/ictdr/projects/gilman.htm
مقالة العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن , للدكتور عبد الحافظ حلمي محمد , مجلة عالم الفكر, المجلد 12ع ـ 4 الكويت يناير 1982.
(32) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://www.biosci.ohio-state.edu/~parasite/diphyllobothrium.html
(33) - المرجع السابق, وتحريم القرآن لأكل لحم الخنزير, للدكتور محمد نزار الدقر .
(34) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: Encyclopedia Britannica (1990). 15th edition, Vol 11, page 920.
وتحريم القرآن لأكل لحم الخنزير, للدكتور محمد نزار الدقر, نقلاً عن: نظرات طبية في محرمات إسلامية, للدكتور أحمد حسن ضميري (ج 1) دمشق 1995.
(35) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود , نقلاً عن: http://www.biosci.ohio-state.edu/~parasite/enterobius.html
(36) - المرجع السابق, و الأمراض غير المعدية والخنزير للدكتورين سفيان العسولي و محمد علي البار.
(37) - الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير , للدكتور فهمي مصطفى محمود .
(38) - المرجع السابق.
(39) - المرجع السابق.(/7)
الإعجاز التشريعي للقرآن تحريم الدم )
قال - تعالى - في محكم كتابه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنعام: 145) ووَصَفَ القرآن نبينا - عليه الصلاة والسلام - فقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}(الأعراف: 157).
لقد أثبت العلم بما لا يدع مجالاً للشك أن الدماء التي أودعها الله لحوم الحيوانات تحمل من الجراثيم والمضار الكثير الكثير، ومن هنا ندرك الحكمة والمقصد الشرعي من التذكية التي أمر بها الشارع قبل تناول لحوم الحيوانات، وذلك أن في هذه التذكية إخراجاً لتلك الدماء الخبيثة الضارة.
والسر في تحريم الدم المسفوح ما أثبته العلم اليوم من أن الدم يعتبر مرتعاً صالحاً لتكاثر الجراثيم ونموها، ثم هو فوق ذلك لا يحتوي على أي مادة غذائية، بل إنه عسر الهضم جدًا، حتى إنه إذا صُبَّ جزء منه في معدة الإنسان تقيأه مباشرة، أو خرج مع البراز دون هضم على صورة مادة سوداء.
وقد أكدت جميع الأبحاث العلمية في هذا المجال، أن الأضرار الناجمة عن شرب الدم أو طبخه كبيرة للغاية بسبب ما يحويه الدم من الجراثيم، فضلاً عن أن الدم - على عكس ما يُتصور - هو عنصر فقير جدًا من الناحية الغذائية، وأن القدر البروتيني الذي يحويه الدم يأتي مختلطًا بعناصر شديدة السُّمِّية، وغاية في الضرر، الأمر الذي يجعل الإقدام على تناوله مجازفة كبرى، وإلقاء للنفس في التهلكة، بل هو فوق ذلك، يحتوي على عناصر سامة يأتي في مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو غاز قاتل خانق، وهذا ما يفسر تحريم المختنق من الحيوان أيضًا، وذلك أن "المختنقة" إنما تموت عن طريقة تراكم هذا الغاز في دمائها ما يؤدي إلى نَفَاقها.
ولا يخفى عليك أخي الكريم - والأمر على ما ذكرنا - أن تكرار شرب الدماء لمن اعتاد عليها، وهي مشبعة بهذا الغاز القاتل، مؤدٍّ إلى أضرار صحية بالغة الخطورة قد تودي بحياة الإنسان.
وما أتينا عليه من العواقب الوخيمة المترتبة على تعاطي الدماء كافٍ - فيما نحسب - لتحريمها وتشريع القوانين المانعة لتعاطيها.
بقي أن نقول لك: إن الإسلام قد عفى عن قليل الدماء لعدم إمكانية التحرز منه، وعدم تحقق الضرر فيه، ولذلك جاء النص القرآني بتحريم الدم الموصوف بالمسفوح: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}(الأنعام: 145) وهذا يدل على أن الدم الذي يبقى عالقًا في اللحم غير داخل في التحريم، يقول الطبري في ذلك: "وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عباده تحريمه إياه المسفوح منه دون غيره الدليل الواضح على أنه إن لم يكن مسفوحًا فهو حلال غير نجس".
فسبحان الذي علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعلم، وامتن عليه بذلك بقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}النساء: 113).
وسبحان الذي أكرم العالم بهذا الدين القويم، والصراط المستقيم، والمنهج المبين: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(المائدة: 15).
وصدق من قال: الدماء مرتع الوباء. والحمد لله أولاً وآخرًا.
26/07/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
الإعجاز في التذكية (الذبح)
مقدمة:
تعد قضية ذبح الحيوان التي شرعها الإسلام قبل الإفادة من لحم الحيوان – الذي أحله الله - من جملة القضايا الساخنة التي يثيرها أعداء الإسلام بحقد للتشكيك في شرائعه وأحكامه؛ جهلاً منهم بطبيعة الأوامر الربانية التي لا يأتيها الباطل ولا يعتريها النقص والخلل.
وكثيراً ما دارت معارك كلامية وحوارات مفتعلة مع الأقليات المسلمة، في كل من بريطانيا، وأمريكا، وفرنسا، وغيرها حول هذه القضية. وتعد جمعية الرفق بالحيوان في هذه البلدان وغيرها من أبرز الجمعيات التي تثير هذه القضية، وتستنكرها، وتظهر مناظر الأغنام بعد قيام المسلمين بذبحها وهي ترفس بأطرافها وتتلوى من الألم؛ متهمة القائمين بذلك بالوحشية والهمجية، وهذا – بالإضافة إلى كونه من مظاهر الحقد والتشويه – يعد جهلاً مركباً بما توصل إليه العلم الحديث في هذا المجال من الحقائق الدامغة.
ولا يضر دين الله الحق المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه الافتراءات، فهو أسمى من أن تنال من حكمته السامية هذه الافتراءات الحاقدة وغيرها، فضلاً من أن تضع أحكام الإسلام وشرائعه الربانية موضع الشك والاتهام، خاصة وأن التقدم العلمي يقدم الأدلة الواضحة على صحة تلك الشرائع الربانية، وحكمتها السامية، ومن ذلك ما نسمعه من كلام أهل الاختصاص في قضية ذبح الحيوان المقررة شرعاً.(1)
ويتكون هذا الموضوع من أربعة مباحث كلها ذات صلة وثيقة بهذا الموضوع وهي كما يلي:
1. الدم من الناحية الشرعية والعلمية ووجه الإعجاز فيه.
2. الميتة من الناحية الشرعية والعلمية ووجه الإعجاز فيه.
3. التسمية عند الذبح من الناحية الشرعية والعلمية ووجه الإعجاز فيه.
4. قطع النخاع من الناحية الشرعية والعلمية ووجه الإعجاز فيه.
أولا:حكم أكل الدم في الإسلام:
لما كان الدم هو المادة المرئية الخارجة من الحيوان عند التذكية فإنه يحسن أن نتناوله بشيء من التأصيل الشرعي والعلمي:
قال الله تعالى:?قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طاعم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? .[الأنعام:145], يتضح من الآية أن الدم المسفوح حرام والمسفوح هو الكثير المصبوب والسَّفْحُ للدم كالصَّب(2).
قال الشوكاني: اتفق العلماء على إن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: "وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى ومعفو عما تعم به البلوى والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال:? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ? .[ المائدة:3]" وقال في موضع آخر:?قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحاً? .[ الأنعام:145] "فحرم المسفوح من الدم وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت:«كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره »(3) لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة والإصر والمشقة في الدين موضوع وهذا أصل في الشرع أنه كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقط التكليف عنها فيه أو خفف عنها ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة وأن المريض يفطر ويتيمَّم في نحو ذلك .وذكر الله سبحانه وتعالى الدم ها هنا مطلقاً وقيده في الأنعام بقوله:?مسفوحاً?، وحمل العلماء ها هنا المطلق على المقيد إجماعاً فالدم هنا يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه وفي دم الحوت المزايل له اختلاف وروي عن القابسي أنه طاهر ويلزم من طهارته أنه غير محرم وهو اختيار ابن العربي قال: لأنه لو كان دم السمك نجساً لشرعت ذكاته. وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت والدليل على إنه طاهر أنه إذا يبس ابيَضَّ بخلاف سائر الدماء فإنّه يَسوَد وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية".(4) ويقول الدكتور محمد راتب النابلسي(5) :الشيء الذي لا يصدق أن السمكة إذا اصطيدت انتقل دمها كله إلى غلاصمها، وكأنها ذبحت، لذلك سمح الله أن نأكل ميتة السمك.
التفسير العلمي لتحريم الدم:(/1)
الدم هو هذا السائل الأحمر القاني الذي يتكون من أخلاط عديدة منها الخلايا الحمراء الممتلئة بمادة الهيموجلوبين التي تقوم بنقل الأكسجين إلى مختلف خلايا الجسم , والخلايا البيضاء التي تدافع عن الجسم ضد غزو حاملات الأمراض من الجراثيم والطفيليات , والصفائح التي تتحطم حول نزيف الدم من أجل تجلطه . (6) ويحمل الدم سموماً وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله لهذا الغرض, وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها (7).
وكذلك فان الجراثيم الممرضة ربما انتقلت إليه عبر السكين التي ذبح بها الجزار، أو عبر الهواء المحيط، أو قد تنتقل من مصدر مجاور؛ فإذا انتقل عدد من الجراثيم إلى الدم فإن الجرثومة الواحدة تتضاعف هندسياً كل نصف ساعة، فتتوالد الجرثومة الواحدة إلى اثنتين. ولو اعتبرنا أن 1000 جرثومة انتقلت إلى هذا الغرام من الدم فإنها تصبح بعد نصف ساعة 2000، وبعد ساعة واحدة يرتفع العدد إلى 4000، وبعد ساعة ونصف تصبح 8000 جرثومة، ثم يرتفع عدد الجراثيم إلى 16000 جرثومة بعد ساعتين، وبعد ثلاث ساعات يكون العدد وصل إلى 64000 جرثومة تغزوا هذا الغرام الواحد من الدم. ومعلوم أن الدم أصلاً توجد فيه كميات هائلة من الجراثيم، بل إنه بعد وفاة الحيوان يصبح ملوثاً ضاراً جداً بصحة الإنسان، إذا تم شربه، أو حفظه في مكان ثم شربه بعد ذلك.(8) وهنا سؤال يطرح نفسه وهو إذا كان فعل الجراثيم بالدم هو ما ذكر آنفاً فبالتأكيد سيكون فعلها باللحم كذلك فلماذا يؤكل اللحم ولا نصاب بما يصاب به آكل الدم؟ والجواب على ذلك هو إن الجراثيم تبدأ بغزو السطح الخارجي عبر التهام الطبقة الصلبة التي يصعب على الجراثيم اختراقها، عندها تبدأ بالتهام ما يوجد في الطبقة الصلبة؛ فيتناقص عنها الغذاء ويموت عدد كبير منها لعدم قدرتها على التكاثر بسرعة.فإذا أراد الطباخ أن يطبخ هذه القطعة من اللحم فإنه يقوم بغسلها من الخارج؛وعندها تكون كمية الجراثيم قد أزيلت بهذه العملية، ثم بالطبخ يتم القضاء على كمية أخرى من الجراثيم(9).
وعند تناول كمية كبيرة من الدم فإن هذه المركبات تمتص ويرتفع مقدارها في الجسم، إضافة إلى المركبات التي يمكن أن تنتج عن هضم الدم نفسه مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة في الدم والتي يمكن أن تؤدي إلى اعتلال دماغي ينتهي بالسبات. وهذه الحالة تشبه مرضياً ما يحدث في حالة النزف الهضمي العلوي ويلجأ عادة هنا إلى امتصاص الدم المتراكم في المعدة والأمعاء لتخليص البدن منه ووقايته من حدوث الإصابة الدماغية.وهكذا فإن علماء الصحة لم يعتبروا الدم بشكل من الأشكال في تعداد الأغذية الصالحة للبشر.(10)
وجه الإعجاز:
من هذا الاستعراض الموجز يتضح لنا بجلاء حكمة تحريم أكل الدم , ولو لم يرد في القرآن الكريم غير هذه الحقيقة العلمية لكانت كافية للشهادة على أن القرآن المجيد هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله , وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه ( اللغة العربية ) حفظاً كاملا ًً: كلمة كلمة , وحرفاً حرفاً , على مدى أربعة عشر قرناً أو يزيد , وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقى القرآن المبين كان موصولاً بالوحي ومعلماً من قبل خالق السماوات والأرض , فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه , ومن اتبع هداه , ودعا بدعوته إلى يوم الدين .
ثانيا:حكم أكل الميتة في الإسلام:(/2)
قال الله تعالى:? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?. [البقرة:173]، وقال تعالى: ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ والنطيحة وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?. [المائدة: 3 ]، من هاتين الآيتين فهم ويفهم المسلمون أن الميتة- وهي اسم لما فارق الحياة من غير ذكاة شرعية- يحرم أكلها بأمر من الخالق الذي خلق الخلق وأمرهم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة القائل:?هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ?.[النجم: 32 ], يقول القرطبي: "الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح, وما ليس بمأكول فذكاته كموته كالسباع وغيرها"(11)، وقال الألوسي: "أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه"(12)، وجاء في التحرير والتنوير ما نصه :"الميتة هنا عام؛ لأنه معرف بلام الجنس فتحريم أكل الميتة هو نص الآية وصريحها لوقوع فعل (حرم) بعد قوله ?كلوا من طيبات ما رزقناكم ? وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام"(13). وقال الشوكاني: "قوله:?المنخنقة? هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين أو بفعل آدمي أو بغيره وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها،وقوله:?والموقوذة? هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية،وقوله:?الْمُتَرَدِّيَةُ?هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو تردت بفعل غيرها، وقوله: ? والنطيحة? هي فعيلة بمعنى: مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية، وقوله: ?مَا أَكَلَ السَّبُعُ?أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها، والمراد هنا: ما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع كله قد فني،وقوله:? إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ?أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم"(14).
فما مات بأي طريقة من هذه الطرق التي ذكرها القرآن ولم يذكَّ الذكاة الشرعية فقد حرم القرآن أكله, هذا هو الذي عليه العمل عند أهل الإسلام وهو الذي يدينون به لربهم عز وجل .
التفسير العلمي لتحريم أكل الميتة:
رأينا فيما تقدم أن الميتة التي فقدت روحها من غير تذكية شرعية يحرم على المسلمين أكلها أو حتى الانتفاع بها، بقي أن نعرف حكمها عند العلماء المختصين. يقول الدكتور يوسف عبد الرشيد الجرف: "القاسم المشترك الذي يجمع بين تحريم القرآن الكريم للدابة المنخنقة التي خنقت فماتت وبقي دمها في جسمها، والموقوذة التي ضربت بآلة حادة فماتت، والمتردية التي وقعت من عال فماتت بصدمة عضلية، والنطيحة التي نُطحت، هذه الأربعة أنواع من الدواب التي حرم الله أكلها يجمعها قاسم مشترك واحد، هو أن الدم بقي في جسمها"(15). ويقول الدكتور جون هونوفر لارسن(16): "الميتة مستودع للجراثيم، ومستودع للأمراض الفتاكة، والقوانين في أوربا تحرم أكل الميتة.كما يقول: إن قوانيننا الآن تحرم أكل لحم الحيوان إذا مات مختنقاً. حيث اكتشفنا مؤخراً أن هناك علاقة بين الأمراض التي يحملها الحيوان الذي يموت مختنقاً وبين صحة الإنسان. حيث يعمل جدار الأمعاء الغليظة للحيوان كحاجز يمنع انتقال الجراثيم من الأمعاء الغليظة – حيث توجد الفضلات – إلى جسم الحيوان والى دمه طالما كان الحيوان على قيد الحياة. ومعلوم أن الأمعاء الغليظة مستودع كبير للجراثيم الضارة بالإنسان، والجدار الداخلي لهذه الأمعاء يحول دون انتقال هذه الجراثيم إلى جسم الحيوان، كما أن في دماء الحيوان جداراً أخر يحول دون انتقال الجراثيم من دم الحيوان، فإذا حدث للحيوان خنق فانه يموت موتاً بطيئاً.(/3)
وتكمن الخطورة في هذا الموت البطيء عندما تفقد مقاومة الجدار المغلف للأمعاء الغليظة تدريجياً مما يجعل الجراثيم الضارة تخترق جدار الأمعاء إلى الدماء والى اللحم المجاور. ومن الدماء تنتقل هذه الجراثيم مع الدورة الدموية إلى جميع أجزاء الجسم لأن الحيوان لم يمت بعد، كما تخرج من جدار الدماء إلى اللحم بسبب نقص المقاومة في جدر هذه الأوعية الدموية فيصبح الحيوان مستودعاً ضخماً لهذه الجراثيم الضارة.
ثم تفتك هذه الجراثيم المتكاثرة بصحة الحيوان حتى الموت، وموته في هذه الحالة يعني وجود خطر كبير في جسد هذا الكائن الذي يموت مختنقاً.
أما الحيوان الذي يموت ضرباً فيقول الدكتور جون: يصاب هذا الحيوان كذلك بالموت البطيء كالمختنق تماماً فيقع له ما وقع للمختنق؛ وزيادة على ذلك فان الضرب يتسبب في تمزيق الأوعية الدموية في مكان الضرب، كما يمزق الخلايا فيه، فيختلط تركيب الدماء مع تركيب الخلايا مما يتسبب في حدوث تفاعلات للمواد السامة الضارة.
ولذلك تلحظ وجود تورم يقع في مكان الضرب إن هذا التورم الحادث سببه وجود التفاعلات الكيميائية الضارة التي أصبحت مولدات لمواد سامة إلى جانب التسلخ الذي يحدثه الضرب بجسم الحيوان. وبهذا يصبح الحيوان الذي مات من الضرب مستودعاً للجراثيم الضارة وخطراً على صحة الإنسان.
كما يقول عن الحيوان الذي يسقط من مكان عالٍ وهو الذي يسمى: (المتردية) الحيوان الذي يموت بهذه الطريقة تكون حالته مثل حالة الذي مات بالضرب، ففي مكان السقوط يحدث التمزق ويبدأ بالموت موتاً بطيئاً... وحتى لو مات مباشرة بعد السقوط فان الجراثيم تغزو الجسم بسرعة، ولذلك نجد أن العفونات سرعان ما تتصاعد من جسم هذا الكائن دليل على ما يوجد فيه من جراثيم وميكروبات خطيرة.
كما سئل الدكتور عن الحيوان الذي يموت بسبب التناطح فقال: الموت بهذه الطريقة يشابه الذي يموت ضرباً ولكنة أخطر، ففي الغالب أن الحيوان عندما ينطح بقرنه تتم عملية النطح في منطقة البطن، وبالأخص في الأمعاء، فيدخل القرن ملوثاً بالجراثيم إلى الدماء في أمعاء الحيوان الآخر، وتجري الدماء في جسمه، ثم يموت تبعاً لذلك. ويشكل تناول لحم الحيوان في هذه الحالة خطراً محققاً على صحة الإنسان.
كما سئل عن الحيوان الذي يموت بسبب افتراس حيوان آخر له فقال: معلوم أن مخالب السبع مملوءة بالجراثيم، فإذا غرسها في جسم هذا الحيوان سارت تلك الجراثيم في دمه؛ عندها يموت الحيوان ببطء ويصبح مستودعاً للجراثيم الضارة أما عندما يذبح الحيوان بالطريقة المعهودة عند المسلمين؛ نكون قد استخلصنا المصدر الأساسي لنقل هذه الجراثيم وهو الدم، ولا يمكن بعدها السماح بانتقالها إلى الأعضاء.
وإذا ذبح الحيوان قبل موته تخلص الجسم من هذه المادة التي تسبب انتقال هذه الجراثيم إليه؛ لان الدم هو السائل الحيوي المهم في جسم الكائن الحي والذي يستطيع مقاومة ملايين الطفيليات بما يحويه من كرات بيضاء وأجسام مضادة مادام الكائن حياً وفي درجة حرارته الطبيعية، فإذا مات الحيوان وتوقف الدم عن الجريان أصبحت الميكروبات بدون مقاومة، وفي هذه الحالة يكون أسلم الطرق هو الإراقة الكاملة لهذا الدم، وإخراجه من الجسم في أسرع وقت ممكن(17).
وجه الإعجاز
مما تقدم يتضح بجلاء وبدون أدنى لبس التوافق العجيب والدقيق بين ما توصل إليه العلم الحديث وبين أوامر الشرع الإسلامي الحنيف, العلم الحديث يثبت كما تقدم أنه لا وسيلة للتخلص من الأسباب المؤدية إلى كثير من الأمراض إلا بالتذكية الإسلامية الشرعية، هذه الحقيقة يثبتها العلماء اليوم والإسلام يأمرنا بها قبل ألف وأربعمائة عام على لسان رجل أمي اختاره الله من بين البشر ليبلغ رسالة الخالق الذي يقول:? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى?.[النجم:3-4] وصدق الله العظيم، فمن أين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا العلم؟ إنها شهادة الحق بأنه من عند الله القائل:?َمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ?.[يونس: 37-39].
ثالثا:الحكم الشرعي للتسمية عند الذبح:(/4)
قبل بيان حكم الشرع في التسمية عند التذكية لا بد من بيان أهمية التسمية وندب الشرع إليها في أول كل فعل كالأكل والشرب والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر إلى غير ذلك من الأفعال قال الله تعالى:? فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ?.[الأنعام:118], وقال:? ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا?.[هود:41] وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفىء مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوكِِِ سقاءك واذكر اسم الله»(18) وقال :«لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا»(19)وقال لعمر بن أبي سلمى:«يا غلام سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك»(20)وقال: «إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه»(21)وقال: «من لم يذبح فليذبح باسم الله»(22) وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعاً يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»(23)هذا كله ثابت في الصحيح وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله»(24)، وكان صلى الله عليه وسلم: «يشرب في ثلاثة أنفاس إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى الله تعالى وإذا أخره حمد الله تعالى يفعل ذلك ثلاث مرات»(25) مما تقدم يظهر لك ما للبسملة من أهمية عظيمة عند المسلمين بل لا تكاد تجد عملاً من أعمالهم إلا ويذكرون اسم الله عليه وحسبك ما تقدم من مجموعة الأحاديث- وإن كنت قد اخترت جزءاً يسيراً منها تفادياً للإطالة – لتكتشف أن لهذه الكلمة أسراراً عجيبة يكشف عنها العلم اليوم وما هذا المبحث إلا إشارة لما سيأتي، ولنشرع في سرد النصوص التي أمرت بالتسمية عند الذبح وبيان أقوال العلماء المسلمين فيها، قال الله تعالى:?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وما علمتم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ?.[المائدة :4] ولعل هذه الآية لم تتناول التسمية عند الذبح فحسب بل تناولت أمراً أوسع من ذلك ألا وهو التسمية على الكلب المعلم عند إطلاقه للصيد، قال القرطبي: "فاعلم أنه لا بد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة وهذا لا يختلف فيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :«إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل»(26)، وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال لقوله:«وذكرت اسم الله»(27) وقال ابن كثير: "فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله حل الصيد وإن قتله؛ بالإجماع. وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة"(28).(/5)
وقال تعالى:? فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ?.[الأنعام:118] وقال جل شأنه:?وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ?. [ الأنعام:121]، قال ابن كثير: "استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها، ولو كان الذابح مسلماً"(29)، وقال أيضاً: ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه "الهداية" الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمداً، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ: لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع"(30).وقال تعالى:?أَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ?.[الأنعام:138]. عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟! فأنزل الله عز وجل:? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْه? إلى آخر الآية, وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى:?وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ? قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها(31)، وقال القرطبي في قوله تعالى:? وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ?.[الأنعام: 119]: "المعنى: ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم"(32). وعلى العموم فإن للعلماء في حكم التسمية على الذبيحة أقوال منها:ما قاله الماوردي(33): "قوله عز وجل:?وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ?.[ الأنعام:121] فيه أربعة تأويلات:
أحدها: المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها. قاله عطاء.
والثاني: أنها الميتة، قاله ابن عباس.
والثالث: أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله، ولا هم من أهل التسمية، يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه، حكاه ابن بحر.
والرابع: أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عليه عند ذبحه.
وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل:
أحدها: لا يحرم [سواء] تركها عامداً أو ناسياً، قاله الحسن، والشافعي.
والثاني: يحرم إن تركها عامداً، ولا يحرم إن تركها ناسياً، قاله أبو حنيفة.
والثالث: يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً، قاله ابن سيرين، وداود.
التفسير العلمي لأهمية التسمية والتكبير عند الذبح:
توصل فريق من كبار الباحثين وأساتذة الجامعات في سوريا إلى اكتشاف علمي يبين أن هناك فرقاً كبيراً من حيث العقامة الجرثومية بين اللحم المكبَّر عليه واللحم غير المكبَّر عليه، أي الذي قيل عند ذبحه:(بسم الله، الله أكبر)، وقام فريق طبي يتألف من 30 أستاذاً باختصاصات مختلفة في مجال الطب المخبري والجراثيم والفيروسات والعلوم الغذائية وصحة اللحوم والباثولوجيا التشريحية وصحة الحيوان والأمراض الهضمية وجهاز الهضم بأبحاث مخبرية جرثومية وتشريحية على مدى ثلاث سنوات لدراسة الفرق بين الذبائح التي ذكر اسم الله عليها ومقارنتها مع الذبائح التي تذبح بنفس الطريقة ولكن بدون ذكر اسم الله عليها.
وأكدت الأبحاث أهمية وضرورة ذكر اسم الله (بسم الله الله أكبر) على ذبائح الأنعام والطيور لحظة ذبحها، وكانت النتائج المدهشة والمفاجئة والتي وصفها أعضاء الطاقم الطبي بأنها: معجزات تفوق الوصف والخيال. وقال مسئول الإعلام عن هذا البحث (الدكتور/ خالد حلاوة): إن التجارب المخبرية أثبتت أن نسيج اللحم المذبوح بدون تسمية وتكبير من خلال الاختبارات النسيجية والزراعات الجرثومية مليء بمستعمرات الجراثيم، ومحتقن بالدماء؛ بينما كان اللحم المسمى والمكبر عليه خالياً تماماً من الجراثيم ومعقماً ولا يحتوي نسيجه على الدماء. ووصف حلاوة في حديثه لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) أن هذا الاكتشاف الكبير يمثل ثورة علمية حقيقية في مجال صحة الإنسان وسلامته المرتبطة بصحة ما يتناوله من لحوم الأنعام والتي ثبت بشكل قاطع أنها تزكو وتطهر من الجراثيم بالتسمية والتكبير على الذبائح عند ذبحها.(/6)
ومن جانبه قال الباحث عبد القادر الديراني: إن عدم إدراك الناس في وقتنا هذا للحكمة العظيمة المنطوية وراء ذكر اسم الله على الذبائح أدى إلى إهمالهم وعزوفهم عن التسمية والتكبير عند القيام بعمليات ذبح الأنعام والطيور" مما دفعني لتقديم هذا الموضوع بأسلوب أكاديمي علمي يبين أهمية وخطورة الموضوع على المجتمع الإنساني بناءاً على ما شرحه الأستاذ العلامة محمد أمين شيخو في دروسه القرآنية وما كان يلقيه على أسماعنا من أن الذبيحة التي لا يذكر اسم الله عليها يبقى دمها فيها ولا تخلو من المكروب والجراثيم، وأشار الديراني إلى أن فريق البحث اخذ أمر التكبير على الذبائح في البداية بشيء من البرود والتردد؛ ولكن ما إن بدأت النتائج الأولية بالظهور حتى ذهل الفريق وأخذ طابع الجدية والاهتمام الكبير ولم يتوقف سيل المفاجآت طيلة فترة البحث والدراسة، ولقد كان لذلك أثر إعجازي عظيم بدا من خلال العقامة الجرثومية للحوم التي ذكر اسم الله عليها أثناء الذبح وخلو نسيجها من الدماء بعكس اللحوم التي لم يذكر اسم الله عليها عند الذبح.
وحول طريقة البحث العلمي التي اتبعها الفريق المخبري والطبي قال الدكتور نبيل الشريف عميد كلية الصيدلة السابق في جامعة دمشق: "قمنا بإجراء دراسة جرثومية على عينات عديدة من لحوم العجول والخروف والطيور المذبوحة مع ذكر اسم الله وبدون ذلك، وتم نقع العينات لمدة ساعة في محلول الديتول(10 %) ثم قمنا بزراعتها في محلول مستنبت من الثيوغليكولات وبعد 24 ساعة من الحضن في محمم جاف بحرارة 37 درجة مئوية نقلت أجزاء مناسبة إلى مستنبتات صلبة من الغراء المغذي والغراء بالدم ووسط (أي. أأأببم. بي )، وتركت في المحمم لمدة 48 ساعة. وأضاف " بعد ذلك بدا لون اللحم المكبر عليه زهرياً فاتحاً؛ بينما كان لون اللحم غير المكبر عليه أحمر قاتماً يميل إلى الزرقة. أما جرثومياً فلوحظ في العينات المكبر عليها أن كل أنواع اللحم المكبر عليه لم يلاحظ عليها أي نمو جرثومي إطلاقاً وبدا وسط الثيوغليكولات عقيماً ورائقاً أما العينات غير المكبر عليها بدا وسط الاستنبات (الثيوغليكولات) معكر جداً مما يدل على نمو جرثومي كبير، وتابع انه: "بعد 48 ساعة من النقل على الأوساط التشخيصية تبين أن نمو غزير من المكورات العنقودية والحالة للدم بصورة خاصة من المكورات العقدية الحالة للدم" (34).
وجه الإعجاز:
مرة أخرى يفاجئنا العلم والعلماء بهذه النتائج الدقيقة والمذهلة -من خلال أبحاثهم الطويلة والشاقة- عن هذا التوافق بين نتائج أبحاثهم وما بين نصوص القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتكون هذه الآيات نوراً للمؤمنين وزيادة في إيمانهم، وفي المقابل تزيد الكافرين والذين في قلوبهم مرض رجساً إلى رجسهم، وتكون دليلاً للباحثين عن الحقيقة من غير المسلمين، وصدق الله القائل:?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ?.[التوية:124] فقد تكفل الله سبحانه بحفظ القرآن وأخبرنا فيه بأن آياته سبحانه مبثوثة في هذا الكون الفسيح من السموات والأرض والأنفس،قال تعالى: ?حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ! تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ?.[الجاثية:1-6] وأمرنا بالتفكر والتدبر لنطلع على هذه الآيات البينات لكي يتجدد إيماننا ونزداد يقيناً، وصدق الله العظيم القائل:?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ?.[فصلت:53] فسبحان الله العظيم عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
الحكم الشرعي في قطع النخاع:(/7)
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى« ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال»(35).وقال ابن عباس: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبيحة أن تفرس قبل أن تموت"(36).وعن ابن عباس: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبيحة أن تفرس يعني أن تنخع قبل أن تموت"(37) .وعن نَافِعٌ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْ النَّخْعِ يَقُولُ يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى تَمُوتَ"(38)، قوله: النَّخْع بفتح النون وسكون الخاء المعجمة فسره في الخبر بأنه: قطع ما دون العظم، والنخاع عرق أبيض في فقار الظهر إلى القلب يقال له: خيط الرقبة، وقال الشافعي: النخع أن تذبح الشاة ثم يكسر قفاها من موضع المذبح، أو تضرب ليعجل قطع حركتها. وأخرج أبو عبيد في الغريب عن عمر أنه نهى عن الفرس في الذبيحة ثم حكى عن أبي عبيدة أن الفرس هو النخع، يقال فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهي بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة، قال: ويقال أيضاً: هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالمخ وهو متصل بالقفا نهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك قال أبو عبيد: أما النخع فهو على ما قال وأما الفرس: فيقال هو: الكسر، وإنما نهى أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد ويبين ذلك أن في الحديث «ولا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق»(39)
قلت: يعني في حديث عمر المذكور وكذا ذكره الشافعي عن عمر ويكره إذا ذبحها أن يبلغ النخاع وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة. والاكتفاء بقطع الأوداج ولا يبلغ به النخاع وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة ولا بيان الرأس ولو فعل ذلك يكره؛ لما فيه من زيادة إيلام من غير حاجة إليها. وفي الحديث: «ألا لا تنخعوا الذبيحة» والنخع القتل الشديد حتى يبلغ النخاع(40). وقال الشافعي: وأحب في الذبيحة أن توجه إلى القبلة إذ أمكن ذلك وإن لم يفعل الذابح فقد ترك ما أستحبه له ولا يحرمها ذلك. قال الشافعي: نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النخع وأن تعجل الأنفس أن تزهق، والنخع: أن يذبح الشاة ثم يكسر قفاها من موضع الذبح لنخعه ولمكان الكسر فيه أو تضرب؛ ليعجل قطع حركتها فأكره هذا(41).ويكره أن يبين الرأس وأن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ النخاع وهو عرق يمتد من الدماغ ويستبطن الفقار إلى عجب الذنب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النخع ولأن فيه زيادة تعذيب فإن فعل ذلك لم يحرم لأن ذلك يوجد بعد حصول الذكاة وإن ذبحه من قفاه فإن بلغ السكين الحلقوم والمرئ وقد بقيت فيه حياة مستقرة حل لأن الذكاة صادفته وهو حي، وإن لم يبقَ فيه حياة مستقرة إلا حركة مذبوح لم يحل لأنه صار ميتاً قبل الذكاة"(42).
التفسير العلمي لمنع قطع النخاع:(/8)
قد يخطر بالبال أن طريقة الذبح التي شرعها لنا الإسلام لها من السلبيات ما يمكن أن تكون سبباً لطعن الطاعنين وإرجاف المرجفين وهو ما نراه من الحركات اللا إرادية للحيوان أثناء قطع الأوداج من الرفس والاضطراب والتلوي مما يوحي للناظر لأول وهلة أن هذا الحيوان يتأذى ويتألم بسبب الذبح. ولكن لنسمع رأي العلماء الغرب في هذه الحالة, يقول الدكتور جون هونوفر:اضغط على أي شخص أمامك في مكان ذبح الشاة تجده قد أغمي عليه بعد لحظات. وقد اكتشف العلم أن مراكز الإحساس بالألم تتعطل إذا توقف ضخ الدماء عنها لمدة ثلاث ثوانٍ فقط، لأنها بحاجة إلى وجود الأكسجين في الدم باستمرار. إن الجهاز العصبي لا يزال حياً، وما تزال فيه حيوية، ولم يفقد منه غير وعيه فقط. وفي هذه الحالة ما دمنا لم نقطع العنق فإننا لم نعتدِ على الجهاز العصبي فتظل الحياة موجودة فيه، لكن الذي يحدث في عملية الذبح بطريقة المسلمين أن يبدأ الجهاز العصبي بإرسال إشارات من المخ إلى القلب طالباً منه إمداده بالدماء لأنها لم تصل إليه، وكأنه ينادي: لقد انقطعت عني الدماء.. أرسل إلينا دماً أيها القلب، يا عضلات.. أمدي القلب بالدماء، أيها الجسم.. أخْرِج الدماء فإن المخ في خطر، عندها تقوم العضلات بالضغط فوراً، ويحدث تحرك شديد للأحشاء والعضلات الداخلية والخارجية، فتضغط بشدة وتقذف كل ما فيها من دماء وتضخها إلى القلب، ثم يقوم القلب بدوره بالإسراع في دقاته بعد أن يمتلئ بالدماء تماماً، فيقوم بإرسالها مباشرة إلى المخ، ولكنها ـ بطبيعة الحال ـ تخرج للخارج ولا تصل إليه، فتجد الحيوان يتلوى، وإذا به يضخ الدماء باستمرار حتى يتخلص جسم هذا الحيوان تماماً من الدماء، و بذلك يتخلص جسم هذا الحيوان من أكبر بيئة خصبة لنمو الجراثيم، وأخطر مادة على الإنسان أي أن الحيوان المذبوح يفقد الحياة خلال ثلاث ثوانٍ فقط إذا ذبح بالطريقة الصحيحة، وإن ما نراه في الحيوان من رفس وتشنج وما شابه ذلك هي من مؤثرات بقاء الحياة في الجهاز العصبي، ولا يشعر الحيوان المذبوح بها على الإطلاق.
وجه الإعجاز:
رأينا كيف نهى الشرع عن قطع النخاع [وهو ما يسمى بالحبل الشوكي] الممتد داخل فقرات العمود الفقري من الرأس وحتى آخر فقرة منه ووظيفة هذا الحبل هو نقل أوامر الدماغ إلى سائر أنحاء الجسم فإذا ما تعرض هذا الحبل إلى أي تشويه أو قطع فإنه يتوقف عن إيصال الأوامر لأنحاء الجسم وهو ما يسمى بالشلل، ومن هنا تتجلى أهمية هذا الجزء من الجسم والذي حفظه الله في مكان آمن- سواء في الحيوان أو الإنسان- من خلال فقرات العمود الفقري، وقد بين لنا الدكتور جون هنوفر العلاقة بين قطع النخاع وبين عملية ضخ الدم وهذا التبيين الواضح علمناه اليوم بعد مرور ألف وأربعمائة عام على الأوامر الشرعية التي أمرنا بها الإسلام أفلا يدل هذا على أن ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو من عند خالق عليم خبير بأحوال وكل دقائق هذا الخلق؟! حيث نطق بها رجل أمي في زمن لم تتوفر فيه أي من وسائل البحث والتجارب اليوم. بل تجلت هذه المفاهيم اليوم في عصر العلم والنهضة والتقنية؛ فحري بنا أن نؤمن وقد قامت الحجة علينا بما لا يدع مجالاً للشك أو الريب من أن محمداً هو رسول الله وأنه مرسل من رب رحيم يريد من عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً.
فوائد ينصح بها:
عملاً بحديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؛ والذي يقول فيه:« إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»(43)، فإنه يستحب القيام ببعض الأعمال قبل التذكية وأثنائها :
قال القرطبي: "قال علماؤنا: إحسان الذبح في البهائم الرفق بها فلا يصرعها بعنف، ولا يجرها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة، والقربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجهاز، وقطع الودجين والحلقوم، وإراحتها، وتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة، والشكر له بالنعمة، بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا. وقال ربيعة: من إحسان الذبح إلا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها"(44).
فإن أصحاب الخبرة ينصحون بالآتي:
(1) أن يكون الحيوان قد تم إراحته قبل الذبح على الأقل بـ12 ساعة وذلك لتجنب قلة النزف للذبيحة أو عدم جودة لحمها، وهذا المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "وليرح ذبيحته".
(2) يجب أن يشرب الحيوان كميات كافية من المياه قبل ذبحه وذلك لتقليل الميكروبات الموجودة بالأمعاء؛ وكذلك لتسهيل عملية السلخ ونزع الجلد، وهذا أيضاً من آداب الذبح الشرعي!.(/9)
(3) يجب كذلك تصويم الحيوان قبل الذبح بحوالي 12 ساعة؛ لتقليل كمية البكتريا الموجودة بالأمعاء، والتي تحدث مع عملية الهضم؛ لأن الحيوانات الصائمة يكون النزف فيها أفضل، ويكون شكل لحمها أفضل؛ علماً بأن نظام التصويم هذا لا يشكل أي تعب على الحيوان.
(4) أن تكون السكين حادة ونظيفة، هي وجميع أدوات الذبح والتقطيع؛ عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وليحد أحدكم شفرته»(45).
(5) أن يبدأ الذبح بسرعة وأن تمشي السكين على الرقبة دون انقطاع ثلاث مرات وبطريقة مستعرضة وموازية للرقبة وليست رأسية ولا يكون القطع على شكل وخز بل ذبح.
(6) يجب أن يكون القطع بالسكين (الذبح) ليس قريباً جداً من الصدر، أو قريباً جداً من الرأس؛ لأنه في هذه الحالة يكون قريباً جداً من حلقات القصبة الهوائية التي قد يؤدي الذبح منها إلى الاختناق قبل ذبح الحيوان بل يجب أن يكون الذبح في منتصف الرقبة تقريباً أو ما يساوي 12سم من نهاية الرأس(46).
ملحوظة هامة: وزن الجسم يعادل 13 مرة وزن الدم الموجود فيه: أي أن وزن الدم يعادل 1/13 من وزن الجسم، وعملية النزف أو الإدماء لا تفرغ دماء الذبيحة كلها ولكن تفرغ حوالي 2/3 من كمية الدم الموجود بالجسم حيث إن الكمية المتبقية هي جزء من تركيب العضلات والأنسجة.
مثال: إذا كان هناك خروف وزنه: (65 كجم) مثلاً فإن وزن الدم أو كميته بهذا الخروف = 65/13 = 5 كجم. كمية الدم التي يتم نزفها في حالة جودة الخروف صحياً= 5 × 3/2 = 3، وثلث لتر تقريباً.كمية الدم المتبقية في الأنسجة والأعضاء والعضلات= 5 ناقص 3 وثلث لتر تساوي 1 وثلثين. وطبقاً للقاعدة السابقة فإن الدم لا ينزف جيداً من الحيوانات المريضة بالأمراض المعدية والطفيليات والحيوانات المجهدة. والفترة المناسبة لترك الحيوان بعد ذبحه حوالي 5-10 دقائق.(47)
مسألة:
عن أبي سعيد قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين فقال «كلوه إن شئتم» وعن مسدد قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله ؟ قال: «كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه»(48).
أي الخارج من بطن أمه ميتاً إذا ذبحت أمه. إذ لا يظن بهم الجهل عما خرج حياً. فقوله: كلوه إن شئتم ظاهر في حل مثله. ودليل على أن المراد بقوله: (فإن ذكاته ذكاة أمه) أريد به: أن ما طيب أمه من الذبح طيبه هو. وهو مذهب الجمهور(49) يقتضي حصر ذكاة الجنين في ذكاة أمه فلا يحوج إلى ذكاة أخرى، ومعنى الكلام أن ذكاة الجنين تغني عنها ذكاة أمه فإن قلت فذكاة الجنين هي الذبح الخاص في حلقه هذا هو الحقيقة اللغوية فجعل هذه الذكاة عين ذكاة أمه إنما يصدق حينئذ على سبيل المجاز كقولنا: أبو يوسف أبو حنيفة، والأصل عدم المجاز، وهو خلاف الظاهر فكيف يقال: إن هذا اللفظ بوضعه يقتضي أن عين ذكاة الجنين هي عين ذكاة أمه ؟!
قلت: سؤال حسن، والجواب عنه يحتاج إلى جودة ذهن وفكر في فهمه بسبب النظر في قاعدة، وهي أن إضافة المصادر مخالفة لإسناد الأفعال فالإضافة تكفي فيها أدنى ملابسة ويكون ذلك حقيقة لغوية كقولنا: صوم رمضان وحج البيت، فنضيف الصوم لرمضان والحج للبيت، فتكون إضافة حقيقة ولو أسندنا الفعل فقلنا: صام رمضان بأن يجعل الشهر هو الفاعل أو البيت يحج لم يصدق ذلك حقيقة وينفر منه سمع السامع، فكذلك ينبغي هاهنا أن يفرق بين ذَكَّيْتُ الجنين وبين ذكاة الجنين فذكيتُ الجنين لا يصدق إلا إذا قطع منه موضع الذكاة وذكاة الجنين تصدق بأيسر ملابسة, وأحد طرق الملابسة أن ذكاة أمه تبيحه فمن هذا الوجه صار بينه وبين ذكاة أمه ملابسة تصدق أنها ذكاته، فيكون على التقدير ذكاة أمه هي عين ذكاته حقيقة لا مجازاً وهذا هو مقتضى قول النحاة عن العرب فإنهم قالوا: يكفي في الإضافة أدنى ملابسة كقول أحد حاملي الخشبة للآخر خذ طرفك، فجعل طرف الخشبة طرفاً له بسبب الملابسة وأنشدوا:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحره ... .
فأضاف الكوكب إلى الخرقاء؛ لأنها كانت تقوم لشغلها عند طلوعه.
وإذا قمت باستقراء ذلك وجدته كثيراً على وجه الحقيقة. فصح ما ذكرنا من إضافة الذكاة للجنين وأن الحديث يقتضي الحصر واستغنى الجنين عن الذكاة بسبب ذكاة أمه .
واعلم أن هذا الحديث يروى بالرفع في الذكاة الثانية وبالنصب، فتمسك المالكية والشافعية براوية الرفع على استغناء الجنين عن الذكاة وتمسك الحنفية برواية النصب على احتياجه للذكاة وأنه لا يؤكل بذكاة أمه، والتقدير عندهم ذكاة الجنين أن يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه فحذف المضاف مع بقية الكلام وأقيم المضاف إليه مقامه، فأُعْرِبَ كإعرابه وهو القاعدة في حذف المضاف.(/10)
والجواب عما تمسك به الحنفية من هذه الرواية أن هناك تقديراً آخر وهو: أن يكون التقدير: ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه، فحذف حرف الجر؛ فانتصبت الذكاة على أنها مفعول كقولك: دخلت الدار، ويكون المحذوف أقل مما قدره الحنفية، ويكون في هذا التقدير جمع بين الروايتين فيكون أولى من التعارض والتنافي بينهما، فيرجح بقلة المحذوف والجمع لا يبقى لهم فيه مستند على الروايتين ويكون حجة عليهم.(50)
والله تعالى أعلم
إعداد: قسطاس إبراهيم النعيمي
حرر بتاريخ15/05/2006م
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد
(1) – من موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة . .للإعجاز
(2) - أنضر لسان العرب (2/485).
(3) - الجامع لأحكام القرآن/محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله (2/210).
(4)- المرجع السابق (2/210).
(5) - الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق، والخطيب والمدرس الديني في جوامع دمشق
(6) - من موقع زغلول النجار.
(7)- روائع الطب الإسلامي ج3 تأليف الدكتور محمد نزار الدقر.
(8)- من موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
(9) - من موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
(10) - روائع الطب الإسلامي ج3 تأليف الدكتور محمد نزار الدقر.
(11)- تفسير القرطبي (2/210)
(12)- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ محمود الألوسي أبو الفضل / دار إحياء التراث العربي – بيروت (2/41) .
(13)- التحرير والتنوير لابن عاشور (1/491) .
(14)- تفسير فتح القدير(2/13).
(15)- الدكتور يوسف عبد الرشيد الجرف من موقع ( شباب لك شباب كل العمر ) .
(16)- أستاذ قسم البكتريا في مستشفي غيس هوسبيتال – المستشفى الرسمي – اكبر مستشفيات كوبنهاجن.
(17) - من موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
(18) - صحيح البخاري (3/1195) برقم (3106).
(19) - صحيح البخاري (1/65) برقم (141).
(20) - صحيح البخاري (5/2065) برقم (5061).
(21) - مسند أحمد (4/26) برقم (16375) قال شعيب الأرنؤوط اسناده صحيح على شرط الشيخين وفي سنن أبي داود بلفظ: ادن بني فسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك، (2/374) برقم(3766)وقال الألباني: صحيح.
(22) - صحيح البخاري(1/334) برقم(942).
(23) - صحيح مسلم(4/1728) برقم(2202).
(24) - سنن ابن ماجة(1/109) برقم(297) قال الشيخ الألباني: صحيح.
(25) - أنظر السلسلة الصحيحة (2/272) برقم(1277) قال ألألباني: حسن صحيح.
(26) - صحيح مسلم(3/1529) برقم (1929).
(27) - تقدم تخريجه.
(28) - تفسير ابن كثير (2/23).
(29) - تفسير ابن كثير (3/324).
(30) - المرجع السابق(3/326).
(31) - تفسير القرطبي (7/67) .
(32) - تفسير القرطبي (7/65) .
(33) - انظر النكت والعيون (1/436) .
(34)- من موقع منتديات القمر
(35) - سنن الدار قطني (4/283).
(36) - المعجم الكبير (12/248).
(37) - مسند ابن الجعد(1/492).
(38) - انظر فتح الباري (15/455).
(39) - انظر عمدة القاري( 21/122)
(40) - بدائع الصنائع ( 4/ 188) .
(41) - الأم(2/373) .
(42) - المهذب(1/457) .
(43)- صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري دار إحياء التراث العربي – بيروت تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي (3/1548)
(44)- تفسير القرطبي (6/46).
(45) ـ سبق تخريجه.
(45) -الدكتور يوسف عبد الرشيد الجرف من موقع ( شباب لك شباب كل العمر ).
(46)- المرجع السابق.
(47)- سنن أبي داود/دار الفكر/تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد(2/113).
(48) - سنن ابن ماجه/محمد بن يزيد أبو عبد الله القز ويني / دار الفكر – بيروت /تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (2/1067).
(50) - الشبكة الإسلامية-المكتبة-الفرق بين قاعدة حصر المبتدأ في خبره .(/11)
الإعجازز العلمي
الإعجاز: إثبات العجز، والعجز: ضد القدرة، وهو القصور عن فعل الشيء.
تعريف المعجزة: هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة. يظهر على يد مدعي النبوة موافقاً لدعواه.
تنوع المعجزة وحكمته: تنقسم المعجزة إلى قسمين:
القسم الأول المعجزات الحسية: مثل: معجزة الإسراء والمعراج ، وإنشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، تكثير الطعام القليل…
القسم الثاني: المعجزات العقلية: مثل الإخبار عن المغيَّبات، والقرآن الكريم.
وقد جرت سنة الله تعالى كما قضت حكمته أن يجعل معجزة كل نبي مشاكلة لما يتقن قومه ويتفوقون فيه. ولما كان الغرب قوم بيان ولسان وبلاغة، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى هي: القرآن الكريم.
تحدي القرآن للعرب وبيان عجزهم:
لقد تحدى الله العرب -وهم أهل الفصاحة- بل العالم بالقرآن كله على رؤوس الأشهاد في كل جيل بأن يأتوا بمثله، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33-34]. وقال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فعجزوا عن الإتيان بمثله.
ولما كبلهم العجز عن هذا، فلم يفعلوا ما تحداهم، فجاءهم بتخفيف التحدي، فتحداهم بعشر سور، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13-14].
ثم أرخى لهم حبل التحدي ، ووسع لهم غاية التوسعة فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة، أي سورة ولو من قصار السور، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... أخفض منطقة في الأرض
آية نزلت كانت سببا في إسلام بعض المشركين في شأن الروم والفرس . حدثت معركة بين الروم والفرس فانتصر الفرس على الروم وكان الفرس عباد النار والروم أهل كتاب ففرح المشركون لأنهم أهل أوثان بانتصار أهل الأوثان على أهل الكتاب من النصارى وحزن المسلمون .. فأنزل الله قرآنا يواسى به المؤمنين ويرد فرحة الكافرين قال الله تعالى:
"ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم"
يعني الروم هذه التي انهزمت ستنتصر في أقل من عشر سنين وسيأتي هذا النصر وسيفرح المؤمنون وبعده فجاء واحد من الكفار لما سمع هذا .. إلى أبي بكر وقال انظر ما يقول محمد ... قال : ما يقول ؟ قال : يقول: إن الروم تهزم الفرس قال : صدق . فما مرت سبع سنوات حتى تحقق وعد الله - جل وعلا - وانتصر الروم على الفرس وفرح المسلمون وكان ذلك في عام الحديبية ...هذه الآيات كانت معجزة للأولين في هذا الأمر الغيبي الذي رأوه بعد سبع سنين من إخبار القرآن به . فقال بعض الكفار الذين أسلموا : محمد عاقل وما هو مجنون , لقد جعل دينه كله ومستقبله كله والإسلام كله مرهون بانتصار دولة مهزومة إنه حدد زمنا قريبا يكون في حياته فلو أنه مرت عشر سنوات ولم تنتصر الروم راح الإسلام وراح القرآن وراح محمد !! لكن يراهن محمد هذا الرهان. لكن يحدد محمد والذي راهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه! هذا صنع الذي يحكم البشر فأسلموا ودخلوا في الإسلام !(/1)
قال الشيخ الزنداني التقيت مع واحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه البروفيسور "بالما" وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا جاء في زيارة وجاء ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل الارتفاعات والانخفاضات وأعماق البحار وكم طول الارتفاع وكم عمقه كله مبين في التضاريس بالمتر محسوب ... فلما جلس قلت له : عندنا عبارة في القرآن .. آية في القرآن تقول بأن منطقة بيت المقدس - حيث دارت المعركة- هي أخفض منطقة في العالم .. في أدنى الأرض .. لأن لفظ أدنى لفظ مشتق يأتي بمعنى أقرب أقول : أدنى إلى من الأخ .. أدنى بمعنى أقرب فأدنى تأتي بمعنيين بمعنى الأقرب ومعنى الأخفض . فقلت له: الله قال في أدنى الأرض فالمفسرون السابقون أخذوا المعنى الأول من أدنى : أقرب فقالوا منطقة إلى بلاد العرب منطقة الأغوار في البحر الميت فهي أدنى الأرض بالنسبة لجزيرة العرب , فقالوا : أقرب لكن الآية تشتمل على المعنى الثاني بمعنى الأخفض . وقلت له : هي أخفض (وأنا أعلم بأنها أخفض .. لكن أريده هو أن يقول فقال ذلك) . لكن لما عرف أنها من القرآن قال : ليست أخفض الأرض . قال : فيه منخفضات موجودة في هولندا , وتحت مستوى البحر ومنخفضات كذا وأخذ يتذكر أخفض المناطق في العالم . قلت له : أنا متأكد مما أقول .. استغرب الرجل وأنا أقول : أنا متأكد مما أقول .. هذه الكرة الأرضية التي فيها الارتفاعات والانخفاضات أدارها بسرعة فلما أدارها على منطقة بيت المقدس والمنطقة حولها وجد سهما طويلا خارجا من المنطقة ومكتوب بخط واضح أخفض منطقة في العالم ! فلما رآها قال : صحيح ! صحيح ! الأمر كما قلت .. إنها أخفض منطقة في الأرض .. هذا القرآن الكريم نزل بعلم الذي أحاط بكل شيء - سبحانه وتعالى. المصدر: " وهذا عصر الإيمان " للشيخ عبد المجيد الزنداني ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ...
...
... ... أسرار البحار
قال تعالى : " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام (سورة الرحمن الأيات 19-24)
المرجان : هذا نوع من الحلي لا يوجد إلا في البحار المالحة، أي أن البحرين المذكورين مالحان فالآية تتكلم عن بحر يخرج منه مرجان وبحر آخر يخرج منه مرجان. متى عرف الإنسان أن البحار المالحة مختلفة وليست بحرا متجانسا واحدا لم يعرف هذا إلا عام 1942.(/2)
في عام 1873 عرف الإنسان أن مناطق معينة في البحار المختلفة تختلف في تركيب المياه فيها .. عندما خرجت رحلة تشالنجر وطافت حول البحار ثلاثة أعوام وتعتبر هذه السفينة رحلة تشالنجر هي الحد الفاصل بين علوم البحار التقليدية القديمة المليئة بالخرافة والأساطير وبين الأبحاث الرصينة القائمة على التحقيق والبحث، هذه الباخرة هي أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها لقد أقامت محطات ثم بقياس نتائج هذه المحطات وجدوا أن البحار المالحة تختلف والحرارة والكثافة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين. وفي عام 1942 فقط ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت نتيجة لإقامة مئات المحطات البحرية في البحار فوجدوا أن المحيط الأطلنطي مثلا لا يتكون من بحر واحد بل من بحار مختلفة وهو محيط واحد لما جاءت مئات المحطات ووضعت ميزت .. هذه المحطات المختلفة أن هذا بحر مالح وهذا كذلك أيضا بحر مالح آخر .. هذا له خصائصه وهذا له خصائصه في إطار هذا البحر تختلف : الحرارة والكثافة والملوحة والأحياء المائية قابلية ذوبان الأكسجين خاصة بهذه المنطقة بجميع مناطقها هذان بحران مختلفان مالحان يلتقيان في محيط واحد فضلا عن بحرين مختلفين يلتقيان كذلك كالبحر الأبيض والبحر الأحمر وكالبحر الأبيض والمحيط الأطلنطي وكالبحر الأحمر وخليج عدن يلتقيان أيضا في مضايق معينة. ففي 1942 عرف لأول مرة أن هناك بحارا كاملة يختلف بعضها عن بعض في الخصائص والصفات وتلتقي، وعلماء البحار يقولون : إن أعظم وصف للبحار ومياه البحار : أنها ليست ثابتة ... وليست ساكنة ..أهم شيء في البحار أنها متحركة .. فالمد والجزر والتيارات المائية والأمواج والأعاصير عوامل كثيرة جدا كلها عوامل خلط بين هذه البحار وهنا يرد على الخاطر سؤال : فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تمتزج هذه البحار ولا تتجانس ؟ ! درسوا ذلك فوجدوا الإجابة : أن هناك برزخا مائيا وفاصلا مائيا يفصل بين كل بحرين يلتقيان في مكان واحد سواء في محيط أو في مضيق هناك برزخ وفاصل يفصل بين هذا البحر وهذا البحر .. تمكنوا من معرفة هذا الفاصل وتحديد ماهيته بماذا ؟ هل بالعين ؟ لا .. وإنما بالقياسات الدقيقة لدرجة الملوحة ولدرجة الحرارة والكثافة وهذه الأمور لا ترى بالعين المجردة
المصدر: " العلاج هو الإسلام " للشيخ عبد المجيد الزنداني
... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ...
... ...
... ... الحكمة من الحجاب
قال صلى الله عليه وسلم : "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها" (رواه أبو داود) . وقال أيضا : " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار" ) رواه الإمام أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه ).
لقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة أن تبرج المرأة وعريها يعد وبالا عليها حيث أشارت الإحصائيات الحالية إلى انتشار مرض السرطان الخبيث في الأجزاء العارية من أجساد النساء ولا سيما الفتيات اللاتي يلبسن الملابس القصيرة فلقد نشر في المجلة الطبية البريطانية : أن السرطان الخبيث الميلانوما الخبيثة والذي كان من أندر أنواع السرطان أصبح الآن في تزايد وأن عدد الإصابات في الفتيات في مقتبل العمر يتضاعف حاليا حيث يصبن به في أرجلهن وأن السبب الرئيسي لشيوع هذا السرطان الخبيث هو انتشار الأزياء القصيرة التي تعرض جسد النساء لأشعة الشمس فترات طويلة على مر السنة ولا تفيد الجوارب الشفافة أو النايلون في الوقاية منه .. وقد ناشدت المجلة أطباء الأوبئة أن يشاركوا في جمع المعلومات عن هذا المرض وكأنه يقترب من كونه وباء إن ذلك يذكرنا بقوله تعالى: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتينا بعذاب أليم" (سورة الأنفال : 32) ولقد حل العذاب الأليم أو جزء منه في صورة السرطان الخبيث الذي هو أخبث أنواع السرطان وهذا المرض ينتج عن تعرض الجسم لأشعة الشمس والأشعة فوق البنفسجية فترات طويلة وهو ما توفره الملابس القصيرة أو ملابس البحر على الشواطئ ويلاحظ أنه يصيب كافة الأجساد وبنسب متفاوتة.
الوضوء وقاية من الأمراض الجلدية
قال صلى الله عليه وسلم : "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" (رواه مسلم) وقال أيضا : "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (متفق عليه)(/3)
أثبت العلم الحديث بعد الفحص الميكروسكوبي للمزرعة الميكروبية التي عملت للمنتظمين في الوضوء .. ولغير المنتظمين : أن الذين يتوضئون باستمرار .. قد ظهر الأنف عند غالبيتهم نظيفا طاهرا خاليا من الميكروبات ولذلك جاءت المزارع الميكروبية التي أجريت لهم خالية تماما من أي نوع من الميكروبات في حين أعطت أنوف من لا يتوضئون مزارع ميكروبية ذات أنواع متعددة وبكميات كبيرة من الميكروبات الكروية العنقودية الشديدة العدوى .. والكروية السبحية السريعة الانتشار .. والميكروبات العضوية التي تسبب العديد من الأمراض وقد ثبت أن التسمم الذاتي يحدث من جراء نمو الميكروبات الضارة في تجويفي الأنف ومنهما إلى داخل المعدة والأمعاء ولإحداث الالتهابات والأمراض المتعددة ولا سيما عندما تدخل الدورة الدموية .. لذلك شرع الاستنشاق بصورة متكررة ثلاث مرات في كل وضوء أما بالنسبة للمضمضة فقد ثبت أنها تحفظ الفهم والبلعوم من الالتهابات ومن تقيح اللثة وتقي الأسنان من النخر بإزالة الفضلات الطعامية التي قد تبقى فيها فقد ثبت علميا أن تسعين في المائة من الذين يفقدون أسنانهم لو اهتموا بنظافة الفم لما فقدوا أسنانهم قبل الأوان وأن المادة الصديدية والعفونة مع اللعاب والطعام تمتصها المعدة وتسرى إلى الدم .. ومنه إلى جميع الأعضاء وتسبب أمراضا كثيرة وأن المضمضة تنمى بعض العضلات في الوجه وتجعله مستديرا .. وهذا التمرين لم يذكره من أساتذة الرياضة إلا القليل لانصرافهم إلى العضلات الكبيرة في الجسم ولغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والقدمين فائدة إزالة الغبار وما يحتوى عليه من الجراثيم فضلا عن تنظيف البشرة من المواد الدهنية التي تفرزها الغدد الجلدية بالإضافة إلى إزالة العرق وقد ثبت علميا أن الميكروبات لا تهاجم جلد الإنسان إلا إذا أهمل نظافته .. فإن الإنسان إذا مكث فترة طويلة بدون غسل لأعضائه فإن إفرازات الجلد المختلفة من دهون وعرق تتراكم على سطح الجلد محدثه حكة شديدة وهذه الحكة بالأظافر .. التي غالبا ما تكون غير نظيفة تدخل الميكروبات إلى الجلد . كذلك فإن الإفرازات المتراكمة هي دعوة للبكتريا كي تتكاثر وتنمو لهذا فإن الوضوء بأركانه قد سبق علم البيكتريولوجيا الحديثة والعلماء الذين استعانوا بالمجهر على اكتشاف البكتريا والفطريات التي تهاجم الجلد الذي لا يعتني صاحبه بنظافته التي تتمثل في الوضوء والغسل ومع استمرار الفحوص والدراسات .. أعطت التجارب حقائق علمية أخرى .. فقد أثبت البحث أن جلد اليدين يحمل العديد من الميكروبات التي قد تنتقل إلى الفم أو الأنف عند عدم غسلهما .. ولذلك يجب غسل اليدين جيدا عند البدء في الوضوء .. وهذا يفسر لنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إذا استيقظ أحدكم من نومة .. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا" كما قد ثبت أيضا أن الدورة الدموية في الأطراف العلوية من اليدين والساعدين والأطراف السفلية من القدمين والساقين أضعف منها في الأعضاء الأخرى لبعدها عن المركز الذي هو القلب فإن غسلها مع دلكها يقوي الدورة الدموية لهذه الأعضاء من الجسم مما يزيد في نشاط الشخص وفعاليته . ومن ذلك كله يتجلى الإعجاز العلمي في شرعية الوضوء في الإسلام
المصدر " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " محمد كامل عبد الصمد
قال الدكتور أحمد شوقي إبراهيم عضو الجمعية الطبية الملكية بلندن واستشاري الأمراض الباطنية والقلب .. توصل العلماء إلى أن سقوط أشعة الضوء على الماء أثناء الوضوء يؤدي إلى انطلاق أيونات سالبة ويقلل الأيونات الموجبة مما يؤدي إلى استرخاء الأعصاب والعضلات ويتخلص الجسم من ارتفاع ضغط الدم والآلام العضلية وحالات القلق والأرق ..ويؤكد ذلك أحد العلماء الأمريكيين في قوله : إن للماء قوة سحرية بل إن رذاذ الماء على الوجه واليدين - يقصد الوضوء - هو أفضل وسيلة للاسترخاء وإزالة التوتر ... فسبحان الله العظيم
المصدر : مجلة الإصلاح العدد 296 سنة 1994 " من ندوات جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ...
...
... ... الزمن بين العلم والقرآن
في إطار النشاط الثقافي لـ ( جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة ) بالقاهرة عقدت ندوة حول الزمن بين العلم والقرآن وقد تحدث فيها الدكتور منصور حسب النبي - رئيس الجمعية واستاذ الفيزياء بكلية البنات جامعة عين شمس.
في البداية أكد الدكتور حسب النبي أن القرآن الكريم يفتح للعلماء دائما آفاقا علمية جديدة للتفكير والتأمل, والعلم الصحيح لا بد أن يؤدي إلى الإيمان , ولا يمكن أن يحدث تعارض بين الحقائق العلمية والقرآن إلا إذا اخطأ العالم في نظريته أو اخفق المفسر في تأويله للآية القرآنية.(/4)
وأضاف أن القرآن تعرض لقضايا علمية كثيرة منها موضوع خلق الكون , الزمان , المكان والقرآن يشير إلى أن الله خلق الكون في ستة أيام والأيام عند الله هي فترات زمنية وليست أياما بالمعنى الأرضي لأن الزمن نسبي وليس مطلقا , وهو ما يتفق ومعطيات العلم الحديث والنظرية النسبية
وللزمن في حياة الكائنات الحية بل وغير الحية أهمية كبيرة , فكلنا يهتم بقياس الزمن كمحدد للعمر . وكذلك الشعب المرجانية والمواد المشعة كالراديوم واليورانيوم تنحل إشعاعيا لتتحول إلى رصاص . ولكل عنصر مشع معدل معين للانحلال . وقد استخدم العلماء بعض المواد المشعة كاليورانيوم والكربون 14 لتعيين عمر الأرض وعمر الحياة على الأرض . كما استخدم العلماء ظاهرة تمدد الكون واتساعه المستمر لتعيين عمر الكون وتناول د . حسب النبي ( عمر الكون ) باعتباره قضية لإثبات وجود الله , لأن الكون طالما أن له بداية زمنية محددة فلا بد أن يكون قد أوجده ( مبدىء ) لأنه لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه . وقد وجه القرآن للإنسان دعوة صريحة للبحث عن نشأة الكون وبداية الخلق، يقول الحق سبحانه :"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" ونستخلص من هذه الآية عدة إشارات مهمة . منها أن السير في الأرض سوف يرشدنا لبداية الخلق . والتعبير القرآني بالسير في الأرض وليس عليها يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض للتعرف على نشأتها ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها بل وعلى بداية الخلق بجميع أنواعه بما في ذلك الكون
ولقد ذكر القرآن في كثير من آياته أن الله تعالى خلق الكون في ستة أيام كما قي قوله سبحانه :"ولقد خلقنا السماوات و الأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" والمقصود هنا بالأيام : المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون وليست الأيام التي نعدها نحن البشر. بدليل عدم الإشارة إلى ذلك بعبارة (مما تعدون) في أي من الآيات التي تتحدث عن الأيام الستة لخلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى :(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) وقوله سبحانه :الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تذكرون. يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) وقد أجمع المفسرون على أن الأيام الستة للخلق قسمت إلى ثلاثة أقسام متساوية كل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن
أولا : يومان لخلق الأرض من السماء الدخانية الأولى , فالله تعالى يقول :(خلق الأرض في يومين) ويقول أيضا:(أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانت رتقا ففتقناهما) وهذا دليل على أن السماوات والأرض كانتا في بيضة كونية واحدة " رتقا " ثم انفجرت.
ثانيا : يومان لتسوية السماوات السبع طبقا لقوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) وهو يشير إلى الحالة الدخانية للسماء (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) بعد الانفجار العظيم بيومين , حيث بدأ بعد ذلك تشكيل السماوات وأبدع خلقهن سبع سماوات في فترة محددة بيومين آخرين.
ثالثا : يومان لتدبير الأرض جيولوجيا وتسخير لخدمة الإنسان , يقول سبحانه:( وجعل فيها رواسي من فوقها) وهو ما يشير إلى جبال نيزكية سقطت واستقرت في البداية على قشرة الأرض فور تصلبها بدليل قوله تعالى :(من فوقها) و أكثر من خيراتها بما جعل فيها من المياه و الزروع والضروع أي (أخرج منها مائها ومرعاها) ( وقدر فيها أقواتها) أي أرزاق أهلها ومعاشهم بمعنى أنه خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها استعداد لاستقبال الإنسان ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) أي في أربعة أيام متساوية بلا زيادة ولا نقصان للسائلين من البشر .
وأكد د . حسب النبي أن العلماء قد توصلوا باستخدام الانحلال الإشعاعي لليورانيوم وتحوله إلى رصاص في قياس عمر الصخور الأرضية والنيزكية – إلى أن تكوين القشرة الأرضية " تصلب القشرة " بدأ منذ 4,5 مليار سنة وأن هذا الرقم هو أيضا عمر صخور القمر. وقد استخدم العلماء حديثا الكربون المشع لتحديد عمر الحفريات النباتية والحيوانية وتاريخ الحياة على الأرض وبهذا فإن كوكب الأرض بدأ تشكيله وتصلب قشرته منذ 4500 مليون سنة وأن الإنسان زائر متأخر جدا لكوكب الأرض بعد أن سخر له الله ما في الأرض جميعا (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا )(/5)
ويؤكد العلم أن الإنسان ظهر منذ بضع عشرات الألوف من السنين دون تحديد نهائي , ويمكن أن نعتبر أن التشكيل الجيولوجي للأرض بدأ من إرساء الجبال النيزكية على قشرتها الصلبة وانبعاث الماء والهواء من باطن الأرض وتتابع أفراد المملكة النباتية والحيوانية حتى ظهور الإنسان . وقد استغرق ذلك قترة زمنية قدرها 4,5 مليار سنة والتي يشير إليها القرآن في سورة فصلت على أنها تعادل ثلث عمر الكون وحيث أن التدبير الجيولوجي للأرض منذ بدء تصلب القشرة الأرضية وحتى ظهور الإنسان قد استغرق زمنا قدره 4,5 مليار سنة فإنه يمكننا حساب عمر الكون قرآنيا بضرب هذه الفترة الجيولوجية في 3 على اعتبار أن الأيام الستة للخلق مقسمة إلى ثلاثة أقسام متساوية . وكل قسم يعادل يومين من أيام الخلق بالمفهوم النسبي للزمن . ومن ثم يصبح عمر الكون 13,5 مليار سنة.
وأشار د . حسب النبي إلى أن العلم لم يصل حتى الآن إلى تقسيم مراحل خلق الكون الستة . فالأبحاث تدور كلها حول تحديد عمر الكون منذ الانفجار العظيم الذي يسمى في الفيزياء الكونية بـ" Big Bang " ويقدر العلماء عمر الكون بطريقة مختلفة ووفق رؤى متعددة فهناك من يحدد عمر الكون حسب ظاهرة تمدد الكون والإزاحة الحمراء بـ 10 إلى 18 مليار سنة وبطريقتين نوويتين مختلفتين لكل من فاولار وهويل استنتجا أن عمر الكون 13 أو 15 مليار سنة.
المصدر " مجلة الإصلاح " العدد 325 سنة 15-7-1995 الموافق 17- صفر – 1416 ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ...
... ...
... ... زمزم
هل لماء زمزم ميزة على غيره في التركيب
نعم ماء زمزم له مزية من حيث التركيب, فقد قام بعض الباحثين من الباكستانيين من فترة طويلة فأثبتوا هذا, وقام مركز أبحاث الحج بدراسات حول ماء زمزم , فوجدوا أن ماء زمزم ماء عجيب يختلف عن غيره , قال المهندس "سامي عنقاوي " مدير– رئيس مركز أبحاث الحج .. عندما كنا نحفر في زمزم عند التوسعة الجديدة للحرم كنا كلما أخذنا من ماء زمزم زادنا عطاء .. كلما أخذنا من الماء زاد .. شَغّلنا ثلاث مضخات لكي ننزح ماء زمزم حتى يتيسر لنا وضع الأسس , ثم قمنا بدراسة لماء زمزم من منبعه لنرى هل فيه جراثيم ؟! فوجدنا أنه لا يوجد فيه جرثومة واحدة !! نقي طاهر , لكن قد يحدث نوع من التلوث بعد ذلك في استعمال الآنية أو أنابيب المياه أو الدلو يأتي التلوث من غيره ! , ولكنه نقي طاهر ليس فيه أدنى شيء . هذا عن خصوصيته ومن خصوصية ماء زمزم أيضا أنك تجده دائما .. ودائما يعطي منذ عهد الرسول صلى الله عليه سلم إلى اليوم وهو يفيض
كم تستمر الآبار التي غير ماء زمزم؟! خمسين سنة , مائة سنة .. ويغور ماؤها وتنتهي فما بال هذا البئر دائما لا تنفذ ماءه ؟
قال صلى الله عليه وسلم : (ماء زمزم لما شرب له ) أخرجه الإمام أحمد حق أنا علمت علما قاطعا بقصة رجل من اليمن – أعرفه فهو صديقي - هذا رجل كبير , نظره كان ضعيفا .. بسبب كبر السن وكاد يفقد بصره ! , وكان يقرأ القرآن وهو حريص على قراءة القرآن .. وهو يكثر من قراءة القرآن وعنده مصحف صغير .. هذا المصحف لا يريد مفارقته , ولكن ضعف نظره فكيف يفعل ؟ ! قال : سمعت أن زمزم شفاء فجئت إلى زمزم , وأخذت أشرب منه فرأيته أنا , أنا رأيته يأخذ المصحف الصغير من جيبه ويفتحه ويقرأ , أي والله يفتحه ويقرأ وكان لا يستطيع أن يقرأ في حروف هي أكبر من مصحفه هذا , وقال : هذا بعد شربي لزمزم . فيا أخي الكريم هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن الدعاء شرطه أن يكون صاحبه موقنا بالإجابة شرط أن تكون مستجيبا , شرطه أن تحقق شرط الجواب : (إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) - البقرة : 186
المصدر " أنت تسأل والشيخ الزنداني يجيب حول الإعجاز العلمي في القرآن والسنة " للشيخ عبد المجيد الزنداني
يسرية شفيت من قرحة قرمزية في عينها اليسرى بعد استعمالها ماء زمزم
يذكر أحد الإخوة المسلمين بعد عودته من أداء فريضة الحج فيقول : حدثتني سيدة فاضلة اسمها – يسرية عبد الرحمن حراز – كانت تؤدي معنا فريضة الحج ضمن وزارة الأوقاف عن المعجزة التي حدثت لها ببركات ماء زمزم فقال : إنها أصيبت منذ سنوات بقرحة قرمزية في عينها اليسرى نتج عنها صداع نصفي لا يفارقها ليل نهار , ولا تهدئ منه المسكنات .. كما أنها كادت تفقد الرؤية تماما بالعين المصابة لوجود غشاوة بيضاء عليها .. وذهبت إلى أحد كبار أطباء العيون فأكد أنه لا سبيل إلى وقف الصداع إلا باعطائها حقنة تقضي عليه , وفي نفس الوقت تقضي على العين المصابة فلا ترى إلى الأبد(/6)
وفزعت السيدة يسرية لهذا النبأ القاسي , ولكنها كانت واثقة برحمة الله تعالى ومطمئنة إلى أنه سيهيئ لها أسباب الشفاء رغم جزم الطب والأطباء بتضاؤل الأمل في ذلك .. ففكرت في أداء عمرة , كي تتمكن من التماس الشفاء مباشرة من الله عند بيته المحرم
وجاءت إلى مكة وطافت بالكعبة , ولم يكن عدد الطائفين كبيرا وقتئذ , مما أتاح لها – كما تقول – أن تقبل الحجر الأسود , وتمس عينها المريضة به .. ثم اتجهت إلى ماء زمزم لتملأ كوبا منه وتغسل به عينها .. وبعد ذلك أتمت السعي وعادت إلى الفندق الذي تنزل به
فوجئت بعد عودتها إلى الفندق أن عينها المريضة أصبحت سليمة تماما , وأن أعراض القرحة القرمزية توارت ولم يعد لها أثر يذكر
كيف تم استئصال قرحة بدون جراحة ؟! .. كيف تعود عين ميئوس من شفائها إلى حالتها الطبيعية بدون علاج ؟! وعلم الطبيب المعالج بما حدث , فلم يملك إلا أن يصيح من أعماقه الله أكبر إن هذه المريضة التي فشل الطب في علاجها عالجها الطبيب الأعظم في عيادته الإلهية التي أخبر عنها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : ( ماء زمزم لما شرب له , إن شربته تستشفي شفاك الله , وإن شربته لشبعك أشبعك الله – وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله , وهي هزمة جبرائيل وسقيا الله إسماعيل ) رواه الدارقطني والحكم وزاد
إخراج حصاة بدون جراحة
ومثل هذه الحكاية وحكايات أخرى نسمع عنها من أصحابها أو نقرؤها , وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على صدق ما قاله الرسول صلى الله عليه سلم عن هذه البئر المباركة زمزم
فيروي صاحب هذه الحكاية الدكتور فاروق عنتر فيقول
لقد أصبت منذ سنوات بحصاة في الحالب , وقرر الأطباء استحالة إخراجها إلا بعملية جراحية , ولكنني أجلت إجراء العلمية مرتين .. ثم عن لي أن أؤدي عمرة , وأسأل الله أن يمن علي بنعمة الشفاء وإخراج هذه الحصاة بدون جراحة ؟
وبالفعل سافر الدكتور فاروق إلى مكة , وأدى العمرة وشرب من ماء زمزم , وقبل الحجر الأسود , ثم صلى ركعتين قبل خروجه من الحرم , فأحس بشيء يخزه في الحالب , فأسرع إلى دورة المياه , فإذا بالمعجزة تحدث , وتخرج الحصاة الكبيرة , ويشفى دون أن يدخل غرفة العمليات
لقد كان خروج هذه الحصاة مفاجأة له وللأطباء الذين كانوا يقومون على علاجه , ويتابعون حالته
المصدر " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد ... ...
... ... ... ...(/7)
الإعداد الذاتي للداعية
أ. إبراهيم غرايبة ـ الإسلام اليوم
يعد الجانب الذاتي الجزء المهم و الأساس في برامج التربية و التدريب، و من دونه لا تنجح هذه البرامج و لا تحقق أهدافها، ذلك أن عجلة الحياة لا تتوقف؛ فتأتي في كل لحظة بتجارب و أفكار و خبرات و فرص لا يجوز فوتها.
والمنهج الإسلامي في التربية و العبادة يرى هذه الرؤية و الفلسفة، فالعبادات و المعاملات تنبثق من رقابة ذاتية و مسؤولية لدى المسلم مع الحرص والرغبة في نيل رضا الله تعالى، و الشعور بأنه يراقبه دائماً وينتظر الثواب و يخاف العذاب.
وتؤكد الآيات و الأحاديث دائماً على ضرورة وعي الأهداف والحكم من العبادات، فإنها من غير ذلك تكون أفعالاً جوفاء، قال – تعالى -: (أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فإن لم يحقق المسلم بالصوم التقوى؛ فقد أخل بالغرض الذي شرع الصوم من أجله، و إن كان يشارك المسلمين بالشعائر الظاهرة للصوم، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والنصب" وقال – تعالى -: (لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم)، وقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)، وقال - صلى الله عليه و سلم -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم تزده من الله إلا بُعداً".
وحين نفكر في تحقيق حكم العبادات و جوهرها؛ نجد أن الدافع الذاتي والحرص على الشعور بها هو الذي يجعل هذه العبادات و الشعائر ليست حركات شكلية؛ بل أداءً حياً يسري في حياة المسلم اليومية و في ضميره و روحه و عقله، فيصقله و يسمو به عن المعصية و الانحراف.
و يقدم الحديث النبوي تمثيلاً حكيماً مؤثراً حين يرينا كيف يختلف أثر الدعوة في الناس حسب طبائعهم و مشاربهم و صفاتهم الفردية؛ فالناس كما وصفهم الحديث في معاملة ما بعث الله به نبيهم - صلى الله عليه و سلم- كمثل الأرض و التربة: بعضها طيب فيقبل الماء فينبت الكلأ، و بعضها يحفظ الماء للناس ولا تقبله، و بعضها قيعان لا تحفظ ماء ولا تنبت زرعاً!.
و حين نستعير الأفكار السابقة، و نجعلها في برامج العمل؛ نؤكد أولاً أن منهاج العمل الإسلامي يعتمد غالباً في النجاح و الفاعلية على الجهد الذاتي والصفات الفردية لدى الدعاة، وهم يستفيدون من هذه البرامج بقدر استعدادهم وجهودهم الذاتية.
وحتى نعين الأخوة الدعاة على فهم هذه الفكرة في خطوات وبرامج عملية؛ فإننا نقدم الأفكار والاقتراحات التالية:
1 – يكف معظم الناس بعد سن الخامسة والعشرين بسبب مشاغل الحياة وزيادة المسؤولية، وضعف الحماس والتقدم في السن، وضعف الصحة عن ممارسة مواهب نافعة، يكفون عن المطالعة و القراءة و المشاركة في الأنشطة العامة، لكن على الداعية أن يلتزم مهما تكن حاله اقتصاص وقت مناسب للقراءة والمشاركة والرياضة والكتابة والأعمال الفنية والحرفية، فإنه إن لم يفعل سيجد نفسه بعد سنوات فقد صلته بالمجتمع المحيط والأجيال الصاعدة.
2 – أن يرسم الداعية خطة للثقافة الذاتية الجادة لتحقق فهماً للإسلام وأحكامه و المجتمع الواقع المحيط، و العمل الجماعي وأصوله وقواعده تعتمد على المصادر الأولية والبحث العلمي، و تتجاوز الكتب المبسطة، أو الكتب المختصرة المتكررة.
3 – أن يشترك الداعية في مكتبة عامة و يتتبع المجلات المختصة والنتاج الفكري الجديد في مجال واحد يختاره.
4 – غنيمة الفرص والسعات التي تتيحها المؤسسات التي يعمل بها أو يدرس، كالدورات مثلاً، و لا يزهد فيها أو تمنعه مشاغله أو ضعف همته و إرادته لتحول بينه و بينها.
5 – حيازة أكبر قدر ممكن من المهارات العملية و الفنية و الحرفية، كرخصة السواقة و الحاسوب و المقالة الصحفية و الأدبية و الرسم، أو المهارات اليدوية و الفنية كصيانة السيارات و الأجهزة و الحدادة و النجارة و كل ما ينفع المسلم و المسلمين، والسعي الدائم في الاعتماد على النفس في أداء الأعمال اليومية والاحتياجات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
6 – المشاركة في الدورات التي تعقدها مؤسسات شتى لقاء أجر، كالمراكز المهنية الأهلية المختلفة.
7 – إتقان لغة أجنبية يوسع الداعية ويزيد ثقافته.
و أخيراً فثمة أوصاف و شروط تلزم الداعية والمشاركين في العمل الإسلامي نذكر الدعاة بها ليسعوا إلى تحقيقها:
- رحابة الصدر و سعة الأفق.
- احتمال الرأي الآخر والرضى برأي الغالبية.
- فهم الأحداث الجارية و ربطها و تفسيرها.
- فهم المجتمع المحيط فهماً أصيلاً يحيط بتاريخه ونشأته وأسبابه الحضارية و الثقافية و الاقتصادية و الخدمات و المرافق.
- دراسة تاريخ الدعوة الإسلامية و مبادئها، و سبر أعماق العمل الإسلامي الاجتماعية و التنموية و النقابية.
- اغتنام الوقت وحسن تقسيمه.(/1)
- القدرة على الإدارة و التخطيط، و إدراك أصول العمل الجماعي وقواعده العلمية.
ولا بد أن يحقق الداعية نفسه جملة من الأخلاق و الشروط ذكرناها آنفاً، لكننا نوردها هنا ليفهم الداعية أنها إطار التكوين الذاتي و جوهره، وبدونها يفقد العمل معناه، ولا يختلف عن سواه من الأعمال، وهي: تقوى الله، وعبادته، والإنابة إليه، والشجاعة، و الكرم، والحلم، و الأناة، والقدوة الحسنة، وسائر ما وصى به ديننا الحنيف، وما تسعى به الدعوة الإسلامية؛ ليتحلى به أبناؤها: (و لباس التقوى ذلك خير)، (و اتقوا الله و يعلمكم الله).(/2)
الإعداد المادي للقوة العسكرية في الإسلام
والمقصود به إعداد الرجال المقاتلين والسلاح، كما يتسع لكل ما عرف ويعرف من آلات الحرب برية وبحرية وجوية، ويشمل كل ما يلزم لذلك من التعليم والتدريب، وإقامة المصانع الحربية، وإيجاد الخبرات العسكرية، والكفايات اللازمة لذلك(2).
إن الإسلام يوجب إعداد العدة وأخذ الأهبة يقول تعالى: وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم(الأنفال-60)، والإعداد يتطور بحسب الظروف والأحوال، فلفظ القوة يتناول كل وسيلة من شأنها أن تدمر العدو، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحث المسلمين على بذل الجهد على تعلم جميع الوسائل المؤدية إلى القوة العسكرية فقد مر عليه الصلاة والسلام على قوم ينتظلون فقال:"ارموا بين إسماعيل فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان" فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما لكم لا ترمون" قالوا: كيف نرمي وأنت فيهم؟ قال صلى الله عليه وسلم : "ارموا وأنا معكم كلكم"(3).
وقال عليه الصلاة والسلام: "ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنه من الحق، ومن ترك الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه"(4).
يقول النووي: (5) "هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه، وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر،والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك"(6).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(7): "الرمي في سبيل الله، والطعن في سبيل الله والضرب في سبيل الله كل ذلك مما أمر الله به ورسوله.
وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل من غيره، فالسيف عند مواصلة العدو، والطعن عند مقاربته، والرمي عند بعده أو عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك، فكلما كان أنكى في العدو وأنفع للمسلمين فهو أفضل"(8).
ولكي تتم القوة على مجابهة الأعداء وملاقاة الخصوم لا بد من التدريب على الأعمال الحربية حتى يمكن الدخول إلى خضم المعارك والمجاهد آمن من أنه سيقوم بما يستطيع من قتال في سبيل الله.
لقد وضع الإسلام الأسس والقواعد التي يقوم عليها إعداد القوة المادية، ومنها إعداد الرجال المقاتلين، وهذا الإعداد يقتضي التدريب على فنون الحرب تمشياً مع الواقع الملموس.
ويوجه الإسلام إلى الإعداد المادي في الأمور الآتية:
1ـ تقوية الأجسام
حث الإسلام على تعلم السباحة وركوب الخيل، والسباق في الجري، والسباق بين الفرسان على الخيل والإبل والمصارعة إلى غير ذلك من ألوان التربية البدنية والرياضية التي تبني الجسم القوي السليم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "...إن لبدنك عليك حقاً.. الحديث"(9)، وقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. الحديث"(10).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمتع بلياقة بدنية قوية، فكان يصرع الرجل القوي ويركب الفرس عارية فيروضها على السير، وكان يداعب من يحب المسابقة في العدو(11).
2ـ التدريب على السلاح والرماية
حث الإسلام على التدريب على الرماية بالقوس والنضال والسهام والطعن بالرمح والحربة والضرب بالسيف وهي أسلحة القتال المعروفة في ذلك الوقت، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه المحتسب في عمله الخير، والرامي، والممد به"(12).
3ـ تدريب الفرسان على ركوب الخيل والحرب بها
حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على التدرب على ركوب الخيل وعلى فنون الحرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من احتبس فرسا في سبيل الله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة"(13).
ومن صور تشجيعه صلى الله عليه وسلم على الفروسية وإجراء المسابقات(14): "أنه كان يسابق بين الخيل..الحديث"(15).
وتحتوي توجيهات الإسلام في التدريب على عدة مبادئ أهمها:
1ـ إتقان التدريب: يحث الإسلام على إتقان التدريب لبلوغ أعلى قدر من الكفاءة القتالية يرشد إلى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء... الحديث"(16).
ومن مقتضيات هذا المبدأ ألا يكتفي المسلم بالمستوى الذي بلغه، بل عليه أن يجود فيه ويرفع مستواه بالمزيد من التمرين والمعرفة، وهذه المسؤولية تقع على عاتق الفرد قبل أن تقع على عاتق قيادته.
2ـ استمرار التدريب: وهو من أهم مبادئ التدريب في الجيوش؛ لأن الاستمرار يحقق فائدتين كبيرتين، الأولى: هي المحافظة على مستوى كفاءة المقاتل ليكون قادراً على القتال بكفاءة في أية لحظة، والثانية: هي دعم الكفاءة والارتفاع بها إلى أعلى مستوى أفضل، وهذا يفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو فقد عصى"(17).(/1)
3ـ ملاحقة التطور في أسلحة القتال: فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد عني بملاحقة التطور في أسلحة القتال فكان حريصاً على تزويد جيش الإسلام بالأسلحة المعاصرة وعلى تدريب المقاتلين المسلمين عليها، ثم استخدمها في القتال(18).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
^ باحث وأكاديمي سعودي.
1ـ انظر: الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع ـ صالح بن سعد اللحيدان ـ ص(86 ـ 89).
2ـ انظر: عناصر القوة في الإسلام ـ السيد سابق ـ ص (223).
3ـ رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في باب قوله تعالى: وأذكر في الكتاب إسماعيل ص(961) رقم (3373).
4ـ رواه ابن ماجة عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في باب الرمي في سبيل الله (2-2811).
5ـ هو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي الحوراني النووي الشافعي، علامة الفقه والحديث، له تصانيف كثيرة في مختلف الفنون، توفي سنة (676هـ).
6ـ شرح صحيح مسلم للنووي (13-57).
7ـ هو: أبو العباس تقي الدين، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية الحراني الدمشقي.
8ـ الفتاوي (28-8 ـ 12).
9ـ رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في باب النهي عن صوم الدهر (2-813) رقم (1159).
10ـ رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في باب الأمر بالقوة وترك العجز (4-2052).
11ـ انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم الجوزية (3-95 ـ 99).
12ـ رواه ابن ماجة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه في باب الرمي في سبيل الله (2-940) رقم (2811).
13ـ رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في باب من احتبس فرسا في سبيل الله ص (579) رقم (1853).
14ـ انظر: المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية ـ محمد جمال محفوظ ص (278 ـ 281).
15ـ رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه في باب المسابقة بين الخيل (3-1491) رقم (1870).
16ـ رواه مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه في باب الأمر بإحسان الذبح (3-522) رقم (1918).
17ـ رواه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رض الله عنه في باب فضل الرمي (3-1522) رقم (1919).
18ـ انظر: المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية ـ محمد جمال الدين محفوظ ـ ص (281).(/2)
الإعلام الإسلامي الممارسة .. بين النظرية والواقع
د. محمد الحضيف 2/5/1427
29/05/2006
مدخل:
ظل هاجس الأسلمة، يلحّ على الإسلاميين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، على يد الرواد، من زعماء التجديد والإصلاح، من أمثال محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وحسن البنا، وآخرين. الاستعمار الأوروبي لمعظم البلاد العربية، عبر الاحتلال العسكري، والهيمنة السياسية، أفرز آثاراً تغريبية على مجمل نواحي الحياة، وبشكلٍ خاص.. الجوانب الاجتماعية والثقافية.
أدت سيطرة مظاهر الحياة الغربية، على المشهد الثقافي والاجتماعي في العالم العربي، والقطيعة شبه الكاملة مع التراث، من حيث هو محدّد للهوّية، ومعبّر عن أسلوب حياة الناس.. إلى دفع كثير من القيادات الفكرية، والرموز الثقافية، إلى التفكير الجاد، بطرح (بدائل) إسلامية. كانت هناك دعوات لأسلمة النظام السياسي، والمعاملات المالية والاقتصادية.. والثقافة، فظهرت الكتابات، التي تؤصّل دور الإسلام في السياسة، وبرزت أيضاً .. الدعوة إلى إسلاميّة المعرفة، وكذلك أسلمة الأدب.. وهكذا في فترة لاحقة، اتخذت هذه الدعوات، شكل العمل المؤسّسي، فنشأت الأحزاب السياسية، والبنوك، والمؤسسات التعليمية، وقامت رابطة للأدب الإسلامي.. بالإضافة إلى مؤسسات إعلامية، تَركّزَ نشاطها في البداية، على إنتاج وتوزيع دروس ومحاضرات، في الشريط المسموع (الكاسيت)، ومحاولات ضعيفة، لإنتاج أعمال (درامية) على الفيديو.
إشكالية المصطلح:
مثل غيره من الأنشطة الإنسانية، واجهت محاولات أسلمة العمل الإعلامي عقبة فنية، لها علاقة بتحديد الجانب التطبيقي للمصطلح .. ونطاق عمله. المشكلة التي واجهت مصطلح (الإعلام الإسلامي)، لم تقف عند تعريف ماهية النشاط وطبيعة الممارسة، بل تعدتها كذلك إلى وضع آلية لتطبيق المصطلح نفسه، ووضعه موضع التنفيذ .. بسبب تعقد النشاط الإعلامي، وتجاوزه مفهوم الممارسة الإعلامية البسيطة المتمثلة بمحاضر يتحدث من خلال شريط كاسيت.
منذ البداية .. واجه المهتمون بأسلمة الإعلام معضلتين: العنصر البشري، ومضمون الرسالة الإعلامية. السؤال الأساس .. كان:
من الذي (يمثل) الإعلام الإسلامي؟ هل يجب أن يكون (شيخاً) .. أو شخصاً محسوباً على المؤسسة الدينية بالضرورة؟
تحوُّل النشاط الإعلامي إلى صناعة معقدة .. متجاوزاً المفهوم البدائي الأول للإعلام، جعل تحقيق هذا الشرط أمراً مستحيلاً. أدرك الداعون إلى الأسلمة أنه لا يمكن توفر (شيخ) في كل نشاط إعلامي، وأنه إن كان هذا ممكناً، في البرنامج الحواري مثلاً، فإنه يصعب تحقيقه في الدراما.
مأزق العنصر البشري المؤهل، قاد .. كنتيجة حتمية، إلى التركيز على مضمون الرسالة الإعلامية. أصبحت هناك قناعة أن الجمهور يهتم ويتأثر بـ (الرسالة)، بدرجة أكبر، وأن (المؤدّي)، أو الناقل للرسالة، يأتي بالدرجة الثانية. لكنْ .. ثمة سؤال آخر، أنتجته القناعة الجديدة:
ما هي الرسالة الإعلامية، التي يمكن أن يُعَبّرَ عنها، بأنها (إعلام إسلامي)؟
هل هي النصوص القرآنية الكريمة وتفاسيرها، والأحاديث الشريفة وشروحاتها .. و (تمثيل) السلوكيات المرتبطة بهما، من خلال فن من فنون الإعلام؟ أم أن الإعلام الإسلامي: هو كل ما دخل في دائرة (الأخلاقي)، الذي أقره الإسلام، وحضّ عليه .. كما ورد في الأثر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .. الجدل حول هذه المسألة، خَلُصَ إلى نتيجة مفادها أن الإعلام الإسلامي:
هو كل قول أو ممارسة إعلامية، منضبطة بضوابط الشريعة، دون أن يكون هناك (نص ديني) يأمر بها مباشرة.
مفهوم الإعلام (النقي):
أحدث الانفجار الإعلامي.. الفضائي منه على وجه الخصوص، رد فعل سلبي، لدى شريحة اجتماعية كبيرة. في غضون فترة قصيرة، امتلأ الفضاء العربي بالعشرات من قنوات الأفلام والموسيقى، التي لا تخضع لأي معيار أخلاقي، بل تعتمد فقط على الإثارة ودغدغة الغرائز. البث الفضائي المنفلت من أي ضابط أخلاقي سبب صدمة للتيار المحافظ العريض، في الشارع العربي.
الشكوى من ( غربة ) الإعلام العربي عن المجتمعات العربية، وانتهاجه منحى (تغريبياً)، بعيداً عن ثقافة المجتمعات العربية، وهوية الأمة.. لم تعد مقتصرة على (الإسلاميين). المشاهد العربي، المحافظ بطبيعته، شعر كذلك، بخطورة ما تبثه تلك الفضائيات، على النسق الأخلاقي للمجتمع، وبآثاره المدمرة على الشباب من الجنسين، وتهديده لتماسك الأسرة.
الواقع (الملوث) للفضائيات العربية، والإعلام العربي بشكل عام.. من وجهة نظر الشريحة المحافظة، واشتمال مضامينه، و (الرسائل الإعلامية) التي يبثها على الكثير من التجاوزات غير الأخلاقية، رفع درجة الاستياء .. وزاد من وتيرة الدعوة لإعلام (نظيف) وَبنّاء constructive، أو ما صار يُطلق عليه، لدى بعض (السوسيولوجيين)، والإعلاميين.. بـ (الإعلام النقي) .(/1)
الإعلام النقي ، كما يسميه الداعون إليه .. ليس معنياً بالأسلمة، بمفهومها (المؤدلج)، وهو ما يدافع عنه المهتمون به، والداعون إليه.. ضد دعوى من يتصدى لأسلمة الإعلام، ويشكّكون بنوايا الداعين للأسلمة، بدعوى الحزبية والأدلجة. ينطلق مفهوم الإعلام النقي من مبدأ أن الفضائيات العربية، بوضعها الحالي تمارس تأثيراً سيئاً، واعتداءً منظماً، على منظومة الأخلاق العربية الإسلامية، وتسهم في تسطيح اهتمامات الإنسان العربي، وإعاقة نمّوه الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، إضافةً إلى تغييبه عن واقعه. إن الاحتجاج على ما تبثه الفضائيات العربية، والتحذير من خطرها على الدين والهوية .. كما يرى الداعون إلى إعلام عربي نقي، أمر مشروع، وله ما يسوّغه من واقع تلك الفضائيات.
الفضائيات الإسلامية:
حرية الاختيار Freedom of choice :
بعيداً عن جدل المصطلح، وأسلمة الإعلام، ومفهوم الإعلام النقي، يجب الإقرار ابتداءً، أن انطلاق البث الإعلامي الإسلامي قد حقق قيمة عليا .. هي مبدأ (حق الاختيار) للإنسان العربي.
من المتفق عليه أنه لا يمكن الحديث عن إعلام (حقيقي)، يعكس نبض الشارع، وتوجهات الناس، إلا في بيئة (ديمقراطية) حرّة، تكفل حق التعبير .. وحق اختيار مصدر المعلومات، الذي يعرّض الإنسان نفسه له. لقد صارت حرية الاختيار والتعبير، بعد البث الفضائي الإسلامي حقيقة قائمة، وحقاً أصيلاً للمشاهد العربي، المحافظ منه على وجه التحديد. أصبح بوسع ذلك المشاهد أن يختار نوع (الشاشة)، التي يجلس أمامها، والرسالة الإعلامية التي يستقبلها.
الإطار النظري Theoretical Framework :
تقوم العملية الاتصالية Communication Process، على عناصر أربعة: المرسل (SENDER)، والرسالة MESSAGE ، والقناة CHANNEL ، والمستقبل RECIEVER.
يمكن تفسير وفهم عمل الإعلام الإسلامي.. الفضائي منه تحديداً، من خلال إطار نظري يقوم على نظرّيتين لهما علاقة بعنصرين من عناصر العملية الاتصالية. الأولى لها علاقة بالمرسل ( SENDER )، أو المؤسسة الإعلامية، والثانية مرتبطة بالمستَقْبِل .. أو الجمهور (RECIEVER ).
النظرية الأولى:
نظرية المسؤولية الاجتماعية Social Responsibility Theory
إذا كانت نظرية الحرية قد ظهرت كرد فعل على تعسف النظم الشمولية، ومصادرتها لحق التعبير، من خلال ما عُرف في الوسط الإعلامي .. بنظرية السلطة Authority Theory، فإن نظرية المسؤولية الاجتماعية، ولدت بسبب الاستخدام الخاطئ لمفهوم الحرية، في وسائل الإعلام .. ذلك الذي مهدت له نظرية الحرية سوء الاستخدام لمفهوم الحرية، سواء كان من قبل ملاّك تلك الوسائل أو من قبل ( الإعلاميين ) أنفسهم. لقد أفرطت نظرية الحرية Freedom Theory في إعلاء حرية الفرد على حساب مصلحة المجتمع، وبالغت في منح الفرد الحق في التنصل والتحرر من أي مسؤولية اجتماعية، أو قيمة أخلاقية في ظل هذه النظرية، ومع تحول الإعلام إلى صناعة صار يُنظر إلى كل شيء، على أنه (سلعة) .. حتى المبادئ والقيم، وأصبح جني المال هدفاً بحد ذاته، ولم يعد للجشع الفردي حدود.
في مقابل ذلك، ترى نظرية المسؤولية الاجتماعية، أن للفرد حقاً، وللمجتمع أيضاً حقوقاً، بوصفه مجموعة أفراد لهم حقوقهم، وينخرطون في الوقت نفسه، في (مؤسسات) اجتماعية، تسعى لخدمة الصالح العام .. وتحتاج لذلك، إلى حماية من نزوات الأفراد، وتسلط الرغبات الفردية. على المستوى الإعلامي سعت نظرية المسؤولية الاجتماعية للحد من تحكم الرغبات الشخصية، وتأثير الآراء الفردية في نسق الحياة العامة للجماعة .. و لتحقيق توازن بين حرية التعبير، ومصلحة المجتمع: "حريتك تنتهي، حيث تبدأ حقوق الآخرين". تبدو معادلة دقيقة .. لكن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، هو الذي يحققها. إعلامياً: المؤسسة الإعلامية، تضطلع بمهام و وظائف اجتماعية جوهرية في حياة الناس.. ولها دور تربوي وتثقيفي، وليست مجرّد منبر لفرد، أو مجموعة أفراد، يمارسون من خلاله رغباتهم، عبر سطوة رأس المال.
وجد القائمون على الإعلام الإسلامي، أن نظرية المسؤولية الاجتماعية، هي الأقرب لتمثيل الفكرة الإسلامية إعلامياً، والأكثر تعبيراً عن مفهوم الإعلام، الذي يحمل رسالة، وملتزم أخلاقياً.. وهو ما يسعون لتطبيقه في عالم الواقع لكبح جماح الانفلات الأخلاقي. وهي كذلك النظرية التي يمكن من خلالها تحقيق الصالح العام، ولجم طغيان الأهواء الفردية.
النظرية الثانية:
نظرية الاستخدامات والإشباع Uses and Gratification Theory
مع ازدهار صناعة الإعلام، اعتمد بعض العاملين في مجال الإعلام، على هذه النظرية، لتسويغ السياسة الإعلامية التي ينتهجونها .. إنتاجاً وممارسة. تقوم النظرية على تفسير سلوك الجمهور تجاه وسائل الإعلام، على أساس من استخدام الأفراد للوسائل، وما يحققه استخدامهم لها من إشباع نفسي وفكري.(/2)
جاءت هذه النظرية لتقلب المعادلة كما يقال. كان الجزء الكبير من بحوث الإعلام، والدراسات، يتناول تأثير وسائل الإعلام في الجمهور، عبر (الرسائل) الإعلامية، ويركز على:
ماذا (يصنع الإعلام) بالناس؟
نظرية الاستخدامات والإشباع، طرحت السؤال بشكل معاكس:
ماذا (يصنع الناس) بوسائل الإعلام؟
بناء على النظرية، فإن اهتمامات أفراد الجمهور، وعادات المشاهدة عندهم، والغرض الذي يعرضون أنفسهم لوسائل الإعلام من أجله، هو الذي يحدد ما يُنْتَجْ .. أو يُعْرَضْ في وسائل الإعلام. الزعم كان، أن المؤسسات الإعلامية، ووسائل الإعلام، لا (تتعمد) إنتاج وبث مواد إعلامية بعينها. إنها فقط .. (تساير) رغبة المشاهد وميوله، الذي يطلب هذا النوع من البرامج، ويستخدم وسائل الإعلام للحصول عليها.. ليتحقق له الإشباع.
مفهوم نظرية الاستخدامات والإشباع، هو الذي روّج فيما يبدو لمقولة شعبية سادت في الأوساط الإعلامية العربية .. وهي : "الجمهور عاوز كده" ! كانت هذه العبارة تُقال، في سياق (الدفاع) عن موجة من البرامج الهابطة والمسفة، غمرت، وما زالت تغمر وسائل الإعلام العربية.
أثبتت تجربة الإعلام الإسلامي، وتنامي الشريحة المهتمة به، من خلال توظيف نظرية الاستخدامات والإشباع أن المشاهد العربي ليس مجرد كائن غرائزي .. يلهث خلف الترفيه الرخيص، والإثارة العارية. أثبتت كذلك، زيف مقولة إن "الجمهور عاوز كده". إنه لمّا امتلك حق الاختيار، استخدم الوسيلة الإعلامية، في تحقيق إشباع نفسي وفكري، سامٍ ومتحضر.. بعيداً عن سطوة الغريزة، وبرامج التسطيح الفكري، وعروض الترفيه الهابطة التافهة.
المعيار الأخلاقي:
يحكم العمل الإعلامي، من منظور إسلامي، معايير أخلاقية صارمة. القاعدة العامة التي تحكم أي نشاط بشري، على أساس من هذا المنظور هي:
الممارسة ليست غاية بحد ذاتها، بل بما تحققه من (فضيلة) Virtue. كما أن الممارسة نفسها.. إذا كانت صحيحة، تُعدّ نوعاً من العمل الصالح Good Deed، الذي ينال المسلم بسببه، الأجر من الله.
الفضيلة هنا، معنى عام .. لكل ما دعت إليه الشريعة، وما تراه حسناً، من قول أو فعل. وهي كذلك .. أي الفضيلة، هَدَف وغَايةَ العمل الإعلامي الإسلامي، لكن هذه الغاية، لا تُحقّق بأي وسيلة. هذه الرؤية للعمل الإعلامي خضعت لنقاشات طويلة، وتبلورت عن معيار أخلاقي، يحدد طبيعة عمل الوسيلة الإعلامية، وشكل الممارسة الإعلامية. تمحور مفهوم المعيار الأخلاقي .. بشكل رئيس حول مسألتين لهما علاقة بالوسيلة الإعلامية.. من حيث هي (قناة) medium، ومن حيث هي (رسالة) message. هاتان المسألتان هما: المرأة والفن.
المرأة:
تحتل قضية المرأة .. الصدارة في أي مسألة خلافية بين الإسلاميين وغيرهم. لا يمكن فهم أصل الخلاف .. الذي يؤدي إلى سوء الفهم دون معرفة موقع المرأة في الشريعة الإسلامية، ورؤيتها للدور الذي تضطلع به في الأسرة والمجتمع المسلم .. ثم مفهوم الحلال والحرام، في العلاقة بين الرجل والمرأة.
لا ينظر الإسلام إلى المرأة -بعكس ما يظنه كثيرون- على أنها كائن أقل من الرجل، وعضو منتقص الحقوق. في واقع الأمر، تمنح الشريعة الإسلامية المرأة كثيراً من الحقوق في الحياة العامة. بل إنها في بعض الجوانب لها من الحقوق أكثر مما للرجل.
تثير حماية الإسلام للمرأة، والضوابط التي يضعها للحيلولة دون استغلالها علامات استفهام كبيرة. شرح العلاقة بين الرجل والمرأة، والأسئلة التي تثيرها طبيعة دور كل منهما.. كما قرره الإسلام لا يمكن الإجابة عنها، من خلال عزوها إلى نسبية ثقافية، تصوغ تلك العلاقة، وتحدد ذلك الدور. قاعدة الحلال والحرام في الإسلام لا تخضع لمفهوم النسبية الثقافية، بل تأخذ الأحكام وفق هذه القاعدة أبعاداً قطعية نهائية بحيث لا يمكن الالتفاف عليها تحت أي مسوّغ.
العلاقة بين الرجل والمرأة، واضحة الحدود والمعالم، مثلما أن دور المرأة في المجتمع واضح ومحدد. سوء الفهم ، حول موقف الإسلام من المرأة، والدور الذي حدده لها ناشئ من عملية إسقاط مفردات نظام ثقافي مغاير، على مجتمعات إسلامية تشكلت وفق ثقافة لا تقبل تمييع الحدود بين الجنسين، ولا تسمح بتداخل أدوارهما.
واقع المرأة -على الأغلب- في وسائل الإعلام حالياً، ينطلق من فلسفة صناعة الإعلام القائمة في معظمها على استغلال المرأة فيما يشد الرجل إليها.. وهو تحديداً جسدها. توظيف المحسوس لدى المرأة لجذب الرجل.. يرفضه الإسلام؛ لأنه يلغي كينونة المرأة، ويحوّلها إلى (شيء) Subject، ويزدري قيمتها الإنسانية. حدود الحلال(/3)
والحرام، كما يقررها الإسلام، تمنع إيجاد أوضاع تشجع على استغلال المرأة، أو تدفعها لتجاوز الحدود، التي وُضعت لحمايتها .. تحت أي ذريعة. الإسلام كذلك، قرر شكل وإطار العلاقات بين الرجل والمرأة، ومستوى الاتصال والتواصل بينهما .. وحدد بشكل قاطع دور كل واحد منهما. على أساس من ذلك لا يمكن (افتراض) علاقة من أي نوع بينهما، غير ما هو محدد أساساً، ولا اختلاق أدوار، غير التي رسمت لكل منهما .. ابتداء. لأنه لا مكان لعلاقة (متخيّلة) ، ولا لأدوار (مفترضة) .. في مسائل الحلال والحرام.
برزت (مشكلة) المرأة في وسائل الإعلام العربية، حين نظر لطبيعة مشاركتها، وفق منظور ثقافي دخيل، وعندما تم (تَشْيِيئهَا) .. وفق ذلك المنظور، فصار يمكن عرضها، ضمن سلوك استهلاكي. فهي يجب أن تظهر بشكل وهيئة مقبولة .. للرجل. وهي كذلك، يجب أن تكون ضمن (رسالة إعلامية)، تشتمل على إغراء بمتابعتها، من قبل الرجال. المرأة في الإعلام الإسلامي، غير مقبول أن يتم تحويلها إلى شيء، أو (سلعة) .. يحكمها قانون العرض والطلب. ظهور المرأة في الإعلام الإسلامي، محكوم بالضوابط العامة للشريعة، التي تحدد دورها في الحياة اليومية. مثلما أنه لا يمكن وجود ممارسة (مفترضة) للمرأة في الحياة العامة، غير ما قررته الشريعة لها، فإنه كذلك، لا يمكن الحديث عن (ممارسة إعلامية) للمرأة، في ظل ظروف وأوضاع.. غير تلك التي تمارسها في حياتها اليومية، المنضبطة بأحكام الشريعة. هذا الواقع، وضع حدوداً وضوابط ، على عمل المرأة، وظهورها في وسائل الإعلام. تتسع هذه الحدود وتضيق ، بقدر ما تقترب المرأة، أو تبتعد.. عن أحكام الإسلام.
الإعلام الإسلامي أيضاً، بوصفه نشاطاً بشرياً لأفراد مسلمين، محكوم بقاعدة الحلال والحرام .. التي يؤمن بها أولئك الأفراد.. ولا يستطيع أن يخرج عليها، ليظل يحمل صفة الإعلام الإسلامي، ويبقى القائمون عليه، يوصفون بأنهم مسلمون ملتزمون في ممارستهم الإعلامية، بما في ذلك رؤيتهم لدور المرأة في الإعلام.
الفن:
الفن للفن.. أو الفن للرسالة ..؟
النقاش ما زال قائماً .. وسيبقى ، حول مسألة أن للفن قيمة قائمة بذاتها، خارج أي سياق ثقافي. يجادل الذين يؤمنون بمبدأ "الفن للفن" .. أن الفن يجب ألاّ يخضع لأي قيد أخلاقي، وأن يكون معبراً عمّا يسمىّ (الحقيقة) الإنسانية، في شكلها الأول. بناء على رأي هؤلاء، الأديان، والقوانين الأخلاقية التي يضعها الإنسان، أشياء محدثة وليست قديمة، تنطلق في تقييد الفن بضوابط أخلاقية .. بدافع من طبيعتها المؤدلجة. الفن.. على ضوء هذه الرؤية، هو المعبّر عن روح الإبداع التي لا تعترف بحدود ولا قيود من أي نوع. أدلجة الفن بإخضاعه للمعايير الأخلاقية- كما يقولون- يؤدي إلى خنق الإبداع . النحات مثلاً .. برأيهم، الذي ينحت جسداً عارياً، يعرض إبداعاً و(فناً) Art، وليس معنياً بمفهوم (الإباحية) Pornography، الذي ترفضه المعايير والضوابط الأخلاقية. إنه يقدم (رسالة) جمالية.. ليس أكثر. يضيف هؤلاء كذلك، أن المعيار الأخلاقي نسبي، يختلف من ثقافة لثقافة، ومن فرد لآخر، داخل الثقافة الواحدة.
مبدأ الفن لأجل الفن، فتح الباب لممارسات، وسلوكيات كثيرة فيها تجاوز لمسلمات أخلاقية واجتماعية .. كلها صار يدرجها أصحابها تحت مفهوم الفن.
في الإعلام الظاهرة كانت أوضح؛ إذ انتهكت كثيراً من القطعيات الدينية والأعراف الاجتماعية، وتم التعدي على محرمات دينية، أو التقليل من رموز مقدسة.. باسم الفن والإبداع.
مقابل الفن لأجل الفن وُجدت دعوة: الفن للرسالة. يؤمن أصحاب هذه الرؤية بالقيمة الجمالية للفن.. وأن الجمال قيمة أخلاقية بحد ذاته. لكن أنصار هذا الاتجاه يرون أن الفن إذا تجرّد من رسالته الأخلاقية، واتكأ على الذائقة الفطرية فقط في تقديم الجمال.. يهبط إلى مستوى العرض الغريزي، الذي لم تهذبه الأخلاق التي جاءت بها الرسالات السماوية، أو دَعتْ إليها الفلسفات الأخلاقية. الفن بوصفه عملاً إبداعياً، ليس فعلاً مجرداً من أي قيمة. كل عمل يحمل رسالة، وكل رسالة تنطوي على قيمة. الترفيه مثلاً .. رسالة إعلامية، وممارسة تشتمل في جوهرها على إبداع، وفي ثناياها يوجد ثمّة (قيمة). إذاً .. لا يوجد ترفيه بريء، ولا توجد (رسالة) لا تحمل قيمة. كل رسالة إعلامية تحتوي بالضرورة - ضمن أشياء أخرى- على مجموعة قيم Value-Loaded Messages.(/4)
هذه الفلسفة هي ما يقوم عليه مبدأ: الفن من أجل الرسالة. القائمون على الإعلام الإسلامي، يصفونه بأنه (إعلام رسالي) . ضمن هذا الوصف، كل أنشطة الإعلام يجب أن تحمل في طياتها رسالة. هذه الرسالة.. هي في جوهرها رسالة الإسلام.. أو رسالة من (رسائل) الإسلام. الفن .. بصفته أحد أهم الممارسات الإعلامية، سواء كان دراما، أو ترفيه، لا يخرج.. من وجهة النظر الإسلامية، عن هذه القاعدة: "الفن من أجل الرسالة". الرسالة الإعلامية الإسلامية كذلك، لابد أن تُؤَدّى من خلال الوسائل المشروعة. قاعدة الحلال والحرام لا تغيب، بل تحكم مضمون الرسالة .. (القيمة التي تحملها)، مثلما تحكم الوسيلة التي تنقل الرسالة. الوسيلة هنا، ليست فقط الوسيط Medium، الذي يحمل الرسالة، بل كذلك الآلية التي يتم التعبير عن الرسالة من خلالها، سواء كان نصاً Text، أو صورة Picture. معالجة قضية تتناول دور المرأة في المجتمع مثلاً، لا تتم من منظور الإعلام الإسلامي من خلال سيناريو، يشتمل على (نص) و (صورة) ، لعلاقة متخيّلة (درامياً)، بين رجل وامرأة .. لا يمت أحدهما للآخر بصلة.
سؤال الهوية:
مسألة ( الهوية )، هي أبرز ما تثيره دعوات الأسلمة، وما لفتت النظر إليه تجربة الإعلام الإسلامي، من خلال البث الفضائي. هناك ملمحان في هذه المسألة. الملمح الأول، له صلة بالدين والمنظومة الأخلاقية، والثاني له علاقة باللغة. تتعرض الأمة لخطر استلاب حضاري، يتهدد هويتها. يحدث هذا، من خلال ممارسة إعلامية، ساهمت في إضعاف صلة الأجيال العربية بدينهم.. وتمردهم على نظامه الأخلاقي، عبر بث فضائي مكثف، فيه تجاوز كثير وكبير، لكل ما هو ثابت وأخلاقي. صنعت تلك الفضائيات كذلك، قطيعة بين تلك الأجيال، ولغتها الأم.. من خلال طغيان العاميات المحلية الهجينة، واللغة الأجنبية على اللسان العربي. أورث هذا الواقع وضعاً قريباً من حال فقدان الهوية Miss of identity، بسبب آثاره السلبية على الدين واللغة.
الدين والمنظومة الأخلاقية:
انعزل الإسلام في الفضائيات العربية، في برنامج (ديني) أسبوعي أو يومي، لشيخ يجلس أمام الكاميرا، يتحدث ساعة من الزمن، في شؤون لا علاقة للناس بها. إلى جانب البرنامج الديني، تمتلئ ساعات البث الأخرى، التي قد تمتد إلى أكثر من (20) ساعة، بكل ما هو غير ديني، وأحياناً (غير إسلامي). إبتداء من الأفلام الأجنبية المترجمة، أو المدبلجة، وانتهاء بأغاني (الفيديو كليب). تمتلىء هذه الأفلام بكثير مما يناقض الإسلام فكرياً وأخلاقياً.. وأحياناً يسخر من بعض قيمه وتعاليمه. بل إن بعض هذه الأفلام .. خاصةً الأفلام المترجمة والمدبلجة تعبر عن موقف ضدّي، لمباديء الإسلام حين تروج لأسلوب حياة يصادم الأخلاق العربية الإسلامية في أساسها، مثل العرض (المحايد) للمشاهد المخلة، والعلاقات المحرمة، والخيانة الزوجية، ونكاح المحارم. أغاني الفيديو كليب التي أصبح لها قنوات عربية، مستقلة بذاتها، ليست إلا عرضاً رخيصاً ومباشراً لأجساد النساء، ولمشاهد جنسية فاضحة .. وتهييجاً فجاً وساقطاً، لغرائز الشباب.
إضعاف الوازع الديني، وانتهاك المحرمات، الذي أصبح سمة لازمة، لغالب البث الفضائي العربي .. احياناً بذرائع سياسية، باسم تجفيف منابع التطرف- أوجد حالاً من فقدان الهوية، وأفرز وضعاً أخلاقياً هشاً، تفشت في ظله الجريمة الأخلاقية. لقد تشكلت، بفعل هذه الفضائيات (ثقافة) موازية .. غير جوهرية، على خصام مع جوهر الثقافة الأصلية. لم يعد معظم الشباب العربي، على وجه الخصوص، يعبر في سلوكه.. عن ثقافة عربية شرقية .. محافظة، فضلاً عن أن تكون إسلامية. كما أن (القيم) الغربية التي اكتسبها، من تعرضه للفضائيات العربية، لم تجعله يتحلى بصفات الشخصية الغربية (الجادة)، التي حققت إنجازات، على الصعيد الفكري والتقني. التحلل الأخلاقي للمجتمعات الغربية وآثاره على النظام الأسري، والنسق الاجتماعي.. إضافة إلى تفشي الأمراض، الناتجة عن العلاقات الجنسية المحرمة، أصبح أكثر مظاهر الحضارة الغربية حضوراً، في المجتمعات العربية.
المهتمون بالإعلام الإسلامي، بعد مطالعات عميقة، لتأثير وسائل الإعلام على الجمهور .. مما ورد في الدراسات الكثيرة والمكثفة، التي أجريت في المجتمعات الغربية نفسها .. أدركوا الدور المدمّر لوسائل الإعلام، بما تبثه من رسائل إعلامية، على المتلقي العربي، خصوصاً ثوابته وقيمه الدينية. لم يعد قولاً جزافاً، الحديث عن(/5)
وجود غربة حقيقية عن تعاليم الدين في أوساط الشعوب العربية.. ساهمت الفضائيات العربية، بشكل كبير فيها. بل إن هذا الواقع أفضى إلى نشوء تيارات شبابية متطرفة نزعت إلى العنف للتصدي لما تعتقد أنه عملية تدمير مقصودة لمنظومة الأمة الأخلاقية، وتهديد لوجودها. هذه الحقيقة هي ما دفع بعض الجهات والأفراد، لتبني عمل إعلامي إسلامي مؤسساتي، يأخذ على عاتقة المحافظة على هوية الأمة، ويصون أبرز مقومات وجودها .. وذلك بحماية دينها ومنظومتها الأخلاقية، من هجمة (ثقافة) الفضائيات العربية.
اللغة:
اللغة وعاء الحضارة، وأَحَد أهمّ مظاهر الهوية، وهي كذلك، عنوان شخصية الأمة .. ومن أهم أسباب وحدتها. حوت اللغة العربية ميراث الأمة الحضاري، وساهمت في حفظ وحدتها الفكرية والجغرافية لقرون طويلة. تتراجع اللغة العربية الآن، بشكل كبير، على ألسنة أبنائها، أمام سيطرة اللهجات العامية المحلية، ومنافسة لغة هجين.. خليط من بعض كلمات عربية، وكثير من مفردات إنجليزية. تساهم الفضائيات العربية بشكل رئيس في تكريس هذا الوضع الكارثي للغة العربية؛ إذ تكاد تكون كل البرامج الناطقة بـ (العربية)، تتحدث بهذه العاميّات، أو باللغة الهجين. يستوي في ذلك .. البرنامج الاجتماعي، أو السياسي. أما الدراما (العربية) فكلها بلا استثناء ناطقة بالعامية.
على الرغم من أن العالم العربي ينتظم سياسياً في جامعة الدول العربية، التي تؤكد انتماء شعوبه إلى قومية واحدة ولسان واحد، إلا أن غَلَبَةْ العاميّات، يجعل التواصل بين الشعوب العربية، أمراً صعباً ومتعذراً . كان متوقعاً أن تؤدّي الفضائيات العربية، بوصفها إعلاماً جماهيرياً Communication Mass، دوراً جوهرياً.. في توحيد الشعوب العربية، وتعزيز تواصلها بتقليص العامية، ونشر اللغة العربية؛ إذ معلوم .. أن وحدة اللغة، تساهم في عملية دمج الشعوب الناطقة بها، وتعمل على صياغتها في وحدة قومية واحدة National Integration. لكن الذي حدث خلاف ذلك: تكريس العامية، وتقليل فرص التواصل والتفاهم.
يسعى الإعلام الإسلامي، باستخدامه اللغة العربية الفصحى، عبر البث الفضائي، لإعادة الاعتبار للغة العربية، من أجل حفظ هوية الأمة، والسعي لوحدتها .. وتعزيز تواصل شعوبها.
جدل المهني والديني:
اصطدمت المحاولات لتأسيس إعلام إسلامي .. في البداية بآراء فقهية، تحفظت كثيراً، على استخدام بعض تقنيات الممارسة المهنية الإعلامية، وعلى التوسع في استخدام تقنيات أخرى. المدرسة الفقهية الإسلامية بمذاهبها الأربعة فوجئت بالعملية الإعلامية، وتطوراتها المتسارعة، وبالدور الجوهري والحيوي، الذي صارت وسائل الإعلام .. بعد أن تحوّلت إلى صناعة، تقوم به في المجتمعات. وجد الفقهاء، ورجال الفكر الإسلامي أنفسهم أمام ظاهرة لا يمكن تجاهلها، فضْلاً عن رفضها. كما أن الموقف السلبي، الذي لا يتفاعل مع حدث بمثل هذه الضخامة، ويعيد تكييفه، ضمن النسق الحضاري الخاص به، ومقومات الثقافة المحلية، يؤدي إلى نتائج خطيرة، تنسحب آثارها على الدور الحضاري للأمة، وعلى تماسك النظام الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، وتنعكس آثاره السلبية على سلوك الأفراد. أبرزَ تقْنيتَينْ مهنيّتين إعلاميّتين، ثار حولهما جدل فقهي هما: الصورة والموسيقى.
الصورة:
لم ينل شيء من الوعيد والنكير، في أدبيات الفقه الإسلامي، بعد القَطْعيّات المحرمة، تحريماً أبدياً، مثل ذلك الذي ناله التصوير. منذ البداية.. اتخذ الإسلام موقفاً حاداً ورافضاً للتصوير. فَهْمُ التوحيد، الذي يقوم عليه أصل الاعتقاد في الإسلام، يساعد في معرفة الموقف الحدي، الذي اتخذه التشريع الإسلامي، من الصورة والتصوير. يقف التوحيد نقيضاً للشرك، الذي هو إشراك الله سبحانه في العبادة بصيغ شتى، لكنه في أظهر أشكاله، يتمثل بالوثنية، التي تقوم على عبادة (الصور) والتماثيل.(/6)
العلاقة الظاهرة بين التماثيل وبين الأصنام، والوثنية وطقوسها الشركية، خلق ارتباطاً لا شعورياً، وعلاقة غير ظاهرة، بين (الصورة) والأصنام، بوصفها ذريعة إلى (الشرك). اعتمدت الآراء الفقهية التي قالت بتحريم التصوير على أحاديث صريحة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها تحريم للتصوير، ووعيد للمصورين. الموقف الفقهي الصارم، في تحريم التصوير على إطلاقه، منع طويلاً .. أي مشاركة فاعلة للإسلاميين في العملية الإعلامية. هجمة الفضائيات العربية التي ملأت السماء العربية بقنوات .. تبث كل ما يهدد الأمة في دينها، ولغتها، وهويتها، جعل القيادات الفكرية الإسلامية تطلق صيحات التحذير حول خطورة (الغياب) عن مجال حيوي كهذا. استشعار الخطر حيال واقع الفضائيات العربية، دفع بعض الفقهاء، إلى القول بأن مناط التحريم في التصوير، هو العلاقة المباشرة، بين الشرك وعبادة التماثيل، التي هي شكل من أشكال التصوير. هذا الرأي حرّض الفقهاء، لإعادة النظر في حكم التصوير، وَقَصْر تحريم التصوير، على المجسّم منه فقط، مثل النحت وصناعة التماثيل. مَثّل هذا الاجتهاد الفقهي، تطوراً غير مسبوق، في النظر إلى قضية التصوير. بناءً على ذلك، اعتبر التصوير الفوتوغرافي، وكذلك التصوير التلفزيوني، غير داخلين في التصوير المحرم، والمنهيّ عنه.
حَسْمُ مسألة التصوير فقهياً فتح الباب لتجاوز أهم العقبات الفقهية والمهنية أمام قيام عمل إعلامي إسلامي حديث. مع ثورة الاتصال ودخول العالم العربي تجربة البث الفضائي ظهرت تجارب فضائية (إسلامية) أخذت مكانها في الفضاء العربي، واقتطعت حصة لا بأس بها، من جمهور الفضائيات العربية.
الموسيقا:
هناك أحاديث شريفة، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تنص صراحة على تحريم الموسيقى. جاء ذلك تحديداً ضمن أحاديث نبوية تحرم الغناء وآلات الطرب التي وصفتها الأحاديث بـ (المعازف). العلماء الذين خرجوا على الإجماع بتحريم الغناء، والموسيقى التي تصاحبه، اشترطوا للتحريم أن يكون الغناء فاحشاً .. كلمةً وأداءً. هذا الرأي لم يلق قبولاً لدى جمهور علماء المسلمين؛ فظل الرفض للغناء قائماً، وبقي الموقف من الموسيقا، موضع جدل.
الجدل حول الموسيقا زاد واتسع مع نمو وسائل الإعلام، وازدياد استخدام الموسيقى في تلك الوسائل .. في غير الغناء . تطور الوضع بعد ذلك، حتى صارت الموسيقى تستخدم في أمور أخرى غير وسائل الإعلام. الجدل تطور، واتخذ شكل الخلاف على المصطلح، وصار السؤال: هل هي موسيقا music، أم مؤثرات صوتية Sound Effects ..؟
أصبحت المؤثرات الصوتية، جزءاً أساسياً من تقنيات العمل الإعلامي، مثل الإضاءة، والصورة، و (الجرافيكس) . مع تطور تقنية الصوتيات الحديثة، التي تستخدم الكمبيوتر في مزج الأصوات، لم تعد الآلات الموسيقية وحدها هي وسيلة إنتاج المؤثرات الصوتية. التقدم التقني في إنتاج المؤثرات الصوتية، جعل الجدل الفقهي القديم حول الموسيقا، محل نقاش، وموضع نظر.
اعتبر المهتمون بالإعلام الإسلامي، تقنية إنتاج المؤثر الصوتي، فتحاً كبيراً في أسلمة العمل الإعلامي، وممارسته بطريقة مهنية حديثة. صار هناك كلام عن (بديل صوتي) للموسيقى، يتم مزجه الكترونياً، من مجموع أصوات تُستقى من الطبيعة، ويقوم بدور المؤثر الصوتي الفقهاء اعتبروا ذلك حلاً (شرعياً) .. ومثل ذلك انطلاقة مهنية للعمل الإعلامي الفضائي الإسلامي، وتجاوزاً لمشكلة أخرى، اقترنت بالتصوير.. وظلت فترة طويلة عقبة تحول دون مشاركة فاعلة للإسلاميين، في النشاط الإعلامي.
خاتمة:
تمثل تجربة القنوات الإسلامية، عملاً جديداً ومختلفاً، بكل المقاييس. جدّة التجربة واختلافها ليس في مهنية العمل، أو في استخدام تقنية جديدة .. خاصة بها، غير موجودة عند غيرها من القنوات. التفرد كان في (الثورة) النوعية، التي أحدثتها القنوات الإسلامية، في مجال البث الفضائي. في وقت لم تلتزم القنوات الفضائية الأخرى، بأي ضابط يحكم طبيعة البث ونوعه، إلا ما كان له علاقة بالتنظيمات (القانونية) في البلد الذي تعمل فيه .. وضعت القنوات الإسلامية معايير صارمة .. أخلاقياً ومهنياً، تحكم سياستها في البث. الحرية غير الملتزمة بقيود من أي نوع أعطى الفضائيات غير الإسلامية هامشاً كبيراً جداً للعمل. في المقابل .. المعايير والضوابط الأخلاقية للقنوات الإسلامية ضيقت هامش العمل لديها، وحدّت من استخدامها لكل ما هو (متاح)، في مجال العمل التلفزيوني .. مما يمكن أن (يجذب) المشاهدين، بمختلف شرائحهم، كما هو حال الفضائيات الأخرى.(/7)
أمْرٌ آخر يُحسب للقنوات الفضائية الإسلامية أنها نجحت في امتحان وإثبات مبدأ "التعرض الاختياري" Selective Exposure، كأحد أهم الفروض التي تفسر عملية اكتساب المعلوماتInformation Acquirement ، ومن ثمّ التفاعل معها. وفق هذه الفرضية، فإن الفرد يختار أن يعرّض نفسه لمصدر معلومات (معين)، ويتفاعل معه، ويتأثر بما فيه من معلومات .. ويكتسبها، على أساس من احتياجه. هذه النتيجة، تؤكد الحاجة لتوسيع هامش الاختيار أمام المشاهد العربي، بتشجيع قيام قنوات جادة، تسهم في الارتقاء بالوعي والثقافة، كما أنها -كذلك- تدحض الزعم بربط تنامي السلوك المحافظ، والصحوة الدينية، في أوساط المجتمعات العربية، بنفوذ أفراد .. أو مجموعات غامضة، تمارس ضغوطاً على الناس، لإقناعهم بأفكارها. التعرض الاختياري، قرار شخصي بحت، يتم بمعزل عن أي نفوذ لطرف خارجي.
إذا كانت أبرز الملامح النوعية لتجربة القنوات الإسلامية قدرتُها على تقديم مضمون جاد، واستقطاب جمهور يهتم به .. في ظل أنماط متعددة لسلوك إعلامي استهلاكي، يعتمد على الإثارة .. بمختلف أشكالها، فإنه يجب الإقرار أن تجربة القنوات الإسلامية، لا تخلو من قصور مهني... حداثة التجربة، ونقص الكوادر المدربة، من أهم الأسباب، وغياب الرؤية أحياناً .. سبب آخر مهم. لا يمكن الادّعاء كذلك أن كل (الأهداف) التي تقول القنوات الفضائية الإسلامية إنها وضعتها، جزءاً من سياستها، بوصفها إعلاماً إسلامياً .. قد تحققت. استخدام العامية في تلك القنوات، ما زال موجوداً، وإن كان بنسبة أقل من غيرها من القنوات. بعض القنوات الإسلامية كذلك لم تستطع أن تتخلص من الطابع المحلّي للبلد الذي تبث منه، خصوصاً الاهتمام بالأحداث والفعاليات القُطْريّة، على حساب قضايا الأمة والأحداث العالمية. كما تسود هيمنة الطابع الشخصي .. لمالكيها، أو القائمين عليها، فتؤثر على السمة العامة لبرامجها، وعلى مستواها المهني.(/8)
الإعلام الإسلامي وخطر العولمة
سهيلة زين العابدين حمَّاد 8/6/1424
06/08/2003
للإعلام تأثير جد كبير وخطير على أنماط السلوك وطرائق التفكير، ولا سيما القنوات التلفازية الفضائية والإنترنت، وهذا التأثير قد يكون سلبياً فيسهم في ذوباننا في الآخر، وفي إعدادنا تمام الإعداد لقبول العولمة والتسليم بها كحقيقة مسلم بها، وهذا ما تعمل عليه للآسف أغلب وسائل الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي، من صحف ومجلات، وقنوات فضائية، ومواقع للإنترنت عربية وأجنبية، وأفلام سينمائية.
ومنها ما يكون إيجابياً في تصحيح كثير من المفاهيم، وأنماط السلوك وطرائق التفكير، للحفاظ على هويتنا الإسلامية، ولتكوين رأي عام سليم تجاه قضايا الأمة، والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت التي تسعى لتحقيق هذه الأهداف قليلة قد لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين، في حين نجد الأخرى قد يصل عددها إلى المئة، إضافة إلى القنوات الأجنبية التي تبلغ المئات، وممَّا يؤسف له حقاً ما تقوم به بعض الشبكات التلفازية العربية المتخصصة من شراء مواد سينمائية من بعض القنوات الأمريكية والأوربية التي تبث أفلام الرعب أو الأفلام الإباحية التي تؤثر سلباً على سلوك وأخلاقيات أولادنا، وهذه الأفلام في الغالب يقوم على إنتاجها وتمويلها اليهود الصهاينة الذين يمتلكون معظم شركات إنتاج الأفلام الأمريكية؛ إذ تشير بعض الإحصائيات إلى أنَّ أكثر من 90% من العاملين في الحقل السينمائي الأمريكي إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً ومونتاجاً هم من اليهود، وقالت صحيفة " الأخبار المسيحية الحرة " عام 1938م عن سيطرة الصهيونية على صناعة السينما الأمريكية : "إنَّ صناعة السينما في أمريكا يهودية بأكملها، يتحكم فيها اليهود دون أن ينازعهم فيها أحد، ويطردون منها كل من لا ينتمي إليهم أو لا يصانعهم، وجميع العاملين فيها إمَّا من اليهود أو من صنائعهم، ولقد أصبحت هوليود بسببهم سدود العصر الحديث حيث تنحر الفضيلة، وتنشر الرذيلة، وتسترخص الأعراض، وتنهب الأموال دون رادع أو وازع، وهم يرغمون كل من يعمل لديهم على تعميم ونشر مخططهم الإجرامي تحت ستائر خادعة كاذبة، وبهذه الأساليب القذرة أفسدوا الأخلاق في البلاد، وقضوا على مشاعر الرجولة والإحساس، وعلى المُثل للأجيال الأمريكية"، وختمت الصحيفة قولها: "أوقفوا هذه الصناعة المجرمة لأنَّها أضحت أعظم سلاح يملكه اليهود لنشر دعايتهم المضللة الفاسدة".
كما يمتلك اليهود الصهاينة كبرى شبكات التلفاز العالمية، فبشراء عروض القنوات الأجنبية، والتنافس فيما بينها على ذلك فيه ترويج للفكر الصهيوني وتحقيق أهدافه، وفيه دعم مادي لها.
وهم يسيطرون أيضاً على كثير من وكالات الأنباء العالمية، ومركز المعلومات، ويمتلكون أدوات متقدمة في صناعة الإعلام وفنونه؛ إذ يمتلك الصهاينة أربع وكالات أنباء عالمية من خمس، كوكالة رويتر البريطانية، والأسوشيتد برس واليونايتد برس الأمريكيتيْن، ووكالة هافاس الفرنسية، وهذا يعني أن الذي يتحكم في صياغة وصناعة الخبر هم اليهود الصهاينة، وإعلامنا في عالميْنا العربي والإسلامي للأسف الشديد يتلقى هذه الأخبار من هذه الوكالات.
أسلوب المواجهة
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يتسنى للإعلام في العالم الإسلامي أن يتغلب على إعلامٍ هذه قوته؟
للأسف الشديد؛ فإننا نفتقر إلى إعلام إسلامي بما تحمله هذه الكلمة من معنى، فنحن لا نستطيع أن نعتبر إعلامنا إسلامياً من خلال بعض القنوات الفضائية المحدودة، أو من خلال بعض المجلات الإسلامية، وبعض مواقع الإنترنت الإسلامية، فهذه لا تشكل شيئاً يذكر أمام مئات الصحف والمجلات وعشرات القنوات ومواقع الشبكة العنكبوتية التي تسير في فلك الصهيونية والغرب، وتسهم في تقديم كل ما من شأنه نشر الفساد والانحلال، والسير على نمط السلوك الغربي، وطرز الحياة الغربية، والتي تسلط الأضواء من خلال برامجها على من يتبنون الفكر الغربي بكل ما فيه من إباحية وإلحاد، وجعلت منهم رموزاً أدبية وفكرية لهذه الأمة، ومنحتهم الجوائز والأوسمة في حين نجدها همَّشت حملة الفكر الإسلامي، وعتَّمت عليهم، وأغلقت أبوابها في وجوههم. قد يقول البعض إنَّ هناك مفكرين إسلاميين تسلط عليهم الأضواء، وأقول هنا إنَّهم قلة قلية لا تشكل حقيقة عدد مفكري الأمة وعلمائها، وتسلط الأضواء على هؤلاء حتى لا يوجه إليها نقد بعدم تقديمها لعلماء ومفكرين إسلاميين، وللطلب الملح من القراء والمشاهدين والمستمعين لمعرفة موقف الدين من قضايا العصر، وممّا يواجههم من مشاكل، فللأسف الشديد أنَّ أغلب القائمين على الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي بجميع وسائله من ذوي الفكر العلماني، لذا فهم يروجون لمن يوافق أهواءاهم وتوجهاتهم الفكرية.(/1)
فنحن لا نستطيع التغلب على الحملات الصهيونية والغربية الموجهة الآن بضراوة ضد الإسلام والمسلمين، ومحاربة كل ما هو إسلامي في أي مكان في العالم إلاَّ إذا جعلنا القيادات الإعلامية في عالمنا العربي والإسلامي من الوسطيين من حملة الفكر الإسلامي،عندئذ نستطيع القول إنَّ لدينا إعلاماً إسلامياً.
مقترحات إعلامية للمواجهة
عندما يكون لدينا إعلام إسلامي علينا أن ننشئ وكالة أنباء عالمية إسلامية تصيغ الخبر صياغة صحيحة تتوافق مع طبيعة الحدث وملابساته وخلفياته، وأن نقدم برامج تتفق مع قيم ومبادئ ديننا، ولا تخالف أسس العقيدة الإسلامية وأخلاقيات هذا الدين، وتسهم في تكوين رأي عام عالمي سليم تجاه قضايانا، وتعمل على الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأن تصدر صحفاً ومجلاتٍ وكتباً بمختلف اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية، وأن تبث قنوات فضائية، ومواقع للإنترنت بمختلف اللغات تعرض قيم ومبادئ الإسلام وتاريخه وفكره وقضاياه، والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
كيف يستطيع الإعلام في العالم الإسلامي ،وقد دخل فضاء العولمة عبر الأقمار الصناعية ومحطات البث التلفزيوني خارج الحدود أن ينهض بالأمة ويحافظ على هويتها واستقلاليتها؟
وأقول هنا جواباً عن هذا السؤال: إنَّ الإعلام في العالم الإسلامي لا يستطيع النهوض بهذا الدور مالم يكن إعلاماً إسلامياً؛ إذ كيف يستطيع القيام بهذا الدور، ومعظم القيادات الإعلامية فيه علمانية، ولن يكون الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي إعلاماً إسلامياً إلاَّ إذا تولت قيادته قيادات إعلامية ذات توجه إسلامي، والتزمت بميثاق "جاكرتا" للإعلام الإسلامي الذي وقَّعت عليه ما يقرب من 450 شخصية إعلامية إسلامية قبل حوالي 23 عاماً، ومن أهم بنود هذا الميثاق:
1- ترسيخ الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه الخلقية.
2- العمل على تكامل الشخصية الإسلامية.
3- تقديم الحقيقة له خالصة في حدود الآداب الإسلامية.
4- توضيح واجباته تجاه الآخرين وبحقوقه وحرياته الأساسية.
5- العمل على جمع كلمة المسلمين، ودعوتهم إلى التحلي بالعقل والأخوة الإسلامية والتسامح في حل مشكلاتهم، مع الالتزام بمجاهدة الاستعمار والإلحاد في كل أشكاله والعدوان في شتى صوره والحركات الفاشية والعنصرية، وبمجاهدة الصهيونية واستعمارها الاستيطاني المدعم بأشكال القمع والقهر التي يمارسها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
6- التدقيق فيما يذاع وينشر ويعرض حماية للأمة الإسلامية وبقيمها ومقدساتها ودرء الأخطار عنها.
7- أداء رسالتهم في أسلوب عف كريم حرصاً على شرف المهنة، وعلى الآداب الإسلامية، فلا يستخدمون ألفاظاً نابية، ولا ينشرون صوراً خليعة، ولا يتعاملون بالسخرية والطعن الشخصي والقذف والسب والشتم وإثارة الفتن، ونشر الشائعات وسائر المهاترات.
8- الامتناع عن نشر كل ما يمس الآداب العامة أو يوحي بالانحلال الخلقي، أو يرغب في الجريمة والعنف والانتحار، أو يبعث الرعب، أو يثير الغرائز سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، واليقظة الكاملة لمواجهة الأفكار والتيارات المعادية للإسلام.
9- الامتناع عن إذاعة ونشر الإعلان التجاري في حال تعارضه مع الأخلاق العامة والقيم الإسلامية.
10- الالتزام بنشر الدعوة الإسلامية والتعريف بالقضايا الإسلامية، والدفاع عنها، وتعريف الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والاهتمام بالتراث الإسلامي، والتاريخ والحضارة الإسلامية، ومزيد العناية باللغة العربية، والحرص على سلامتها ونشرها بين أبناء الأمة الإسلامية، وبالخصوص بين الأقليات الإسلامية.
11- إحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية لاسترجاع السيادة التشريعية للقرآن الكريم والسنة النبوية.
اعتقد أنّ هذا من أهم الوسائل التي تمكِّن إعلامنا من النهوض بالأمة الإسلامية، والمحافظة على هويتها واستقلالها، ولكن أين الإعلام العربي والإسلامي من(/2)
الإعلام الإسلامي ودوافع المسؤولية فيه
(2/2)
بقلم : الأستاذ محمد خير رمضان يوسف
سادسًا : خشية اللّه في السر والعلن :
خشية الله تعالى والخوف من عقابه ووعيده إحدى الدوافع الرئيسة للجهر بالحق وعدم اتباع الباطل . وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تُذكِّر المؤمن بما يؤول إليه أمره، وما سَيُحَاسَبُ عليه في الصغيرة والكبيرة ، وأن الأفضل له أن يزن أعماله قبل أن توزن ، ويفاجأ بما لم يقدر مسؤوليته فيما فعله. وقد تنوع الأسلوب البلاغي والبياني والنفسي في هذه الآيات في المجتمع ومركز كل فرد ونشاطه الاجتماعي .
(أ) نداء الإيمان :
والمقصود من ذكر هذه الفقرة أن النداء الموجّه من الله تعالى هو لمن يؤمنون بالغيب ، ويتيقّنون أخباره الواردة في القرآن الكريم والحديث الصحيح، ويتصورون اليوم الآخر كما أخبر به. أما من لايؤمن بالغيب فلا يُوجِّه إليه مثل هذا . إذ كيف يقال لمن لايؤمن بالله واليوم الآخر إنك إذا لم تعدل ولم تتق الله في نفسك وأهلك ومجتمعك فستنال عذابًا أليمًا وستُحْرَم من النعيم الخالد؟ .. ومن هنا نستنتج أن خشية الله محصورة في المؤمنين؛ لأنهم هم الذين يؤمنون بالغيب . أما غير المؤمنين فلا يُتَصوَّر منهم الخشية ، ومن ثم فلا يُتَصَوَّر في حقهم الدافعُ الحقيقي لاعتبار المسؤولية كما هو بيت القصيد في حديثنا هذا! أي أنه لايُعْتَمد عليهم رجالاً مخلصين في أعمالهم لبناء الوطن ، والمجتمع المسلم ، وتربية أجياله .
ولنسرد بعض الآيات الكريمة التي تبين أن خشية الله الحي فيمن يؤمنون بالغيب:
?إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ? (يس:11) .
?اَلَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُوْنَ? (الأنبياء: 49).
?قلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّيْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ? (الأنعام : 51) .
?وَأَنْذِرْ بِه الَّذِيْنَ يَخَافُوْنَ أَنْ يُحْشَرُوْا إِلى رَبِّهِمْ? (الأنعام : 51) .
?وَالَّذِيْنَ يَصِلُوْنَ مَا أَمَرَ الله بِه أَنْ يُّوْصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُوْنَ سُوْءَ الحِسَابِ? (الرعد:21).
(ب) الترغيب والترهيب :
الخشية من الله تعالى تُولِد في نفس المرء الرغبة في رضائه وطلب ثوابه ، وهو اعتراف منه بضعفه أمام خالقه وتسليم بأمره وتنفيذ لأوامره. كما تَبْعَث في نفسه الرهبة من اليوم الأكبر . حيث سيجازى كلٌ بما عمل وقدم . فلا ينفع إلا العمل الصالح . قال تعالى : ?وَيَدْعُوْنَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوْا لَنَا خَاشِعِيْنَ? (الأنبياء:90)
?يَبْتَغُوْنَ إِلى رَبِّهِمْ الوَسِيْلَة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَه وَيَخَافُوْنَ عَذَابَه? (الإسراء: 57).
?وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْم بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِيْ وَخَافَ وَعِيْد? (إبراهيم:14).
(ج) التخويف بالعقوبة الدنيوية :
وهو نوع من أنواع الوعيد . وفيه تلميح إلى أن النفس الإنسانية تختلف من شخص إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، ومن بيئة إلى أخرى. ولكل فئة أو طبقة أساليب خاصة للردع . فهذا يرتدع بالتخويف من النار، وآخر بعقوبة عاجلة ، أما بمرض أو فقر أو ابتلاء بالأمل أو الجاه .
والمهم في القول هنا أن الذي يأخذ بهذه العِبَر ويستفيد من هذه الدروس ويتعظ بهذه الأخبار، هو المؤمن الحقيقي . الذي عندما يسمع مثل هذا الخبر يرى وكأن الذنب مثل جبل يريد أن يقع عليه . فيخشى الله ويرتدع .
قال عز وجل : ?وَقَالَ الَّذِيْ آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحٍ وَّ عَادٍ وَّ ثَمُودَ وَالَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيْدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ? (غافر:30-31).
?فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِه أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ? (النور:63).
?يَآ أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وَذَرُوْا مَابَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوْا فَأْذَنُوْا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِه ...? (البقرة: 278-279).
?إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِيْنَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَه وَيَسْعَونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُّقْتَلُوْا أَوْ يُصَلَّبُوْا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ? (المائدة:33).
(د) عدم اتباع الهوى :
وهناك معارضة بين خشية الله وبين اتباع الهوى. فالذي يتبع هواه لايخشى الله حق خشيته، والذي يخشى الله لايتبع هواه . بل يتبع المنهج الذي أمر الله تعالى به :
?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَواى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْواى? (النازعات:40).(/1)
?لَئِنْ بَسَطْتَّ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِيْ مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَّدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنيْ أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِيْنَ? (المائدة:28).
?إِنِّيْ بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَراى مَالاَتَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ..? (الأنفال:48).
?فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَتَتَّبِعِ الهَواى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ? (ء:26).
(هـ) خشية الله وحده :
وهنا تأتي العزيمة والقوة ، ويتبين فيها المؤمن الحقيقي من الذي لم تشرئبَّ نفسُه بالإيمان. فالحياة الجادة ، والمسؤولية المناطة بالمسلم تتطلب منه أن يبين عزيمته ويظهر رأيه كما يطلب منه الإسلام. ولايخشى في الله لومة لائم . ولايخاف بشرًا ناصيته بيد الله . هو مخلوق لايملك إلا قوة إنسانية محدودة لايمده الله بعون ولاقوة من عنده . ولايُرهِبنَّه صوته وسلاحه وجنده . فإن ماعند الله أكبر وأجزى . وأمامه أحدى الحسنيين .
?فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيْقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً? (النساء:77).
?فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَتَشْتَرُوْا بِآيااتِيْ ثَمَنًا قَلِيْلاً? (المائدة:44) .
?يُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ وَلاَيَخَافُوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ? (المائدة:54).
?إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَه فَلاَ تَخَافُوْهُمْ وَخَافُوْنِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ? (آل عمران: 175).
(و) الهداية والعلم سببان للخشية :
فمن فقَّهَه الله في دينه ، وهداه إلى صراطه، وجنَّبه زيغ الشيطان ،وكلأه بحفظه ورعايته. لايضل به الطريق ولايتيه ولو كان في مجتمع جاهلي. والعلم يبعث في النفس الإبهار والإكبار لبديع صنع الله تعالى، ولذاته وأسمائه وصفاته عز وجل . فترى المؤمن الخاشع يبتعد عن الرذائل والمعاصي والمنكرات . ويقبل على تهذيب نفسه وتربية أسرته وإصلاح مجتمعه .
?وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى? (النازعات:19)
?وَمَالَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا? (إبراهيم:12).
?وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَهَضْمًا? (طه:112).
?إِنَّمَا يَخْشاى الله مِنْ عِبَادِه العُلَمآءُ إِنَّ اللهَ عَزِيْزٌ غَفُوْرٌ? (فاطر:28) .
(ز) رضى الله .. وتأييده لمن يخشاه :
إن الذي يخشى الله ويُحكِّم شرعه في أقواله وأفعاله، فيطيع ما أمر به، وينتهي عما نهى عنه، إنما يجلب بذلك رضى الله وتوفيقه وعونه له. ورضاء الله أقصى مايتمناه المؤمن. بل هو أعلى الدرجات التي يمنحها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة عندما يسكنهم الجنة.
?رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوْا عَنْه ذالِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه? (البينة:8) .
?فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُوْنَ? (البقرة:38) .
?قَالَ لاَتَخَافَا إِنَّنِيْ مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَراى? (طه:46) .
سابعًا : حب المبدأ والحماس للتبليغ :
إذا كنا قد بينا في الفقرة السابقة أن خشية الله تعالى دافع أساسي للشعور بالمسؤولية ، فلا يعني هذا أن العلاقة بين المسلم والإعلام بدينه قائمة على الخوف والرهبة فقط . لأن أساس عقيدة المسلم هو الإيمان، والتسليم بما جاء به الإسلام عقيدة وشريعة. والإيمان بالمبدأ يعني حبَّه والتفاني في الدعوة إليه والذب عنه ، لأنه يمثل الحياة الفكرية والروحية التي لايرى عنها المرء بديلاً ، ولو أدى ذلك إلى التأثير في نفسه وأهله وماله كما يحدث للدعاة المخلصين والمجاهدين في سبيل الله .
ومن ثم نرى أن الإيمان العميق والحماس للتبليغ يمثلان أهم أركان المسؤولية الإعلامية في الإسلام .. فالإيمان الكامل يصنع الأبطال ، وينفخ فيهم روح الحركة والتحفز، ولهيب الجهاد والمعركة، ويفتح أمامهم نور الدعوة والهداية، وسُبَلَ الرشد والإصلاح. ولاتخبو هذه الحركة في قلبه مادامت روحه في جسده ، ولاينطفئ حماسها مادام قلبه ينبض بالحياة. وإذا كان الإيمان مستمرًا على هذا النحو، فإن الدعوة المنبثقة منه تبقى مستمرة نافذة في كيانه وجوارحه، ودافعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الصالح .
وعلى الداعية أن يكون ثابتًا في إيمانه، لاتهزه قوة الكفر، ولايزعزعه بلاء ومحنة . أما الإيمان الضعيف، فإنه أدعى إلى التهالك والسقوط وعدم الثبات . فلايكاد يصمد أمام اختبار يسير .
?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَه خَيْرٌ ناطْمَأَنَّ بِه وَإِنْ أَصَابَتْه فِتْنَةٌ نانْقَلَبَ عَلى وَجْهِه خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذالِكَ هُو الخُسْرَانُ الْمُبِيْن?(15) .(/2)
وإن لنا العبرة في حياة نوح عليه السلام مع قومه، فقد لبث معهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو لايكل من الدعوة ولايمل من التبليغ. ولم يؤثر هذا الوقت الطويل وهذا الإعراض المستمر على إيمانه أو دعوته من يأس أو قنوط؛ بل بقي كذلك، مطيعًا لربه، مبلغًا لعقيدته، حتى أتاهم أمر الله . وهكذا ينبغي أن يكون الإيمان في قلب الداعية، ثابتًا وعميقًا، بحرارة وحماس، يأخذ عليه كل حسه وكيانه، فلا يشعر إلا أنه وجد لأداء وظيفة في هذه الحياة، يطبِّقها في سائر وظائفه.(16)
ثامنًا : أمثلة توضيحية عن الخشية من الله وقول الحق
1- نماذج تطبيقية عن الشعور بالمسؤولية:
ونقتصر في هذه الفقرة على بعض ماورد في سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه:
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شديدًا على ولاة الأقاليم، يبتدع الوسائل التي تضمن له استمرار الاطلاع على مايجرونه في مناطقهم من الأعمال، ويبالغ في الاتصال بالرعايا ومعرفة مايشكونه من الظلم والحيف. وقد سن دستورًا لتصرفات الولاة اشتمل على المبادئ الأساسية الآتية :
(أ) أنه كان يُحصي مكاسب الوالي عقارًا ومنقولاً ومالاً قبل الولاية ليحاسبه بها على مازاده بعد الولاية مما لايدخل في عداد الزيادة المعقولة. ومن تعلل بالتجارة لم يقبل منه دعواه لأنه كان يقول للولاة: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا.
(ب) أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون من حولهم ليبلغوه ماظهر وماخفي من أمرهم. حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع نبأه إلى الخليفة .
(ج) أنه بعث وكلاء مختصين يجمعون شكايات الشاكين والمتظلمين ويتولى التحقيق والمراجعة فيها ليستوفي البحث فيما يرفعه إليه الوكلاء والرقباء .
(د) أمره للولاة والعمال أن يدخلوا إلى أوطانهم نهارًا إذا رجعوا إليها من مراكز حكمهم ليظهر معهم ماحملوه في عودتهم ويتصل خبره بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق.
(هـ) استقدامه للولاة في كل موسم من مواسم الحج ليحاسبهم ويسمع مايقولون ومايُقالُ فيهم، وعليهم شهود ممن يشاء أن يحضر الموسم من أهل البلاد(17). فكان العمال يخافون الافتضاح على رؤوس الأشهاد، فيتجنبون ظلم الرعية، ويسيرون بين الناس بالعدل والإنصاف.(18)
ذكر الإمام الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني. أما عمالهم فلا يرفعونها إلى، وأما هم فلا يصلون إلى؛ فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا!(19)
لما جاء عام الجوع وأصاب المنطقة قحط شديد، أقسم عمر ألا يذوق السمن ويأكل طيبًا حتى يفتح الله على المسلمين. وبقى عامه على هذا الحرمان والمسلمون يرون حاله فيشفقون عليه من الجهد الذي يبذله، حتى بسر وجهه من أكل الزيت مع قلة الطعام الذي يتناوله ورداءته، حتى لقد ذكر أحد الصحابة بالحرف: "كنا نقول: لو لم يدفع الله عام الرمادة لظننا أن عمر سيموت همًا بأمر المسلمين" . ويرجوه أصحابه أن يرأف بنفسه ويشفقون عليه من الجهد الذي يبذله، ويبيحون له – عن طيب خاطر منهم – أن يأخذ من بيت المال مايصلح به شأنه؛ ولكنه يرفض ذلك ويصرّ على رفضه الحاسم قائلاً: وكيف يعنيني أمر الرعية إذا لم يمسنى مايمسهم؟ إنه هنا يقدم لنا شعارًا اجتماعيًا، هو جوهر العدل الاجتماعي وروحه الأصيلة. شعارًا لاتفسره الكلمات، إنما موقف عمر نفسه وهو يعاني مع أمته من أجل أن يعمق اهتمامه بمآسيها ومتاعبها وأحزانها(20).
2- نماذج تطبيقية من الجهر بالحق :
يقول عليه الصلاة والسلام: "ألا لايمنعنّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه"(21).
سُئِلَ ابن المبارك: مَنِ الناسُ؟ فقال: العلماء. قِيْلَ له: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه.
حبس معاوية عن الناس أعطياتهم ذات مرة، وجاء يخطب على المنبر، فقام إليه أبومسلم الخولاني معاتبًا ومحاسبًا على حبس العطاء عن الناس، وقال له يامعاوية، إنه ليس من كدِّك ولا كدِّ أبيك ولاكدِّ أمك.
فغضب معاوية وغادر المنبر قائلاً للناس: مكانكم. وغاب عنهم ساعة ثم رجع إليهم فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِقَ من نار، وإنما تُطْفَأُ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليغتسل" وإني ذهبت فاغتسلت. وصدق أبو مسلم. إنه ليس من كدِّي ولا كدِّ أبي. فهلموا إلى أعطياتكم!
لقد عرف أبومسلم مسؤولية العالم، فأدى واجبه في النصيحة للإمام .
وعرف معاوية مسؤولية الحاكم، فاستجاب لمن حاسبه في الحق، ولم تأخذه العزة بالإثم.(/3)
لما وقعت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزائم على مصر بسبب وقوع الاختلاف بين قواد جيشها . ضاق صدر الخديوي إسماعيل لذلك فجمع عددًا من علماء الأزهر ليجتمعوا أمام القبلة القديمة في الجامع الأزهر للابتهال والدعاء بطلب النصر. ولكن مع ذلك ظلت أخبار هزائم الجيش المصري تتوالى. فذهب الخديوي إلى هؤلاء العلماء، وأعلمهم باستغرابه لعدم استجابة دعائهم وقال: إنكم لستم العلماء الذين تعهدهم من رجال السلف الصالح، فإن الله لم يدفع بكم ولابدعائكم شيئًا!
فوجم العلماء لكلام الخديوي إلا شيخًا واحدًا قائلاً:
(هذا منك يا إسماعيل! فقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُسْتَجَابُ لهم").
فسأل الخديوي الشيخ الأزهري الذي جابهه بكلمة الحق وصيحة الصدق :
- وماذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء ؟
فأجابه :
- أليست المحاكم المختلطة قد فتحت بقانون يبيح الربا؟ أليس الزنا برخصة؟ أليس الخمر مباحًا؟
وعدّد الشيخ للخديوي المنكرات التي تشيع في مصر بلا إنكار. ثم قال:
فكيف تنتظر النصر من السماء؟!
وأطرق الخديوي مليًا ثم قال له:
- صدقت صدقت(22).
تاسعًا : الولاء القلبي (23).
حسم الإعلام الإسلامي قضية من أهم القضايا التي تشغل بال الإعلاميين، وتؤثر على مايتعرضون له من قضايا وموضوعات، وهي قضية الولاء أو الانتماء. فقد أثبتت الأبحاث والتجارب العلمية أن الإنسان أيًا كانت ثقافته وجنسيته في حاجة إلى الشعور بالانتماء إلى شيء، والعمل من أجله.
والولاء في جوهره نوع من الرقابة الذاتية للفرد على سلوكه وتصرفاته وأقواله، بحيث تعكس الخضوع والانقياد للجهة التي يشعر الفرد بالانتماء إليها بصورة لايمكن أن تحققها حتى أقسى القوانين وأصرمها، لأنه يختص بمنطقة القلب، حيث الحب والكره، ولايستطيع سوى صاحبه أن يمنحه عن طيب خاطر وطواعية . أما القهر فلا يؤدي إلا إلى تظاهر فقط من الشخص بالحب والولاء.
والإعلام الإسلامي – وقد استهدف إعداد الدعاة المخلصين للدعوة – كان لابد له أن يتعرض لقضية الولاء . فالولاءَ فيها محسوم من البداية لله سبحانه وتعالى. فهو أغنى الأغنياء عن الشرك . قال تعالى: ?أَلاَ للهِ الدِّيْنُ الخَالِصُ?(24) ?إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ?(25). فالله تعالى يريد عبادًا يشعرون نحوه بالحب ويتنازلون باختيارهم عن كل مايغضب الله. ولذلك ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ?(26). وإذا كان الله تعالى يريد أن يخضع أعناقًا بالقهر فما أسهل أن يفعله . قال تعالى : ?إِنْ نَّشَأُ تُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِيْنَ?(27). إنما يريد سبحانه عبادًا يدينون بالحب ويشعرون بالولاء، ويتقلبون في كل روحاتهم وسكناتهم في رضوان الله، كما قال تعالى: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِيْ وَنُسُكِيْ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِيْ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ?(28).
ويعني الولاء لله الولاء لكتابه الكريم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من قول أو عمل. وبذلك يكون ولاء القيم والمبادئ الخالدة وليس ولاء مرتبطاً بأشخاص أو هيئات أو جهات قال تعالى ?وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ?(29).
ومن خلال الولاء لله يتحقق هدف الإعلام الإسلامي في إيجاد رجال إعلام يقولون الحق، ولايخشون في الله لومة لائم. وفي كل موقف أو قضية يبرزون جوانب الخير والحق والصدق والأمانة، ولايرضون الغش والتدليس .
وهدف الإعلام الإسلامي من إقرار مبدأ الولاء القلبي لله هو تحويل الكثرة المؤمنة إلى كل واحدٍ متماسك .
* * *
الهوامش :
(15) سورة الحج ، الآية 11.
(16) انظر صفات مقدمي البرامج الإسلامية للمؤلف ، ص 20-22 (باختصار) .
(17) مثل عليا من قضاء الإسلام . محمود الباجي. تونس: المكتبة الشرقية ، 1376هـ ، ص 45.
(18) القضاء في الإسلام . عطية مشرقة . ط 2. د. م: شركة الشرق الأوسط ، 1966م ، ص 101.
(19) تأريخ الأمم والملوك . جعفر بن جرير الطبري . د. م: دار القاموس الحديث ؛ بيروت: مكتبة البيان (نسخة مصورة)، ج 5 ص 18 .
(20) العدل الاجتماعي. عماد الدين خليل. – بيروت : مؤسسة الرسالة، د.ت، ص 100.
(21) هو من حديث أبي سعيد الخدري، من خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها أحمد في المسند بطولها 3:19، في السنن، "كتاب الفتن"، باب ما جاء ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" ، ورواه ، مختصرًا كما أثبته أحمد في المسند 3:5، 71، وابن ماجه في السنن، "كتاب الفتن"، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر تخريج الحديث في كتاب "المتنبي" لمحود شاكر.
(22) انظر مسؤولية العلماء في الإسلام. أحمد محمد جمال. – مكة المكرمة: دارالثقافة ، (1386هـ، ص 20-22، 27-28.(/4)
(23) انظر – باختصار- مبادئ الإعلام الإسلامي. محمد منير حجاب . – (الإسكندرية) : د. ن، 1402هـ ، 1982م، ص 73-74 وقد تم استبدال (نظرية الإعلام الإسلامي) التي تكررت في الفقرة بـ (الإعلام الإسلامي) بتصريح وتوجيه من المؤلف نفسه .
(24) سورة الزمر ، الآية 3.
(25) سورة الفاتحة ، الآية 5.
(26) سورة البقرة ، الآية 256.
(27) سورة الشعراء ، الآية 4.
(28) سورة الأنعام ، الآية 162.
(29) سورة آل عمران ، الآية 132.
* * *(/5)
الإعلام الإسلامي ودوافع المسؤولية فيه
(1/2)
بقلم : الأستاذ محمد خير رمضان يوسف
إن أهم ما يتميز به رجل الإعلام الإسلامي هو مسؤوليته عما يقدمه ، ليس أمام السلطات في الدنيا فقط ، فلربما افتعل أفانين للتخلص منها ، أو التجأ إلى من يحميه خارج دائرة الحكومة ؛ لكن الخاصية الأساسية فيه هي شعوره بأنه مسؤول أمام الله تعالى يوم القيامة فيما يقدمه من معلومات ونقد وتحليلات، ويعلم أن الله مطلع على ضميره وخلجات نفسه، وسيحاسبه على إفساده وخيانته أشد الحساب .
إن الذي يريد منه الإسلام هو الوازع الديني ، وخشية خالقه ، والخوف منه عز وجل. قال تعالى: ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَاعَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه أَمَدًا بَعِيْدًا?(1).
ويتمثل الهدف من دراسة هذا الفصل في بيان مصدر الشعور بالمسؤولية ، أو الدافع الغيبي الذي يدفع رجل الإعلام لتتبع المنهج الإسلامي ، وليس الهدف تعداد المسؤوليات المنوطة به !.
فماهي الأساسيات التي تحدد منهج هذه المسؤولية الإعلامية؟ وماهي الأمور التي يجب على الإعلامي أن يلتزم بها في داخله وعلى الساحة الإعلامية ليؤدي رسالته من واقع مسؤوليته الدينية؟
سيتوضح لنا كل هذا بإذن الله من خلال مايلي:
أولاً : الإيمان بالغيب :
وصف الله تعالى المتقين في أول سورة البقرة بقوله: ?اَلَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ ويُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْنَ. وَالَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلُ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوْقِنُوْنَ?(2).
يقول سيد قطب رحمه الله : الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لايدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس. أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وماوراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وتبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل مايدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإِلهية التي لاتدركها الأبصار ولاتحيط بها العقول .
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم يُخْلَق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، ومالايجدي شيئًا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لاتحيط به العقول ...
ثم يقول :
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري .. إلى عالم البهيمة الذي لاوجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية" وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة صفة : "اَلَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ" والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين(3).
والغيب يتناول كل ما قاله الله تعالى وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم مما لايدركه الحس . وأركان الإيمان الأساسية كما بينها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر..
ثانيًا: الجزاء في الإسلام :
نطاق الجزاء في الإسلام واسع وشامل شمول الإسلام لجميع شؤون الحياة ، ومن ثم فأجزية الإسلام تتعلق بأمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات . فكل مخالفة لهذه الأمور لها جزاؤها في الآخرة ، وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضًا .
والجزاء في الدنيا لايمنع الجزاء في الآخرة عن المخالف العاصي إلا إذا اقترنت معصيته بالتوبة النصوح . والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه الإنسان ، وعلى العزم الأكيد على عدم العودة إلى هذه المخالفة ، وعلى التحلل من حقوق الغير إذا كانت معصية تتعلق بهذه الحقوق .(/1)
وقد ترتب على هذا الجزاء الأخروي خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعًا اختياريًا في السر والعلن خوفًا من عقاب الله ، وحتى لو استطاعت الإفلات من عقاب الدنيا ، لأن العقاب الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه ؛ ولهذا إذا ارتكب المسلم جريمة أو معصية في غفلة من إيمانه طلب إقامة العقوبة عليه بمحض اختياره . فهذا ماعزٌ اعترف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بجريمة الزنى وطلب إقامة الحدّ "العقوبة" عليه . وهكذا تنزجر النفوس عن مخالفة القانون الإسلامي ، إما بدافع الاحترام له والحياء من الله تعالى ، وإما بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين .
وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة والعصيان(4).
ثالثًا : الإيمان باليوم الآخر(5):
ليست حياة الإنسان هذه إلا مقدمة لحياته الآخرة ، فهي حياة طارئة مؤقتة وتلك حياة خالدة سرمدية . وهذه ناقصة وتلك كاملة. وفي ذلك اليوم سيوزن الخير والشر ، والبر والأثم ، والفضيلة والرذيلة ، والإيمان والكفر، والأخلاق والملكات . وستقاس فيه النيات والإِرادات والعواطف والهواجس والأحاسيس وسائر أفعال القلوب . لايحاسب فيه الإنسان على وزن الخبز الذي أطعمه أحدًا من الفقراء والمساكين، ولاعلى عدد الدراهم التي أعطاها أحدًا من السائلين والمحرومين ، وإنما يحاسب فيه على النية التي حملته على هذا الكرم والسخاء ، لأن القانون فيه لايكون ماديًا ، وإنما يكون معنويًا . وفي ذلك يقول جل شأنه :
?وَنَضَعُ الْمَوَازِيْنَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَّإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفى بِنَا حَاسِبِيْنَ?(6).
وفي ذلك اليوم ستحدث للأفعال نتائجها الحقيقية المتفقة مع العقل والعدل ، ولاتجري فيه القوانين المادية ولا الأسباب المادية كما هي تجري اليوم في نظامنا الحاضر. فمثلاً: المال والجاه والحسب والنسب والكياسة والفطانة وسلاطة اللسان وكثرة الوسائل المادية وقوة الحلفاء والأصدقاء والأقرباء وسعيهم وشفاعتهم : كل هذه من الأسباب التي تنقذ الإنسان في نظامنا الحاضر من نتائج كثير من أقواله وأفعاله ؛ ولكنها ستفقد تأثراتها في نظام الحياة الآخرة ، فلا يترتب فيه على كل فعل من أفعال الإنسان ولاعلى كل قول من أقواله إلا النتيجة التي يجب أن تترتب عليه على مقتضي من العقل والعدل والحق والصواب:
?وَاتَّقُوْا يَوْمًا لاَّتَجْزِيْ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَّلاَيُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَّلاَيُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَّلاَهُمْ يُنْصَرُوْنَ?(7).
?وَلَقَدْ جِئْتِمُوْنَا فُرَاداى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَّتَرَكْتُمْ مَّاخَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُوْرِكُمْ وَمَانَراى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيْكُمْ شُرَكَآءَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَاكُنْتُمْ تَزْعُمُوْنَ?(8).
رابعًا : حاجة الإنسان إلى عقيدة اليوم الآخر:
معنى إيمان المرء بهذه العقيدة أن لايرى نفسه في هذه الدنيا كائنًا حرًا طليقًا ؛ ولكن كائنًا ذا تبعة ومسؤولية ، ولايؤدي جملة أعماله وتصرفاته إلا على شعور تام من أن عليه تبعة كل حركة من حركاته ، وأنه مسؤول عنها في حياته المقبلة ، وأن سعادته أو شقاءه في مستقبله لايتوقف إلا على أعماله الصالحة أو السيئة في حاضره . ومعنى عدم إيمانه بها أن يرى نفسه كائنًا حرًا طليقًا لاتبعه عليه ولامسؤولية ، ولايؤدي جملة أعماله ولايرتب جملة تصرفاته في هذه الحياة إلا على الظن بأنه ليس مسؤولاً عنها ، وأنه لاتترتب عليها نتيجة حسنة أو سيئة في حياة أخرى بعد هذه الحياة .
ومن التأثير اللازم لخلو ذهن الإنسان من عقيدة اليوم الآخر أو عدم إيمانه بها أنه لايطمح ببصره إلا إلى النتائج المترتبة على أعماله في هذه الدنيا ولايحكم على شيء بالمنفعة أو المضرة إلا باعتبار هذه النتائج فحسب . إنه يحترز عن أكل السم ولايضع يده في النار لماذا ؟ لأنه يعلم أنه لابد أن يذوق وبال هذين الفعلين ونتائجهما السيئة في حياته هذه . وأما الظلم والكذب والخيانة والغدر والغيبة والزنا وما إليها من الأفعال التي لاتظهر نتائجها السيئة في هذه الحياة كاملة فإنما يحترز عنها على قدر مايخاف من ظهور نتائجها السيئة في حياته هذه ، ولايتردد في اقترافها حينما لايرى نتيجة سيئة تترتب عليها أو يرجو أن ينال بها منفعة مادية في هذه الدنيا نفسها ..(/2)
أما الذي يقول بعقيدة اليوم الآخر، فلا يطمح ببصره إلى النتائج العاجلة المترتبة على أعماله في هذه الحياة وحسب ؛ وإنما يطمح ببصره إلى نتائجها الحقيقية المتربة عليها في حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، ولايحكم على فعل بالمنفعة أو المضرّة إلا على اعتبار تلك النتائج ، فهو كما يكون على يقين من أن السم مهلك والنار مؤلمة ، كذلك يكون على يقين من أن الظلم والكذب والغدر والخيانة والزنا كلها أفعال مهلكة مؤلمة ، وهو كما يعتقد أن الخبز والماء نافعان ، كذلك يعتقد أن العدل والأمانة نافعان ، ويقول بنتيجة معينة يقينية لكل فعل من أفعاله ولو لم تظهر في هذه الحياة أصلاً...(9)
خامسًا : آثار الإيمان باليوم الآخر إعلاميًا وخلقيًا(10)
وهذا البعد الغيبي في الطرح الإعلامي مما يميز الإعلام الإسلامي عن غيره من نظم الإعلام المطبقة في واقع الحياة اليوم . فبه تتحقق الموازنة بين ماهو مادي وماهو معنوي. وبه تتحقق أعلى درجات الإثارة النفسية لما يبعث في النفس من طموح ومايثير فيها من خوف ، ومايقدمه من سعة في مدلول معنى الحياة .
والإخبار عن الغيب في المستقبل هنا ضرب من الإعلام التحذيري والتبشيري معًا ، ويتيح للناس فرصة الإعداد لمواجهة احتمالات المستقبل بما يكفل لهم سلامة المواقف ويحقق لهم الطمأنينة ويحفزهم على العمل المثمر، وبذلك ترقي الأخلاق وتزكو الحياة ، ويحقق الإخبار غاياته في بناء الحياة الإنسانية الكريمة في رشد ونماء ...
والإيمان باليوم الآخر على الوجه الصحيح مفض إلى سلامة النفس ورشد التصور واستقامة السلوك ورقي الحياة ، وهو ضمانه ليقظة القلب وعلو الهمة واستعلاء النفس وترفعها في مراقبة تورث الإحسان وتحقق إنسانية الانسان ، ولتصبح أهداف الحياة أعلى من ضروراتها ، تطلقًا إلى التمايز الحق بين الناس : ?وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَّتَفَرَّقُوْنَ . فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِيْ رَوْضَةٍ يُّحْبَرُوْنَ . وَأَمَّا الَّذِيْنَ كَفَرُوْا وَكَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ فَأُوْلئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُوْنَ?(11). وقال عز من قائل: ?قُلْ إِنِّيْ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّيْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ . مَنْ يُّصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَه وَذالِكَ الْفَوْزُ الْمُبِيْنُ?(12).
الإخبار في هذا النص مسوق لتأكيد تحقق وقوع يوم الجزاء ، وهو في الوقت نفسه للإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر، بل هو غاية التحذير ، لأن خوف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة يحمل غيره على الفزع . وهو كذلك دعوة غير مباشرة إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم مما يعني علو شأن الإعلام الذي يتوسل إلى غاياته في أساليب ذكية تشعر المتلقي بقدرته على الفهم وعلو ثقة المرسل به ...
والخوف الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلنه للناس في هذا النص بهذا الجلاء والوضوح تأكيدًا لوقوع يوم الجزاء ، يشفع ببيان تأكيدي تهديدي آخر في سياق الإخبار عن يوم القيامة هو قوله تعالى : ?ثُمَّ رُدُّوْا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقُّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِيْنَ?(13).
وهو نص ظاهر الدلالة على أن المراد الإعلام بوقوع يوم القيامة تحذيرًا للناس وتنبيهًا لهم من مغبة الوقوع فيما يؤدي بهم إلى الهلاك يومئذ . والذين يعرضون عن هذا البلاغ على الرغم من وضوحه وجلائه وعلى الرغم من ضخامة الحقائق المعروضة من خلاله يستحقون الإهمال والإعراض : ?وَذَرِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوْا دِيْنَهُمْ لَعِبًا وَّلَهْوًا وَّغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِه أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَلِيٌّ وَّلاَ شَفِيْعٌ وَ إنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّيُؤْخَذُ مِنْهَا أُولئِكَ الَّذِيْنَ أُبْسِلُوْا بِمَا كَسَبُوْا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيْمٍ وَّعَذَابٌ أَلِيْمٌ بِّمَا كَانُوْا يَكْفُرُوْنَ?(14).
ففي النص الكريم أمر بالإعراض عن المكذبين مع التذكير بالقرآن والتحذير من نقمة الله وعذابه يوم القيامة ، والأمر بتركهم إما للتقليل من شأنهم وتهديدهم أو ترك معاشرتهم وملاطفتهم ...
* * *
الهوامش :
(1) سورة آل عمران ، الآية 30.
(2) سورة البقرة ، الآيتان 3-4 .
(3) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ج 1 ص 39-40 .
(4) أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص 69-70 (باختصار) .
(5) انظر هذه الفقرة – بتفصيل أكثر – في كتاب : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . أبو الأعلى المودودي. د. م: دار الخلافة ؛ الإسكندرية : توزيع دار الدعوة ، د. ت (الحضارة الإسلامية .. أسسها ومبادئها) ص 237 ، 260 – 262 .
(6) سورة الأنبياء ، الآية 47 .
(7) سورة البقرة ، الآية 48 .
(8) سورة الأنعام ، الآية 94 .
(9) المصدر السابق (باختصار) ص 267-269 .(/3)
(10)انظر ماورد تحت هذا العنوان باختصار في كتاب : أصول الإعلام الإسلامي وأسسه: دراسة تحليلية لنصوص الأخبار في سورة الأنعام . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، ج2 ص 80-81 ، 22 ، 125 وانظر بعض المصادر التي اعتمد عليها هناك .
(11)سورة الروم ، الآيات 14-16 .
(12)سورة الأنعام ، الآيتان 15-16 .
(13)سورة الأنعام ، الآية 62 .
(14)سورة الأنعام ، الآية 70 .
* * *(/4)
الإعلام الإسلامي ..ضرورة عصرية د. أحمد حسن محمد*
يعتبر الإتصال الانساني فطرة فطر الله عليها البشرية منذ نشأتها الاولى, فقد كان التكليف الأول الذي أمر الله به آدم عليه السلام بعد خلقه هو مهمة البلاغ و التوضيح و الإفهام, وذلك في أول إتصال بملائكة العرش.. حيث يقول الحق سبحانه (يا آدم انبئهم بأسمائهم...) البقرة 33 ومضت سيرة الحياة الإنسانية ضمن سلسلة علاقات متعددة تقوم على اتصال الإنسان بالإنسان أفراداً وجماعات وأمماً حتى أمكن تنظير هذه الفطرة ضمن سلسلة من العلوم و المعارف كان منها الإعلام. والإعلام بدأ ينقل المعلومة من شخص أو أشخاص إلى آخرين , وذلك عن طريق الكلمة المنطوقة لتصل مباشرة من الفم إلى الأذن من دون وسيط أو وسيلة, بجانب نقل هذه الكلمة أيضاً عن طريق البصر مباشرة كما هو الحال في الصورة أو الرسم, وظلت حاستا السمع و البصر (الأذن و العين) هما المدخلين الاساسيين لإدراك الكلمة التي تمثل رسالة مقصودة من جانب مرسلها إلى آخر مستهدف بها, أي أداة للتفاهم وزيادة المعرفة. حتى كان التطور السريع الذى صاحب العمليات الإتصالية عامة والإعلام بصفة خاصة. حيث أصبحت هذه الكلمة أو المعلومة التي اصطلح عليها باسم الرسالة الإعلامية تنقل من شخص أو أشخاص إلى عالم متسع من المتلقين عن طريق الاذن, ولكن بوسيلة جديدة وجهاز جديد عرف بالراديو.. وتنتقل ايضاً على أنظار وعيون الملايين عن طريق التلفاز أو السينما أو غيرهما, من الوسائل المرئية الحديثة مما جعل العملية الإعلامية تتحول شكلا ومضمونا وهدفا حيث لم تعد مجرد خبر ينقل أو تسلية فى وقت فراغ , بل اصبحت تمثل نشاطا هادفا يسعى الى العديد من الأهداف التي تتركز في معظمها على التأثير و الاقناع بهدف أحداث التغيير والتحويل نحو أهداف ومبادئ وقيم يسعى اليها صاحب الرسالة ومرسلها سواء كان ذلك فى عالم القيم والمثل أو الاتجاهات و المبادئ و المذاهب. وبهدف إستمالة المتلقي (السامع أو الرائي) واعتناقه لقيم ومبادئ صاحب الرسالة.
الاعلام و الصراع العالمي
ومع تطور الحياة السياسية والاجتماعية تعددت الدول وقامت معظمها على مبادئ وأفكار وقيم مختلفة وكل دولة تسعي لسيادة مبادئها وانتشار أفكارها وإخضاع الأخرون لما يرونه من مبادئ وإتجاهات, فكان هذا الصراع العالمي الذى اتخذ شكل الحروب و القتال و الغزو العسكري. وظهر الاعلام كسلاح خطير فى هذا الصراع الدولي سيما بعد أن توفرت له وسائل متطورة لها قدرة الوصول إلى أي مجتمع وجماعاته وبسهولة وبساطة , فحظي الاعلام بذلك باهتمام كبير من جانب الدول والمجتمعات والهيئات في عالمنا المعاصر, وأصبحت الرسالة الاعلامية تحمل فكر مرسلها لتعمل في مجالات النشاط الإنساني كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً , فكان الإعلام بذلك قوة فاعلة تربط المجتمع الإنساني بمضامين واتجاهات متعددة بغرض التحويل و الاقناع ومن ثم الإتباع والولاء. وما نشاهده اليوم من هذا الفيض الهائل من البرامج المسموعة والمقروءة و المرئية التي تحملها اجهزة متطورة يوماً بعد يوم لدليل واضح على خطورة وأهمية الاعلام بالنسبة لأي جماعة أو دولة تتطلع للسيادة والانتشار. وعلى الرغم من إيجابيات هذه الثورة الاعلامية والوسائل المتطورة في مجال التثقيف والأخبار وربط المجتمع البشري بما يحدث في أنحاء العالم لحظة بلحظة وما تحقق من وعي ويقظة فكرية بين الأجيال الجديدة في هذا العالم فإنها لم تخل من سلبيات خطيرة ومظاهر سالبة إنجرفت إليها الكثير من محطات الإرسال والبث ودور النشر و الطباعة سواء كان ذلك بغرض الهدم المقصود لما تعارف عليه الناس من قيم ومثل أو الكسب المادي والإنتشار وكلها ولا شك قادت نحو آثار سالبة ظهرت فى العديد من الدول وخصوصا فى مجال الفكر و الثقافة والآداب العامة, مما أوجد صراعا رهيبا فى عقول الناشئة ومعارضات(سالبة) من جانب المفكرين و المربين, فوقع العالم في حيرة نتيجة هذا الصراع بين ثقافات متعارضة ودول مختلفة ليضع الاجيال الحالية في حيرة بل واحيانا في ضياع وتيه..ولعل من مساوئ هذه الهجمات و الأفكار ما كان منها بغرض الاستهداف والاعتداء والافتراء على نظم بعينها او مبادئ سائدة بغرض تحقيق انصراف الناس عن هذه المبادئ أو الثورة على هذه النظم بما يحقق سيطرة افكار ونظم الجهات التي تقف خلف هذه الرسائل والبرامج الاعلامية الغازية.
العالم الإسلامي والثورة الإعلامية(/1)
لما كان العالم الاسلامي جزءاً لا يتجزأ عن غيره من الدول والمجتمعات التى تتعرض لما يبث من برامج إعلامية مختلفة, فقد كان طبيعياً أن تتأثر كثير من هذه المجتمعات المسلمة بمضامين وأهداف الرسائل الإعلامية الصادرة من أجهزة الإعلام المختلفة سيما بعد سيطرة الشبكات الإذاعية والأقمار الصناعية..ولما كانت المصادر الاعلامية في معظمها بعيدة عن هدى الاسلام ومبادئه أو على الأقل غير حريصة على تقديم مفاهيم الإسلام وتوجيهاته ضمن مضامين برامجها, فقد أتاح ذلك سيطرة ملموسة على ما يصل العقل المسلم من برامج منحرفة عن هدى الله حتى أصبحت مثل هذه البرامج قضايا مسلماً بها لدى بعض الناشئة حيث لا بديل عنها تقدمه الدول والجماعات الإسلامية التى كانت-بل ومازالت- لا تملك تقنيات الإتصال الحديثة أو التنظير والتأصيل الإسلامي للرسالة الإعلامية. ولعل من أهم الاسباب التي حالت دون تقدم المجتمعات الإسلامية فى مجال الإعلام الحديث ووسائله ما يلي:-
أولا: تركيز علماء المسلمين وطلاب العلم وجامعاتهم على العناية بالعلوم الشرعية والأصول الإسلامية ودراسة اللغة العربية..وهذا أمر طبيعى ومطلوب دائماً ولاشك , ولكن الأمر كان يتطلب بذل الجهد والعناية بالعلوم الحديثة والفنون الانسانية الجديدة ومنها الإعلام دراسة وتأصيلا ونقداً وتحليلاً , بما يوفر طاقات علمية قادرة على الإسهام بالجديد الملتزم بهدى الله سواء في مجال البرامج أو التقنيات أو القوى البشرية المدربة.
ثانيا: لما كان الإعلام الموجه لدول المسلمين صادرا عن مصادر أقل ما يقال عنها أنها بعيدة عن الإسلام وغير متحمسة لنشر مبادئه إن لم تكن معادية تماما فإن هذه الرسائل جاءت متأثرة بعادات وتقاليد أصحابها التي كانت فى معظمها مخالفة لشرع الله سواء في المضمون أو الشكل أو الإخراج, مما أوجد معارضة من المسلمين عامة, وعلمائهم خاصة, حتى اعتبر البعض أن ماتقدمه وسائل الاعلام فى حكم المحرم شرعاً بل وصل الامر عند بعض المتشددين بتحريم الاجهزة التى تحمل مثل هذه البرامج وظل ذلك الامر لفترة طويلة أتاحت سيادة البرامج الغربية.
ثالثا: عندما أدرك المسلمون خطورة الإعلام واستحالة صد ما تبثه الوسائل المختلفة ومنع تأثيرها على الناشئة خاصة والمجتمع عامة لم يكن أمام المتحمسين والحريصين سوى النموذج الغربي في البرامج تصويراً وإخراجاً.
رابعا: إن محاولة تأهيل جيل إعلامي متخصص في فنون الإعلام وتقنياته كان عن طريق توجيه هذا الجيل نحو المؤسسات الإعلامية في بلاد الغرب فعادوا يحملون تقنية الغرب, بل وفكر الغرب, فنشأ جيل إعلامي يحمل أسم الإسلام ويفكر بعقل الغرب الذي ينكر الإسلام مبادئه.
من أجل هذه الاسباب وغيرها أصبح العالم الاسلامي في معظمه عالة على العالم الغربي مستورداً لبرامجه وفنونه بل وأفكاره ونظرياته, مما يجعلنا نطرح السؤال الاتي: ما هي ضرورة الإعلام الإسلامي؟ إن الواقع الذي تعيشه معظم المجتمعات الإسلامية في صراعها مع التيارات الوافدة والأفكار المادية التي تحملها أجهزة إعلام لها قدرة التأثير والتجديد والإقناع, لاشك أنه لايتفق تماما مع ما يجب أن تكون عليه هذه الأمة المسلمة من مكانة وريادة , والتي أشار اليها كتاب الله عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). البقرة 143 وليس هذا أمر خيار أن تكون كذلك أو لا تكون, بل هو فرض على أمة الإسلام أن تتولى الدعوة والإبلاغ بأحكام الله الداعية للفضيلة والصلاح بل ومحاربة المنكرات وكل ما يفسد عقائد الناس أو ينحرف بسلوكهم, يقول الحق سبحانه: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). آل عمران 1.4 ويؤكد على ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم فى قوله:(/2)
( لتأمرنّ بالمعروف و لتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عذابا فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم) ويستحيل على الأمة أن تكون كذلك بغير وسائل فاعلة قادرة على التحدى والصمود والتفوّق على وسائل غير المسلمين مما يتطلب ضرورة الإهتمام بالإعلام ووسائله وتجنّد له الطاقات والأخذ بأفضل الاساليب والوسائل وأفضلها سواء فى مجال البرمجة والتقنية, ومن نعمة الخالق على هذه الامة أن شرع لها ديناً هادياً وأرسل إليها رسولا مرشدا..دين يتعامل مع مظاهر الحياة كافة ومواقف الإنسانية على إختلافها, فإذا ضعفت الشخصية الإسلامية أمام هذا الفيض والكم الهائل من التيارات المعادية والمبادئ المستحدثة فليس ذلك مطلقاً لعجز في القدرة على الإستجابة لمحدثات ولمستجدات العصر, ولكن لأن الكثير من المسلمين فقدوا روح المبادرة على التغيير, وبالتالي فقدوا حركة الإجتهاد و التطوير الباني, فعاشوا عالة على غيرهم في كثير من مجالات المعرفة والتقنية وكان الإعلام من أبرزها..ومع مستحدثات القرن التاسع عشر, وما بعده إمتد الغزو الغربي على نطاقه الواسع فاستيقظ العقل المسلم ليجد هذه التحدي الصارخ لحضارته وأفكاره ومبادئه مما جعل المواجهة أمرا حتمياً . إن هذه المواجهة أصبحت ضرورة لا خياراً , فالإسلام يرفض مواقف السلبية بين الإسلام ومجتمعه, كما يرفض الضغط و الإجبار لصالح مبادئ وأفكار واتجاهات تتعارض مع هدى الله وذلك بعد أن حرر الاسلام الانسان من قيود القهر وكلفه أعباء المسؤلية عن إرادة الاختيار. ومن هنا تبرز ضرورة الإعلام الاسلامي الذي يحمل هدى الله ليس لمجرد المواجهة ورد الفعل فقط, بل لإعزاز كلمة الله من خلال أجهزة ووسائل يقوم عليها متخصصون مدربون مؤمنون برسالة الإسلام ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 22 ويسعى الاعلام المهتدي بهدى الله إلى تحقيق أمور مهمة نذكر منها:- أولا: مواجهة حالة الضياع التى يعيشها المجتمع المعاصر عامة ومجتمع المسلمين خاصة بما يعيد التوازن السليم بين فطرة الانسان ومستحدثات العصر الفكرية منها والمادية.
ثانيا: تحقيق مواجهة إيجابية فاعلة أمام حملات غير المسلمين ممن يعادون الإسلام إما جهلاً به أو حقدا عليه, وذلك من خلال أجهزة ووسائل متطورة تواكب مطلوبات العصر, بما يحقق إعلاما قادرا ومتميزاً يقوم على المنهج العلمى الصحيح.
ثالثا: تقديم الإسلام ومبادئه وفق أصوله التى جاءت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة و السلام, ونقد ما لصق به من شبهات وافتراءات من خلال برامج تجمع بين قوة الحجة وفن الإقناع والتأثير بجانب الجاذبية وحسن العرض.
أن علمنا المعاصر في أشد الحاجة إلي هذا النوع من الإعلام الذي بدأ بفضل من الله يظهر من خلال جهود بدت متواضعة ولكنها تنمو يوماً بعد يوم بما يبشر بنجاحها وخصوصاً بعدما ظهر واضحاً إقبال الكثيرين من أهل الصلاح على التعامل معها والإستجابة لمضامينها. ومن هنا ولهذه الأسباب وغيرها تظهر أهمية الإعلام القائم على هدى الله وفق منهج إسلامي يقوم على التأهيل العلمي المعاصر وبين المضمون الهادف والعرض الجذّاب.(/3)
الإعلام الرشيد وحماية الدماغ من الغسيل
بقلم: أ. د. فاتن مرسي
البحث العلمي المتقصي الدقيق واستقراء الواقع يقودان إلى التأكيد على وجود ما يسمى ب (غسيل الدماغ الجماهيري (Washing Mass Brain ونحن ندرك ونعرف منذ البداية أن هذا الاصطلاح غير مطروق في أي دراسة تعرضت لغسيل الدماغ، ولكن المقابلة العلمية والعملية لما يجري، وقياسه على تقنيات، وآليات عمل غسيل الدماغ سيقودنا إلى الاعتراف بأن غسيل الدماغ يتم ويمارس على الجماهير، متتبعين ومستخدمين الأساليب نفسها التي تستخدم على المستوى الفردي، ذلك لأن العالم يشهد الآن كثيراً من الجهات التي تخطط إعلامياً للتأثير على الشعوب وعلى أنماط تفكيرها أو انتمائها لفكر معين، مما يمكن تسميته بعمليات غسيل الدماغ الجماعي. إلا أن الإعلام الوطني الصادق يترك أثر السحر في حماية الدماغ من أي غزو، أو غسيل خارجي مستهدف، فالإعلام الصادق له تأثيره العميق سواء على الجماهير بل حتى على الكفاءة القتالية لدى الجيوش.
ففي المدرسة العسكرية الإسلامية لنا الكثير من الأمثلة على دور الإعلام الصادق وأثره الكبير والحيوي في الكفاءة القتالية لدى الجند، نذكر منها أنه عندما علم رسولنا الكريم، القائد { من عيونه وأرصاده، أن قافلة لقريش في طريق عودتها من الشام إلى مكة، أمر أصحابه بالخروج لاعتراضها، وقال: "هذه عير قريش فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" لكن أبا سفيان عرف بأمر خروج المسلمين، فبعث إلى مكة يستنفر قريشاًَ لنجدته، إذ كانت قوة القافلة ثلاثين أو أربعين رجلاً، وعلم الرسول الكريم والقائد العظيم { بأمر خروج قريش لقتاله، وذلك في غزوة بدر الكبرى.. فتبدل الموقف، ولم يعد الأمر "اعتراض قافلة" بل أصبح "مواجهة مباشرة" بين المسلمين وقوة المشركين من قريش، الأمر الذي تطلب قراراً جديداً أمام ذلك التحدي الخطير الذي يواجهونه لأول مرة منذ هجرتهم إلى المدينة، وهو مجابهة حربية حاسمة، تعد في حقيقتها أول "اختبار عملي" حاسم للإسلام، وكان للنتيجة التي سوف تسفر عنها المعركة آثار بعيدة المدى على الدعوة وعلى مستقبلها وعلى هيبة المسلمين، وقد عبر الرسول { عن ذلك وهو يهتف بربه: "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك"، اللهم نصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض".
في ذلك الموقف العظيم يعلمنا الرسول الكريم { درساً عظيماً في مجال الإعلام، يتعلق بموقف القيادة إذا ما علمت أن الجيش سوف يواجه عدواً متفوقاً في العدد والعدة: فهل تخفى تلك المعلومات عنه خوفاً على الروح المعنوية أم تعلنها؟. لقد قرر رسول الله { أن القيادة الرشيدة هي التي تعلن حقائق الموقف وتبصر الجيش بحجم التحدي الذي يواجهه، وضراوة المعركة التي سوف يدخلها ثم تتخذ في الوقت نفسه من التدابير ما يمكنها من مواجهة التحدي بثبات واقتدار، ومن التغلب على تفوق العدو أو تجريده من فاعليته وهذا هو ما فعله الرسول {.
فقد أعلن { كل ما حصل عليه من معلومات بصدق وصراحة ووضوح، فحين علم بخروج قريش عن بكرة أبيها للقتال قال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها".. وحين استنبط القوة العددية لقريش من استجوابه لأسيرين أحضرهما إليه رجال الاستطلاع قبل المعركة، أعلن ذلك على الفور فقال: "القوم بين التسعمائة والألف"، وذلك رغم أنه يعلم أن قوة المسلمين ثلث ذلك العدد!.. وحين عرف أن العدو أصبح قريباً جداً من بدر أعلن فوراً عن موقعه: وراء الكثيب بالعدوة القصوى (والعدوة القصوى أي حافة الوادي البعيدة من المدينة)..
لقد كان من نتائج الإعلام الصادق بحقائق الموقف، إجماع المسلمين على قبول التحدي والتصميم على دخول المعركة ضد كفار قريش، وقد عبر عن ذلك قول المهاجرين: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (موضع في اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه" وقول الأنصار: "فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.." وقد أظهر المسلمون في بدر ما لا يحصى من صور الشجاعة وقوة العقيدة وإرادة القتال وحب الشهادة في سبيل الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.(/1)
بذلك يتأكد المبدأ الحكيم الذي أرساه رسول الله { وهو ضرورة الإعلام الصادق بحقائق الموقف، وعدم إخفاء المعلومات الحقيقية، حتى لا نترك الجماهير أو أفراد الجيوش للوقوع كفريسة لغسيل الدماغ، وإذا كان معظم الباحثين المعاصرين يميل لموضوع غسيل الدماغ إلى اعتباره "تكتيكاً" يستخدم على المستوى الفردي، أي عند ممارسته على الأفراد، وأنه لا يستخدم عادة وإن حدث واستخدم لا يكون ناجحاً على مستوى الجماهير، إلا أن استقراء الواقع الذي نعايشه اليوم والمتمثل خاصة في أسلوب إسرائيل والغرب وأمريكا في غسيل أدمغة العالم العربي والإسلامي بالأكاذيب والأضاليل، يؤكد وجود ما يمكن تسميته عن يقين بعمليات غسيل الدماغ الجماعي.. لكن ما هو أصلاً غسيل الدماغ؟.
بين مرحلة التخلي ومرحلة التحلي
تتزاحم التعاريف التي تسعى إلى تفسير غسيل الدماغ كما تتزاحم المسميات، فمقابل هذا المصطلح سنجد مجموعة من الأوصاف التي تحاول وصف هذا الأسلوب النفسي الذي يسعى إلى تحرير الفكر أو السلوك البشري ضد رغبة الإنسان وعقيدته أو إرادته أو سابق ثقافته وتعليمه، ومن هذه المسميات الوصفية لهذه الوسيلة التقنية المخططة نجد ما يلي:
إعادة تقويم- بناء الأفكار.
التحويل- التحرير المذهبي- الفكري.
الإقناع الخفي.
التلقين المذهبي.
ولكننا من جماع الدراسات المستفيضة لتقنيات عمل غسيل الدماغ كأسلوب نفسي يسعى لتغيير الاتجاهات، عملنا على وضع هذا التعريف الذي جعلناه وصفاً دقيقاً لهذه العملية وهو: (الإقناع القسري المقنن) أي الإقناع الذي يمارس ضد رغبة الفرد وإرادته مستخدماً طرائق تقنية وأساليب إجرائية ذات مواصفات قياسية معيارية.
ولمزيد من فهم هذا التعريف لا بد من التعرض بشئ من التفصيل لهذه العملية، ثم نطرح الأسلوب المستخدم اليوم على المستوى الواسع جماهيرياً لنقف على أبعاد ما أسميناه ب (غسيل الدماغ الجماهيري (Washing Mass Brain. ولفهم ميكانيكية عملية غسيل الدماغ يمكننا وضع هذه المعادلة ثم نفصل القوة على مستوى العمل الفردي:
غسيل الدماغ: ضغوط (إجهاد عقلي + قابلية للإيحاء) + تعليم قسري (ثواب وعقاب) = الاستجابة الشرطية.
وفي عمليات غسيل الدماغ التي تتم وتمارس على الأفراد يمكننا أن نحدد مرحلتين أساسيتين هما مرحلة التخلي ومرحلة التجلي.. وهكذا نجد أن الحملة الغربية لتشويه الصورة العربية والإسلامية تسعى بإصرار وعناد لتقديم العرب والمسلمين باعتبارهم متخلفين برابرة وأنهم عدوانيون وإرهابيون بسبب انتمائهم العقائدي والحضاري والثقافي.
وبالرجوع إلى الشكل والمعادلات التي ذكرناها آنفاً ومحاولة عقد مقارنة بينها وبين ما يجري ضد أمتنا من حملات سنجد أن ثمة تطابقاً كبيراً، حيث لجأت الدول التي تمارس الهجوم عبر الحملات الإعلامية الدعائية النفسية المعادية والغزو الثقافي وغسيل الدماغ الجماهيري والتخريب الفكري والتشويه الحضاري.. لجأت هذه الجهات إلى استخدام تقنيات وآليات عمل غسيل الدماغ، ولكن بتطبيقها هذه المرة على مستوى الشعوب.. فقد عمدت إلى أساليب العزل والحصار والحرمان ثم أساليب التخويف والتهديد، لا بل كانت تضطر أحياناً إلى شن الحروب مباشرة التي تشبه أساليب العقاب والتعذيب على المستوى الفردي، وذلك من خلال قوتها الذاتية أو جهات أخرى خارجية أو داخلية.
كل ذلك كان ينعكس مباشرة على الشعوب وهي تقع تحت وطأة عمليات العزل والحرمان، والتهديد و العقاب بأن يزج بها في دوامة من فقدان الثقة والإجهاد والوهن والشعور بالضعف والعجز وعدم القدرة على المجابهة ومشاعر العجز عن التعبير وإبداء الرأي، فيتملكها الإحساس بالقهر حيث تترافق هنا الحملة مع عمليات التركيز على تحطيم القوى المعنوية الصلبة التي تتحصن بها الأمة، كالمعنويات والإرادة والإيمان بالمعتقدات والقيم والمصير والأهداف المستقبلية والقدرة على المقاومة والثبات، ويترافق كل ذلك أيضاً بعمليات نفسية أخرى هي الاستهجان والاستحسان حيث يتم إشعار هذه الشعوب الجمهور المستهدف بأن الناس جميعاً تستهجن هذه الأفكار والمفاهيم والمسلكيات التي لم تعد مقبولة، كما يتم إشعار الجماهير بأن الناس جميعاً والدنيا كلها تستحسن هذه الأفكار والمفاهيم الجديدة والمطروحة.(/2)
وفي هذه الحالة ونتيجة لكل هذه الخطوات المعمقة تنهار الدفاعات النفسية للأمة ويتفشى الشعور بالخوف والذعر بسبب اضطراب العمليات العقلية وازدياد التوتر والتنبيه العصبي والوقوع في براثن الشك والحيرة والقلق وعدم الثقة بأي شئ، ومع تكرار هذه العملية وإشعار الجمهور المستهدف بإصرار القائمين عليها على الاستمرار وعدم التراجع حتى يتم تبني الأفكار الجديدة.. تبدأ وسائل الإعلام المواجهة بالتخفيف من عوامل الضغط ثم رفعها كعمليات الحصار أو العمليات الحربية، والتهديد الدائم بها مع تقبل الأفكار والمفاهيم الجديدة والإذعان لإنتهاج السلوكيات المطلوبة حيث يبدأ الربط الشرطي، وتظهر الاستجابات الشرطية حيث يرتبط رفض ونبذ الأفكار والمفاهيم الجديدة مع الحصار والتهديد، بينما يرتبط تقبل وتبني الأفكار والمفاهيم مع الرخاء والازدهار والوعود البراقة بالرفاهية المنتظرة.. وهكذا يتم التخلي عن الأفكار والقيم والأهداف القديمة وتحل محلها الأفكار المطلوب تبنيها من قبل الشعوب، وهذه هي بالضبط عملية غسيل الدماغ واقعياً على مستوى الشعوب.
وغني عن البيان القول بأن هذا الأسلوب يعتمد على مدى نضج الشعوب ودرجة التعلم والثقافة ومدى الإيمان والتمسك بالقيم والأهداف الاستراتيجية والعقائدية فهناك ثمة دلائل متزايدة على هجمة ثقافية بهدف فرض ثقافة حضارية غربية منتصرة، ومحاصرة الثقافات الوطنية وتهميش دورها داخل مجتمعاتها.
الإعلام الصادق يحمي الأمة من الانهيار
إذن فالإعلام الصادق هو الذي يحمي الأفراد والشعوب من الوقوع في فخ غسيل الدماغ، كما أن إخفاء المعلومات عن تفوق العدو من الأخطاء التي لا يجب أن يقع فيها القائد المسلم، لأن الحالة المعنوية التي قد يتصور البعض أن الإخفاء يحافظ عليها، سوف تنهار بمجرد بدء القتال الذي سوف يُظهر حتماً جوانب تفوق العدو، وسوف يشكل ذلك مفاجأة تصدم الأفراد المقاتلين، صدمة أكبر من موضوع التفوق ذاته، وتؤدي إلى فقدهم الثقة في قيادتهم التي أخفت عنهم حقائق الموقف، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تعرضهم المباشر لغسيل الدماغ من قبل العدو وأجهزته وعملائه.
ونذكر في هذا المجال مثالاً يوضح بجلاء أهمية الإعلام الصادق وأثره الإيجابي في حماية الأفراد من غسيل الدماغ وأيضاً أثره الإيجابي في الكفاية القتالية، ففي غزوة تبوك عام (9) هجرية أعلن الرسول { عن وجهته صراحة لرجاله حتى يقدروا ما تنطوي عليه الغزوة من مشاق السفر الطويل (أكثر من 700 كم) وشدة الحر، وقوة الروم وأتباعهم من نصارى العرب، ولكي يستعدوا لها الاستعداد النفسي والمادي الكافيين على حد سواء.. وقد وصف أبن هشام ذلك الموقف فقال: "إن رسول الله { أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد.. وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه وكان رسول الله { قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد (يقصد) له إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة (المسير) وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم..".
كان من نتائج هذا الإعلام الصادق الذي كسر به رسول الله { القاعدة التي درج عليها في إخفاء اتجاه عملياته، أن خرج المسلمون إلى تبوك وتحملوا مشقات شديدة وتحملوا الجوع والعطش مدة طويلة حتى قال عمر بن الخطاب } كما جاء في كتاب: "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ج5 ص 646" "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي من الماء على كبده".
وكان من هذا التاريخ أيضاً أن المسلمين تدافعوا نحو تجهيز جيش العسرة بما يحتاجه من أموال وسلاح ومؤن، فقد بلغ عدده ثلاثون ألف رجل، فقد قدم أبو بكر } ماله كله، وقدم عمر بن الخطاب } نصف ماله، وجهز عثمان بن عفان } ثلث الجيش (000.10 رجل) وحتى الضعفاء من المسلمين تقدموا بالقليل الذي يقدرون عليه.. وطلبت جماعة من المسلمين أن يعطيهم الرسول { ما يركبونه فلم يجد، فتولوا وهم يبكون لأنهم لا يجدون ما ينفقون، ولذلك سموا البكائين وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم، فقال تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (سورة التوبة 91-92).(/3)
هكذا نرى مدى أثر الإعلام الصادق في نفوس الناس والمقاتلين، أفراداً وشعوباً، وهكذا نجد أيضاً كما ذكرنا أن هدف هذه الحملات المعادية هو تفريغ العقول العربية الإسلامية من قيم ورموز ومتعلقات حضارتهم وإعادة تعبئتها بقيم ومتعلقات ورموز الثقافة والحضارة الغربية، وذلك في الجانب الفكري فقط بعيداً عن التكنولوجيا المتطورة والعلوم الحديثة المتقدمة ومن ثم وبالترافق مع الأساليب الأخرى تتم عملية الإقتناع والتقبل للأفكار الجديدة على المستوى الفكري للأمة، ثم تبدأ مشاعر الحب والاعتزاز بهذه الأفكار على المستوى العاطفي الوجداني للأمة مما يجعل السلوكيات تنسجم مع تلك القناعات والمشاعر، أي يتكامل عندها تكون أو تشكُل ما يسمى بالاتجاه الجماعي للأمة وبلورة الرأي العام.
وفي الوقت نفسه تتم عمليات تشويه الصورة الخارجية وإعادة إنتاجها لتنسجم مع أهداف الحملة التي تسعى بالتشويه والغزو الفكري إلى إبعاد الأمة عن اقتناعها بتميزها واقتدارها أن تأخد دورها الفاعل على مسرح الحضارة الحديثة، ومما يهيئها لمثل ذلك الدور بقدراتها المادية العظيمة وإمكاناتها المعنوية ورسالتها الحضارية المتميزة والمتسمة بالعدالة والإنسانية والأخلاقية.. فالهدف الأول دائماً وراء غسيل الدماغ هو أن تظل الأمة متخلفة تابعة مستغلة من قبل القوى الطامعة المستفيدة.
ثبت المراجع:
1. القرآن الكريم.
2. د. فخري الدباغ: غسيل الدماغ، ط2، دار الطليعة، بيروت 1982م.
3. صلاح نصر، الحرب النفسية، معركة الكلمة والمعتقد، ج1، ج2، ط2، 1967م.
4. د. نبيل سليم، إعادة إنتاج العقل الإسلامي، دار الفكر الحديث، ط 2، 199م.
5. مصطفى الدباغ، مقال في مجلة "الحرس الوطني، يناير 1999م.
6. د. عبدالرحمن عدس، و د. محي الدين توق، علم النفس العام، مكتبة الأقصى، عمان، 1981م.
7. العقيد شارل شانديسي، علم النفس في القوات المسلحة، ترجمة د. محمد ياسر الأيوبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 بيروت 1983م.
8. د. حامد عبدالسلام زهران، علم النفس الاجتماعي، ط4، عالم الكتب، القاهرة 1977م.
9. لواء- محمد جمال الدين محفوظ، مقال في مجلة المجاهد، صفر 1418ه.(/4)
الإعلام العربي بين الواقع والأمل!
د. عبدالقادر طاش 15/2/1425
05/04/2004
قد أصبح من مكرور القول أن نقرر بأن عصرنا الحاضر هو عصر الإعلام. وليس في هذا الوصف أدنى مبالغة، فقد تعددت وسائل الاتصال والإعلام، وتنوعت أساليبه، وتشعبت مجالات تأثيره، واستولت هذه الوسائل على أوقات الناس، واستقطبت اهتماماتهم، وغدت ظاهرة عالمية لا تقتصر معالمها على مجتمع دون آخر، ولا يصد آثارها الحواجز التقليدية، التي تعارف عليها الناس من حدود جغرافية أو اختلافات لغوية أو تباين ثقافي أو سياسي أو اقتصادي.
ولا بد لنا ونحن بصدد الحديث عن الإعلام العربي المعاصر وتشخيص مشكلاته وقضاياه أن نمهد لذلك بإلقاء الضوء على واقع الإعلام في عالم اليوم من حيث حجمه وسماته والقوى التي تهمين على حركته وتوجّه مسيرته.
واقع الإعلام الدولي المعاصر
إن أبرز ما يميز واقع الإعلام في عالم اليوم أنه يتسم بما يسميه علماء الاتصال والباحثون الإعلاميون بـ(الاختلاف الإعلامي) بين دول العالم وشعوبه. ويتمثل هذا الاختلاف في عدد من المظاهر البارزة من أهمها:
1- احتكار الغرب لصناعة تقنية المعلومات، والاتصال والإعلام، وهي ما تسمى بأوعية الاتصال وأدواته.
2- سيطرة وكالات الأنباء الخمس الكبرى على الساحة الإعلامية من حيث استقاء الأنباء وتوزيعها على النطاق الدولي، حيث يحصل العالم على أكثر من 80% من أخباره من لندن، وباريس، ونيويورك، وموسكو. وهذه الوكالات هي: رويتر البريطانية، ووكالة الصحافة الفرنسية ووكالتا الأسيوشيتد برس واليونايتد برس انترناشونال الأمريكيتان، ووكالة تاس السوفيتية. ويتمثل الاختلال هنا في الأخبار المتبادلة بين العالم الصناعي، والعالم النامي، إذ تخصص هذه الوكالات الخمس ما بين 10% -30% فقط من أخبارها للعالم النامي كله!!
3- تميز التبادل الإخباري- أو التدفق - بين الدول الصناعية والدول النامية باختلال نوعي- إضافة إلى الاختلال الكمي- إذ أن نوعية الأخبار التي تبثها الوكالات الخمس الكبرى عن العالم الثالث تركز على الجوانب السلبية، كالكوارث، والاضطرابات، والقلاقل ونحوها، تبعاً للمفهوم الغربي للخير.
وهو ما عبر عنه أحدهم بقوله: (إذ عض كلب رجلاً فليس ذلك بخبر، ولكن إذا عض رجل كلباً فذلك هو الخبر).
4- هيمنة المادة الإعلامية الغربية، والمضمون البرامجي المنتج في بيئات غربية على النطاق الدولي. وتتضح هذه الهيمنة في المجال التليفزيوني من خلال سيطرة أربع شركات غربية رئيسة، هي وكالة الأخبار المصورة البريطانية، واليونايتد برس، والنيوز فيلم الأمريكيتان، والوكالة الألمانية- على مجال الأخبار التليفزيونية المصورة. كما تتضح من خلال حجم الأفلام والبرامج والمسلسلات والمواد الإعلامية التي تبيعها الدول الغربية- والولايات المتحدة بشكل خاص - لدول العالم.. فشركة (سي بي إس - CBS) الأمريكية مثلاً، توزع برامها وأفلامها في 100 دولة في العالم. بينما تصل شركة (إيه بي سي -ABC) إلى 60% من تليفزيونات العالم. وقد حدت هذه الظاهرة الباحث البريطاني (جيرمي تنستال- J.Tunstall) إلى تأليف كتاب هام أسماه (أمركة الإعلام) يحلل فيه ظاهرة (أمركة العالم تليفزيونيا ً )، كما ألف الباحث الأمريكي (هربرت شيلر-H. Schiller) كتابه الشهير والمثير (الاتصال الجماهيري والإمبراطورية الأمريكية).
5- توظيف العديد من القوى الدولية لوسائل الإعلام لخدمة أغراضها وأهدافها الأيديولوجية والسياسية والثقافية. ففي مجال الإذاعة المسموعة فإن الدول الصناعية الكبرى تتحكم في 90% من الموجات الإذاعية في العالم. وتقوم وكالة الاستعلامات الأمريكية بنشاط إعلامي واسع النطاق على المستوى الدولي من خلال إنشاء المراكز الإعلامية (178 مركزاً في 111 دولة) وإنتاج الأفلام السينمائية وتوزيعها (200 فيلم سنوياً)، وتوزيع أفلام الفيديو (200 فيلم سنوياً)، ونشر المكتبات التابعة لها، وبث ما بين 6 و10 آلاف كلمة إخبارية إلى العديد من صحف العالم ومجلاته. هذا بالإضافة إلى استخدام إذاعة (صوت أمريكا) الموجهة التي تذيع أكثر من ألف ساعة في الأسبوع بـ 42 لغة في العالم، وتهدف إلى بث الأخبار التي تعبر عن الوجهة الأمريكية، وتوضيح السياسة الأمريكية، والترويج لنمط الحياة الأمريكية ورموزها وتقاليدها.
بالمقابل يوظف الاتحاد السوفييتي وسائل الإعلام لخدمة أهدافه الأيديولوجية والسياسية من خلال العديد من النشاطات. وكان (لينين) من أوائل من أدركوا خطورة الراديو وقدرته على تجاوز الحدود وبث الأفكار، وكان يسميه (صحيفة بلا ورق ولا تعرف شيئاً اسمه الحدود) ويذيع (راديو موسكو) - الذي يحتل المرتبة الأولى بين الإذاعات الموجهة في العالم في عدد ساعات البث - حوالي 2200 ساعة في الأسبوع بـ 81 لغة ولهجة في العالم.(/1)
6- استغلال وسائل الإعلام من قبل العديد من أصحاب الأديان والعقائد الفاسدة والاتجاهات الفكرية، وتسخيرها لخدمة أغراضهم. فمؤسسات التنصير وجمعياته، تمتلك العدد من المحطات الإذاعية والتليفزيونية والصحف والمجلات، ومراكز الإنتاج والتوزيع الإعلامي. وتبث (إذاعة الفاتيكان)- التي أهداها (ماركوني) للبابا سنة 1931 م - برامجها عبر ست موجات قصيرة، وتصل إلى كثير من أنحاء العالم بـ 30 لغة. وتفيد الإحصاءات أن هناك أكثر من 40 محطة نصرانية في العالم تبث أكثر من ألف ساعة أسبوعياً لنشر أفكار النصرانية ومبادئها، وتسخر الصهيونية العديد من الوسائل الإعلامية للترويج لمبادئها وأفكارها، إذ تمتلك أكثر من 954 صحيفة ومجلة، تصدر في 77 دولة، ومنها 244 في الولايات المتحدة، 348 في أوروبا، 118 في أمريكا اللاتينية، و42 في أفريقيا، و30 في كندا، وخمس صحف في تركيا، وثلاث صحف في الهند، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من دور النشر والتوزيع، ومحطات الإذاعة والتليفزيون والمؤسسات المسرحية وشركات الإنتاج السينمائي. هذا فضلاً عن سيطرة اليهود على العديد من المحطات والشركات والصحف والمجلات في العديد من دول العالم. أما (إذاعة صوت إسرائيل) فتضم خمس محطات، وتذيع على خمس عشرة موجة عبر ست عشرة لغة عالمية ومحلية، وتقدر مدد البث بـ 276 ساعة في الأسبوع.
مظاهر التبعية الإعلامية في العالم العربي
لا شك أن هذا الواقع الإعلامي على المستوى الدولي بما يمثله من هيمنة وسيطرة غربية محكمة، قد ترك آثاراً سيئة على وسائل الإعلام ونظمه في العديد من دول العالم النامي. وكانت دول العالم العربي والإسلامي ضمن هذه الدول التي تأثرت بهذا الواقع الإعلامي، واكتوت بناره وعانت- وما تزال تعاني من سلبياته ومشكلاته.
ولن نجانب الصواب حين نقول: بأن واقع الإعلام في عالمنا العربي والإسلامي يشكو من مرض بالغ الخطورة، يتمثل فيما يمكن أن نسميه بـ ( التقليد والتبعية) مع استدراكنا بأن هذه الظاهرة المرضية تبدو بدرجات متفاوته في دول العالم العربي والإسلامي، التي ما تزال تبحث عن ذاتيتها وشخصيتها المستقلة، وترنو إلى الوصول إلى تميز حضاري، يتوافق مع ما تؤمن به من رسالة خالدة، وما تضطلع به من مسؤولية عظيمة، لا تقتصر حدودها على مجتمعاتها المحلية فحسب، بل تمتد إلى آفاق العالم الرحبة، وقيادة الإنسانية إلى النور والخير، ومصداقاً لقوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( آل عمران: 110).
ويمكن إيجاز الأعراض التي تدل على الظاهرة المرضية التي أسمينها بـ (التقليد والتبعية ) في واقع الإعلام في العالم العربي فيما يلي:
1- الاعتماد على التقنية الأجنبية، والخربة الأجنبية، في بناء وتسيير البنى الأساسية للإعلام، وفي العديد من الدول العربية والإسلامية.
2- استعارة المفاهيم والنظم والنظريات الإعلامية الغربية التي أصبحت تمارس في واقع العمل الإعلامي، وتدرس في المعاهد والجامعات في العالم العربي والإسلامي.
3- استيراد المواد والبرامج الإعلامية من الدول الغربية. وهي لا تنبع من قيم ومبادئ وتقاليد المجتمعات الإسلامية، ولا تلبي حاجاتها ولا تعالج مشكلاتها وقضاياها، فضلاً عن أنها تروج لأفكار الغرب وحضارته وتقاليده وقيمه.
4- تسييس الإعلام وتسخيره لخدمة الأغراض السياسية والحزبية في كثير من دول العالم العربي والإسلامي، مما أفقده القدرة على الحركة والحرية والإبداع. وخلا الميدان - بذلك - من المخلصين والمبدعين، وأصبح مليئاً بالمقلدين والمهرجين والمرتزقة!!
5- تضخم الوظيفة الترفيهية لوسائل الإعلام، حتى طغت هذه الوظيفة على الوظائف الأخرى، مع اشتداد حاجة المجتمعات العربية- وهي تخوض معركة التنمية والبناء والتغيير- إلى توظيف وسائل الإعلام لخدمة أغراض هذه المعركة الحضارية والاجتماعية الحاسمة، ولا شك أن وسائل الإعلام - متى ما أحسن توجيهها - ستسهم بنصيب وافر ومؤثر في هذه المعركة.
6- ضعف الاهتمام بالجوانب الفكرية والعلمية للإعلام، مما كان له أثر في عدم توفير المناخ الملائم لتطوير الفكر الإعلامي العربي المسلم، الذي يتميز عن غيره ويختلف عما سواه في أصوله ومنطلقاته وأهدافه وغاياته، وطرق ممارسته، بما يتفق مع توجهات المجتمع وحاجاته، وبما ينسجم مع السياق الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمعات العربية في مرحلتها التاريخية التي تعيش فيها.
التحرير من التبعية ضرورة ومطلب(/2)
إن تحرر الإعلام العربي وتخليصه من التقليد، ضرورة لازمة، ومطلب حضاري لا غنى عنه. وليس هذا التحرر ببدع على إعلامنا العربي، فهو مطلب مشروع للدول النامية بشكل عام. وقد أقرت هذا المطلب اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الإعلام المنبثقة عن هيئة اليونسكو في وثيقتها رقم (32) حيث تقول:( إن تحرير وسائل الإعلام الوطنية، لهو جزء لا يتجزأ من الكفاح الشامل من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي تخوضه الغالبية العظمى من شعوب العالم، التي لا ينبغي أن تُحرم من حقها في بث الإعلام، وتلقيه بطرق موضوعية سليمة. ويتساوى الاستقلال إزاء مصادر المعلومات، في أهميته مع الاستقلال التقني، لأن التبعية في مجال الإعلام تؤدي بدورها إلى تعطيل النمو السياسي والاقتصادي ).
وبالإضافة إلى كون هذا التحرر للإعلام العربي من التبعية مطلباً مشروعاً في ضوء مقررات ومبادئ الهيئات الدولية، فإنه- قبل ذلك وبعده - ضرورة لازمة، لأن الامة التي يعبر عنها الإعلام العربي ويخدمها هي أمة متميز، لها وضعها الخاص، ولها رسالتها الفريدة، فقد اختيرت لتكون أمة تحمل أمانة الإسلام، فتلتزم به عقيدة وشريعة، وتبلغ عنه دعوة وتبشيراً. ومن طبيعة الرسالة الإسلامية أنها رسالة عالمية لكل البشر، وما أشد حاجة الإنسانية اليوم إلى الإسلام، لتؤوي إليه تثوب إلى كنفه فيعطيها الأمن والسعادة ويحقق لها ما تصبو إليه من آمال، وما تتطلع إليه من طموحات.
إن تحرر الإعلام العربي من التبعية ليس حاجة وطنية وقومية فحسب، بل هو - بالإضافة إلى ذلك - حاجة إنسانية دولية. وهاهو العالم اليوم يصارع من أجل إيجاد نظام إعلامي عالمي جديد، يكسر احتكار القوى المتسلطة، ويوفر الفرصة لتحقيق توازن إعلامي رشيد. فهو إذن- يدرك تهافت النظام الإعلامي الحالي، ويعترف بقصوره، ويسعى إلى إسقاطه، ويبحث عن بديل له. وفي تصوري، أننا- نحن العرب والمسلمين - نملك القدرة على الإسهام الإيجابي الفعال في إيجاد ذلك البديل، الذي تبحث عنه الإنسانية في عالم اليوم. ولا نقول هذا الكلام من قبيل المبالغة والغرور الذاتي، بل هي الحقيقة التي يقررها الواقع. فقد جرب العالم كثيراً من الحلول، وطرق كثيراً من المنافذ، بحثاً عن الخلاص، ولكنه عاد خائباً محملاً بمزيد من المشكلات والمتاعب.
وفي يقيننا أن الإسلام - بمنهجه الرباني الثابت، وقدرته على التجدد والمرونة في آن واحد - قادر على أن يقدم الأصلح لعلاج المشكلات الدولية في مجال الاتصال والإعلام.
الإعلام العربي والأمل المنشود
إن تحرر الإعلام العربي من التبعية والتقليد، هو الأمل المنشود الذي يتطلع إليه كل مخلص غيور. ولن يتحقق هذا التحرر إلا عندما تتوسع دائرة الاعتماد على الذات في جميع ميادين الإعلام: صناعة، وفكراً، ونظاماً، وممارسة. ولا بد - بادئ ذي بدء- من الإيمان العميق بأن نقطة الانطلاق في حركة تحرر الإعلام العربي من التبعية، تمكن في الإقرار العملي بأن النشاط الإعلامي- بمختلف صوره وأشكاله وأنماطه- إنما ينبع من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع الذي يعمل فيه، وينطبع بالقيم والتقاليد، ويتأثر بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المجتمع. ولذلك فإنه من الضرورة أن نعمل على صياغة نظام إعلامي عربي إسلامي مميز في روحه وجوهره، ومنطلقاته، وأهدافه، ونظمه، وقوانينه، وطرقه وأساليبه.
ولاشك أن الإسلام - بفكره وقيمه ومبادئه وحضارته- هو الأصل الذي ينبغي أن يصدر عنه ذلك النظام الإعلامي المنشود، وهو الأساس الذي ينبغي أن يستند إليه صياغته للنشاط الإعلامي، وتحديد أبعاده ووظائفه ومسؤولياته في المجتمع العربي. كما أن هذا النظام المنشود لا بد من أن يتفاعل مع الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية، وتتبلور أسسه وتنظيماته وممارساته بما يخدم مصالح هذه المجتمعات وحاجاتها، وبما لا يتعارض مع قيمها الأصيلة، وعاداتها وتقاليدها الصالحة، التي تعطيها التميز والاختلاف عن غيرها من المجتمعات التي تؤمن بالفلسفات والأفكار المادية الوضعية.
إن تحرير الإعلام العربي من ربقة التبعية والتقليد، والارتقاء به إلى مستوى الإبداع والاستقلال والذاتية، عمل شاق وكبير. ولذلك لا بد من أن تسهم في تحقيقه مختلف الفئات والجهات والمؤسسات ذات العلاقة بالنشاط الإعلامي، سواء على المستوى السياسي، أو المستوى العلمي الأكاديمي، أو المستوى العملي المهني، أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي. حسبنا في هذه العجالة أن نشير إلى بعض النقاط الهامة التي نعتقد أن عملية التحرير تنطلق فيها عبر المستويات المختلفة:(/3)
(أ) فعلى المستوى السياسي، لا بد من أن تؤمن الحكومات والأنظمة السياسية العربية بأهمية أن يكون نظام إعلامي عربي له شخصية الذاتية، وأن يركز هذا النظام على مبادئ الإسلام وقيمه، ويلي الاحتياجات الحقيقية للمجتمع، ويقوم على أكتاف مواطني ذلك المجتمع. ولا بد من أن ترسم لهذا النظام استراتيجية عامة واضحة المعالم، وسياسات عملية تقوم على أسس عملية واقعية، وأن يتمتع النظام بشيء من الحرية والمرونة التي تحقق المصلحة العامة، وألاّ يكبل النظام بالبيروقراطية والروتين.
(ب) وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، لا بد من العمل على تغيير النظرة التقليدية الدونية للنشاط الإعلامي التي تسود المجتمعات العربية. ولا بد من إقناع القطاع الحكومي والقطاع الأهلي بأهمية الاستثمار الاقتصادي في ميدان الإعلام، إذ أن النشاط الإعلامي اليوم- في كافة صوره ومستوياته - نشاط مكلف اقتصادياً، مما يتطلب معه أن ينفق عليه بسخاء، وأن يحظى بالعناية القصوى والاهتمام الكافي.
(ج) وعلى المستوى الأكاديمي، لا بد من العناية بافتتاح وتدعيم كليات وأقسام، ومعاهد التدريس الأكاديمي للإعلام في كل قطر عربي، ولا بد من أن تتوافر لهذه الكليات والأقسام والمعاهد الإمكانات البشرية والمادية الملائمة، التي تجعلها تستطيع القيام بمهمتها في إعداد وتهيئة الكفايات ( الكوادر ) الإعلامية المتخصصة، التي تسهم في دفع عجلة النمو الإعلامي، وتعمل على تحقيق سياسة الاعتماد على الذات. كما أن هذا الاهتمام بالكليات والأقسام والمعاهد الإعلامية الوطنية، سيقلل من كثرة الإبتعاث إلى الخارج والذي يعد - بصورته الحالية- تكريساً لحالة التبعية والتقليد، التي يعيش فيها الإعلام العربي المعاصر. ولا ينبغي أن تقتصر مهمة هذه الجهات الأكاديمية على الإعداد الأكاديمي والمهني الصرف، بل لا بد لها من أن تعنى بالإعداد الفكري والأخلاقي المتميز للكوادر التي تخّرجها..
(د) وعلى المستوى المهني الواقعي، لا بد من أن يستشعر العاملون في الميادين الإعلامية المختلفة - سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الأهلي - مسؤوليتهم العظيمة التي يضطلعون بها. ولا بد من العناية بحسن اختيار المسؤولين والعاملين في المؤسسات الإعلامية التوجيهية، وتنقية الساحة الإعلامية من الدخلاء عليها، كما أن توفير فرص التأهيل والتدريب للعاملين في القطاع الإعلامي يعد مطلباً أساسياً في سبيل تكوين وتهيئة كوادر إعلامية ذات قدرة وكفاءة وتميز.
التعاون العربي لتحقيق أهداف التحرر الإعلامي
عربي. بل لا بد من أن يتكامل هذا الجانب المحلي مع الجانب العربي على المستوى القومي، فنحن أمة واحدة ذات رسالة متطابقة وهموم مشتركة وآمال متوافقة. ولا شك أن التعاون الإعلامي فيما بين دولنا العربية يعد جزءاً من سعينا الحثيث نحو الوحدة والتكامل في شتى المجالات والميادين. بل إن الوحدة العربية والتكامل العربي خطوة ممهدة للوحدة الإسلامية والتكامل بين دول العالم الإسلامي وشعوبه، حتى يصدق فيها قول الله تعالى في كتابه العزيز:( وإنّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتقون) (المؤمنون:52).
وليس التعاون الإعلامي العربي الذي ندعو إليه ببدع في واقع العالم المعاصر. إن كثيراً من الأمم والدول اليوم تسعى إلى أيجاد صيغ قومية وإقليمية للتعاون فيما بينها في مجالات متعددة. ولو اقتصرنا على المجال الإعلامي لما أعوزتنا الأمثلة والشواهد الحية التي تؤكد لنا هذه الحقيقة، فدول الكتلة الغربية تتعاون فيما بينها عبر العديد من المؤسسات الإعلامية المشتركة، ودول الكتلة الشرقية تتعاون فيما بينها أيضاً عبر بعض الهيئات المشتركة.
ولسنا هنا في مقام إنكار وجود عدد من المؤسسات والهيئات العربية المشتركة التي تسهم في توفير مجالات متنوعة للتعاون والإعلامي بين الدول العربية، ولكننا نحس أن ما تحقق من خلال هذه المؤسسات ما يزال ضئيلاً، ولا يرتقي إلى مستوى طموحات المخلصين من أبناء هذه الأمة في مختلف أقطار العالم العربي.
ولا شك أن هذه المؤسسات العربية مثل اتحاد إذاعات الدول العربية، واتحاد وكالات الأنباء العربية، وأجهزة التعاون والإعلامي الخليجي المتعددة، تستطيع أن تقدم الكثير مما يحتاج غليه الإعلام العربي لتطويره وتنميته والارتقاء بمستواه. كما أن المؤسسات العملية والجامعات العربية التي تحتضن أقساماً للإعلام ينتظر منها الكثير مما لم تستطيع تحقيقه حتى الآن.
وسوف نؤكد باستمرار على أهمية أن تخطى قضية تحرير الإعلام العربي المعاصر من ربقة التبعية والتقليد بمختلف صورها باهتمام المسؤولين والعاملين في الميادين الإعلامية المتنوعة والإعلاميين، وأن تلقى من العناية ما تستحقه في ضوء تزايد خطورة وسائل الإعلام في المجتمعات العربية، وتعاظم قدرتها على التأثير على الأفراد والجماعات، سلباً كان هذا التأثير أو إيجاباً.(/4)
كما أن التحديات التي تواجه الأمة العربية المسلمة في الوقت الراهن سواء على المستوى السياسي، أو المستوى الفكري، أو المستوى الاقتصادي تفرض علينا أن نعمل على تسخير كافة إمكاناتنا ووسائلنا لمواجهة هذه التحديات الخطيرة، وخصوصاً ونحن ندرك أن أعداءنا قد استغلوا وسائلهم وإمكاناتهم الإعلامية لخدمة أغراضهم، وركبوا مطية الإعلام ليكون سلاحاً فعالاً من أسلحتهم لحربنا في عقيدتنا، وفكرنا، وانتمائنا، وفي وجودنا، ومعركتنا في البناء والتنمية. إن الإعلام اليوم أمضى الأسلحة في الصراع الحضاري الذي تدور رحاه في دنيا اليوم، وأن الأمة التي لا تمتلك إعلاماً قوياً فعالاً ينبع من شخصيتها الحضارية ويلبي احتياجاتها ويسهم في معركتها، هي أمة خاسرة في عالم لا مكان فيه إلا للأقوي(/5)
الإعلام الغربي باللغة العربيّة أهداف لم تعد خفيّة
د. محمد بن سعود البشر 28/2/1427
28/03/2006
المتابع لمسيرة الإعلام الغربي الناطق باللغة العربية سواء كان صحفًا أو مجلات أو قنوات تلفازية أو إذاعات، يلاحظ تباينًا في تعاطي الجمهور العربي مع هذه الوسائل، وما تقدمه من مواد إعلامية؛ ففي البدء كان الجمهور العربي- ولا سيما النخب الثقافية منه- منبهرًا بالتقدم التقني لوسائل الإعلام الغربية، والذي جعل جماهير معظم الدول العربية تستقبل إذاعات مثل (مونت كارلو) والـ (بي بي سي) بدرجة أكثر وضوحًا من كثير من الإذاعات العربية في الدول المجاورة، فضلاً عن حالة الإعجاب بالمهنية العالية لدى العاملين في كثير من هذه الوسائل الإعلامية الغربية الناطقة بالعربية، وبخاصة إذا علمنا أن كثيرًا من الصحف والإذاعات نجحت في استقطاب أعداد كبيرة من الكفايات الإعلامية والثقافية العربية، ممن لم تسمح لهم الأنظمة السياسية العربية بالتعبير عن آرائها وأفكارها في وسائل الإعلام العربية التي كانت إلى وقت قريب مملوكة للدول والأنظمة العربية توجهها كيف تشاء.
دلالة هذا النجاح للإعلام الغربي قدرته على اجتذاب كثير من رموز الأدب والفكر والثقافة العربية للعمل فيه، فضلاً عن الجرأة التي اتسم بها في طرح كثير من القضايا العربية، والتي ما كانت لتُطرح في أي من وسائل إعلامنا العربي الرسمي آنذاك.
ومن غير المنطقي تجاهل الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة العربية عبر أكثر من نصف قرن مضت شهدت خلالها التحرر من براثن الاستعمار الغربي، وسقطت بعدها بين "الرأسمالية الغربية" أو "الاشتراكية الشرقية" والحرب الباردة بينهما، فهذه الظروف ساهمت في زيادة تعاطي الجمهور العربي مع الإعلام الغربي بالعربية في فترات بعينها، فمثل هذا الوضع جعل قطاعات من الجمهور العربي متعطشة لمعرفة ماذا يحدث خارج حدود الوطن العربي.. وتأثير ذلك على مستقبل المنطقة العربية. يُضاف إلى ذلك أن قطاعات واسعة من الجمهور العربي كانت تعاني من الأمية في ذلك الوقت فكان من السهل التأثير عليها واستمالتها ببرامج الترفيه والمنوعات التي تفنّنت فيها وسائل إعلامية مثل إذاعة (مونت كارلو) ومجلة (فوربس) وإذاعة (سوا) وغيرها.
أما النخب العربية فقد وجدت في هذه الوسائل مساحة الحرية التي تفتقدها في وسائل الإعلام العربية.
ومع بدء عصر الإعلام الفضائي والسماوات المفتوحة يُلاحظ ثمة انحسار في تعاطي الجمهور العربي مع هذه الوسائل الإعلامية الغربية، فلم تعد تلبي احتياجاته السابقة بنفس القدر، لاسيما وأن كثيرًا من وسائل الإعلام العربية أصبحت تحاكي هذه القنوات الغربية في نوعية برامجها، بما في ذلك برامج الترفيه، والتي كانت تستقطب فئات واسعة من شباب المجتمعات العربية.
وإذا كان هناك من يتحدث عن إسهام الإعلام الغربي الناطق باللغة العربية في الارتقاء بالصناعة الإعلامية العربية فإنه يجب أن يعلم أن هذا الارتقاء لم يكن هدفًا للقائمين على هذه الوسائل الغربية، بل إن النخب العربية وبعض دوائر صناعة القرار العربي تنبهت لمخاطر إقبال الجمهور العربي على مثل هذه الوسائل، فعملت على تقديم البديل الإعلامي العربي المشابه قدر الإمكان، ووفق ما سمحت به الظروف السياسية والإمكانات المادية والتقنية قدر الإمكان، فكانت إذاعتا (صوت العرب) و (الشرق الأوسط) بديلاً مطروحًا لإذاعة (مونت كارلو) والـ (بي بي سي) رغم فارق الإمكانات والخبرات، وولدت كذلك صحف عربية دولية في الخارج تتيح هامشًا أكبر من الحرية والتنوع مثل: (العرب الدولية) ومجلة (الحوادث) و (الشرق الأوسط) و(الحياة) وغيرها.
ولاشك أن في هذا إفادة للصناعة الإعلامية العربية، وشاهد هذا أن كثيرًا من الكفاءات الإعلامية التي تعمل حاليًا في قنوات وصحف وإذاعات عربية سبق لها العمل في وسائل الإعلام الغربية باللغة العربية، وفي المقابل فإن هذه الوسائل أفرزت كثيرًا من المنبهرين بالثقافة الغربية المحتقرين لثقافتهم العربية الأم، وبعض هؤلاء –للأسف- أصبحوا مسؤولين في وسائل إعلامنا العربي، فبدت كثير من برامجنا نسخًا مشوهة لما يقدمه الإعلام الغربي، ومن أمثلة ذلك برامج (تليفزيون الواقع) "ستار أكاديمي" وخلافه.
ومن المستغرب أن يتساءل البعض الآن عما إذا كانت هناك أجندة خفية للإعلام الغربي الذي يبث مضامينه باللغة العربية..؟!(/1)
فمن البديهي أن لهذا الإعلام أهدافًا وجدت وسائله من صحف وإذاعات وقنوات تلفازيّة لتحقيقها، وإلا لماذا تُنفق هذه الأموال الطائلة والتي تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات لإنشاء القنوات التلفازية والإذاعات، وإصدار الصحف والمجلات الناطقة باللغة العربية؟ وقناة الحرة –على سبيل المثال- وُلدت من رحم الاحتلال الأمريكي للعراق، وتُموّل من ميزانية ملحقة بميزانية وزارة الدفاع الأمريكية باعتراف وزير الدفاع الأمريكي، ومباركة أعضاء الكونجرس، وهذا دليل على أن هذه القنوات والوسائل الإعلامية مهمتها الأساس تهيئة العقل العربي لتقبُّل النموذج الغربي أو الترويج للثقافة الغربية الأمريكية أو الأوروبية، لاسيما أن منطقة الشرق الأوسط، والتي تضم الدول العربية هي مناطق مصالح حيوية للقوى الغربية في أوروبا، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهي دول الاستعمار القديم، أو الولايات المتحدة الساعية لفرض هيمنتها على العالم، ويؤكد ذلك أن كثيرًا من هذه الوسائل الإعلامية الغربية طالما أفسحت برامجها وصفحاتها للقوى المعارضة أو المنتقدة للأنظمة العربية، والمحلل الواعي لمضامين ما يُنشر ويُذاع في وسائل الإعلام الغربية باللغة العربية يستطيع أن يدرك ملامح هذه الأجندة، والتي لم تعد خافية، فالممارسات السياسية للأنظمة الغربية تفضحها وتكشف عوارها يومًا بعد يوم(/2)
الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام
تقديم الشيخ العلاّمة
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
الحمد لله الذي خلقنا للعبادة، ونفذ فينا تصرفه ومراده، ووفق من شاء من خلقه لتوحيده وإفراده، وخذل آخرين ورماهم بطرده وإبعاده، أحمده سبحانه وأشكره، وقد وعد الشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهي أفضل شهادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأحفاده.
أما بعد:
فقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ الأِنَس إِلا لِيَعْبُدُونِ )(الذاريات:56). ومعنى (يعبدون) يوحدون، أي أنه تعالى أوجد هذا النوع من الإِنس والجن، وكلفهم وأمرهم ونهاهم، وقد أقام عليهم الحجة، حيث آتاهم العقول التي يحصل بها التفكر والإدراك، ونصب لهم الآيات البينات، التي يحصل بالنظر فيها التذكر والاعتبار، فسخر لهم الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وجموع وأشتات، وإخوان وأخوات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وآيات بعد آيات.
وقد لفت أنظارهم إلى هذه المخلوقات، فقال تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا)(النبأ:6-10) الآيات. وقال تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج)(ق:6-7) الآيات، وقال تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(الروم:6) الآية، ونحو خطبة قس بن ساعدة الإيادي الجاهلي ، والذي ذكر فيها: أن لله ديناً هو أحب من الدين الذي هم عليه، ونبياً قد حان أجل خروجه، وهكذا ذكروا قصة زيد بن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الأصنام، وحرم أكل ما أهل به لغير الله، وهو جاهلي، وغيره كثير وفي ذلك يقول ابن المعتز:
فيا عَجَبا كَيْفَ يعْصي الإِلَهَ أَمْ كَيْفَ يْجحدُهُ الجاحِدُ
وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَلَهُ في كُلِّ تَحرِيكَةٍ وَتَسْكِينَةٍ أَبَداً شَاهِدُ
ويقول آخر:
تَأَمَّل في نَباتِ الأَرضِ إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الملِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجين شَاخِصَاتٌ بأحدَاقٍ هِيَ الذّهبُ السَّبِيكُ
على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ الله لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
ومع هذه الآيات والبينات، فإن ربنا سبحانه لم يتركنا هملاً، بل أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبَيَّنَ للناس ما نزّل إليهم، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كُل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(النحل:36).
وورد في الحديث عن زيد بن ثابت، وأُبي بن كعب مرفوعاً: "لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع من أعمالهم" رواه أحمد وغيره.
وحيث إن جميع نوع البشر خلقوا للعبادة، فإن فرضاً عليهم أن يدينوا لله تعالى بالتوحيد، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالطاعة، فمن أطاعه وشهد له بالرسالة وتقبَّل شريعته فهو من أهل الجنة، ومن عصاه ودان بغير الإسلام فهو من أهل النار.
وقد ختم الله الرسالة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل دينه وشريعته آخر الشرائع، وأرسله إلى جميع الناس بل إلى الثقلين، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال فضيلة الشيخ الإمام العلاَّمة أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن إبراهيم الجبرين:
الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد:
فقد اطَّلعت على ما نشر في جريدة "الشرق الأوسط" العدد (5824) يوم الثلاثاء الموافق 4/6/1415هـ بقلم من سمَّى نفسه: (عبدالفتاح الحايك) الذي اعترف بأنه ليس من أهل الإفتاء، ومع ذلك تجشَّم الفتوى بغير علم، وحكم لليهود المعاصرين والنصارى والهندوس والبوذيين والقاديانيين والمشركين والمنافقين بأنهم من أهل الجنة، واستغرب أن هذه الجموع والمليارات من الأُمم مآلهم إلى النار، وما علم أَن الله تعالى خلقَ الجنة وخلق لها أهلها وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وأنه قال للنار: أنت عذابي أُعذِّب بكِ من أشاء، وللجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء، ولكل منكما عليَّ ملؤها.(/1)
وأخبر تعالى بأن أكثر الناس هم الضالون في قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور)(سبأ:13)، وقوله: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّهُ فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين)(سبأ:20)، وقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(يوسف:103).
وقد أخبر الله عن إبليس أنه قال: (قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين)(ص:82-83)، وقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(الأعراف:17)، ونحو ذلك من الأدلة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائةٌ وتسعة وتسعون. وواحدٌ في الجنة.
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
وشريعته خاتمة الشرائع
وقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعته خاتمة الشرائع، ونسخ برسالته جميع الأديان، وكلَّف جميع الناس أن يتبعوه بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون)(الأعراف:157-158)، وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(سبأ:28).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة" وقال: "بٌعثت إلى الأسود والأحمر".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أَن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم". وفي رواية: "حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به".
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأركان الإسلام بقوله: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".
ولا شك أن من امتنع عن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ولم يُقم الصلاة ولا الزكاة والحج فليس بمسلم ولا مؤمن؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بي إلاّ دخل النار"، أو كما قال.
وقد أنكر الله على اليهود قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة بقوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون)(البقرة:80)، فدل على أنهم من أهل النار وأن هذه المقالة صدرت بغير علم، كما أنكر عليهم قولهم: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)(البقرة:111)، وكذا قولهم: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)(البقرة:135) وهي الدين الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)(الحج:135).
وقد أخبر الله تعالى بأن هذا هو الدين الذي اختاره ورضيه للأمة فقال تعالى: (حُرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)(المائدة:3)، وقال: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(آل عمران: 85).
والإسلام هو ما بني على الأركان الخمسة كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، فمن لم يدخل في هذا الإسلام ويحافظ على أركانه فهو من الخاسرين، والنار أولى به.
أدلة تكفير اليهود والنصارى
وقد ذم الله اليهود والنصارى حتى في سورة الفاتحة في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)(الفتحة:7). فاليهود مغضو ب عليهم، والنصارى ضالون كما في الحديث الصحيح.(/2)
وقد حكى الله عنهم مقالات كفرية كقوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير)(المائدة:17).
وكذلك: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم)(المائدة:73).
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)(المائدة:72).
وقال عنهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)(التوبة:30).
الآيات في تكفير اليهود والنصارى
وبيان نوع كفرهم وشركهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه كثيرة جداً.
وقد دعاهم الله إلى الدخول في الإسلام بقوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً)(النساء:47).
وكل ذلك دليل كفرهم وخروجهم من الدين الصحيح وأنهم كذبوا بالحق لما جاءهم مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلذلك حلت عليهم اللعنة والغضب واستحقوا العذاب في الآخرة، قال تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بِما عصوا وكانوا يعتدون)(المائدة)، ولا شك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو أعظم الكفر. وهم المرادون بقوله تعالى: (قل هل أنبّئُكم بشر مِنَ ذلك مثُوبةً عِند الله من لعنه الله وغضِب عليه وجعل مِنهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)(المائدة:60).
فتأمل هذه الآيات وما بعدها وما يشبهها في سورة النساء تجد أن جميع من كذّب محمداً صلى الله عليه وسلم أو خرج عن شرعه أو أنكر رسالته أو ادعى أنه رسول العرب أو نصب العداوة للمسلمين أتباع هذه الشريعة المحمدية، أنه كافرٌ مستحقٌ لغضب الله ولعنته وعذابه، ولا ينفعه انتماؤه إلى الأديان السابقة والمنسوخة المحرَّفة.
الإسلام هو الدين الصحيح وغيره محرف ومنسوخ
وقد أقام الله البراهين والأدلة على صحة هذه الرسالة والشريعة وأمر بإبلاغها للخاص والعام، فمن بلغته فعاند وعصى وركب هواه واتبع الأديان الباطلة وتمادى في غيه، فإن مصيره إلى النار وبئس القرار.
ولا شك أن الأديان السماوية كانت سبيل النجاة قبل تحريفها ونسخها، لكنْ وقع من أهلها التحريفُ للكلم عن مواضعه، وتغييرُ شرع الله، ثم عصيان هذا النبي الكريم، فبطل التمسك بها؛ مع أن الأديان الباقية الآن كلها باطلة حيث دخلها الشرك بالله وعبادة الأنبياء كالمسيح وأمه والعُزَيْر والصالحين، وتغيير دين الله عما هو عليه، والتعبد بما لم يأذن به الله؛ فيُحكم عليهم بأنهم كفار فلا يدخلون في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة:62).
فالإيمان بالله يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستلزم تقبل كلامه القرآن الكريم فلا يدخل في ذلك من كذب محمداً أو طعن في القرآن ولو عمل ما عمل من الصدقات والصلوات الباطلة.
أعمال الكفار الصالحة وعبادتهم تكون هباءً منثوراً
وقد أخبر الله أن أعمال الكفار تكون هباءً منثوراً، منها: أعمال أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالله وبرسله وكتبه.
فقوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين)(المائدة:86). دليلٌ على أنهم ليسوا على دين، وأن عبادتهم باطلة حيث لم يؤمنوا بما أُنزل إليهم من ربهم ولم يقيموا التوراة والإنجيل فإن إقامتها تستلزم اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يكن على شيء.
وهكذا اشترط الله للأمن الإيمان بالله واليوم الآخر في قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة:62).
فلابد من الإيمان بالله الذي يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل منهم الإيمان إلا بشرط وهو التصديق بما جاءت به الرسل.(/3)
ولا شك أن العمل الصالح الذي اشترطه الله للمؤمنين لا يحصل إلا بما وافق شرع الله المنزَّل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإِيمان بأركانه الستة، ومنها الإِيمان بالرسل والكتب وهو يستلزم الاتباع للرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل بالكتب وخاتمها القرآن الكريم، فمن لم يتبعه فليس بمؤمن ولا ينفعه عمله، ولو عمل أي عمل.
ومعلوم أن الإسلام في وقت كل نبي هو اتباع ما جاء به؛ فاتباع موسى في زمنه، واتباع عيسى في وقته سُمي إسلاماً، لكن زال بعد أن حُرِّفت تلك الشرائع ونُسخ ما بقي منها.
ثم إن حجة الله قائمة، فكتاب الله تعالى محفوظ، وقد تُرجم وفُسِّر بكل اللغات، وانتشر الإِسلام وبلغ أَقصى الأرض وأَدناها ولم يبق لأحد عذر، حيث إن دين الإسلام مشهور معروف ولا يحتاج إلى زيادة تَعَلُّم، كل من دخل فيه أَمكنه أَن يعرف ما أوجب الله عليه في بضعة أيام، ويعمل بما يقدر عليه، ولا يلزمه معرفة التفاصيل دفعة واحدة، فالزكاة لا تلزم الفقير، والصوم لا يكون إلا في السنة مرة، وأحكامه سهلة، والحج في العمر مرة واحدة على المستطيع، والمحرمات يمكن معرفتها في مجلس واحد، فكيف يُقال إن اعتناق الإسلام يستدعي بضع سنوات في دراسته وعرضه على الأديان الأُخرى.
وقد شوهِدَ أَنه دين الفطرة التي فطرَ الله الناس عليها، فمن لم يتبعه مع سماعه به فهو من أهل النار، ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء.
والله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
شبهة
بين مسلم ونصراني
السؤال:-
يوجد معي في العمل نصراني، فأردت أن أناقشه في الدين لعل وعسى أن يسلم، وخلال المناقشة قال لي: كيف عرفت أني سأدخل النار؟! يمكن أن تكون أنت من أصحاب النار؟ فوسوس الشيطان في نفسي، فهل من كلمة توضحها لي أستطيع بها مناقشته، وأقنعه بالكلام أن الدين عند الله الإسلام، وأننا لعلى الصراط المستقيم، وهم في الضلال المبين؟
الجواب:-
كل الفرق يدَّعون أن الصواب في جانبهم وأن غيرهم من أهل النار، فالنصارى يقولون: إنهم أهل الصواب، واليهود يقولون: إنهم أهل الصواب؛ حتى حكى الله عن اليهود أنهم قالوا كما جاء في كتابه الكريم: (لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً)(البقرة: 80).
وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: (لن يدخُل الجنّة إلا من كان هوداً أو نصارى)(البقرة:111)، فهم يدّعون أن الجنة لهم، اليهود يقولون: إن الجنة لليهود، والنصارى يقولون: إن الجنة للنصارى، وأنتم الذين هم أتباع محمد من أهل النار هذا في زعمهم، ويدّعون أيضاً أنهم هم المسلمون: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا)(البقرة:135) ونحن نجادلهم:
أولاً: نقول لهم: عليكم أن تنظروا في سيرة نبينا وفي معجزاته فهي دليل على صدقه وعلى نبوته، وأن تنظروا بما أيده الله به من القوة ومن التمكين، ومن النصر المبين؛ فهو دليل على أنه على حق وما أيد به أتباعه أيضاً، من النصر ومن القوة ومن نشر الدين، فهو دليل على أنهم على حق.
ثانياً: عليكم أن تنظروا في شريعته التي جاء بها، فمن تأملها عرف أنها من عند الله، هذا القرآن الذي ألقاه الله، وهذه السنة التي نرى ونلاحظها، وهذه النواهي وهذه العبادات، لا شك أن من تأملها عرف أنها من عند الله ونقول لكم: أنتم ما عباداتكم؟ وما شريعتكم؟
نحن نعترف أن عندكم التوراة والإنجيل، ولكن قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير الكثير فقد أضيف إليها ما ليس منها وتعددت، ولو لم يكن إلا أن عندكم أربعة تسمى أناجيل: إنجيل يوحنا، وإنجيل متى، وإنجيل كذا.. هل كلها مُنَزَّلة أو واحد مُنَزَّل؟ فإن كان المنزل منها واحداً، فما المنزل منها؟
نحن عندنا كتاب الله واحدا، وهو هذا القرآن المُنَزَّل لم يتعدد، إذاً فكيف مع ذلك لا تصدقون بهذه الشريعة وهي كاملة وافية، ليس فيها ما يغيرها؟ وشرائعكم قد غُيّرت، وأحكامها مُغَيّرة، وأوامرها وشرعياتها وعباداتها كلها مُغَيرَّة، ما عندكم إلا شيء قد دخله التغيير حتى الشركيات عندكم، واقتراف المحرمات وما أشبهها، فهذا دليل على أن هذه الشريعة هي الباقية التي يجب على كل من في الأرض أن يدين بها.
الفترة
معناها وأحكامها
قال فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله في آخر رده السابق صـ (27): (ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء).
ولمزيد من الفائدة فقد أوردنا بعض الأسئلة المتعلقة (بالفترة) على فضيلته حفظه الله:
معنى الفترة ومقدارها
السؤال:-
ما معنى الفترة وما مقدارها؟
الجواب:-
قال الله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل)(المائدة:19) الآية.(/4)
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، فقال أبو عثمان النهدي، وقتادة: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي، وعن قتادة أيضاً: خمسمائة وستون سنة، وقال معمر عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة والمشهور هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. إلخ. انتهى.
ومعنى الفترة : أي الزمن الذي لم يبعث فيه أحد من الرسل، ومع ذلك فهذه الفترة لم ينقطع فيها أثر النبوة، فإن العرب لم يزل عندهم بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، حيث إنهم يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم، ولهذا ذكرهم الله بذلك بقوله: (مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهيم هو سمَاكمُ المسلمين مِن قَبلٌ)(الحج:87). فهم يعترفون بتوحيد الربوبية، ويخلصون لله العبادة في الشدة كلجة البحر، ويحجون البيت الحرام ويعتمرون، ويحترمون الأشهر الحرم، ويهدون الهدي، ويقلدونه القلائد التي أمر الله بعدم إحلالها، وعندهم خصال الفطرة: كالختان، ونحوه.
أما أهل الكتاب فعندهم التوراة والإنجيل والزبور، وفيهم دين أنبيائهم الذي توارثوه عن آبائهم، بما في ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث: (يجدونه مكتوباً عِندهم في التوراة والإنجيل)(الأعراف:157). ولكن لطول هذه الفترة، ولكون الأنبياء الأولين تختص رسالاتهم بأقوامهم؛ سمى الله هذا الزمن الذي بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى، وبينه وبين إبراهيم فترة، وذكر أهل الكتاب بذلك حيث إنهم أولى بقبول رسالته لمعرفتهم بالرسل ورسالاتهم ومعجزاتهم، فتكذيبهم له إنكار للحق مع وضوحه، وقد قال تعالى عن الجميع: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى مِن قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون)(القصص:48)، يعني موسى وهارون، أي: تعاونا وتناصرا، وقرئ (سحران)، أي: التوراة والقرآن.
أهل الفترة
السؤال:-
من هم الذين يحكم بأنهم من أهل الفترة؟
الجواب:-
يدخل فيهم الذين لم تبلغهم الرسالة ولم يعلموا بها، ولم يسمعوا بالشريعة، كالذين في أطراف الأرض وفي أقاصي البلاد، ممن نشأ في جهل عميق، ولم يكن حولهم من يعرفهم بالدِّين والتوحيد وعبادة الله تعالى، وحقه على العباد، كما يدخل فيهم أهل الفترة الذين انقطعت عنهم الرسالة، ولم يبق عندهم شيء من ميراث الأنبياء من الكتب والرسالات كما حصل لبني إسرائيل لما قتلهم بختنصر، وأحرق ما عندهم من الكتب المنزلة، ولم يبق إلا القليل الخافي أو ما في الصدور، ويدخل فيهم أيضاً من فقد السمع ولم يكن معه معرفة بالإشارة ونحوها، وكذا من فقد العقل كليّاً ولم يعرف ما يحدث في الناس، وهكذا من مات صغيراً ولم يدرك ما أدركه الأكابر من العقل والفطنة ونحو هؤلاء.
من مات بعد مجيء الإسلام
السؤال:-
من مات بعد مجيء الإسلام، ولكن لم تصله الرسالة أو وصلته ولكن ناقصة أو محرّفة -أي لم يصله الدين الصحيح- فهل يعتبر من أهل الفترة؟
الجواب:-
لا شك أن نوع الإنسان مكلف ومأمور ومنهي، وعليه واجبات لربه، وقد خص الله نوع البشر بتكاليف حيث فضَّله بالعقل والتمييز، فمتى تم عقله وجبت عليه العبادات والفرائض الدينية، ووجب عليه ترك المحرمات، فإذا جهلها لزمه البحث والسؤال عما خُلِقَ له، فمتى فرط مع قدرته اعْتُبِرَ ملوماً.
ولا شك أنه يوجد في الفترات من يجهل الإسلام، ولم يصل إليه عنه خبر، وكذا من يصل إليه خبر الإسلام مشوهاً محرفاً، أو ناقصاً، ولا يستطيع الوصول إلى من يعرِّفه الإسلام والتوحيد الصحيح، فمثل هذا قد يُعْذَر ويُلْحَق بأهل الفترات، ولكن الغالب أنه يقلد من قبله، ويتبع من يصده عن الهدى، فيكون معه في العذاب، كما قال تعالى: (قالت أخراهم لأولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)(الأعراف:38-39) الآية، فأخراهم الأتباع، والأتباع، الذين أضلهم من قبلهم.
وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا)(البقرة:166-167) فالذين اتبعوا هم الأبناء والمتأخرون الذين أضلهم من قبلهم، أخبر بأنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب.
وقال تعالى: (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم)(إبراهيم:21) فالضعفاء هم الأولاد والأحفاد الذين قلدوا من قبلهم فلا ينجون من العذاب.
وقال تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)(الأحزاب:67)، عذبهم باتباعهم أكابرهم على الضلال.(/5)
وقال تعالى: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) إلى قوله عنهم: (بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً)(سبأ الآيات:31-32).
وقال تعالى عنهم وهم في النار: (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار)(ص:60-61). وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(النحل:25) وفي الحديث: "من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". والله أعلم.
وكل هذه الأدلة ونحوها كثير واضحة في أن الأتباع يعذبون مع أكابرهم ومن قبلهم ممن دعاهم إلى الضلال وأوقعهم في الكفر والشرك، وتدل على أن في إمكانهم اتِّباع الحق الذي كان موجوداً بعد الأنبياء والرسل، لكن غيَّره من أغواهم الشيطان.
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو أول من غيّر دين إبراهيم"، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر".
قال ابن كثير عند قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة)(المائدة:103) بعد أن ساق أحاديث في معناها، "فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، إلى آخر كلامه رحمه الله".
وقد دل الحديث على أن العرب كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل، ثم حدث بعد ذلك التغيير وعبادة الأصنام بسبب عمرو بن لحي وغيره.
ولا شك أن العرب يدركون أن دينهم باطل، كما انتبه لذلك بعضهم كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، ففي تراجمهم وأخبارهم ما يدل على أنهم أنكروا ما عليه قومهم، وأهل بلادهم من الشرك وعبادة الأصنام، فمنهم من ترك عبادة غير الله كزيد بن عمرو الذي قال في حقِّة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". وقال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولاً"، وكذا ما ذكر في خطبة قس بن ساعدة التي نبه فيها على الدين الصحيح، واستدل بالآيات والمخلوقات على وحدانية الله تعالى، إلى غير ذلك.
فأما غيرهم فقد ورد في حديث عياض بن حمار: "أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" رواه مسلم. وهو دليل على أن هناك بقايا قد تمسكوا بالدين الموروث عن أهل الكتاب.
وكما تدل عليه قصة سلمان الفارسي حيث تنقل من عالم إلى عالم، يأخذ عنه التوحيد والعبادة، إلى أن هاجر إلى المدينة. والله أعلم.
مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين
السؤال:-
نرجو بيان القول الفصل والراجح في مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين بالتفصيل مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة؟
الجواب:-
يُراد بالأطفال كل من مات قبل البلوغ ولم يدرك التكليف.
# فأما أولاد المسلمين ، فالصحيح: أنهم في الجنة مع آبائهم، وينتظرونهم عند أبواب الجنة، ويقال في الدعاء له عند موته في الصلاة عليه: "اللهم أجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، الله ثقل به موازينهما إلخ..".
وقد ذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) : أن القاضي أبا يعلى حكى عن الإمام أحمد أنه قال: "لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة". وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين)(الطور:21).
# فأما أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ وآباؤهم كفَّار، ففيهم خلاف طويل، وقد تكلم عليهم ابن القيم في طريق الهجرتين في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين، فذكر فيهم ثمانية أقوال:
الأول: الوقف فيهم وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار، ودليله ما في الصحيحين عن أبي هريرة وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يموت وهو صغير من أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
الثاني: أنهم في النار: لما روى أبو عقيل عن بهية عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: "في النار" وأبو عقيل ضعيف.
الثالث: أنهم في الجنة لما في حديث سمرة الطويل في المنام عند البخاري لما ذكر أن الولدان مع إبراهيم الخليل قيل له: "وأولاد المشركين؟" قال: "وأولاد المشركين".
الرابع : أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار، كأصحاب الأعراف، ثم أنكر هذا القول ورده.
الخامس: أنهم تحت المشيئة، وهذا قول المرجئة.
السادس: أنهم خدم أهل الجنة، يعني الولدان الذين ذكرهم الله بقوله: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)(الواقعة:17).(/6)
وذكر عن الدار قطني حديثاً عن أنس مرفوعاً: "سألت ربي للاهين من البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم فهم خدام أهل الجنة"، وهو حديث ضعيف.
السابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فكما هم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة، أي لو أسلم الآباء بعد موت الأطفال كان أولادهم معهم في الحكم.
الثامن: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، أي: عند امتحانهم واختبارهم يظهر معلوم الله فيهم، ويتبين من يعلم الله فيه الخير أو الشر، ويجازون حسب ما يعلم الله فيهم من الأهلية واستحقاق الثواب أو العقاب.
وقد وردت بذلك أخبار كثيرة، ذكر بعضها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) وابن القيم في الطبقة الرابعة عشرة في القول الثامن فيهم في آخر طريق الهجرتين. والله أعلم.
كيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار؟
السؤال:-
ورد بأن أهل الفترة يختبرون، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ على بعض من مات قبل الرسالة بالنار فعندما سأله رجل عن أبيه فقال: "أبوك في النار". ثم قال له: "إن أبي وأباك في النار". فكيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار مع أنهم ماتوا قبل مجيء الرسالة؟ أليسوا من أهل الفترة ؟
الجواب:-
وردت أحاديث كثيرة في امتحانهم في الدار الآخرة ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء:15) وابن القيم في كتابه: "طريق الهجرتين" في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين.
وأشهرها حديث الأسود بن سريع الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة" وفيه: "فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسول أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"، ثم رواه عن أبي هريرة وقال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها رد إليها".
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رواه محمد بن يحيى الذهلي والبزار عن عطية العوفي عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة، والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل، فترفع لهم نار فيقال لهم: ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياي عصيتم فكيف لو أن رسلي أتتكم". وفي رواية البزار: "فكيف برسلي بالغيب" قال بزار: لا يعرف إلا من طريق عطية عنه.
ومنها حديث معاذ بن جبل ذكره عن محمد بن المبارك الصوري، بإسناده عنه مرفوعاً: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني، وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك، فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني فيقولون: نعم، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. قال: ولو دخلوها ما ضرتهم، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار"، وفي إسناده ضعف. لكن يتقوَّى بالشواهد والطرق الأخرى والأحاديث التي ذكرها ابن كثير وغيره.
فهذه الأحاديث بمجموعها تثبت جنس الامتحان في يوم القيامة، حتى لا يعذب الله تعالى من لا يستحق العذاب.
وقد نقل ابن القيم وابن كثير عن ابن عبدالبر أنه قال: "أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها" اهـ.
وأجاب ابن القيم بوجوه:
منها : أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل صححوا بعضها، فحديث الأسود رواه أحمد وإسحاق وابن المديني، فهو أجود من كثير من أحاديث الأحكام.
ومنها : أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة، فدل على أنهم عملوا بالأحاديث، وذكر البيهقي في الاعتقاد له: أن بعض الأئمة نصوا على الامتحان، وقالوا: لا ينقطع إلا بدخول دار القرار.
ومنها : ما في الصحيح: في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وأنه يعطي ربه عهوداً ومواثيق أن لا يسأل غير ما سأل، ثم يسأل، فيقول الله له: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك، فالغدر مخالفة للعهد الذي عاهد عليه ربه.(/7)
ومنها : قوله تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(القلم:42)، فهو صريح في أن الله يدعوهم إلى السجود في القيامة، وأن الكفار لا يستطيعونه إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
فأما الذين جزم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار، فلعله قد اطلع على ذلك كما تقدم أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، أي أمعاءه؛ لأنه أول من غيَّر دين إبراهيم، وهكذا قوله في حديث ابن مسعود عند أبي داود: "الوائدة والموؤودة في النار"، وفي رواية: "إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم"، ذكره ابن كثير، وقال: إسناده حسن.(/8)
... الإقامة بين غير المسلمين لحديثي العهد بالإسلام
الشيخ/د. سعود الفنيسان (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً) 24/3/1424
25/05/2003
ازدادت في العقود الأخيرة -وبشكل بارز- ظاهرة السفر والتنقل إلى البلاد الغربية ؛ بهدف العمل أو الدراسة . ومع تنامي هذه الرحلات؛ لعله من المناسب التذكير بأهم شروط سفر المسلم إلى تلك البلاد, وهي ثلاثة:
الأول: وجود دين يمنعه من الوقوع في الشهوات المحرمة.
والثاني:أن يكون لدى المسلم المسافر علم يدفع به الشبهات التي تصادفه.
والثالث: أن يكون محتاجاً إلى السفر، كأن يكون مريضاً يطلب العلاج، أو مرافقاً لمريض، أو لتجارة مباحة، أو لطلب علم لا يجده عند المسلمين، أو لغرض الدعوة ونشر الدين...إلخ.
وعليه أن يظهر شعائر دينه أثناء سفره هذا، وأن يكره ما عليه أهل الكفر من باطل وهوى.
وهذه الشروط تنطبق على من أسلم حديثاً وهو في ديار الكفار، غير أن الهجرة إلى بلد مسلم -إن تمكن من ذلك- فتنبغي له المبادرة إليها، أما إذا لم يتمكن فلم يجد من يستقبله من ديار المسلمين؛ فلا شيء عليه حينئذ. فقد ثبت أن عدداً من أهل مكة وغيرها بقوا في ديارهم حتى أتتهم الفرصة فقدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، أو وافوه في الطريق في بعض الغزوات فجاهدوا معه، ولم يأمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- (والحالة هذه) بالهجرة إليه، ولم يستفصل منهم هل هم عاجزون عن الهجرة، أم لا؟ ومن هؤلاء عمه العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-. ونعيم النحام لما أراد أن يهاجر جاء إليه قومه المشركون من بني عدي، وقالوا: أقم عندنا وأنت على دينك، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فبقي عندهم، ولما جاء فتح مكة قال له النبي –صلى الله عليه وسلم-:"قومك كانوا خيراً من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك" ومعلوم أن عدداً ليس بالقليل من المؤمنين غير المستضعفين تأخرت هجرتهم، ولو كانت الهجرة واجبة على الفور لأمرهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- بذلك وأنكر على من تخلف منهم.
ويجب أن يعلم أن الهجرة في مفهوم القرآن الكريم والسنة النبوية ليست عملية انهزام وهروب؛ ولكنها عمل حركي للانتقال من دار الباطل إلى دار الحق، وليست عملية انسحابية؛ ولكنها تحيز إلى فئة هي جماعة من المسلمين في أي بقعة من الأرض، ليقيم المسلم معهم شعائر دينه دون معاناة أو تضييق، والكل يعلم أن أكثر المسلمين الذين يفتنون في دينهم من الأقليات -في ديار الكفر- غير قادرين على الهجرة، فهم معذورون شرعاً، لا سيما أنه لا يكاد يوجد من دول الإسلام من تقبل مثل هؤلاء بأن يدخل هؤلاء باسم الهجرة الشرعية ويعاملوا على أساسها، وكل جماعة مسلمة -وإن قل عددها في بلاد الكفر- تقدر على الانعزال والتفرد عن الكفار شعورياً على الأقل وهو الأهم، كما أنها تستطيع أن تندمج عملياً في ذلك المجتمع دون ذوبان أو تبعية؛ بل يستطيع المسلم الجديد إذا أقام في بلده الكافر أن يظهر شعائر دينه، وينشر الإسلام والدعوة إليه ربما أكثر من غيره لمعرفته بأوضاع البلاد وقوانينها وعادات أهلها، ويستخدم من وسائل الدعوة وطرقها ما قد يجهله غيره.
كما أن الهجرة الواجبة في القرآن والسنة، والتي كان يبايع عليها النبي الناس هي: الهجرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما البيعة فأمر زائد على الهجرة، وهذا كان قبل الفتح، أما بعد فتح مكة (فلا هجرة، ولكن جهاد ونية) وجاء في الحديث الصحيح "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويديه والمهاجر من هجر ما نهاه الله عنه" فتعدد معاني الجهاد والهجرة في الإسلام فيه سعة ويسر على المسلمين؛ ليؤخذ لكل زمن منه ما يناسبه، أما طلب العلم الشرعي وأحكامه للمسلم الجديد فيمكنه أن يأخذ ذلك عمن هو أعلم منه مباشرة إن تيسر له ذلك، أو يأخذه من كتاب شرعي معتمد، أو يتلقى المعرفة الضرورية عن طريق وسائل الاتصال الحديثة التي قربت البعيد، وجمعت المتفرق من: إذاعة مسموعة، أو مرئية، وعبر قنوات فضائية، أو إنترنت... إلخ.
وفق الله الجميع إلى كل خير، وثبتنا على الحق حيثما كنا.(/1)
الإمام أبو حنيفة
يحكى أنه في القرن الأول الهجري كان هناك شاباً تقياً يطلب العلم ومتفرغ له ولكنه كان فقيرا جدا وفي يوم من الأيام خرج من بيته من شدة الجوع ولأنه لم يجد ما يأكله فانتهى به الطريق إلى أحد البساتين والتي كانت مملؤة بأشجار التفاح وكان أحد أغصان شجرة منها متدلياً في الطريق..فحدثته نفسه أن يأكل هذه التفاحة ويسد بها رمقه ولا أحد يرى ولن ينقص هذا البستان بسبب تفاحة واحدة.. فقطف تفاحة واحدة وجلس يأكلها حتى ذهب جوعه ولما رجع إلى بيته بدأت نفسه تلومه ..وهذا هو حال المؤمن دائماً جلس يفكر ويقول كيف أكلت هذه التفاحة وهي مال لمسلم ولم أستأذن منه ولم أس تسمحه..
فذهب يبحث عن صاحب البستان حتى وجده فقال له الشاب يا سيدي :
بالأمس بلغ بي الجوع مبلغاً عظيماً وأكلت تفاحة من بستانك من دون علمك وها أنا ذا اليوم أستأذنك فيها...
فقال له صاحب البستان .. والله لا أسامحك بل أنا خصمك يوم القيامة عند الله...
بدأ الشاب المؤمن يبكي ويتوسل إليه أن يسامحه
وقال له أنا مستعد أن أعمل أي شي بشرط أن تسامحني وتحللني
وبدأ يتوسل إلى صاحب البستان وصاحب البستان لا يزداد إلا إصرارا وذهب وتركه
والشاب يلحقه ويتوسل إليه حتى دخل بيته وبقي الشاب عند البيت ينتظر خروجه إلى صلاة العصر..
فلما خرج صاحب البستان وجد الشاب لازال واقفاً
ودموعه التي تحدرت على لحيته فزادت وجهه نوراً غير نور الطاعة والعلم..
فقال الشاب لصاحب البستان يا سيدي إنني مستعد للعمل فلاحاً في هذا البستان
من دون أجر باقي عمري أو أي أمر تريد
ولكن بشرط أن تسامحني عندها..
أطرق صاحب البستان يفكر ثم قال بابني إنني مستعد أن أسامحك الآن...
لكن بشرط..
فرح الشاب وتهلل وجهه بالفرح وقال اشترط ما بدا لك يا سيدي
فقال صاحب البستان شرطي هو أن تتزوج ابنتي..
صدم الشاب من هذا الجواب ذهل ولم يستوعب بعد هذا الشرط
ثم أكمل صاحب البستان قوله... ولكن يا ابني أعلم
أن ابنتي عمياء
وصماء
وبكماء
وأيضا مقعدة لا تمشي
ومنذ زمن استأمنه عليها
ويقبل بها بجميع مواصفاتها التي ذكرتها فإن وافقت عليها سامحتك..
صدم الشاب مرة أخرى بهذه المصيبة الثانية..
وبدأ يفكر كيف يعيش مع هذه العلة خصوصاً أنه لازال في مقتبل العمر..
وكيف تقوم بشوءنه وترعي بيته وتهتم به وهي بهذه العاهات؟؟
بدأ يحسبها ويقول أصبر عليها في الدنيا ولكن أنجو من ورطة التفاحة..
ثم توجه إلى صاحب البستان وقال له يا سيدي قد قبلت بابنتك
وأسأل الله أن يجازيني على نيتي وأن يعوضني خيراً مما أصابني..
فقال صاحب البستان... حسناً ..
موعدك الخميس القادم عندي في البيت لوليمة زواجك وأنا أتكفل لك بمهرها..
فلما كان يوم الخميس جاء هذا الشاب متثاقل الخطى..
حزين الفؤاد.. منكسر الخاطر.. ليس كأي زوج ذاهب إلى يوم عرسه
فلما طرق الباب فتح له أبوها وأدخله البيت وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث قال له يا ابني ..
تفضل بالدخول على زوجتك وبارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما على خير
وأخذه بيده وذهب به إلى الغرفة التي تجلس فيها ابنته..
فلما فتح الباب ورآها.....فإذا فتاة بيضاء أجمل من القمر
قد إن سدل شعر كالحرير على كتفيها فقامت
ومشت إليه فإذا هي ممشوقة القوام
وسلمت عليه وقالت السلام عليك يا زوجي.....
أما صاحبنا فهو قد وقف في مكانه يتأملها وكأنه أمام حورية من حوريات الجنة
نزلت إلى الأرض وهو لا يصدق ما يرى ولا يعلم الذي حدث
ولماذا قال أبوها ذلك الكلام!!..
ففهمت ما يدور في باله ,
فذهبت إليه وصافحته وقبلت يده وقالت:
.... إنني عمياء من النظر إلى الحرام
... وصماء من الاستماع إلى الحرام
.... وبكماء من الكلام في الحرام
..... ولا تخطو رجلي خطوة إلى الحرام
وإنني وحيدة أبي ومنذ عدة سنوات
وأبي يبحث لي عن زوج صالح فلما أتيته تستأذنه في تفاحة
وتبكي من أجلها قال أبي أن من يخاف من أكل تفاحة لا تحل له..
حري به أن يخاف الله في ابنتي فهنيئاً لي بك زوجاً وهنيئا لأبي بنسبك..
وبعد عام أنجبت هذه الفتاة من هذا الشاب غلاماً
كان من القلائل الذين مروا على هذه الأمة..
أتدرون من ذلك الغلام؟؟
إنه الإمام أبو حنيفة صاحب المذهب الفقهي المشهور!!!
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم مثل تلك التفاحة..(/1)
الإمام ابن الجوزي
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
نقدم لقرائنا في هذه الزاوية اليوم ما كتبه الإمام عبد الرحمن بن الجوزي مذكراً بحكمة الله في خلقه، وعظيم قدرته في كمال عدالته وحسن تدبيره، الأمر الذي يعلم الجاهل ويوقظ الغافل، ويزيد في إيمان المؤمن وتسليمه، ويكشف زيف أولئك الجفاة الذين يعترضون –بصغر عقولهم- على كل مالا تدركه عقولهم.
فكان –فيما كتب- نعم المذكر ونعم المعلم.
قال رحمه الله:
(رأيت كثيراً من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار.
وفيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض.
وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال: ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا!!
فقلت لبعض ما كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك حدثتك، وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر وإنصاف، فالحديث معك ضائع. ويحك أحضر عقلك واسمع ما أقول:
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك الحق أن يتصرف كيف يشاء؟
أليس قد ثبت أنه حكيم والحكيم لا يعبث؟
وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئاً؛ فإنه قد سمعنا من جالينوس أنه قال: ما أدري، أحكيم هو أم لا؟
والسبب في قوله هذا، أنه رأى نقضاً بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق؛ وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم.
وجوابه لو كان حاضراً أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة؟ أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك؟
وكيف يهب لك الذهن الكامل ويفوته هو الكمال؟
وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس؛ فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أوفى من كل حكيم، لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول.
فهذا إذا تأمله المنصف زال عنه الشك.
وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: "أله البنات ولكم البنون" أي أجعل لنفسه الناقصات وأعطاكم الكاملين.
فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا، ونقول: هذا فعل عالم حكيم، ولكن ما يبين لنا معناه.
وليس هذا بعجب: فإن موسى عليه السلام خفي عليه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن, فليكن المرء مع الخالق، كموسى مع الخضر.
أولسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام الظريف يقطع ويمضغ، ويصير إلى ما نعلم. ولسنا نملك ترك تلك الأفعال ولا ننكر الإفساد له، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه.
ومن أجهل الجهال: العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه، فإن فرضه للتسليم لا الاعتراض.
ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه لكفى.
ولقد تأملت حالة عجيبة، يجوز أن يكون المقصود بالموت هي، وذلك أن الخالق سبحانه غيب في غيب لا يدركه الإحساس؛ فلو أنه لم ينقض تلك البنية لتخايل للإنسان أنه صنع بلا صانع.
فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد، وتدرك عجائب الأمور بعد رحيلها.
فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها، وتذكرت حالها في الدنيا –فإن الذكريات تعاد كما تعاد الأبدان- فيقول قائلهم: "إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين".
ومتى رأت ما قد وعدت به من أمور الآخرة، أيقنت يقيناً لا شك معه. ولا يحصل هذا بإعادة ميت سواها. وإنما يحصل برؤية الأمر فيها.
فتبنى بنية تقبل البقاء، وتسكن جنة لا ينقضي دوامها.
فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق: لأنها آمنت بما وعدت، وصبرت بما ابتلى، سلمت لأقداره، فلم تعترض. ورأت في غيرها العبر، ثم في نفسها. فهذه هي التي يقال لها: "ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
فأما الشاك والكافر: فيحق لهما الدخول إلى النار واللبث فيها، لأنهما رأيا الأدلة ولم يستفيدا، ونازعا الحكيم، واعترضا عليه، فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما، فبقيت نفوسهما على ما كانت عليه.
فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا، لم تنتفع بالموت والإعادة، ودليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى: "لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه".
فنسأل الله عز وجل عقلاً مسلماً يقف على حدة، ولا يعترض على خالقه وموجده فما يستفيد إلا الخزي، نعوذ بالله ممن خذل).
الوقوف على باب الله والتضرع إليه
من خصال الإيمان أن يكون المسلم على مراقبة دائمة لله عز وجل، والوقوف ببابه والتضرع إليه، فإليه المفزع عند المصيبة، وببابه ينزل أهل الحاجات حاجاتهم وهو –سبحانه- الذي يجيب المضطر إذا دعاه؛ وصدق اللجأ إليه، -مع العمل- سلاح أي سلاح.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
ينبغي للعبد أن يلازم باب مولاه على كل حال. وأن يتعلق بذيل فضله إن عصى وإن أطاع.
وليكن له أنس في خلوته به، فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش كما قال الشاعر:
أمستوحش أنت مما جنيـ ت فأحسن إذا شئت واستأنس(/1)
فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه، أو إلى الآخرة سأله التوفيق فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه، وطب مرضه، فإنه إذا صلح لم يطلب ما يؤذيه.
من كان هكذا في العيش الرغد، غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى فإنه لا يصلح الأنس إلا بها.
وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللجأ والسؤال.
وفي الحديث: أن قتيبة بن مسلم لمّا صافَّ الترك هاله أمرهم فقال: أين محمد بن واسع؟
فقيل: هو في أقصى الميمنة جانح على سبة قوسه يومي بإصبعه نحو السماء، فقال قتيبة:
تلك الأصابع الفاردة أحبُّ إليَّ من مائة ألف شهيد، وسنان طرير.
فلما فتح عليهم قال له ما كنت تصنع؟
قال: آخذ لك بمجامع الطرق.
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 13 –العدد 1-2 –ربيع (1-2) 1392هـ / أيار –حزيران 1972م.(/2)
الإمام ابن باز.... الفاجعة
العلماء ورثة الأنبياء، رفعهم الله درجات، وأخبر أنهم أهل خشيته، وأمر الناس بسؤالهم وطاعتهم واتباعهم. والشيخ ابن باز كان واحداً من أولئك العلماء الأعلام، وقد تركت وفاته حيزاً لا يسده فرد بعينه؛ لأن الرجل كان أمة، ولمزيد من فهم وإدراك هذه الحقيقة تأتي هذه المادة حاملة في طياتها نبذة موجزة عن حياة الشيخ من ولادته حتى وفاته رحمه الله.
مكانة العلماء في الأمة الإسلامية ... ... ... لما مرض الشيخ وكان يشتد عليه الألم إذا أفاق -هذا في آخر أيامه- قال لمن حوله من الكتاب والمساعدين: هاتوا ما عندكم، اقرءوا علي. فيقرءون الرسائل والخطابات وقضايا الطلاق، والشكاوى من المنكرات، وخطابات الشفاعات.. وغير ذلك مما ينفع به العباد والبلاد. كان لا يشتكي، جلست بجانبه وهو يتأمل فقلت: خيراً. فقال: أشكو بعض الشيء، وكان إذا اشتد به الألم وقد أصابه سرطان المريء والبلعوم في آخر عمره، إذا اشتد عليه الألم تغير لون وجهه، وسكت ووضع يده على موضع الألم، ولم يتأوه، ولم يصيح. والإمام أحمد -رحمه الله- لما مرض قد سمع أن طاوساً كان يقول عن الأنين: إنه شكوى؛ فما أنَّ أحمد حتى مات....... ...
أصناف الفرحين بموت الشيخ
سيشمت بموت الشيخ ويفرح أصناف من أعداء الله، وهذه حقيقة نعرفها: أولهما: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس، وثانيهما: المبتدعة أهل الزيغ والأهواء.. هؤلاء الذين سيفرحون بموت الشيخ عبد العزيز ، أصحاب الشهوات الذين كانوا يقولون: إن المرأة ستسوق إذا مات ابن باز ، وارتحنا من فتاويه المتشددة، ولكن أخزاهم الله تعالى في الفترة الماضية، ومات الشيخ وهم في ذل وخيبة ولم يتحقق مقصودهم، لا رفع الله لهم رأساً، ولا مكنهم مما يريدون. دعاة تحرير المرأة والاختلاط يريدون موت الشيخ بأي طريقة، لأن فتاويه عقبة في طريقهم.. وهكذا أصحاب الشهوات والمنكرات يريدون وفاته والتخلص منه، ولكن الله لهم بالمرصاد، وسيقيض من هذه الأمة من يقوم ويتصدى، والحمد لله أن الدين لا يقوم على شخص واحد، وأن في هذه الأمة أفذاذاً وأخياراً، وعلماء ودعاة وطلبة علم يقفون بالمرصاد أمام دعاوى هؤلاء أرباب الشهوات، وهؤلاء المنافقين الذين يريدون عزل الدين عن حياة المسلمين.سيشمت بموت الشيخ ويفرح أصناف من أعداء الله، وهذه حقيقة نعرفها: أولهما: المنافقون الذين يريدون عزل الإسلام عن حياة الناس، وثانيهما: المبتدعة أهل الزيغ والأهواء.. هؤلاء الذين سيفرحون بموت الشيخ عبد العزيز ، أصحاب الشهوات الذين كانوا يقولون: إن المرأة ستسوق إذا مات ابن باز ، وارتحنا من فتاويه المتشددة، ولكن أخزاهم الله تعالى في الفترة الماضية، ومات الشيخ وهم في ذل وخيبة ولم يتحقق مقصودهم، لا رفع الله لهم رأساً، ولا مكنهم مما يريدون. دعاة تحرير المرأة والاختلاط يريدون موت الشيخ بأي طريقة، لأن فتاويه عقبة في طريقهم.. وهكذا أصحاب الشهوات والمنكرات يريدون وفاته والتخلص منه، ولكن الله لهم بالمرصاد، وسيقيض من هذه الأمة من يقوم ويتصدى، والحمد لله أن الدين لا يقوم على شخص واحد، وأن في هذه الأمة أفذاذاً وأخياراً، وعلماء ودعاة وطلبة علم يقفون بالمرصاد أمام دعاوى هؤلاء أرباب الشهوات، وهؤلاء المنافقين الذين يريدون عزل الدين عن حياة المسلمين. ... ... ...
عزاء الأمة في وفاة الشيخ ابن باز ... ...(/1)
وأما عزاؤنا في وفاة الشيخ فإن على رأس العزاء موت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قالت عائشة فيه: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر ، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس.. أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. فعزاؤنا في موت الشيخ، أولاً: نتعزى بالمصاب الذي لقيناه ولقيته الأمة بوفاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة دونه تهون، وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم، والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسئولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه، وأن نترحم عليه، وندعو له، ونتذكر بأسى وحزن أن أرقام الهاتف [4354444] و [4351421] في الرياض، و [5562874] في مكة ، [7460223] في الطائف ، لن يرفع الشيخ سماعته اليوم ليجيب. كانت أسئلة الناس يفزع بها إلى الشيخ ليجيب، كانت الملمات تعرض على هذا المجتهد، كنا إذا داهمنا الناس بالأسئلة فزعنا إلى الشيخ نتصل به وننقل إجابته، فلن يرد علينا الشيخ بعد اليوم في المستجدات، ولكن العزاء فيما تركه من الفتاوى، وفي العلماء الذين تركهم خلفه، فما من عالم مشهور في البلد إلا وللشيخ عليه فضل ومنة. ونتذكر برؤية جنازته تلك المشاهد العظيمة لجنائز علماء الإسلام، الذين قال السلف فيها: آية ما بيننا وما بين أهل البدع يوم الجنائز. وسيصلي على الشيخ من الجموع الغفيرة من لا يحصى ولا يعد.وأما عزاؤنا في وفاة الشيخ فإن على رأس العزاء موت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي قالت عائشة فيه: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في آخر عمره، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر ، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس.. أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. فعزاؤنا في موت الشيخ، أولاً: نتعزى بالمصاب الذي لقيناه ولقيته الأمة بوفاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكل مصيبة دونه تهون، وعزاؤنا في الطلاب الذين تركهم، والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل، وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه، فهو وإن رحل فإن علمه باقٍ وموجود فينا، ونحن مسئولون عن نشره وتبليغه، ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه، وأن نترحم عليه، وندعو له، ونتذكر بأسى وحزن أن أرقام الهاتف [4354444] و [4351421] في الرياض، و [5562874] في مكة ، [7460223] في الطائف ، لن يرفع الشيخ سماعته اليوم ليجيب. كانت أسئلة الناس يفزع بها إلى الشيخ ليجيب، كانت الملمات تعرض على هذا المجتهد، كنا إذا داهمنا الناس بالأسئلة فزعنا إلى الشيخ نتصل به وننقل إجابته، فلن يرد علينا الشيخ بعد اليوم في المستجدات، ولكن العزاء فيما تركه من الفتاوى، وفي العلماء الذين تركهم خلفه، فما من عالم مشهور في البلد إلا وللشيخ عليه فضل ومنة. ونتذكر برؤية جنازته تلك المشاهد العظيمة لجنائز علماء الإسلام، الذين قال السلف فيها: آية ما بيننا وما بين أهل البدع يوم الجنائز. وسيصلي على الشيخ من الجموع الغفيرة من لا يحصى ولا يعد. ...
وصف الحديث بلغة الشعر ... ... ... ... مهج تذوب وأنفس تتحسر ولظى على كل القلوب تسعر
الحزن أضرم في الجوانح والأسى يصلى المشاعر باللهيب ويصهر
كيف التحدث عن مصابٍ فادح أكبادنا من هوله تتفطر
كل امرئ فينا يدوم تعاسة والبؤس في دمه يغور ويزخر
لم لا وقد فقدوا أباً ومهذباً ورعاً بأنواع المفاخر يذكر
لما بدا للحاضرين كيانه والنعش يزهو بالفقيد ويفخر
هلعت لمنظره النفوس كآبة وبدا على كل الوجوه تحسر
نظروا إليه فصعدت زفراتهم والدمع غمر في المحاجر يحمر
كل يحاول أن يغطي دمعه لكنه يلقي النقاب فيسفر
يتزاحمون ليحملوه كأنهم سيل يموج وأبحر لا تجزر
يا راحلاً ريع الثقات بفقده وبكى تغيبه الحمى والمنبر
لو كنت تفدى بالنفوس عن الردى لفدتك أنفسنا وما نتأخر
لكن تلك طريقة مسلوكة وسجية مكتوبة لا تقهر
كل امرئ في الكون غايته الردى والموت حتم للأنام مقدر
كتب الفناء على الأنام جميعهم سيان فيهم فاجر ومطهر
لكن من اتخذ الصلاح شعاره تفنى الخليقة وهو حي يذكر
ما مات من نشر الفضيلة والتقى وأقام صرحاً أسه لا يكسر
ما مات من غمر الأنام بعلمه الكتب تشهد والصحائف تخبر
يا ناصر الإسلام ضد خصومه لك في الجهاد مواقف لا تحصر(/2)
قد كنت للدين الحنيف معضداً وبشرعة الهادي القويم تعبر
كم من فؤاد عام في لجج الهوى أنقذته أيام كنت تذكر
بصرته بهدى المشرع فارعوى عن غيه فلك الجزاء الأوفر
طوراً تحذره العذاب وتارة برضا الإله وما أعد تبشر
ولكم خطبت على الأنام مذكراً أن الحنيف على العباد ميسر
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر
نم في جنان الخلد يا علم التقى وانعم بظل وارف لا يحسر
إن شاء الله. اللهم تغمد شيخنا عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف في عقبه في الغابرين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين! اللهم اجبر مصابنا، اللهم اجبر كسرنا، وصبرنا على مصابنا، اللهم اجعلنا عاملين بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا رجاعين لأهل العلم، واجعلنا من أهل العلم، واجعلنا أوفياء لأهل العلم، واجعلنا من الذين ينشرون العلم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تعلي للشيخ درجته في الجنة، وأن تلحقه بمنازل الأبرار والشهداء والأنبياء، وأن تجعله ممن يلتقي بهم يا رب العالمين. اللهم إننا شهدنا بأنه صاحب فضل وعلم وخير، وإن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر أننا شهداؤك في الأرض، وقد شهدنا له بما له من الخير، وأنت تعلم السر وأخفى، وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد. اللهم فإنا نسألك له المغفرة ورفعة الدرجات، انشر رحمتك عليه وعلى العباد، اللهم ارزقنا الجنة وأعتقنا من النار نحن ووالدينا وأموات المسلمين يا غفار! واعلموا -أيها الإخوة- أن صلاة الغائب قد ذكر فيها العلماء أقوالاً، فمنهم من قال: لا يصلى عليه إذا صلي عليه كما اختار ذلك ابن القيم وغيره من المحققين، ومنهم من قال: يصلى على أئمة الهدى صلاة الغائب، ومنهم من قال: لكل أحد، وقد صدر التوجيه بصلاة الغائب عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة إنه سميع مجيب قريب. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
مهج تذوب وأنفس تتحسر ولظى على كل القلوب تسعر
الحزن أضرم في الجوانح والأسى يصلى المشاعر باللهيب ويصهر
كيف التحدث عن مصابٍ فادح أكبادنا من هوله تتفطر
كل امرئ فينا يدوم تعاسة والبؤس في دمه يغور ويزخر
لم لا وقد فقدوا أباً ومهذباً ورعاً بأنواع المفاخر يذكر
لما بدا للحاضرين كيانه والنعش يزهو بالفقيد ويفخر
هلعت لمنظره النفوس كآبة وبدا على كل الوجوه تحسر
نظروا إليه فصعدت زفراتهم والدمع غمر في المحاجر يحمر
كل يحاول أن يغطي دمعه لكنه يلقي النقاب فيسفر
يتزاحمون ليحملوه كأنهم سيل يموج وأبحر لا تجزر
يا راحلاً ريع الثقات بفقده وبكى تغيبه الحمى والمنبر
لو كنت تفدى بالنفوس عن الردى لفدتك أنفسنا وما نتأخر
لكن تلك طريقة مسلوكة وسجية مكتوبة لا تقهر
كل امرئ في الكون غايته الردى والموت حتم للأنام مقدر
كتب الفناء على الأنام جميعهم سيان فيهم فاجر ومطهر
لكن من اتخذ الصلاح شعاره تفنى الخليقة وهو حي يذكر
ما مات من نشر الفضيلة والتقى وأقام صرحاً أسه لا يكسر
ما مات من غمر الأنام بعلمه الكتب تشهد والصحائف تخبر
يا ناصر الإسلام ضد خصومه لك في الجهاد مواقف لا تحصر
قد كنت للدين الحنيف معضداً وبشرعة الهادي القويم تعبر
كم من فؤاد عام في لجج الهوى أنقذته أيام كنت تذكر
بصرته بهدى المشرع فارعوى عن غيه فلك الجزاء الأوفر
طوراً تحذره العذاب وتارة برضا الإله وما أعد تبشر
ولكم خطبت على الأنام مذكراً أن الحنيف على العباد ميسر
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر
نم في جنان الخلد يا علم التقى وانعم بظل وارف لا يحسر(/3)
إن شاء الله. اللهم تغمد شيخنا عندك برحمتك يا أرحم الراحمين، وارفع منزلته في أعلى عليين، واخلف في عقبه في الغابرين، واخلف على الإسلام وأهله بخير يا رب العالمين! اللهم اجبر مصابنا، اللهم اجبر كسرنا، وصبرنا على مصابنا، اللهم اجعلنا عاملين بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا رجاعين لأهل العلم، واجعلنا من أهل العلم، واجعلنا أوفياء لأهل العلم، واجعلنا من الذين ينشرون العلم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تعلي للشيخ درجته في الجنة، وأن تلحقه بمنازل الأبرار والشهداء والأنبياء، وأن تجعله ممن يلتقي بهم يا رب العالمين. اللهم إننا شهدنا بأنه صاحب فضل وعلم وخير، وإن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر أننا شهداؤك في الأرض، وقد شهدنا له بما له من الخير، وأنت تعلم السر وأخفى، وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد. اللهم فإنا نسألك له المغفرة ورفعة الدرجات، انشر رحمتك عليه وعلى العباد، اللهم ارزقنا الجنة وأعتقنا من النار نحن ووالدينا وأموات المسلمين يا غفار! واعلموا -أيها الإخوة- أن صلاة الغائب قد ذكر فيها العلماء أقوالاً، فمنهم من قال: لا يصلى عليه إذا صلي عليه كما اختار ذلك ابن القيم وغيره من المحققين، ومنهم من قال: يصلى على أئمة الهدى صلاة الغائب، ومنهم من قال: لكل أحد، وقد صدر التوجيه بصلاة الغائب عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة إنه سميع مجيب قريب. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. ... ... ... ... ...(/4)
الإمام الآلوسي
طريق القرآن
هو محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي شهاب الدين، أبو الثناء أديب من المجددين، من أهل بغداد، ولد الآلوسي في الكَرْخ – موضع بالعراق – سنة 1217هـ الموافق 1802م.
كان الآلوسي رحمه الله شيخ العلماء في العراق، سلفى الإعتقاد، مجتهداً، نادرة من نوادر الأيام، جمع كثيراً من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول، فهامة في الفروع والأصول، محدثاً لا يُجاري، ومفسراً لكتاب الله لا يبارى.
أخذ الآلوسي العلم عن فحول العلماء، منهم: والده العلامة، والشيخ خالد النقشبندى، والشيخ على السويدي، وكان رحمه الله غاية في الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه.
اشتغل الآلوسي بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرس في عدة مدارس وقلد إفتاء الحنفية سنة 1248هـ، فشرع يدرس سائر العلوم في داره الملاصقة لجامع الشيخ عبد الله العاقولى في الرصافة، وقد تتلمذ له وأخذ عنه خلق كثير من قاصي البلاد ودانيها، وتخرج عليه جماعات من الفضلاء من بلاد مختلفة كثيرة. وكان رحمه الله يواسي طلبته في ملبسه ومأكله، ويسكنهم البيوت الرفيعة من منزله، حتى صار في العراق العلم المفرد، وأنتهت إليه الرياسة لمزيد فضله الذي لا يحمد، وكان نسيجاً وحده في النثر وقوة التحرير، وغزارة الإملاء، وجزالة التعبير، وقد أملى كثيراً من الخطب والرسائل، والفتاوى والمسائل، ولكن أكثر ذلك فقد وعفت آثاره، ولم تظفر الأيدى إلا بقليل منه.
وكان ذا حافظة عجيبة، وفكرة غريبة، وكثيراً ما كان يقول: "ما أستودعت ذهنى شيء فخانني، ولا دعوت فكرى لمعضلة إلا وأجابني". قلد الآلوسي إفتاء الحنفية سنة 1248هـ، وولى أوقاف المدرسة المرجانية، إذ كانت مشروطة لأعلم أهل البلد، وتحقق لدى الوزير الخطير على رضا باشا أنه ليس فيها من يدانيه من أحد.
كان رحمه الله عالماً باختلاف المذاهب، مطلعا على الملل والنحل، شافعى المذهب، إلا أنه في كثير من المسائل يقلد الإمام أبا حنيفة رضى الله عنه، وكان أخر أمره يميل إلى الاجتهاد، توفى رحمه الله تعالى يوم الجمعة 25 من ذي القعدة سنة 1270هـ الموافق 1845م، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ المعروف الكرخي في الكرخ.
كتبه ومؤلفاته:
خلف الإمام الآلوسي رضى الله تعالى عنه ثروة علمية كبيرة ونافعة بيد أنه يأتي على رأس هذه المؤلفات كتابه: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني الذي نحن بصدده.
التعريف بتفسير روح المعاني ونهج مؤلفه فيه:
ذكر الإمام الآلوسي في مقدمته أنه منذ عهد الصغر، لم يزل متطلبا لاستكشاف سر كتاب الله المكتوم، مترقباً لارتشاف رحيقه المختوم، وأنه طالما فرق نومه لجمع شوارده، وفارق قومه لوصال فرائده، لا يَرْفَلَ في مطارف اللهو كما يرفل أقرانه، ولا يهب نفائس الأوقات لخسائس الشهوات كما يفعل لإخوانه، وبذلك وفقه الله للوقوف على كثير من حقائقه، وحل وفير من دقائقه، وذكر أنه قبل أن يكمل سنه العشرين، شرع يدفع كثير من الإشكالات التي ترد على ظاهر النظم الكريم، ويتجاهر بما لم يُظفر به في كتاب من دقائق التفسير …
ثم ذكر أنه كثيراً ما خطر له أن يُحرر كتاباً يجمع فيه ما عنده من ذلك، وأنه كان يتردد في ذلك، إلى أن رأى في بعض ليالي الجمعة من شهر رجب سنة 1252 هجرياً أن الله جل شأنه أمره بطي السماوات والأرض، ورتق فتقها على الطول والعرض، فرفع يداً إلى السماء وخفض الأخرى إلى مستقر الماء ثم أنتبه من نومه وهو مستعظم لرؤيته، فجعل يفتش لها عن تعبير، فرأى في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير، فشرع فيه في الليلة السادسة عشرة من شهر شعبان من السنة المذكورة، وكان عمره إذ ذاك أربعة وثلاثين سنة، وذلك في عهد محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان. وذكر في خاتمته أنه انتهى منه ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 1267 هجرياً.
ولما انتهى منه جعل يفكر ما اسمه؟ وبماذا يدعوه؟ فلم يظهر له اسم تهتش له الضمائر، وتبتش فسماه: " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني".
مكانة روح المعاني من التفاسير التي تقدمته: الحق يقال إن تفسير روح المعانيٍ قد أفرغ فيه الإمام الآلوسي وسعه , وبذل مجهوده حتى أخرجه للناس كتاباً جامعاً لآراء السلف رواية ودراية، مشتملاً على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية ، فهو جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير، فتراه ينقل لك عن تفسير ابن عطية ، وتفسير أبي حيان ، وتفسير الكشاف ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير البيضاوي ، وتفسير الفخر الرازي وغيرها من كتب التفاسير المعتبرة .
وهو إذا نقل عن تفسير أبي السعود يقول غالباً : قال شيخ الإسلام
وإذا نقل عن تفسير البيضاوي يقول : قال القاضي
وإذا نقل عن تفسير الفخر الرازي يقول : قال الإمام(/1)
وهو إذ ينقل عن هذه التفاسير ينصب نفسه حكماً عدلاً بينها ، ويجعل من نفسه نقاداً مدققاً ، ثم يبدي رأيه حراً فيما ينقل فهو ليس مجرد ناقل ، بل له شخصيته العلمية البارزة ، وأفكاره المميزة ، فتراه كثيراً يعترض على ما ينقله عن أبي السعود ، أو عن البيضاوي ، أو عن أبي الحيان أو عن غيرهم ، وليس في تفسيره ما يؤاخذ عليه.
كما تراه يتعقب الفخر الرازي في كثير من المسائل ، ويرد عليه على الخصوص في بعض المسائل الفقهية ، انتصاراً منه لمذهب أبي حنيفة ، ثم إنه إذا استصوب أمراً لبعض من ينقل عنهم انتصر لهم ورجحه على ما عداه. موقف الإمام الآلوسي من المخالفين لأهل السنة :
والإمام الآلوسي – كما أسلفت – سلفي المذهب ، سني العقيدة ، ولهذا تراه كثيراً ما يفند آراء المعتزلة وغيرهم من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهبه.
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى:? اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? … [البقرة:15] يقول الآلوسي بعد كلام طويل ما نصه : " … وإضافته – أي الطغيان – إليهم ، لأنه فعلهم الصادر منهم ، بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى، فالاختصاص المشعرة به الإضافة ، إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف ، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ، ولا باعتبار الإيجاد استقلالاً من غير التوقف على إذن الفعال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار ، بل غبار ليس اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته".
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى : ? وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? … [الجمعة:11] يقول ما نصه : وطعن الشيعة لهذه الآية بالصحابة رضي الله تعالى عنهم، بأنهم آثروا دنياهم على أخرتهم، حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة، ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين، وأفضل من كثير من العبادات، لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي أن ذلك قد وقع مراراً منهم ، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر، وعمر، وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا. والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، وخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، لذا لم يتوعدهم الله على ذلك بالنار أو نحوها، بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم.
الإمام الآلوسي والمسائل الكونية : ومما نلاحظه على الإمام الآلوسي في تفسيره ، أنه يستطرد إلى الكلام في الأمور الكونية ، ويذكر كلام أهل الهيئة وأهل الحكمة ، ويقر منه ما يرتضيه، ويفند ما لا يرتضيه. استطراده للمسائل النحوية:
كذلك يستطرد الآلوسي إلى الكلام في الصناعة النحوية، ويتوسع في ذلك أحياناً إلى حدٍ يكاد يخرج به عن وصف كونه مُفسراً ولا أُحيلك على نقطة بعينها، فإنه لا يكاد يخلو موضع من الكتاب من ذلك. موقف الآلوسي من المسائل الفقهية: كذلك نجده إذا تكلم عن آيات الأحكام فإنه لا يمر عليها إلا إذا استوفى مذاهب الفقهاء وأدلتهم، مع عدم تعصب منه لمذهب بعينه. فمثل: عند تفسيره لقوله تعالى: ? وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ? … [البقرة:236]، يقول ما نصه: " قال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون، وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب، وعندنا: ( الأحناف ) هي واجبة للمطلقات في الآية، مستحبة لسائر المطلقات.
وعند الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه: هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر بالعموم في قوله تعالى: ? وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ? … [البقرة:241]، لأنه يحمل المطلق على المقيد، قال بالقياس وجعله مقوماً على المفهوم؛ لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك ، بمنع قصر المحسن على المتطوع، بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات، فلا ينافي الوجوب، فلا يكون صارفاً للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقاً". موقف الإمام الآلوسي من الإسرائيليات:
ومما نلاحظه على الإمام الآلوسي أنه شديد النقد للإسرائيليات والأخبار المكذوبة التي حشا بها كثير من المفسرين تفاسيرهم وظنوها صحيحة، مع سخرية منه أحياناً.(/2)
فمثلاً: عند تفسيره لقوله تعالى: ? وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ? … [المائدة:12]، نجده يقص قصة عجيبة عن (عوج بن عنق)، ويرويها عن البغوي، ولكنه بعد الفراغ منها يقول ما نصه: " وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى ابن حجر، قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه، هذيان لا أصل له، وهو مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام، ولم يسلم من الكفار أحد،
وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعاُ أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق.
وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى؟ إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يبين أمره".
ومثلاً: عند تفسيره لقول الله تعالى: ? وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ? … [هود:38]، نجده يروي أخباراً كثيرة من نوع الخشب الذي صنعت منه السفينة، وفي مقدار طولها وعرضها وارتفاعها، وفي المكان الذي صنعت فيه… ثم يعقب على كل ذلك بقوله: " وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها، إذ هي غير سليمة من عيب، فحري بحال من لا يميل إلى الفضول، أن يؤمن أنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله في كتابه، ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها … إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة ".
وبصورة عامة فقد أفاض في رد الإسرائيليات التي وقع فيها بعض المفسرين السابقين له كما فعل في قصة إسماعيل وإسحاق وأيهما الذبيح؟ وبيان كونه إسحاق قول باطل تدسس إلى الرواية الإسلامية وفي قصة يوسف وداود وسليمان وأيوب ونحوها وقصة الغرانيق وهو إنما ذكرها لينبه إلى اختلافها وبطلانها وتحذير المسلمين ولا سيما طلبة العلم وأهله من التصديق بها. تعرُّض الآلوسي للقراءات والمناسبات وأسباب النزول: م إن الإمام الآلوسي رضي الله عنه يعرض لذكر القراءات، ولكنه لا يتقيد بالمتواتر منها، كما أنه يعنى بإظهار وجه المناسبات بين السور كما يعنى بذكر المناسبات بين الآيات، ويذكر أسباب النزول للآيات التي أنزلت على سبب، وهو كثير الا ستشهاد بأشعار العرب على ما يذهب إليه من المعاني اللغوية. فرحمه الله رحمة واسعة على ما خدم به الإسلام والمسلمين ونفعنا بعلمه في الدارين آمين ،،(/3)
الإمام الحازمي
اسمه ونسبه وكنيته:
هو الإمام الحافظ ، الحجة الناقد، النسابة البارع محمد بن موسى بن عثمان بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي أبو بكر الهمذاني.
ولادته:
ولد الإمام الحازمي في سنة ثمان وأربعين وخمس مائة للهجرة النبوية في مدينة بغداد واستوطنها.
طلبه للعلم ورحلاته العلمية:
طلب العلم بالعراق, وتنقل بين مدنه, ورحل إلى المشايخ فيها وفي أصبهان والجزيرة والشام والحجاز, وكان من الفقهاء المبرزين والمحدثين الحفاظ تفقه بفقه الإمام الشافعي وتعمق فيه وسجل أدلته, قال أبو عبد الله الدبيثي: تفقه ببغداد في مذهب الشافعي ، وجالس العلماء ، وتميز ، وفهم ، وصار من أحفظ الناس للحديث ولأسانيده ورجاله, لما برز أيضا في علم النسب وعلم المؤتلف والمختلف فيه , وأخذ الفقه أيضا عن إمام الحنابلة في وقته عبدالله بن أحمد الخرقي، وفي الفقه المالكي أخذ عن محمد بن طلحة البصري المالكي بها
أبرز مشايخه في الأمصار:
سمع من أبي الوقت السجزي حضورا وله أربع سنين ، وسمع من شهر دار بن شيرويه الديلمي، وأبي زرعة بن طاهر المقدسي الحافظ، وأبي العلاء العطار، ومعمر بن الفاخر، وأبي الحسين عبد الحق اليوسفي، وعبد الله بن الصمد العطار، وشهدة الكاتبة، وأبي الفضل عبد الله بن أحمد خطيب الموصل، وأبي طالب محمد بن علي الكتاني الواسطي، ، وأبي العباس أحمد بن ينال الترك، وأبي الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي، وأبي موسى محمد بن أبي عيسى المديني، وأقرانهم بالعراق وأصبهان والشام والحجاز.
علمه وورعه وإنجازاته العلمية وثناء العلماء عليه:
بلغ في الفقه والحديث مبلغا رفيعا وجمع، وصنف، وبرع في فن الحديث خصوصا في النسب. واستوطن بغداد.، مع زهد، وتعبد، ورياضة، وذكر. صنف في الحديث عدة مصنفات، وأملى عدة مجالس، وكان كثير المحفوظ حلو المذاكرة، يغلب عليه معرفة أحاديث الأحكام. أملى طرق الأحاديث التي في "المهذب" للشيخ أبي إسحاق، وأسندها، ولم يتمه.
وقال أبو عبد الله بن النجار في "تاريخه" كان الحازمي من الأئمة الحفاظ العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله. ألف كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وكتاب "عجالة المبتدئ في النسب"، وكتاب "المؤتلف والمختلف في أسماء البلدان". وأسند أحاديث "المهذب"، وكان ثقة، حجة، نبيلا، زاهدا، عابدا، ورعا، ملازما للخلوة والتصنيف وبث العلم أدركه الأجل شابا، وسمعت محمد بن محمد بن محمد بن غانم الحافظ يقول: كان شيخنا الحافظ أبو موسى المديني يفضل أبا بكر الحازمي على عبد الغني المقدسي، ويقول: ما رأينا شابا أحفظ من الحازمي، له كتاب "في الناسخ والمنسوخ" دال على إمامته في الفقه والحديث ليس لأحد مثله.
قال ابن النجار: وسمعت بعض الأئمة يذكر أن الحازمي كان يحفظ كتاب "الإكمال" في المؤتلف والمختلف ومشتبه النسبة، كان يكرر عليه، ووجدت بخط الإمام أبي الخير القزويني وهو يسأل الحازمي: ماذا يقول سيدنا الإمام الحافظ في كذا وكذا ؟ وقد أجاب أبو بكر الحازمي بأحسن جواب .
ثم قال ابن النجار: سمعت أبا القاسم المقرئ جارنا يقول، وكان صالحا: كان الحازمي -رحمه الله- في رباط البديع، فكان يدخل بيتة في كل ليلة، ويطالع، ويكتب إلى طلوع الفجر، فقال البديع للخادم: لا تدفع إليه الليلة بزرًا للسّراج لعله يستريح الليلة. قال: فلما جن الليل، اعتذر إليه الخادم لأجل انقطاع البزر، فدخل بيته، وصف قدميه يصلي، ويتلو، إلى أن طلع الفجر، وكان الشيخ قد خرج ليعرف خبره، فوجده في الصلاة .
قومن غريب مارواه من حديث قوله: أخبرنا محمد بن ذاكر بقراءتي، أخبركم حسن بن أحمد القارئ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب، أخبرنا علي بن عمر، حدثنا يعقوب بن إبراهيم البزاز، حدثنا العباس بن يزيد، حدثنا غسان بن مضر ، حدثنا أبو مسلمة، قال: سألت أنس بن مالك : أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستفتح بالحمد لله رب العالمين ؟ فقال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ، وما سألني عنه أحد قبلك ، قلت : أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي في النعلين ؟ قال : نعم .قال الذهبي:
هذا حديث حسن غريب ، وهو ظاهر في أن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن الصلوات الخمس ، أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفتح -يعني أول ما يحرم بالصلاة- بدعاء الاستفتاح أم بالاستعاذة ، أم بالحمد لله رب العالمين ؟ فأجابه أنه لا يحفظ في ذلك شيئا .
فأما الجهر وعدمه بالبسملة فقد صح عنه من حديث قتادة وغيره عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم .
من أشهر تلاميذه:
روى عن الحازمي المقرئ تقي الدين ابن باسويه الواسطي، والفقيه عبد الخالق النشتبري وجلال الدين عبد الله بن الحسن الدمياطي الخطيب، وآخرون.
وفاته:
توفي الحازمي وهو شاب فقد مات أبو بكر الحازمي في شهر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمس مائة وله ست وثلاثون سنة .(/1)
الإمام الحسين في قلوبنا
د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري 10/1/1427
09/02/2006
السؤال: أنا من الشيعة أريد أن أسألكم ماذا تعرفون عن الإمام الحسين ويوم عاشوراء؟
أجاب عن السؤال الشيخ:د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري (المشرف العلمي على موقع الإسلام اليوم)
الجواب:
نعرف عن سيدنا الحسين بن علي –رضي الله عنه وأرضاه- أنه سبط رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وريحانته من الدنيا، وأشبه الناس به، وكان فمه الطيب مهوى شفتي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وأنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وأنه ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، والذي حبه إيمان وبغضه نفاق، وأنه ابن البتول المطهرة سيدة نساء العالمين، والبضعة النبوية فاطمة الزهراء، وأنه من خير آل بيت نبينا الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وقال فيهم نبينا يوم غدير خم:"أذكركم الله في أهل بيتي".
فهو سيدنا وابن نبينا، نحبه ونتولاه، ونعتقد أن حبه –رضي الله عنه وعن أبيه- من أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يتقرب به إلى الرحمن، مصداقاً لقول جده –صلى الله عليه وسلم-:"المرء مع من أحب". وأنه من أحبه فقد أحب النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومن أبغضه فقد أبغض النبي –صلى الله عليه وسلم-، ونقول عنه وعن أبيه وجده ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب له:"وهل أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله ثم أنتم".
ونعتقد أنه قتل مظلوماً مبغياً عليه، فنبرأ إلى الله من كل فاجر شقي قاتله أو أعان على قتله أو رضى به، ونعتقد أن ما أصابه فمن كرامة الله له، وأنه رفعة لقدره، وإعلاء لمنزلته –رضي الله عنه وأرضاه-، مصداقاً لقول جده –عليه الصلاة والسلام-:"أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". فبلغه الله بهذا البلاء منازل الشهداء، وألحقه بالسابقين من أهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء في أول الدعوة النبوية فصبروا، وهكذا الإمام الحسين ابتلى بعد وصبر، فأتم الله عليه نعمته بالشهادة، لأن عند الله في دار كرامته من المنازل العلية ما لا ينالها إلا أهل البلاء والصبر فكان الإمام الحسين منهم.
ونعلم أن المسلمين لم يصابوا منذ استشهاد الحسين إلى اليوم بمصيبة أعظم منها، ونقول كلما ذكرنا مصيبتنا في الإمام أبي عبد الله ما أخبرت به السيدة الطاهرة فاطمة بنت الحسين –وكانت شهدت مصرع أبيها- عن أبيها الحسين عن جده –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب" فنقول:"إنا لله وإنا إليه راجعون" رجاء أن نكون ممن قال الله فيهم "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ".
ومع ذلك فلا نتجاوز في حبنا له حدود ما حده لنا جده –صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
فلا نعظمه بأنواع التعظيم التي لا تصرف إلا لله كالدعاء والاستغاثة، ولا نشرك بنبينا وآله كما أشركت النصارى بعيسى ابن مريم وأمه حيث جعلوهما في مرتبة الألوهية. ولا نجعل له ولا لغيره من آل البيت الطيبين ما هو من خصائص المرسلين كالعصمة والتشريع، بل هم رضوان الله عليهم أصدق المبلغين عن رسول الله وأعظم المتبعين لهداه، ونعلم أنهم بشر من البشر، ولكنهم أفضلهم مكانة وأعلاهم قدراً، ومع ذلك فلم يتكلوا على قرابتهم من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولكن كانوا أعظم اتباعاً لدينه وقياماً بشريعته، كما قال الإمام زين العابدين وقرة عين الإسلام علي بن الحسين –رضي الله عنه وعن آبائه-:"إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين".
كما أننا لا نعصي جده –صلى الله عليه وسلم-، الذي نهانا عن النياحة وعن ضرب الخدود وشق الجيوب، وأخبرنا أن هذا من عمل أهل الجاهلية، وقد استشهد عمه حمزة ومُثِّل بجثمانه ولم يُصَب النبي –صلى الله عليه وسلم- بعده بمثل مصيبته فيه، ومع ذلك لم يجعل يوم استشهاده مناحة وحزناً، ولم يفعل ذلك علي –رضي الله عنه- في يوم وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولم يفعل ذلك الحسن والحسين في يوم استشهاد أبيهما –رضي الله عنهم-، وكذلك نحن لا نجعل يوم استشهاد الحسين يوم نياحة ولطم اقتداء بهذا الهدي النبوي الذي تتابع عليه عمل الإمام علي وابنيه الحسن والحسين –رضي الله عنهم- " أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ".(/1)
وأما يوم عاشوراء فهو يوم أنجى الله فيه موسى وقومه فصامه نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- شكراً لله فنحن نصومه اقتداء بنبينا في ذلك، وهو يوم استشهد فيه ابن نبينا الحسين بن علي –رضي الله عنه-، فنحن نصبر ونحتسب عند الله مصابنا فيه، فاجتمع لنا أهل الإسلام في هذا اليوم مقام الشكر لأنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى، ومقام الصبر لأنه اليوم الذي أصبنا فيه باستشهاد ابن نبينا، كما اجتمع في يوم السابع عشر من رمضان يوم الفرقان ببدر، واستشهاد أمير المؤمنين علي –رضي الله عنه-، وفي يوم الاثنين من ربيع الأول مولد النبي –صلى الله عليه وسلم- ويوم وفاته، فيكون المقام مقام شكر ومقام صبر فنصوم شكراً لله بنجاة نبي الله موسى اقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ونحتسب عند الله ابن نبينا ونسترجع لما أصابنا فيه ونقول كما قال أولوا البشرى من الصابرين "إنا لله وإنا إليه راجعون".
وفي الختام فإني أرى في سؤالك بحثاً عن الحق وتتبعاً له فاعتبر -وفقك الله- بالإمام العبقري علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- الذي كان في سن الفتوة واليفاع ومع ذلك تخلى عما كان عليه أهل الجاهلية، واتبع هدى الله ونوره المنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم- مع قلة الأتباع، وضعف أهل الحق، وقلة الناصر والمعين، وكانت فتوته وشبابه بل حياته كلها مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وبعده آية في الثبات على الحق والدفاع عنه.
واعلم –وفقك الله- أن العمر أقصر من أن يضيع في الحيرة والتردد، فليبحث كل منا عن الحق جهده، ويستغيث بالله ويدعوه ويلح عليه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يدله على طريق مرضاته، وأن يسلك به صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ولنعلم جميعاً أنه ما لم تدركنا رحمة من الله يهدي بها قلوبنا فإنا سنظل في حيرة وضلال "ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه".
اللهم إنا نسألك بحبنا لنبيك –صلى الله عليه وسلم- وآله وذريته أن تسلك بنا طريقهم وأن تحشرنا في زمرتهم وأن تجعلنا ممن اتبعهم بإحسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
الإمام القرطبى رحمه الله ...
طريق القرآن ...
هو أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصارى الخزرجى الأندلسى القرطبى المفسِّرولد بقرطبة من بلاد الأندلس وتعلم فيها العربية والشعر إلى جانب تعلمه القرآن الكريم وتلقى بها ثقافته الواسعة في الفقه والنحو والقراءات كما درس البلاغة وعلوم القرآن وغيرها ثم قدم إلى مصر واستقر بها وكانت وفاته بصعيدها ليلة الاثنين التاسع من شهر شوال سنة 671 هـ وقبره بالمنيا بشرق النيل.
وكان رحمه الله من عباد الصالحين والعلماء العارفين، زاهد في الدنيا مشغولاً بما يعنيه من امور الآخرة وقد قضى عمره مشغولاً بين العباده والتأليف.
قال عنه الذهبي: " إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على كثرة إطلاعه ووفود عقله وفضله".الحركة العلمية في عصر القرطبى:نشطت الحياة العلمية بالمغرب والأندلس في عصر الموحدين (514 - 668 هـ) وهو العصر الذى عاش فيه القرطبى فترة من حياته أيام إن كان بالأندلس وقبل أن ينتقل إلى مصر ومما زاد الحركة العلمية ازدهاراً في هذا العصر: أن محمد بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية كان من أقطاب علماء عصره وقد أفسح في دعوته للعلم وحض على تحصيله.
كثرة الكتب والمؤلفات التي كانت بالأندلس، وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، وهذه النزعات العلمية التي اتسم بها خلفاء الموحدين وتلك المؤلفات التي غمرت بلاد الأندلس وشجعت العلماء وروجت سوق العلم فتعددت الهيئات العلمية في ربوع الأندلس وبين جوانبها ونهضت العلوم الشرعية كالفقه والحديث والتفسير والقراءات وكذلك علوم اللغة والتاريخ والأدب والشعر، وكان لهذا كله أثر كبير في التكوين العلمى للإمام القرطبى - رحمه الله -.شيوخه: من شيوخ القرطبى:
1) ابن رواج وهو الإمام المحدث أبو محمد عبد الوهاب بن رواج واسمه ظافر بن على بن فتوح الأزدى الإسكندرانى المالكى المتوفى سنة 648هـ.
2) ابن الجميزى: وهو العلامة بهاء الدين أبو الحسن على بن هبة الله بن سلامة المصرى الشافعى المتوفى سنة 649 هـ وكان من أعلام الحديث والفقه والقراءات.
3) أبو عباس احمد بن عمر بن إبراهيم المالكى القرطبى المتوفى سنة 656هـ (صاحب المفهم في شرح صحيح مسلم)
4) الحسن البكرى :هو الحسن بن محمد بن عمرو التيمى النيسابورى ثم الدمشقى ابو على صدر الدين البكرى المتوفى سنة 656 هـ مؤلفاته:ذكر المؤرخون للقرطبى رحمه الله عدة مؤلفات غير كتاب "الجامع لأحكام القرآن" وهو ذلكم التفسير العظيم الذى لا يستغنى عنه طالب علم .
ومن هذه المؤلفات:
1) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (وهو مطبوع متداول)
2) التذكار في أفضل الأذكار (وهو أيضاً مطبوع متداول)
3) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى
4) الإعلام بما في دين النصارى من المفاسد والأوهام وإجتهار محاسن دين الإسلام.
5) قمع الحرض بالزهد والقناعة.
وقد أشار القرطبى في تفسيره إلى مؤلفات له منها:
*) المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس.
*) اللمع اللؤلؤية في شرح العشرينات النبوية " تأثر القرطبى - رحمه الله - بمن قبله وتأثيره فيمن بعده "
أولاً: تأثره بمن قبله:
الذى يطالع تفسير الإمام القرطبى يجده قد تأثر كثيراً بمن سبقوه من العلماء ومنهم:
1) الطبرى: وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى صاحب "جامع البيان في تفسير القرآن" والمتوفى سنة 310هـ أفاد منه القرطبي وتأثر به خاصة في التفسير بالمأثور.
2) الماوردى: وهو أبو الحسن على بن محمد المارودى النتوفى سنة 450هـ وقد نقل عنه القرطبى وتأثر به.
3) أبو جعفر النحاس: صاحب كتابي:" إعراب القرآن، ومعانى القرآن" توفى سنة 338هـ وقد نقل عنه القرطبى كثيراً.
4) ابن عطية: وهو القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية صاحب "المحرر الوجيز في التفسير"، وقد أفاد القرطبى منه كثيراً في التفسير بالمأثور وفي القراءات واللغة والنحو والبلاغة والفقه والأحكام توفي ابن عطية رحمة الله سنة 541هـ.
5) أبو بكر العربي صاحب كتاب "أحكام القرآن" والمتوفى سنة 543هـ، أفاد منه القرطبى وناقشة ورد هجومه على الفقهاء والعلماء.
ثانياً: تأثيره فيمن بعده:
تأثر كثير من المفسرين الذين جاءوا بعد القرطبى وإنتفعوا بتفسيره وأفادوا منه كثيرأ ومن هؤلاء :
1) الحافظ ابن كثير:عماد الدين إسماعيل بن عمروبن كثير المتوفى سنة 774هـ.
2) أبو حيان الأندلسى الغرناطى المتوفى سنة 754هـ وذلك في تفسيره البحر المحيط.
3) الشوكانى: القاضى العلامة محمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ، وقد أفاد من القرطبى كثيراً في تفسيره (فتح القدير)
مزايا الكتاب:
يعتبر تفسير القرطبى موسوعة عظيمة حوت كثيراً من العلوم وأهم ما يميزه:
1) تضمنها أحكام القرآن بتوسع.
2) تخريجه الأحاديث وعزوها إلى من رووها غالباً.
3) صان القرطبى كتابه عن الإكثار من ذكر الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة إلا من بعض مواطن كان يمر عليها دون تعقيب.(/1)
4) كما أنه كان إذا ذكر بعض الإسرائيليات والموضوعات التي تخل بعصمة الملائكة والأنبياء أو يخل بالاعتقاد فإنه يكر عليها بالإبطال أو يبين أنها ضعيفة كما فعل في قصة هاروت وماروت، وقصة داود وسليمان وقصة الغرانيق وكذلك ينبه أيضاً على بعض الموضوعات في أسباب النزول.
ما يؤخذ على كتابه في التفسير(الجامع لأحكام القرآن) نقول: مع أن تفسير القرطبى رحمه الله من أعظم التفاسير نفعاً إلا أنه لم يخل من بعض هَيْنَات - والكمال لله وحده - كان يمر عليها من دون تعليق أو تعقيب.
ومن أمثلة ذلك:
ماذكره من الإسرائيليات عند تفسيره لبعض الآيات ومنها ماذكره عند تفسير قوله تعالى:? الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ?[غافر:7]
فقد ذكر أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش إلى غير ذلك من الأخبار الخرافية.
كما لم يخل كتابه من الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة التي تحتاج إلى إنتباه أثناء مطالعة الكتاب.
كما كان رحمه الله ينقل عن بعض المصادر دون أن يشير أو يصرح بذلك(/2)
الإمام المجاهد عثمان بن فودي .. أعظم أمراء إفريقيا
كتبه /شريف عبد العزيز
مقدمة :
مفكرة الإسلام: يعتبر تاريخ الدول الإسلامية والممالك التي قامت في قارة إفريقيا إذا ما استثنينا الشمال الإفريقي، من الأمور المجهولة تماماً بالنسبة للمسلمين، فهم لا يعرفون عن مسلمي إفريقيا شيئاً مع العلم أن نسبة المسلمين في قارة إفريقيا هي الأعلى في قارات العالم، بما في ذلك قارة آسيا، أكثر قارات العالم ازدحاما بالسكان، هذا على الرغم من أن القارئ لأحداث وتاريخ هذه الممالك والدول، سيقف معجباً ولربما منبهراً بالبطولات العظيمة التي قام بها أبطال إفريقيا العظام، خاصة هؤلاء الذين كانوا في الغرب الإفريقي، والذين تصدوا لأعنف وأشرس الحملات الوحشية والتي قادها صليبو إسبانيا والبرتغال وفرنسا وأمريكا، ونحن وللأسف الشديد قد انخدعنا بما يروجه الاحتلال الأوروبي، والإعلام الغربي الذي يصور لنا إخواننا الأفارقة في صورة الهمج الوحشيين، أكلة لحوم البشر، وأن التمدن والرقي الذي حصل لهؤلاء الأفارقة يرجع بفضل الاستعمار الأوروبي لبلادهم، والحق غير ذلك تماماً، فلقد قامت بإفريقيا السوداء الكثير من الممالك الإسلامية العظيمة، على شريعة الإسلام من الكتاب والسنة، بل وعلى منهج السلف فهماً وتطبيقاً، وصاحبنا واحد من أعظم الرجال الأفارقة الذين أدخلوا الدعوة السلفية إلى إفريقيا، وأقاموا دولة عظيمة وكبيرة على منهج السلف الصالح والعجيب أنه لا يعرفه أحد من عامة المسلمين، بل ومن المتخصصين في قراءة التاريخ أيضاً .
الإسلام يغزو إفريقيا
تعتبر إفريقيا أول منطقة في العالم وصلها الإسلام بعد مكة مهبط الوحي، وذلك في العام الخامس من النبوة، عندما هاجر الصحابة الأولون فارين بدينهم إلى الحبشة، ثم دخلوا الشمال الإفريقي كله، من مصر إلى المغرب الأقصى في القرن الهجري الأول، وقد وصل فاتح المغرب الأعظم [عقبة بن نافع] إلى أطراف الصحراء الكبرى، وقد عمل ولاة بلاد المغرب من تونس إلى المحيط على نشر الإسلام في القبائل البربرية الموغلة في الصحراء، حتى وصل الإسلام إلى مدينة 'أودغشت' عاصمة قبيلة 'لمتونة' وهذه المدينة غير موجودة الآن ولكنها في قلب 'موريتانيا' .
ويرجع الفضل لنشر الإسلام في قلب وغرب إفريقيا لدولة المرابطين العظيمة، وخاصة الأمير الشهيد 'أبى بكر بن عمر' الذي كان أمير المرابطين الأول ثم ترك الإمارة 'ليوسف بن تاشفين'، وتخلى عن الزعامة وتفرغ لنشر الإسلام بين الأفارقة، وظل يحارب القبائل الوثنية وينشر الإسلام بينهم حتى استشهد سنة 480 هجرية، وقد وصل بالإسلام إلى خط الاستواء، أي على أبواب إفريقيا الاستوائية، عند منطقة الغابات الكثيفة، وهو بذلك قد قام بخدمة عظيمة للإسلام، ولا تقل عما فعله 'يوسف بن تاشفين' في المغرب والأندلس .
مأساة الممالك الإسلامية
أخذ الإسلام في الانتشار في قلب القارة الإفريقية شيئاً فشيئاً، بالتجارة تارة، وبالجهاد تارة، والدعاة المرابطين تارة، وبالتدريج تحولت القبائل الوثنية إلى الإسلام، وقامت ممالك إسلامية في غاية القوة والاتساع مثل مملكة 'غانا'، ومملكة 'مالي' الضخمة وكانت تشمل 'تشاد ومالي والنيجر والسنغال'، وكانت هذه المملكة من أقوى وأعرق الممالك الإسلامية في إفريقيا ومملكة 'الصنغاي'، وغيرها من الممالك القوية التي دفعت بالإسلام إلى الداخل الإفريقي.
ولكن وللأسف الشديد أصاب المسلمون هناك، ما أصاب إخوانهم في الشمال، وفى كل مكان، إذ دب بينهم التفرق والخلاف، واقتتلوا فيما بينهم، وصارت الممالك تتقاتل فيما بينها، بدوافع قبلية ودنيوية محضة، فاقتتلت مملكة 'الصنغاي' مع مملكة 'مالي'حتى دمرتها، ثم قامت مملكة المغرب أيام حكم 'المنصور السعدي'بتدمير مملكة 'الصنغاي'، وانهارت مملكة 'غانا' بالاقتتال الداخلي وهكذا أكلت هذه الممالك الإسلامية بعضها بعضاً، في نفس الوقت الذي كان فيه أهل الكفر من الغرب والشرق يجمعون صفوفهم ويوحدون راياتهم استعداداً للانقضاض على العالم الإسلامي .
قبائل الفولاني ونهضة الإسلام
وعلى الرغم من انهيار الممالك الإسلامية الكبيرة، إلا إن القبائل المسلمة قامت بدورها في نشر الإسلام، واستكمال الدور الدعوى الذي كانت تقوم به الممالك وربما بصورة أفضل، ومن أشهر القبائل المسلمة :
1. قبائل الماندينج وتنتشر في مالي والسنغال وجامبيا وغينيا وسيراليون وساحل العاج .
2. قبائل الولوف والتوكلور في السنغال ومالي .
3. قبائل الهاوسا في النيجر وشمالي نيجيريا وبنين والتوجو وبوركينافاسو .
4. الكانورى في شمال شرق نيجيريا والكاميرون .
ولكن أعظم وأشهر القبائل الإفريقية وأشدها تحمساً لنشر الإسلام وتمسكاً به هي قبائل [الفولاني] وهي التي تحملت مسئولية إعادة نهضة الإسلام وإقامة الممالك الإسلامية من جديد .(/1)
دخل الفولانيون الإسلام على أيدي المرابطين في القرن الخامس الهجري، فتحمسوا له واستعلوا به، وكانوا في الأصل من الرعاة الذين يتحركون باستمرار سعياً وراء الماء والكلأ، وكان موطنهم الأصلي حوض السنغال، ولكنهم انتشروا في قلب إفريقيا من السنغال إلى تشاد إلى قلب وغرب إفريقيا في 4 هجرات شهيرة، تفرعت خلالها هذه القبيلة الضخمة إلى عدة فروع، ولكن أهم هذه الفروع وأكثرها أثراً في نشر الدعوة الإسلامية وعودة النهضة الإسلامية للقلب الإفريقي، وهى هجرة الفولانيين إلى نيجيريا، وفى هذا الفرع ظهر صاحبنا، الذي أعاد المجد والعزة للإسلام بقلب إفريقيا وهو الأمير الفولاني [عثمان دان فوديو] .
النشأة والتكوين
ولد بطلنا الهمام [عثمان دان فوديو] في بلدة 'طفل' على أطراف إقليم 'جوبير' [شمال نيجيريا الآني سنة 1168 هجرية ـ 1754 ميلادية، وكلمة فودي تعنى الفقيه واسمه الأصلي [محمد]، فلقد كان والده معلم القرآن والحديث في قريته، وينتسب 'عثمان' إلى قبيلة الفولاني العريقة في الإسلام، وفي هذه البلدة الصغيرة، وفي هذا الجو الديني الطاهر، نشأ 'عثمان' فدرس اللغة العربية وقرأ القرآن وحفظ متون الأحاديث، وقد ساعده والده على تنمية ملكة التعمق في العلوم الدينية لما رأى فيه من حبه للدين وخدمته.
كان لهذه التربية والجو الإيماني الذي نشأ فيه [عثمان] أثر بالغ في تكوين شخصيته وتوجهاته، فشب ورعاً تقياً، أماراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مجتنباً لما اعتاد عليه قومه من أساليب في الحياة، شديد الكره والعداء للقبائل الوثنية في إقليم 'جوبير' الذي ولد فيه، لذلك قرر [عثمان] مرافقة أبيه في رحلته الطويلة إلى الحج، وذلك وهو في سن الشباب .
نقطة التحول الكبرى
لقد كان ذهاب [عثمان بن فودي] لأداء مناسك الحج مع أبيه، نقطة تحول كبرى في حياة البطل الهمام، ذلك أنه قدم مكة المكرمة، والدعوة السلفية للشيخ [محمد بن عبد الوهاب] في أوج قوتها وانتشارها، حيث كان الشيخ [محمد بن عبد الوهاب]، مازال حياً، يعلم الناس التوحيد الخالص ويحارب البدع ويرد على المبتدعة وأصحاب الأهواء، فلما وصل [عثمان بن فودي] هناك التقى مع المشايخ والدعاة السلفيين وسمع منهم الدعوة السلفية وأسلوب الحركة وكيف قامت؟ وكيف انطلقت من منطقة 'الدرعية' لتشمل الجزيرة كلها، وحضر مجالس العلم للشيخ [محمد بن عبد الوهاب] .
قرر [عثمان بن فودي] البقاء لفترة بمكة للاستزادة من الدعوة السلفية وعلومها ومناهجها وتأثر بها بشدة، ذلك لأن بلاده كانت مليئة بالبدع والخرافات، امتزج فيها الإسلام بالعادات الوثنية، وكانت العادات القبلية تحكم حياة المسلمين، بل هو نفسه كان يتدين بكثير من البدع والأوراد غير الصحيحة والسبب في ذلك أن الإسلام انتشر في هذه المناطق بنشاط دعاة الطرق الصوفية، وأصبح معنى التدين مرادفاً لمعنى التصوف، لذلك قرر [عثمان] المكوث لتصحيح مسار حياته وعباداته .
نستطيع أن نقول أن ذهاب [عثمان بن فودي] إلى الحج والتقاءه مع دعاة وعلماء الحركة السلفية، وتلقيه لمبادئ وأسلوب هذه الحركة نقطة تحول كبرى في حياة هذا الرجل ولعل هذا من رحمة الله عز وجل بالأمة المسلمة بإفريقيا، ونصرة عظيمة للإسلام والمسلمين لما سيقوم به هذا الرجل من جهود كبيرة لخدمة الدين والأمة .
جهاد الدعوة
عاد [عثمان بن فودي] إلى بلاده في إقليم 'جوبير' في شمال نيجيريا، وفى نيته نشر الدعوة السلفية في بلاده، ومحاربة البدع المتفشية هنالك، والتمهيد لنقل التجربة السلفية والتي سبق وأن نجحت في جزيرة العرب، إلى بلاده في إفريقيا، فأخذ في دعوة أهله وإخوانه إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والشركيات ومحاربة الطرق الصوفية، فاستجاب لدعوته كثير من أبناء قريته 'طفل'، فأسس [عثمان بن فودي] حركة دعوية على منهج السلف وأطلق عليها اسم [الجماعة] .
أخذت الدعوة السلفية وحركتها المسماة بالجماعة تنتشر بين القبائل الإفريقية، ودخل فيها أفراد من عدة إمارات، ومن شعوب عدة منها الهاوسا، والطوارق، الزنوج، إضافة إلى قبيلته الأصلية 'الفولاني' التي كانت أكثر القبائل انضماماً لدعوته وحركته، ثم حققت دعوة [عثمان بن فودي] نجاحاً كبيراً في نشر الإسلام بين القبائل الوثنية المنتشرة في شمال وجنوب نيجيريا، ويوما بعد يوم ازدادت جماعته قوة ونجاحاً واتساعاً وأصبح الصدام وشيك ومع قوى الشر والضلال .
الصراع الأبدي(/2)
إن من سنن الله عز وجل الماضية في خلقه، هي سنة التدافع بين الحق والباطل، فكلاهما في صراع أبدي منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، أتباع الحق يصارعون أتباع الباطل، هذا يدفع هذا، وهذا يتصدى لهذا، كما قال تعالى [الذين أمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ….] النساء 76، وعملاً بهذه السنة الماضية، فلقد ضاق من ملوك إقليم 'جوبير' وكانوا من الوثنيين من نشاط جماعة [عثمان بن فودي]، وكذلك ضاق أصحاب الطرق الصوفية المنتشرة في إفريقيا منها وخاصة بعد انصراف الكثير من مريديها إلى الجماعة السلفية، واتفق الفريقان من غير موعد على عداوة الحركة الجديدة، ولكن اختلفت المواجهة، ففي حين اتبعت الطرق الصوفية طريقة التشنيع والكذب والتضليل، قرر أمراء 'جوبير' الوثنيون إتباع أسلوب المواجهة المسلحة .
أرسل هؤلاء الأمراء يتهددون الجماعة السلفية، ويتوعدون زعيمها [عثمان بن فودي] بأشد أنواع الوعيد والتهديد، فعندها اجتمع المجاهد العظيم مع رفاقه، واستشارهم في كيفية مواجهة هذه التهديدات، فأشار الجميع وهو أولهم بوجوب إعلان الجهاد على الكفار وأعداء الدين وذلك سنة 1804 ميلادية ـ 1218 هجرية .
بمجرد أن أعلن [عثمان بن فودي] الجهاد على الوثنيين حتى أتاه المسلمون من كل مكان في شمال نيجيريا يبغون نصرة إخوانهم ضد الكفار، فلقد كان لإعلان الجهاد مفعول السحر في نفوس المسلمين، إذ عادت لهم الحمية والحماسة لدينهم، وفى نفس الوقت جاءت مساعدات كبيرة لأمراء 'جوبير' من باقي إمارات الهاوسا [ غرب نيجيريا]، واستعدت المنطقة بأسرها لفصل جديد من فصول الصراع الأبدي بين الإسلام والكفر، انتهى بفضل الله عز وجل لصالح الجماعة المؤمنة، وانتصرت الدعوة السلفية على الجماعات الوثنية وأصبح [عثمان بن فودي] أميراً على المنطقة الواقعة في شمال غرب نيجيريا، وبايعه المسلمون هناك أميراً عليهم، وتلقب من يومها بالشيخ إقتداءً وتأسياً بالشيخ [محمد بن عبد الوهاب]، واتخذ من مدينة 'سوكوتو' في أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا مركزا لدعوته وذلك سنة 1809 ميلادية ـ 1223 هجرية .
بناء الدولة الإسلامية
لم يكن [عثمان بن فودي] من الرجال الذين يبحثون عن زعامة أو إمارة، وبمجرد حصوله عليها يكف عن سعيه وجهاده ويجلس للتنعم بما حازه وناله، بل كان يبغي نصرة الإسلام ونشره بين القبائل الوثنية، يبغي الدعوة لهذا الدين في شتى أرجاء القارة السوداء .
لذلك قرر [عثمان بن فودي] العمل على إعادة بناء الدولة الإسلامية من جديد، وتوسيع رقعة الإسلام بالجهاد ضد القبائل الوثنية التي اجتمعت على حرب الإسلام ودعوته الجديدة .
قرر [عثمان بن فودي] إتباع إستراتيجية الجهاد على عدة محاور، وضم الشعوب الإسلامية تحت رايته، فضم إليه عدة شعوب وقبائل مسلمة كانت متناثرة ومختلفة فيما بينها، وبدأ بالتوسع في ناحيتي الغرب والجنوب الغربي، حيث قبائل 'اليورومبا' الكبيرة، والتي هي أصل الشعوب الساكنة في النيجر ونيجيريا، فدانت له هذه القبائل ودخلت في دعوته، وأخذت الدولة الإسلامية في الاتساع شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت أقوى مملكة إسلامية في إفريقيا وقتها .
عثمان بن فودي وسياسة بناء الكوادر
لقد كان [عثمان بن فودي] رجل دولة من الطراز الأول، وداعية مجاهداً مخلصاً لدينه وأمته، ولقد أدرك أن بقاء الدعوة السلفية والدولة الإسلامية التي بناها في غرب إفريقيا لن يصمد طويلاً، إذا لم تتحرك هذه الدعوة وتنتشر مبادئ السلفية بين الناس، وأيضاً إذا لم تتسع وتتمدد دولته الإسلامية التي بناها بجهاده سنين طويلة .(/3)
ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي اتبع [عثمان بن فودي] سياسة حكيمة تقوم على بناء الكوادر التي تواصل حمل الراية ونشر الدعوة، وكان لعثمان بن فودي عين فاحصة تستطيع انتقاء النجباء والأبطال وحملة الدعوة، خاصة وأن فتوحاته التي قام بها في غرب 'نيجيريا' قد حركت الحماسة والحمية للإسلام في قلوب الكثيرين، ومن هؤلاء الكثيرين انتقى [عثمان بن فودي] ثلاثة نفر كان لهم أعظم الأثر والدور الكبير في خدمة الإسلام والمسلمين، أولهم الشيخ [أدم] وهو شيخ من أهل العلم من أهل الكاميرون، قد حركت فتوحات [عثمان بن فودي] حب الجهاد في قلبه، وبدأ يدعو الناس إليه وإلى نشر الإسلام في القبائل الوثنية، فلما وصلت أخباره للأمير [عثمان بن فودي] أرسل يستدعيه من الكاميرون سنة 1811 ميلادية ـ1226 هجرية، فلما حضر جلس معه وكلمه عن مبادىء الحركة وعقيدة السلف، وأقنعه بوجوب الجهاد فى سبيل الله لنشر الإسلام فى قلب القارة الإفريقية، فلما انشرح صدر الشيخ [أدم] للفكرة، أعطاه [عثمان] رايته البيضاء وهى رايته فى الجهاد، وكلفه بمواصلة الجهاد حتى ينشر الإسلام فيما يلى نهر البنوى جنوباً وهو فرع كبير من فروع نهر النيجر العظيم، فقام الشيخ [أدم] بالمهمة على أكمل وجه، حتى أدخل بلاد الكاميرون كلها فى الإسلام، وكافأه الأمير [عثمان بن فودى] بأن جعله أميراً على الكاميرون، وظلت الإمارة فيهم حتى احتلال الإنجليز للكاميرون سنة 1901 ميلادية ـ 1319 هجرية .
&أما الرجل الثانى -à فكان أحد جنود [عثمان بن فودى] واسمه [حمادو بارى] وقد اشترك فى معركة الجهاد الأول ضد أمراء 'جوبير' الوثنيين، وبتواصل الجهاد، بانت نجابته وظهرت شجاعته وإخلاصه لنشر الدين، فكلفه [عثمان] بفتح بلاد الماسنيا 'واقعة فى مالى الآن' ونجح [حمادو] فى مهمته خير نجاح، فكافأه [عثمان] بأن أعطاه لقب [الشيخ] وجعله أميراً على منطقة الماسنيا، وأمره بمواصلة الجهاد لنشر الإسلام، ولقد أثبت الأمير [حمادو الشيخ] أنه من أنجب وأفضل تلاميذ الإمام [عثمان بن فودى]، فلقد نظم دولته على نسق دولة الخلافة الراشدة، حيث قسمها إلى عدة ولايات، وأقام على كل ولاية والياً وقاضياً ومجلساً للحكم، كهيئة استشارية للحكم الإسلامى على الكتاب والسنة، وعمر البلاد فازدهرت دولته بقوة ووصلت إلى 'بوركينافاسو' و'سيراليون' و'غينيا بيساو' .
&أما الرجل الثالث ---> فكان الحاج [عمر] وأصله من قبائل الفولانى عشيرة [عثمان بن فودى]، ولد سنة 1797 هجرية، أى أنه كان فى أوائل شبابه، والإمام [عثمان بن فودى] فى أواخر حياته، ولكن هذا الشاب، قدر له أن يجتمع مع الإمام، وذلك أن [الحاج عمر] كان محباً للدعوة والجهاد، فلما اشتد عوده قرر الرحيل إلى بلد الإمام [عثمان] ليراه ويسمع منه وبالفعل ذهب إليه ورأه الإمام [عثمان] فتفرس فيه النجابة والفطنة والشجاعة، فنصحه بأن يذهب إلى [حمادو الشيخ] ويلتحق بخدمته، لعله أن يكون خليفته [حمادو الشيخ] بعد رحيله فى قيادة المملكة الإسلامية هناك، وبالفعل نجح [الحاج عمر] أن يلتحق بخدمة [حمادو الشيخ] ويخلفه بعد رحيله، وقاد القبائل الإسلامية قيادة عظيمة وكان جيشه يقدر بأربعين ألف مقاتل، وحارب الوثنيين والفرنسيين على حد السواء، وتولى أولاده من بعده قيادة المسلمين فى هذه المنطقة التى ابتليت بأشرس هجمة صليبية فى تاريخ البشرية .
** وبالجملة نجح الإمام المجاهد [عثمان بن فودى]، وأعظم أمراء إفريقيا فى بناء قاعدة عريضة من المجاهدين والقادة والأمراء الذين قادوا الأمة المسلمة فى قلب إفريقيا، وأقاموا أعظم الممالك الإسلامية فى هذه البقعة الغامضة عن ذهن أبناء المسلمين الآن .
ولقد توفى الإمام المجاهد الأمير [عثمان بن فودى] سنة 1818 ميلادية ـ 1233 هجرية، بعد أن أعاد للإسلام مجده، وأدخل الدعوة السلفية المباركة إلى القلب الإفريقى، وابقى للإسلام دولة قوية ظاهرة صامدة أمامهجمات الأعداء، حتى بعد وقوعها فريسة للاحتلال الصليبى، بقيت القلوب حية، مجاهدة، تقاوم الأعدء، تحافظ على دينها وعزتها، فجزا الله عز وجل هذا الإمام على ما قدمه للإسلام فى إفريقيا، ورفع درجاته فى عليين مع المهديين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر :
التاريخ الإسلامى / أطلس تاريخ الإسلام / تاريخ السودان الغربى 'عبد الرحمن السعدى' / تاريخ انتشار الإسلام فى غرب إفريقيا 'عبد الرحمن زكى' / تاريخ الإسلام فى غرب إفريقيا 'إبراهيم طرخان'(/4)
الإمساك عما شجر بين الصحابة
محمد الوهيبي
قال - صلى الله عليه وسلم -: » إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا « [1].
وهكذا كان من منهج أهل السنة الإمساك عن ذكر هفوات الصحابة وتتبع زلاتهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم.
قال أبو نعيم - رحمه الله -: فالامساك عن ذكر، أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر زللهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه، من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذين مدحهم الله - عز وجل - بقوله: (والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ).
ويقول أيضاً في تعليقه على الحديث المشار إليه: (لم يأمرهم بالإمساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم، إنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الموجدة) [2].
إذاً الإمساك المشار إليه في الحديث الشريف إمساك بخصوص يقصد به (عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقص لفئة، والانتصار لأخرى) [3].
وذلك مما لم نؤمر به، إنما أمرنا بالاستغفار لهم ومحبتهم ونشر محاسنهم وفضائلهم.
(لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل) [4].
وهذا مما نحتاجه في زماننا، حيث ابتليت الأمة المسلمة بجامعاتها ومدارسها بمناهج - يزعم أصحابها الموضوعية والعلمية - يخوضون فيما شجر بين الصحابة بالباطل دون التأدب بالآداب التي علمنا إياها - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كذلك ابتليت بالفرق الضالة التي نشرت ذلك في بعض البلاد، بل إن العدوى-وللأسف- وصلت بعض الإسلاميين حتى إن بعضهم يجمع الغث والسمين من الروايات حول الفتنة التي بين الصحابة ثم يبني أحكامه دون الاسترشاد بأقوال الأئمة الأعلام وتحقيقاتهم، من أجل ذلك أردت أن أشير إلى بعض الأسس والتوجيهات التي ينبغي أن يعرفها الباحث إذا اقتضت الحاجة أن يبحث وينظر إلى الروايات فيما شجر بينهم.
1 -إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل، بل الأصل العقدي عند أهل السنة هو الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة، وهذا مبسوط في عامة كتب أهل السنة في العقيدة كالسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لابن أبي عاصم، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني، والإبانة لابن بطة، والطحاوية وغيرها.
ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة وذلك بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك مثله (لصغر سنه أو حداثة عهده بالدين..
لحقيقة ما حصل بين الصحابة واختلاف اجتهادهم في ذلك فيقع في الفتنة (بانتقاصه الصحابة) من حيث لا يعلم..
وذلك مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف وهي ألا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم، قال الإمام البخاري - رحمه الله -: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال علي - رضي الله عنه -: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟.
قال الحافظ في الفتح تعليقاً على ذلك: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبني أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود: (ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم.
وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب..
إلى أن قال: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم) [5].(/1)
2 - وإذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم فلا بد من التحقق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) هذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق لكي لا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا، فوجوب التثبت والتحقق فيما ينقل عن الصحابة وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصاً ونحن نعلم أن مثل هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف، إما من جهة أصل الرواية، أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما [6]، من أجل ذلك لا يجوز أن يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقنا ما ثبت في فضلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها [7].
3 -أما إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل وكان ظاهرها القدح فيلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير، قال ابن أبي زيد: (.. والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب)[8].
وقال ابن دقيق العيد: (وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً أولناه تأويلاً حسناً لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل المحقق والمعلوم) [9]، هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم.
4 - أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد العلمي فهم فيه مجتهدون، وذلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: أ- قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وأن مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
ب -وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
ج - وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضايا وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك [10].
إذاً هذا القتال هم متأولون فيه، لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها وذلك لا يخرجهم من العدالة بل هم في حكم المجتهدين في مسائل الفقه فلا يلزم نقص أحد منهم إنما هو بين أجر وأجرين.
ومن المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي ولا قال ذلك طلحة والزبير...
وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء- بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان - رضي الله عنهم -، وهو من باب قتال أهل العدل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية - أي ليس بسبب خلل في أصول الدين - [11].
ويقول عمر بن شبه: (إن أحد اًلم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا لأحد ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم) [12].
ومما يؤكد ذلك هذه الرواية التي ذكرها ابن كثير: (جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمته، والطالب بدمه، فائتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قتلة عثمان، وأسلم له، فائتوا علياً، فكلموه.
فلم يدفعهم إليه [13]) وفي رواية: (فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية) [14].
وأيضاً جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين.
قال ابن تيمية: (وهذا الإسناد أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل) [15].
فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا مثل هذه النصوص الصحيحة؟ وتكون منطلقاً لهم، لا أن يلطخوا أذهانهم بتشويشات الإخباريين ثم يؤولون النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة المزجاة.(/2)
5- ومما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة - مع اجتهادهم فيها وتأولهم - حزنهم الشديد وندمهم لما جرى، بل لم يخطر ببالهم أن الأمر سيصل إلى ما وصل إليه، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه، بل إن البعض أيضاً لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال، وإليك بعضاً من هذه النصوص المؤثرة: أ-فهذه أم المؤمنين عائشة تقول -كما يروي عنها الزهري -: (إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً [16]، وكانت إذا قرأت: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) تبكي حتى يبتل خمارها) [17].
ب -أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيقول الشعبي: (لما قتل طلحة ورآه علي مقتولاً، جعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: عزيز علي أبا محمد أن أراك مجدلاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري (همومي وأحزاني) وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة) [18]، ويقول - رضي الله عنه -: (يا حسن يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة) [19].
وكان يقول ليالي صفين: (لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك (وهم ممن اعتزل الفتنة) إن كان بدًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطره ليسير) [20].
فهذا قول أمير المؤمنين رغم قول أهل السنة إن علياً ومن معه أقرب إلى الحق [21].
ج -ويقول الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وهو ممن شارك في القتال بجانب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: (إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها، فقال مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك! إنا نبصَّر ولا نبصِر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟ ) [22].
وهذا معاوية - رضي الله عنه -، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب، جلس وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت امرأته، أنت بالأمس تقاتله، واليوم تبكيه؟ فقال: ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره، وفي رواية (ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم) [23].
وبعد كل هذه النقولات كيف يلامون بأمور كانت مشتبهة عليهم؟ فاجتهدوا فأصاب بعضهم، وأخطأ الآخرون وجميعهم بين أجر وأجرين، ثم بعد ذلك ندموا على ما حصل وجرى، وتابوا من ذلك، وما حصل بينهم من جنس المصائب التي يكفر الله - عز وجل - بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم قال - صلى الله عليه وسلم -: » لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يسير في الأرض ليس عليه خطيئة « [24]، وعلى أقل الأحوال لو كان ما حصل من بعضهم في ذلك ذنباً محققاً، فإن الله - عز وجل - يكفره بأسباب كثيرة من أعظمها الحسنات الماحية-من سوابقهم ومناقبهم وجهادهم -، والمصائب المكفرة، والاستغفار، والتوبة التي بها يبدل الله - عز وجل - السيئات حسنات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
6 - وأخيراً نقول إن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بسابقته، أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي هم فيها مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغفور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من إيمان وجهاد وهجرة ونصرة وعلم نافع وعمل صالح [25].
يقول الذهبي - رحمه الله -: (...فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع بينهم وجهاد محّاء وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة) [26].
إذاً اعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.. (ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي... ) [27].
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساويهم مطلقاً - كما مر سابقاً -، وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ لصحابي، فلا بد أن يقترن بذلك ذكر منزلة هذا الصحابي وتوبته وجهاده وسابقته..(/3)
، إن وجد شيء من ذلك، فمثلاً من الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -، دون أن نذكر توبته وسابقته وأنه من أهل بدر، ومن الظلم أيضاً أن نذكر ماعزاً وزلته ولا نذكر توبته التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه، [28] وهكذا فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة حصلت منه في فترة من فترات حياته، وتاب منها، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية إن كانت له حسنات ومناقب، ولو لم يزكه أحد، فكيف إذا كثرت فيه التزكيات، وكيف إذا زكاه خالقه، الخبير بما في نفسه؟.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 2/78/2.
(2) الإمامة/347.
(3) منهج كتابة التاريخ، محمد بن صامل السلمي، ص 227، 228.
(4) منهاج السنة 3 / 192.
(5) فتح الباري 1 / 225.
(6) انظر منهاج السنة 3 / 17، 19.
(7) المصدر السابق 3 / 209 بتصرف.
(8) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ص 8.
(9) أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم / 360 عبد العزيز العجلان.
(10) مسلم بشرح النووي 15 / 49.
(11) فتح الباري 13/ 56.
(12) سير أعلام النبلاء، الذهبي 3 / 140 بسند رجاله.
(13) البداية والنهاية 8 / 129.
(14) منهاج السنة 3 / 186، وراجع في نفس الموضوع نصوص أخرى تدل على قلة من حضر الفتنة من الصحابة.
(15) مغازي الزهري، 154.
(16) سير أعلام النبلاء 2 /177.
(17) أسد الغابة، ابن الأثير 3 / 88، 89.
(18) منهاج السنة 6 / 209 (محقق).
(19) المصدر نفسه 6 / 209 (محقق).
(20) فتح الباري 12 / 67.
(21) تاريخ الطبري 4 /476.
(22) تاريخ الطبري 4/476.
(23) البداية والنهاية 8/14، 130.
(24) الترمذي، رقم 2401، قال: حسن صحيح.
(25) انظر الواسطية بشرح هراس / 164 - 167.
(26) سير أعلام النبلاء: 10 / 93.
(27) منهج المحدثين للأعظمي / 23 - 29.
(28) الإمامة لأبي نعيم / 340، 341، منهاج السنة 2/207، محقق.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/4)
الإنترنت بين الخير والشر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فلقد فتن الشباب اليوم بالإنترنت ، وولعوا به ولعاً شديداً ، فأصبح جُلّ حديثهم عنه وعن ارتياد مواقعه ، والإبحار في جنباته ، والجلوس في صحبته الساعات الطوال دون كللٍ أو مللٍ ، وهذا يدعونا للتأمل في محاسنه ومفاسده حتى نكون على بصيرة من أمرنا .
أولاًً : أضرار الإنترنت
1- إضاعة الأوقات .
2- التعرف على صحبة السوء .
3- زعزعة العقائد والتشكيك فيها .
4- نشر الكفر والإلحاد.
5- الوقوع في شراك التنصير .
6- تدمير الأخلاق ونشر الرذائل .
7- التقليد الأعمى للنصارى والافتتان ببلادهم .
8- إهمال الصلاة وضعف الاهتمام بها .
9- التعرف على أساليب الإرهاب والتخريب .
10- الغرق في أوحال الدعارة والفساد .
11- إشاعة الخمول والكسل .
12- الإصابة بالإمراض النفسية .
13- إضاعة مستوى التعليم .
14- التجسس على الأسرار الشخصية .
15- انهيار الحياة الزوجية .
ثانياً : فوائد الإنترنت
من الإنصاف أن نبين ولو بذكر بعض الصور ما قام به أهل الهمم العالية من استغلال للإنترنت في أمور نافعة ، بل جعلوا هذه الشبكة خادمة للإسلام ، وداحضة للباطل وأهله ، وهذه جملة من فوائد الإنترنت التي هي في الحقيقة كثيرة لا تحصى :
1- الدعوة إلى الإسلام وبيان محاسنه .
2- الرد على الشبهات التي تثار حول الإسلام ودحضها .
3- محاربة البدع والتصدي لدعاتها .
4- نشر العلم النافع والأخلاق الحسنة .
5- معرفة العلوم الكونية والأخذ بأسباب التقدم والرقي .
6- الاستفادة منه في الأبحاث العلمية .
7- التعرف على أحدث التقارير والدراسات والإحصاءات في مختلف المجالات .
8- سهولة الاتصال بالعلماء لأخذ الفتوى عنهم والاستنارة بآرائهم .
9- الإعلان عن محاضرات العلماء ومتابعتها عبر الإنترنت .
10- التعرف على أحوال المسلمين في العالم ومتابعة أخبارهم .
أخي الحبيب
أيليق بك أن تستخدم نعم الله في معصيته ومحاربته ؟
أيليق بك أن تكتفي من هذه التقنية بكل ماهو سيئ ، بينما غيرك من غير المسلمين يستغل تلك الشبكة في كل ما يوصلهم إلى مراكز الصداقة والريادة لهذا العالم ؟
ألا فاتق الله – أخي الحبيب –وأسأل نفسك :
ماذا : أعددت لقدومك على ربك ؟
ماهو : زادك الذي تزودته في سفرك إلى الله والدار الآخرة ؟
أيقدم : الناس على ربهم بالحسنات والأعمال الصالحة ، وتقدم أنت بالأغاني والأفلام ومطالعة الصور العارية عبر هذه الشبكة ؟
هل : هذا هو نصيبك من الدنيا ؟ هل هذه هي بضاعتك للآخرة ؟
أين : أنت من قول الله تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ... ) ؟
أسأل الله لي ولكم الثبات على دينه ، والتوفيق والإعانة على سلوك سبيله ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تنفيذ الأخ / غازي -أبو الزبير [ لا تنسونا من صالح دعائكم ]
جُمعت من كرت / الإنترنت بين الخير والشر إعداد / عبد العزيز بن محمد الطريف(/1)
الإنسان .. معجزة خلقه كما ورد في القرآن
بقلم : أ. د. ع. م. غنيمة
إذا أراد المسلم أن يجعل من مبدأ الحياة وقصة الخلق طريقًا شيِّقًا للمعرفة الفكرية أوسع وأعمق مما صوره العلم، فأمامنا طريق الفلاسفة وتأملاتهم. وإذا أراد المسلم أن يجعل منه موضعَ إيمان ومشاعر إنسانية وروحية، فأمامه الدين الإسلامي، وهنا وعند هذه المرحلة، حيث يبدو تعدد الطرق، نجد أن العلم والفلسفة والدين يتفقون على أن مبدأ الحياة ونظرية الخلق من مظاهر الألوهية، وأن الألوهية هي الأصل، وهي الغاية من كل هذا الكون؛ فكل شيء فيه إنما يصبو إليها، ونحن لا نستطيع عن طريق المعرفة الفلسفية أن نقول : إن الله تعالى هو سببُ أو علةُ الوجود، وخالقه ومصوره، وواضع أسسه ونظمه، وإنما نقول أيضًا: إنه هو الذي يشهد على الأشياء كلّها، وليست الأشياء هي الدليل عليه .
إن القرآن الكريم لم يأت ليُعَلِّمنا أسرارَ الوجود والخلق؛ ولكنه أشار إليها وسجّلها ليظهر الإعجاز الإلهي للإنسان في كل عصر، ومع كل تقدم للعلم والمعرفة البشرية، على أن ربط القرآن الكريم بالنظريات العلمية، شيء لايجب أن يحدث أو يقال، فالقرآن لاتربط صحته باتفاقه مع نظرية علمية أيًا كانت؛ ولكن العلم هو الذي يستمد صحته وبيانه إذا اتفق مع آيات القرآن الكريم، فكل علم مخالف لحقائق القرآن هو علم خاطيء وزائف، لأن قائل القرآن هو الله سبحانه وتعالى ، وخالق الكون هو الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن لمخلوق عالم أو متفلسف أن يصل في أسرار الكون إلى علم الخالق، تلك حقيقة مهمة وبديهية، لأولئك الذين يربطون معجزة الخلق بنظريات من فكر البشر، والحياة والموت، هما مما اختص به الله سبحانه وتعالى نفسه.
حتى أنه إذا أعطى رسولاً من رسله هذه المعجزة ، كما أعطاها عيسى - عليه السلام - فإنه يقول: فإذن الله .. فعيسى يقول : "وَاُحْيِي الْمَوْتاى بِإِذْنِ اللهِ" ويقول: "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ"، وفي نفس الآية من آل عمران رقم (49)، يقول جل شأنه "وَأُبْرِئُ الاَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ" ، "وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِيْ بُيُوْتِكُمْ"، وهنا يجب أن نلاحظ أن معجزة الحياة والموت لم ترد إلا ومعها كلمة بإذن الله، بينما وردت المعجزات الأخرى كإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، كمعجزات لتأييد عيسى من الله سبحانه وتعالى، دليلاً على صدق رسالته وتبليغه عن الله؛ ولكن معجزة الخلق هي لله وحده .
والله سبحانه وتعالى حين أوجد الحياة أبلغنا بطريقة الخلق ومعجزته فقال في سورة السجدة آيات 9,8,7,: ?وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِه وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلاً مَّا تَشْكُرُوْنَ?، وقال في سورة الحجر آية 28 ، 29: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّيْ خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُوْنٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِي فَقَعُوْا لَه سَاجِدِيْنَ?، وقال عن مريم في سورة الأنبياء: آية 91: ?وَالَّتِيْ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيْهَا مِنْ رُّوْحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِيْنَ?، وقال في سورة التحريم آية 12: ?وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيْهِ مِنْ رُّوْحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِه وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِيْنَ?. وقال إنني خلقتُ من كل شيء زوجين اثنين، أي أن كل مخلوقات هذه الدنيا بدأت بخلق الله سبحانه وتعالى ذكرًا وأنثى ثم بدأ التكاثر بعد ذلك، وهذه هي بداية الخلق، وحقائق الكون كما ذكرها الله في القرآن الكريم هي حقائق أزلية لايمكن أن تتصادم.
نأتي الآن إلى خلق آدم ، أخبرنا الله سبحانه وتعالى .. أنه خلقَ الإنسان من طين يقول تعالى في سورة الرحمن آية 14: ?خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ?، أي من عناصر الأرض والتربة التي نعيش عليها والبحث العلمي المعملي أثبت أن الأرض تتكون من 20 عنصرًا كلها موجودة في جسد الإنسان هي "الكربون" و"الأيدروجين" و"الأكسجين" و"النتروجين" و"الفسفور" و"الكبريت" و"الصوديوم" و"البوتاسيوم" و"الكالسيوم" و"الماغنسيوم" و"الحديد" و"النحاس" و"الكلور" وتكون هذه العناصر 60-80? من رماد الجسم. أما "الكوبالت" و"المنجنيز" و"الزنك" و"اليود" و"الخارصين" و"الألومنيوم" و"البورون" فهي توجد بكميات صغيرة جدًا في جسم الإنسان، ثم نفخ الله سبحانه وتعالى فيه من روحه، والروح من أمر الله، لم يصل إليها العلم ولن يصل، فتم خلقُ آدم وخلق حواء من آدم .
بداية خلق الإنسان من النطفة وحدها(/1)
لقد كان مفهومًا منذ القدم أن الأم لا دخل لها في خلق أبنائها؛ ولكن "ماء" الرجل ما أن يصل إلى رحم المرأة حتى ينمو ليكون جنينًا ثم وليدًا، مثله في ذلك مثل "البذرة" حيث تصادف التربة الطيبة فإنها تنمو وتزدهر، ولم تكتشف طبيعة الحيوان المنوي كذات مستقلة في السائل المنوي "ماء الرجل" (ماء الخليقة) إلا في القرن السابع عشر، في عهد "ليفنهوك" Leeuwen hoak وبالتحديد عام 1677م اعتبر الحيوان المنوي حينئذ كائنًا حيًا له ذاته وصفاته المستقلة، التي بها يمكنه أن ينمو فيكون الجنين في رحم الأنثى، وبعد الولادة يصبح فردًا إنسانًا وقد تصور العلماء آنذاك أن الحيوان المنوي ماهو إلا إنسان صغير الحجم جدًا يجلس القرفصاء .
وكان "ليفنهوك" قد توصل إلى صنع عدسة دقيقة سمكها أقل من 1/10 بوصة متقنة الصقل بحيث كانت تريه الأشياء في ضخامة واضحة، أخذ في توجيه عدساته إلى كل شيء يستطيع الحصول عليه، ففحص رأس ذبابة وألصق مخها بالإبرة الدقيقة، وكم أثارت إعجابه التفاصيل الواضحة عندما كان يفحص البذور الصغيرة والبراغيث والقمل لكي يرى التفاصيل التي تعجز العينُ عن رؤيتها، وفحص بعدسته قطرة صغيرة من ماء المطر فرأى كائنات دقيقة تسبح في هذا الماء .. وكانت الكائنات الدقيقة الجديدة عجيبة وصغيرة وأعدادها كبيرة ومتعددة الطرز، تتحرك وتتمايل وتنقلب ذات الشمال وذات اليمين، فكتب إلى عظماء العلماء في لندن ووصف لهم ما اعتراه من دهشة، وأخبرهم عن رؤية مئات من الكائنات الدقيقة.. فهزت كتاباته العلماء وسرت بينهم الدهشة ولاسيما رؤيته لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي ينتقل الدم خلالها من الشرايين للأوردة في ذيل السمكة، واكتشف الحيوانات المنوية للإنسان وأماط اللثام عن تلك الكائنات الحية غير المرئية والتي يعيش بعضها على التهام البعض الآخر، وكان يقول حياة تعيش على حياة، ولذا يعتبر "ليفنهوك" في تاريخ العلم أول من اكتشف "الميكروبات" وترك لمن بعده من العلماء أمثال باستير "Pasteur" بداية تصنيف تلك "الميكروبات" .
وقد استعان "باستير" بعدسات "ليفنهوك" لكشف "الميكروبات" التي تعيش على اللبن وعلى الخمر، وتوصل إلى أنه إذا سخن اللبن أو الخمر – ولو تسخينًا هينًا – قبيل درجة الغليان، فإن هذا التسخين يقتل "الميكروبات" الدخيلة .. وهذه الحيلة اليسيرة هي المعروفة باسم البسترة في صناعة الألبان.. وعلى مقتضاها تعالج منذ ذلك اليوم فتتعقم وتنجو من التلف والتخثر، ومن أعظم ما خطر على فكر "باستير" أن "المكيروب" على ضآلته قد يدخل جسم الرجل أو جسم الثور أو الفيل وينهى حياته، ولم يكن يجد في هذا الخاطر استحالة أو غرابة .
والآن نعاود الكتابة عما جاء بأم الكتاب، حين نزل القرآن الكريم على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم منذ قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمان، لم يكن أمر الحيوان المنوي. ووظيفته وطبيعته – معروفًا كما أن موقفه من تخليق الإنسان وغيره من الحيوانات لم يكن مفهومًا .
وفي كتب الشريعة والتفسير حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، يعبر عن السائل المنوي بعبارة "ماء الرجل"، والقرآن الكريم يعبر عنه أيضًا "بالماء المهين"، وأحيانًا "بالماء" فقط، يقول سبحانه: "ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ" السجدة: آية 8 "أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَّآءٍ مَّهِيْنٍ" المرسلات: آية 20 : "وَهُوَ الَّذِيْ خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَه نَسَبًا وَصِهْرًا وَكاَنَ رَبُّكَ قَدِيْرًا" الفرقان: آية 54 .
لكن علماء البيولوجيا المعاصرين، يعرفون عن يقين، أن الإنسان وأغلب الحيوانات تبدأ حياتها بخلية واحدة، ومن هذه الخلايا أو اللبنات الدقيقة الحية، تبني أجسام النبات والحيوان والإنسان والخلية الأولى لتكوين الإنسان، هي حصيلة اندماج حيوان منوي (نطفة) من الذكر مع بيضة من الأنثى، والخلية الناتجة تعرف علميًا بالبيضة المخصبة أو الزيجوت Zygote ولايمكن للحيوان المنوي (النطفة) وحده أن ينتج كائنًا حيًا دون مشاركة من البيضة، أي أن الرجل لايمكن أن يكون له ولد (أى ابن) دون مشاركة من أنثى، ومن هنا يرجع أمر خلق الإنسان بداية من النطفة للأسباب الآتية :
1- أن بيضة الأنثى لا يمكنها أن تنقسم وبالتالي لا يمكنها أن تكون جنينًا في رحم الأم إلا بعد أن يخصبها الحيوان المنوي، ومالم يأتها الحيوان المنوي فإنها تبقى بحيويتها على حالتها لفترة زمنية في انتظار إخصابها بحيوان منوي يصلها في الوقت المناسب، فإن أخفقت في أن يصل إليها الحيوان المنوي، فإنها لا تلبث أن تفقد حيويتها فتتلاشى وتمتص ويضيع أثرها .(/2)
2- النطفة هي السبب الأصيل في تكوين الجنين، وهي التي تبعث النشاط الانقسامي في البيضة بعد تخصيبها، ولا يمكن للنطفة أن تكون الجنين إلا بمشاركة البيضة، والتفسير السابق ينطبق على الإنسان عامة، فلم يحدث أن استطاعت امرأة بمفردها، أي دون الذكر، أن تنجب، وولادة سيدنا عيسى - عليه السلام - من السيدة مريم، هي معجزة إلهية، والمعجزات أمور خارقة لنواميس الكون ولايقاس عليها.
وصحيح أن هناك حيوانات أخرى من غير البشر، يمكن لبيضة الأنثى وحدها، ودون احتياج لحيوان منوي، أن تنقسم وأن تنتج الذراري وهذا شائع طبيعيًا في أنواع من الحشرات مثل حشرة المن، كما أن ملكة النحل يمكنها أن تنتج الشغالات في طائفة النحل عن طريق وضع بيض لا تخصبه بحيوانات منوية، وانقسام البيضة على هذا النحو وتكوين الأجنة فيها دونما حاجة إلى الحيوان المنوي هي ظاهرة تُعْرَف علميًا باسم "التولد البكري أو العذري" ولا وجود لمثل هذا التكاثر في الإنسان .
3- إضافة إلى ما سبق، نجد أن الحيوان المنوي هو الشق الوحيد من شقي التناسل، الشق الآخر هو البيضة، ويترتب على هذا التنوع تكوين الذكر والأنثى، بمعنى أن مني الذكر يكون الحيوان المنوي فيه على صورتين مختلفتين، إحداهما إذا قدر لها أن تخصب البيضة تنتج عن ذلك جنينًا ذكرًا، والأخرى إذا قدر لها ذلك نتج عنها جنين أنثى، ولو لم يتنوع الحيوان المنوي على الصورتين السابقتين لنتج عن الإخصاب جنس واحد فقط، وهل يمكن للحياة أن تستمر بجنس واحد فقط دون الجنس الآخر؟
?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِيْنٍ * ثُمِ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَارٍ مَّكِيْنٍ * ثُمِ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَاْرَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ? المؤمنون: الآيات من 12-14.
يقول تعالى: ?وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثى * مِنْ نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنى? النجم: آية 46,45.
ويتضح مما سبق وبجلاء ودون ارتياب، أن إنجاب الإناث والذكور معًا مسؤولية الذكر (الزوج) دون الأنثى (الزوجة)، وعليه فليس من الكياسة في شيء ولا من العدالة في قليل ولا كثير أن يحمل زوجٌ زوجتَه مسؤولية إنجاب البنات، كما يشيع في بعض أوساط الجهل والبسطاء من الناس.(/3)
الإنسان الحكيم
عبد الكريم بكار 23/2/1427
23/03/2006
قالوا كثيرًا في الحكمة، واختلفوا في شأنها اختلافًا واسعًا؛ وذلك بسبب اتصال الحكمة بعدد من العلوم والقوى الخلقية والعقلية. وحين يقف الإنسان الموقف الذي عليه أن يقفه، فإنه يكون قد أنجز إنجازًا ليس بالقليل. في بعض الأحيان يكون هناك نوع من الغموض والالتباس أو نوع من التقاطع بين المعطيات المعرفية، أو نوع من ضعف الإدراك للمنافع والمضار، وحينئذ فإن قلّة قليلة من الناس هي التي تتمكن من فهم المحيط واتخاذ القرار الصحيح.
قبل أن أتحدث عن بعض سلوكات الرجل الحكيم ومواقفه أود أن أوضح مكونات الحكمة، وما يحتاجه الموقف الحكيم. لعل أصح تعريف للحكمة هو ذلك التعريف الذي يقول: إن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وحتى نضع الشيء في موضعه، فإننا نحتاج إلى أمرين أساسيين:
الأول: هو معرفة ما يجب علينا قوله أو فعله، وما يجب علينا تركه أو رفضه أو تجاهله... وهذا يعني أننا نحتاج إلى معرفة جيدة وخبرة ممتازة بما نحن مقدمون على التعامل معه.
الثاني: هو الإرادة والعزيمة التي نحتاجها كي نقاوم رغباتنا وشهواتنا، وما لدينا من طموحات غير مشروعة وأمور غير لائقة، وكي نتجاوز ما لدينا من قصور ذاتي. وقد نحتاج حتى نكون حكماء فعلاً إلى شيء ثالث هو الرضا والقناعة بما قسمه الله –تعالى-، والنظر إلى كل ما لم نستطع الوصول إليه بعد بذل الجهد على أنه شيء ليس لنا، وبالتالي فإننا لا نتحسر عليه، ولا نحسد من ظفر به، ونشعر أن ما جرى لنا شيء طبيعي وجيد.
من المهم أن نتذكر دائمًا أن ما لدينا من معرفة، يظل دائمًا أقل مما هو مطلوب، أي أن مواقفنا ستظل تفتقد في بعض الأحيان إلى المعرفة، التي لا نعرف كيف سنحصل عليها. ومن وجه آخر فإن سيطرتنا على رغباتنا ومشتهياتنا، تظل هي الأخرى غير كاملة، أي أننا نرى الصواب في موقف ما، لكننا لا نفعل ما نراه بسبب عدم امتلاكنا للطاقة الروحية المطلوبة لذلك. والخلاصة لكل هذا، هي: أنك لا تجد حكيمًا هو حكيم في كل المواقف وكل التصرفات، فالنقص ملازم لبني البشر مهما كان شأن الواحد منهم.
مواقف وسلوكات حكيمة:
1- المسلم الحكيم هو المسلم التقي الملتزم الذي يتحرّج أشد التحرّج من التقصير في واجب أو الوقوع في محرّم. إنه يعرف واجبه تجاه خالقه –جل وعلا-، ويملك الإرادة والعزيمة على الامتثال لذلك الواجب. إن المسلم الذي يعيش أزمة مفارقة بين معتقده وسلوكه لا يمكن اعتباره حكيمًا مهما كانت براعته المعرفية، ومهما كانت مقدرته الإدارية ومهارته في القيادة والاتصال... لأنه بعدم التزامه خسر أكبر ميدان يمكن للحكمة أن تتجسد فيه. كلما ازداد المسلم شفافية، وكانت معاييره في التعامل مع الأشياء والأحداث.
2- لا يكون الإنسان حكيمًا إذا لم يعرف الحدود الفاصلة بين ما يعلمه، وبين ما يجهله. إن هذه المعرفة ضرورية جدًا لتجلي الحكمة في حياتنا. إننا من خلال تلك المعرفة نستطيع التوقف عن الكلام والجدال والإعلان بأننا لا نعرف أكثر مما قلنا، أو الإعلان بأن الكلام لم يعد مفيدًا؛ لأنه صار عبارة عن مراء، يُظهر أمراض النفوس أكثر مما يُظهر إشراقات العقول.
3- من علامات حكمة المرء معرفته بقدر نفسه، فلا يرفعها فوق ما هي عليه حقيقة، ولا ينزل بها عن ذلك. حين يرفع المرء نفسه فوق قدرها فإنه يقع في الكبر والغرور والوهم، وتأتيه الصدمات من كل مكان، وحين يستخفّ بها، وينظر إليها نظرة احتقار فإنه يذلّها، ويحرمها الكثير من الخير. لا يكفي كي يكون المرء حكيمًا أن يعرف ما هو ناجز في حياته وفي شخصيته، وإنما عليه أن يعرف أيضًا الطاقات الكامنة لديه، أي الصورة العقلية والثقافية والاجتماعية والمهنية التي يمكن أن يكون عليها إذا بذل جهده في الاهتمام بنفسه. وتلك المعرفة، لا تكون كافية إذا لم يصاحبها تفتّح عقليّ على الجديد، وعمل متواصل على الارتقاء. وإذا كان هذا المعيار صحيحًا –وهو صحيح إن شاء الله- فإن معظم الناس ليسوا حكماء؛ لأنهم راضون بأوضاعهم، وكثيرًا ما يكونون خائفين من التغيير، متهيّبين لتكاليف الإصلاح.
4- من الحكمة أن نتعرف على اتجاهات الناس، وأن نأخذ بعين الاعتبار ظروفهم وأشكال معاناتهم. إن أعقل الناس أعذرهم للناس –كما كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وإن المعرفة الكاملة صفح كامل. إن من المهم أن ندرك أن كثيرًا من عباد الله يعانون من مشكلات لم يصنعوها بأيديهم، ويعيشون في بيئات وفي ظروف لم يختاروها لأنفسهم؛ ومن ثم فإن إعذارهم والإشفاق عليهم ومؤازرتهم إن كل ذلك يدل على حساسية أخلاقية عالية، ويدل على رؤية واسعة وحكيمة.
شيء من الحكمة هو فيض يجود به الله –تباركت أسماؤه- على عباده، وشيء آخر نصل إليه عن طريق المعرفة المدققة والمجاهدة الحسنة لنفوسنا، وبداية كل خير كثيرًا ما تكون في الاعتراف بالقصور والتقصير والسعي في مدارج الكمال على قدر المستطاع(/1)
الإنسان بين التسيير والتخيير
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك
الحمد لله، وبعد:
الملائكة والشياطين والإنس والجن، وجميع ما في هذا الوجود، كله خلق الله، وكله واقع بتقدير الله وقضائه ومشيئته وبقدرته، فالشياطين وأعمالهم، والكفرة وأعمالهم، لا خروج لأحد منهم عن مشيئته - سبحانه -، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والله - تعالى -خلَق الخير والشر، وخلق هذه الأضداد لحكم بالغة، منها ما يظهر للعباد، ومنها ما يخفى عليهم، وهو الأكثر، فإن عقول العباد لا تحيط بما لله من الحِكم البالغة في شرعه وقدره، وقد جعل الله الملائكة والشياطين ضدين، فالملائكة عباد مكرمون مطيعون عابدون لربهم، يحبون ما يحبه الله، ويبغضون ما يبغضه، ويدعون إلى مراضيه، يحبون المؤمنين ويستغفرون لهم، والشياطين أشرار يحبون ما يبغضه الله، ويدعون إلى معاصيه والكفر به، ويحبون الكافرين ويؤذون المؤمنين، ولهذا فكل إنسان قد ابتلي بقرين من الجن يوسوس له ويزين له القبيح، وبقرين من الملائكة يزين له الخير ويدعوه إليه، ولهذا يُروى في الحديث: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ قَرَأَ)): الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)) (البقرة: من الآية268). أخرجه الترمذي (2988) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه- ورُوي موقوفا عليه.
وأما هل الإنسان مخير أم مسير؟ فهذا اللفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة، بل الذي دلاَّ عليه أن الإنسان له مشيئة ويتصرف بها، وله قدرة على أفعاله، ولكن مشيئته محكومة بمشيئة الله كما قال - تعالى -: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (التكوير: 28، 29).
فليست مشيئته مستقلة عن مشيئة الله، ولفظ: مخير ومسير. لا يصح إطلاقهما، فلا يقال: الإنسان مسير. ولا يقال: إنه مخير. بل لابد من التفصيل، فإن أريد أنه مسير بمعنى أنه مجبور ولا مشيئة له، ولا اختيار، فهذا باطل، وإن أريد أنه مسير بمعنى أنه ميسر لما خلق له، وأنه يفعل ما يفعل بمشيئة الله وتقديره، فهذا حق، وكذلك إذا قيل إنه مخير وأريد أنه يتصرف بمحض مشيئته دون مشيئة الله، فهذا باطل، وإن أريد أنه مخير بمعنى أن له مشيئة واختيارًا وليس بمجبر، فهذا حق، وأوسع كتاب تضمن الكلام عن القدر ومراتبه وعن أفعال العباد كتاب (القضاء والقدر والحكمة والتعليل) للإمام ابن القيم- رحمه الله -. والله أعلم.
1/12/1425 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:(/1)
الإنسان بين العبودية والطغيان ...
الشيخ/ سعود بن إبراهيم الشريم ...
...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه في السر والنجوى والخلوة والجلوة، فإنَّ الله ?إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ?5ٌ? هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمٌُ? [آل عمران:5-6] أما بعد:
فياعباد الله، إنَّ الباريَ سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه خلق هذا الكون عُلويَّه وسفليّه ظاهره وباطنه، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو.
كلُّ ذلك لأجل أمرٍ واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه. ومن ثمَّ فإن تحقيق العبودية لا يمكن أن يبلغ مكانَه الصحيح إلا بتحقيق الطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ليكون الدين لله والحكم لله والدعوة إلى الله. كلُّ ذلك يقوم به من جعلهم الله مستخلَفين في الأرض مستعمَلين فيها، ومثل هذا لا يتم لبني الإنسان من بين سائر المخلوقات إلا من خلال قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح على حدٍّ سواء. كما أنه لا يمكن إتمام العبودية على أكمل وجه إلا بتكميل مقام غاية الذل والانقياد مع غاية المحبة لله سبحانه وتعالى. فأكملُ الخلق عبودية لله هو أكملهم له ذلاً وانقيادًا وطاعةً.
وجماع العبودية -عباد الله- أنها هي الدين، فالدين عند الله الإسلام، ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينٌَ? [آل عمران:85]، وهذا هو سرّ خلق الله للخلق، وغايةُ إيجاده لهم على هذه البسيطة، ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونٌِ? [الذريات:56]، ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونٌَ? [المؤمنون:115]، ?أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىًٌ? [القيامة:36].
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: ?أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٌٍ? [الأعراف:185]، ويقول عائبًا فئة من البشر غافلةً ساهية لم تأخذ العبرة والعظة مما تشاهده ليلاً ونهارًا في أنحاء هذا الكون المعمور: ?وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ?105ٌ? وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونٌَ? [يوسف:105، 106].
فيا سبحان الله، أفلا يرون الكواكب الزاهرات والأفلاك الدائرات والجميع بأمره مسخرات؟! وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحارٍ زاخرات وأمواج متلاطمات وقفارٍ شاسعات، ثم هم يجعلون لله البنات، ويعبدون من دونه من هو كالعزى واللات، فسبحان الواحد الأحد خالق جميع المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل يجعل العجب يأخذ من نفسه كلَّ مأخذ حينما يرى أمرَ هذا الكائن البشري وهو ينكص على عقبيه ويولِّي الدّبر، منصرفًا عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات، ملتحفًا بأكنافها بعد أن أكرمه الله وكرّمه
وحمله في البر والبحر وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وبعد أن أسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وبعد أن خلقه وصوّره وشقَّ سمعه وبصره، ?وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌٌ? [إبراهيم:34]، ومع ذلك يستكبر الإنسان، ويكفر الإنسان، ويجهل الإنسان، ويقتر الإنسان، ويجادل الإنسان، فيقول الله عنه: ? إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌٌ? [إبراهيم:34]، ?إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولٌ? [الأحزاب:72]، ?قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهٌُ? [عبس:17]، ?وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُورٌ? [الإسراء:100]، ?وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلٌ? [الكهف:54]، ?كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى?6ٌ? أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٌ? [العلق:6، 7]، ?بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهٌُ? [القيامة:5]، ?إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٌٍ? [العصر:2].
وقد كان الأجدر بهذا الإنسان وقد كَرَّمه الله ونعّمه أن يكون عابدًا لا غافلاً، طائعًا لا عاصيًا، مقبلاً إلى ربه لا مدبرًا، شكورًا لا كفورًا، محسنا لا ظالمًا.(/1)
إن المتأمِّل في كثير من المخلوقات في هذا العالم المشهود ليرى أنها لم تُعطَ من العناية والرعاية والعمارة والاستخلاف كما أُعطي الإنسان، ولا كُلِّفت كتكليف ابن آدم، بل جعلها الله خادمة مسخرةً له، ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعٌ? [البقرة:29]، بل حتى الملائكة سخرها الله لابن آدم، فجعل منهم الكتبةَ عليهم والدافعين عنهم من معقّبات من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم من أمر الله، وجعل منهم المسخَّرين لإرسال الريح والمطر، كما جعل الله من أكبر وظائفهم الاستغفار لبني آدم، ?وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضٌِ? [الشورى:5].
ومع ذلك -عباد الله- فإن هذه المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في عبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلا بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ والذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اقتلوا الوزغ، فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم) [رواه أحمد](1).
غير أنَّ أولئك مع عصيانهم إلا أنهم لا يبلغون مبلغَ عصيان بعض بني آدم، وما ذاك إلا لأنه قد وُجد في بني آدم من يقول: أنا ربكم الأعلى، ووُجد فيهم من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، ووُجد فيهم من يقول: أنا أحيي وأميت، ووُجد من يقول: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، ووُجد فيهم من يقول عن القرآن: إنْ هذا إلا قول البشر، ومن يقول: إنْ هذا إلا أساطير الأولين، ناهيكم -عباد الله- عمن يقول: يد الله مغلولة، ومن يجعل الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا، فكيف إذًا بمن يقول: إن الله فقير ونحن أغنياء.
وهكذا -عباد الله- تمتدّ حبال الطغيان والجبروت في بني الإنسان إلى أن يخرج من يقول: إن الشريعة الإسلامية غيرُ صالحة لكل زمان ومكان، أو من يقول بفصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أو من يقول: الدين لله والوطن للجميع، أو من يقول: دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو من يصف الدين بالرجعية، والحدود والتعزيرات بالهمجية والغلظة،
أو أن يصفه بالمقيِّد للمرأة والظالم لها والمحجِّر على هويَّتها، أو من يرى حريتَها وفكاكها من أسرها إنما يتمثَّل في خروجها من حدود ربها، وإعلان عصيانها لشريعة خالقها ومولاها، وجعلِها نهبًا لكل سارق وإناءً لكل والغ ولقيطًا لكل لاقط، جسدًا للإغراء والمتاجرة، وحُبَّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا.
هذه هي بعض مقولات بني الإنسان، فهل من التِفاتةٍ ناضجةٍ إلى مواقف إبليس اللعين في كتاب ربنا لتروا: هل تجدونه قال شيئًا من ذلك غير أنه وعد بالغواية؟! بل إن غاية أمره أنه فضّل جنسه على جنس آدم، فاستكبر عن السجود لمن خُلق طينًا، بل إنه قد قال لبعض البشر: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
فلله ما أعظمَ عصيان ابن آدم، وما أشد استكبارَه ومكره السيئ، ?وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلٌ? [فاطر:43].
ويؤكد الباري جل شأنه حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات واستنكافَهم أن يكونوا عبيدا لله الذي خلقهم وفطرهم فقال سبحانه: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءٌُ? [الحج:18]، فدل على أنَّ أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهٌِ? [الأنعام:116]، ?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورٌُ? [سبأ:13]، ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينٌَ? [يوسف:103].
أيها المسلمون، من أجل أن نصل وإياكم إلى غايةٍ واحدة، وهي استشعار عبوديتنا لله سبحانه وتعالى، وأن منا مفرّطين ومستنكفين، وأن من أطاع الله بشيء من العمل أخذه الإعجاب بنفسه كلَّ مأخذ، وأقنع نفسه ومجتمعَه بأنه يعيش أجواءَ الأمن والأمان والاستقامة والهداية وأنه أدى ما عليه، فليس هناك دواعٍ معقولةٌ للتصحيح والارتقاء بالنفس إلى البُلغة المرجوَّة، إنه لأجل أن نعلم ذلك، ولأجل أن نزدري عملَنا مهما كان صالحًا في مقابل أعمال المخلوقات الأخرى من جمادٍ ونباتات وحيوان، فإن من المستحسن هنا أن نسلط الحديث على بعض أمثلة متنوعة لمخلوقات الله سبحانه، لنبرهن من خلالها على الهُوَّةِ السحيقة بيننا وبينهم في كمال العبودية لله والطاعة المطلقة له.(/2)
فمن ذلك -عباد الله- ما أودعه الباري سبحانه بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: (مستريحٌ ومستَراحٌ منه»، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: «إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب). [رواه البخاري](2).
انظروا -يا رعاكم الله- كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب.وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح
بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معِلّم الناس الخير)(3).
بل إنَّ الدواب جميعًا لتشفِق من يوم القيامة وتفرَق من قيام الساعة خوفًا من هولها وعرصاتها، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشيةَ أن تقوم الساعة) [رواه أحمد(4) والمصيخة هي المنصتة]
ولقد ورد أيضًا ما يدل على عبودية الديك لله ودعوتِه للخير والفلاح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة) [رواه أحمد وأبو داود](5).
وقد روى الإمام أحمد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (إنه ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)، فيقول: (إنَّ هذا الفرس قد استجيب له دعوته) [رواه أحمد](6).
وأمَّا النمل -يا رعاكم الله- فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: ?حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونٌَ? [النمل:18].
هذه النملة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها: (قرصت نملةٌ نبيًا من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟!) [رواه البخاري](7).
وأمَّا الشجر وهو من النبات عباد الله، فقد قال الله عنه: ?وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانٌِ? [الرحمن:6]، وروى ابن ماجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هن)(8).
وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله قد قال عنه: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله) [رواه البخاري(9)].
فانظروا -يا رعاكم الله- إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها وتدكدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله.
فيا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن في أذنيها وقرًا، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن، ولكن صدق الله: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورٌِ? [الحج:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
أيها الناس، تكلّم ذئبٌ كلامًا عجيبًا إبانَ حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كلاما يفيد بأن الذئب يؤمن بأن الرزق من عند الله، بل قد أمر هذا الذئب راعيَ الغنم بتقوى الله سبحانه، إضافةً إلى علم هذا الذئب بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ورسالته.(/3)
فلقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (عدا ذئبٌ على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي، ذئبٌ مقعٍ على ذنبه يكلمني كلامَ الناس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟! محمدٌ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق... الحديث)(01) وفي رواية للبخاري: فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال: (فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)(11).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروه حقَّ قدره، واستشعروا أثرَ عبودية الجماد والنبات والحيوان، وكمالها لله تعالى، وهي أقل منكم فضلاً وتكريمًا.
واعلموا أنكم مقصِّرون مهما بلغتم، وظالمون لأنفسكم مهما ادعيتم القصدَ أو الكمال، فإن بُعد البشر عن المعرفة الحقيقية، وضعفَ يقينهم بالآمر الناهي، وغلبةَ شهواتهم مع الغفلة، تلك كلها تحتاج إلى جهاد أعظمَ من جهاد غيرهم من المخلوقات الطائعة المسبِّحة لله تعالى.
يصبح أحدنا وخطابُ الشرع يقول له: استقم في عبادتك، واحذر من معصيتك، وتنبَّه في كسبك، وقد قيل قبلُ للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرةَ فؤادك بكفِّك، ثم قم إلى المنجنيق لتُرمى في النار، ويقال للغضبان: اكظم، وللبصير: اغضض، ولذي القول: اصمت، ولمستلِذِّ النوم: تهجّد، ولمن مات حبيبه: اصبر، وللواقف في الجهاد بين الغمرات: لا يحلُّ لك أن تفرّ، وإذا وقع بك مرض فلا تشْكُ لغير الله.
فاعرفوا -أيها المسلمون- شرفَ أقدار بني آدم بهذا الاستخلاف، وصُونوا هذا الجوهر بالعبودية الحقة عن تدنيسها بشؤم الذنوب ولؤم التفريط في الطاعة، واحذروا أن تحطَّكم الذنوب إلى حضيض أوهد، فتخطفكم الطير أو تهوي بكم الريح في مكان سحيق.
?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبٌِ? [الحج:32].
والعجب -يا عباد الله- ليس من مخلوقاتٍ ذُلِّل لها الطريق فلا تعرف إلا الله، ولا من الماء إذا جرى، أو من منحدِر يُسرع، ولكن العجب من متصاعِد يشقُّ الطريق شقا، ويغالب العقبات معالجة، ويتكفّأ الريح إقبالاً، ولا عجب فيمن هلك: كيف هلك؟ ولكن العجب فيمن نجا: كيف نجا؟ ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٌٍ? [فصلت:35].
والعبد كلما ذل لله وعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقربَ له، وأعزَّ وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك) [رواه ابن ماجه(21)].
هذا، وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال عز من قائل عليم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمٌ? [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...(/4)
الإنسان بين القرود والخنازير
بقلم الكاتب الصحفي: وحيد حمدي 21/4/1425
09/06/2004
كنت أتناقش مع إبني عن حقيقة نظرية النشوء والارتقاء والتي يدرسها وهى نظرية التطور للعالم اليهودي تشارلز دارون والواردة بكتابيه المنشوران عام 1857 الأول تحت أسم (أصل الخلائق) والثاني كتاب (خلق الإنسان) وهما يقومان على محورين أساسيين،الأول محور بدء الحياة على الأرض وتطورها وتشعبها، والثاني محور الجنس البشرى كجزء من هذه الحياة وما جاء فى هذين الكتابين هو ما اصطلح عليه العلماء في العالم أجمع على تسميته بنظرية (دارون) والتي تقوم على أساس أن الوجود نشئ دون خالق وتطور من كونه خليه أميبية واحدة وانقسمت إلى مخلوقات ذات خليتين ثم إلى متعددة الخلايا وهكذا حتى ظهرت الحشرات والحيوانات والطيور والزواحف والثدييات ومن ضمنها الإنسان، كما أن جزءا آخر من الخلية انقسام وتطور إلى أنواع من الخمائر والطحالب، والأعشاب، والنباتات الزهرية واللازهرية وأن الإنسان تطور من كونه قردا من الثدييات إلى الإنسان الأول ثم إلى شكله الحالي وأن هذا التطور قسم البشر الذين هم جميعا من أصل القرد إلى 16 مرتبة أو درجة على ما يشبه السلم أدناها الدرجة الأولى والتي يحتلها الزنوج وهى تتصف بأنها أقرب في الطباع إلى السلوك الحيواني البهيمي ويعتمدون في تصرفاتهم على القوى الجسدية أما المرتبة العليا فيحتلها البيض من الأوربيين وبين الطبقة الدنيا والعليا يتنوع البشر فيها فيحتل الهنود الدرجة الأعلى من سلم التطور البشرى بعد الزنوج مباشرة ويليهم شعوب الماو ماو ثم العرب والذين يحتلون الدرجة الرابعة فى هذه النظرية بينما يحتل اليهود مرتبة خاصة ومنفردة ومتميزة وتعلو فوق هذا السلم البشرى وهى مرتبة تتصف بالحكمة والذكاء المفرط ويتصف شعوبها بالتحضر واستخدام العقل والمنطق وبالتالي فهي أكثر إبداعا وتخطيطا وتنظيما ومدنية من الأجناس السفلي ويطلق عليهم صفة (الشعوب الخارقة) ويشتغل أهلها بالسياسية والتجارة والاقتصاد وهم القادة والفلاسفة وهم أصحاب الفن الرفيع وأهم ما يميز هذه النظرية أن الحياة تنتهي بالموت ولا يوجد بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار .
هذه النظرية لاقت ترحيبا شديدا في أوربا وأمريكا لأنها تتمشى مع مصالحهم الاستعمارية في هذا التوقيت وكونها تميزهم بل وتعطيهم إحساسا براحة الضمير إزاء سيطرتهم على الشعوب واستعباد الزنوج في أمريكا وتحقق مقولة اليهود بأنهم شعب الله المختار ولكنها تتعارض تماما مع عقيدتنا الإسلامية بل ومع كل الأديان السماوية التي كرمت الإنسان .(/1)
في فجر اليوم التالي للمناقشة التي دارت بيني وبين أبني حول هذا الموضوع كنت أقرأ سورة المائدة فى المصحف الشريف وتوقفت عند الآي رقم 60 والتي جاء فيها " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ" وتوقفت ثانيا عند قول الله تعالى " وجعل منهم القردة والخنازير " واستلفت نظري دخول حرفي (الـ) على كلمة "قردة وخنازير " وهى أداة تعريف تفيد المعرفة والتخصيص وبدأت أفكر في معناها وقد هداني الله تعالى إليه وهو أن الله قد غضب على بعض العصاة من اليهود وجعل منهم القردة والخنازير أي أنهم كانوا في الأصل من بنى البشر ، إذن فلماذا لا يكون أصل القرد إنسان وليس العكس كما إدعى دارون؟ وبدأت أبحث فى جدية هذ1 الاحتمال ولجأت إلى كتاب الله أبحث فيه وأنا أعلم جيدا وكلى إيمان بأن الحقيقة موجودة في كتاب الله وسنة رسوله وعلى العلم الحديث أن يثبت صحته هو ووفق لما جاء في القرآن وليس العكس ومن هذا المنطلق ومن خلال جهاز الكمبيوتر بحثت عن الآيات التي تتحدث عن خلق القردة وكانت ثلاث آيات، الأولى من سورة البقرة الآية رقم 65 " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " أما الآية الثانية فهي من سورة الأعراف الآية رقم 166 " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " ومعنى هاتين الآيتين كما ورد فى تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن من ص 476 إلى 479) والتفاسير الأخرى منها تفسير حديث وهو تفسير الشيخ سيد قطب (تفسير في ظلال القرآن) جاء فيه أن اليهود طلبوا أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدساً لا يعملون فيه للمعاش. ثم ابتلى أهل قرية تدعى (آيله) بفلسطين في أيام النبي داود بالحيتان (السمك) تكثر يوم السبت، وتختفي في غيره! وكان ابتلاء لم تصمد له اليهود ! وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع؟ أتتركه وفاء بعهد واستمساكاً بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع اليهود! ومن ثم اعتدوا في السبت على طريقتهم الملتوية. راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت، ويقطعونها عن البحر بحاجز،ولا يصيدونها! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز!
متخيلين أنهم بذلك لم يعصوا الله فكان أمر الله بأن يكونوا قردة مبعدين من رحمة الله أما السورة الثالثة وهى سورة المائدة والسابق الإشارة إليها فهى نزلت كما جاء في تفسير القرطبي أيضا (من ص 2326 إلى 2330) بأن بعض اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله علية وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل – عليهم السلام – فقال : " نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : " ونحن له مسلمون " فلما ذكر عيسى – علية السلام – جحدوا نبوته وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا أشر من دينكم فنزلت هذه الآية التي تعنى أن اليهود الذين نقموا عليكم وعلى دينكم أشر مكانا في الآخرة من الذين عصوا الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وقيل أن الله جعل شبابهم قردة وعجائزهم خنازير وأن مكانهم النار خالدين فيها، ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم يا أخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افتضاحا لأمرهم وفيهم يقول الشاعر كما جاء في تفسير القرطبي السابق الإشارة إليه ص (2329).
فلعنة الله على اليهود*** إن اليهود إخوة القرود
ولم تختلف التفاسير الأخرى من أمهات الكتب مثل تفسير الجامع والألوسي وابن كثير والطبري والاسيوطي عن المعنى السابق ذكره والكل أجمع أن هناك خلاف بين العلماء على أن القرود من نسل اليهود الممسوخين من عدمه فجمهور المفسرين يجتمعون على ذلك ولكن منهم من يقول إنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم آخرين أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا ـ وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم وعلى النقيض ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ إن الله تعالى لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك " وآخرين من العلماء قالوا أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة .
العصاه من أمة المسلمين(/2)
ولكن جاء في البخاري حديث شريف هام جدا لأن الأمر لم يقتصر على اليهود فقط ولكن أيضا بعض العصاه من أمة المسلمين ، فقد جاء في الحديث " َقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ - الأَشْعَرِي وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ - يَعْنِى الْفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا. فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة".
يؤكد هذا الحديث على أن مستحلي الزنا وشرب الخمر والمعازف من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر يأتي فيه الفقير يسال الإحسان فيقال له "فوت علينا بكرة" يعاقبهم الله ويجعل منهم القردة والخنازير الى يوم القيامة وهذا يعنى استمرار عملية العقاب في كل حين وفى كل عصر ويؤكد نفس المعنى حديث أخر جاء أيضا في البخاري جاء فيه " أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي وَأَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَسَنِ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَني مُعَاوِيَةُ بْنِ صَالِحٍ عَنْ حَاتِمِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِى مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الأَشْعَرِي عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ :« لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَتُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمُ الْمَعَازِفُ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ" .
كن فيكون
ونحن هنا لنا وقفة ونتساءل ، هل يعجز الله تعالى عن مسخ هؤلاء العاصين إلى قرود أو نوع منهم ؟ بالطبع لا ، لقد استخدم الله تعالى في أية البقرة وأية الأعراف أمر " كن " وهو مفتاح مفاتيح قدرته أن صح التعبير حينما ذكر قوله تعالى " كونوا قردة خاسئين " وقد استخدم الله أمر " كن " كما جاء فى كتابة الكريم في كل ما يخرق الطبيعة فجاء في خلق سيدنا عيسى عليه السلام والذي خلق بدون أب في سورة ال عمران الآية 47 " قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وفى نفس السورة الآية 59 وفى خلق آدم عليه السلام بدون أم ولا أب فقال تعالى " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " .
لقد حسم الله القضية حينما قال في سورة النحل الآية 40 " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وقوله في سورة مريم الآية 35 " مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وفى سورة يسن الآية 82 "إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " وفى سورة غافر الآية 68 "هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ".
أليس كل ما جاء في هذه الآيات يدل على أن الله تعالى مسخهم بالفعل الى قردة حقيقيين وليس تشبيها لأنه استخدم أمر" كن " لتنفيذ إرادته وقضائه وقدره ؟(/3)
أما ما جاء في حديث رسول الله صلى الله علية وسلم والذي رواه مسلم عن أبن مسعود والسابق الإشارة إليه – جاء في تفسير القرطبي ( ص 477) حديث أخر يتناقض مع الحديث السابق ورواه مسلم أيضا عن أبى سعيد وجابر ، قال جابر : أتى النبي صلى عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال " لا أدرى لعله من القرون التي مسخت " وهذا يعنى أن من مسخوا من خلق الله قد تناسلوا بالفعل وأيضا هناك حديث آخر رواه أبو هريرة وأخرجه مسلم وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقدت أمة من بنى إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها، إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاه شربته"، سؤال جديد أتسآءله ، أليس الفئران هم الذين يجرى عليهم العلماء التجارب لاختبار دواء معين يستخدمه الإنسان فيما بعد لوجود صفات مشتركة بينهم وكونهم من الثدييات؟
وهذا دليل آخر من السنة على تناسل الممسوخين فقد أكد الله تعالى على مسخه للعاصين من اليهود وجعلهم قردة وأكد رسوله على صحة تناسلهم.
العلاقة بين الإنسان والقرود والخنازير
جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أن القردة والخنازير كانوا موجودين قبل نزول أمر الله بمسخ اليهود وأنا أعتقد صحة ذلك وأن القرود من أصل الإنسان هم نوع معين من أنواع القرود وكذلك نوع من الخنازير والعلم الحديث يؤكد على أن الشمبانزي هو أقرب الى صفات الإنسان فقد نشر على موقع محطة C.N.N باللغة العربية فى عددها رقم 1726 بتاريخ 25/9/2002 أن العالم البيولوجي روي بريتن من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كشف في دراسة نشرت مؤخراً أن الطرق الجديدة لمقارنة الجينات بين البشر والشمبانزي أثبتت أن التطابق وصل إلى حد95% وعلى نفس الموقع نشر فى العدد رقم 1846 بتاريخ 22/10/2002 وتحت عنوان " جينات بشرية في قلوب الخنازير " جاء فيها أن الباحثين الإطاليين قد توصلوا إلى تحميل جينات بشرية في قلوب وأكباد وكلى الخنازير في تطور يمكن أن يقود إلى تخليق قطعان من الخنازير يمكنها تقديم أعضاء يمكن زرعها في جسم الإنسان " كما ذكر فى نفس الموضوع أن وبحسب التقرير الذي نشرته وكالة الأسوشيتد برس فقد أظهرت الاختبارات أن الجينات البشرية توجد في أعضاء الحيوانات المركزية، مما جعل بعض العلماء يقولون إن هذه الجينات سوف تكون مصنع لأجيال من الخنازير" .وجاء أيضا فى سياق الموضوع أن دراسة نشرت للأكاديمية الوطنية للعلوم (الأمريكية) توصل باحثون من جامعة ميلان إلى أنهم حينما خلطوا السائل المنوي للخنازير بالحامض النووي البشري لنقل جين يسمى DAF، فإن السائل المنوي المرشح ساهم في تخصيب بويضات الخنزير لإنتاج أجنة منها تحمل جينات بشرية تستخدم كقطع غيار بديلة للأعضاء البشرية " .
كما أعلن العلماء الأمريكيون كما جاء على موقع (إسلام أون لاين ) على شبكة الانترنيت بتاريخ 12/1/2001 أنهم أدخلوا تعديلات وراثية على قرد في أول محاولة لتعديل أقرب الأنواع إلى البشر جينيا، في خطوة قد تسرع بابتكار عقاقير لعلاج أمراض مثل "الزهيمر" (خرف الشيخوخة) والسرطان.
وقال "جيرالد شاتن" بمركز أوريجون لأبحاث الرئيسيات - وهي رتبة الثدييات التي تشمل الإنسان والقرد – إن الفكرة هي تعديل قردة بحيث يمكنها أن تحمل جينات من المعروف أنها تسبب أمراضا للإنسان. مشيرا إلى أنه ربما يمكن استنساخ هذه القردة بحيث تستخدم نسخها المطابقة فى دراسة العقاقير وأنواع مختلفة من العلاج دون الحاجة إلى التشتت الناجم عن الاختلافات الجينية.
وأضاف "شاتن" الذي نشر إنجازه في مجلة "ساينس" العلمية في عددها الصادر الجمعة 12/1/2001 أن العالم ربما يكون مستعدا لاستقبال بعض القردة المعدلة بطريقة خاصة لسد الهوة بين الفئران والإنسان، فالقردة أقرب إلى الإنسان من الفئران والتى لا تمر بالدورة الشهرية كما لا تعاني من سرطان الثدى مثلما تعاني النساء؛ ولهذا فإن عددا محدودا من القردة المخلقة بطريقة خاصة يمكن أن يساعدنا على اقتلاع جذور السرطان.
هكذا جاء العلم الحديث متوافقا مع ما جاء فى القرآن الكريم والسنة ورغم أن اكتشاف خريطة الجينات البشرية منذ سنوات قليلة وبالتحديد فى يوم 26/6/2000م حينما أعلن الرئيس الأمريكي "بل كلينتون" ورئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" بأن بحوث العلماء - التي كانت قد بدأت منذ عام 1990م - نجحت في اكتشاف 90% من الجينوم البشري (الخريطة) المؤلف من ثلاثة مليارات حرف كيميائي من "خريطة الجينات البشرية" وتثبيت مواقعها ومن المؤكد أن السنوات القليلة القادمة سيتم اكتشاف المزيد مما جاء فى القرآن الكريم .
خلق الإنسان(/4)
إن عملية خلق الإنسان جاءت فى القرآن بمنتهى الوضوح وعكس ما جاء فى نظرية دارون تماما فقد نص القرآن الكريم فى سورة غافر الآية رقم 67 " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُو?اْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُو?اْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " أعتقد أنه لا يوجد اوضح من ذلك منذ أن خلق الله آدم من تراب ثم أخذ الله من ظهور بنى آدم ذريتهم كما جاء فى سورة الأعراف الآية 172 " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي? آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ " وجاء فى سورة المؤمنون من الآية 13 " ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "الإنسان ابن هذه الأرض، من ترابها نشأ، وفوقه عاش ومنه تغذَّى، وكلُّ عنصر في جسمه له نظيره في عناصر أمِّه (الأرض) {والله أنْبَتَكم من الأَرضِ نباتاً} (71 نوح آية 17)، اللهم إلا ذلك السرَّ اللطيف الَّذي أودعه الله ونفخه فيه وهو الروح، قال تعالى: {..وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوْحِي...} (15 الحجر آية 30).. وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي ما تحتويه الأرض من عناصر؛ فهو يتكوَّن من الكربون، والأوكسجين، والهيدروجين، والفوسفور، والكبريت، والآزوت، والكالسيوم، والبوتاسيوم، والصوديوم، والكلور، والمغنيسيوم، والحديد، والمنجنيز ، والنحاس، واليود، والفلورين، والكوبالت، والزنك، والسليكون، والألمنيوم، وكلُّ هذه العناصر هي العناصر نفسها المكوِّنة للتراب أيضاً، وإن اختلفت نسبها بين الإنسان والتُّراب، ومن إنسان لآخر. كذلك فإن نسبة الماء من جسم الإنسان، تعادل نسبة البحار إلى اليابسة في الكرة الأرضية، وهذا ما يؤكد خلق آدم من تراب الأرض. وهكذا فإن التُّراب هو الطَّوْر الأوَّل والإنسان هو الطَّوْر الأخير، وهذه الحقيقة نعرفها من القرآن، وقد جاء في تفسير الشيخ سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن) وقد اخترناه فقط لأنه تفسير حديث وليس فيه خلاف مع التفاسير الأخرى في هذا الشأن وجاء فيه " ذلك اصل نشأة الجنس الإنساني.. من سلالة من طين.. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، فتمضي في طريق آخر معروف {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}.. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر: {في قرار مكين}.. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات! والتعبير القرآني يجعل طوراً من أطوار النشأة الإنسانية، تالياً في وجوده لوجود الإنسان.. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل،فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب.
ومن النطفة إلى العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغذى بدم الأم..ومن العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط.. وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة. وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير.. حتى تجيء مرحلة العظام.. {فخلقنا المضغة عظاماً} فمرحلة كسوة العظام باللحم: {فكسونا العظام لحماً}.. وهنا يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي وذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: {فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً}..فسبحان العليم الخبير!
{ثم أنشأناه خلقاً آخر}.. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان،مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان.(/5)
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ {خلقاً آخر} في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياًـ كما تقول النظريات المادية ـ فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنساناً. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني {خلقاً آخر}. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ، ثم يبقى الحيوان حيواناً في مكانه لا يتعداه ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان.
{فتبارك الله أحسن الخالقين}.. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق فيخلق الله.
{فتبارك الله أحسن الخالقين}.. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام . هكذا انتهى شرح الشيخ سيد قطب وجاء متوافقا مع علم التشريح الحديث فسبحان الله، هذا هو التطور الذي حدث للجنين حتى أصبح طفلا وخرج إلى الحياة في أحسن تقويم والذي كان خلقة أسهل وأقل من خلق السماوات والأرض كما جاء فى سورة غافر آية 57 " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ " .
هذا هو الخلق الواضح للإنسان بمراحله وحلقاته وصفها بكل دقة ويتقبلها العقل والمنطق ولا تحتوى على حلقة مفقودة فى خلقة كما جاء فى نظرية دارون التى تقول أن حلقة أو مرحلة غير معلومة ما بين تطور القرد الى إنسان ولسنا هنا فى صدد الرد على مفردات نظرية دارون والتى تثير جدلا حاليا حتى فى أمريكا بولاية كانسس على أهمية تدريسها فى المدارس ويرى الكثيرين من أولياء الأمور تدريس نظرية الخلق كما جاءت فى التوراة .
ملخص افتراضنا
لقد بحثت قى أكثر من 250 موقعاً منتشرة على شبكة الإنترنت تتحدث عن نظرية دارون باللغة العربية منها من يشرحها ويتعاطف معها ومنها من يهاجمها بشدة ومواقع أخرى باللغة الإنجليزية تتحدث على الشبه الواضح بين الإنسان وبين الشمبانزي ومنها موقع يقارن بين الرئيس بوش والشمبانزي للشبة الذي بينهما وليؤكدوا على صحة نظرية دارون ولكنني لم أجد في أي من هذه المواقع ما يتماشى مع الفكرة أو الافتراض الذي نطرحه ونلخصه في الآتي " أن كل ما جاء في القرآن الكريم هو حق وأن ما أثبته العلم الحديث بما يملك من تقنيات عالية بشأن خطوات نشأة الجنين فى بطن أمه جاءت متوافقة مع ما جاء في القرآن وأيضا أثبت العلم أن مكونات جسم الإنسان من معادن هى نفسها الموجودة فى التراب والذى خلق منه آدم عليه السلام وهو أصل الإنسان ، وأن بعض الأنواع من القرود والخنازير من أصل إنسان وليس العكس وهذا نتيجة مسخ بعض العصاه من أهل قرية أيلة بفلسطين إلى قرود وخنازير ولذا أثبت علم الجينات بأن 90 % من جينات الشمبانزي وهو من المرتبة العليا من القرود تتطابق مع جينات الإنسان " .
وليس كما قال دارون اليهودى إن الإنسان أصله قرد ربما لأنه عرف الحقيقة وعرف أنهم أصل القرود فروج لنظريته حتى ينفيها عنهم وأتمنى بألا أتهم بمعاداة السامية .
أنا لا أدعى بأنني رجل دين أو عالم ولكننى مجتهد أقدم هذه الافتراضية الجديدة لا أجزم بصحتها - وإن كنت أميل لذلك – ولكنى أطرحها للمناقشة العامة بين المتخصصين من العلماء ورجال الدين ولكل صاحب فكر يريد أن بدلي بدلوه .
لقد اجتهدت فإن أخطأت فلي أجر.. وأن أصبت فلي أجران.(/6)
الإنسان و العلم و القلم
(1/2)
أمين حسن أحمد يس*
العلم ذلك العملاق الذي وسع بعظمته الكون.. قلما يجد له أهلاً يحسنون معاملته، وينشئون معه علاقة حميمة إلى درجة تجعله لهم غاية، وتجعل منهم له هوية. وإن أهل العلم على الحقيقة هم أولئك الذين قويت فطرتهم العلمية، وملأت قلوبهم وعقولهم؛ فصاروا بها محض علم يتحرك.
في عام 1989م عندما كنت في المرحلة الثانوية من سنين الدراسة، وكانت امتحانات الشهادة الثانوية على الأبواب كانت تضمني مع بعض الزملاء دار فسيحة نستذكر فيها الدروس، وبينما نحن منكبون على الكتب منهمكون في الدراسة ذهبت بفكري بعيداً.. فقلت للزملاء: هل نحن نبذل هذا الجهد في التحصيل لندخل الجامعة حتى تؤهلنا للعمل بعد التخرج؟ واستطردت قائلاً: إن هذه الغاية لا تقنع شيئاً هنا في داخل رأسي، ولا ترضي له طموحاً!.. ولكن قوبل رأي بالاستنكار، ثم قاموا قائلين: هل تريد أن تضيع مستقبلنا؟!..
لما كان الأمر كذلك.. وكانت المعاهد العلمية لا تعدو كونها معتقلات يمارس فيها الزبانية والجلادون عمليات الاضطهاد الإنساني كان ذلك هو السبب الذي لم يجعلها يوماً (مدينة نور مسحورة؛ تحوي الإنسان الأسطورة).. وحيث إن الروح لا ترضى بغير مقامها الأسنى فقد رفضت الواقع المشين.. كان هذا أدعى أن أدخل بها في سبحات روحية أتأمل فيها الحقيقة؛ فأخذت أوغل إلى أن رأيت بعين البصيرة نور الفكرة يمتد على مدى الرؤية حين انبثاقها من عين الوجود (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض وليكون من الموقنين)؛ فعلمت أنه لكي أكون إنساناً فيجب أن أطلب العلم لذاته؛ لا لغيره.. وأدركت أن مفتاح الذات الذي به يدخل المرء عالم نفسه لا يوجد إلا في العلم.. وحتى الإرادة والاختيار لا يكونان إلا بالعلم، وإنك لا تستطيع أن تخترق حجب المادة ليكون لك وجود وراء الطبيعة – متافيزيقيا - إلا بالعلم، ورأيت أن الكون قد أسس تأسيساً علميا؛ فلا بد لمن يستخلف فيه أن يكون مخلوقاً علمياً.. (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).. يقول صاحب الظلال: (إذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم هذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، وتطلق يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين وكشف مافي هذه الأرض من قوى، وطاقات، وكنوز، وخامات، وتسخير.. هذا كله له في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه؛ إذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة والاستعدادات المذخورة كل ما في هذه الأرض من قوى، وطاقات، وكنوز، وخامات، ووهب له من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.
لم تكن الخصيصة التي كرم بها آدم وفضل على الملائكة شيئاً سوى (العلم).. ولم يكن الذي تلقاه آدم علما تلقنيا؛ إذ لو كان الأمر مجرد التلقين لما كانت هناك مزية لآدم على الملائكة، لقد كان آدم عليه السلام وهو ينبأ بأسماء كل شيء يباشر طبيعته البشرية، ويعمل بمقتضى وجوده الإنساني.. يقول صاحب الظلال: ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله ذلك الكائن البشري وهو يسلمه مقاليد الخلافة.. سرُّ القدرة للرمز بالأسماء للمسميات، سرُّ القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها وهي - ألفاظ منطوقة - رموزاً لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. أهـ.. والمعنى أنه إذا قيل لزيد من الناس (جبل) انقدح في ذهنه صورة الجبل، وإذا رآه عرف أن اسمه جبل دون الحوجة للسؤال عنه، يدخل في ذلك المعاني والمحسوسات.. يقول سبحانه وتعالى مخبرا عن خلق الإنسان: (ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) السجدة (9).. نلاحظ أن ذكر السمع، والبصر، والفؤاد جاء بعد ذكر النفخ نفي الروح؛ وليس عند تسوية البدن؛ للدلالة على أن الذي جُعل إثر نفخ الروح هو من الروح كشيء من لوازمه.. ما الروح؟، هل الروح إلا هذا الإنسان؟.. ثم يمضي السياق القرآني ليبين في آية أخرى جدوى وجود السمع والبصر والفؤاد في التكوين الذاتي للإنسان (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).. يقول السيد الألوسي في أرواح المعاني: (المعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها على العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم).. هل يبقى لنا حيال هذا إلا أن نسلم بأن الإنسان أُعد في فطرته إعداداً خاصاً ليكون بموجبه مخلوقاً علمياً.. وإننا لنلمس العلمية واضحة جلية في الأطفال الذين يريدون أن يتعرفوا على كل شيء، ويحاولون اكتشاف الحياة من حولهم.
الإنسان و العلم و القلم (2/2) أمين حسن أحمد يس*
إن الله سبحانه - الذي أعطى بني آدم هذه الإنسانية العلمية الراقية - يأبى إلغاؤها أو تعطيل أيّ جزء منها؛ لأن إلغاءها هو إلغاء لحريتها، وتعطيل شيء منها يعني محو جزء من علمها وكرامتها.. فمن للإنسانية حين تستعبدها الإرادة المستبدة ؟!..(/1)
يقول عبد الرحمن الكواكبي: (فكل إرادة مستبدة تسعى جهدها لإطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، وأخوف ما يخافه المستبدون هو العلم بأن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة.. يدخل في أصحاب هذه الإرادة الحكام الذين يريدون أن تموت الإنسانية لتحيى أهواؤهم.. والزعماء الذين يريدون أن تموت روح الإنسانية؛ فيستنسخوا منها نمطية تقدسهم؛ لتعبد بها ذواتهم.. والعلماء الذين يريدونها أن تنغمس فيهم ليحيى وجودهم.. يا هؤلاء! كفكفوا دمعها، أو كفوا عنها (.
إن الذين يعملون على إنقاذ الإنسانية، ووجودها العلمي، ويحاولون بذلك كفكفة بعض من دموعها في المؤسسات التعليمية يعملون فقط على إحياء الذهنية العلمية الباردة؛ ليُخرِجوا لنا بذلك كائنا علميا مشوّها (ذكيًّا في جانب، ومتبلّدًا في الجوانب الأخرى..).
كنت أتكلم في قضية تمس جوهر الإنسان مع أحد الناس؛ فلم يُبْدِ أيَّ تجاوب؛ واكتفى بمقالة: إنه (مهندس)!!..
إن الذي يفيد من حقيقة العلم هو ذلك الذي يحافظ على الجين العلمي بسلامة الفطرة؛ فيقبل على العلم بالروح الإنساني؛ وليس بالوجود الغريزي..
الشخصية العلمية هي التي تتوجه نحو العلم باستحضار إنسانيتها؛ بما فيها من إستعدادات علمية لتتلقى الحقائق العلمية، ثم تترجم ذلك إلى قناعات تختار بها مواقفها في الحياة.. وهي في ذلك تتبع العلم الذي وصل إليها، وتشكل عليه وجودها..
عندها يتحقق الوجود الإنساني، ويتمثل المرء في مواقف الحياة؛ شاخصا بطابعه الخاص، ونكهته المميزة..
ودون ذلك يتحول الإنسان إلى حيوان بهيم؛ يتبع بغير علم، ويمشي مع القطيع وإن كان يساق إلى الذبح.. فيا لَضيعة الإنسانية حين تسام الهوان، وتساوِم بالأبدان!!..
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا) الإسراء 36..
من العجيب الذي يلفت النظر أن أول ما نزل من القرآن ذكر فيه الإنسان ثلاث مرات مقترنا مع ذكر العلم والقلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) ).. يقول العلامة ابن كثير: (فيه تنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقه، وأن من كَرَمِه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم؛ فشرّفه وكرّمه بالعلم؛ وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم عليه السلام على الملائكة) اهـ.
إن الإنسان في الآيات السابقة ذكر في معرض الخلق، وفي معرض التعليم بالقلم كتتمة للخلق، ثم في معرض الطغيان؛ مما يشير إلى أن الإنسان حين يتخطّى إكرام الله له في التعليم بالقلم يتحوّل إلى طاغية يتمرّد على كل شيء، ويصير وحشا يفتك بالإنسانية.
يقول صاحب الظلال رحمه الله: (وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم.. تعليم الرب للإنسان بالقلم؛ لأن القلم كان وما زال أوسع، وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان).
إن المرء لا يستطيع أن يحافظ على كرامته، وطبيعته البشرية إلا بأن يصحب العلم والقلم إلى أن يواريه الثرى؛ بذلك بزغ فجر الإنسانية، وأشرقت بضيائه الأرض، وانطلقت أشعته تملأ الحياة بالدفء، حينما قامت الحضارة الإنسانية تسطع بأنوار الخلافة.(/2)
الإنفاق من الدخل المحرّم لأداء الحج أو العمرة
السؤال :
يعمل والدي في شركة تصنِّعُ الدُخان ، فهل كسبه حرام ؟ و هل يجوز أن أذهب للعمرة على هذه النفقات ؟ مع العلم أنّه ليس لدي مصدر آخر للكسب .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا شك عندنا في تحريم التدخين ( تعاطي الدخان ) ، لما يترتب عليه من الإضرار بالصحّة ، و إضاعة المال ، و إيذاء الجلساء و المجاورين ، و وجود أحد هذه الأمور في الفعل كافٍ لتحريمه ، فكيف بها جميعاً ؟!
و من المقرر عند أهل العلم أنّ الله تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ، و من ذلك تحريم ثمن الكلب ، و مهر البغيّ ، و حلوان الكاهن ، الثابت في سنن أبي داود و النسائي و مسند أحمد بإسنادٍ صحيح .
و مثل ذلك لعنُ عشرةٍ بسبب الخمرة ، فقد روى الترمذي و ابن ماجة و أحمد عن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : « لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِىَ لَهَا وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ » .
و روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
و يُستفاد من مجموع هذه الأخبار أنّ من أعان على حرامٍ فعليه مثل وِزر فاعله ، كما أنّ من أعان على خيرٍ فله مثل أجر فاعله .
فما دام التدخين حراماً فإن ثمنه حرامٌ أيضاً ، و كذلك العمل في تصنيعه ، أو تعليبه ، أو نقله ، أو تسويقه ، أو تقديمه على سبيل الضيافة أو الإهداء ، و كلّ ما ترتّب على هذه الأعمال من عائدٍ مادي ( ثمناً أو إجارةً أو نحو ذلك ) فهو حرام .
و على من ابتُلي بشيءٍ من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى ، و يُقلِع عنه على الفور إلا أن يكون مضطراً ، و يلتمس رزقه في بابٍ آخَر ، فأبواب الخير كثيرةٌ ، و من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه .
و إذا أراد الحج أو العمرة فليتخيّر لنفقته فيهما أطيَب ماله ، لأنّ الله طيّبٌ لا يَقبلُ إلا طيّباً ، فإن لم يجد من المال الحلال ما يكفيه مؤونة الزاد و الراحلة فليصبر حتى يوسّع الله عليه ، و ما ذلك على الله بعزيز .(/1)
الإيمان ينبوع السعادة
الدكتور حسان شمسي باشا
ليست السعادة في وفرة المال .. ولا سطوة الجاه .. ولا كثرة الولد .. ولا نيل المنفعة .. ولا في العلم المادي .
السعادة شيء يشعر به الإنسان بين جوانحه : صفاء نفس .. وطمأنينة قلب .. وانشراح صدر .. وراحة ضمير .
السعادة – كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي - : " شيء ينبع من داخل الإنسان .. ولا يستورد من خارجه . وإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية .. والقلب الإنساني .. فإن الإيمان بالله وبالدار الآخرة هو ماؤها .. وغذاؤها .. وهواؤها "
ويقول أديب مصر ( مصطفى لطفي المنفلوطي ) رحمه الله : " حسبك من السعادة في الدنيا : ضمير نقي .. ونفس هادئة .. وقلب شريف " .
يروى أن زوجا غاضب زوجته ، فقال لها متوعدا : لأشقينك . قالت الزوجة في هدوء : لا تستطيع أن تشقيني ، كما لا تملك أن تسعدني . فقال الزوج : وكيف لا أستطيع ؟ فقالت الزوجة : لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني ، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها ، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون !.. فقال الزوج في دهشة وما هو ؟ قالت الزوجة في يقين : إني أجد سعادتي في إيماني ، وإيماني في قلبي ، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي !..
وتجاربنا في الحياة – كما يقول الدكتور أحمد أمين – تدلنا على أن الإيمان بالله مورد من أعذب موارد السعادة ومناهلها . وإن أكبر سبب لشقاء الأسر وجود أبناء وبنات فيها لا يرعون الله في تصرفاتهم ، وإنما يرعون أهواءهم وملذاتهم . وإذا فشا الدين في أسرة ، فشت فيها السعادة . ويقول الدكتور كامل يعقوب : " والحقيقة التي لامستها في حياتي – كطبيب – أن أوفر الناس حظا من هدوء النفس هم أكثر نصيبا من قوة الإيمان .. وأشدهم تعلقا بأهداب الدين " .
وقد حدث ذات مرة أن كان أحد الأطباء الناشئين يمر مع أستاذه على بعض المرضى في أحد المستشفيات الجامعية . وكان الأستاذ رجلا أيرلنديا واسع العلم متقدما في السن . وجعل الطبيب الشاب – كلما صادف مريضا قد زالت عنه أعراض المرض – يكتب في تذكرة سريره هذه العبارة : " شفي ويمكنه مغادرة المستشفى " . ولاحظ الأستاذ علائم الزهو على وجه تلميذه .. وقال له وهو يرنو إليه : اشطب كلمة " شفي " يا ولدي .. واكتب بدلا منها كلمة " تحسن " .. فنحن لا نملك شفاء المرضى .. ويكفينا فخرا أن يتحسنوا على أيدينا .. أما الشفاء فهو من عند الله وحده " .
ويعلق على ذلك الدكتور كامل يعقوب قائلا : " ولست أشك في أن مثل هذا الإيمان العميق – إلى جانب العلم الغزير هو من دواعي الغبطة الروحية .. والسعادة الحقة " .
السعادة .. في سكينة النفس :
وسكينة النفس – بلا ريب – هي الينبوع الأول للسعادة . " هذه السكينة – كما يقول الدكتور القرضاوي في كتابه القيم ( الإيمان والحياة ) – روح من الله ، ونور يسكن إليه الخائف ، ويطمئن عنده القلق ، ويتسلى به الحزين " .
وغير المؤمن في الدينا تتوزعه هموم كثيرة ، وتتنازعه غايات شتى ، وهو حائر بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه . وقد استراح المؤمن من هذا كله ، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة عليها يحرص ، وإليها يسعى ، وهي رضوان من الله تعالى . قال تعالى : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " طه 122 – 123 .
وأي طمأنينة ألقيت في قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم عاد من الطائف ، دامي القدمين ، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم ، فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السماء ، يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحية النابضة ، فكانت على قلبه بردا وسلاما : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي .. وقلة حيلتي .. وهواني على الناس يا أرحم الراحمين . أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي .. إلى من تلكني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي .. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك .. لك العقبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
ومن أهم عوامل القلق تحسر الإنسان على الماضي ، وسخطه على الحاضر ، وخوفه من المستقبل ، ولهذا ينصح الأطباء النفسيون ورجال التربية أن ينسى الإنسان آلام أمسه ، ويعيش في واقع يومه ، فإن الماضي بعد أن ولى لا يعود . وقد صور هذا أحد المحاضرين بإحدى الجامعات الأمريكية تصويرا بديعا حين سألهم : كم منكم مارس نشر الخشب ؟ فرفع كثير من الطلبة أصابعهم . فعاد يسألهم : كم منكم مارس نشر نشارة الخشب ؟ فلم يرفع أحد منهم إصبعه . وعندئذ قال المحاضر : بالطبع ، لا يمكن لأحد أن ينشر نشارة الخشب فهي منشورة فعلا .. وكذلك الحال مع الماضي ، فعندما ينتابكم القلق لأمور حدثت في الماضي ، فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة !!..
السعادة .. في الرضا :(/1)
والرضا درجة أعلى من درجة الصبر ، لا يبلغها إلا من أتاه الله إيمانا كاملا وصبرا جميلا ، فترى الراضي مسرورا راضيا فيما حل به ، سواء أكان ذلك علة أم فقرا أم مصيبة ، لأنها حدثت بمشيئة الله تعالى ، حتى قد يجد ما حل به نعمة أنعم الله بها عليه . ولهذا كان من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأسألك الرضا بالقضاء .. " . وقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الراضين فقال : " لأحدهم أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء" رواه أبو يعلى .
ويحدثنا التاريخ أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كف بصره ، وكان مجاب الدعوة ، يأتي الناس إليه ليدعو لهم فيستجاب له ، فقال له أحدهم : يا عم ، إنك تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك ! فقال رضي الله عنه : يا بني ، قضاء الله عندي أحسن من بصري .
والساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعما ، فحياتهم كلها ظلام وسواد . أما المؤمن الحق فهو راض عن نفسه ، راض عن ربه ، وهو موقن أن تدبير الله له أفضل من تدبيره لنفسه ، يناجي ربه يقول " بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " آل عمران 26
السعادة .. في القناعة والورع
طبع الإنسان على حب الدنيا وما فيها ، وليس السعيد هو الذي ينال كل ما يرغب فيه .. إن الأسعد منه هو الذي يقنع بما عنده . قال سعد بن أبي وقاص لابنه : " يا بني ، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة .. فإن لم تكن قناعة .. فليس يغنيك مال .. " .
وما أجمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا . رواه الترمذي .
قال حاتم الأصم لأولاده : إني أريد الحج . فبكوا وقالوا : إلى من تكلنا ؟فقالت ابنته لهم : دعوه فليس هو برازق . فسافر فباتوا جياعا وجعلوا يوبخون البنت فقالت : اللهم لا تخجلني بينهم . فمر بهم أمير البلد وطلب ماء ، فناوله أهل حاتم كوزا جديدا وماء باردا ، فشرب وقال : دار من هذه ؟ فقالوا : دار حاتم الأصم ، فرمى فيها قلادة من ذهب ، وقال لأصحابه : من أحبني فعل مثلي ، فرمى من حوله كلهم مثله . فخرجت البنت تبكي ، فقال أمها : ما يبكيك ؟ قالت : قد وسع الله علينا ، فقالت : مخلوق نظر إلينا فاستغنينا ، فكيف لو نظر الخالق إلينا ؟
وروى الطبري في تاريخه أن عمر بن عبد العزيز أمر - وهو في خلافته – رجلا أن يشتري له كساء بثمان دراهم ، فاشتراه له ، وأتاه به فوضع عمر يده عليه ، وقال : ما ألينه وأحسنه ! فتبسم الرجل الذي أحضره ، فسأله عمر : لماذا تبسمت ؟ فقال : لأنك يا أمير المؤمنين أمرتني قبل أن تصل إليك الخلافة أن أشتري لك ثوبا من الخز ، فاشتريته لك بألف درهم ، فوضعت يدك عليه فقلت : ما أخشنه ! وأنت اليوم تستلين كساء بثمانية دراهم؟ فقال عمر : يا هذا .. إن لي نفسا تواقة إلى المعالي ، فكلما حصلت على مكانة طلبت أعلى منها ، حصلت على الإمارة فتقت إلى الخلافة ، وحصلت على الخلافة فتاقت نفسي إلى ما هو أكبر من ذلك وهي الجنة .
السعادة .. في اجتناب المحرمات :
أي سعادة ينالها المؤمن وهو يتجنب ما حرم الله . وأي لذة يجدها في قلبه عندما يحيد عن طريق الزلل والفجور . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا . رواه أحمد
ويقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله : " إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله ، فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال ، فإذا لم ترتدع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس ، فإذا لم ترجع فاعلم أنك في تلك الساعة انقلبت إلى حيوان " .
وفي هذا المعنى يقول نابغة بن شيبان :
إن من يركب الفواحش سرا حين يخلو بسره غير خالي
كيف يخلو وعنده كاتباه شاهداه وربه ذو الجلال
والمعاصي تذهب الخيرات وتزيل النعم . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة "
ومن كبح هواه ، ولم يسمح لشهواته أن تتسلط عليه سمي عاقلا مالكا لهواه ، وسعد في دنياه وآخرته . فقد ذكر عن أحد الملوك : أنه زار عالما زاهدا ، فسلم عليه ، فرد الزاهد السلام بفتور ولم يحفل له . فغضب الملك وقال له : ألا تحفل بي وأنا ملكك ؟ فابتسم الزاهد وقال له : كيف تكون ملكي وعبيدي كلهم ملوكك . فقال الملك : ومن هم ؟ فقال : هم الشهوات .. هي ملوكك وهم عبيدي !!
السعادة .. في شكر النعم :
وكثير من الناس يظن أن أكبر نعم الله تعالى علينا وأهمها هي نعمة المال ، وينسى نعمة الصحة والعافية ، ونعمة البصر والعقل والأهل والأبناء وغيرها كثير .(/2)
والسعادة أن تقنع بأن الله تعالى سيتولى أبناءك الصالحين ، فتسعى لإنشائهم النشأة الصالحة. فقد ترك عمر بن عبد العزيز ثمانية أولاد ، فسأله الناس وهو على فراش الموت : ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟ قال : تركت لهم تقوى الله ، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى . وقد خلف عمر لكل واحد من أبنائه اثني عشر درهما فقط ، أما هشام بن عبد الملك الخليفة فقد خلف لكل ابن من أبنائه مئة ألف دينار . وبعد عشرين سنة ، أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز يسرجون الخيول في سبيل الله ، منفقين متصدقين من كثرة أموالهم ، أما أبناء هشام بن عبد الملك فقد كانوا يقفون في مسجد دار السلام ، في عهد أبي جعفر المنصور ، يسألون عباد الله من مال الله تعالى .
وأخيرا تذكر نعم الله عليك تسعد بما لديك .. فأنت تعيش وسط جو مليء بنعم الله ، ولا بد للإنسان من أن يدرك تلك النعم ، فكم من الناس لا يدرك فضل الله علينا إلا حينما يحرم إحدى تلك النعم ؟
يقول الدكتور مصطفى السباعي : " زر المحكمة مرة في العام لتعرف فضل الله عليك في حسن الخلق .. وزر المستشفى مرة في الشهر لتعرف فضل الله عليك في الصحة والمرض .. وزر الحديقة مرة في الأسبوع لتعرف فضل الله عليك في جمال الطبيعة ..وزر المكتبة مرة في اليوم لتعرف فضل الله عليك في العقل. وزر ربك كل آن لتعرف فضل الله عليك في نعم الحياة "
ويقول أحدهم : لتكن لك يا بني ساعة في يومك وليلك .. ترجع فيها إلى ربك ومبدعك مفكرا في مبدئك ومصيرك .. محاسبا لنفسك على ما أسلفت من أيام عمرك .. فإن وجدت خيرا فاشكر .. وإن وجدت نقصا فجاهد واصطبر ".(/3)
الإيمان بأنبياء الله ورسله
أولا: تعريفات:
1- النبي.
2- الرسول.
3- الفرق بين الرسول والنبي.
4- الآية والمعجزة.
5- الكرامة.
ثانيا: قواعد في هذا الباب:
1- النبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح.
2- ما من نبي إلا ورعى الغنم.
3- كل الأنبياء بلَّغوا ما أرسلوا به.
4- الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء.
ثالثا: الإيمان بالأنبياء والرسل:
1- الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن.
2- الأنبياء والرسل المذكورون في السنة.
3- المختلف في نبوتهم.
رابعا: خصائص الأنبياء والرسل:
1- الوحي.
2- العصمة.
3- البشرية.
4- خيرية النسب.
5- أحرار بعيدون عن الرق.
6- لا يكونون إلا رجالاً.
7- تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
8- تخيير الله لهم عند الموت.
9- لا تأكل الأرض أجسادهم.
10- يكونون أحياء في قبورهم.
11- يقبرون حيث يموتون.
خامسا: دلائل النبوة:
1- الآيات والمعجزات.
2- بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين.
3- النظر في أحوال الأنبياء.
4- النظر في دعوة الأنبياء.
5- نصر الله وتأييده لهم.
سادسا: وظائف الأنبياء والرسل:
1- البلاغ المبين.
2- الدعوة إلى توحيد الله تعالى.
3- التبشير والإنذار.
4- إصلاح النفوس وتزكيتها.
5- تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة.
6- إقامة الحجّة.
7- سياسة الأمّة.
سابعا: فوائد متنوعة:
1- أنواع الوحي.
2- عدد الأنبياء والرسل.
3- أولو العزم من الرسل.
4- الأنبياء العرب.
5- حاجة العباد إلى بعث الرسل وإرسالهم.
6- مقتضى بشرية الأنبياء والرسل.
7- الخطأ في إصابة الحقّ منهم لا ينقض عصمتهم.
8- اليهود والنصاري ينسبون القبائح إلى الأنبياء.
9- كرامات الأولياء.
ثامنا: مسائل:
1- تفضيل الأنبياء والرسل بعضهم على بعض.
2- نبوة النساء.
تعريفات:
1- النبي:
النبيُّ مأخوذٌ من النبأ، أي: الخبر، ومنه: قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1، 2]، قال ابن جرير الطبريُّ: "يعني: عن الخبر العظيم"([1]).
والنبيُّ مُخْبَرٌ ومُخْبِرٌ:
فهو مخبَرٌ أوحى الله تعالى إليه بالخبر، قال تعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، قال البغويُّ: "أي: مَن أخبرك بأنِّي أفشيت السر؟"([2]).
وهو مخبِرٌ عن الله تعالى فيما يبلِّغه للنّاس، قال تعالى: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، قال ابن كثير: "أي: أخبر ـ يا محمد ـ عبادي أنِّي ذو رحمة وعذاب أليم"([3]).
فعليه يكون الأصل في النبيِّ الهمز، قال النحويُّون: "أصله الهمز، فتُرِك همزه"([4])، ومنه قراءة نافع: {يَاأَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، قال الشاطبيُّ:
وجمعًا وفردًا في النبِيءِ وفي النبو ءَةَ الهمزَ كلٌّ غيرَ نافعٍ ابدلا
قال أبو شامة: "وتقدير البيت: كلّ القراء غير نافع أبدل الهمز في لفظ النبيء مجموعًا ومفردًا، فالمجموع نحو: {الأنبياء}، {النبيين}، {النبيُّون}، والمفرد نحو: {النبيُّ} و{نبيّ} و{نبيًّا}، وفي لفظ النبوءة أيضًا، يريد قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية:16]، فلهذا كانت في البيتِ منصوبة على الحكاية"([5]).
وأمّا الحديث المروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لمن قال له: يا نبِيء الله: ((لستُ بنبِيء الله، ولكني نبيُّ الله))؛ فلا يصحُّ([6]).
وقيل: النبيُّ مأخوذٌ من الرِفعة، سُمِّيَ نبيًّا لرِفعة محلِّه عن سائر النّاس، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57]، ممّا جاء في تفسير هذه الآية قول أبِي السعود: "هو شرف النبوة والزلفى عند الله عز وجل"([7]).
2- الرسول:
قال الراغب الأصفهانِي: "أصل الرَّسل: الانبعاث على التؤدة... وتصوِّر منه تارة الرفق، فقيل: على رسلك، إذا أمرته بالرِّفق، وتارة الانبعاث فاشتق منه الرسول"([8]).
قال الجرجانِي: "الرسول: إنسانٌ بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام. والرسول في الفقه: وهو الذي أمره المرسل بأداء الرسالة بالتسليم أو القبض"([9]).
قال ابن منظور الإفريقي: "الإرسال: التوجيه، وقد أرسل إليه. والاسم: الرِّسالة، والرَّسالة، والرسول، والرسيل"([10]).
فإذا بعثت شخصًا في مهمة فهو رسولك، ومنه: قول ملكة سبأ: {مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، قال قتادة: "قالت: إنِّي باعثة إليهم بِهدية..."([11]).
وعليه سُمِّي من بلَّغوا عن الله رسلَ الله؛ لأنّهم موجَّهون ومُبعَثون من قِبل الله تعالى، مكلَّفون بحمل الرسالة وتبليغها ومتابعتها، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 74]، قال البيضاويُّ: "{ثُمَّ بَعَثْنَا}: أرسلنا"([12]).
3- الفرق بين الرسول والنبي:(/1)
دلَّت الآية الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52] على الفرق بين الرسول والنبي؛ لأنّ الله عزّ وجلّ عطف بينهما بالواو وذلك تقتضي المغايرة.
وأمّا ما روي عن أبِي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم وفَى عدة الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا))([13])؛ ففي ثبوته نزاعٌ بين أهل العلم.
وأخذ بدلالة الآية في التفريق بين الرسول والنبيِّ جمهور أهل العلم من المفسرين وغيرهم.
قال البيضاويُّ: "الرسول من بعثه الله بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها، والنبيّ يعمُّه ومَن بعثه لتقرير شرعٍ سابقٍ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام. ولذلك شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم علماءَ أمته بِهم، فالنبيُّ أعمُّ من الرسول... وقيل: الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منَزَّلا عليه، والنبيّ غير الرسول مَن لا كتاب له. وقيل: الرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبيّ يقال له ولِمَن يوحى إليه في المنام"([14]).
وقال القرطبيُّ: "الرسول والنبيّ اسمان لمعنيين؛ فإنّ الرسول أخصّ من النبيّ، وقدَّم الرسول اهتمامًا بمعنى الرسالة، وإلاَّ فمعنى النبوة هو المتقدّم، ولذلك ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: (وبرسولك الذي أرسلت) فقال له: ((قل: آمنت بنبيِّك الذي أرسلت))خرَّجه في الصحيح([15]). وأيضًا فإنّ في قوله: (برسولك الذي أرسلت) تكرير الرسالة، وهو معنى واحد، فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: ((ونبيِّك الذي أرسلت)) فإنّهما لا تكرار فيهما، وعلى هذا فكلّ رسولٍ نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً؛ لأنّ الرسول والنبيَّ قد اشتركا في أمر عام هو النبأ، وافترقا في أمرٍ خاصٍ وهي الرسالة، فإذا قلت: محمدٌ رسولٌ من عند الله؛ تضمن ذلك أنّه نبيٌّ ورسول الله، وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم"([16]).
وقال النسفيُّ: "والفرق بينهما أنّ الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنَزَّل عليه، والنبىّ من لم ينْزل عليه كتابٌ، وإنّما أُمِر أن يدعو إلى شريعة مَن قبله. وقيل: الرسول واضع شرع، والنبيُّ حافظُ شرع غيره"([17]).
وقال الشوكانِي: "قيل: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانًا ومحاورته شفاهًا، والنبيّ الذي يكون إلهامًا أو منامًا. وقيل: الرسول من بعث بشرع وأُمِر بتبليغه، والنبيّ من أُمِر أن يدعو إلى شريعة مَن قبله ولم ينْزل عليه كتاب، ولا بدَّ لهما جميعًا من المعجزة الظاهرة"([18]).
فهذا هو المشهور؛ أنّ الرسول أخصّ من النبيّ، فالرسول هو من أوحي إليه بشرعٍ وأُمِر بتبليغه، والنبيُّ من أُوحي إليه ولم يؤمر بتبليغه، وعلى ذلك فكلّ رسول نبيِّ، وليس كل نبيِّ رسولاً([19]).
ولكن هذا التفريق مدفوعٌ بعدّة أمور:
1- أنّ الله نصّ على أنّه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} [الحج:52]، فإذا كان الفارق بينهما هو الإبلاغ فالإرسال يقتضي من النبيِّ البلاغ.
2- أن ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا يُنْزِل وحيَه ليكتَم ويدفَن في صدر واحد من الناس، ثم يموت هذا العلم بموته.
3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عُرضت عليَّ الأمم فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحد...))([20])؛ فدلّ هذا على أنّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ، وأنّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم.
واختار البعض أنّ الرسول من أوحي إليه بشرعٍ جديدٍ، والنبيُّ هو المبعوث لتقرير شرع مَن قبله([21]).
وقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبيٌّ قام نبيٌّ، كما ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلَّما مات نبيٌّ قام نبيٌّ، وإنَّه ليس بعدي نبيٌّ))([22]).(/2)
وأنبياء بني إسرائيل كلهم كانوا مبعوثين بشريعة موسى التوارة، وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحيَ الله إليهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، فالآية تفيد أنّ النبيّ يوحى إليه ويوجب على قومه أمورًا، وهذا لا يكون إلاّ مع وجوب التبليغ.
ولكنّ هذا التفريق كذلك مدفوعٌ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر:34]، فيوسف عليه السلام نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، لم يأتِ بشرعٍ جديد، ومع ذلك فهو رسولٌ بنصِّ هذه الآية.
وعليه فإنّ التفريق المختار أن الرسول: هو من بُعِث إلى قومٍ مخالفين فدعاهم إلى دين الله، سواءٌ دعاهم بشرعٍ جديدٍ أو بشرع مَن قبله، والنبيّ: هو من بُعِث إلى قومٍ موافقين فأقام فيهم دين الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "النبيّ: هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلّغه رسالة من الله إليه فهو رسول. وأمَّا إذا كان إنّما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالته؛ فهو نبيّ وليس برسول، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]... فذكر إرسالاً يعمُّ النوعين، وقد خصَّ أحدَهما بأنّه رسول، فإنّ هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنّه أول رسول بُعِثَ إلى أهل الأرض، وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس، وقبلهما آدم كان نبيًا مكلَّمًا"([23]).
فيوسف أُرسِل إلى أقوامٍ مخالفين مشركين، فبلَّغهم دينَ الله بشريعةِ مَن قبله.
4- الآية والمعجزة:
الآية: هي العلامة، قال نبي الله زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبّ اجْعَل لِّى ءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران:41]، قال القرطبيُّ: "طلب آية أي: علامةً يُعرف بِها صحةُ هذا الأمر"([24]).
المعجزة: اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير([25]).
5- الكرامة:
قال سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "الكرامة: أمرٌ يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إمّا بدعاء أو أعمال صالحة، لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها"([26]).
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدَّها يقول: هي خرق الله العادةَ لوليه، لحكمة أو مصلحة تعود عليه أو على غيره"([27]).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "الكرامة: أمرٌ خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين حيًّا أو ميتًا؛ إكرامًا له، فيدفع عنه ضرًا، أو يحقق له نفعًا، أو ينصر به حقًّا"([28]).
([1]) تفسير الطبري (30/1).
([2]) تفسير البغوي (4/364).
([3]) تفسير ابن كثير (2/554).
([4]) انظر: مفردات الراغب مادة (نبى).
([5]) إبراز المعانِي من حرز الأمانِي (2/295).
([6]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/231) من حديث أبِي ذرّ، وقال: "حديث صحيحٌ على شرط الشيخين"، قال الذهبيُ: "بل منكر، لم يصحّ، قال النسائي: حمران بن أعيَن ليس بثقة. وقال أبو داود: رافضي، روى عن موسى بن عبيدة، وهو واهٍ. ولم يثبت أيضًا عنه عن نافع عن ابن عمر قال: ما همز رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء، وإنّما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم" التلخيص (2/231). وأخرجه العقيليّ في الضعفاء (3/81)، والصيداوي في معجم الشيوخ (ص266) من حديث ابن عبّاس به، وفي سنده مجهولٌ.
([7]) تفسير أبو السعود (5/271).
([8]) المفردات مادة (رسل).
([9]) التعريفات (ص: 115).
([10]) لسان العرب مادة (رسل).
([11]) أخرجه عنه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: الدرّ المنثور (6/357).
([12]) تفسير البيضاوي (3/209).(/3)
([13]) هو جزءٌ من حديث طويل، أخرجه أحمد في مسند أبِي أمامة عنه به (5/265)، والطبرانِي في الكبير (7871)، وفيه علي بن يزيد الألهانِي، قال الهيثميّ في المجمع (1/159): "ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف"، قال البخاريُّ في التاريخ الكبير (6/301): "علي بن يزيد أبو عبد الملك الألهاني الدمشقي منكر الحديث". وأخرجه ابن حبّان في صحيحه من غير طريق علي بن يزيد (2/77)، وفيه إبراهيم بن هشام الغسانِي، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/142): "كذاب"، وقال الذهبيّ في الميزان (1/73): "متروك، وكذَّبه أبو زرعة". وقد أطال الألبانِي في تخريجه في الصحيحة، وانتهى إلى صحته لغيره (2668)، والله أعلم.
([14]) تفسير البيضاوي (4/133).
([15]) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (2710) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
([16]) تفسير القرطبيّ (7/298).
([17]) تفسير النسفي (3/108).
([18]) فتح القدير (3/461).
([19]) انظر: شرح الطحاوية (ص: 167)، ولوامع الأنوار البهيّة (1/49).
([20]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف الجنة بغير حساب ولا عذاب (220).
([21]) انظر: تفسير الألوسي (17/157)، اختاره د/ عمر الأشقر في كتابه الرسل والرسالات (ص: 15).
([22]) أخرجه ابن حبان (الإحسان 10/418).
([23]) النبوات (ص: 281).
([24]) تفسير القرطبي (4/80).
([25]) انظر: لوامع الأنوار البهية (2/289-290).
([26]) تيسير العزيز الحميد (413).
([27]) الدرر السنية (11/211).
([28]) فتاوى اللجنة الدائمة 1/388).
ثانيا: قواعد في هذا الباب:
1- النبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح:
يذكر علماء التفسير والسِّيَر أسماءَ كثيرٍ من الأنبياء نقلاً عن بني إسرائيل، أو اعتمادًا على أقوالٍ لم تثبت صحتها، فهذا كله لا يُثبت ولا ينفى؛ لأنّ أخبار بني إسرائيل تحتمل الصدق والكذب.
أمّا إذا خالفت هذه الأقوال شيئًا ممّا ثبت عند المسلمين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ترفَض جملة وتفصيلاً، كقول من قال: إنّ جرجيس وخالد بن سنان([1]) كانا نبيين بعد عيسى([2]).
فقد ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى بن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى النّاس بابن مريم، والأنبياء أولاد علاَّت، ليس بيني وبينه نبيّ))([3]). قال ابن كثير: "فيه ردٌّ على من زعم أنَّه بعث بعد عيسى نبيٌّ يقال له: خالد بن سنان"([4]).
2- ما من نبي إلا ورعى الغنم:
وردت الأحاديث الصحيحة في أنّ هذا الأمر أشبه بالقاعدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))([5]).
قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء رعيَ الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلَّفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأنّ في مخالطتها ما يحصِّل لهم الحلمَ والشفقة؛ لأنَّهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة أَلِفُوا من ذلك الصبرَ على الأمة، وعرفوا اختلافَ طباعها، وتفاوتَ عقولها، فجبروا كسرَها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهدَ لها، فيكون تحمُّلهم لمشقَّة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصَّت الغنم بذلك لكونِها أضعف من غيرها، ولأنّ تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونَها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء"([6]).
3- كل الأنبياء بلَّغوا ما أرسلوا به:
هذه قاعدة في جميع الأنبياء، أنّهم بلَّغوا رسالة ربّهم، قال تعالى: {وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
جاء في تفسير الآية قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنّه قد بلَّغ))([7]).
قال محمد خليل هرّاس: "ويجب الإيمان بأنّهم بلَّغوا ما أرسلوا به على ما أمرهم الله عزّ وجلّ، وبيَّنوه بيانًا لا يسع أحدًا ممّن أُرسلوا إليه جهله"([8]).
4- الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء:(/4)
الكفر برسول واحدٍ كفرٌ بجميع الرسل، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160]، ومن المعروف أنّ كلَّ أمّة كذَّبت رسولها، إلاّ أن التكذيب برسول واحدٍ يعدّ تكذيبًا بالرسل كلهم، ذلك أنّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحدٍ، ومرسلهم واحد، فهم وِحدة يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدِّق المتأخر المتقدم([9]).
قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أرأيتَ قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، و{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، و{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، وإنَّما أرسل إليهم رسولٌ واحدٌ؟! قال: إنّ الآخِر جاء بِما جاء به الأول، فإذا كذَّبوا واحدًا فقد كذَّبوا الرسل أجمعين([10]).
قال الثعالبيّ: "إن تكذيب نبي واحد يستلزم تكذيب جميع الأنبياء؛ لأنَّهم كلهم يدعون الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر"([11]).
وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر، قال تعالى: {الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء:150، 151].
ومدح سبحانه وتعالى الذين يؤمنون بجميع الرسل، قال تعالى: {ءامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
قال الفراء: "أي: لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما فعلت اليهود والنصارى"([12]).
وقال ابن كثير: "المؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنَزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير. وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله؛ حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين"([13]).
([1]) أخرج الحاكم بعضًا من أخباره في المستدرك (2/655)، وردّ نبوته لمعارضته لحديث البخاري الصحيح.
([2]) انظر: فتح الباري (6/489).
([3]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا? (3442).
([4]) تفسير ابن كثير (2/36).
([5]) البخاري في الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط (2262).
([6]) فتح الباري (4/441).
([7]) البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? (4487) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([8]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 64).
([9]) انظر: الرسل والرسالات، د/ عمر الأشقر (ص: 24-25).
([10]) انظر: تفسير البغوي (3/392).
([11]) تفسير الثعالبي (3/151).
([12]) انظر: تفسير القرطبي (2/141).
([13]) تفسير ابن كثير (1/343).
ثالثا: الإيمان بالأنبياء والرسل:
الإيمان بالرسل والأنبياء أصلٌ من أصول الدين، ولا يتمّ إيمانُ أحدٍ إلاّ بالإيمان بجميعهم على سبيل الإجمال، وبمن عرفنا اسمه منهم على وجه التفصيل.
قال محمّد خليل هرّاس: "وعلينا أن نؤمن تفصيلاً بمن سمَّى الله في كتابه منهم، وهم خمسة وعشرون، ذكرهم الشاعر في قوله:
فِي {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} منهم ثمانية من بعد عشرٍ ويبقى سبعة وهمُ
إدريسُ هودُ شعيبٌ صالحٌ وكذا ذو الكفلِ آدمُ بالمختارِ قد خُتِمُوا
وأمّا ما عدا هؤلاء من الرسل والأنبياء فنؤمن بِهم إجمالاً على معنى الاعتقاد بنبوتِهم ورسالتهم، دون أن نكلِّف أنفسنا البحثَ عن عدَّتِهم وأسمائهم، فإنّ ذلك ممّا اختصّ الله بعلمه؛ قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]"([1]).
1- الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن:
تقدَّم أنّ الله ذكر في كتابه خمسةً وعشرين نبيًّا بأسمائهم، وهم: آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى وهارون وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمّد عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.(/5)
2- الأنبياء والرسل المذكورون في السنة:
1- شيث:
قال ابن كثير: "وكان نبيًّا بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبّان في صحيحه عن أبِي ذرّ مرفوعًا أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة"([2]).
2- يوشع بن نون:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجلٌ قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بِها ولَمَّا يبْنِ، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلِفاتٍ، وهو ينتظر أولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنتِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئًا))([3]).
والدليل على أنّ هذا يوشع بن نون قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس))([4]).
3- المختلف في نبوتهم:
1- ذو القرنين:
ورد ذكر ذي القرنين في آخر سورة الكهف، وممّا أخبر الله به أنّه خاطبه فقال تعالى: {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86]، فكيف كان هذا الخطاب: هل كان معه نبيٌّ؟ أو كان هو نبيًّا؟ اختلف أهل العلم في ذلك:
فجزم بنبوته الفخر الرازي، قال ابن حجر: "وهو مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو، وعليه ظاهر القرآن"([5]).
وذهب إلى أنّ ذا القرنين ملِكٌ صالحٌ وليس بنبيٍّ عليّ بن أبِي طالب رضي الله عنه([6]).
والراجح فيه أن يتوقَّف في القول بنبوتِه؛ لأنّه صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((ما أدري ذا القرنين نبيًّا أم لا؟...)) الحديث([7]).
2- تُبَّع:
ورد ذكر تبَّع في القرآن الكريم، قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [قّ:12-14]، فقوم نوح وإخوان لوط نسبة أقوامٍ إلى أنبيائهم، فهل قوم تبّع من نفس الباب، فيكون تبَّع نبيًّا من الأنبياء بعث إلى قومٍ فكذبوه فأهلكهم الله أم أنّ الإضافة فيه كالإضافة في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17]؟
والراجح أنّه لم يكن نبيًّا، وقد حصل الشكّ فيه من النبيّ صلى الله عليه وسلم: هل لُعِن كما لُعِن قومُه أم لا؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أدري أتبعٌَّ لَعِينا كان أم لا؟)) الحديث([8]).
3- الخضر:
الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علمًا كما حكى الله ذلك في سورة الكهف([9])، ذهب عددٌ من أهل العلم إلى أنّ الخضر نبيٌّ من الأنبياء، وقالوا بأنّ سياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا ءاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} [الكهف:65]، والرحمة هي النبوة، قال ابن عبّاس: (أعطيناه الهدى والنبوة)([10])، قال البيضاويّ: "{ءاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة"([11])، وقال القرطبيّ: "الرحمة في هذه الآية: النبوة. وقيل: النعمة"([12]).
الثانِي: قول موسى له: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:66-70]، فهذا موسى ـ من عصمه الله بالنبوة ـ لا يرضى أن يتبع الخضر اتباعًا مطلقًا إلاّ إذا كان يعلم أنّ الخضر نبيٌّ معصوم، لا يفعل إلاّ بوحيٍ من الله.
الثالث: قتل الخضر للغلام، ففيه إزهاق نفس، والفِراسة ليست حجّة لقتل النفس، فلا بدّ أنّ ذلك كان بوحيٍ من الله تعالى.
الرابع: تفسير الخضر لموسى بأنّ أفعاله كانت بوحيٍ من الله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} [الكهف:82]، قال الطبريّ: "يقول: وما فعلت ـ يا موسى ـ جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنّما فعلته عن أمر الله إياي به"([13]).
4- الأسباط:
ذكَر الله تعالى الأسباطَ وهم أبناء يعقوب، وهم اثنا عشر رجلا، ولم يخبر بأسمائهم، ولا يُعرف منهم أحدٌ باسمه جزمًا غير يوسف عليه السلام، قال تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].(/6)
قال الحافظ ابن حجر: "إخوة يوسف: رُوبِيل وهو أكبرهم, وشمعون، ولاوي, ويهوذا, وداني, ونفتالي، وكاد, وأشير، وأيساجر, ورايلون, وبنيامين، وهم الأسباط. وقد اختلف فيهم فقيل: كانوا أنبياء, ويقال: لم يكن فيهم نبيّ وإنّما المراد بالأسباط قبائل من بني إسرائيل, فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير"([14]).
([1]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 63-64).
([2]) البداية والنهاية (1/99).
([3]) البخاري في فرض الخمس، باب قول «أحلت لي الغنائم...» (2892)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (3287).
([4]) أحمد في المسند (2/325)، وإسناده صحيحٌ على شرط البخاري؛ فمِن رواته أبو بكر بن عيّاش من رجال البخاري دون مسلم، وباقي رجاله رجال الشيخين. قال ابن كثير في البداية (1/323): "انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري".
([5]) فتح الباري (6/382).
([6]) انظر: فتح الباري (6/382).
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/92)، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولا أعلم له علّة، ولم يخرجاه".
([8]) أبو داود في السنة، باب التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (4054)، والحاكم في المستدرك (2/17)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/329) من حديث أبِي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألبانِي في صحيح سنن أبِي داود (3908). وقع في بعض روايات الحاكم (1/92)، «ما أدري أتبع نبيًّا كان أم لا؟»، ولعله تصحيف، فهو معارض للرواية الأخرى، والتي أخرجها البيهقي من طريقه على الصواب كرواية أبِي داود: «ما أدري تبع ألَعينًا كان أم لا؟». انظر: السلسلة الصحيحة (5/253).
([9]) أخرج أحمد (5/122) من حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بينما موسى جالس في ملإ من بني إسرائيل، فقال له رجل: هل أحد أعلم بالله تبارك وتعالى منك؟ قال: ما أرى. فأوحى الله إليه: بلى عبدي الخضر. فسأل السبيل إليه...» الحديث.
([10]) أخرجه عنه ابن أبِي حاتم في تفسيره (7/2377)، وانظر: الدر المنثور (5/425).
([11]) تفسير البيضاوي (3/510).
([12]) تفسير القرطبي (11/16).
([13]) تفسير الطبري (16/7).
([14]) فتح الباري (6/419).
رابعا: خصائص الأنبياء والرسل:
1- الوحي:
خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا الهكُمْ اله وَاحِدٌ} [الكهف:110].
2- العصمة:
الأنبياء معصومون في تبليغ ما أمرهم الله عز وجل بتبليغه، وهم معصومون أيضا من الدنيَّات المخلَّة بالمروءة، ومعصومون كذلك من كبائر الذنوب وقبائحها، ويقع منهم عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم صغار الذنوب، كأكل آدم من الشجر التي نُهي عنها قال تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، وتسرَّع داود في الحكم قبل سماع قول الخصم الثانِي، فأسرع إلى التوبة، فغفر الله له ذنبه قال تعالى عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ} [ص: 24، 25]، وقد عاتب الله نبيَّنا صلى الله عليه وسلم على تحريمه على نفسه ما أباحه الله له: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم:1].
ولا يتنافى وقوع الصغيرة من النبيِّ في كونِهم أسوةً وقدوة، لأنّه يسارع إلى التوبة، فيكون قدوة وأسوة للعاصين بأن يسارعوا إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يُقَرُّون على المعصية، ولا يؤخِّرون التوبة، وهم بعدَ التوبة أكملُ منهم قبلها.
وهذه الصغائر من أدلِّ الدلائل على بشريتهم، وهي صغائر نادرة معدودة، لا تقدح في عصمتهم، ولا سبيل فيها إلى النيل منهم والطعن فيهم.
3- البشرية:(/7)
الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمُّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهَّل لتحمّل الأمانة العظمى قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. وهم عندما استعظموا ذلك لم ينظروا إلى أنّ الرسول ليس جسدًا فقط يأكل ويشرب وينام ويمشي في الأسواق لحاجته، {وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الأسْوَاقِ} [الفرقان:7]، بل له جوهرٌ متمثل في نفخة الله له من روحه، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} [الحجر: 29]، ثم إنّ الرسول يُعدّ للرسالة إعدادًا، قال الله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه:41]، وأحاط نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم برعايته من صغره قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6-8]، وعن أنس ابن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمِّه ـ يعني ظئره ـ فقالوا: إنّ محمدًا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره([1]).
والبشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون أن يكونوا قدوة وأسوة، وإنّها لحكمة تبدو في رسالة واحدٍ من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحسُّ بإحساسهم، ويتذوَّق مواجدهم، ويعانِي تجاربَهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتِهم وأثقالهم، ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو قوتَهم واستعلاءهم، ويسير بِهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدِّر بواعثهم وتأثراتِهم واستجاباتِهم، لأنّه في النهاية واحدٌ منهم، يرتاد بِهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة، لأنّه بشر مثلهم، يتسامى بِهم رويدًا رويدًا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حيّة للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونَها سطرا سطرًا، ويحققونَها معنى معنى، وهم يرونَها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنّها ممثلة في إنسان([2]).
4- خيرية النسب:
الرسل ذوو أنساب كريمة، فجميع الرسل بعد نوحٍ من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]، ولذلك فإنّ الله يصطفي لرسالته من كان من خيار قومه نسبًا، عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))([3]).
وهذا أمر مشتهر معروف قال هرقل ملك الروم: "فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها"([4]).
5- أحرار بعيدون عن الرق:
لا يكون الأنبياء والرسل أرقاء أبدًا، فالرقّ نقص بشري، رفع الله أنبياءه عنه، وما حدث ليوسف عليه السلام إنّما هو رقٌّ خارجٌ عن الأصل، فالأصل حريته، والرق طارئ عليه ظلمًا وعدوانًا، وكان نوعًا من أنواع البلاء من الله عليه، ولم يستمر، قال السفاريني: "الرقّ وصف نقصٍ لا يليق بمقام النبوة، والنبيّ يكون داعيًا للنّاس آناء الليل وأطراف النهار، والرقيق لا يتيسر له ذلك، وأيضًا الرِقِّيّة وصف نقصٍ يأنف منه النّاس، ويستنكفون من اتباع من اتصف بِها، وأن يكون إمامًا لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منَزَّهون عن ذلك"([5]).
6- لا يكونون إلا رجالاً:
ومن خصائص الأنبياء وسنة الله فيهم أن جعلهم رجالاً، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
7- تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم:
هذه خاصية ليست لغير الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ عيني تنامان، ولا ينام قلبي))([6])، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الإسراء: والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه، ولا ينام قلبه. وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبُهم([7]).
8- تخيير الله لهم عند الموت:(/8)
خصّهم الله بِهذه الخاصية، فيخيّرون عند الموت، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبيّ يمرض إلاّ خُيِّر بين الدنيا والآخرة))، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذتْه بحَّة شديدة، فسمعته يقول: ((مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين))، فعلمت أنّه خُيِّر([8]).
9- لا تأكل الأرض أجسادهم:
والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء كرامة لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله عز وجل قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام))([9]).
فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى.
10- يكونون أحياء في قبورهم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((مررتُ على موسى ليلة أسري بِه عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره))([10]).
11- يقبرون حيث يموتون:
وهذا ممّا خُصّ به الأنبياء بعد موتِهم أنّهم لا يقبرون إلاّ حيث يموتون، ولذلك قُبر صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها، تحت فراشه الذي مات عليه، فعن ابن جريج قال: أخبرنِي أبِي أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يدروا أين يقبرون النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يقبر نبيٌّ إلاَّ حيث يموت))، فأخَّرُوا فراشه، وحفروا له تحت فراشه([11]).
([1]) مسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (162).
([2]) انظر: في ظلال القرآن (19/2553).
([3]) مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2276).
([4]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (7).
([5]) لوامع الأنوار البهية (2/265).
([6]) البخاري في الجمعة، باب قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبيّ صلى الله عليه وسلم (738) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([7]) البخاري في المناقب، باب كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عينه، ولا ينام قلبه (3570).
([8]) البخاري في التفسير، باب {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (4586).
([9]) أحمد (4/8)، والنسائي في الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة (1085)، والحاكم (1/413) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1301).
([10]) مسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم (2375).
([11]) أخرجه أحمد (1/7) بسندٍ منقطع. وأخرجه الترمذي (108) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن أبي بكر، وابن أبي بكر ضعيف. وأخرجه الترمذي في الشمائل (378)، والطبراني في الكبير (6366) بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي أنّ النّاس قالوا لأبي بكر: أين يُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قبض فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلاّ في مكان طيّب. فعلموا أنّه صدق.
خامسا: دلائل النبوة:
لأجل أن يصدَّق من يأتِي قومَه قائلاً: إني رسول الله إليكم، لا بدّ أن يؤيِّده الله بدلائلَ وحجج وبراهين مبيّنة تدلّ على صدقه. وهذه الدلائل يمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام:
1- الآيات والمعجزات:
وهي متنوعة، فمنها ما يكون إخبارًا بالمغيَّبات الماضية والآتية، كإخبار عيسى قومه بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتِهم، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة. ومنها ما يكون من باب خرق العادة الدالّ على كمال القدرة كتحويل عصا موسى عليه السلام إلى ثعبان. ومنها ما يكون من باب الاستغناء بالله تعالى والتوكل عليه في حفظه لرسله من أعدائهم، مع تحدِّيهم لهم، ومن أمثلة هذه الآيات والمعجزات:
أ- آية نبيِّ الله صالح عليه السلام:(/9)
دعا صالح قومه إلى عبادة الواحد الأحد، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [النمل:45]، فكَذبوه وطلبوا منه آية تدلّ على صدقه، {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:153-154]، قالوا له: إن أنتَ أخرجتَ لنا من هذه الصخرة ـ وأشاروا إلى صخرة عندهم ـ ناقة عشراء، وتعنَّتوا في وصفها، فقال لهم صالح: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به وتصدقونِي بما أرسلت به؟ قالوا: نعم. فسأل صالحٌ ما طلبه قومه، فأمر الله تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا، فآمن كثير من قومه، واستمرّ أكثرهم على كفرهم. قال لهم صالح: {هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} [الأعراف:73]، ولكن أشقى الأولين قام إلى هذه الناقة فعقرها، قال تعالى: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [لأعراف:77]، فأتاهم ما يوعدون، {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء:158].
ب- الإخبار بالأمور الغيبية:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك أخبر عن الأمم الماضية إخبار من وقف عليها، قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، فأخبر عن اختصام الملأ في كفالة مريم قال تعالى: {ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]، وقصّ قصة تكليم الله لموسى عليه السلام في الطور قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مّن رَّبِكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46]، كل ذلك آيات ودلائل على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ج- كفّ الله الأعداء عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
وظهر ذلك في الهجرة النبوية، فقد أدرك سراقة بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم أثناء سيره، طامعًا في جائزة قريش، فلما دنَا منهم عثرت به فرسه، فخرَّ عنها، فقام فركب فرسه، فلما دنا منهم خرّت به فرسه، يُفعل به ذلك ثلاثًا، فوقع في نفسه أنّ الرسول ظاهرٌ بدينه، فسأله أن يكتب له كتابًا، فكتب له الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفاه سراقة الطلب، وصرف عنه خيل قريش([1]).
ومن ذلك: أنّ المسلمين انْهزموا يوم حنين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين، أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة، فلمّا حمي الوطيس، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات، فرمى بِهنّ وجوه الكفار، ثمّ قال: ((انْهزموا وربّ محمّد))، يقول العبّاس راوي الحديث: فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدّهم كليلاً، وأمرهم مدبرًا([2]).
ومن ذلك: أنّ أبا جهل حلف باللات والعزى أنّه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته، أو ليعفِّرنّ وجهه في التراب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدًا أراد أن يفعل ما أقسم عليه، فلما اقترب منه ما فجأهم منه إلاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا))([3]).
2- بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين:
قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ} [الشعراء:197]، فالآية تبيِّن أنّ من الآيات البيِّنات الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به علمُ علماء بني إسرائيل بذلك، وهو علمٌ مسجلٌ محفوظ مكتوبٌ في كتبهم التي يتداولونَها، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196].(/10)
ومن هذه البشارات بشارة موسى عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دلّ القرآن الكريم نصًّا على وجود هذه البشارة في التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة، ففي سفر التثنية الإصحاح (18)، فقرة (18-19) قال الله لموسى: (أقيم لهم ـ أي لبني إسرائيل ـ نبيًّا من وسط إخوتِهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه).
قال الدكتور عمر الأشقر: "ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيِّنة، ذلك أنّه من بني إسماعيل، وهم إخوة بني إسرائيل، فجدّهم هو إسحاق، وإسماعيل وإسحاق أخوان، ثم هو أوسط العرب نسبًا، وقوله (مثلك) أي: صاحب شريعة مثل موسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه، حيث كان أميًّا لا يقرأ من الصحف، ولكنّ الله يوحي إليه كلامه فيحفظه ويرتله، وهو الرسول المرسل إلى النّاس كافة، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته، ومن لم يفعل فإنّ الله معذبه (ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)"([4]).
3- النظر في أحوال الأنبياء:
إنّ النظر في حال الرجل وسيرته يفصح عن صدقه، ويشفّ عن باطنه، ولقد أرشد القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال قال تعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16]، يقول لهم: لقد مكثت فيكم زمنًا ليس باليسير قبل أن أخبركم بأنني نبيّ، فكيف كانت سيرتِي فيكم؟ وكيف كان صدقي إيَّاكم؟ أفأترك الكذب على النّاس، وأكذب على ربّ النّاس؟! {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؟! ألا تعملون عقولكم لتهديكم إلى الحقّ؟
قال ابن كثير: "أي: هذا إنّما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أنِّي لستُ أتقوله من عندي ولا افتريته أنّكم عاجزون عن معارضته، وأنَّكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأتُ بينكم إلى حين بعثني الله عزّ وجلّ، لا تنتقدون عليَّ شيئًا تغمصونِي به، ولهذا قال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: أفليس لكم عقول تعرفون بِها الحقّ من الباطل؟! ولهذا لَمَّا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومَن معه فيما سأله من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لأبِي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل: فقد أعرف أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله([5]). وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً، نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة"([6]).
وبعض النّاس لم يحتج إلى برهان ودليل ليستدلَّ بذلك على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ شخصه وحياته وسيرته هي أعظم دليل، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعاه لم يتردد، ونظر عبد الله بن سلام في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة واحدة، ولكنها كانت كافية لتدلّه على أنّ هذا وجه صادق ليس بكاذب، قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، وخرج عبد الله بن سلام عالم اليهود مع الخارجين ينظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لما رأيتُ وجهه علمتُ أنّ وجهه ليس بوجهٍ كذّاب([7]).
وقالت خديجة رضي الله عنها عندما فزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الوحي في الغار: كلا ـ والله ـ لا يخزيك الله أبدًا، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ([8]).
وممّا يدل على صدق الرسل من خلال التأمل في سيرتِهم، أنّ الرسل أزهد النّاس في متاع الدنيا وعرضها الزائل وبَهرجها الكاذب، لا يطالبون النّاس الذين يدعونَهم أجرًا ولا مالاً، فهم يبذلون لهم الخير لا ينتظرون منهم جزاءً ولا شكورًا، قال نوح عليه السلام: {وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود:29]، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً} [الفرقان:57].
4- النظر في دعوة الأنبياء:(/11)
إنّ التكامل في المنهج لإصلاح الإنسان ولإصلاح المجتمع الإنسانِي، ودينًا كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منَزَّلٌ من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خاليًا من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال حيث قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، فكونُه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضًا، لا تناقض فيه ولا اختلاف دليلٌ واضحٌ على صدق الذي جاء به.
سئل أعرابِيّ: بم عرفتَ أنّ محمدًا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيءٍ فقال العقل: ليته نَهى عنه، ولا نَهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمر به([9]).
وهذا الرسول الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه وسلم يأتِي بما يعجز عنه الإنس والجنّ، وقد حوى الأخبار الماضية والآتية، وما تحار منه العقول قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. فكلّ من أنكر رسالته فهو مكابرٌ أعظم المكابرة، كما كانت قريشٌ تجحد صدق الرسول، وهم موقنون بأمره قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ووصلت بِهم السفاهة إلى الزعم بأنّ الذي يأتِي محمدًا صلى الله عليه وسلم بِهذا العلم حدادٌ رومي كان بمكة فقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
5- نصر الله وتأييده لهم:
تأييد الله لرسله ونصرته لهم وحفظه إيّاهم دليلٌ يحيل أيّ احتمال لكذبِهم، فإنّ العقول لا تقبل أن تتصوَّر مدعيًا للنبوة كاذبًا في دعواه وهو مع ذلك يرسل الله ملائكته لنصرته، ويستجيب دعاءه إذا دعاه، إنّ هذا لا يتصور من ملِك من الملوك، فكيف بخالق الأرض والسموات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من الاستدلال حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس:69] فحكم بعدم فلاحه، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ r لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ s ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46].
وهذا مسيلمة والأسود العنسي قطع الله دابرهما، وانتقم منهما، وانظر إلى المسيح الدجال، كيف كان الأنبياء يحذرون منه، فهو رجلٌ أعور، مكتوبٌ بين عينه كافر.
([1]) البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه (3906) من حديث عائشة رضي الله عنها.
([2]) مسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين (1775) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
([3]) مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب قوله تعالى: ?إنّ الإنسان ليطغى? (2797).
([4]) الرسل والرسالات (ص: 166).
([5]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (7).
([6]) تفسير ابن كثير (2/411).
([7]) الترمذيّ في صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل (1334).
([8]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).
([9]) انظر: مفتاح دار السعادة (2/6-7).
سادسا: وظائف الأنبياء والرسل:
1- البلاغ المبين:
الرسل سفراء الله إلى عباده وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحمَّلوها إلى عباد الله قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
ومن البلاغ أن يوضح الرسول ما أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، وكان الرسل يبيِّنون وحيَ الله تعالى بأقوالهم وأفعالهم، حتى تمثل ما جاؤوا به في أفعالهم، وقد أجابت عائشة مَن سألها عن خلق النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بقولها: ألستَ تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإنّ خلق نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن([1]).
وهم لا يملكون حمل النّاس على قبول دعوتِهم، وإنّما عليهم البلاغ المبين، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
2- الدعوة إلى توحيد الله تعالى:(/12)
لا تقف مهمة الرسل عند بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة النّاس إلى الأخذ بدعوتِهم والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقادًا وقولاً وعملاً([2])؛ لأنّه لا بدّ من تعليم النّاس الطريقة الصحيحة لعبادة الله تعالى كما شرعها سبحانه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقد بذلت الرسل في سبيل دعوة النّاس جهودًا عظيمة جدًا، وهذا نبيُّ الله نوح قضى تسعمائة وخمسين سنة يدعو قومه إلى عبادة الله، واستخدم في دعوته لهم كل الطرق وشتّى الوسائل، قال تعالى: {قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً (6) وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5-9]، ومع ذلك أخبر الله أنّه لم يؤمن معه إلاّ قليل: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود:40].
3- التبشير والإنذار:
التبشير والإنذار اقترنا بدعوة الرسل، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام: 48].
وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، ويعدونَهم بالعزّ والتمكين والأمن {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً} [النور:55].
ويُخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، ويخوِّفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:14].
4- إصلاح النفوس وتزكيتها:
بعث الله الرسل ليخرجوا النّاس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 5]، ولا يتحقق ذلك إلاّ بتعليمهم تعاليم ربِّهم وتزكية نفوسهم بتعريفهم بربِّهم وأسمائه وصفاته، وتعريفهم بملائكته وكتبه ورسله، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرّهم، ودلالتهم على السبيل التي توصلهم إلى محبته، وتعريفهم بعبادتِه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
قال القرطبيّ: "أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان"([3]).
وقال البيضاويّ: "يطهرهم من دنس الطباع، وسوء الاعتقاد والأعمال"([4]).
5- تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة:
الأصل في فطرة الإنسان أنّه قابل للتوحيد، لو تُرك لم يختر سواه، ولكن النّاس انحرفوا لأسباب شتّى، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وفي الحديث: ((وإنِّي خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين))([5]).
قال ابن عبّاس: (كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)([6]).
6- إقامة الحجّة:
من الغايات التي أرسل الله الرسل لأجلها إقامة الحجّة على عباده، حتى لا يبقى للنّاس حجّة يوم القيامة قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
قال ابن كثير: "أي: أنّه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبيَّن ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى لمعتذر عذرٌ، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]"([7]).
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((وليس أحد أحبَّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل))([8]).
7- سياسة الأمّة:(/13)
الذين يستجيبون للرسل يكوِّنون أمّة تحتاج إلى من يسوسها ويقودها ويدبِّر أمورها، والرسل هم خير من يقومون بِهذه المهمة في حال حياتِهم، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ قام نبيٌّ))([9]).
ولذلك أوجب الله طاعة رسله والتحاكم إليهم، والرضا بقضائهم قال تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:65].
قال ابن كثير: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنّه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور. فما حكم به فهو الحقّ الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: {لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة"([10]).
([1]) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنها أو مرض.
([2]) انظر: الرسل والرسالات. د/ عمر الأشقر (ص: 45).
([3]) تفسير القرطبي (18-92).
([4]) تفسير البيضاوي (2/111).
([5]) أخرجه ابن حبّان في صحيحه (الإحسان 2/423).
([6]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (2/334).
([7]) تفسير ابن كثير (1/589).
([8]) جزء من حديث أخرجه مسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
([9]) جزء من حديث أخرجه مسلم في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1842) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([10]) تفسير ابن كثير (1/251).
سابعا: فوائد متنوعة:
1- أنواع الوحي:
الوحي يأتي على صور هي:
أ- الإلقاء في الروع:
الإلقاء في روع النبيِّ الموحى إليه ـ بحيث لا يمتري النبيّ في أنّ الذي ألقي في قلبه من الله تعالى ـ نوعٌ من أنواع الوحي، كما جاء في صحيح ابن حبّان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((إنّ روح القدس نفث في روعي: إنّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))([1]).
ب- الرؤيا الصادقة:
رؤيا الأنبياء وحي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رؤيا الأنبياء وحي)([2])، وقال عبيد بن عمير: "رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]"([3]).
وقال القرطبيُّ: "كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظًا ورقودًا، فإنّ الأنبياء لا تنام قلوبُهم، وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا))([4])، وقال ابن إسحاق: رؤيا الأنبياء وحيٌّ. واستدل بِهذه الآية"([5]).
وممّا أوحي إلى النبيِّ صلى الله عليه سلم في المنام من القرآن سورة الكوثر، عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: ((أًنزِلت علي آنفًا سورةٌ))، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر]، ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر؟)). فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنّه نَهر وعدنيه ربِّي عزّ وجلّ عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: ربِّ إنّه من أمتي. فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك))([6]).
قال النوويُّ: "قوله: (أغفى إغفاءة) أي: نام"([7]).
وقال الثعالبيُّ: "الإغفاء هو النوم الخفيف"([8]).
ج- تكليم الله لرسله من وراء حجاب:(/14)
وهو الذي عناه الله بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وقد كلَّم الله آدم عليه السلام قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ V قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وكلَّم موسى عليه السلام قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يامُوسَى (11) إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى} [طه:11-14]، وكلَّم نبيَّنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمَّا عُرِج به إلى السماء([9]).
د- الوحي عن طريق الملك:
وهو ما عناه الله تعالى في قوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]، ولهذه الصورة ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يراه الرسول على هيئته التي خلقه الله عليها، قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت: زملوني زملوني فزملوني. فأنزل الله تعالى: {ياأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}))([10]).
الحال الثانية: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، فيذهب عنه وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، وهو أشد ما كان يلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، قال الحارث بن هشام رضي الله عنه: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدُّه علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول))، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينْزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنَّ جبينه ليتفصد عرقًا([11]).
الحال الثالثة: أن يتمثل له الملك رجلاً، فيكلمه ويخاطبه، ويعي عنه ما قال، وهذه أخف الأحوال على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث عائشة في بدء الوحي([12])، وكما في حديث جبريل المشهور في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان.
2- عدد الأنبياء والرسل:
لم يرد في الباب إلاّ حديث أبِي ذر المتقدم: ((ثلاثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا))، وفي رواية: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك: خمسة عشر جمًّا غفيرًا))، وهو متنازع في صحته([13]).
وأمّا أنّهم جمٌّ غفيرٌ لا يحصيهم إلاّ الله فهو الحقّ الذي لا مرية فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
3- أولو العزم من الرسل:
قال محمد خليل هرّاس: "المشهور أنّهم محمّد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح؛ لأنّهم ذُكِروا معًا في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وقوله: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى:13]"([14]).
4- الأنبياء العرب:
جاء في حديث أبِي ذر الطويل: ((وأربعة من العرب: هود وشعيب وصالح ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم))([15]).
والحديث لا يصحّ، والله أعلم.
5- حاجة العباد إلى بعث الرسل وإرسالهم:(/15)
الحاجة إلى إرسال الرسل وبعثهم عظيمة، قال ابن القيّم: "فإنّه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلاَّ على أيدي الرسل. ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاَّ من جهتهم. ولا ينال رضا الله ألبتة إلاَّ على أيديهم. فالطيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاَّ هديُهم، وما جاءوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال. وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال. فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتِها. فأيُّ ضرورة وحاجة فُرِضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة. فحال العبد عند مفارقه قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم. ولكن لا يحسّ بِهذا إلاّ قلب حي، و ما لجرح بميت إيلام، وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بِهدي النبيّ فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه. والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"([16]).
6- مقتضى بشرية الأنبياء والرسل:
أنبياء الله ورسله بشر كسائر البشر، اصطفاهم الله تعالى وفضلهم وكرمهم بالوحي إليهم، ومن مقتضى بشريتهم:
أ- أنهم يتعرضون للبلاء كسائر البشر:
فيتعرضون للسجن كما سجن يوسف عليه السلام قال تعالى: {فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، ويُقتَلون كما كانت بنو إسرائيل تفعل بأنبيائها قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وتصيبهم اللأواء والأدواء كما ابتلى الله نبيَّه أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، بل هم أشدّ النّاس بلاءً، فعن سعد بن أبِي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))([17]).
ب- أنهم يشتغلون بأعمال البشر:
كانوا يمارسون الأعمال التي يمارسها البشر، فاشتغل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة، واشتغل كذلك برعي الغنم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث([18])، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالأسود منه، فإنّه أطيبه)). قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاَّ وقد رعاها؟!))([19]).
وكان داود عليه السلام حدادًا يصنع الدروع قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
ج- ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية:
من مقتضيات كونِهم بشرًا أنّهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيءٌ، ولذلك فإنّ الرسل يتبرؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يدَّعون شيئًا من صفات الله تعالى قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ الهيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، وقال الله تعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93].
7- الخطأ في إصابة الحقّ منهم لا ينقض عصمتهم:
الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم في القضاء من وقائع، ويحكمون وفق ما يبدو لهم، فهم لا يعلمون الغيب، وقد يخطئون في إصابة الحقّ، فمن ذلك عدم إصابة داود عليه السلام في الحكم، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسأٍلة، عن أبِي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما. فقالت صاحبتها: إنّما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل ـ يرحمك الله ـ هو ابنها. فقضى به للصغرى))([20]).(/16)
وعن أم سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من النار))([21]).
ولا يناقض هذا القولَ بعصمة الأنبياء من الخطأ في التبليغ عن لله تعالى، لأنهم لا يقَرُّون على ذلك.
8- اليهود والنصاري ينسبون القبائح إلى الأنبياء([22]):
ينسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين أعمالاً قبيحة، فمن ذلك:
ـ أنّ نبيّ الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل. (إصحاح 32/1 من سفر الخروج).
والقرآن يقصّ علينا أنّ من صنع ذلك هو السامريّ، وأنّ هارون أنكر ذلك أعظم الإنكار قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} [طه:90].
ـ أنّ إبراهيم خليل الرحمن قدّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها. (إصحاح 12/14 من سفر التكوين).
وقد قصّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصة عن إبراهيم عند دخوله مصر، وفيها أنّ ملك مصر كان طاغية، وكان إذا وجد امرأة جميلة ذات زوجٍ قتل زوجها، وحازها لنفسه، فلما سئل إبراهيم عنها قال: هي أخته، يعني أخته في الإسلام، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الله حفظ سارة عندما ذهبت إلى الطاغية، فلم يمسها بأذى، وأخدمها جارية، هي هاجر أم العرب المستعربة([23]).
ـ ومن ذلك أنّ لوطًا عليه السلام شرب خمرًا حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بِهما الواحدة بعد الأخرى. (إصحاح 19/30 من سفر التكوين).
ومعاذ الله أن يكون هذا النبيّ الكريم على الله أن يفعل ذلك، وهو قضى عمره يدعو إلى الفضيلة ويحارب الرذيلة.
ـ وورد في إنجيل متى أنّ عيسى من نسل سليمان بن داود وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنَا من يَهوذا بن يعقوب. (إصحاح متى الأول/10).
ـ وفي إصحاح يوحنا الإصحاح الثانِي/4 أنّ يسوع أهان أمّه في وسط جمعٍ من الناس، فأين هذا ممّا وصفه القرآن: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّا} [مريم:32].
9- كرامات الأولياء:
من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات([24]).
وقد أنكر الإمام أحمد على الذين نفوا كرامات الأنبياء ولم يصدقوا بِها، وضلَّلهم([25]).
ومن حكمة إجراء الله هذه الأمور الخارقة للعادة إكرامًا لهم لصلاحهم وقوة إيمانِهم، وقد يكون سدًا لحاجاتِهم، أو نصرة لدينه، ورفعةً لكلمته، وإحقاقًا للحقّ وإبطالاً للباطل.
قال شيخ الإسلام: "وأمَّا كرامات الأولياء؛ فهي أيضًا من آيات الأنبياء، فإنّها إنّما تكون لمن تشهد لهم بالرسالة، فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوة. وأيضًا فإنّ كرامات الأولياء معتادة من الصالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك، فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للأولياء. وكذلك خلق الطير من الطين، ولكن آياتِهم صغار وكبار، كما قال تعالى: {فأراه الآية الكبرى} [النازعات:20]، فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيِّه محمّد: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم:18]، فالآيات الكبرى مختصة بِهم، وأمَّا الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين، مثل تكثير الطعام، فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين، لكن لم يوجد كما وُجِد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه أطعم الجيش من شيء يسير"([26]).
وقال: "ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وما يُجري اللهُ على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات"([27]).
ومن ذلك: تسخير الله فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء لمريم عليها السلام: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
والنور الذي جعله الله في عصا كلٍّ من أسيد بن الحضير وعباد بن بشر، تحدثا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم([28]).
والأمر الخارق للعادة ليس دليلاً على الكرامة، ولا فضيلة من جرت على يديه، قال أبو علي الجوزجانِي: "كن طالبًا للاستقامة، لا طالبًا للكرامة، فإنّ نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربّك يطلب منك الاستقامة، قال بعض من فهم قوله: وهذا أصلٌ عظيمٌ كبيرٌ في الباب، وسرٌّ غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب"([29]).(/17)
وهذه الاستقامة هي الفيصل بين الكرامة والأحوال الشيطانية، وإلاّ فإن الخوارق قد تظهر علي يد الفسّاق والفجّار، كما تظهر على أيدي السحرة والمشعوذين، وللمسيح الدجال في آخر الزمان نصيب كبير من ذلك ولذا قال غيو واحد من السلف: رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة([30]).
([1]) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/185) من حديث أبِي هريرة رضي الله عنه، والحاكم (2/4) من حديث ابن مسعود مطولاً.
([2]) الحاكم (2/468)، قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
([3]) البخاري في الوضوء، باب التخفيف في الوضوء (138).
([4]) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/171) عن عطاء مرسلاً، وأخرج الحاكم (2/468) عن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
([5]) تفسير القرطبيّ (15/102).
([6]) مسلم في الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة (400).
([7]) شرح مسلم (4/113).
([8]) فقه اللغة (ص: 161).
([9]) انظر: حديث المعراج عند مسلم (1/148).
([10]) البخاري في التفسير، باب قوله: ?والرجز فاهجر? (4926).
([11]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (2)، ومسلم في الفضائل، باب عرق النبيِّ صلى الله عليه وسلم في البرد (2333).
([12]) البخاري في بدء الوحي، باب بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (160)، وانظر: الحديث السابق.
([13]) تقدم تخريجه.
([14]) شرح العقيدة الواسطية (ص: 64).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) زاد المعاد (1/69-70).
([17]) الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (4926)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143)
([18]) الكَباث نوع من أنواع ثمر الأراك.
([19]) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم (3406).
([20]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: ?وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ? (6769)، ومسلم في الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين (1720).
([21]) البخاري في الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (7169)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن والحجّة (1713).
([22]) نصوص هذه الفائدة مأخوذة من كتاب محمد نبيُّ الإسلام (ص: 145)، انظر: الرسل والرسالات (ص: 104-106).
([23]) انظر: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري في النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها (5084)، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم (2371).
([24]) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/156).
([25]) انظر: الأنوار البهية (2/393).
([26]) النبوات (211).
([27]) مجموع الفتاوى (3/156).
([28]) انظر: تفسير ابن كثير (1/79).
([29]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (11/320).
([30]) انظر: تفسير ابن كثير (1/79).
ثامنا: مسائل:
1- تفضيل الأنبياء والرسل بعضهم على بعض:
الأنبياء أفضل خلق الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلاَّ النبيين والمرسلين. لا تخبرهما يا عليُّ))([1]).
فيؤخذ من الحديث أنّ الأنبياء والمرسلين أفضل الخلق، وأنّ أفضل رجلين بعدهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما.
ومن هنا يُعرف ضلال قول من قال: إنّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وهو قولٌ ساقطٌ تغني حكايته عن مناقشته([2]).
والرسل بلا شكّ أفضل من الأنبياء، وهم بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، وأفضل الرسل هم أولو العزم الخمسة: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقد ذكرهم الله في أكثر من موضع فقال: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، وأفضل هؤلاء كلهم محمد بن عبد الله الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد القوم يوم القيامة)) ([3])، وفي رواية عند مسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)).(/18)
وهو صاحب الشفاعة العظمى كما في حديث أبِي هريرة وفيه: ((فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟!))([4])، فيشفع فيهم، فيشفعه الله تعالى.
وقد وردت في السنة نصوصٌ تنهى عن التفضيل بن الأنبياء لا تعارض النصوص القرآنية التي تدلّ على أنّ الله فضّل بعض الأنبياء على بعض وبعض المرسلين على بعض؛ لأنّ النهي في هذه الأحاديث ينبغي أن يحمل على التفضيل الذي يكون على وجه الحميّة والعصبية والانتقاص، أو كان مؤديًا إلى شيء من ذلك، برهان ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: استبَّ رجلان: رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود. قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهوديّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمَ، فسأله عن ذلك، فأخبره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيرونِي على موسى، فإنّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله))([5]).
قال ابن حجر: "قال العلماء في نَهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء: إنّما نَهى عن ذلك مَن يقوله برأيه لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع. أو المراد: لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة"([6]).
وقال الحليمي: "الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنّما هي في مجادلة أهل الكتاب، وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأنّ المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر. فأمّا إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي"([7]).
2- نبوة النساء:
ذهب أبو الحسن الأشعري وابن حزم الظاهري وغيرهما إلى نبوة مريم عليها السلام، واختلفوا فيما بينهم في نبوة غيرها من النساء الوارد ذكرهنّ في القرآن كحواء وسارة وهاجر وأمّ موسى وآسية امرأة فرعون([8]).
وأجابوا عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] بأنّهم لا يخالفون مفهومها، فالرسالة للرجال، أمّا النبوة فلا يشملها النصّ القرآنِي، وليس لازمًا من النبوة التبليغ، بل النبوة تكون قاصرة على صاحبها يعمل بِها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين.
واستدلّ أصحاب هذا الرأي بأدلة، منها:
- أنّ الله أوحى إلى بعض النساء، فأوحى إلى أمّ موسى قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، وأرسل جبريل إلى مريم فبلَّغها عن الله أمره قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً Q قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً R قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} [مريم:17-19]. فأبو الحسن يرى أنّ كل من جاءه الملك عن الله تعالى بحكم من أمر أو نَهي أو بإعلام فهو نبيّ، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيءٌ من هذا.
- واستدلوا باصطفاء الله تعالى لمريم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } [آل عمران:42].
- واستدلوا أيضًا بحديث أبِي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاَّ آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران. وإنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))([9]). قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء.
وأجيبوا بأنّ هذه الأدلة لا تنهض لإثبات نبوة النساء، وذلك من وجوه:
الأول: أننا لا نسلم أنّ النبيّ غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة النّاس، والمحتار أن لا فرق بين النبيّ والرسول في هذا، وأنّ الفرق واقعٌ في كون النبيّ مرسل بتشريع رسول سابق، وإذا كان ذلك كذلك فإنّ أعباء التبليغ لا تقوى عليها النساء، فلا تقوم بحقّ النبوة.
الثانِي: قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النساء أم موسى وآسية إنّما وقع منامًا، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون منامًا، وهذا يقع لغير الأنبياء.(/19)
الثالث: لا نسلم قولهم أنّ كل من خاطبته الملائكة فهو نبيّ، ففي حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أنّي أحببته في الله عزّ وجلّ. قال: فإنِّي رسول الله إليك بأنّ الله قد أحبَّك كما أحببته فيه([10]).
الرابع: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه: {قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86].
الخامس: لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم، فالله قد صرّح بأنّه اصطفى غير الأنبياء: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ} [فاطر: 32]، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ومن آلهما من ليس بنبي جزمًا فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33].
السادس: لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجّوا به النبوة، لأنّه يطلق لتمام الشيء، وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، وعلى ذلك فالكمال هنا كمال غير الأنبياء.
السابع: ورد في بعض الأحاديث النصّ على أنّ خديجة من الكاملات([11])، وهذا يبيِّن أنّ الكمال هنا ليس كمال النبوة.
وهذا هو الراجح في المسألة أنّه لم يثبت نبوة أحدٍ من النساء، والأدلة الواردة غير كافية، والآية نصّ في عدم إرسال الله لأي امرأة أبدًا، والتعريف المختار للنبيّ لا يتحقق في المرأة، وقد قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس في النساء نبيّة، ولا في الجنّ"([12]).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) أحمد (1/80)، والترمذي في المناقب، باب في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (95)، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبّان من حديث أبي جحيفة (6904).
([2]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (2/222)، (11/221)، ولوامع الأنوار البهية (2/300).
([3]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} (3340)، ومسلم في الفضائل، باب تفضيل نبيِّنا على الأنبياء (2278).
([4]) البخاري في التفسير، باب قول الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُورًا} (4712).
([5]) البخاري في الخصومات، باب ما جاء في الإشخاص والخصومة بين المسلم وغيره (2411).
([6]) فتح الباري (6/446).
([7]) انظر: فتح الباري (6/446).
([8]) انظر: فتح الباري (6/447-448)، (6/473)، ولوامع الأنوار البهية (2/226).
([9]) البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (3411)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أمّ المؤمنين (2431).
([10]) مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل الحبّ في الله (2567).
([11]) أخرج البخاري في الأنبياء، باب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} (3432) عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة».
([12]) انظر: فتح الباري (6/473,471).(/20)
الإيمان بالدين كظاهرة غيبية.. وهم أم يقين؟
* محمد مهدي الآصفي
للدين في حياة الإنسان طرفان:
طرف منه يتصل بعقيدة الإنسان ويقينه، وطرف آخر منه يتصل بسلوكه وحياته الاجتماعية.
وليس من شك أن ظاهرة التدين والإيمان بالغيب كان أقدم ما عرفه الإنسان في حياته، ومن أكثر الظواهر ثباتاً وشيوعاً في حياة الإنسان.
ورغم اختلاف مظاهر التدين في حياة الانسان فقد كان الانسان يؤمن في هذه الحالات جميعاً بوجود مبدع غيبي ما وراء الطبيعة، وما وراء المظاهر المادية.
ورغم ان الحواس لا تباشر غير المادة والطاقة، فإن الانسان يؤمن بحقيقة ثالثة، ليس هو بمادة ولا طاقة، وإنما هو مبدأ للمادة والطاقة معاً، وذلك هو الغيب الذي يؤمن به الانسان، دون أن يقع له عليه حس، ودون أن يباشره بشيء من حواسه.
* * *
والسؤال الذي نود أن نطرحه هو أن الإيمان بالدين كظاهرة غيبية هل هو شيء أصيل في حياة الانسان، نابع من أعماق شخصية الانسان وفطرته، أم هو شيء طارئ على حياة الانسان، نتيجة بعض الظروف والأوضاع الاجتماعية؟
وهل يؤمن الانسان حقاً بالدين، أم هو وهم، يبدو للانسان على شكل يقين؟
وهل الإيمان بالغيب أمر ثابت في حياة الانسان، ثبات الغرائز والنوازع الأصيلة، أم هو مرحلة في حياة الانسان، كما يقول (أوجست كنت)، حيث يرى أن الانسانية مرت بثلاث مراحل في حياتها، دور الفلسفة الدينية، ودور الفلسفة التجريدية، ودور الفلسفة الواقعية؟
ومرد هذه التساؤلات جميعاً إلى التساؤل عن أصالة التدين في شخصية الانسان.
ولا شك أن اكتشاف هذه النقطة الجوهرية ينفعنا كثيراً في فهم حقيقة الدين وإثبات واقعية التدين والإيمان بالغيب، وإثبات واقعية الدين في حد ذاته أيضاً.
* * *
وبذلك فإن أصالة النزوع الديني في الشخصية يكشف عن حقيقتين جوهريتين في هذا المجال:
الحقيقة الأولى أن التدين حقيقة ثابتة في شخصية الانسان، وأن النزوع الديني نزوع صادق، وليس وهماً أو سراباً في النفس.
وصدق هذا النزوع وأصالته في الشخصية وإن كان لا يثبت الواقعية الموضوعية للدين إلا أنه يكشف بلا شك عن واقعية التدين الذاتية في نفس الانسان.
كما يكشف عن أن التنكر للدين شيء طارئ على الشخصية، وعرض من الأعراض النفسية والروحية التي تصيب الانسان، وشذوذ في الشخصية وليس حالة عامة في الانسان.
والحقيقة الثانية ان هذا النزوع بهذا الشكل من القوة والأصالة لا يمكن أن يكون خاطئاً. فلا يمكن أن تنزع الفطرة عبثاً وراء غيب لا حقيقة له.
فإننا لو أثبتنا أصالة هذا النزوع في الشخصية.. فلا يمكن أن ينفك عن واقعية هذا الغيب الذي ينزع إليه الانسان.
والواقعية هنا، بخلاف الصورة الأولى، واقعية موضوعية وإن كان الطريق إلى إثبات هذه الواقعية الموضوعية طريقاً ذاتياً وجدانياً.
ولذلك فإن النظريات الدينية تقع في اتجاه معاكس للاتجاهات المادية في تسير الدين دائماً.
فإن النظريات الدينية تفسر هذه النزعة دائماً بالفطرة، وتؤكد صلتها الوثيقة بالكينونة الانسانية وأصالتها في الشخصية، بينما تحاول النظريات المادية توجيه هذا النزوع بعوامل خارجة عن شخصية الانسان وطارئة عليه.(/1)
الإيمان بالقضاء والقدر
أولاً: التعريف:
أ- تعريف القضاء والقدر لغةً وشرعا وبيان العلاقة المعنيين.
ب- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
ثانياً: إثبات القضاء والقدر:
أ- الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر.
ب- النصوص الدالة على تقدير الله تعالى لأفعال العباد.
ج- مراتب القدر.
د- حدود نظر العقل في القدر.
ثالثاً: أهمية الإيمان بالقضاء والقدر:
أ- منزلة الإيمان بالقضاء والقدر بين بقية أركان الإيمان.
ب- الإيمان بالقدر في الأديان السماوية.
رابعاً: القضاء والقدر واعتقاد الناس:
أ- مذاهب الناس في القضاء والقدر.
ب- منشأ ضلال القدرية والجبرية.
ج- مناقشة الجبرية والقدرية إجمالاً.
د- محاورة أهل السنة للقدرية.
هـ- من أقوال السلف والأئمة في الإيمان بالقدر.
خامساً: مسائل متفرقة:
أ- حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي.
ب- شبهة من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى)).
ج- هل نحن مأمورون بالرضا بقضاء الله وقدره؟
سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:
أ- التحسين والتقبيح.
ب- وجوب فعل الأصلح.
ج- الاستطاعة.
د- الحكمة والتعليل.
هـ- تكليف ما لا يُطاق.
و- معنى الظلم.
سابعاً: ثمرات الإيمان بقضاء الله وقدره.
أولاً: التعريف:
أ- تعريف القضاء والقدر لغة وشرعا وبيان العلاقة بين المعنيين:
تعريف القضاء والقدر:
القضاء لغة: الإحكام والإتقان وإتمام الأمر.
قال ابن فارس: "القاف والضاد والحرف المعتلّ أصلٌ صحيح يدلّ على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته".
وقال ابن الأثير: "القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها انقطاع الشيء وتمامه".
ويأتي أيضاً بمعنى القدر.
وقد ورد لفظ القضاء في القرآن كثيراً فمن المعاني التي ورد بها:
1- معنى الأمر، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ...} [الإسراء:23].
قال قتادة: "أي: أمر ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه، فهذا قضاء الله العاجل".
2- معنى الإنهاء، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ} [الحجر:66] أي: تقدمنا وأنهينا، قال الجوهري: "أي: أنهيناه وأبلغناه".
3- معنى الفراغ، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ فِى يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].
قال الطبري: "فرغ من خلقهن سبع سموات في يومين".
6،5،4- ويأتي أيضاً بمعنى الأداء، والإعلام، والموت، وغيرها.
القدر لغة: يطلق على الحكم والقضاء والطاقة.
قال ابن فارس: "القاف والدال والراء، أصلٌ صحيح يدلّ على مبلغ الشيء كنهَه ونهايته".
ويأتي على معان:
1- معنى الطاقة.
2- التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، قال الراغب الأصفهاني: "أي: ضيّق عليه، وقدرت عليه الشيء ضيقته، كأنما جعلته بقدرٍ".
ويأتي لمعاني أُخر.
القضاء والقدر شرعاً:
قال الشيخ محمد خليل الهرّاس: "والمراد به في لسان الشرع: أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح قبل إحداثها".
وقيل: "هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمُه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابتُه سبحانه لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدّرها، وخلقُه لها".
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي:
يتبين مما سبق أن بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكل من القضاء والقدر ترابطًا قويًّا، فمعاني القضاء في اللغة ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، ومن معانيه: الأمر والحكم والإعلام، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير والقدرة، والله سبحانه وتعالى قدّر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقضيّة ومقدّرة فتقع حسب أقدارها كما أمر الله تعالى أن تقع، وهذا كله لا يخرج عن المعاني اللغوية للكلمتين.
ب- هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟
انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين:
الفريق الأول: قالوا: إنه لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، ولذلك إذا أطلق القضاء وحده فسّر بالقدر، وكذلك القدر، فلا فرق بينهما في اللغة، كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع.
الفريق الثاني: قالوا بالفرق بينهما، لكنهم اختلفوا في التمييز بينهما على أقوال:
القول الأول: قول أبي حامد الغزالي أن هناك بالنسبة لتدبير الله وخلقه ثلاثة أمور:
1- الحكم: وهو التدبير الأول الكلّي والأمر الأزلي.
2- القضاء: وهو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة.
3- القدر: وهو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص".
القول الثاني: ما نقله الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء أنهم قالوا: القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل، والقدر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.(/1)
القول الثالث: ما نقله الراغبُ الأصفهاني: أن القدر بمنزلة المعِدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفرّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له.
القول الرابع: قول الأشعرية: إن القضاء إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه وجودها الحادث، كإرادته تعالى الأزلية بخلق الإنسان في الأرض. والقدر هو إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحدّدة بالقضاء في ذواتها وصفاتها وأفعالها وأطوالها وأزمنتها وأمكنتها وأسبابها، كإيجاد الله الإنسان فعلاً على وجه الأرض طبق ما سبق في قضائه سبحانه.
القول الخامس: قول الماتريدّية: إن القضاء راجع إلى التكوين كخلق الله الإنسان على ما هو عليه طبق الإرادة الأزلية. والقدر هو التقدير، وهو جعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده، ثم يكون وجوده في الواقع بالقضاء على وفق التقدير، كإرادته تعالى في الأزل إيجاد الإنسان على وجه مخصوص وصورة مخصوصة محددة المقادير.
خلاصة الأقوال:
1- الذين فرّقوا بينهما ليس لهم دليلٌ واضح من الكتاب والسنة، يفصل في القضية.
2- عند إطلاق أحدهما يشمل الآخر، وهذا يوحي بأنه لا فرق بينهما في الشرع؛ ولذا فالراجح أنه لا فرق بينهما.
3- ولا فائدة من هذا الخلاف؛ لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر، وعند ذكرهما معاً، فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل عليه الآخر. والله أعلم.
مقاييس اللغة (5/99).
النهاية في غريب الحديث (4/78).
انظر: لسان العرب (15/186) مادة: قضى.
تفسير الطبري (17/413).
انظر: الصحاح للجوهري (6/2463)، ولسان العرب (15/187) مادة: قضى.
انظر: تفسير ابن كثير (2/575).
الصحاح (6/2464).
المصدر السابق (6/2464).
تفسير الطبري (21/440).
انظر: الصحاح (6/2464).
لسان العرب (15/187).
الصحاح (6/2463)، ولسان العرب (15/187).
مقاييس اللغة (5/62).
التكملة والذيل والصلة للصغاني (3/159-160).
مفردات القرآن (ص 659).
شرح العقيدة الواسطية (ص 65).
القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (ص 39-40).
انظر: القضاء والقدر للدكتور المحمود (ص 39).
القضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود (ص 40-41).
الأربعين في أصول الدين للغزالي (ص 24)، وانظر: الدين الخالص لصديق حسن خان (3/154).
فتح الباري (11/486).
مفردات القرآن (ص 675-676). وانظر: إرشاد الساري للقسطلاني (9/343).
العقيدة الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن حبنكة (ص 626) باختصار.
المصدر السابق. وانظر: الماتريدية دراسةً وتقويماً لأحمد الحربي (ص 435-437).
القضاء والقدر للمحمود (ص 44).
ثانياً: إثبات القضاء والقدر:
أ- الأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر:
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
قال الشوكاني: "إن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبساً بقدرٍ قدّره، وقضاءٍ قضاه سبق في علمه، مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه".
وقال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب:38].
قال الحافظ ابن كثير: "أي: وكان أمره الذي يقدّره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه، ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن".
وقال صديق حسن خان: "أي: قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل، وليلٍ أليل، وروض أريض في قصد التأكيد".
ومن السنة حديث جبريل المشهور وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: ((أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)).
قال الحافظ ابن حجر: "الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى كما قال تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر:21]".
ب- النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد:
1- أعمال العباد جفت بها الأقلام وجرت بها المقادير:
عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا، كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؛ أفيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير))، قال: ففيم العمل؟ فقال: ((اعملوا فكلٌ ميسَّرٌ))، وفي رواية: ((فكلٌ ميسرٌ لما خلق له)).
2- علم الله بأهل الجنة وأهل النار:(/2)
عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصره فنكّس، فجعل ينكت بمخضرته، ثم قال: ((ما منكم من أحدٍ، ما من نفسٍ منفوسةٍ إلاّ كُتب مكانها من الجنة والنار، وإلاّ كُتب شقيّة أو سعيدة))، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: ((أما أهل السعادة فيُيسّرون لعمل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى E وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}.
3- استخراج ذريّة آدم من ظهره بعد خلقه، وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة، وأهل النار:
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني: عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذريّة ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبلا قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173])).
وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذريته بيضاء كأنهم الذّر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذريّة سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)).
4- كتابة أجل الإنسان وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وهو جنين في رحم أمّه:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيٌ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار)).
ج- ومراتب القدر:
الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميعَ أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، ((فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))، فما أصاب الإنسانَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] وقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدريّة قديماً، ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلاّ الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة؛ والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29].
فهي إذاً أربع مراتبٌ وهي إجمالاً:
الأولى: العلم، أي: أن الله علم ما الخلق عاملون بعمله القديم.
الثانية: الكتابة، فالله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.(/3)
الثالثة: المشيئة، أي: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
الرابعة: الخلق والتكوين، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد كما دلت على ذلك النصوص.
الأدلة على هذه المراتب:
أولاً: العلم:
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ اله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22].
قال النسفي: "أي: السرّ والعلانية في الدنيا والآخرة، أو المعدوم والموجود".
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن أولاد المشركين قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
وبوّب البخاري في كتاب القدر: "باب جفّ القلم على علم الله".
قال الحافظ: ابن حجر معلقاً: "أي: على حكمه لأن معلومه لا بدّ أن يقع، فعلمه بمعلوم يستلزم الحكم بوقوعه".
ثانياً: الكتابة:
قال تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].
قال العلامة ابن سعدي: "{لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ} به القضاء والقدر، أنه أحلّ لكم الغنائم، وأن الله رفع عنكم ـ أيتها الأمة ـ العذاب، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}".
والدليل من السنة على هذه المرتبة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، قال: ((وكان عرشه على الماء)).
قال النووي: "قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له، وقوله ((وعرشه على الماء)) أي: قبل خلقه السماوات والأرض".
ثالثاً: المشيئة:
ودليلها من القرآن قوله تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ b وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28، 29].
قال القرطبي: "فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا بخذلانه، وقال الحسن: والله، ما شاءت العرب الإسلام حتى شاءه الله لها، وقال وهب بن منبه: قرأت في سبعة وثمانين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر. وفي التنزيل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الأنعام:111]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص:56]، والآي في هذا كثيرة، وكذلك الأخبار وأن الله سبحانه هدى بالإسلام وأضل بالكفر كما تقدم في غير موضع".
قال ابن كثير: "أي: ليست المشيئة موكولةً إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}".
ومن السنة ما رواه أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)).
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: ((لا مستكره له)) أي: لأن التعليق يوهم إمكان إعطائه على غير المشيئة، وليس بعد المشيئة إلا الإكراه، والله لا مكره له".
هذا وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد "باب: في المشيئة والإرادة"، قال ابن بطال: "معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى".
رابعاً: الخلق:
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96].
قال الحافظ ابن كثير: "يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، فيكون تقدير الكلام: خلقكم وعملَكم، ويحتمل أن تكون بمعنى (الذي) تقديره: والله خلقكم والذي تعلمونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر".
ومن السنة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس، ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنة؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل: لا حول ولا وقوة إلا بالله)).
قال النووي في بيان سبب كون هذه الكلمة كنزا من كنوز الجنة: "قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وإن العبد لا يملك شيئاً من الأمر".
د- حدود نظر العقل في القدر:(/4)
ينبغي للعقل أن يستنير في هذا الباب بالوحي وإلا ضلّ ضلالا مبينا.
قال أبو المظفّر السمعاني: "سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌ من أسرار الله تعالى اختصّ العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرّب".
وقال الطحاوي: "وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمّق في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء:23]".
ويقول الإمام أحمد: "من السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها. لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفي ذلك وأحكم له. فعليه بالإيمان به والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر".
وهذا الذي قرّره أهل العلم في القدر يضع لنا عدة قواعد في غاية الأهمية:
الأولى: وجوب الإيمان بالقدر.
الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس؛ فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا، فمنهم من كذّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يستلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبَّب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة.
الثالثة: ترك التعمّق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلاّ بصعوبة كبيرة.
قد يُقال: أليس هذا النهج حجرًا على العقل الإنساني؟
والجواب: إن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدَّد قواه في غير المجال الذي يحسن التفكير فيه.
إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين.
ولذا فقد نصّ جمعٌ من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر كما تقدم النقل عن الإمام أحمد.
فتح القدير (5/129).
تفسير ابن كثير (3/783).
فتح البيان في مقاصد القرآن (7/375).
رواه مسلم في الإيمان (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
رواه الترمذي في القدر، باب: ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشرّه (2144) وقال: "هذا حديث غريب لا تعرفه إلاّ من حديث عبد الله بن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث"، ولكن الحديث له شواهد تؤيده، وصححه الألباني كما في صحيح الترمذي (1143) والسلسلة الصحيحة (2439).
فتح الباري (11/478).
رواه مسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2649).
رواه البخاري في الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر (1362)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي (2647).
رواه أحمد (3451)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/43).
رواه أحمد (26942)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/42-43).
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3332)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (2643).
رواه أبو داود في باب في القدر (4700)، والترمذي في تفسير القرآن، باب: سورة نوح والقلم (3319)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/123) والصحيحة (133).
مجموع الفتاوى (3/148-150) باختصار.
القضاء والقدر للمحمود (ص40)، وانظر: شفاء العليل لابن القيم (1/91)، ومعارج القبول للحكمي (3/920-940).
تفسير النسفي (4/244).
رواه البخاري في القدر، باب: الله أعلم بما كانوا عاملين (6597)، ومسلم في القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (2660).
فتح الباري (11/500).
تيسير الكريم الرحمن (ص 326). تحقيق عبد الرحمن اللويحق.
رواه مسلم في القدر، باب: حجاج آدم موسى (2653).
شرح صحيح مسلم (16/203).
الجامع لأحكام القرآن (19/243).
تفسير القرآن العظيم (4/481).
رواه البخاري في التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة (7464).
فتح الباري (13/459).
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/477).
تفسير ابن كثير (4/15).
رواه البخاري في القدر، باب: لا حول ولا قوة إلا بالله (6610)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (2704).(/5)
شرح صحيح مسلم (17/26).
انظر: فتح الباري (11/486).
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 276).
انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/241-242).
القضاء والقدر للدكتور عمر الأشقر (ص48-49) باختصار.
ثالثاً: أهمية الإيمان بالقضاء والقدر:
أ- منزلة الإيمان بالقضاء والقدر بين بقية أركان الإيمان:
ترجع أهمية هذا الركن ومنزلته بين بقية أركان الإيمان إلى عدة أمور:
الأول: ارتباطه مباشرة بالإيمان بالله تعالى، وكونه مبنياً على المعرفة الصحيحة بذاته تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته الكاملة الواجبة له تعالى. وقد جاء في صفاته سبحانه صفة العلم والإرادة والقدرة والخلق، ومعلومٌ أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس.
ولا شك أن الإقرار بتوحيد الله وربوبيته لا يتم إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فمن زعم أن هناك خالقاً غير الله تعالى فقد أشرك، والله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد.
الثاني: حين ننظر إلى هذا الكون ونشأته وخلق الكائنات فيه ومنها هذا الإنسان نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ربّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والإنسان يوجد على هذه الأرض، وينشأ تلك النشأة الخاصة، ويعيش ما شاء الله في حياة متغيّرةٍ فيها الصحة والسقم، والغنى والفقر، والقوة والضعف... وينظر الإنسان من حوله فيرى تفرّق هذه الصفات على الناس؛ فلا يجد إلا العقيدة الصحيحة، وعلى رأسها الإيمان بالقدر.
الثالث: الإيمان بالقدر هو المحكّ الحقيقيّ لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختبار القويّ لمدى معرفة الإنسان بربّه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال.
وقد كثر الاختلاف حول القدر، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمان يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين، ودسّ الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع إلاّ من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلِّماً الأمر لله، مطمئنَّ النفس، واثقاً بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقيّة الأركان.
ب- الإيمان بالقدر في الأديان السماوية:
لم يختصّ المسلمون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالقدر، بل كان الإيمان به قديماً في الأديان السماوية، وهذه بعض صوره كما ورد في القرآن الكريم.
1- في قصة نوح عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: {قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:32-34].
فقوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء} أي: إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم فعل ذلك، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء. وقوله: {إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}: أي: إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم لردكم الحق، فلو حرصتُ غاية مجهودي، ونصحت لكم أتمَّ النصح، وهو قد فعل عليه السلام، فليس ذلك بنافع لكم شيئاً، {هُوَ رَبُّكُمْ} يفعل بكم ما يشاء، ويحكم فيكم بما يريد.
2- وفي قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لما أراد ذبحه بأمر بالله، يقول تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ}: أي العمل كما قال ابن عباس، أو المشي. والمعنى: مشى مع أبيه كما قاله قتادة. وقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قال ابن سعدي: "أخبر أباه أنه موطِّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى؛ لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى".
3- وفي قصة يوسف عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].(/6)
قال ابن كثير: "{إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء}، أي: إذا أراد أمراً قيّض له أسباباً ويسره وقدّره، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده، {الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقواله وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده".
فيوسف عليه السلام كان مؤمناً بالقدر، موقناً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما هو بقضاء الله وقدره.
4- وموسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عنه إيمانه بأن الهداية والإضلال بيد الله وهما تحت مشيئته فقال تعالى في معرض قصته: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155].
فقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ} ذكر ابنُ جُزي احتمالين في تفسيره، الاحتمال الثاني: أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله، كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت، فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء.
5- ويقول تعالى عن زكريا ومريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].
فقوله: {إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} الراجح أنه من كلام مريم.
وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق بعض عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه.
6- قصة الرجل صاحب الجنتين، قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ...} [الكهف:39].
قال الزجاح والفراء: "الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي: الأمر مشيئة الله تعالى".
7- قصة خسف قارون، قال تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
فقوله: {يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} إقرار منهم بأن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لبعض عباده ويضيّقه على بعضهم، فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
فهذه النصوص تدل على عدّة أمور:
أحدها: أن الأصل في البشرية التوحيد خلافاً لنظريّة تطوّر الأديان.
الثاني: أن الإقرار بالقدر جزء من هذا التوحيد الذي هو دين أبينا آدم، ودين الرسل من بعده.
الثالث: وحدة دين الرسل من جهة العقيدة وإن اختلفت شرائعهم، والإيمان بالقدر جزء من هذه العقيدة.
القضاء والقدر للمحمود (ص 83-85) باختصار، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 304).
تيسير الكريم الرحمن للسعدي (ص 381).
زاد المسير (6/303).
تفسير ابن سعدي (ص 706).
تفسير ابن كثير (2/509).
القضاء والقدر للمحمود (ص 127).
تفسير الواحدي (التسهيل لعلوم التنزيل) (2/46).
انظر: روح المعاني للألوسي (3/144).
القضاء والقدر للمحمود (ص 130-131).
انظر: تفسير القرطبي (10/407).
القضاء والقدر للمحمود (ص 130)، وانظر: تفسير السعدي (ص 624).
القضاء والقدر للمحمود (ص 131-132).
رابعاً: القضاء والقدر واعتقاد الناس:
أ- مذاهب الناس في القضاء والقدر:
أشهر المذاهب في باب القضاء والقدر ثلاثة:
المذهب الأول: مذهب الجهمية الجبريّة.
وخلاصة قولهم أن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرةَ لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاً.
يقول البغدادي عن الجهم: "وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به".
فالإنسان عند الجهم يختلف عن الجمادات، لأن الله خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، كما خلق له إرادة للفعل، واختياراً منفرداً له، لكن هذه الإرادة كاللون والطول ونحوهما مما لا إرادة للإنسان فيه ولا قدرة.
المذهب الثاني: مذهب المعتزلة القدرية.
وخلاصة قولهم أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها.
فهم ينكرون الدرجة الثانية من درجات القدر، والتي تشمل مرتبتي الإرادة والخلق، فينفونها عن الله تعالى، ويثبتونها للإنسان.(/7)
يقول عبد الجبار الهمذاني: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله جل وعزّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه".
ويقول القاسم بن إبراهيم الرسي راداً على من قال: إن الله هو الخالق لأفعال العباد: "ولو كان هو الفاعل لأعمالهم الخالق لها لم يخاطبهم ولم يعظهم، ولم يلمهم على ما كان منهم من تقصير، ولم يمدحهم على ما كان منهم من جميل وحسن".
المذهب الثالث: مذهب السلف.
يلخّصه شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.
وأنه سبحان ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو القادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادرٌ عليه.
وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم؛ قدّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.
فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون".
ب- منشأ ضلال القدرية والجبريّة:
قال ابن أبي العزّ الحنفي: "ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبّة والرضا، فسوّى بينهما الجبريّة والقدريّة، ثم اختلفوا، فقالت الجبريّة: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله، ولا مرضيّة له، فليست مقدّرة ولا مقضّية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دلّ على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنّة والفطرة الصحيحة".
ج- مناقشة الجبريّة والقدريّة إجمالاً:
يقول ابن أبي العزّ الحنفي في معرض ردّه على هؤلاء وهؤلاء: "وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اخلفوا فيه من الحقّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فكلّ دليل صحيح يقيمه الجبريّ فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلّ على أن العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختياريّة بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار.
وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدلّ على أن العبد فاعل لفعله حقيقةً، وأنه مريدٌ له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدلّ على أنه غير مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما مع كل طائفةٍ منهما من الحق إلى حقِّ الأخرى فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنه يستوجبون عليها المدح والذمّ.
وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلّة الحق لا تتعارض، والحقّ يصدّق بعضه بعضاً. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدّلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويُستفاد من دليل كل فريقٍ بطلان قول الآخرين".
د- محاورة أهل السنة للقدريّة:
1- وقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء، إن ناقتي سُرقت فادعوا الله أن يردَّها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم تُرد أن تُسرق ناقته فسُرقت فارددها عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت، أن يريد ردّها فلا تُرد.
2- وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثم عذّبني، أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
3- ودخل القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني ـ أحد أئمة السنة ـ، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟! قال الأستاذ: أيُعصى ربنا قهراً؟! فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟! فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار.
4- وقال غيلان لميمون مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه: أشاء ربنا أن يُعصى؟! فقال له ميمون: أفعُصي كارهاً؟!.(/8)
5- وقد وضع الإمام الشافعي مسلكاً قوياً في مناظرة القدريّة، فقال: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرّوا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا".
وكان السلف رضوان الله عليهم يناظرون القدرية بهذا المسلك كثيراً.
6- عن عمرو بن مهاجر قال: أقبل غيلان ـ وهو مولى لآل عثمان ـ وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز، فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما، فقال: أعِلمُ الله نافذٌ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين، قال: ففيم الكلام؟! فخرجنا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أشرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود أنه لا يسجد؟! فقال عمرو: فأومأتُ إليهما برأسي: قولا: نعم. فقالا: نعم. فأمر بإخراجهما.
7- وعن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان، ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكذب عليّ يا أمير المؤمنين ويُقال علي ما لا أقول، قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم، قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل: ما شئت. يا غيلان: إنك إن أقررت بالعلم خُصِمت، وإن جحدته كفرتَ، وإنك أن تقرّ به فتخصم خيرٌ لك من أن تجحد فتكفر.
8- بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره، فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشرّ؟ قال: بذلك أقول، فأحضِر من شئت يحاجني فيه، فإن غلبته بالحجة والبيان علمتُ أني على الحق، وإن غلبني بالحجة فاضرب عنقي. قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ سألتك عن واحدة، وإن شئتَ عن ثلاث، وإن شئتَ عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشدّ من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه. فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسّر لنا هذه المسائل، قال: نعم يا أمير المؤمنين. سألته: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها. وسألته: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. وسألته: هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ حرّم الميتة والدم، ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً، أو قال: دون الله، فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء.
هـ- من أقوال السلف والأئمة في الإيمان بالقدر:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدَك على خدّك).
وقال يحيى بن سعيد: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: "إن أفعال العباد مخلوقة"، قال أبو عبد الله: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة.
وقال الإمام أبو حنيفة: "وكان الله تعالى عالماً في الأزل بالأشياء قبل كونها، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلاّ بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح المحفوظ".
وقال الإمام مالك لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال: "إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فلا بدّ أن يكون ما قال الله تعالى".
وقال الإمام الشافعي: "إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلقٌ من خلق الله تعالى... وإن القدر خيره وشره من الله عز وجل".
وقال الإمام أحمد: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوله وآخره من الله قضاءً وقدراً، قدّره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل، ولا يجاوز قضاءه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عدل منه عزّ ربنا وجلّ".
وقال الإمام أحمد أيضا: "أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين".(/9)
وقال أبو بكر الحميدي: "السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه، وأن يعلم أن ما أصابهُ لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاءٌ من الله عز وجل".
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشرّ والنفع والضرّ والحلو والمرّ بقضاء الله تعالى وقدره، ولا مردّ لهما ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلاّ ما كتب له ربّه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوه بما لم يقضه الله عليه لم يقدروا".
وقال البغوي: "الإيمان بالقدر فرضٌ لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْء} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فالإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب...".
وقال ابن قدامة المقدسي: "من صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلاّ بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلاّ عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خطّ في اللوح المحفوظ".
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 302) وما بعدها.
الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211). وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/87).
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/338)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 304).
انظر: مجموع الفتاوى (3/148-150).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
المغني في أبواب التوحيد والعدل، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 305).
كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد للرسي (1/118)، وانظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 307).
مجموع الفتاوى (8/449)، وانظر: (8/452،459) منه.
شرح العقيدة الطحاوية (ص 324) ط الرسالة، وانظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/165).
انظر مناقشة الأدلة تفصيلاً في شفاء العليل لابن القيم (2/127-255)، والقضاء والقدر للمحمود (ص346-367).
شرح العقيدة الطحاوية (ص640-641) ط الرسالة. وانظر: شفاء العليل (1/150).
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 250-251).
المصدر السابق (ص 251).
انظر التعليق على المصدر السابق (ص 251) وفتح الباري.
انظر: تاريخ الطبري (8/125).
أي: بصفة العلم التي اتصف الله تعالى بها.
شرح الطحاوية (ص 354) ط الرسالة.
الشريعة للآجري (ص 232).
شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/789).
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/795).
خلق أفعال العباد للبخاري (ص 34).
المصدر السابق.
الفقه الأكبر المنسوب إلى أبي حنيفة، وشرحه لملاّ علي قاري (ص 63-64).
حلية الأولياء لأبي نعيم (6/326).
مناقب الشافعي للبيهقي (1/415).
طبقات الحنابلة (1/25).
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 228).
مسند الحميدي (2/546).
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 78-79).
شرح السنة (1/142-144).
لمعة الاعتقاد (ص 19-20).
5- مسائل متفرقة:
أ- حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي:
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقوام يحتجّون بالقدر ويقولون: إنه قد مضى الأمر، والشقي شقيّ، والسعيد سعيد، محتجين بقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قائلين بأن الله قدّر الخير والشرّ، والزنا مكتوب علينا، وما لنا في الأفعال قدرة وإنما القدرة لله...
فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم إذا أصرّوا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرّفوا وبدّلوا، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء:150، 151] فكيف بمن كفر بالجميع، ولم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده؟! بل ترك ذلك محتجاً بالقدر، فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض".
ب- شبهة من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فحجّ آدم موسى)):(/10)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجّ آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحجّ آدم موسى؛ قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتّ الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرّبك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربّه فغوى؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحجّ آدم موسى)).
وبه يحتج الجبرية الذين عطلوا الأمر والنهي، والجواب الصحيح فيه كما قال ابن أبي العزّ: "إن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السلام على ذنبٍ قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم عليه السلام بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب، لا عند المعايب.
وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدّر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله رباً، وأمّا الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب عند المعايب، ويصبر على المصائب".
ج- هل نحن مأمورين بالرضا بقضاء الله وقدره؟
قال ابن أبي العزّ: "الجواب أن يقال:
أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدّره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يُرضى به، وفيه ما يسخَط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضيّة ما يغضب عليه، ويُمقت ويُلعن ويُذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعلٌ قائمٌ بذات الله تعالى، ومقضيّ وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيُرضى به كلّه، والمقضيّ قسمان: منه ما يُرضى به، ومنه ما لا يُرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان:
أحدهما: تعلّقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يُرضى به.
والوجه الثاني: تعلّقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يُرضى به، وإلى ما لا يُرضى به.
مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه، وجعله أجلاً للمقتول، ونهاية لعمره، نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه، وأقدم عليه باختياره، وعصى الله بفعله، نسخطه ولا نرضى به".
مجموع الفتاوى (8/262-263).
رواه البخاري في القدر، باب: تحاجّ آدم وموسى عند الله (6614)، ومسلم في القدر، باب: حاج آدم موسى عليهما السلام (2652) واللفظ له.
شرح العقيدة الطحاوية (ص 135-136)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/108، 178) ومنهاج السنة (2/10).
شرح العقيدة الطحاوية (ص 336) ط الرسالة.
سادساً: مذهب أهل السنة في مسائل تتعلق بالقضاء والقدر:
أ- التحسين والتقبيح:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
أحدهما: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدةٍ ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفةً لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث الله إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.(/11)
والنوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] حصل المقصود، ففداه بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلاّ لما هو متّصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعريّة ادّعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب".
ب- وجوب فعل الأصلح:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرسال الرسل مصلحة عامة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته، فـ((إن الله كتب في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي))، فهم يقولون: فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه مصلحة لكل فاعل وتارك، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد، وإن تضمّن شراً لبعضهم، وهكذا سائر ما يقدّره الله تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس، فلله في ذلك حكمة أخرى. ويقولون: وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس، أو هو سبب ضرر كالذنوب، فلا بدّ في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها الله، وقد غلبت رحمته غضبه".
ج- الاستطاعة:
وقول أهل السنة فيها التفصيل:
1- هناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكّن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصلحة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل قد تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين، ومثال هذه الاستطاعة قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فهذه الاستطاعة قبل الفعل، ولو لم تكن إلاّ مع الفعل لما وجب الحج إلاّ على من حجّ، ولا عصى أحدٌ بترك الحج، ولا كان الحج واجباً على أحد قبل الإحرام، بل قبل فراغه، ومن أمثلتها قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحدٍ من التقوى إلاّ ما فعل فقط؛ إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة.
وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عُرف الناس.
2- وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقوله: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لّلْكَافِرِينَ عَرْضاً v الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}[الكهف:100-101]، فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم، وصعوبته على نفوسهم لا تستطيع إرادته، وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه، وهذه حال من صدّه هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها، وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له.
وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة الكونية، التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل.
د-الحكمة والتعليل:
يقول ابن القيم: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير معنىً ومصلحة، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلّ كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى".
فأهل السنة أثبتوا لله حكمة في كل ما خلق، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه سبحانه، يحبها ويرضاها، وهي التي أنكرها المعتزلة.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، وهي نعمة يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذه تكون في المخلوقات والمأمورات.
هـ- تكليف ما لا يطاق:
تكليف ما لا يطاق على وجهين:
أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
1- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
2- ما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديماً، والقديم محدثاً، ونحو ذلك، فهذا اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وأنه لا يجوز تكليفه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله.(/12)
والثاني: ما لا يقدر عليه، لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر بالإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافاً للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة، لكن: هل يطلق على هذا بأنه تكليف ما لا يطاق؟
جمهور أهل العلم منعه وهو الراجح، وإن كان بعض المنتسبين إلى أهل السنة قد أطلقه في ردّهم على القدريّة.
و- معنى الظلم:
قال أهل السنة: إن الله تعالى حكَمٌ عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلاّ في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرّق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين.
وعلى هذا فالظلم الذي حرّمه الله على نفسه وتنزّه عنه فعلاً وإرادة هو ما فسّره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمِّل المرء سيئات غيره، ولا يعذبه بما لم تكسب يداه، وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه:112]، قال المفسّرون: لا يخاف أن يحمَّل عليه سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل، وقيل: لا يخاف ألاّ يجزى بعمله.
والله سبحانه وتعالى قادرٌ على الظلم، وإنما استحقّ سبحانه الحمد والثناء لأنه ترك الظلم وهو قادرٌ عليه، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع، وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزَّه الله عنه، وأما إثابة المطيع ففضلٌ منه وإحسان، وإن كان حقاً واجباً بحكم وعده باتفاق المسلمين، وبما كتبه على نفسه من الرحمة، وبموجب أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
وهم المعتزلة ومن وافقهم.
رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع (3464)، ومسلم في الزهد والرقائق (2964).
مجموع الفتاوى (8/434-436) باختصار.
الحديث رواه البخاري في التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء (7422).
منهاج السنة لابن تيمية (1/462-463) باختصار.
انظر: مجموع الفتاوى (8/372).
انظر: مجموع الفتاوى (8/129، 290، 373).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 268-270)، وانظر أيضاً: شرح الطحاوية لابن أبي العزّ (ص 637-639)، ودرء التعارض (1/61).
شفاء العليل (2/87).
تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن فوزي (2/1069)، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (8/35-36).
القضاء والقدر للمحمود (ص 277-278).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (5/224).
القضاء والقدر للمحمود (ص 285-286)، وانظر: منهاج السنة (2/236) ومفتاح دار السعادة (2/107)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 659-660).
سابعاً: ثمرات الإيمان بقضاء الله وقدره:
للإيمان بقضاء الله وقدره فوائد عظيمة، منها:
1- أنه يعرِّف الإنسانَ قدرَ نفسه، فلا يتكبّر ولا يبطر، ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقرّ الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائماً، وهذا من أسرار خفاء المقدور.
2- يقول الشوكاني: "ومن فوائد رسوخ الإيمان بهذه الخصلة أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخير على أيّ صفة كان وبيد من اتفق فهو منه عز وجل، فيحصل له بذلك من الحبور والسرور ما لا يقدر قدره، لما له سبحانه من العصمة التي تضيق أذهان العباد عن تصوّرها، وتقصر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها... وما أحسن ما قاله الحربي: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنّ بعيشه".
3- الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحبّ لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله؛ لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق فيعطي ويمنع، وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه سبحانه وتعالى لخلقه.
4- الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوّي فيها العزائم، فيثبت صاحبه في ساحات الجهاد ولا يخاف الموت؛ لأنه موقن أن الآجال محدّدة لا تتقدم ولا تتأخر لحظةً واحدة.
5- الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم، وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصِّر في حقّه أحدٌ أو يسيء إليه أو يردّ إحسانه بالإساءة أو ينال من عرضه بغير حق تجده يعفو ويصفح لأنه يعلم أن ذلك مقدّر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حقّ نسفه، أمّا في حقّ الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب.
6- الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعدّدة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو يغرس أيضاً في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله تعالى حين يقع منه الذنب، ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة.(/13)
7- ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبيّن للناس حقيقة الإيمان، ويوضح لهم مقتضياته، ويكشف الباطل وزيفه ودُعاته وحماته، ويقول كلمة الحقّ أمام الظالمين، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرّة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره؟! فما قدّر سيكون، وما لم يقدر لن يكون، وهذا كله مرجعه إلى الله، والعباد لا يملكون من ذلك شيئاً.
8- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك، وهو مفرق طريق بين التوحيد والشرك، فالمؤمن بالقدر يُقرّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد، ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من دون الله آلهة وأرباباً.
9- وهو يفضي إلى الاستقامة على منهجٍ سواءٍ في السّراء والضرّاء، لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات فمن الله لا بذكائه وحسن تدبيره، وإذا أصابه الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاءً منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيسكب هذا الإيمان في قلب المؤمن الرضا والطمأنينة.
10- المؤمن بالقدر دائماً على حذر من أن يأتيه ما يضله، كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات، كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحقّ كما يسأله الرشد والسداد.
11- إذا آمن المؤمن بالقدر فإنه يقبل على أمر الله وإن قلَّت الرفقة، ويقبل على الجهاد وإن كان وحده.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
انظر: لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها للدكتور محمد أمين المصري (ص 186).
انظر: قطر الولي على حديث الولي للشوكاني (ص 396)، ضمن ولاية الله والطريق إليها. دراسة وتحقيق الدكتور: إبراهيم هلال.
انظر: لمحات في وسائل التربية (ص 178)، والإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر للشيخ أحمد البيانوني (ص144-145)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 453).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 454).
انظر: مجموعة بحوث فقهيّة، بحث الإيمان بالقضاء والقدر للدكتور عبد الكريم زيدان (ص 236)، والقضاء والقدر للمحمود (ص 456).
انظر: مجموعة بحوث فقهية بحث الإيمان بالقضاء والقدر (ص 240-244) والقضاء والقدر للمحمود (ص457).
انظر: القضاء والقدر للمحمود (ص 457-458).
انظر: القضاء والقدر للأشقر (ص 109-110).
المصدر السابق (ص 110-111)، وانظر: العقيدة الإسلامية لعبد الرحمن حبنكة (ص 686).
المصدر السابق (ص 111).
انظر: ترتيب وتقريب شرح العقيدة الطحاوية للشيخ خالد بن فوزي عبد الحميد (2/1021).(/14)
الإيمان بالله:
الإيمان بالله سبحانه و تعالى هو الفطرة التي فطر الله عليها عباده, و الإلحاد غاشية طارئة على الإنسان, خرج بها أصحابها عن أصل الخلقة و مقتضى الفطرة. و يدل على هذا قوله تعالى: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين, أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون" [الأعراف: 172-173]. و إن علم الإيمان هو أشرف العلوم لتعلقه بمعرفة الله سبحانه و تعالى و إفراده بالعبادة, و أيضا لما يترتب عليه من تحقق الحياة الطيبة في الحياة الدنيا و الفوز بنعيم الخلد و جنة الأبد في الآخرة.
و أما الملاحدة و اللادينيين الذين لا يؤمنون بالله سبحانه و تعالى, و يبررون ذلك بأنه لا تدركه الحواس, فقد اتبعوا بهذه الأقوال سنن أعداء الإيمان الذين كانوا من قبلهم عندما جعلوا رؤية الله شرطا للإيمان. و هذه المكابرة هي منطق الكافرين قديما و حديثا, و لكنها في الحقيقة شبهة باطلة لأن هؤلاء يؤمنون بوجود العقول المفكرة و لم يروها, و يؤمنون بالجاذبية الأرضية و لم يروها و هناك الكثير من الأمثلة على أمور مثل هذه يؤمنون بها دون أن يروها أو أن تدركها حواسهم. و لكنهم آمنوا بكل هذه الأشياء التي لا يرونها لما يرون من آثارها, كأثر الجاذبية في جذب الأشياء إلى الأرض. و لذلك فإن الطريق إلى الإيمان بالله عز و جل هو التدبر في آياته, و هي تقود كل منصف إلى الإيمان بالله, و إلى الإيمان بربوبيته و ألوهيته سبحانه و تعالى.
و إن من ثمرات الإيمان بالله الحياة الطيبة في الدنيا و الهداية و العزة و التمكين و النصر على الأعداء و الفوز برضوان الله و الجنة في الآخرة, و هناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى. و من المعروف أن سبب عدم تحقق الكثير من هذه الوعود في واقع المسلمين حاليا هو ضعف إيمانهم, و لا سبيل إلى تحقيق هذه الوعود إلا بالعودة إلى الإيمان علما و عملا, تصديقا و انقيادا. و من الآيات التي تؤكد هذا ما يلي:
قوله تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" [النحل 97].
و قوله تعالى: "فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فأن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى" [طه 123].
و قوله تعالى: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين" [المنافقون 8].
و قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يؤمنون بي لا يشركون بي شيئا و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" [النور 55].
و قوله تعالى: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" [الحج 38].
و قوله تعالى: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين" [الروم 47].
و قوله تعالى: "ثم ننجي رسلنا و الذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين" [يونس 103].
فبالإيمان يكون النصر و العزة و التمكين و النجاة و الهداية و الحياة الطيبة في الدنيا و الآخرة, و أما من أعرض عن الإيمان فله معيشة ضنكا, و يحشر يوم القيامة أعمى, و يعيش ذليلا مهزوما.
وجود الله عز و جل:
إن هناك نوعان من الوجود:
وجود ذاتي, لم يسبقه عدم و لا يلحقه عدم, و هو ما كان وجوده ثابتا له في نفسه و ليس مكسوبا له من غيره, و هذا هو وجود الله عز و جل كما قال تعالى: "هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم" [الحديد: 2].
وجود حادث, و هو ما كان حادثا بعد عدم, فهذا الذي لا بد له من موجد يوجده و خالق يحدثه, و ذلك الخالق هو الله عز و جل, كما قال تعالى: "الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل" [الزمر: 62].
و لذلك فإن الوجود صفة لله جل و علا بإجماع المسلمين و جميع العقلاء حتى المشركين.
بعض الأدلة على ربوبية الله تعالى:
دلالة الفطرة: و هي ذلك الشعور الغامر الذي يملأ على الإنسان أقطار نفسه, إقرارا بخالقه و تألها له و التجاء إليه. و الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله بربوبيته على بني آدم.
دلالة الآيات الكونية: فإن الأدلة على وجود و ربوبية الله عز و جل بعدد مخلوقات الله. و إذا تأمل الإنسان في هذا الكون و في جميع المخلوقات الموجودة فيه, سيجد أربعة أدلة رئيسية تهديه إلى الإيمان بالله سبحانه و تعالى, و هي مذكورة في قوله تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى, الذي خلق فسوى, و الذي قدر فهدى" [الأعلى: 1-3]. إذا فهذه الأدلة هي: الخلق و التسوية و التقدير و الهداية, و شرح هذه الأدلة باختصار كما يلي:(/1)
أ- دليل الخلق: و هو خلق الله لجميع المخلوقات, و الإعجاز في هذا الخلق. فالإنسان عاجز عن خلق أي شيء من عدم, و لكن الله سبحانه و تعالى خلق الكون بأكمله من عدم. و كما قال تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات و الأرض بل لا يوقنون" [الطور 35-36]. فخلق الله الإنسان و السماوات و الأرض دليل على وجود الله و على ربوبيته. و المتأمل في خلق الله سبحانه و تعالى, من النجوم و الكواكب, و الأرض و ما فيها من مخلوقات, و حتى في الخلايا التي يتكون منها الأنسان, يقر بوجود آيات بينات على وجود الله عز و جل.
ب – دليل التسوية: معنى تسوية الشيء هو إتقانه و إحسان خلقه و إكمال صنعته بحيث يكون مهيئا لأداء وظيفته, و يكون مستويا معتدلا متناسب الأجزاء ليس بينها تفاوت يخل بالمقصود. و هذه التسوية في الخلق تدل على وجود الله عز و جل, وعلى بديع علمه و إرادته و قدرته و حكمته.
ج – دليل التقدير: التقدير هو خلق كل شيء بمقدار و ميزان و ترتيب و حساب بحيث يتلاءم مع مكانه و زمانه, و بحيث يتناسق مع غيره من الموجودات القريبة منه و البعيدة عنه. و تقدير الله سبحانه و تعالى في جميع مخلوقاته دليل آخر على وجوده عز و جل.
د - دليل الهداية: المقصود من الهداية هنا هو الإلهام الفطري أو الغريزي الذي تتوجه به المخلوقات قاطبة إلى أداء دورها و تحقيق وظيفتها في هذه الحياة. و هذه الهداية تشمل جميع المخلوقات, الحية و غيرها.
دلالة الحس: لدلالة الحس على وجود الله وجهان: الوجه الأول هو ما نشهده و نسمعه من إجابة الداعين و غوث المكروبين. و أما الوجه الثاني, فهو ما أيد الله به رسله من المعجزات التي تدل على وجود الله عز و جل لأنه هو الذي صنع المعجزات, و لأن الرسل أنفسهم دعوا الناس إلى الإيمان بوجود و ربوبية الله سبحانه و تعالى.
دلالة إجماع الأمم: فإن جميع الأمم و الديانات المعروفة أجمعت على ربوبية الله عز و جل, و لو أن بعضهم جعلوا لله شركاء يعبدونهم من دون الله. و أما ظاهرة الإلحاد و إنكار و جود الله عز و جل لم تكن فيما مضى إلا شذوذا تخلف به أصحابه عن مواكب العقلاء.
دلالة العقل: و هي تقوم على ثلاثة أسس:
الأول: أن العدم لا يخلق شيئا
الثاني: أن الفعل مرآة لقدرة فاعله و بعض صفاته
الثالث: أن فاقد الشيء لا يعطيه, فالمخلوقات جميعا لا يعقل أن ينسب إليها الخلق.
توحيد الربوبية:
معنى توحيد الربوبية: توحيد الله بأفعاله, و اعتقاد تفرده بالخلق و الملك و الرزق و التدبير. كما قال تعالى: "ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين" [الأعراف: 54].
و لا يكفي الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك, فإن معظم الطوائف تقر بالربوبية لله سبحانه و تعالى, و لم يعرف عن أحد من الطوائف القول بأن للعالم صانعين متماثلين في الصفات و الأفعال. و لكن هذه الطوائف وقع منها الشرك في بعض الربوبية كاعتقادهم الخلق و النفع و الضر في آلهتهم المزعومة من دون الله. و إقرارهم بالربوبية هذا لم يخرجهم من أن يوصفوا بالشرك, لأن هذه الطوائف و الأمم كانت تقر بالربوبية و تكفر بالألوهية.
و لكن توحيد الربوبية الخالص من الشرك هو المدخل إلى توحيد الألوهية, فإن من يرسخ في يقينه بتفرد الله بالخلق و الملك و الرزق و التدبير لا بد أن يتوجه بدعائه و عبادته إليه و حده.
توحيد الألوهية:
توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة قولا و فعلا و قصدا, و البراءة من كل معبود من دونه, فالإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده دون سواه.
تعريف العبادة: التأله و التذلل لله وحده, و الانقياد له سبحانه بفعل ما أمر به و ترك ما نهى عنه. و عرفها العلماء أيضا بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال و الأفعال الظاهرة و الباطنة.
و بهذا فإن كل أصول الدين و فروعه يندرج في معنى العبادة, و توحيد الألوهية يقتضي إفراد الله بكل هذه العبادات, و التوجه بها إليه وحده.
خطأ اختزال مفهوم العبادة في باب الشعائر التعبدية:
و من الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هنا هو أن اختزال مفهوم العبادة في باب الشعائر التعبدية فحسب من المفاهيم المغلوطة الشائعة بين الناس, و لعلها أثر من آثار العلمانية و ما تروج له من الفصل بين الدين و الحياة. و الصواب هو أن العبادة هي كل قول أو فعل يحبه الله و يرضاه, و أن العاديات تتحول مع النية الصالحة إلى عبادات. فمثلا, كفالة أمور المسلمين و القيام بحاجاتهم العامة من الزراعات و الصناعات و نحوه يلتحق مع النية الصالحة بأبواب العبادات.
أنواع العبودية:
1) عبودية كونية عامة لجميع الخلق في كل زمان و مكان و هي عبودية تسخير و تسيير, و هذه لله وحده كما قال تعالى: "و له أسلم من في السماوات و الأرض طوعا و كرها" [آل عمران: 83].(/2)
2) عبودية خاصة يصطفي الله لها من يشاء من عباده الصالحين و هي عبودية تشريف و تكريم, كما قال تعالى: "و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" [الفرقان: 63].
3) عبودية خاصة محدودة و مؤقتة, و هي التي تكون بين مخلوق و مخلوق (الرق) و قد تكون مشروعة (أسر للكفار) أو غير مشروعة (سرقة للأحرار).
أهمية توحيد الألوهية و منزلته من الدين:
هذا التوحيد هو أعظم أنواع التوحيد و أهمها على الإطلاق, و هو الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاق كلمة توحيد, و تأتي أهميته من الأسباب التالية:
1) أنه دعوة الرسل جميعا, و أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين, و هو معقد النجاة في الدنيا و الآخرة.
2) أنه شعار الإسلام الذي يميزه عما سواه من الديانات.
3) أن القرآن الكريم كله في التوحيد و حقوقه و جزائه, و في شأن الشرك و أهله و جزائه.
و الطريق الفطري إلى إثبات توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية, كما قال تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون, الذي جعل لكم الأرض فراشا و السماء بناء و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا و أنتم تعلمون" [البقرة: 21-22]. ففي هذه الآية الكريمة جعل الله من مظاهر تفرده بالربوبية في خلق الحاضرين و الغابرين و تمهيد الأرض و رفع السماء و إنزال الماء منها و إخراج الرزق من الثمرات بابا إلى توحيد الألوهية و آية بينة على استحقاقه وحده للعبادة.
و أركان توحيد الألوهية هي:
1) إفراد الله بالمحبة و التعظيم و التأله.
2) إفراد الله بالطاعة و الانقياد و التسليم.
توحيد القصد و التأله:
معنى توحيد القصد و التأله: إفراد العبادة لله بالتأله و التنسك و التوجه إليه وحده بسائر أنواع العبادات القولية و العملية, كالحب و التعظيم, و الرغبة و الرهبة, و الإنابة و الرجاء و التوكل و الدعاء, و الاستغاثة, و الذبح و النذر, و الركوع و السجود, و غيرها.
و الغلو في الصالحين كان أساس الشرك في بني آدم, و لهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الغلو فقال عليه الصلاة و السلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم, إنما أنا عبد, فقولوا: عبد الله و رسوله" [متفق عليه]. و الإطراء: مجاوزة الحد في المدح و الكذب فيه.
ضلال القبوريون و غلوهم في الصالحين:
و قد ضل الكثير من الفرق و العوام بسبب الجهل في هذا الباب, فاتخذوا من الأولياء و الصالحين أندادا يحبونهم كحب الله, و توجهوا إليهم بكثير من العبادات كالدعاء و الاستغاثة و الذبح و النذر. و فيما يلي توضيح لهذه العبادات التي يكون توجيهها لغير الله شركا به:
الدعاء و الاستغاثة و الاستعاذة:
الدعاء: الدعاء نوعان:
1) دعاء المسألة: طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر, و هو متضمن لدعاء العبادة, لأن السائل أخلص سؤاله لله, و رغب إليه بخضوع و تذلل, و ذلك من أفضل العبادات.
2) دعاء العبادة: هو سائر القربات من ذكر و تلاوة و صلاة و نسك, و هو يستلزم دعاء المسألة.
الاستغاثة: هي طلب الغوث, و هو إزالة الشدة, و لا تكون إلا من المكروب, بخلاف الدعاء فإنه أعم من ذلك, فكل استغاثة دعاء و ليس كل دعاء استغاثة. و الاستغاثة لا تطلب من المخلوق إلا فيما يقدر عليه, أما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله.
الأدعية البدعية: و هي ثلاثة مراتب:
الأولى: دعاء غير الله من الموتى أو الغائبين, و هذا هو الشرك بالله.
الثانية: طلب الدعاء من الميت أو الغائب من الأنبياء و الصالحين و هذا من البدع, و قد ألحقه بعض العلماء بالشرك.
الثالثة: دعاء الله تعالى متوسلا بذات أحد من الصالحين أو بجاهه, و هو من البدع المحدثة عند الجمهور.
التوسل المشروع: و هو ثلاثة أقسام:
1) التوسل إلى الله سبحانه و تعالى بأسمائه الحسنى و صفاته العلى.
2) التوسل إلى الله سبحانه و تعالى بالأعمال الصالحات.
3) التوسل إلى الله سبحانه و تعالى بطلب الدعاء من الأحياء الصالحين.
الاستعاذة: هي الالتجاء و الاعتصام. فالعائذ بالله قد التجأ إلى الله و اعتصم به من كل شر, و العياذ يكون لدفع الشر. والاستعاذة من العبادات التي أمر الله بها عباده كقوله سبحانه و تعالى: "و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم" [فصلت: 36]. لهذا فمن صرف شيئا من الاستعاذة لغير الله فقد جعله شريكا لله في عبادته.
الخوف والمحبة:
الخوف: الخوف من الله من أفضل مقامات الدين و أجلها, و هو من أجمع أنواع العبادة التي أمر الله جل و علا إخلاصها له, كقوله تعالى: "إنما ذالكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين" [آل عمران: 175]. و ينقسم الخوف إلى ثلاثة أقسام:
1) خوف السر أو الخشية بالغيب, و يجب إخلاصه لله تعالى, فإذا صرف لغيره فذلك هو الشرك.
2) ترك بعض الواجبات خوفا من الناس و هذا مجمع على حرمته.(/3)
3) الخوف الطبيعي و هو كالخوف من سبع أو عدو و هذا لا يذم.
المحبة: محبة الله عز و جل بتأله و ذلة هو أصل دين الإسلام, لأن العبادة هي كمال المحبة و كمال الخضوع, فمن أحب من دونه شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا. و المحبة في الله ليس فيها شيء من شوائب الشرك بل هي واجبة, إذ أنها تابعة لمحبة الله و لازمة لها. أما المحبة الشركية, فهي المحبة مع الله لما فيها من التأله لغير الله.
النذر و الذبح:
النذر و الذبح: بما أن الوفاء بالنذر عبادة من العبادات, كما قال تعالى: "يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا" [الإنسان: 7], فإن النذر لغير الله شرك في العبادة لما يتضمنه من تعظيم المنذور له و التقرب إليه بذلك. و أما بالنسبة للذبح, فهو أيضا عبادة من العبادات كما قال تعالى: "فصل لربك و انحر" [الكوثر: 3], و لذلك فإن الذبح لغير الله شرك أكبر يستحق فاعله لعنة الله و غضبه.
التنجيم:
هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية, و منه ما هو محرم و منه ما هو جائز:
الجائز منه: ما كان من جنس الحساب و يدرك بطريق المشاهدة الخبر و ليس من علم الغيب في شيء.
و المحرم منه: الاستدلال بحركات النجوم و الكواكب على الحوادث المستقبلية, أو القول بتأثير الكواكب في الأمور. و لا يدخل في هذا ما جاء عن طريق الأبحاث العلمية, و إنما المقصود الخرافات المنتشرة بين الجهلة مثل ما يسمى بالأبراج و غيرها.
التمائم:
التمائم جمع تميمة, و هي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات و عظام و نحوه لدفع العين, و هي من أبواب الشرك.
الحلف بغير الله:
الحلف بغير الله من الشرك الأصغر, و قد يكون من الشرك الأكبر بحسب حال قائله و مقصده. و قد اختلف الناس في جواز الحلف بالنبي صلى الله عليه و سلم, و الصواب منعه.
توحيد الطاعة و الانقياد:
توحيد الطاعة و الانقياد: هو إفراد الله تعالى بالطاعة و الانقياد, و ذلك بتحكيم شرعه و القبول التام لكل ما جاء به نبيه صلى الله عليه و سلم, و الكفر بما يتنافى مع ذلك من الأهواء البشرية و المذاهب الوضعية.
أما في الزمن الذي نعيش فيه, و مع الاستعمار للبلاد الإسلامية, حصل تبديل للشريعة الإسلامية بالقوانين الأجنبية التي جاء بها المستعمر. فترك الناس شرع الله و وجهوا الطاعة و الانقياد إلى قوانين أجنبية وضعها أعداءهم. و من أعداء الإسلام من قال أن الشريعة الإسلامية لم تكن مطبقة في جميع الأحوال و الأوقات حتى في ظل الخلافة الإسلامية قبل مجيء المستعمر, و احتجوا بهذا على جواز عدم تطبيق الشريعة و اتخاذ العلمانية (فصل الدين عن التشريع) منهجا!
و لكن الفرق بين العلمانية و ما كان يحصل من انحرافات جزئية في تطبيق الشريعة في ظل الخلافة أن العلمانية ترفض مرجعية الشريعة تماما. أما الخلافة فقد كانت معترفة و مؤمنة بمرجعية الشريعة, و إن حصل فيها بعض التجاوزات, فالله سيحاسب كل من ظلم أو أساء. فالمطلوب لتحقيق توحيد الطاعة و الانقياد هو تحكيم الشرع و القبول بكل ما جاء فيه و الكفر بكل ما يتنافى معه.
فالعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة و عن الحياة عموما, و قصر الدين على جانب الشعائر التعبدية البحتة بين المرء و خالقه, و هي تنزع قدسية الدين و تعتبره ميراثا بشريا بحتا. و لذلك فإن العلمانية ناقضة لأصل الدين:
1) فهي شرك في الربوبية, ليس في جانب الخلق و الأمر الكوني و أنما في جانب الهداية و الأمر الشرعي.
2) و هي شرك في الألوهية: فتبديل شرع الله بشرع آخر شرك بالله تعالى.
3) و هي ثورة على النبوة: فالإيمان بالنبوة يتطلب تصديق خبر الرسول صلى الله عليه و سلم و التزام أمره جملة و تفصيلا.
4) و هي نقد الإيمان: فإن أصل الإيمان تصديق الخبر و الانقياد للأمر.
5) و هي استحلال للحكم بغير ما أنزل الله.
توحيد الأسماء و الصفات:
هلك في قضية الأسماء و الصفات فريقان:
1) المشبهة أو الممثلة, و هم الذين غلو في إثبات صفات الله حتى جعلوها على نحو يماثل صفات المخلوقين. و مذهبهم باطل و منكر, فقد قال الله تعالى: "ليس كمثله شيء و هو السميع البصير" [الشورى 11]. و قال: "و لم يكن له كفوا أحد" [الإخلاص]. و قد نهى الله عن أن تضرب له الأمثال في قوله تعالى: "فلا تضربوا لله الأمثال" [النحل 74].
2) المعطلة, و قد غلو في جانب النفي فأنكروا أسماء الله و صفاته إنكارا كليا أو جزئيا, و حرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب و السنة, و منهم: الأشاعرة و المعتزلة و الجهمية و القرامطة و الفلاسفة, على تفاوت بينهم في التعطيل و التحريف. و أظهر هذه الطوائف اليوم هم الأشاعرة, و قد أثبتوا بعض الصفات و نفوا بعضها الآخر و ردوا لذلك من النصوص ما أمكنهم رده و أولوا ما أعجزهم رده.(/4)
و قد زعم الأشاعرة و الفلاسفة, لقلة فهمهم, أنه يجب تأويل أو تعطيل أو نفي الكثير من الأسماء و الصفات, و ذلك لأسباب فلسفية لأنهم رأوا تعارض ثبوت هذه الأسماء و الصفات مع العقل. و لكن ما فاتهم أن هذه الأمور من أمور الغيب, فلا يجوز و لا يعقل الرجوع فيها إلى العقل, فإن العقل لا يمكنه أن يدرك بالتفصيل ما يجب و لا يجب و ما يجوز و ما يستحيل في حق الله عز و جل.
و أما الصواب في هذا الباب فهو موقف أهل السنة و الجماعة, و هو الإثبات بلا تثميل و التنزيه بلا تعطيل. و كما قال الإمام أحمد في هذا الباب: نصف الله بما وصف نفسه, و لا نتعدى القرآن و الحديث.(/5)
الإيمان بالملائكة
الله خلق الملائكة:
خلق الله تعالى أنواعًا كثيرة من المخلوقات والكائنات، منها ما نراه ومنها ما لا نراه. فنحن نستطيع أن نرى الشمس والقمر والجبال والأنهار والأشجار والحيوانات والطيور والأسماك، حتَّى الكائنات الدَّقِيقةِ التي لا نستطيع رؤيتها بأعيننا مثل: الجراثيم والبكتريا والميكروبات، أو الذَّرَّات الدقيقة للمادة يمكننا مشاهدتها والتعرف عليها عن طريق أجهزة خاصة، تقوم بتكبيرها مئات المرات. لكن هناك كائنات أخرى خلقها الله، لا نستطيع رؤيتها أو إدراكها بحواسنا، ومن هذه الكائنات: الجِنُّ والملائكة.
.
والإيمان بالملائكة من أركان الإيمان الستة، وهو أحد أسس العقيدة الإسلامية.
قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا}.سورة "النساء": الآية [136].
وجاء في الحديث حين سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره".
· لماذا لا نرى الملائكة؟..
نحن لا نستطيع أن نرى الملائكة أو نسمعهم، فهم مخلوقون من نورٍ، كما إنهم مخلوقون بكيفية خاصة، لكننا نؤمن بوجودهم، وأن الله خلقهم واختصَّهم بصفاتٍ خاصة، فهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، وليسوا ذكرًا وأنثى مثل البشر، وإنَّما هم عالمٌ آخر مختلفٌ تمامًا عن عالم البشر.
· الملائكة لا يعصون الله تعالى:
والملائكة ـ عليهم السلام ـ عصمهم الله من المعصية وحفظهم من الذنوب.
قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. سورة"التحريم":منلآية[6].
فهم يسبحون الله ليلاً ونهارًا، ولا يتعبون ولا يملون من عبادة ربهم، ولا يفعلون شيئًا إلا بعد أن يأذن الله تعالى لهم في ذلك أو يأمرهم به.
· وصف هيئة الملائكة:
خلق الله الملائكة في أبهى صورة، وجعلهم غاية في الجمال والبهاء والقوة، وجعل لهم أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة أجنحة، ومنهم من له أكثر من ذلك، كُلٌّ حسب وظيفته التي خلقه الله من أجلها.
وهذه الأجنحة لا نستطيع أن نتصور شكلها على وجه الحقيقة، فهي ليست كأجنحة الطيور التي نراها، ولا يجوز تشبيهها بها، فهذا التشابه في الأسماء لا في الحقيقة.
قال تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. سورة "فاطر": الآية [1].
· الملائكة تتشكل في صورة بشر:
ظهر بعض الملائكة في صورة بشرية لنبي الله "إبراهيم" ـ عليه السلام ـ وزوجه "سارة"، ونزلوا ضيوفًا عليه، وبشَّروا امرأته أنها ستلد غُلامًا، وكانت عجوزًا عاقِرًا لا تلد.
قال تعالى:
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}. سورة "الذاريات": الآيات [24 ـ 28].
كما ظهر "جبريل" ـ عليه السلام ـ في صورة بشرية للسيدة "مريم"، وبشَّرها أنها ستلد "المسيح" من غير أبٍ ليكون معجزة للعالمين.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. سورة "مريم": الآيات [16 ـ 19].
وكان "جبريل" ـ عليه السلام ـ يأتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صورة رجل أعرابي حسن المنظر غير معلوم لدى الناس، كما كان يأتيه في صورة الصحابي "دحية الكلبي" وكان جميل الصورة وحسن الهيئة.
· أعداد الملائكة عليهم السلام:
خلق الله عددًا كبيرًا من الملائكة لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، فهم لا يحصون لكثرتهم.
قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ}. سورة "المدثر": الآية [31].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطت السماء، وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع".
· من أسماء الملائكة:
ـ "جبريل" ( ملك الوحي ): وهو أفضل الملائكة، وكان ينزل بالوحي من الله تعالى على الأنبياء، وهو الذي بشر السيدة "مريم" بميلاد "المسيح" ـ عليه السلام ـ من غير أبٍ.
وقد نزل بالقرآن الكريم على النبي "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأول مرة في غار "حراء".(/1)
ـ "ميكائيل" ( ملك المطر ): وهو الملك الموكل بالسحب لتسييرها إلى حيث أمر الله، ومعه ملائكة يقومون بهذا الأمر معه.
ـ "إسرافيل" ( مللك النفخ في الصور ): وهو الذي يقوم بالنفخ في الصور "يوم القيامة" بأمر الله، فيصعق جميع من في السماوات والأرض، ثم ينفخ النفخة الثانية فيُبْعَثُونَ بإذن الله.
ـ "مالك" ( خازن النار ): وهو الملك المكلف بأمر النار "يوم القيامة"، يحشر إليها الكافرون والعصاة والمجرمون.
· وظائف الملائكة:
الملائكة أصناف كثيرة، ولهم وظائف عديدة كلَّفهم الله بها، وهم يطيعون الله فيما أمرهم به، ولا يقصرون فيما كلفهم به، ومن هؤلاء الملائكة:
* الملائكة حملة العرش: هم الذين يحملون عرش الله تعالى، وهم في حمدٍ وتسبيحٍ دائمٍ لله، ويستغفرون للمؤمنين الطائعين.
* ملائكة الوحي: وهم الذين ينزلون بالوحي من الله تعالى على رسله وأنبيائه، الذين اختارهم الله من البشر، واختصهم بالرسالة والنبوة.
* ملائكة الجنة: وهم الذين يستقبلون المؤمنين من أصحاب الجنة، ويمتعونهم بما هيأه الله لهم من نعيم وخيراتٍ كثيرةٍ.
* خزنة النار: وهم ملائكة شداد غلاظ جعلهم الله لإنزال العقاب على المجرمين الذين أشاعوا الفساد والفتنة في الأرض.
* الملائكة الكاتبون: ولكل إنسان ملكان موكلان به، يكتبان كلَّ ما يقوم به من خيرٍ أو شرٍّ، ( وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين )
* ملائكة قبض الأرواح: وهم الذين جعلهم الله لقبض الأرواح، فإذا كان العبد مؤمنًا جاءته ملائكة بيض الوجوه معهم كفن من الجنة، أما إذا كان كافرًا فتأتيه ملائكة سود الوجوه، معهم كفن من النار، فتقبض روحه.
* ملائكة سؤال القبر: ويتولى السؤال في القبر ملكان هما: "منكر" و"نكير"، فإذا ما وُضِعَ الإنسان في قبره، وانصرف الناس عنه، جاءه الملكان؛ فيقعدانه، ثُمَّ يسألانه عن ربِّه ودينه ونبيِّه.
* ملائكة الجبال: وهم الموكلون بأمر تدبير الجبال.
* ملائكة السحب: وهم الملائكة الموكلون بالسحب، يسوقونها إلى حيث أمرهم الله تعالى، تحمل إلى الناس الخير والرحمة؛ فتسقط المطر، وتروي الأرض، أو تحمل إليهم العقاب والدمار، فتنهمر سيولاً تدمر كُلَّ شيء في طريقها.
* الملائكة الموكلون بتصوير النطفة وتطويرها ونفخ الأرواح في الأجنة
*الملائكة الموكلون بحفظ الإنسان: وكل الله تعالى بابن آدم ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار يرافقونه ولا يفارقونه في كلِّ أحواله، يحفظونه بأمر الله تعالى من المضار والمهلكات.
· بيوت تدخلها الملائكة:
* بيت الله ( المسجد ): الملائكة تحب المساجد، وتشهد صلاة المسلمين فيها، وتدعو الله وتستغفره للمصلين.
* بيت يقرأ فيه القرآن: الملائكة تشهد مجالس الذكر وتلاوة القرآن الكريم، وتظلُّ تدعو للمؤمن وتستغفر له وهو يقرأ القرآن.
* مجالس العلم: الملائكة تحب مجالس العلم، سواء كانت في المساجد أو المدارس أو المعاهد أو البيوت، وتحف طلاب العلم ، وتحيطهم بالحب والرعاية.
· الملائكة تشهد أعمال البشر:
* تشهد صلاة الجمعة: تستقبل الملائكة المصلين في يوم الجمعة، وتكتب لهم من الحسنات والدرجات حسب تبكيرهم إلى الصلاة، حتى إذا صعد الخطيب المنبر، جلست تستمع إليه.
* تشهد أهل المساجد: الملائكة تحب المترددين على المساجد، وتتفقدهم، وتكتب لهم بكُلِّ خطوةٍ إلى المسجد حسنة وتمحو بها سيئةٍ.
* تشهد مجالس الذكر وتلاوة القرآن: فما من مجلس يُقرأ فيه القرآن، أو يُذكر فيه اسم الله، إلا تحضره الملائكة، وتستغفر لأهل الذكر وتلاوة القرآن.
* تشهد مجالس العلم: تحبُّ الملائكة مجالس العلم وتحضرها، وتضع أجنحتها احترامًا وتقديرًا لطلاب العلم.
* تشهد المستغفرين والتائبين: خلق الله ملائكة يجوبون الأرض، يبحثون عن التائبين والمستغفرين، والذين يدعون الله تعالى في حبٍّ وخشوعٍ.
* تشهد الجنائز: تحضر الملائكة وفاة المسلم، وتستغفر له، وتؤمن على دعاء الحاضرين، كما تشهد جنازته، ويعطي الله من يشيع الجنازة من الثواب مثل "جبل أحد".
· الجن والملائكة:
الجن نوع من مخلوقات الله التي لا نراها، وهم مختلفون عن الملائكة، فالملائكة مخلوقون من نورٍ، أما الجن فقد خلقهم الله من نار.
وللجن بعض الصفات التي تتفق مع صفات البشر، فهم ينقسمون إلى ذكرٍ وأنثى ـ مثل البشر ـ وهم أيضًا يتناسلون ويتكاثرون، ويولدون ويموتون، ويأكلون ويشربون، ويعيش "الجن" في الخرائب، والأماكن المهجورة، ويأكلون الروث والعظام.
والجن ـ كالبشر ـ منهم المؤمن ومنهم الكافر، ويطلق على الكفرة من الجنِّ "الشياطين"، وأكثرهم كفرًا وطغيانًا هم "المَرَدَة"، وأشهرهم "إبليس" اللعين، الذي رفض السجود لآدم ـ عليه السلام ـ حينما أمر الله الملائكة بالسجود له، فكان جزاؤه أن طرده الله من الجنة.
وقد توعد "إبليس" البشر بالغواية والضلال، وهو يسعى دائمًا إلى فتنتهم وإبعادهم عن طاعة الله، لكن الله حذرنا من غواية "إبليس" وأعوانه، وأمرنا بمخالفته، وعدم الخضوع له.(/2)
الإيمان باليوم الآخر(2)
اسم الكاتبة: حلاوتهم العرباوي
أدرج بتاريخ:14-4-1427 هـ ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الإيمان باليوم الآخر (2)
جامع المصطفي : 5/5/2006م
الحمد لله رب العالمين مسبب الأسباب . الرحمن الرحيم راحم المؤمنين ومنزل الكتاب مالك يوم الدين ملكه لا يفني وهو سريع الحساب . إياك نعبد عبادة عبد أخلص في عبادته لمولاه وإياك نستعين نطلب منك العون على العبادة يا لله . إهدنا الصراط المستقيم طريقا لا عوج فيه ولا ضلال . صراط الذين أنعمت عليهم بنعم الدنيا والآخرة . غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين ضلوا عن طريقك طريق الحق والهداية يا الله آمين . أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعين به وأستنصره وأتوكل في جميع الأمور عليه . وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله فكان أقرب المقربين إليه اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله محمد خير عبادك وعلى آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار على دربه إلي يوم الدين. فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير . يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين يذكرنا باليوم الآخر وما فيه من أهوال وأحوال. بسم الله الرحمن الرحيم ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) [قـ : 44] .
عباد الله أيها المسلمون :
هذه آية من كتاب الله رب العالمين تشير بوحي منها إلي أنه بعدما يقوم الناس لرب العالمين وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق ويشفع رسول الله صلي الله عليه وسلم في تقريب موعد الحساب يساق الناس إلي أرض المحشر: وهي أرض صحراء جرداء عفراء لا زرع فيها ولا ماء وليس فيها معلم لأحد ولا تري فيها عوجا ولا أمتا . يتم فيها توقيف العباد على أعمالهم خيرا أو شرا " َوقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونََ ما لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ"فيسأل الإنسان عن كل شيء عن الصغير والكبير عن النقير والقطمير والثمين والحقير. وصدق رب العالمين "َونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء : 47] . وصدق من قال :
ولوأنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل من بعد ذا عن كل شيء
فأما المؤمن فيوقفه الله على ذنوبه ويقرره عليها فيقر . فيقول له لكنني غفرتها لك . وهذا هو الحساب اليسير "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فسوف يحاسب حسابا يسيرا[الانشقاق : 7].وعن هذه الآية سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لها هذا هو العرض : فما من أحد نوقش الحساب إلا عذب ويصح في ذلك ماروي الإمام مسلم رحمه عن أم المؤمنين عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك ". وأما الكافر فليس له اليوم هاهنا عمل صالح" وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً" [الفرقان : 23] . فلا يبق إلا السيئات فيوقفون عليها ويجازون عليها "َفلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت : 50] . وأما الفرقة الثالثة فيدخلون الجنة بغير حساب فقد جاء في الحديث قال ابن إسحاق أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال" عرضت على أمتي فإذا هم قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم فقيل لي يامحمد كل هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب فهل رضيت فقال نعم قيل ومع هؤلاء سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب فقيل من هم يا رسول الله فقال هم الذين يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن وقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل من الأنصار وقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة . وكذلك لا يحاسب المعصومون وهم الأنبياء والملائكة . وليست الحكمة من الحساب أن الله لا يعلم حال الناس ويريد أن يعلم ولكن الحكمة إظهار تفاوت فضل المتقين ومساوئ العاصين فيثيب المتقين ويعذب العاصين .(/1)
ثم يشتاق الناس إلي الماء فيقول الرسول أنا فرطكم على الحوض والحوض : لغة : مجمع الماء وهو موجود في عرصات القيامة فعن بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " حوضي مسيرة شهر وماؤه أحلي من العسل وأشهى من اللبن وأطيب من المسك وكيزانه عدد نجوم السماء وزواياه سواء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا "ويتميز الحوض بثلاث أن مائه مستمد من نهر الكوثر . وانه أكبر الأحواض .وأكثر الناس ورودا عليه المؤمنون .
ويدخل الناس في شدة أخرى وهي مجاوزة الصراط : والصراط لغة : الطريق الواضح وشرعا : جسر يضرب به بين الجنة والنار وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف عليه كلاليب وحسك تأخذ من وكلت بأخذه . وهو نوعان : 1ـ صراط معنوي : وهو الإسلام وهو المقصود في قوله تعالي " إهدنا الصراط المستقيم "و 2ـ صراط حسي : وهو المقصود يوم القيامة ومن ثبت على الصراط المعنوي في الدنيا وفق على الصراط الحسي في الآخرة ويمر الناس من فوقه فينجو من فوقه المؤمنون " فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران : 185] .ويهوي الكافرون من فوقه في النار " وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون : 74] . ويحتاج الناس لمرورهم من فوقه للنور فمن الناس من يضيء نوره لعدن أو المدينة ومنهم من يضيء نوره تحت قدميه ومنهم لا نور له " وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [النور : 40]. وينادي المنافقون والمنافقات على الذين آمنوا واسمع لربك" يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ . ُينَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد14،13]. ومن ثم يختلف الناس في مرورهم عليه فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كجواد الخيل ومنهم من يعدوا عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من تأخذه الكلاليب فيقع في النار ولن تزولا قدما عبد يوم القيامة عن الصراط حتى يسأل عن أربع فعن معاذ بن جبل .أن النبي قال: ((لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه .)). أخرج الإمام الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله : ( لاتزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند الله حتى يسأل عن خمس :عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟ ). وفي رواية للترمذي أيضاً عن أبي هريرة قال :قال رسول الله : ( لاتزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ ) .
وصدق من قال :
أما آن لك ياعاصي أن تستفيقا وتتناسى الحمى والعقيقا
وتتوب إلي الله وتعمل صالحا عساك تجوز الصراط الدقيقا
فتلك شدة يكاد من هولها ينسي الصديق الحميم الصديقا
ثم بعد ذلك القنطرة: وهي لغة :البنيان المرتفع . وشرعا: طرف الصراط مما يلي الجنة أو صراط آخر خاص بالمؤمنين وعندها يكون القصاص بالحسنات والسيئات فيزول غل بعضهم لبعض واسمع لربك " وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف : 43]. وأول من يدخل الجنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأول من يدخلها من الأمم أمة محمد صلي الله عليه وسلم. وروى الإمام مسلم رحمه الله عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد. فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك.وصدق من قال :
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ..... إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه ..... ومن بناها بشر خاب بانيها(/2)
أين الملوك التي عن حظها غفلت .... حتى سقاها بكاس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ..... ودارنا لخراب الدهر نبنيها
اعمل لدار البقاء رضوان خازنها ..... الجار احمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها ..... والزعفران حشيش نابت فيها
ثم تأتي الشفاعة: وهي لغة : الوسيلة و شرعا: سؤال الخير للغير ويشترط لها شرطان. 1ـ إذن الله للشافع " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " و2ـ رضا الله عن المشفوع له " ولا يشفعون إلا لمن ارتضي " .
الثانية :
الشفاعة نوعان : نوع خاص برسول الله ونوع يشترك فيه الرسول مع غيره أما 1ـ الخاصة بالرسول فالشفاعة العظمي ، وشفاعته لأهل الجنة يدخلونها بعد الفراغ من الحساب ، شفاعته لعمه أبي طالب قال صلي الله عليه وسلم " أخف أهل النار عذابا يوم القيامة أبو طالب له شراكان من النار يقف عليهما فيغلي منهما دماغه ". 2ـ وأما الشفاعات التي يشترك فيها مع غيره شفاعته لقوم استحقوا دخول النار فيشفع لهم فلا يدخلوها . شفاعته لقوم دخلوا النار فيشفع لهم فيخرجون منها شفاعته لأهل الأعراف شفاعته لأهل الجنة فيرفع الله درجتهم لأعلي .وقال الله لرسوله " ولسوف يعطيك ربك فترضى قال الرسول وأنا لا أرضي ورجل من أمتي في النار وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لكل نبي دعوة دعي بها فاستجيب له ولي دعوة ادخرتها لأمتي يوم القيامة . ثم يأتي العفو العظيم يقول رب العالمين شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا ارحم الراحمين فيقبض الله قبضة من النار بيده فيخرج أقواما لم يعملوا في دنياهم خيرا قط فيدخلهم الله الجنة شريطة أنهم لم يشركوا بالله شيئا " إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ثم يطلع الله على الجنة فيجد فيها متسعا لأن عرضها السماوات والأرض فينشئ أقواما فيدخلهم الجنة برحمته ..(/3)
الإيمان باليوم الآخر
جعل سبحانه الإيمان باليوم الآخر ركناً من أركان عقيدة الإسلام، وعلَّق سبحانه صحة إيمان العبد على الإيمان بذاك اليوم. وقرن تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر في تسعة عشر موضعاً في القرآن، منها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة:177) وقوله في حق المطلقات: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:228) وقال أيضاً مخاطباً أولياء النساء: { من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:232).
ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم الذين أمنوا بالله واليوم الآخر، فقال عز من قائل: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } (البقرة:62) .
وبالمقابل فقد رتب سبحانه على الكفر بذاك اليوم ما رتبه على الكفر به، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً } (النساء:136).
وأكد سبحانه أن هذا اليوم واقع لا محال، وأنه لا مفر منه مهما حاول الإنسان ذلك، فقال تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُون َ} (آل عمران:25) وقال أيضاً: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً } (النساء:87).
وكان من حكمة الله سبحانه أن جعل ذلك اليوم ليجمع الناس فيه على صعيد واحد، فيحاسب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، ويقتض للمظلوم من الظالم، قال تعالى: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (غافر:17) وفي الحديث الصحيح: ( حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) رواه مسلم ، و "الجلحاء" الشاة التي لا قرن لها، و "القرناء" الشاة ذات القرون.
وعلاوة على ما ذكرنا من الآيات الدالة على وجوب الإيمان باليوم الآخر، فقد ثبت في السنة ما يدل على ذلك ويؤكده، من ذلك حديث جبريل عندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة رجل، سائلاً عن معنى الإيمان والإسلام وغير ذلك من عقائد الإسلام، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ) رواه مسلم .
ومقتضى الإيمان بذاك اليوم يستلزم من المؤمن أن يعلم علم اليقين أن الله سبحانه جامع الناس ليوم لا ريب فيه، وهذا القدر من الإيمان هو الواجب على كل مؤمن، وأما تفاصيل الإيمان باليوم الآخر، كمعرفة علامات هذا اليوم، ومقدماته، وماذا يكون فيه، وغير ذلك من التفاصيل، فهذا من غير الواجب على كل مؤمن معرفته، بل يكفي أن يعلمه البعض ولا يضر الآخرون جهله، فهو من فروض الكفاية التي إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين.
فإذا علم المؤمن واعتقد بحق أن ذاك اليوم آتٍ لا مراء فيه ولا جدال، كان عليه أن يَعُدَّ العدة، ويُشمِّرُ عن ساعد الجدِّ استعداداً له، فيعمل جهده لكل ما فيه خير، ويبذل وسعه لتجنب كل ما فيه شر، عملاً بقوله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ( الزلزلة:7- 8) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.(/1)
الإيمان بخبر الآحاد رد على حزب التحرير) ...
17-02-2005
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ: يتناقل بعض الأفراد ،بأن الإيمان بخبر الآحاد لا يجوز شرعاً ،ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ، وشفاعة الرسول للمؤمنين يوم القيامة ، وورود الصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وخروج الدجال ، وظهور المهدي ، وغير ذلك مما ثبت بخبر الآحاد . وأن المخالف لذلك يعتبر آثماً فما صحة هذا القول ؟ وجزاك الله خيراً
الحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصل ِ اللهم وسلم على نبينا نبي الرحمة محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه إلى يوم الدين أما بعد :
فإن أصحاب هذا القول يعتمدون بقولهم هذا على التفسير الخاطئ للظن ، إذ دليلهم مبني على حرمة إتباع الظن ،ويجعلون خبر الآحاد مندرجاً تحت هذا القول لذا فهم يحرمون الإيمان بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال خبر الواحد ،ومن ذلك ما ذكرت من عدم إيمانهم بعذاب القبر ،وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يوم القيامة ، وورود الصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وخروج الدجال ، وظهور المهدي ،وغير ذلك ، وهذا القول باطل من عدة وجوه :
أولاً : إن كلمة الظن في اللغة تدل على عدة معان يحددها السياق ، فقد يطلق لفظ الظن ويراد به اليقين كما في قوله تعالى : ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق ) .ِ (29)القيامة والمعنى أي علم وتيقن قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى ذكره : وأيقن الذي قد نزل به أنه فراق الدنيا والأهل والمال والولد ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . قال قتادة : ( وظن أنه الفراق ) أي استيقن أنه الفراق أ هـ تفسير الطبري . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : أي أيقن الإنسان أنه الفراق ، أي فراق الأهل والمال والولد ، وذلك حين عاين الملائكة . أ هـ القرطبي .
وقال سبحانه : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) . (46) البقرة قال القرطبي : الذين في موضع خفض على النعت للخاشعين ، ويجوز الرفع على القطع ، والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَه ) . تفسير القرطبي .
ويأتي الظن بمعنى الشك ،قال تعالى : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَبا ) . الكهف ً (36) قال الطبري : القول في تأويل قوله تعالى : (وَدَخَلَ جَنَّته وَهُوَ ظَالِم لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَنْ تَبِيد هَذِهِ أَبَدًا ) . يقول تعالى ذكره : هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب دخل جنته وهي بستانه وهو ظالم لنفسه ، وظلمه نفسه : كفره بالبعث وشكه في قيام الساعة ، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى . أ هـ تفسير الطبري .
ويأتي الظن بمعنى الكذب كما في قوله تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) . الأنعام (116) قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى:(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ ) . وقال تعالى : (وَمَا أَكْثَر النَّاس وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِين ) . وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل . تفسير ابن كثير .
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والظن فإنه أكذب الحديث ) .البخاري ومسلم.
وكذلك يأتي الظن ويراد به غلبة الظن كما في قوله تعالى : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . البقرة (230)
قال الطبري : وأما قوله : (إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُود اللَّه ) فإن معناه : إن رجوا مطمعاً أن يقيما حدود الله – إلى أن قال - وقد وجه بعض أهل التأويل قوله : (إنْ ظَنَّا ) إلى أنه بمعنى أيقنا . وذلك لا وجه له ، لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره. تفسير الطبري بتصريف .
فهذه الآية واضحة الدلالة بأن المراد بالظن لا اليقين ولا الشك ، فعلم أن المقصود به غلبة الظن .(/1)
ومن خلال ما ذكرنا يتضح خطأ صاحب كتاب الاستدلال بالظني في العقيدة ص 19 وهذا نصه : (وإذا تتبعنا الكثير من النصوص التي وردت فيها كلمة الظن سواء كانت في القرآن ، أم في الأحاديث الشريفة ، أم في شعر العرب من الطبقة التي يستشهد بشعرها ، لوجدنا أن كلمة الظن لا تفيد إلا معنى واحداً ، وهو مدلولها اللغوي الوضعي حسبما أوردته المعاجم والقواميس اللغوية ، فهي ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، وذلك لتميزها عن كلمة الشك التي تفيد تساوي الاحتمالين من غير ترجيح . كما أنها ليست من الألفاظ المتعاضدة مثل كلمة القرء بمعنى الطهر والحيض ، وكذلك ليست من الألفاظ المشتركة مثل العين المبصرة ، والذهب والجاسوس ، ويخطئ من يقول بأن كلمة الظن من الأضداد أي إنها تفيد الظن ، وتفيد العلم سواء كان القائل من علماء اللغة أو غيرها . أهـ
ويظهر التناقض في هذا القول إذ يقول صاحبه : ويخطئ من يقول بأن كلمة الظن تفيد اليقين وإن كان القائل من علماء اللغة . ومفهوم هذا القول ، إن هنالك من العلماء من يقول بأن كلمة الظن تفيد اليقين كما أوردنا ذلك عن بعض أهل العلم آنفا ، فأصبح ما قاله اجتهاداً لا يقينا فانظر إلى هذا التناقض !
قال أبو العباس أحد علماء اللغة في مثل هذا الأمر : ( إنما جاز أن يقع الظن واليقين لأنه قول القلب فإذا صحت دلائل الحق وقامت أماراته كان يقيناً ، وإذا قامت دلائل الشك وبطلت دلائل اليقين كان كذباً ، وإذا اعتدلت دلائل اليقين والشك كان على بابه شكاً لا يقيناً ولا كذباً . الأضداد لمحمد بن القاسم الأنباري .
ومما يؤكد خطأ القول بأن الظن لا يفيد إلا الترجيح بين قولين أحدهما راجح ، والآخر مرجوحاً :
1 : ما جاءت به الآيات القرآنية إذ دل سياقها على التفريق بين معنى الظن في عدة مواضع كما أشرنا إلى ذلك ، فعلى سبيل المثال قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) . (46) البقرة فالظن هنا بمعنى اليقين ، إذ لا يجوز في هذا الموطن أن يكون الظن بمعنى الترجيح بين الاحتمالين ، وذلك أن الأمر متعلق بالإيمان باليوم الآخر ، وهذا لا يقوم إلا على يقين ، فلو كان المعنى ما ذهبوا إليه لكان جائزاً أن يدخل شيء من الريب فيما يتعلق بالمعتقد ، وهذا باطل بلا شك .
2 : إن الظن الذي ورد في الآية المباركة جاء في سياق المدح ، والظن الذي نهى الله سبحانه عن اتباعه جاء في سياق الذم ، وبين المدح والذم بون عظيم .
3 : إن الظن الوارد في الآية متعلق بالإيمان باليوم الآخر ،وهو مسألة في صميم العقيدة ، وهو مما طلب الإيمان به ، ومن المعلوم ضرورة أن الاعتقاد لا ينبني إلا على اليقين .
وإليك آية تبين الفرق بين معنى الظن بياناً واضحاً : قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً ) . الإسراء (102) ولا ريب أن ظن موسى عليه السلام مبني على اليقين والثقة بالله سبحانه إذ وعد الله سبحانه الظالمين بالهلاك إذ قال وقوله الحق : ( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) . الدخان (37) وأما ظن فرعون فهو قائم على الجهد والتكذيب قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) . النمل (14) والفرق بين الظنين واضح .
ولكن الذي حمل أصحاب هذا الرأي على القول بأن الظن لا يفيد إلا الترجيح بين الاحتمالين ، فرارهم من بناء أصلهم هذا على الظن الذي حذروا الناس من إتباعه ، فلو سلموا بأن الظن يحتمل عدة وجوه كما أسلفنا لأقروا بخطأ منهجهم وبعده عن الصراط القويم .(/2)
ثانياً : أ : إن من مستلزمات القول باشتراط تحقق التواتر لحصول اليقين فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في عقيدتهم ، وذلك لو أن صحابياً سمع حديثاً من الرسول صلى الله عليه وسلم لكان واجباً عليه الإيمان به ، على خلاف من سمع حديث الرسول من الصحابي نفسه لا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ يحرم عليه الإيمان بالحديث الذي نقله إليه ذلك الصحابي لعدم تحقق العدد المطلوب ، ومثل هذا الأمر لم يعرف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم رغم كثرة وقوع هذه الصورة فيهم ، فقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينقل بعضهم عن بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون اختلاف بينهم في العقيدة أو المنهاج ، وما يجب أن يؤمن به المسلمون ، هو ما آمن به الصحابة رضي الله تعالى عنهم ،قال تعالى : ( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) . البقرة (137)
ب : ومن ناحية ثانية ، فإن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في إثبات أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرق في الدين ، إذ يؤمن البعض في أحاديث لا يجوز للبعض الآخر أن يؤمن بها ، وهذه الصورة من أعظم الصور التي حذر منها القرآن وتوعد من خالفها قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) . الشورى (13)
ثالثاً : إن الآيات الكريمة نهت عن إتباع الظن ، لا الإيمان به فحسب ، والإتباع أعم من التصديق ، فهو يستلزم عدم العمل من باب أولى ، إذ الإتباع لا يكون إلا مع العمل ، والقول بتحريم إتباع الظن يشمل القول والعمل على حد سواء ، وتخصيص النهي عن إتباع الظن في مسائل العقيدة دون الأحكام الشرعية قول لا دليل عليه ، إذ لا يكون تخصيص العام إلا بدليل شرعي ، وبما أن المسألة مسألة عقدية أي تتعلق بالأصول دون الفروع ، فيجب أن يكون دليلها دليلاً قطعيا ، فأين دليلهم القطعي الذي يستندون إليه بتخصيص النهي عن إتباع الظن في الإيمان دون العمل ؟
رابعاً : اعلم يرحمك الله : أن الذين يروجون إلى هذا القول ، يعتبرون أدنى حد التواتر عدداً خمسة رواة في كل طبقة من طبقات الإسناد ، فإن قل العدد عن ذلك في أي طبقة من طبقات الإسناد لا يعتبر الحديث قطعياً وعليه لا يجوز الإيمان به ،وإليك قول تقي الدين النبهاني في هذه المسألة : ( فكل ما يصدق عليه من العدد من الجمع يعتبر متواتراً . ولكن لا يجوز أن يكون أقل من خمسة ، فلا يكفي أربعة ، لأن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم إذا شهدوا بالزنا ) . كتاب الشخصية الإسلامية ص 266 الجزء الأول الطبعة الثانية تحت عنوان أقسام الحديث.
ويقول في موضع آخر من الكتاب نفسه ص 144 الجزء نفسه تحت عنوان الاستدلال بالسنة : (ذلك أنه ثبت بنص القرآن الكريم أنه يقضى بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين في الأموال ، وبشهادة أربعة من الرجال في الزنا ، وبشهادة رجلين في الحدود والقصاص ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ، وهذا كله آحاد ) . وعليه فقد جعل تقي الدين النبهاني شهادة الاثنين والثلاثة والأربعة من خبر الواحد الذي لا يجوز الإيمان به ، وهذا قول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ، بل هو إتباع محض لبنيات الأفكار ، فعلى سبيل المثال : لو جاء حديث توفر في كل طبقة من طبقاته خمسة رواة كلهم ثقات إلا في الطبقة الأولى طبقة الصحابة رضي الله عنهم ، لم يرو الحديث إلا عن الخلفاء الراشدين الأربعة ، فهل يفيد الحديث العلم ويقطع بصحته أم لا ؟ فإن قالوا : نعم يقطع بصحته . قلنا : فتحديدكم للعدد غير صحيح . وإن قالوا : لا . قلنا :الحمد لله فقد كفى الله المؤمنين القتال .
فائدة لا يعرفونها : إن من مستلزمات القول بأن أدنى حد التواتر خمسة رواة ، يقضي بحرمة الإيمان بالقرآن الكريم ، إذ ثبت بالدليل القاطع أن القرآن جمع بأقل من ذلك كما يقرون بذلك هم أنفسهم ،فقد جاء بمجلتهم المعتمدة ( الوعي العدد 22 ص 13) تحت عنوان موقف الصحابة من خبر الآحاد في العقائد ما نصه : ( وهذا ما دل عليه فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماعهم يوم جمع أحد أركان العقيدة الإسلامية القرآن الكريم في المصحف الإمام زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقد اشترطوا شروطاً وسلكوا طرقاً في جمعهم المصحف تبين بياناً واضحاً وقاطعاً بأن خبر الواحد والظن لا يمكن أن تقوم به عقيدة ، وهذه الشروط :(/3)
أولاً : اشترطوا عدداً معيناً يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ، زيد بن ثابت ، ورجلان آخران يشهدان ، وربما كان عمر مكان زيد أحياناً كما جاء في الروايات عنهم . أ هـ
ثم ساق روايات تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اكتفوا بشهادة رجلين اثنين في تثبيت الآيات الكريمة في المصحف الشريف ، منها ما نقله عن خزيمة بن ثابت قال : جئت بهذه الآية:(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) . التوبة (128) إلى عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما، فقال زيد من يشهد معك . قلت : لا والله لا أدري فقال عمر : أنا أشهد معك على ذلك .
ويظهر التناقض في عقيدتهم مما يلي:
قوله بأن الصحابة اشترطوا عدداً معينا يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ، وهذا النقل يخالف ما يتبناه هو لمخالفة شيخه له ، فشيخه يجعل أدنى حد التواتر خمسة أشخاص ، وهذا ينقل إجماع الصحابة على أن القرآن جمع بأقل من ذلك ، أي بأن القرآن جمع بخبر الواحد فهو على قولهم ظني الثبوت لا يجوز الإيمان به ، إذ يعتبر تقي الدين النبهاني رواية الأربعة من خبر الآحاد كما جاء ذلك في قوله :(ذلك أنه ثبت بنص القرآن الكريم أنه يقضى بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين في الأموال ، وبشهادة أربعة من الرجال في الزنا ، وبشهادة رجلين في الحدود والقصاص ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ، وهذا كله آحاد ) .المرجع نفسه
شبهة والرد عليها :
بعد أن بينت هذه القضية في كتابي ( الإيمان بخبر الآحاد سبيل الرشاد ) وقعوا في حيص بيص ، واخذوا يذودون عن هذا المعتقد الفاسد بشبهات لا تزيدهم إلا ضلالاً وإعراضاً عن الحق ومن هذه الشبهات :
أ: أن القرآن كان مكتوباً في صحائف كانت محفوظة عند الصحابة ، وما قام به أبو بكر هو جمع الصحائف التي قام اليقين على أنها من القرآن .
رد : 1 : هذا تعليل عليل ، وقول سقيم ،فإن المحفوظ عند الصحابة في الصحف ، بمثابة المحفوظ بالصدور ، فالصحابي الذي كتب ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيفة ثم احتفظ بها عنده ، تعتبر كتابة رجل واحد ، أي تقوم مقام شهادة واحدة لا شهادتين ،وعليه فهي بحاجة إلى أربعة شهداء آخرون من أجل أن تبلغ حد التواتر ، وتثبيت الآيات بشهادة رجلين لدليل واضح على عدم اشتراط الصحابة رضي الله تعالى عنهم العدد المزعوم .
2 : لو كان الأمر ما ذهبوا إليه ، أي إن القرآن مكتوب عند الصحابة كلهم ، لاكتفى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بجمعه دون أن يعين أي شاهد ، فتعين أبو بكر رضي الله عنه شهوداً من أجل تدوين القرآن لدليل واضح على أنه اكتفى بشهادة رجلين ، فإن الآثار الواردة تدل على أن الصحابة كانوا يأتون الشهود فرادى ، وكان الشهود يدونون القرآن إذا شهدوا عليه وهم اثنان ، فيصبحون مع الذي جاء بالآية ثلاثة ، والثلاثة لا شك لا يبلغون حد التواتر على مذهبهم .
ب : قولهم : إن الآثار دلت على أن القرآن جمع بشهادة الخمسة ، ويعللون ذلك بما يلي :
إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه عين كاتباً وشاهدين ، فيكون الكاتب واحداً ، فإذا أضفنا إليه الشاهدين يصبحون ثلاثة ، كذلك الرجل الذي جاء بالآية إذا أضيف إلى الثلاثة يصبحون أربعة ، والصحيفة التي جيء بها تقوم مقام الشاهد ، وعليه يكون القرآن جمع بشهادة خمسة شهود .
رد : أقول : سبحان الله ما أعظم ما يصنعه الهوى بأصحابه ، فهم يقومون على مثل ( عنزة ولو طارت ) . فصاحب المقال يقول بوضوح أولاً : (اشترطوا عدداً معيناً يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ) . المصدر نفسه . فلما وجهوا بحقيقة معتقدهم أخذوا يذودون عنها دفاعاً عن معتقدهم لا نصرة للحق ورجوعاً إليه ،ومع ذلك نبين خطأهم بما يلي :
1 : من المعلوم أن الكاتب لا يعتبر شاهداً على أصل المسألة ، بل يشهد على أن الشاهد شهد عليها من خلال تدوينه لها ، فشتان بين أن يشهد على المسألة ، أو أن يشهد على أن الشاهد شهد عليها .
2 : إن تدوين الآية وكتابتها بنسخة لا تخرج عن كونها مكتوبة لكاتبها ، فهي لا تعتبر دليلاً بذاتها ، بل تعتبر بالنسبة لحال صاحبها ، فإن كان صاحبها ثقة ، قبلت منه ، وإن كان غير ذلك ردت عليه ، فأما أن تعتبر شاهداً بذاتها دون النظر إلى حال صاحبها ، فهذا قول لا يقول به إلا من عميت بصيرته عن الحق المبين .
3 : إن الأثر عن خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه يدل بوضوح على أنه اكتفي بشهادته وشهادة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما على تثبيت الآية ،وعليه فإنه لم يدل دليل صحيح على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اشترطوا في جمع القرآن شهادة خمسة أو أربعة .(/4)
ملاحظة : المدقق في قول صاحب كتاب الشخصية يجد أنه ذهب إلى أن شهادة الأربعة لا يثبت بها عقيدة لاحتياجهم إلى تزكية إذ جاء في قوله : (: ( فكل ما يصدق عليه من العدد من الجمع يعتبر متواتراً . ولكن لا يجوز أن يكون أقل من خمسة ، فلا يكفي أربعة ، لأن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم إذا شهدوا بالزنا ) . المصدر نفسه
فانظر إلى هذا التعليل العليل ، وما يفهم من معناه : أن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالتهم ، ولذا لا يفيد نقلهم العلم ، فهل الخمسة لا يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم ؟ سبحانك ربي سبحانك ، فإنه من المعلوم ضرورة أنه من جهلت حالتهم لا يقبل خبرهم سواء كانوا أربعة أو أكثر أو أقل ، فالقضية ليست منوطة بعدد معين ، بل في النظر بحال الناقل ، فإن كان الناقل ثقة قبل خبره ، وإن كان الناقل غير ثقة ردت روايته ، ولا عبرة في العدد ، ومن قال بخلاف ذلك فليأتنا بسلطان مبين . وأما القول بأن العدد إذا زاد عن أربعة أمن تواطؤهم على الكذب ، فأقول : هذا محض جهل فقد اجتمع الكافرون على تكذيب الرسل وهذه قضية لا ينتطح بها كبشان وعليه فالعبرة بحالة الناقلين لا بعددهم .
خامساً : إن الأدلة الشرعية جاءت على خلاف زعمهم ، فقد دلت النصوص على قبول شهادة الواحد إن كان ثقة في العقيدة والأحكام قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . التوبة (122)
ولفظ طائفة يقع على الواحد والجماعة ، والإنذار يشمل ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وأحكاماً والتفريق بينهما يحتاج إلى دليل نصي ، وكذلك قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) . الحجرات (6)
دليل واضح على أن الناقل إن كان ثقة لا يتثبت من روايته . ومن باب آخر ، فقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث الآحاد إلى البلدان من أجل تبليغهم الدين ودعوتهم إليه ، ومن المعلوم أنهم كانوا يدعونهم إلى اعتناق الإسلام التي تقوم العقيدة عليه ، ولو كانت العقيدة لا تثبت بهذا النقل ، لما اكتفى صلى الله عليه وسلم بإرسال الآحاد ، ولكان يرسل الجماعات التي لا يقل عددها عن خمسة كي تتحقق المصلحة وتقوم الحجة ، وعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لدليل واضح على عدم إرادته ، وخطأ القائلين به .
وأما تعليل تقي الدين النبهاني في عدم قبول خبر الواحد في العقيدة دون الأحكام ، كما جاء ذلك عنه في كتاب الشخصية ص 148 ج3 الطبعة الثانية : ( لا يقال إن قبول تبليغ خبر الآحاد قبول عقيدة لأن تبليغ الإسلام قبول خبر وليس قبولاً لعقيدة ، بدليل أن على المبلغ أن يعمل عقله فيما بلغه ، فإذا قام الدليل اليقيني عليه اعتقده وحوسب على الكفر به ،فرفض خبر عن الإسلام لا يعتبر كفراً ولكن رفض الإسلام الذي قام الدليل اليقيني عليه هو الذي يعتبر كفراً ) . أ هـ
فهو تعليل يقوم على أمور تدل على حقيقة معتقدهم وأنه يقوم على العقل لا النقل وإليك التفصيل :
1 : تقوم عقيدة حزب التحرير على العقل لا النقل ، ويتضح ذلك من قول شيخهم : (بدليل أن على المبلغ أن يعمل عقله فيما بلغه ) . فالعبرة إذن ليست بالعدد أو غيره بل بحكم العقل على صحته ، فإن حكم العقل بصحة النقل قبل النقل وإن لم يبلغ حد التواتر ،وهذا المعتقد ليس هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة ، بل هو مذهب المعتزلة ومن نحى نحوهم من أهل الكلام الذين يقدمون العقل على النقل .
2 : تعريفهم للإسلام ، فهم يعرفون الإسلام بأنه :مبدأ ،ويعرفون المبدأ :بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام ، ويعرفون العقيدة بأنها : تصديق جازم مطابق للواقع عن دليل ،ومرادهم من القول موافق للواقع أي موافق للعقل لأن أصل عقيدتهم مبني على العقل وقد سبقت الإشارة إلى تعليل شيخهم بعدم قبول خبر الواحد لعدم قيام الدليل العقلي عليه .
3 : قوله بأن رفض خبر عن الإسلام لا يعتبر كفرا ، ولكن رفض الإسلام الذي قام الدليل اليقيني عليه هو الذي يعتبر كفراً ، وهذا القول منطلق من التفريق بين الإسلام ككل ، وبين المسائل الداخلة في الإسلام ، وذلك أن الإسلام كدين قام الدليل اليقيني على صحته ، أي حكم العقل على أنه دين صحيح ، ولكن العقل لم يحكم على كل مسألة من مسائل الإسلام ، فكانت المسألة التي لم يقم عليها الدليل العقلي مسألة فرعية لا يكفر الإنسان بردها ، على خلاف رد الإسلام ككل ،فتدبر ذلك جيداً تعرف أحوال القوم .(/5)
فائدة : إن حقيقة الخلاف القائم بين أهل السنة والجماعة ، والمتكلمين ، هو مسألة تقديم العقل على النقل ، فأهل السنة والجماعة يقدمون النقل على العقل ، ويخضعون العقل للنقل ، على خلاف المتكلمين ، فهم يخضعون النقل للعقل ، فأي مسألة حكم العقل بصحتها آمنوا بها وإن كانت ظنية الثبوت ، وأي مسألة لم يحكم العقل على صحتها ردوها إما تأويلاُ ، وإما تعطيلاً ، والمتأمل في ذلك يعلم أن حزب التحرير لا يعتقد معتقد أهل السنة والجماعة ، بل معتقد الفرق التي خرجت عن أهل السنة والجماعة ، وعليه فما يدعو إليه من كون خبر الواحد لا يفيد العلم ، هو معتقد المتكلمين وليس معتقد أهل السنة والجماعة .
سادساً : إن من المضحك المبكي ، أن هؤلاء القوم حرموا على الناس الإيمان بخبر الواحد لأنه قائم على الظن ، وما درى هؤلاء أن الظن الذي حذروا الأمة منه ، هو عين ما وقعوا فيه ، فإن اشتراطهم عددا معيناً لإفادة اليقين ، اشتراط غير مبني على دليل ، بل قد قام الدليل على خلافه ، ومن المعلوم أن إثبات مسألة من مسائل العقيدة تحتاج إلى دليل قطعي ، فأين دليلهم الظني على ذلك ؟ ناهيك عن إتيانهم بالدليل القطعي ، فالمسألة التي أصلوا عليها مسألة مفتقرة إلى الدليل أي لا يستطيعون أن يأتوا بحديث أو آية أو إجماع على أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز الإيمان بها إلا إذا تحقق فيها أدنى حد التواتر وهو خمسة رواة في كل طبقة من طبقات الحديث ،ومن المعلوم أن ما كان أصله ظناً فلن تكون نتائجه قطعية ، وعليه فهم في قولهم هذا متبعون للظن الذي حذروا الناس منه ، فهلا علموا ذلك !!!
سابعاً : إن مذهب القائلين بعدم اعتبار خبر الواحد في العقائد ، يؤدي إلى تقسيم الدين من حيث الثبوت إلى قسمين عقيدة وأحكام، واشترطوا في العقيدة ما لم يشترطوه في الأحكام ، مما يؤدي ذلك إلى فصل العقيدة عن العمل ، والعمل عن العقيدة ، أي ما كان متعلقه التصديق فلا يدخل العمل به ، وما كان متعلقه العمل لا يدخله التصديق ، وهذا القول بناء على مذهبهم الباطل الذي يفرقون به بين الإيمان والعمل ، ويظهر ذلك جلياً من خلال تعريفهم للعقيدة إذ هي عندهم : ( تصديق جازم موافق للواقع عن دليل ) . فلا يدخلون العمل في الإيمان ، أو الإيمان في العمل ، وعليه يوجبون العمل بالأحكام الشرعية وإن تجرد عن الإيمان ، وهذا معنى قولهم : ( نصدق ولا نؤمن ) أي نصدق بأن خبر الواحد ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نؤمن به ، ونوجب العمل به ، فهنا أصبح تفريق بين التصديق والإيمان ، وبين العمل والتصديق ، فعندهم العمل شيء ، والتصديق شيء آخر والإيمان شيء ثالث ، والشاهد الذي نريد أن نصل إليه هو :
أنهم يفرقون بين التصديق والإيمان ، فهم يصدقون بخبر الواحد إن صح سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لا يؤمنون به ، فهم يقرون بأن هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن العمل به واجب إن كان متعلقاً بالأحكام الشرعية ، وأن الذي لا يعمل به يكون آثماً ، ولكنهم في الوقت ذاته يقولون : إن الإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله لا يجوز ، فما هو التصديق وما هو الإيمان عندهم ؟ أما الإيمان فهو التصديق الجازم ، إذن فالتصديق يكون غير جازم ، والجزم لفظ يدل على صحة الثبوت ، وعدم الجزم شيء يدل على عدم الثبوت ، وعليه يكون القوم إما مؤمنين بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالعقيدة ، وإما غير مؤمنين ، وبلا ريب أنهم غير مؤمنين ، إذن فهم واقعون في دائرة الشك ، إذ إن التصديق غير الجازم يكون فيه شيء من الشك وعليه فالقوم يتخبطون في مسألة لا يعرفونها ، فلو سألت أحدهم ما الفرق بين التصديق والإيمان فيما يتعلق بالعقيدة ، فلن تجد عنده جواباً يعول عليه .
ثامناً : إن الأخذ بقولهم الباطل يؤدي إلى مخالفة أهل السنة والجماعة في معتقدهم في كثير من القضايا التي قام الإجماع عليها ،كمسائل عذاب القبر ، والصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وإثبات الشفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وسؤال الملكين ، وغيرها من المسائل التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة التي لم تصل أسانيدها حد التواتر بالضوابط التي وضعوها، ولا شك أن كل من خالف ما قام عليه الإجماع يعتبر آثماً لقوله تعالى : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . النساء (115)
فاتباع سبيل المؤمنين شرط أساسي في صحة العمل واعتباره ، بل إن إتباع سبيل المؤمنين ، هو الضابط الأصلي للحكم على الأعمال من حيث الصحة والبطلان ، وما جاء ثابتاً عن علماء الأمة المعتبرين من أهل السنة والجماعة ، هو إيمانهم بهذه الأمور وغيرها ، وعليه فإن مخالفتهم في ذلك هو خروج عن اتباع سبيل المؤمنين الذي توعد الله سبحانه كل من خالفه .(/6)
وبناء على ما قدمنا ، فإن القول بعدم الإيمان بخبر الواحد في العقيدة ، قول لا دليل عليه ، بل الأدلة على خلافه ، وإن العلة التي تعللوا بها على عدم جواز الإيمان بخبر الواحد هو وقوع في الظن الذي ذم الله سبحانه الكافرين على اتباعه ، وجعلوا العامل في الظن واليقين العدد ، وقد حددوه بخمسة رواة في كل طبقة من طبقات سند الحديث ، وقولهم هذا مبني على الاجتهاد المحض غير المبني على دليل من الكتاب والسنة ، بل لو كان المقصود بالظن العدد ، لخرج الكافرون اتباع الظن عن الأمر ، إذ لم يقيموا معتقداتهم على خبر الواحد ، بل قد أخذوا عقيدتهم الفاسدة عن تواتر نقل لهم عن تواتر قال تعالى حاكياً عنهم : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) .البقرة (170)
فالكافرون أخذوا عقيدتهم عن تواتر فهم على دين آبائهم ، ومع ذلك فهم أتباع للظن ،وعليه تعلم أخي يقيناً بأن اليقين والظن لا علاقة له بالعدد ، إنما بما يتحفه من القرائن ، فإن قامت القرائن على صدق من ينقل الأخبار وجب تصديقهم وإن لم يبلغوا العدد المشار إليه ،وإن قامت القرائن على كذب من ينقل الأخبار ، فلا يصدقون وإن كانوا مئات كما هو واقع الكافرين ، ومن باب آخر لا يخفى عليك أن الظن الذي اتبعه الكافرون قائم على الكذب والتخمين ،لا على خبر الواحد وغيره ، مما يجعلك توقن بخطأ ما ذهب إليه القوم ،وفقنا الله جميعاً للعمل بما يحبه ويرضاه
واصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
8 / 1 / 1426 هـ(/7)
الإيمان قول واعتقاد وعمل
12/6/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المبجلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد، فقد سئلت مراراً عن مسألتين عظيمتين كثر الخوض فيهما، ألا وهما:
المسألة الأولى: هل العمل شرط كمال للإيمان أم شرط وجوب، أم هو شرط صحة وركن لا يقوم الإيمان إلاّ به؟
والمسألة الثانية: هل يكفر الإنسان بقول أو عمل؟
وللفائدة رأيت أن يكون هذا المقال جواباً على المسألتين باختصار، أما المسألة الأولى: فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان هو قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب، ولهذا كان من قول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، وقولهم: الإيمان قول وعمل ونية، فالإيمان اسم يشمل أربعة أمور لابد أن تكون فيه، وهي:
- اعتقاد القلب أو قوله، وهو تصديقه وإقراره.
- عمل القلب، وهو النية والإخلاص، ويشمل هذا انقياده وإرادته، وما يتبع ذلك من أعمال القلوب كالتوكل والرجاء والخوف والمحبة.
- إقرار اللسان، وهو قوله والنطق به.
- عمل الجوارح –واللسان من الجوارح- والعمل يشمل الأفعال والتروك قولية وفعلية.
والأدلة على أن أعمال الجوارح داخلة في اسم الإيمان كثيرة، ومن ذلك ما ثبت عند مسلم في( كتاب الإيمان، باب: الإيمان ما هو؟ وبيانُ خصاله) حديث وفد عبد قيس، وقد جاء في بعض طرقه في الصحيح، أنه _صلى الله عليه وسلم_ أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال:"أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم، وقد أورد الإمام البخاري هذا الحديث في ( كتاب الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان)،
وأدلة الكتاب على هذا كثيرة، منها: قول الله _تعالى_:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً"، وفي الآية الأخرى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله"، وفي ثالثة:"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"، وفي رابعة:"والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً"، والآيات في هذا كثيرة.
وقد بوب البخاري ومسلم في صحيحيهما أبواباً كثيرة تثبت أن الأعمال من الإيمان، ففي البخاري:
باب الحياء من الإيمان.
باب من قال: إن الإيمان هو العمل.
باب الجهاد من الإيمان.
باب تطوع قيام رمضان من الإيمان.
باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان.
باب الصلاة من الإيمان.
باب اتباع الجنائز من الإيمان.
باب أداء الخُمس من الإيمان.
وغيرها، وفي مختصر مسلم:
باب بيان الإيمان بالله أفضل الأعمال.
باب الحياء من الإيمان.
باب من الإيمان حسن الجوار وإكرام الضيف.
باب من الإيمان تغيير المنكر باليد واللسان والقلب.
وغيرها من الأعمال، قال شيخ الإسلام في (الواسطية): "ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
فظهر أن اسم الإيمان يشمل كل ما أمر الله به ورسوله _صلى الله عليه وسلم_، ويدخل في ذلك فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، وإحلال الحلال وتحريم الحرام، واسم العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، ويشمل الفعل والترك، ويشمل الواجبات التي هي أصول الإسلام الخمس فما دونها، ويشمل ترك الشرك والكفر وما دونهما من الذنوب.
وعليه فحكم ترك العمل على أقسام:
- ترك الشرك وأنواع الكفر فهو شرط صحة لا يتحقق الإيمان إلاّ به.
- وأما ترك سائر الذنوب مما دون الكفر فهو شرط لكمال الإيمان الواجب.
- وأما عمل القلب وانقياده، وهو إذعانه لمتابعة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وما يتبعه كمحبة الله ورسوله، وخوف الله ورجائه فهو شرط صحة.
- وكذلك إقرار اللسان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هو شرط صحة.
- وأما أركان الإسلام بعد الشهادتين فلم يتفق أهل السنة على أن شيئاً منها شرط لصحة الإيمان، بل وقع الخلاف في تارك المباني الأربعة بين أهل السنة.
- أما سائر الواجبات بعد أركان الإسلام الخمسة فلا يختلف أهل السنة في أن فعلها شرط لكمال إيمان العبد –أي: إن تركها من غير جحود لا يؤدي إلى الكفر-(/1)
وينبغي التنبه إلى أن المراد بالشرط هنا الشرط بمعناه العام، وهو ما تتوقف الحقيقة على وجوده، سواء كان ركناً فيها أو خارجاً عنها، وليس المراد أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، بل هي من مسمى الإيمان.
ومن هذا علم أن عمل الجوارح جزء من أجزاء الإيمان الأربعة، فلا يقال العمل شرط كمال للإيمان أو أنه لازم له، فإن هذا من أقوال المرجئة.
فتارك العمل الظاهر لا يكون مؤمناً ، فالذي يزعم أنه مصدِّق بقلبه ولا يقر بلسانه ولا يعمل لا يتحقق إيمانه ؛ لأن هذا إيمان كإيمان إبليس وكإيمان فرعون ؛ لأن إبليس أيضاً مصدِّق بقلبه ، قال الله _تعالى_:" قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" وفرعون وآل فرعون قال الله _تعالى_ عنهم :"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً" فهذا الإيمان والتصديق الذي في القلب لابد له من عمل يتحقق به فلا بد أن يتحقق بالنطق باللسان، ولابد أن يتحقق بالعمل فلابد من تصديق وانقياد ، وإذا انقاد قلبه بالإيمان فلابد أن تعمل الجوارح ، أما أن يزعم أنه مصدِّق بقلبه ولا ينطق بلسانه ولا يعمل بجوارحه وهو قادر فأين الإيمان ؟!! فلو كان التصديق تصديقاً تاماً وعنده إخلاص لأتى بالعمل ، فلابد من عمل يتحقق به هذا التصديق وهذا الإيمان، والنصوص جاءت بهذا.
كما أن الذي يعمل بجوارحه ويصلي ويصوم ويحج لابد لأعماله هذه من إيمان في الباطن وتصديق يصححها وإلا صارت كإسلام المنافقين ، فإن المنافقين يعملون ؛ يصلون مع النبي _ صلى الله عليه وسلم- ويجاهدون ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين ؛ لأنه ليس عندهم إيمان وتصديق يصحح هذا العمل ، فلابد من أمرين لصحة الإيمان :
- تصديق في الباطن يتحقق بالعمل .
- وعمل في الظاهر يصح بالتصديق .
أما تصديق في الباطن دون عمل فأين الدليل عليه؟ أين الذي يصححه؟ أين الانقياد؟
لا يمكن أن يكون هناك تصديق صحيح لا يصلي صاحبه ولا ينطق بالشهادتين وهو يعلم ما أعد الله لمن نطق بالشهادتين ولمن تكلّم بكلمة التوحيد من الثواب ، ولما أعدّ الله للمصلين من الثواب ولمن ترك الصلاة من العقاب ، فلو كان عنده تصديق صحيح وإيمان صحيح لبعثه على العمل ، فلو كان عنده تصديق صحيح وإيمان صحيح لأحرق الشبهات والشهوات ؛ فترك الصلاة إنما يكون عن شبهة والمعاصي إنما تكون عن شهوة والإيمان الصادق يحرق هذه الشهوات والشبهات .
وهذا يدل على أن قلبه خالٍ من الإيمان الصحيح، وإنما هو لفظ باللسان نطق به ولم يتجاوزه ، وإلا لو كان عنده تصديق بقلبه أو إقرار بقلبه فقط ولم يتلفظ ؛ فقول القلب لم يتجاوز إلى أعمال القلوب وإلى الانقياد، فالمقصود أن الذي يزعم أنه مصدِّق بقلبه ولا يعمل بجوارحه هذا هو مذهب الجهمية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : يعسر التفريق بين المعرفة والتصديق المجرد، فيعسر التفريق بين المعرفة بالقلب والتصديق الذي ليس معه شيء من أعمال الجوارح، ويقول: هذا هو إيمان الجهمية – نسأل الله العافية - فالذي يزعم أنه مؤمن ولا ينطق بلسانه ولا يعمل بجوارحه مع قدرته هذا هو مذهب الجهمية ، فلا بد من عمل يتحقق به هذا التصديق كما أن الذي يعمل لابد له من تصديق في الباطن يصححه .
وقد عد إسحق بن راهوية قول من قال بأن تارك عامة الفرائض من أهل القبلة من قول غلاة المرجئة، فقد نقل عنه ابن رجب في (الفتح) قوله: " غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوماً يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود لها إنا لا نكفره، يرجأ أمره إلى الله بعد، إذ هو مقر. فهؤلاء الذين لا شك فيهم. يعني: في أنهم مرجئة".
وأخيراً أنبه على أمر ربما أشكل على البعض، وهو ما جاء في أحاديث الشفاعة من إخراج أناس لم يعملوا خيراً قط، وهذا قال العلماء فيه: أي: لم يعملوا خيراً قط زيادة على التوحيد والإيمان ولابد من هذا، فإن قيل: من أين جئتم بهذا القيد؟ فالجواب من نصوص الكتاب والسنة الأخرى الكثيرة التي تفيد ذلك، والواجب ضم النصوص إلى بعضها، وقد دلت النصوص على أن الجنة حرام على المشركين، وثبت في الصحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال:"لا يدخل الجنة إلاّ نفس مؤمنة"، وقد قال الله:"إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار" فهذه النصوص المحكمة يرد إليها ذلك الحديث، فالقاعدة عند أهل العلم: أن المتشابه يرد إلى المحكم، ولا يتعلق بالنصوص المتشابهة إلاّ أهل الزيغ والضلال، "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، وثبت في حديث عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم".
هذا فيما يتعلق بالمسألة الأولى، أما المسألة الثانية وهي: هل يكفر الإنسان بقول أو عمل؟
فالجواب عليها:(/2)
أولاً: أنبه إلى أن الكلام على الأفعال والأقوال وليس عن المعين الذي قام بالفعل أو بدر منه القول، فقد يصدر الفعل أو القول ويمنع من إنزال الحكم على قائله أو فاعله مانع، فأهل السنة يفرقون بين القول والقائل والفعل والفاعل، حتى تتم شروط وتنتفي موانع.
ثانياً: استحلال أي عمل محرم مجمع على تحريمه أو كان قطعي الثبوت كفر، وإن كان هذا الفعل من الصغائر، لا لكون الفعل الذي أقدم عليه كفراً، ولكن لاستحلاله ما حرم الله.
ثالثاً: قد يكفر المسلم لمجرد الفعل أو القول إذا دلت الأدلة الصحيحة الصريحة على كفر فاعله، كدعاء غير الله _تعالى_ أوسب الله أو سب رسوله _صلى الله عليه وسلم_ أوقتل الأنبياء أو امتهان المصحف.
رابعاً: القول بأنه لا كفر إلاّ باعتقاد من أقوال المرجئة، ومن أقوالهم التابعة له: "أن الأعمال والأقوال دليل على ما في القلب من اعتقاد"، وهذا باطل فنفس القول الكفري كفر، ونفس العمل الكفري كفر، كما قال _تعالى_:"قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة، ولم يقل: إن كنتم تعتقدون في قلوبكم شيئاً، فالله _تعالى_ أطلق الكفر عليهم بهذه المقالة.
خامساً: الذنوب التي لم يدل الدليل على أنها كفر لا يكفر فاعلها، بل هو تحت المشيئة مهما عظمت في أعين الناظرين.
ومن أراد مزيد بيان فهناك عدة رسائل قيمة يمكن الرجوع إليها منها:
(جواب في الإيمان ونواقضه) لفضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك، و(أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر) لفضيلة الشيخ عبدالعزيز الراجحي، رسالة السقاف التي بعنوان (التوسط والاقتصاد) والتي قدم لها العلامة عبدالعزيز بن باز –رحمه الله-، ورسالة (رفع اللائمة عن فتوى اللجنة الدائمة) لمحمد بن سالم الدوسري، وقد قدم لها سبعة من كبار أهل العلم، ومن أراد التوسع أكثر فليراجع أطروحة الشيخ عبدالعزيز العبداللطيف، والتي هي بعنوان (نواقض الإيمان القولية والعملية)، وكذلك ما سطره شيخ الإسلام في ذلك وكتبه معروفة.
وأخيراً أنبه على أن تطبيق هذه الأحكام من الخطورة بمكان، فمن قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فحذار حذار من التسرع في التكفيرأوالتبديع أو التفسيق، وليشتغل طالب العلم بما ينفعه مما سيسأل عنه، وليذر هذا الأمر لأهل العلم الراسخين، فكم من أقدام خاضت فيه فزلت.(/3)
الإيمان والحياة / فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
.
أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفا. اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته. اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته واهتدى بسيرته. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقًا، والباطل باطلا. اللهم وفقنا لاتباع الحق، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ابتغاء وجهك، وطلب مرضاتك. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد .. أحبتي في الله؛ أشهد الله –الذي لا إله إلا هو- على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله؛ وأنا أعلم بنفسي منكم ظن بي اخوتي ظنًا عظيمًا، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن وأجبتم، فخيرًا جُزبتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل <هَجَر>، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيرًا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرًا ليوم تتقلب منه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولا وأخرًا لله الواحد القهار.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني *** جمَّلت بالتوحيد نطق لساني
وهديتني سبل السلام تكرمًا **** ودفعتني للحمد والشكران
وغمرتني بالجود سيلا زاخرًا *** وأنا أقابل ذاك بالكفران
فلك المحامد والثناء جميعه *** والشكر من قلبي ومن وجدان
فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي *** لا يستطيع لشكره الثقلان
أنت الكريم وباب جودك لم يزل *** للبخيل تعطي سائر الأحيان
أنت الحليم بنا وحلمك واسع *** أنت الحليم على المسيء الجاني
أنت القوي وأنت قهار الورى *** لا تعجزنَّك قوة السلطان
أنت الذي آويتني وحبوتني *** وهديتني من حيرة الخذلان
ونشرت لي في العالمين محاسن *** وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي **** أبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي *** ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي *** وحلمت عن سقطي وعن طغياني
لبيك يا رب بكل جوارحي *** لبيك من روحي وملء جناني
اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي *** واقبل مقلَّ الجهد في التبيان
يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة *** تسري على البلدان والأكوانِ
أنت المضاعف للثواب فإن يكن *** مثقال خردلة على الميزان
تعطي المزيد من الثواب مضاعفًا *** من غير تحديد ولا حسبان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
أحبتي في الله؛
الإيمان والحياة، لسائل أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟
فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمرًا هامشيًا في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا، لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان. كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره. إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد. إنه لجنة أبدًا لصاحبه، والنار أبدًا لمن تنكبه، لذا كان لِزَامًا عليَّ وعلى كل مؤمن بالله، بل وعلى كل ذي عقل أن يفكر في حقيقة الإيمان، وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب، وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصًا ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين(/1)
حتى إن كثيرًا منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم، لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته. (ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميل تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟
ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟. الفرد –باختصار- بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة ،وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)
ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها. وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على إيمانها بالله- الذي لا إله إلا هو- فهنيئًا لكم الإيمان، وهنيئًا لكم القرآن، وهنيئًا لكم التوحيد، وهنيئًا لكم الإسلام، هنيئًا لكم يوم يغدو النصارى إياب إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النار، ويغدو المشركون إلى بيوت الأصنام، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
فيا أهل الإيمان؛ ما الإيمان؟ الإيمان، تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته. إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون. إنه من كل مسلم يتحسس قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له. الإيمان لينير به جوانب روحه. الإيمان ما الإيمان، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
الإيمان ما الإيمان، نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه. فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " متي نكون أهلا لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ.
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره.
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
الإيمان ما الإيمان ، شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأنس بالله، والطمأنينة بذكر الله (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الإيمان ما الإيمان، إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل، متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله. (وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه) –تبارك عز وجل- فسبحان من آمن له الكون أجمعه، وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه). موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك –أيها العبد- تسأل أين أنت من هذا الموكب؟(/2)
حدِّد موقعك في هذا الموكب، وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه، وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟ الله هو الغني، ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله -الذي لا إله إلا هو- (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ) في صحيح [مسلم] "إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى قيام الساعة". كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عمومًا، ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات
ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث [أبي ذر] "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رؤوسكم التَّراب". أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع. أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون. خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم –سبحانه وبحمده- وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره (أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) هل جندت نفسك أخي في الله لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله؟ –أعني موكب المؤمنين-. إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يا من يحب الكنز، ويا من يحب الثروة؛ إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان، إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن الناس هل لهذا الكنز وهل لهذه الثروة من أثر على الحياة إن أثرها عظيم جد عظيم لمن كان له فلب فملأه بالإيمان إن من إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد لا بل على الأمة جميعا آثارا عظيما فهاك موجزها ولا بأس بعده من تفصيل .اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله يراقبه على الصغيرة والكبيرة (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات وخضع مستجيبا لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله لعلمه أن الملائكة معه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ترافقه وتراه ولا يراها تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه والذي جاء القرآن مهيمنا عليها ومطبقا بها والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيتخذهم أسوة وقدوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي.
بالشرق أو بالغرب لست بمقتض *** أنا قدوتي ما عشت شرع محمد
حاشى يثنيني سراب الخادع *** ومعي كتاب الله يستطع في يدي
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفا من نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها ولا ترجو ما سوى ربها لا تقنع إلا بالله ولا تلجأ إلا لله في الدنيا تزهد بالموت لا تبالي لا تخضع للطغيان بل تخضع للرحمن ولسان حالها(/3)
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص بعض الإفراد فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة فاسمعوا أيها الأحباب وافقهوا وبلغوا فرب مبلغ أوعى من سامع .
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، الثبات للمصاب عند مصيبته، الثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!(/4)
هاهو –صلى الله عليه وسلم- يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ، فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ، ولا يصده صادٌ، ووقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش؛ لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلامًا حَدَثًا فيكم، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو –والله- بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو –والله- بساحر، قلتم: كاهن، ما هو –والله- بكاهن، يا معشر قريش؛ إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له، فاجتمع كبراؤها؛ صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوه في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه، قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلا منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل [أبي الوليد عتبة بن ربيعة]، فذهب عتبة إلي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان بليغًا، وكان فصيحًا، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد؛ أنت خير أم أبوك؟ فسكت –صلى الله عليه وسلم- قال: أنت خير أم جدُّك [عبد المطلب]؟ فسكت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كانوا خيرًا منك فقد عبدوا ما عبدوا، وإن كنت خيرًا منهم فقل، ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون. يا محمد إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا، يا محمد؛ ما رأينا شخصًا –قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض فنقتتل، يا محمد أخبرنا ما تريد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا [أبا الوليد]؟" ويا للأدب منه -صلى الله عليه وسلم-! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع -صلى الله عليه وسلم- يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: (حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) سمع كلامًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهًا مبهورًا بمَا يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت، أنشدك الله والرحم إلا صمت، خرج مذعورًا خائفًا راجعًا إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، لما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية –يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)، فوضعت يديَّ على فمه خوفًا أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمدًا إذا حدث حديثًا لم يكذب. (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) جحدوا بذلك، هل استقاموا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- هل انتفعوا بالآيات؟ لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو، لا –والله- بل ناصبوه العداء، كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجذور على ظهره –صلى الله عليه وسلم- ثم لم يجد له مُعِينًا بعد الله إلا بنيته الصغيرة [فاطمة] –رضي الله عنها وأرضاها- ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من <مكة>، ودموعه على وجنتيه- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت". ومع ذلك فقد ثبت –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويأتي صحابته –رضوان الله عليهم- ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.(/5)
هاهو [خالد بن الوليد أبو سليمان] -رضوان الله عليه- يقارع الروم في أرضهم -كما روى [ابن كثير]- حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة <قنسرين>؛ مدينة محصنة من مدنهم بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم ، فماذا كان من [خالد]؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصارًا عامًا عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة قالها بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا قال: من خالد بن الوليد أبي سليمان إلي قائد الروم في بلدة <قنسرين>
أما بعد فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده لو صعدتم إلي السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا كلمات الثقة بنصر الله -عز وجل- كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله. وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائسه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء. ما الذي ثبَّت خالدا إلا الإيمان؟ ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان؟ يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية. ليس هذا فحسب وليس صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب؛ فها هو [ابن تيميه] -عليه رحمة الله- ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن، وما استكان. لسان حاله :
فكيف تخاف من زيد وعمرو *** وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان الباب فيقول: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها جنة الإيمان واليقين .يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها *** ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصف مهجة تشتكي *** أذاها إلي غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضع وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ). لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله
الثبات للمريض في مرضه. يروي [ابن حجر] في الإصابة أن [عمران بن حصين]- رضى الله عنه- أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
[ أبي بن كعب] -رضي الله عنه- سيد القراء يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟ فيقول –صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث المتفق عليه "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه" فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتًا بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان. الثبات للمصاب في مصيبته لا يكون ذلك إلا للمؤمنين. يقول الحافظ [أبو نعيم]: لما توفي [ذر بن عمر الهمداني]، جاءه أبوه أو جاء أبوه، فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق، وما أريد غيرنا بما حصل لذر، ومالنا على الله من مأثم، ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي بارًا، وكنت لك راحمًا، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني –والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر –والله- لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت. يا ليت شعري ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه أخري باكيًا، اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت [لذر] إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك. ما الذي ثبت هذا الرجل إلا الإيمان؟ .(/6)
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات، علوا في الحياة وفي الممات. ومن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول [ابن أبي مليكة] كما في [البخاري]: أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل. المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق. يقول [أنس] كما في صحيح [البخاري]: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
من آثار الإيمان على الحياة زيادة الأمن في البلدان وعلي الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب. يقول المولى سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) سنَّة الله لا تتخلف، ووعد الله (لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
من أثار الإيمان نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة) لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة ، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة *** سمعت في المغرب تهليل المصلين.
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني *** على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكي مسلم في الهند أرَّقني *** وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجسي *** وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائية *** وأستريح إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ *** عددت ذلك الحمى من صُلْب أوطاني
شريعة الله لَمَّتْ شملنا *** وَبَنَتْ لنا معالم إحسان وإيمان
يقول -صلى الله عليه وسلم -كما روى [أبو داود] وحَسَّن محققُ جامع الأصول- "إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على قُرْبهم ومكانتهم من الله، قال صحابة رسول الله: تخبرنا من هم يا رسول الله؟ قال: هم أناس تحابوا بروح الله على غير أرحام فيما بينهم، ولا أموال يتعاطونها فيما بينهم، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
يقع يوم من الأيام بين [أبي ذر] -رضي الله عنه- [وبلال] -رضي الله عنه- خصومة، فيغضب [أبو ذر] وتفلت لسانه بكلمة يقول فيها لبلال: يا ابن السوداء فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام، ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشكو أبا ذر، ويستدعي النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر، فيقول -كما في الحديث المتفق علي صحته- يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بلال –رضي الله عنه- كما روي ويضع خده على التراب ويقول: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فتذرف عينا بلال -رضي الله عنه- الدموع، ويقول: يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد: إنك امرؤ فيك جاهلية.(/7)
ويأتي [سهيل بن عمرو]، ويأتي [أبو سفيان] -رضيَ الله عنه وأرضاه- إلي أين يأتون؟ يأتون إلي مجلس [عمر] –رضيَ الله عنه وأرضاه- الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقًا، فيستأذن أبو سفيان –وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد ألوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم –رضى الله عنه وأرضاه- بعد إسلامه. ويأتي سهيل بن عمرو–وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي [بلال] الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن له، ويأتي [صهيب]؛ صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي [سلمان] الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟ كان من أبي سفيان -رضى الله عنه- أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: والله ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي، فقال سهيل -وكان لبيبًا عاقلا- قال: والله ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة، ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلي الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن لا نحبس على أبواب الجنة، أو كما قال. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى *** وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمرو لا ترى *** جنسًا على جنس يفوق بمحددي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة *** ويدق تيجان العنيد الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه *** لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ
ورمي صهيب بكل مال للعداء *** ولغير ربح عقيدة لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها *** من ذرة أقوى وألف مهند
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: (أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) هاهو –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من رواية [أنس]، وكما في رواية [ابن اسحق] عن [أبي سعيد الخدري]، عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ [سعد بن عبادة] إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويقول وينقل المقالة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما روى: ما أنت؟ يعني أين موقفك أنت، حدِّد موقفك، هل أنت منهم؟ فيقول: يا رسول الله ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون -ما يعرفون الخداع، وما يعرفون الالتواء، إنما صرحاء أتقياء أنقياء-. فقال -صلى الله عليه وسلم-: اجمعهم لي، فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار؛ ما حديث بلغني عنكم، ألم آتيكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون أنتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا." لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر *** فقد أخذنا عنكم خير البشر(/8)
صلى الله عليه وسلم ، أرأيت كيف استلَّ -صلى الله عليه وسلم- ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لَمَ استلَّ ما في قلوبهم -رضوان الله عليهم جميعًا-. وهاهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح- بين أصحابه فيقول: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل تنفض لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به بعض صحابة رسول الله، وجلسوا معه أيامًا فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام، فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّشا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال-، إنه الإيمان. [الإمام الشافعي] -عليه رحمة الله- عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة [الإمام أحمد]، وهو أكبر منه سنًا، فقال ردًا على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته *** فلفضله فالفضل في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول : كمدًا من مات من غيره منهم له كفن إنه الإيمان وكفى. ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح-:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" إن المؤمن يا أيها الأحبة يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذ ائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده. ففي الأثر أن الله -سبحانه عز وجل- قال: "وعزتي وجلالي، ما من عبد آثر هواي على هواه - أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها - إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واستجرت له من وراء كل فاجر" الإيمان عصمة من الوقوع في المعاصي
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه [الربيع بن خُثَيْم]، يتمالى عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغًا من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خثيم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله؛ كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟ أم كيف بك إن شقيتي يوم تُرْمَين في الجحيم؟ فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة، وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع. ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل قلة شهوة؟ إنها الشهوة العظيمة وفي سن هو أوج الشهوة وعظمتها هو سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله –الذي لا إله إلا هو- .(/9)
فالإيمان –يا أيها الأحبة- كالجمرة متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات. هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب، طرق عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائمًا لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلانًا، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، ألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه، فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة أن ننتهك حرمة البيت الفلاني نريد أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة –كما يقول-، فما كان من هذا –وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج من نصف الليل، وكان نائمًا، خرج مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل، برجليهما يذهبان إلى الفاحشة، ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارسًا بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصى غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس؛ والذي كان نائمًا في نومته، فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل، يا لله ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضًا- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون ليبحثون عن الثاني، وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائمًا معهم في القرية الفولانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع. "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ليس هذا فحسب، إليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ [سلمان العودة] في كتابه جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليبين لك أثر الإيمان في موت القلوب، أثر نقص الإيمان في موت القلوب، ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عامًا جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولودًا في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها، طلبوا منها بعد أيام من أيام الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مرًا مستمرًا حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء، فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟ وما الخطب؟ وما الحدث؟ وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم قالت: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ما أفظع الأمر! وما أفجعه! والله لو قيل إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفًا، ولم ينكروا منكرًا؟! لا تستبعد مثل هذا أخي المسلم؛ فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته.
وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضًا، والسقوط شيئًا فشيئًا
ورحلة النيل تبدأ بخطوة واحدة *** ومعظم النار من مستصغر الشرر(/10)
والإيمان هو الزمام والفيصل. ومن آثاره على الحياة سعادة البيوت والأسر، بيت يدخله الإيمان بيت سعيد لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛ استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم. سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالا؛ فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار. هذا بيت [الإمام أحمد] –عليه رحمة الله- يتربى على الإيمان، فاسمع إليه يوم يقول بعد أن توفيت زوجته [أم صالح] يقول: رافقتني أم صالح – يعني زوجته- ثلاثين عامًا، والله ما اختلفت معها في كلمة واحدة. إنه الإيمان يا أيها الأحبة، البيت المتربي على الإيمان ليس هذا فحسب، إن البيت المتربي على الإيمان يدرك الأطفال هذا الإيمان، فيدخل إلى قلوبهم السعادة ولو كانوا لم يحظوا من الدنيا بقليل ولا كثير. إن [الإمام أحمد] كان دخله في الشهر سبعة عشر درهمًا فيأتي أبناؤه ويقولون: يا أبتاه لا تكفينا، قال: أيام دون أيام، طعام دون طعام، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس حتى نلقى الله الواحد الأحد. حذاؤه تبقى في رجله ثمانية عشر عامًا –كما ذكر ابنه عبد اله]- كلما انخزمت خطفها، وأعادها إلى رجله؛ لأنه ركل زخارف الدنيا وهو يعلم أن مناديل [سعد بن معاذ] في الجنة خير من هذا.
البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل:
[عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله ورضوانه- في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال ويدخل الأطفال؛ أطفال الرعية فدخلوا في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك ركل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان، يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة، طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير، والذي تربى على الإيمان: أبتاه ما الذي طأطأ بك رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة، فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله. ما الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً وأبناءً أو إخوانًا أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون.
(لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)
هاهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حققوا هذا الأثر، فظهر في تصرفاتهم، وظهر في كلماتهم ومقالاتهم. يقول [ابن عمر]: والله لو أنفقت أموالي كلها في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أنام، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة، وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي [وخبيب] -رضي الله عنه وأرضاه- يُقدَّم تضرب عنقه في ذات الله، فيقال له: أتحب أن محمدًا مكانك الآن، وأنك آمن في أهلك، فيقول -وقد والى الله-: والله ما أحب أن محمدًا يشاك بشوكة وأني آمن في أهلي.
وهكذا يفعل الإيمان. وإذا نقص منسوب الإيمان وإذا تدني منسوب الإيمان تدنى معه الشخص، تدنى إلى مرحلة البهيمية، فأصبح ولاء الإنسان تافهًا حقيرًا مهينًا. يذكر [ابن تيميه]- عليه رحمة الله- أن رجلا تعلق امرأة سوداء فأحبها حبًا جمًّا، فكان يقول يوم نقص منسوب الإيمان عنده:
عدو لمن عادت وسِلْم لأهلها *** ومن قرَّبت كان أحب وأقربَ
ليس هذا فحسب، بل قال مرة أخرى:
أحب لحبها السودان حتى *** أحب لحبها سود الكلاب.(/11)
صار الحب فيها، والبغض فيها، والولاء لها، والعداء لأعدائها، مع أن الأصل من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ولن ينال عبد طعم الإيمان وإن صلَّى وصام حتى يكون كذلك ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطأ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمنًا أعرابيًا مثل [ربعي بن عامر] حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام [رستم] في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به حتى إذا سأله رستم من أنتم وما الذي جاء بكم؟ حقق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان
أمَّة الصحراء يا شعب الخلود *** من سواكم حل أغلال الورى؟
أي داعي قبلكم في ذا الوجود *** صاح لا كسرى هنا لا قيصر؟
من سواكم في قديم أو حديث *** أطلع القرآن صبحًا للرشاد؟
هاتفًا في مسمع الكون العظيم *** ليس غير الله ربًا للعباد
فكِّروا في عصركم وانتبهوا *** طالما كنتم جَمَالا للعُصُر
وابعثوا الصحراء عزمًا وابعثوا *** مرة أخري بها روح عمر(/12)
هاهو أخر قد آمن بالله حقًا، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يتكلم في [هشام بن عبد الملك] الخليفة كلامًا غليظًا جافيًا، فأمر هشام بإحضاره، فلما وقف بين يديه جعل يتكلم، فقال هشام له: وتتكلم أيضًا في مجلسي؟! فقال: يقول الله –جل وعلا-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) أفنجادل الله جدالا، ولا نكلمك يا هشام؟! فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشدًا، فقال ما شاء وانصرف راشدًا بعزة المؤمن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) إنها العزّة، أثر إيماني يظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحدًا، ليس هذا فحسب. هاكم مثلا آخر، ذلكم الشيخ [سعيد الحلبي] عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه مادًا رجله في مسجد من مساجد الشام، فدخل [إبراهيم] باشا ابن [محمد على] باشا والي مصر آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، بقي مادًّا رجله في حلقته يلقي قال الله، وقال رسوله- صلى الله عليه وسلم- فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا الشيخ، فقال في نفسه هذا: لأتينه من باب لطالما أوتي طلبة العلم من هذا الباب. فذهب وأضمر له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية –في وقت الشيخ قد لا يجد ليرة واحدة-، وقال لأحد جنوده: اذهب إلي الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا زال مادًّا رجله في حلقته يدرس قال الله، وقال رسوله –صلى الله عليه وسلم-، ويكتسب العزة من خلال قال الله وقال رسوله، جاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية، فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده، إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه، أنا أقول ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة، لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا يكون المؤمنون. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) وإن نسيت أيها الأحبة فلا أنسى [سيدًا] -رحمه الله وتجاوز عني وعنه-، الذي اعتزَّ بإيمانه، فصدع بكلمة الحق بلا استحياء ولا خجل، فحكم عليه بالقتل، وطلبوا منه أن يقدم استرحامًا حتى يخفف عنه الحكم، ولكنه أبى -رحمه الله- وقال قولته الشهيرة: إن كنت حوكمت بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت حوكمت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية مرات في اليوم لترفض أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية. ماذا كان سيفعل سيد لولا الإيمان؟ يا للعزة! ويا للثبات!. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه. المؤمن –أيها الأحبة- لا يذهب منه ريال في شراء ما يغضب الله –جلا وعلا- لا يذهب منه ريال في شراء دخان، وما في حكم الدخان من الخبائث، لا يذهب منه ريال في شراء فيلم مفسد أو مجلة أو جريدة مفسدة؛ لأنه يعلم أنه مسؤول أمام الله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فيصون رزقه عن الربا وعن الغش وعن الحِيَل، وعن المكر والخداع، ويجند رزقه فيما يرضي الله –جل وعلا- فيرزقه الله ويبارك الله له. (وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ )
ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إلى الله -جل وعلا- والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله –جل وعلا- وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: (قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)
هاهو [خالد بن الوليد] المؤمن الحق بإذن الله يُقَدَّم له في يوم من الأيام سم، يُقَدَّم له سم من قِبَل طاغية من الطغاة، ويقول له هذا الكافر: إن كنتم صادقين في التوكل على الله -جل وعلا- واللجوء إليه، والثقة به، فاشرب هذه القارورة من السم، فما كان من خالد -رضي الله عنه- إلا أن أخذها وقال: بسم الله، توكلت على الله، ثقة بالله -سبحانه وتعالى- ثم شربه، فلم يصبه إلا العافية. (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون(/13)
ومن آثار الإيمان انشراح الصدر، وطمأنينة القلب (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ) المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد آمن بالله ربَّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- فذاق حلاوة الإيمان، فانشرح صدره.
هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، والله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طربًا بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم. تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان فانشرحت صدورهم. والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف. والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه فحياته ضنك، وصدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى)
ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو عماد من أعمدة الإيمان. فالحياة كلها سفينة تنخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد. المجتمع كالسفينة يركب ظهرها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل، وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح، وذاك يحرف ويفتن، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح، يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه. ومن آثار الإيمان: حفظ الجوارح، وتذليلها لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله؛ حفظ القلب من الشهوات والشبهات. وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد. وحفظ السمع إلا من كتاب الله، وذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله. وحفظ البصر من إطلاقه فيما حرَّم الله؛ ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله. وحفظ البطن فلا يدخل له إلا ما أحله الله، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. ومن آثار الإيمان على الحياة آثاره على المجالس، حيث يجعلها رياضًا من رياض الجنة، ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى، ورب رحيم كريم يقول: انصرفوا مغفورًا لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات، فيا لله ما أعظمها من مجالس! وما أعظم الأخوة! جالسيها -ومرتاديها جعلنا الله وإياكم من أهلها-
ومن أثاره على الحياة آثاره في تلك اللحظة الأخيرة، في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصبية المريرة التي لا يثبت فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورؤوس الجبال؛ من شدة ما يلاقي من السكرات. اللحظة التي صورها من عناها بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم- يوم يغمى عليه ويصحو، ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات"، لحظة عاناها، وعاناها صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ووصفها أحدهم وهو [عمرو بن العاص] –رضي الله عنه وأرضاه- فقال وهو في اللحظات الأولى من لحظات السكرات، لا زال لسانه لم يعتقل، ولا زال جسمه لم يخدر: والله لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما. في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك الله النطق بالشهادتين، ومن" كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة "على ما كان. في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون أنها آخر عناء، وآخر تعب، وآخر نَصَب، وآخر وصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم الملائكة، فلا خوف ولا حزن (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(/14)
هاهو [عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله- في سكرات الموت يقول: مرحبًا بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ليلقى الله -عز وجل- على ذلك.
وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغًا فيقولون له: قل: لا إله إلا الله، وهو من الصالحين، لا يزكى على الله، فكان يقول: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ليلقى الله على تلك الحال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يشاء)
مؤذن لطالما رفع الآذان من على المنابر كل يوم خمس مرات، يختمها بلا إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة من حياته يغمى عليه إغماءة مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاءت وقت الصلاة قام وأذن حتى يقول: لا إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، ويقولها مرة من المرات، يفيق من إغمائه ويقول: يا بني، وابنه معه، أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر، الله أكبر حتى ختمها بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ) وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في تلك اللحظات، الذين لم تنضبط سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم، ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا بها حياتهم. فيا لها من سوء خاتمة. هاهو شاب في سكرات الموت، يقولون له: قل: لا إله إلا الله –ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخانًا، أعطوني دخانًا، فيقولون: قل: لا إله إلا الله علَّ أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخانًا، ليلقى الله على تلك الحال. نسأل الله حسن الخاتمة. وشاب أخر –كما ذكر الشيخ [سلمان]- يقول : كان صادًّا ونادًّا عن الله –جل وعلا- وحلَّت به سكرات الموت التي لابد أن تحل بي وبك، لا أدري أقريب أم بعيد؟ نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام، جاء جلاسه وقالوا: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكل كلمة ولا يقول لا إله إلا الله، ثم يقول في الأخيرة: أعطوني مصحفًا، ففرحوا واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله، فيختم بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده، وقال: أشهدكم أني قد كفرت برب هذا المصحف، ثم يلقى الله على ذلك. نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)(/15)
ومن أثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيدًا فريدًا لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهنًا بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسنًا تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئًا ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟، وأنت على هذه الحال –يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها. جعلنا الله وإياكم من سكانها. أحد الشباب يأتيني في يوم من الأيام، في يوم جمعة، ويأتي إليَّ ويقول: يا شيخ رأيت أخي الذي مات قبل فترة في المنام، وأحببت أن أذكِّرك بهذا لتذكِّر الناس بمثل هذه الرؤيا، قال: فقلت لأخي لما رأيته في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني فله الحمد والمنَّة أولا وأخرًا، وظاهرًا وباطنًا، قال: فبم توصينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، وألا تناموا ليلة من الليالي إلا وقد تعبت أقدامكم من الوقوف بين يدي الله، واحمرَّت أعينكم بكاءً من خشية الله؛ فو الله ما نفعنا هنا بعد رحمة الله إلا تلك الأعمال وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله:" يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال يا ربي: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون". يومها يشيب الصغير وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان يوم تعرض السجلات سجلا سِجلا، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويومًا يومًا لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. يوم ينادى المؤمن على رؤوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وتظهر أثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) فإلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
فيا بائع هذا ببخس معجل *** كأنك لا تدري بلي سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة والدنيا معًا فالطريق الإيمان. عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عامًا أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز (ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى *** صريع الأماني عن قليل ستندم
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده *** سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى *** كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
فحيَّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيَّم
وحيَّ على روضاتها وخيامها *** وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم(/16)
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيمانًا نجد حلاوته، وقلوبًا خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعينًا من خشيتك مدرارة. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء. اللهم انفعنا بما قلنا، اللهم انفعنا بما سمعنا، اللهم واجعله حجَّة لنا، اللَّهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا. اللهم أنت ملاذنا، اللهم أنت ملجؤنا، حسبنا فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت حسبنا ونعم الوكيل. اللهم كما جمعتني بأحبتي في هذه الروضة في هذه الليلة على ذكرك، فاجمعني بهم إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين.
هذي محاضرتي عليكم ألقيت *** فلعلها موقظة الوسنان
لم آتِ فيها من جديد مُحْدَثٍ *** غير اختيار اللفظ يا إخواني
فإذا أسأت فذاك من كسبي *** وإن أحسنت ذا فضل من المنان
أهدي صلاتي والسلام جميعه *** لأحب خلق الله بالأكوان
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
وأسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بالقليل، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجمعنا بكم مرات ومرات ومرات، ثم يجمعنا في دار
قصورها ذهب والمسلك طينتها *** والزعفران حشيش نابت فيها
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/17)
الإيمان.. من المظهر إلى الجوهر ... ... ...
من الناس من لا يكاد يهمه من الإسلام إلا الشكل لا الجوهر، والصورة لا الحقيقة؛ فأهم ما يعنى به في دينه: إعفاء اللحية وتطويلها، وتقصير الثوب، وحمل المسواك، ولصق القدم بالقدم في الصلاة، أو وضع اليدين في القيام عند الصدر أو فوق السرة، والشرب قاعدًا لا قائمًا، وتحريم جميع أنواع الغناء والموسيقى، وإيجاب لبس النقاب على المرأة، ونحو ذلك. وهذه كلها أمور تتعلق بالمظهر أكثر مما تتعلق بالجوهر، وكنت أود من إخوتي هؤلاء لو وجّهوا أكبر عنايتهم إلى الجوهر والروح في تعاليم الإسلام، بدل الشكل والمادة.
فالإسلام عقيدة: جوهرها التوحيد، وعبادة: جوهرها الإخلاص، ومعاملة: جوهرها الصدق، وخُلق: جوهره الرحمة، وتشريع: جوهره العدل، وعمل: جوهره الإتقان، وأدب: جوهره الذوق، وعلاقة: جوهرها الأخوة، وحضارة: جوهرها التوازن.
فمن ضيع التوحيد في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والصدق في المعاملة، والرحمة في الخُلُق، والعدل في التشريع، والإتقان في العمل، والذوق في الأدب، والأخوة في العلاقة، والتوازن في الحضارة: فقد ضيع جوهر الإسلام، وإن تمسك بظواهر الرسوم والأشكال.
وليس هذا القول مجرد دعوى بلا دليل، بل الأدلة على هذا القول من القرآن والسنة كثيرة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم. ومن كانت فيه واحدة منهن كان فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذ اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" متفق عليه.
الإيمان بين المعرفة والتطبيق
يحسب بعض الناس أن الإيمان الذي ينجي الإنسان من النار، ويؤهله لدخول الجنة في الآخرة، ويجعله أهلا لولاية الله تعالى ونصرته ودفاعه في الدنيا مجرد معرفة ذهنية، كثيرًا ما يُحشى بها عقله. وبعبارة أدق: تخزن في ذاكرته في فترة الصبا ويلقنها تلقينًا أن الله تعالى واحد لا شريك له، وأنه سبحانه متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، وأن له صفات عليا هي كذا وكذا.
وما زلت أذكر كيف كانوا يلقنوننا -ونحن في الكُتَّاب- العقيدة، على مذهب الأشاعرة المتأخرين، وهي: أن لله تعالى صفاتٍ عشرين هي: الوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه تعالى بنفسه، والوحدانية، والعلم، والإرادة، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وكونه تعالى عالمًا، ومريدًا، وقادرًا، وحيًّا، وسميعًا، وبصيرًا، ومتكلّمًا.
وكنا نحفظ هذه الصفات بترتيبها هكذا، ولا نعرف من معناها شيئًا.
وبعد أن كبرت ووعيت حاولت أن أفهم الفرق بين العلم، وكونه تعالى عالمًا، والقدرة وكونه تعالى قادرًا... إلخ. ولم أستطع أن أفهم، ولم أجد من قدر على أن يفهمني، برغم أننا درسنا هذه الصفات في المراحل الابتدائية، والثانوية، والعالية، من الدراسة في الأزهر الشريف.
وأهم من ذلك أن هذه الدراسة للعقيدة لم تكن تلمس في روح الإنسان وترًا، أو تحرك له قلبًا، أو تحيي فيه ضميرًا. إنها دراسة جافة، خاوية من رحيق الإيمان الحق الذي يقوم عليه منهج القرآن في تكوين الإيمان، وفي تثبيت الإيمان.
وهو منهج يقوم على النظر والتفكر في آيات الله تعالى: في الأنفس، والآفاق: "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف: 185) "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ" (الذاريات: 20، 21) "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" (آل عمران: 190).
وقد أعجبت بالمنهج السلفي؛ لعنايته بالرجوع إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة في إثبات العقيدة وتثبيتها، مرجحًا أساليب القرآن على أساليب فلسفة اليونان، حسب تعبير العلامة ابن الوزير اليماني.
كما أعجبني من هذا المنهج تركيزه على تحرير التوحيد من كل شوائب الشرك؛ أكبره وأصغره، جليه وخفيه، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وتجريد العبودية لله وحده.
ولكن الاتجاه السلفي المعاصر: غرق في خضم الجدل في مسائل العقيدة، وغدا شغله الشاغل، ما يتعلق بما سماه "آيات الصفات"، و"أحاديث الصفات"، والمراد بها الصفات الخبرية التي وقع النزاع بين السلف والخلف حول تأويلها أو عدمه. وكأنما هي لب العقيدة، وجوهر التوحيد.
ومأخذي على هذا الاتجاه -كما يلقّن الآن- أمران:
الأول: تركيزه على هذا الموضوع المختلف فيه، على حساب المتفق عليه، والذي هو الأصل في العقيدة من إثبات وجود الله تعالى، ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، وتجريد العبادة له وحده، ووصفه بكل كمال يليق به عز وجل، ونفي كل نقص عنه من الشريك والولد والنِّد والشبيه "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء" (الشورى: 11) "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد" (الإخلاص: 3، 4).(/1)
والواجب تدريس هذه الأشياء المختلف فيها، كما جاءت في القرآن والسنة، لا أن يُجمع بعضها مع بعض في سياق واحد، يعطي من الظلال ما لا يعطيه سياقها في مواقعها المتفرقة من الكتاب والسنة.
الثاني: أن هذا الاتجاه وقع فيما وقع فيه الاتجاه العقلاني الأشعري الآخر، من اعتبار الإيمان مسألة معرفية ذهنية، وبعبارة أخرى: استيعاب عبارات مرصوصة، وحفظ جمل ومصطلحات مصبوبة في قوالب جامدة.
فمن حفظ هذه العبارات أو المصطلحات فقد سلمت عقيدته، وصح إيمانه، وتحرر توحيده من الشركيات والكفريات.
إيمان القرآن والسنة
إن إيمان القرآن والسنة شيء آخر. إنه نور يضيء كل جوانب النفس، ينير العقل، وينعش الوجدان، ويحرك المشاعر، ويحفز الإرادة. إنه قوة هادية، وقوة محركة، وقوة ضابطة، وقوة مطمئنة.
الإيمان قوة هادية:
هو قوة هادية؛ لأنه يحدد للإنسان وجهته، ويعرفه غايته ومنهاجه، فيحيا على نور، ويمضي على بصيرة.
"وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه" (سورة التغابن: 11) "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم" (سورة آل عمران: 101) " أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا" (سورة الأنعام: 122).
هذه القوة هي التي جعلت إبراهيم الخليل عليه السلام يرفض ربوبية الكواكب والقمر والشمس؛ إذ يقول: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام: 79).
قوة حافزة:
وهو قوة محركة، تحفز الإنسان إلى العطاء والبناء، وعمل الصالحات، واستباق الخيرات؛ ولذا قرن القرآن الإيمان بالعمل في نحو تسعين موضعًا؛ ولهذا قال السلف: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وحين قال اليهود والنصارى: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى" رد عليهم القرآن بقوله: "وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة البقرة: 111، 112).
فهذا هو البرهان على صدق الإيمان؛ إسلام الوجه لله مع إحسان العمل.
والقرآن يجسد الإيمان في أخلاق ومشاعر وأعمال، لا في جمل وعبارات فقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" (سورة الأنفال: 2 - 4).
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (سورة الحجرات: 15).
يؤكد ذلك أحاديث الرسول الكريم التي جعلت الإيمان بضعًا وستين، أو بضعًا وسبعين شعبة، ألفت فيها كتب جامعة، لبيانها وإحصائها وشرحها.
وفي الصحيحين: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان".
الإيمان هو الذي جعل إبراهيم الخليل عليه السلام يقدم على ذبح ولده وفلذة كبده طاعة لله، وجعل ابنه الفتى المترعرع، يقول لأبيه وقد قال له: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102).
قوة ضابطة:
والإيمان كما أنه قوة دافعة إلى فعل الخير هو كذلك قوة ضابطة تزع صاحبها عن الشر، وتلجمه بلجام التقوى، وتردعه عن الإثم، وعن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الإيمان هو الذي يضع نصب عيني المؤمن دائمًا رقابة الله تعالى، وحساب الآخرة، وعقيدة الثواب والعقاب، والجنة والنار، وبذلك يكون هو رقيبًا على نفسه، يشارطها قبل العمل، ويحاسبها بعد العمل، ويلومها عند التقصير، وقد يعاقبها بالتقريع والتأنيب، وبغيرهما من وسائل التأديب. كما هو شأن "النفس اللوامة".
الإيمان هو الذي جعل ابن آدم الخيّر يقول لأخيه الشرير: "لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (المائدة: 28).(/2)
الإيمان هو الذي جعل يوسف بن يعقوب عليه السلام يرفض الشهوة الحرام، وهو في عنفوان شبابه، وقوة رجولته، وهي التي سعت إليه، ولم يسعَ إليها؛ فهو يقول للمرأة التي هو في بيتها، والتي تملك أمره، والتي راودته عن نفسه بالتصريح لا بالتلميح "وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف: 23).
وحين لم يفلح معه الإغراء، جربت معه التهديد، فمن لم يثنه الوعد فربما ألانه الوعيد، فقالت أمام النسوة: "وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ" (يوسف: 32).
فما كان من هذا الشاب المؤمن إلا أن لاذ بالركن الركين، والحصن الحصين، لاذ بربه، قائلا: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف: 33).
مصدر للسكينة:
والإيمان بعد ذلك قوة تزرع في النفس السكينة، وفي القلب الأمن والطمأنينة، وهما ينبوع السعادة الحقيقية التي تنبع من الداخل، ولا تستجلب من الخارج.
يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" (الفتح: 4).
يحدثنا القرآن عن إبراهيم؛ إذ حاجه قومه وجادلوه، وخوفوه من آلهتهم أن تصيبه بسوء! فقال: "أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" (الأنعام: 80 - 82).
ومعنى لم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ أي لم يخلطوا توحيدهم بشرك، فهم لا يدينون إلا لله، ولا ينحنون إلا لله، ولا يرجون أو يخافون إلا الله.
وهذا التوحيد الخالص هو الذي وهبهم الأمن النفسي الذي حرمه غيرهم، ممن يخافون من كل شيء، حتى من الأوهام. كما هو شأن أهل الشرك الذين قال الله فيهم: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا" (آل عمران: 151).
ومن هنا نجد المؤمن كالطود الأشم، تضطرب الدنيا من حوله، وتثور العواصف، وتزمجر الرعود، وتبرق البروق، وتنقلع الأشجار، وتفيض الأنهار، وتعلو أمواج البحار، وهو هو؛ ثابت لا يتزحزح، راسخ لا يتأرجح، فقد وضع قدمه على باب الله، ووضع يده في يد الله، ووصل حباله بحبل الله تعالى؛ فبه يعتصم، ومنه يستمد، وإليه يتوجه، وعليه يتوكل "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (الأنفال: 49).
شعاره ما قاله الله لرسوله: "قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (سورة التوبة: 51).
لا تزيده الشدائد إلا إيمانًا واطمئنانًا، كالذهب الأصيل لا تزيده النار إلا صفاءً ولمعانًا. وهكذا وصف الله عز وجل المؤمنين من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، في أشد الأوقات حلكة وسوادًا، وأشد الأزمات حرجًا وقلقًا، كما في غزوة الأحزاب، حيث أحاط جيش المغيرين بالمدينة إحاطة الأمواج بالسفينة، وظن الناس بالله الظنون، وابتُليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدًا. هنا برز دور الإيمان يبعث الأمل، ويحيي الثقة، ويمنح القوة، كما نرى ذلك في وصف القرآن لجماعة المؤمنين "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" (سورة الأحزاب: 22).
ولا أستطيع أن أذكر هنا -ولو بالإيجاز- ثمار الإيمان القرآني، في النفس وفي الحياة. فقد كتبت في ذلك كتابًا كاملا هو "الإيمان والحياة"، بينت فيه أثر الإيمان في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع، وأنه ضرورة للفرد ليسعد ويتزكى، وضرورة للمجتمع ليتماسك ويرقى.
المهم أن هذا الإيمان هو الإيمان الحق، وهو الذي جاء به كتاب الله، وفصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عرفه وعاشه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وعرفه الربانيون من أبناء هذه الأمة، فعاشوا به في جنة روحية دخلوها في الدنيا قبل الآخرة، وأحسوا معه بسعادة قال فيها قائلهم: لو علم بقيمتها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف!(/3)
أما آفة مسلمي عصور الانحطاط، ومسلمي اليوم كذلك فهي غياب هذا الإيمان الإيجابي الذي لا يقوم شيء مقامه من علم ولا أدب ولا فلسفة ولا قانون.
أجل.. إن غياب المعاني الإيمانية الربانية التي تربط القلوب ببرد اليقين، وتنعش الأرواح بنسائم المحبة والشوق إلى الله، وتمدّ العزائم ببواعث الرجاء في رحمة الله تعالى والخشية من عذابه أبرز ثغرة في حياة الإنسان المسلم، تحتاج إلى أن تسد، فلجأ إلى رحاب التصوف، يحاول أن يجد فيه ضالته التي ينشدها والتي لم يجدها عند الذين أغرقوا الناس بفروع الفقه وخلافاته، ولا عند المجادلين في العقائد من علماء الكلام الذين شغلوا الناس عن الله جل جلاله بالجدل الحار الدائم حول أسمائه وصفاته سبحانه.
وإذا وجد المسلم صوفيًّا ملتزمًا بالكتاب والسنة، بعيدًا عن الشركيات في العقيدة، والبدع في العبادة، والخلل في السلوك؛ فهذا من حسن حظه، ومن فضل الله عليه.
ولكن الخطر يتمثل في المخرفين والمنحرفين من أدعياء التصوف، من الذين اتخذوه مرتزقًا وتجارة، أو من الذين لم يحسنوا فهم حقيقة التصوف؛ لأنهم لم يحسنوا فهم حقيقة الإسلام. وهؤلاء هم جلّ الموجودين على الساحة باسم التصوف، وما هم من التصوف في كثير ولا قليل.
كاتب المقال: د. يوسف القرضاوي
المصدر: إسلام أون لاين
...(/4)
الإيمان و الحياة
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفا. اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم أَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته. اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته واهتدى بسيرته.
لبيك يا رب بكل جوارحي *** لبيك من روحي وملء جناني
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم أرنا الحق حقًا، والباطل باطلا. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
عباد الله: إن الله خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف أن الرابطة الوحيدة التي تربط بيننا وبينه؛ فهي رابطة الإيمان. وهي معقد الولاية بيننا وبينه سبحانه وملائكته وأنبيائه والمؤمنين، وقد بين سبحانه في كتابه أنه ولي المؤمنين: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} يناصرونه سبحانه بتطبيق شرعه في كل شؤونهم: إن تنصروا الله ينصركم يأتون أومره ويحذرون زواجره ويصدقون خبره فهو وليهم سبحانه
ثم اعلموا يا عباد الله أن كل رابطة تجمع بين الناس في الدنيا مصيرها الانقطاع وتنقلب إلى عداوة يوم القيامة إلا رابطة الإيمان: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} المتقون فقط هم الذين تستمر الصلة بينهم حتى يدخلوا الجنة فيتذكروا أيام كانوا في الدنيا كيف كانوا وكيف كانوا يعملون وتستمر أخوتهم ومحبتهم. فليتق الله كل امرئ لا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فلنحرص يا عباد الله على أن تكون الأخوة السائدة بيننا هي أخوة الإيمان نقوم بها بحقوقها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، وكل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله.
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى *** صريع الأماني عن قليل ستندم
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده *** سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى *** كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من عباده المؤمنين وأن يزيدنا من الإيمان والتقوى حتى نأخذ من ولايته أوفر نصيب.
*وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا ينبغي أن يكون الإيمان هو قضية القضايا. كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره. إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد. إنه لجنة أبدًا لصاحبه، والنار أبدًا لمن تنكبه، الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟ الفرد –باختصار- بلا إيمان حيوان شَرِه، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، غايات أهله لا تجاوز شهوات بطونهم وفروجهم (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)
فهنيئًا لكم الإيمان، وهنيئًا لكم القرآن، وهنيئًا لكم التوحيد، وهنيئًا لكم الإسلام، هنيئًا لكم يوم يغدو النصارى إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النار، ويغدو المشركون إلى بيوت الأصنام، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيا أهل الإيمان؛ اثبتوا
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره.
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره(/1)
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، الثبات للمصاب عند مصيبته، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
هاهو –صلى الله عليه وسلم- انتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ، ولا يصده صادٌ، ووقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش؛ لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلامًا حَدَثًا فيكم، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو –والله- بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو –والله- بساحر، قلتم: كاهن، ما هو –والله- بكاهن، يا معشر قريش؛ إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له، فاجتمع كبراؤها؛ صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، اجتمعوا، قالوا: انظروا رجلا منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل [أبي الوليد عتبة بن ربيعة]، فذهب عتبة إلي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان بليغًا، فصيحًا، قال: يا محمد؛ أنت خير أم أبوك؟ فسكت –صلى الله عليه وسلم- قال: أنت خير أم جدُّك [عبد المطلب] وأسلافك؟ فسكت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كانوا خيرًا منك فقد عبدوا ما عبدوا، وإن كنت خيرًا منهم فقل!
ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون. يا محمد إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا، يا محمد؛ ما رأينا شخصًا –قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض فنقتتل، يا محمد أخبرنا ما تريد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا [أبا الوليد]؟" ويا للأدب منه -صلى الله عليه وسلم-! يا للأدب تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع -صلى الله عليه وسلم- يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على رأس هذا الرجل، من أوائل سورة فصِّلت: (حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)!! سمع كلامًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهًا مبهورًا بمَا يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فخاف وارتعد وأخذ يديه الاثنتين ووضعهما على فم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت، أنشدك الله والرحم إلا صمت، خرج مذعورًا خائفًا راجعًا إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، لما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية –يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)، فوضعت يديَّ على فمه خوفًا أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمدًا إذا حدث حديثًا لم يكذب.
ثم ماذا؟! َجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا!! جحدوا، هل استقاموا؟ هل انتفعوا بالآيات؟ لم ينتفعوا، فهل سلم منهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو، لا –والله- بل ناصبوه العداء، كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجزور على ظهره –صلى الله عليه وسلم- ثم لم يجد له مُعِينًا بعد الله إلا بنيته الصغيرة [فاطمة] –رضي الله عنها وأرضاها- ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من <مكة>، ودموعه على وجنتيه- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت". ومع ذلك فقد ثبت –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويأتي صحابته –رضوان الله عليهم- ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.(/2)
هاهو [خالد بن الوليد أبو سليمان] -رضوان الله عليه- يقارع الروم في أرضهم، حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة <قنسرين>؛ مدينة محصنة من مدنهم بالأسوار المنيعة والأبواب الثقيلة، حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصارًا فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا قال: من خالد بن الوليد أبي سليمان إلي قائد الروم في <قنسرين> أما بعد فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده لو صعدتم إلي السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا.. كلمات الثقة بنصر الله -عز وجل- كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله. وصلت الرسالة إلى ذلك الكافر، فقرأها وارتعدت فرائسه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء.
ما الذي ثبَّت خالدا إلا الإيمان؟ ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان؟
هذا عمران بن حصين، رضي الله عنهما، أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
وليس صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب؛ فها هو [ابن تيميه] -عليه رحمة الله- ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن، وما استكان. لسان حاله :
فكيف تخاف من زيد ومن عمرو *** وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يغلق السجان الباب فيقول: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها جنة الإيمان واليقين. يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها *** ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي *** أذاها إلي غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضع وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ). لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلم
*ومن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول [ابن أبي مليكة] في [البخاري]: أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل. المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق. يقول [أنس] كما في صحيح [البخاري]: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
*من أثار الإيمان نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة) لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة *** سمعت في المغرب تهليل المصلين.
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني *** على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكي مسلم في الهند أرَّقني *** وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
في الحديث المتفق عليه: يقع يوم من الأيام بين أبي ذر وبلال -رضي الله عنهما- خصومة، فيغضب [أبو ذر] وتفلت لسانه بكلمة يقول لبلال: يا ابن السوداء فيتأثر بلال، ويذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشكو أبا ذر، ويستدعي النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر، فيقول -كما صحته- يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بلالا –رضي الله عنه- ويضع خده على التراب ويقول: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فتذرف عينا بلال -رضي الله عنه، ويقول: يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان. ذهب ما في القلوب، وانتهى ما بها.(/3)
يأتي [أبو سفيان] -رضيَ الله عنه- إلي مجلس [عمر] –رضيَ الله عنه وأرضاه- فيستأذن أبو سفيان –وهو سيد من سادات قريش، كان بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد ألوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم –رضى الله عنه وأرضاه- بعد إسلامه. ويأتي سهيل بن عمرو–وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي [بلال] الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام؛ فيؤذن له، ويأتي صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي [سلمان] الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟ كان من أبي سفيان -رضى الله عنه- أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: والله ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي، فقال سهيل -وكان لبيبًا عاقلا-: والله ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة، ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلي الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن لا نحبس على أبواب الجنة. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
إن العقيدة في قلوب رجالها *** من ذرة أقوى وألف مهند
* من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: (أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) هاهو –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من رواية [أنس]، لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ [سعد بن عبادة] إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وينقل المقالة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيجيبه: ما أنت؟ يعني أين ما موقفك، هل أنت منهم؟ فيقول: يا رسول الله ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون -ما يعرفون الخداع، وما يعرفون الالتواء، صرحاء أتقياء أنقياء-. فقال -صلى الله عليه وسلم-: اجمعهم لي، فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار؛ ما حديث بلغني عنكم، ألم آتكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون أنتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا." لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر *** فقد أخذنا عنكم خير البشر
صلى الله عليه وسلم، أرأيت كيف استلَّ -صلى الله عليه وسلم- ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لَمَ استلَّ ما في قلوبهم -رضوان الله عليهم جميعًا-.
ومن آثار الإيمان على الفرد الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً وأبناءً أو إخوانًا أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون. (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)
هاهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حققوا هذا الأثر، فظهر في تصرفاتهم، وظهر في كلماتهم ومقالاتهم. يقول [ابن عمر]: والله لو أنفقت أموالي كلها في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أنام، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة، وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي(/4)
* ومن آثار الإيمان أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطأ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده. لا غرو إذا رأينا مؤمنًا أعرابيًا مثل [ربعي بن عامر] حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام [رستم] في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به حتى إذا سأله رستم من أنتم وما الذي جاء بكم؟ قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان
أمَّة الصحراء يا شعب الخلود *** من سواكم حل أغلال الورى؟
أي داعي قبلكم في ذا الوجود *** صاح لا كسرى هنا لا قيصر؟
هاهو أخر قد آمن بالله حقًا، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يكلم هشام بن عبد الملك الخليفة كلامًا غليظًا جافيًا، فقال هشام له: وتتكلم أيضًا في مجلسي؟! فقال: يقول الله –جل وعلا-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) أفنجادل الله جدالا، ولا نكلمك يا هشام؟! فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشدًا، فقال ما شاء وانصرف راشدًا بعزة المؤمن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) إنها العزّة، أثر إيماني يظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحدًا، ليس هذا فحسب.
* ومن آثار الإيمان: سعة الرزق لأهل الإيمان والبركة فيه. (وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ )
ومن آثار الإيمان: صدق التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم خير حمدوا الله –جل وعلا- وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: (قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)
* ومن آثار الإيمان انشراح الصدر، وطمأنينة القلب (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ) هاهو أحد المؤمنين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، والله إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات يطرب بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم. تلذذوا بالإيمان، وذاقوا حلاوة الإيمان فانشرحت صدورهم. والآخر يقول: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
* ومن آثار الإيمان على الحياة بعمومها: نجاة سفينة الأمة، ووصولها لبر الأمان نتيجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو عماد من أعمدة الإيمان. فالحياة كلها سفينة تنخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل. المجتمع كالسفينة فيها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل، وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح، وذاك يحرف ويفتن، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح، يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه.
هاهو [عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله- في سكرات الموت يقول: مرحبًا بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ليلقى الله -عز وجل- على ذلك.
وأحدهم بلغت به سكرات الموت مبلغًا فيقولون له: قل: لا إله إلا الله، وهو من الصالحين، لا يزكى على الله، فكان يقول: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ليلقى الله على تلك الحال (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يشاء)(/5)
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله:" يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال يا ربي: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون". يومها يشيب الصغير وتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان يوم تعرض السجلات سجلا سِجلا، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويومًا يومًا لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. يوم ينادى المؤمن على رؤوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وتظهر أثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) فإلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
فيا بائع هذا ببخس معجل *** كأنك لا تدري بلي سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة والدنيا معًا فالطريق الإيمان. عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عامًا أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز (ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)
فحيَّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيَّم
وحيَّ على روضاتها وخيامها *** وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيمانًا نجد حلاوته. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.(/6)
الائمة الخمسة
* أبو حنيفة.. الإمام الأعظم
فاق أقرانه وانتهى إليه الفقه، وتقلد زعامة مدرسة الرأي من بعد شيخه حمّاد بن سليمان، والتفّ حوله الراغبون في الفقه، برز منهم تلامذة بررة، على رأسهم أبو يوسف، ومحمد، وزُفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي.
ولد بالكوفة سنة (80 هـ 699م) وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم، كان منصرفا إلى مهنة التجارة مع أبيه، فلما رآه عامر الشعبي الفقيه الكبير ولمح فيه رجاحة العقل، أوصاه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فاستجاب لرغبته وانصرف بهمته إلى حلقات الدرس، فروى الحديث ودرس اللغة والأدب، واتجه إلى دراسة علم الكلام حتى برع فيه براعة عظيمة مكّنته من مجادلة أصحاب الفرق المختلفة ومحاجّاتهم في بعض مسائل العقيدة، ثم انصرف إلى الفقه.
قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، وتذكر بعض الروايات أنه التقى ببعض الصحابة الذين عاشوا إلى نهاية المائة عام الأولى، وروى عنهم بعض الأحاديث النبوية
وبعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان آلت رياسة حلقة الفقه إلى أبي حنيفة، وهو في الأربعين من عمره، وكانت له طريقة مبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حلقته؛ فلم يكن يعمد هو إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحها على تلاميذه، ليدلي كل منهم برأيه، ويعضّد ما يقول بدليل، ثم يعقّب هو على رأيهم، ويصوّب ما يراه صائبا، حتى تُقتل القضية بحثا، ويجتمع أبو حنيفة وتلاميذه على رأي واحد يقررونه جميعا.
وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة.
ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويقلّبها على جميع وجوهها ثم يستنبط لها أحكاما، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وفرض المسائل، وهذا النوع من الفقه يقال إن أبا حنيفة هو أول من استحدثه، وقد أكثر منه لإكثاره استعمال القياس، روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع.
وبلغ من سمو منزلته في الفقه أن قال الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".
كما كان ورعا شديد الخوف من الله، وتمتلئ كتب التاريخ والتراجم بما يشهد له بذلك، ولعل من أبلغ ما قيل عنه ما وصفه به العالم الزاهد فضيل بن عياض: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورا عل تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان".
وتوفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).
لم يؤثر عن أبي حنيفة أنه كتب كتابا في الفقه يجمع آراءه وفتاواه، ولكن مذهبه بقي وانتشر ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة لفقهاء سبقوه أو عاصروه، وذلك بفضل تلاميذه الموهوبين الذين دونوا المذهب وحفظوا كثيرا من آراء إمامهم بأقواله وكان أشهر هؤلاء:
* أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى (183هـ = 799م) وهو يعدّ أول من دوّن الكتب في مذهب أبي حنيفة، ووصل إلينا من كتبه "الآثار"، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وساعده منصبه في القضاء على أن يمكّن لمذهب أبي حنيفة الذيوع والانتشار.
* محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ = 805م) وهو يعد صاحب الفضل الأكبر في تدوين المذهب، على الرغم من أنه لم يتتلمذ على شيخه أبي حنيفة إلا لفترة قصيرة، واستكمل دراسته على يد أبي يوسف، وأخذ عن الثوري والأوزاعي، ورحل إلى مالك في المدينة، وتلقى عنه فقه الحديث والرواية.
* وقد جمع أبو الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد المتوفى سنة (344هـ = 955م) كتب ظاهر الرواية بعد حذف المكرر منها في كتاب أطلق عليه "الكافي"، ثم قام بشرحه شمس الأئمة السرخسي المتوفى سنة (483هـ = 1090م) في كتابه "المبسوط"، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا، ويعد من أهم كتب الحنفية الناقلة لأقوال أئمة المذهب، بما يضمه من أصول المسائل وأدلتها وأوجه القياس فيها.
* الإمام مالك بن أنس
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة "، الترمذي، حسن صحيح. قال العلماء: وعالم المدينة هو مالك بن أنس وهو الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ولد عام 93 هجري و توفي عام 179 للهجرة. ولد في المدينة المنورة من أسرة أصلها من اليمن و كانت أسرته هذه أسرة علم، ولقد روى مالك الحديث عن أبيه وجده.(/1)
لزم عبد الرحمن بن هرمز و هو عالم من أجلِّ علماء المدينة، سبع سنين. ثم بدأ يأخذ عن نافع مولى عبد الله ابن عمر وكان من أحفظ علماء الحديث، كان حافظاَ وكان فقيهاَ، أخذ الفقه والحديث عن ابن عمر. ثم أخذ عن الزهري و تلقى عن شيخه الكبير ربيعه الذي كان يُلَقَّب " بربيعة الرأي " مع أنه كان من علماء أهل المدينة.
تفوَّقت مكانة مالك العلمية على كل أرباب الحلقات في المسجد النبوي وعرف له الجميع هذه المكانة. جلس للفتيا وكان عمره 25 سنة، وأصبح رأيه في أية قضية تُعرض أو فتواه فيها مقدَّماً على غيره مما جعل أصحاب الفتيا يتوقفون حتى قيل من غير حرج: لا يُفتى ومالك في المدينة! ...
اشتهر عن الإمام مالك كثرة ترداده لكلمة " لا أدري " وما كان عليه شيء أسهل من هذه الكلمة و لم يكن يشعر أن في هذا منقصة له بل كان إذا سُئِلَ عن مسألة قال للسائل أنظرني حتى أفكر، وربما يأتيه في الغد فيجيبه وربما يقول له أيضاَ أنظرني.
عاش مالك في الخلافة الأموية و العباسية في عصر تسوده الفتن وكان موقفه كموقف الحسن البصري وسعيد بن المسيب الذين كانا قبله و هو موقف استنكار الفتن والدعوة إلى الابتعاد عنها وكان إذا سُئِلَ عن تلك الفتن نصح بالابتعاد عنها وبعدم الولوج فيها.
وكان الإمام مالك ممن يغشى مجالس الخلفاء و لم يكن يبتعد عنها؛ للنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوصية بالخير وكانوا يستجيبون لنصيحته. ولما زار الرشيد المدينة وأراد لقاء مالك و كان قد سمع عن علمه الكثير، طلب أن يأتيه حيث نزل. فقال مالك لرسول الخليفة: قل له إنَّ طالب العلم يُسعى إليه والعلم لا يسعى إلى أحد! فجاءه الخليفة زائراً معتذراً.
أهم مؤلفاته:
* الموطأ:
طلب المنصور من مالك أن يضع كتاباً يتضمَّن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقضية الصحابة وفتاوى؛ ليكون قانوناً تطبِّقه الدولة في كل أقطارها وديارها. و ظلَّ الإمام مالك عاكفاً على عمله الضخم سنوات حتى كان تمام العمل في زمن هارون الرشيد الذي تقبَّله بقَبول حسن و تقدير عظيم وأراد أن يعلِّق الموطأ في الكعبة و لكن مالكاً أبى ذلك.
شاع مذهب الإمام مالك في المغرب كثيراً مع أن مالكاً لم يترك المدينة. و ذلك لأن المدينة كانت تستقطب أناساً وعلماء كثر أيام الحج وغيرها.
توفي في أوائل عام 179 هـ عن 87 سنة ودُفِنَ في البقيع.
* الإمام الشافعي
هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله. ولد في غزة "بفلسطين "، 150 هـ - 767 م، وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين. وزار بغداد مرتين، وقصد مصر سنة 199 هـ فتوفى بها، وقبره معروف في القاهرة.
قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات.
وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أوراق إلا وللشافعي في رقبته منّة. وكان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة. برع في ذلك أولاً، كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة.
رحلته إلى المدينة واتصاله بالإمام مالك:
لما أخذ الشافعي في دراسة الفقه على شيوخه بمكة وبرع فيه، سمع بشهرة موطأ مالك فاشتاق إلى طلبه، حتى حصل عليه، وجَدَّ في حفظه واستذكاره فزاده ذلك شوقاً إلى لقاء مالك بالمدينة، وقد كان الشافعي رقيق الحال إذ ذاك فانتظر الفرصة تحين له، فلما لاحت الفرصة وتيسرت أسباب الرحلة استكتب والي مكة كتابًا توصية له إلى والي المدينة، لييسر له لقاء الإمام مالك، فلما وصل الشافعي إلى المدينة توجه إلى واليها، وسلم له كتاب والي مكة، وطلب منه إحضار مالك إلى مجلسه، فتعاظم والى المدينة هذا الطلب، وأظهر له أن مالكًا لا يستطع أحد أن يطلبه إلى مجلسه، وأنه لابد من الذهاب إليه، وطلب مقابلته بالرفق والملاطفة، وقد ذهب والي المدينة ومعه الشافعي إلى دار مالك وطلب لقاءه، فخرج إليهما في ثياب الحشمة والوقار والهيبة والجلال. وقدم إليه والي المدينة الشافعي مظهرًا له الرغبة في أن يقبله كتلميذ له. وبعد مناقشة وأخذ ورد بينهم لمح الإمام مالك الذكاء في الشافعي فاتخذه تلميذًا له، واستضافه عنده، وظل يسمع منه الموطأ، ويتفقه عليه، وعلى إبراهيم بن أبي يحي وغيرهما من فقهاء المدينة، وظل على هذه الحال إلى أن توفي الإمام مالك سنة 179 هـ.
رحلته إلى اليمن:
بعد أن توفي الإمام مالك لم يطب المقام للشافعي بالمدينة، لفقده أستاذه، ومن كان يعطف عليه، وينزله في كنفه، وييسر له أسباب العيش، وصادف أن ذهب إلى المدينة في تلك الأثناء والي اليمن، فطلب منه بعض القرشيين استصحاب الشافعي إلى اليمن، لتولي بعض الأعمال هناك، وقد أنس والي اليمن بهذه الرغبة بعد أن وقف على مواهب الشافعي، وما هو عليه من العلم والفقه.(/2)
ولما ذهب الشافعي إلى اليمن استعمله الوالي في بعض أعماله، فقام بها خير قيام، ناظرًا في ذلك إلى المصلحة العامة والترفق بالناس، وتمتع بسمعة طيبة وذكر حسن. وتلقى الشافعي العلم باليمن على مطرف بن مازن وغيره. وقد كادت ولاية الأعمال أن تشغل الشافعي عن الانصراف بكليته إلى العلم، فنصح له بعض شيوخه بتركها.
رحلته الأولى إلى العراق وسببها:
لما ارتفع شأن الشافعي باليمن، وطار صيته فيها خشي حساده من ذهاب مجدهم وسلطانهم، وضعف مركزهم عند والي اليمن، فسعوا به إلى الرشيد، بواسطة أحد قواده المقيم باليمن، فأرسل القائد إلى الخليفة يخوفه من مؤامرة علوية تدبر ضد الخلافة وأسند زعامة هذه المؤامرة إلى الشافعي: "إن معهم رجلاً يقال له: محمد بن إدريس، يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه، فإن أردت أن تبقىِ الحجاز عليك فاحملهم إليك، فبعث الرشيد إلى اليمن من حمل الشافعي مع العلويين إلى العراق فقتلهم الرشيد جميعًا عدا الشافعي، فإنه نجا من القتل بعد مناقشة طويلة وحوار مع الرشيد. وكان ذلك بحضرة محمد بن الحسن. وقد كانت له به معرفة سابقة بالحجاز فشفع للشافعي عند الرشيد، فقبل شفاعته، وأقام الشافعي ببغداد يتلقى فيها العلم: عن وكيع بن الجراح، وحماد بن أسامة الهاشمي الكوفي، وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصري وغيرهم، وقد كان الشافعي في هذه الإقامة ضيفاً على محمد بن الحسن الذي أحسن ضيافته ويسر له سبل العيش، ومكنه من استظهار كتبه، ونسخ ما شاء منها، فازداد إلمامًا بآراء الحنفية، كما سبق له أن تشبع بالفقه المالكي، مما كان له أثر قوي في نضجه العلمي، وأخذ في التأليف والتدريس، فقد كانت آراؤه معتدلة متوسطة بين أهل الحديث وأهل الرأي.
وقد حاز الشافعي احترام الأفراد والعلماء، حتى وشى به بعض العلماء المقربين من الخليفة، فخرج من بغداد إلى مكة، وأقام بها مدة ينشر علمه على الحجاج.
وفي سنة خمس وتسعين ومائة: عاد إلى بغداد، وأقام فيها سنتين، يدرس فيها العلم، وعكف على الاستفادة منه الصغار والكبار من الأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وتمسكوا بطريقته كأبي ثور، وخلائق لا يحصون، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد للمرة الثالثة في سنة 198 هـ، وأقام بها شهرًا أو شهورًا ثم خرج إلى مصر.
كان من عادة الحجاج المصريين: أن يذهبوا إلى المدينة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغهم من أعمال الحج بمكة، وكانوا يسمعون كتاب الموطأ في المسجد النبوي،
.00وقد سمع الشافعي شيئًا عن مصر، وأهلها فحبب إليه الذهاب إليها ليقوم بنشر علمه فيها، فخرج إلى مصر مع واليها: العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله ابن عباس، فوصل إليها سنة تسع وتسعين ومائة، أو سنة مائتين، وقد مات الليث بن سعد ففرح به المصريون، ورحبوا به ترحيبًا عظيمًا واحتفوا بقدومه، وأنزلوه منزلاً كريمًا، لما عرفوه عنه من علم وفضل، فقد أخلف الله عليهم به ما فقدوا من علم الليث وفضله، وقد اختار الشافعي النزول على أهله من الأزد.
وقد قدم له عبد الله بن عبد الحكم - من كبار العلماء الأعيان بمصر- أربعة آلاف درهم: ألف منها من ماله، وثلاثة آلاف من تجار مصر وأعيانها، فشكر الشافعي له ذلك الصنيع.
صفاته:
وصف عبد الله بن عبد الحكم الإمام الشافعي غداة وصوله إلى مصر فقال: كان خاضبًا بالحناء، طويل القامة، جهوري الصوت، كلامه حجة في اللغة، عليه دلائل الشجاعة والفراسة، قليل لحم الوجه، مستطيل الخدين، طويل العنق، طويل عظم العضد والساعد والفخذ والساق.. وقد كان الشافعي راميًا مسددًا، فقد روى عنه أنه قال: وكانت نهمتي في شيئين: في الرمي، وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة. وفي رواية تسعة.
والظاهر: أن الرواية الثانية هي الأرجح، لأنه لو أراد معنى الرواية الأولى لكان يكفيه أن يقول: ما كنت أخطئ أبدًا.
وبلغ من شدة حبه للرمي: أنه إذا رأى من يجيده كافأه على ذلك. فقد قال المزني: كنت مع الشافعي، فمر بهدف، فإذا رجل يرمي بقوس عربية، فوقف عليه الشافعي، وكان حسن الرمي، فأصابت سهامه.
فقال الشافعي: أحسنت، وقال لي: ما معك؟ قلت: ثلاثة دنانير.
فقال: أعطه إياها. وقال للرامي: اعذرني إذ لم يحضرني غيرها.
وقد كان الشافعي قوي العارضة، قوي الحجة، واضح البرهان في مجادلته، فقد ناظر بالرقة محمد بن الحسن، فأفحمه، فبلغ ذلك هارون الرشيد، فقال: أما علم محمد بن الحسن إذا ناظر رجلاً من قريش أنه يفحمه: سائلاً أو مجيبًا، والنبي صلى الله عليه وسلم
يقول: " قدموا قريشاً ولا تقدموها، وتعلموا منها ولا تعلموها، فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض ".
قال عبد الملك بن محمد: إن الشافعي هو المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: " عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا ".
تلاميذه:(/3)
لم يترك الشافعي الإفادة، ونشر العلم بالتدريس، والإفتاء منذ أن رسخت قدمه فيه، فقد درس في المسجد النبوي، والمسجد الحرام، ومسجد عمرو بن العاص بالفسطاط، ومساجد العراق.
وقد تخرج عليه خلق كثير لا يحصى عددهم.
أشهرهم: أحمد بن خالد الخلال، والإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن محمد بن سعيد الصيرفي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد ابن الإمام الشافعي، وأبو ثور: إبراهيم بن خالد بن اليمان، وإسحاق بن راهويه، وإسماعيل بن يحي المزني المكنى بأبي إبراهيم، والحسن بن محمد بن الصباح البغدادي الزعفراني. والحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي، وحرملة بن يحي بن عبد الله التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبو بكر الحميدي، ويوسف بن يحى البويطي، ويونس بن عبد الأعلى، كما تخرج عليه كثير من النساء منهن - أخت المزني.
وقد صار كل واحد من هؤلاء التلاميذ علمًا من أعلام الهدى، ومنارًا يهتدي به إذا أشكلت الأمور، وقد ترك كل منهم آثارًا علمية هي ذخائر في الفقه والعلوم الشرعية.
مؤلفاته:
1- كتاب الحجة ، ألفه بالعراق، وإذا أطلق القديم من مذهبه يراد به هذا التصنيف.
2- ا لرسالة.
3- كتاب أحكام القرآن. واختلاف الحديث.
4- إبطال الاستحسان.
5- كتاب جماع العلم.
6- كتاب القياس.
7- المبسوط في الفقه، رواه عنه الربيع بن سليمان، والزعفراني.
8- كتاب اختلاف مالك والشافعي.
9- كتاب السبق والرمي.
10- كتاب فضائل قريش.
11- كتاب الرد على محمد بن الحسن.
12- كتاب الأم والإملاء الصغير.
كيفية تدريسه بجامع عمرو بن العاص:
كان يجلس بعد صلاة الصبح لتدريس علوم القرآن، فإذا طلعت الشمس انصرف طلاب علوم القرآن عنه، وجاءه طلاب علوم الحديث، فإذا ارتفعت الشمس انصرفوا عنه، وحضر المتناظرون بين يديه، ثم يجيء بعدهم أهل العربية والعروض والشعر والنحو، ولا يزالون معه إلى قرب منتصف النهار، ثم ينصرف من المسجد ومعه خواص تلاميذه، كمحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان الجيزي، والمزني. وكان الشافعي يمنح حرية التفكير لتلاميذه، ويقول لهم: إذا ذكرت لكم دليلاً أو برهاناً لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه، لأن العقل مضطر لقبول الحق.
وكان- رحمه الله - يميل إلى التخصص في العلم، ويرغب فيه الطلبة فيقول لهم:
ما ناظرت ذا فن واحد إلا غلبني، وما ناظرت ذا فنين أو أكثر إلا غلبته.
شعره:
كان للشافعي إلمام عظيم بعلوم اللغة والأدب وفنون الشعر، وكان ينظم الشعر في الحكم والمواعظ والزهد، وغير ذلك من فنون الشعر المباحة لأمثاله، وكان شعره يعد من الشعر الجيد، فمن ذلك قوله في الحكم:
إن الذي رزق اليسار ولم يصب *** حمدًا ولا أجرا لغير موفق
الجد يدنى كل أمر شاسع *** والجد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن مجدودا حوى *** عودا فأثمر في يديه فصدق
وإذ سمعت بأن محروما أتى *** ماء ليشربه فغاض فحقق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني *** بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجى حرم الغنى *** صنوان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
علته ووفاته:
خلف له المجهود داء البواسير الذي لم يستطع التطبب منه في أيامه، حتى قيل: إنه كان إذا ركب على الدابة ملأ الدم سراويله والسرج، وربما وصل إلى الخفين، وقد ازداد به المرض حتى ألزمه الفراش، وزاره تلميذه المزني فوجد أهله قد ثقبوا له السرير، ووضعوا تحته الطست ليجتمع الدم فيه؟ فسأله عن حاله، فقال: أصبحت والله لا أدري: أروحي تساق إلى الجنة، فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم رفع بصره إلى السماء وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
توفي- رحمه الله - في ليلة الجمعة الأخيرة من شهر رجب سنة 204 هـ - 820 م، بعد العشاء الأخيرة، بين يدي تلميذه الربيع الجيزي.
إمام الدنيا.. أحمد بن حنبل
عجباً لأمواتٍ تحيا بذكرهم النفوس، ولأحياءٍ تموت بمجالستهم القلوب! أبو عبدالله، أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن ادريس بن عبد اللّه الشيباني المروزي، إمام أهل السنة، خرجت أمَّه من مرو وهي حامل به، فولدته في بغداد سنة 164هـ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمّه.
كان يختلف في بداية أمره إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثُمَّ ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث، ثُمَّ رحل بعد ذلك لطلب العلم بالعراق وبلاد الشام والحجاز وانتهى باليمن، ولما عاد إلى بغداد حضر دروس الشافعي في الفقه وأصوله، وكان من أصحاب الشافعي وخواصه.
كان يقول بقدم القرآن، وهو مخالف لعقيدة المأمون فسير مكبلاً إلى المأمون وهو في طرطوس، فبلغهم نعي المأمون وهم في الطريق، فأعيد إلى بغداد. وأودع السجن، ثُمَّ أمر به المعتصم فضرب بين يديه، ولم يكّف عن إيذائه إلاّ في عهد المتوكل الذي قرّبه إلى البلاط ودعاه في مناسبات عدّة، وأجرى على أسرته معاشاً.
توفي في بغداد سنة 241هـ.(/4)
وقال عنه ابن خلكان: «كان إمام المحدثين، صنف كتابه المسند وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره».
له عدّة مؤلفات منها:
المسند، الناسخ والمنسوخ، والردّ على الزنادقة فيما ادّعت به من متشابه القرآن، والتفسير، وفضائل الصحابة، والمناسك، والزهد، وغيرها.
قال الإمام الشافعي، شيخ الإمام أحمد، المتوفى عام 204هـ: "خرجت من العراق، فما خلفتُ بالعراق رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أتقى من أحمد بن حنبل"!
وقال الإمام الحافظ العلم يحيى بن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل؛ لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد بن حنبل، ولا على طريقته".
وقال عنه الإمام ابنُ حبان، صاحب الصحيح : "كان حافظاً، متقناً، فقيهاً، ملازماً للورع الخفيّ، مواظباً على العبادة الدائمة، أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ثبت في المحنة، وبذل نفسه لله، فعصمه الله تعالى، وجعله علماً يُقتدى به، وملجأً يُلجأ إليه".
وقال عنه الإمام الحافظ الذهبي: "شيخ الإسلام، وسيد المسلمين في عصره، الحافظ الحجة، كان إماماً في الحديث وضروبه، إماماً في الفقه ودقائقه، إماماً في السنة وطرائقها، إماماً في الورع وغوامضه، إماماً في الزهد وحقائقه".
كان شديد التمسك بالسنة فعلاً وتركاً:
قال: ما كتبتُ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملتُ به. وقد احتجم، وأعطى الحجّام ديناراً (من الذهب)؛ لأنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً. واختفى عند إبراهيم بن هانئ أيام المحنة ثلاثة أيام، ثم أصر على الخروج إلى موضع آخر ليختبئ فيه، وقال: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام، ثم تحوّل، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام في الرخاء، ونتركه في الشدة!!
* ورع الإمام أحمد:
معنى الورع في الأصل: الكفّ عن المحارم، والبعد عن الشبهات. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام"!
عاش أحمد فقيراً، كثير العيال، ولم يكن له غلةٌ إلا ملكٌ ورثه عن أبيه أجرته في الشهر (17) درهماً، ينفقها على عياله، ويقنع بذلك صابراً، محتسباً. وربما اضطُر فنسخ بالأُجرة ومع ذلك كان لا يرضى أن يأخذ من مال السلطان.
ومن ورعه في الفقه أنه كان إذا صحّت لديه روايات متعددة عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لم يحاول الترجيح بينها، بل يثبتها كلَّها، وتُروى عنه، و كان يتورع أن يلتزم بقول أحدهم، ويكون الصواب مع غيره!
وبعث الخليفة المأمون مرة دنانير ذهباً تُقسم على أصحاب الحديث، فما بقي أحدٌ منهم إلا أخذ، ما عدا الإمام أحمد فأبى.
زهده رحمه الله:
أساس الزهد قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خيرٌ لمن اتقى) وعرّفه الإمام أحمد فقال: هو عدم الفرح بإقبال الدنيا، وعدم الحزن على إدبارها. وقد صنف في الزهد كتاباً عظيماً، أغلب الظن - كما قال الحافظ الإمام ابن كثير - أنه كان يأخذ بما أمكنه منه.
قال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط. وقال مرة لابنه صالح: إذا لم يكن عندي قطعةُ - يعني من المال - أفرح! وقال: ما أعدلُ الفقر شيئاً، وصدق - رحمه الله - إذ صبر على الفقر طول عمره.
وكان رحمه الله عفيفاً، لا يرضى أن يأخذ شيئاً من أحد على شدة حاجة: رهن نعله مرة عند خباز ليأكل، وأكرى نفسه (أي : اشتغل أجيراً) عند ناس من الجمالين، ونسخ بالأجرة، ونسج، وأبى أن يأخذ مالاً، لا قرضاً، ولا هدية، من شيخه الإمام عبد الرزاق .
توفي في بغداد سنة 241هـ.
وقال عنه ابن خلكان: «كان إمام المحدثين، صنف كتابه المسند وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره».
له عدّة مؤلفات منها:
المسند، الناسخ والمنسوخ، والردّ على الزنادقة فيما ادّعت به من متشابه القرآن، والتفسير، وفضائل الصحابة، والمناسك، والزهد، وغيرها.
(راجع: وفيات الأعيان، ج 1، ص 63ـ 64.
البداية والنهاية، ج 10، ص 353، 359.)
* الليث بن سعد
هو الإمام الليث بن سعد، الإمام الحافظ وعالم الديار المصرية، ولد بقرقشندة، وهي قرية في جنوب مصر، سنة أربع وتسعين للهجرة. فاق في علمه وفقهه إمام المدينة الإمام مالك، غير أن تلامذته لم يدونوا علمه وفقهه، وينشره في الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: الليث أفقهُ من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
تلقى الليثُ العلمَ على عدد من كبار علماء عصره، فسمع من عطاء بن أبي رباح، وابن شهاب الزهري وغيرهم كثير.
كان الليث رحمه الله فقيه مصر ومحدثها، وكان ولاة مصر وقضاتها يرجعون إلى رأيه ومشورته. فقد كان من الذين يُقدّمون النّصح للسلطان، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا أنكر من القاضي أمراً، أو من السلطان، كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل.
وقد أراده المنصور أن يلي قضاء مصر فامتنع.(/5)
وكان عربي اللسان، يُحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حَسَن المذاكرة.
وكان يقوم الليل إلا قليلاً، حتى إذا أقبل الفجر، خرج على فرسه إلى جامع عمرو، يحضر الحلقات، ويحفظ ويدرس، ويتحرّى من له حاجة من أصدقائه، ويفتي الناس.
وكان الليث من العلماء الأغنياء، فقد كان تاجراً كبيراً، وكان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما أوجب الله عليه زكاة درهم قط، لأنه كان ينفق المال كله قبل أن يَحُول عليه الحَوْل. وقد بنى له داراً كبيرة في الفسطاط لها نحو عشرين باباً. وجعل فيها حديقة مليئة بالأشجار والزهر والريحان، وملأ داره بما استطاع الوصول إليه من كتب.
وقد سمع الإمام مالك بما يصنعه الليث: من تمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة في الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتباً: «بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق (أي الثياب الرقيقة الفاخرة) وتمشي في الأسواق».
فكتب إليه الليث: قال الله تعالى: (قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32).
وكان بين الليث ومالك مراسلات علمية، يعرض كلّ منهما قواعد مذهبه ويُدافع عنها، ويردّ على صاحبه كل ذلك في أسلوب علمي رصين، وأدب رفيع، وخلق إسلامي فريد. وكان بينهما فوق ذلك هدايا متبادلة، كل منهما يرسل لصاحبه ما يتيسّر له، وقد أرسل مالك إلى الليث مرة طبقاً من تمر المدينة، فأعاد الليث الطبق نفسه وقد ملأه دنانير ذهبية عوضاً عن التمر.
وكان عند الليث ثياب بعدد أيام السنة، فما يلبس الثوب يومين متتاليين. وكان يُنفق من ماله على أهل العلم، وأصحابه، وجيرانه، ومن يعرف أنه صاحب حاجة. وكان يُطعم في كل يوم ثلاثمائة من الفقراء والمساكين. وعاش عمرَه يعطي السائل أكثر مما يسأل.
طلبت منه امرأة رطلاً من عسل لتعالج ابنها، في وقت شحَّ فيه العسل، فأمر كاتبه أن يُعطيها مرطاً من عسل (والمرط نحو مائة وعشرين رطلاً)، فقال كاتبه: «سألتْكَ رطلاً. أتعطيها مرطا؟» فقال الليث: «سألتنا على قدرها، ونحن نعطيها على قدرنا».
وكان يُعْنى بصحته أبلغ عناية حتى ليبدو أصغر من سنّه بأعوام. ذلك أنه كان يعطي بدنه حقه من الراحة.
توفي منتصف شهر شعبان سنة خمس وسبعين ومائة للهجرة.
(راجع: الأعلام 6 / 115. وفيات الأعيان 4 / 127. تاريخ بغداد 13 / 3. شذرات الذهب 1/ 285. البداية والنهاية 10 / 166. حسن المحاضرة 1 / 301. تذكرة الحفاظ 1 / 224. العبر1 / 266. المعارف ص / 505)(/6)
الابتداع في الدين
(الشبكة الإسلامية) د/سعيد عبد العظيم
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه. أما بعد فالبدعة عبارة عن التعدي في الأحكام والتهاون في السنن و اتباع الآراء و الأهواء و ترك الاتباع و الاقتداء، أو هي كما قال الشاطبي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه و تعالى.
النصوص الشرعية تذم البدعة
و قد وردت النصوص بذم البدعة والتحذير منها، فعن جابر- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب احمرت عيناه و علا صوته...الحديث، و فيه يقول: " أما بعد، فخير الحديث كتاب الله تعالى، و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، و شر الأمور محدثاتها و كل بدعة ضلالة..." (رواه مسلم). و في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " ...فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بستني و سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها و عضو عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة". (رواه أبو داوود و الترمذي و قال حسن صحيح). و عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (رواه البخاري و مسلم).
البدعة ضلالة تحبط العمل
فالابتداع في الدين ضلالة و هو من أعظم أسباب حبوط الأعمال، و يشمل ذلك المبتدع و متبع المبتدع، ففي الحديث: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". و صاحب البدعة ممن زُيِن له سوء عمله فرآه حسنا، و لذلك لا ترجى له توبة بخلاف العاصي، و في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة". (رواه المنذري و الطبراني و حسنه الألباني). و أخطر البدع ما يتعلق منها بالعقيدة كالتكفير بالكبيرة عند الخوارج و تأويل الأسماء و الصفات كقول بعضهم: ( استوى بمعنى استولى و النزول بمعنى نزول الأمر، و اليد بمعنى القدرة...) و القول بسقوط التكاليف و الحلول و الاتحاد و صرف العبادة للمقبورين عند البعض، و تقديم العقل على النقل عند آخرين، و القول بعصمة الأئمة و سب و تكفير الصحابة عند طائفة أخرى من المبتدعة. و المبتدعون يسمون بأهل البدع و أهل الأهواء.
شبهة وجواب
و إذا كان إيراد قول أو فعل لم يستن قائله أو فاعله فيه بصاحب الشريعة يعد بدعة و ضلالة، فقد اعترض البعض على إطلاق ذم البدعة، ووصف بعض البدع بالحسن، و احتج على ذلك بقول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبَي بن كعب في قيام رمضان:" نعمت البدعة هذه" و الرد على ذلك من وجوه منها: أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بالرجال و النساء لبضع ليالٍ و لكن خشية أن تفرض عليهم امتنع، فلما مات صلى الله عليه و سلم و انقطع الوحي خرج عمر رضي الله عنه، فرأى الرجل يصلي لنفسه و الرجل يصلي بصلاته الرجل و الرجل يصلي بصلاته الرهط فجمعهم على أُبَي بن كعب و قال مقالته هذه. و عمر أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم بالاقتداء بهم كما في الحديث: " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". و البدعة قد تُحمل على المعنى اللغوي و هي الشيء المحدث و المخترع على غير مثال سابق و تحتمل هنا المدح و الذم. قال تعالى: ( قل ما كنت بدعا من الرسل) (الأحقاف:9) أي ما كنت أول من أرسل و قد كان قبلي رسل. أما قول الله تعالى: ( و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) (الحديد: 27) فالمعنى: أحدثوها من تلقاء أنفسهم، يقول القرطبي: و ذلك أنهم(النصارى) حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع عن المطعم و المشرب و النكاح و التعلق بالكهوف و الصوامع، و ذلك أن ملوكهم غيروا و بدلوا و بقي نفر قليل فترهبوا و تبتلوا، و لا رهبانية في الإسلام، و إنما رهبانية الأمة في الجهاد في سبيل الله.
بين الإفراط والتفريط(/1)
وقع نفر من المسلمين في أمر البدعة في الإفراط فلم يفرقوا بين العبادات و المعاملات، فرأوا فريق أن يجمدوا على الوسائل التي ورثوها حتى ولو كانت من الأمور والوسائل الدنيوية البحتة التي لا علاقة لها بالعبادات ؛فتقدم الآخرون في أمور الدنيا وبقي هؤلاء عالة عليهم يتسولون منهم ما اخترعوه وصنعوه، وفرط آخرون فلم يفرقوا بين ما هو من أمور العبادات وما هو من أمور المعاملات فابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله بزعم التحضر و التقدم و حدث خلط كبير في المفاهيم و كان الواجب أن يصطلح كل فريق على حقه، فالعبادات الأصل فيها المنع و الحظر و التوقيف، أما المعاملات فالأصل فيها الإباحة إذا روعيت ضوابطها فلا مانع من صناعة الطائرة و ركوب السيارة و بناء المستشفى و الملجأ و المدرسة، و هذه الوسائل لما استخدمت له، و إن استخدمت في أمر صالح كانت صالحة و إن استخدمت في أمر فاسد كانت فاسدة، أما العبادات كالصلاة و بر الوالدين و الحجاب فهي تؤخذ بلا زيادة و لا نقصان سواء كنا في القرن الأول أو في القرن المائة، و من سمات هذه الدعوة المباركة التطور لا الرجوع للوراء، و يكون ذلك فيما يقبل التطور مع التمسك بالمعاني الإيمانية دون تغيير أو تبديل: ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي..) (يونس: 15) و لذلك قلنا: إن الابتداع في الدين مذموم و كله ضلالة، و يشمل ذلك البدع الحقيقية و الإضافية (و هي التي لها شائبتان، شائبة من الشرع و شائبة من غيره، كالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم عقب الأذان بصوت جهري، و الاحتفال برأس السنة الهجرية و الإسراء و المعراج) و قد أخطأ من قال: إن البدع الإضافية لا إنكار فيها، بل لابد من إنكارها لعموم النهي عن الابتداع في الدين.
السلف يحذرون من البدعة
قال مالك رحمه الله: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول: ( اليوم أكملت لكم دينكم) ( المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا، و قال الشافعي رحمه الله من استحسن فقد شرع، و قد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " كل بدعة ضلالة و إن رآها الناس حسنة" ، و قال بن مسعود: " اتبعوا و لا تبتدعوا فقد كفيتم، وعليكم بالأمر العتيق " و بالتالي فعلى كل من أراد أن يأتي بجديد في العقائد أو العبادات أن يسوق النص و الدليل إذ الفعل سنة و الترك أيضا سنة طالما وجد المقتضي و انتفى المانع و لم يفعل، كتركهم الأذان للعيدين و تركهم تلاوة القرآن على الموتى، و تركهم تلاوة القرآن بصوت جهري قبل العصر و الجمعة، فالترك هنا هو السنة إذ أنهم عن علم وقفوا و ببصر نافذ كفوا. قال الحسن: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل و حادوا عن الطريق فتركوا الآثار و قالوا في الدين برأيهم فضلوا و أضلوا، و قال أيضا: "السنة و الذي لا إله إلا هو بين الغالي و الجافي فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى و هم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم و لا مع أهل البدع في بدعهم و صبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم فكذلك إن شاء الله فكونوا". و قال: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما و لا صلاة و لا حجا و لا عمرة حتى يدعها"، و قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا". و قال: "لا تجالس صاحب بدعة ؛ فإنه يمرض قلبك". وقال حسان بن عطية: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة". ففي السنن كفاية و على من أراد أن يسن للناس سنة حسنة أن يدلهم على هدي نبيه صلى ا لله عليه و سلم و يظهر لهم الشرائع و الشعائر ويحيي السنن التي اندرست و انطمست لا أن يبتدع في دين الله ما ليس منه، لا معارضة بين إطلاق اللحية و تقصير الثوب و بين ركوب الطائرة كما لا معارضة بين جلباب المرأة و تطور الدنيا فنحن بحاجة لإقامة حضارة على منهاج النبوة و ملاحقة معاني التطور و التقدم مع التمسك بما جاء في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الانتهاء عن الابتداع في الدين، إذ أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ومن علامة البلاء أن يكون الرجل صاحب بدعة لا يرفع له عمل، و من أعانه فقد أعان على هدم الإسلام ومن زوج كريمته منه فقد قطع رحمها، و لا يصل العبد إلى الله إلا بموافقة حبيبه صلى الله عليه و سلم في شرائعه و من جعل الطريق إلى الوصول في غير الإقتداء يضل من حيث يظن أنه مهتدٍ، و كل الطرق مسدودة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم فاتبع طريق الهدى و لا يضرك قلة السالكين و إياك و طرق الضلالة و لا تغتر بكثرة الهالكين.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/2)
الابتسامة المبكية
الحمد لله ، دعى المحبين إلى بابه ، وأعد الجنة نزلا لأحبابه . أحمده سبحانه ، حمدا يليق بجنابه ، وينزِه جلالَه عن الند له أو المشابه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة أرجو بها أن أفوز بجنته ، وأن أنجو من عذابه ، فأتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم ، حين يكشف عن حجابه . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فضله على جميع خلقه ، فأنزل عليه الكتاب ، من آياته محكم ومتشابه ، وبلغه المنزلة العليا ، عند سدرة المنتهى ليلة أسرى به . وسطر كرامته في آيات سورة النجم ، آيات تتلى من كتابه . صلى الله عليه وعلى آله ، وأزواجه ، وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان فتمسك بهديهم ، وترسم خطاهم ، إلى أن يجرد من ثيابه ، وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وتمسكوا بهدي كتابه ، وعليكم بالسنة ، فهي الدليل على محبة الله ، ومن أحبه الله فهو آمن يوم القيامة من عقابه . أيها المسلمون : ابتسامة ، أبكت عيونَ المحبين ، وأشعلت لهيب الشوق في قلوبَ المشتاقين ، ومزقت ذكراها أكبادَ الذاكرين ، وشحذ سناها هممَ العاملين ، ونور بريقها طريق السالكين . ابتسامة ، فجرت ينابيع الدموع ، وأسجدت الجباه في تضرع وخضوع ، ورفعت الأيدي تسأل المولى في تذلل وخشوع ، تسأله أن لا تُحرم رؤية المبتسم ، وأن تجتمع به حين تحشر الجموع . ابتسامة من محبوب ، كلما ذكرها المحب حرقت فؤاده ، وقطعت نياط قلبه ، وتليف الكبد منها فلم يطق صبرا ، ولا عجب ، فهذا حال المحبين . من ابتسامة المحبوب تدمع العين ، ويتقرح الجفن ، وتشتعل نار الحزن في القلب ، ويتوقد الشوق عارما للقياه ، فتسأل روح المحب : كيف السبيل إلى أن ألقى الحبيب ؟ فيكون الجواب ، لا سبيل إلى ذلك إلا بالسير على نفس الخطى ، والثبات على المنهاج ، والعمل المستمر آناء الليل وأطراف النهار . أيها المحبون : جموع صحب الحبيب الكرام صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهم وأرضاهم ، يصفون خلف أبي بكر، رضي الله عنه ، فجرا في آخر يوم من حياة حبيبهم ونبيهم ، وقرة أعينهم ، وهم لا يعلمون أنها آخر العهد به ، صلى الله عليه وسلم . وبينا هم في صلاتهم خاشعون ، لم يفجأهم إلا وستر حجرة عائشة رضي الله عنها يكشف ، ويطل عليهم وجه البدر من وراء الستر ، نظر إليهم ، ثم تبسم وضحك ، كأن وجهه ورقة مصحف . أي شعور يا ترى قد أحس به أولئك الصفوة ، وهم يرون تلك الابتسامة ، تعلو محياه ، فهل تعجب إذا فتنوا ؟ هل تعجب إذ كادت قلوبهم أن تطير من أقفاصها لتعانقه ! وكادت أرواحهم أن تخرج لتفتدي ذلك المبسم ! نعم ، لقد هم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم ، فقد ظنوا أنه سيخرج إليهم ، سيؤمهم ، سيسمعون صوته الشجي ، وينظرون إلى وجهه البهي ، ونكص أبو بكر على عقبيه ، ليصل الصف ، وفرح الناس فرحا كادت تطير معه قلوبهم ، ولكنها كانت نظرة الوداع الأخيرة ، فما كان يستطيع أن يخرج إليهم ، أو أن يصلي بهم ، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم ، ودخل حجرته ، وأرخى الستر إلى الأبد ، فلن يخرج منه أبدا ، ولن يقول لهم استووا أبدا ، ولن يدرك وقت صلاة أخرى أبدا . كانت تلك النظرة ، نظرة الاطمئنان أن الصحب على المنهج سيسيرون ، وبما جاءهم به من الوحي سيستمسكون ، وخلف إمامهم سيصلون ، وصفا مرصوصا سيكونون . وجسدا واحدا ، وقلبا واحدا ، ويدا واحدة ، وعلى صراط مستقيم سيمضون ، ليكملوا الرسالة ، ويوصلوا الأمانة ، إلى الناس أجمعين ، ليعلموا أنه لا إله إلا الله العزيز الحكيم . كانت نظرة الوداع ، وابتسامة الاستبشار بأن المنهج باق ثابت ، وأن ما زرعه قد آتى ثماره ، وأن من بعده سيتبعون آثاره ، ويسيرون مساره . وبعد ،،، أيها المحب ، ألست تتمنى أن ترى وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو في المنام ؟ أليس من رآه مناما حاز من الشرف والفخر ما يحسده عليه من علم ؟ ألست حريصا على أن ترى ذلك المبسم ؟ ألست حريصا على أن تسمع ذلك الصوت الشجي ؟ أليس قد أحكم حبه الحصار على قلبك ؟ وكنت تذكر خلفاءه ، وأصحابه فتتحسر ، وتسأل الله أن يجمعك بهم في جنته . أما علمت أنك إن تحدثت عن تصديق أبي بكر ، فهو إحدى حسناته ؟ وإن تحدثت عن عدل عمر ، فهو من شيد لبناته ؟ وإن تعجبت من جود عثمان ، فهو جزء من أعطياته ؟ وإن أثار حماسك إقدام علي ، فإنما هو حربة من حرباته ؟ وإن سمعت ببأس حمزة ، أو غيرة سعد ، أو صبر بلال ، أو رقة عمار ، أو أمانة أبي عبيدة ، أو فقه معاذ ، وتلاوة سالم ، ومزمار أبي موسى ، وشجاعة أم عمارة ، وعلم عائشة ، وغير ذلك مما لا مجال لحصره ، ذلك كله ، ثمرة جهاده ، وأثر رحمة الله ، التي أنبتت على يديه قلوبا حية من غيث وحيه إليه ، فأحيا به الله الأرض بعد موتها ، وشق أخاديد القلوب فأنبتت من كل فن بهيج ، حضارة ، وعدلا ، وجهادا ، وتضحية ، عجزت أن تجاريها كل الحضارات ، ووقفت أمامها وقوف المقعد الحيران ، لا يستطيع مجاراة نهر الهدى الذي سلك طريقه إلى القلوب(/1)
، فارتوى منه من أراد الله له الهداية ، واكتفى البعض منهم فاغترف غرفة بيده ، وأعرض عنه أكثر الناس ، وأكثر الناس لا يعلمون . أيها المحب : إني بكلامي هذا لا أرمي إلى أن أشعل الشوق في قلبك لتلك الابتسامة ، ولصاحب تلك الابتسامة ، ولكني أريد أن تثمر هذه الكلمات شرارة تتوقد منها عاطفتك ، فتحفزك لتشمر كي تراه ، وما لرؤيته من سبيل إلا بالسير على نفس المنهج ، والاستمساك بالهدي النبوي ، في العبادات ، والمعاملات ، والثبات على الحق ، حتى يدركك الحق ، وأنت على ذلك . يقول صلى الله عليه وسلم : من أشد أمتي حبا لي ، ناس يكونون بعدي ، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله . أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه . ومجرد تمني الرؤية ، لا يحققها ، إذ إن المرء المحب يسعى لحبيبه بكل ما يقدر عليه من وسيلة ، وهكذا هنا ، فإن أردت أن تنال حظا من رؤيته وابتسامته ، صلى الله عليه وسلم ، لا بد من عمل صالح ، ذكر ، وتسبيح ، واستغفار ، وصلاة ، وصيام ، وحج ، وصدقة ، وبر ، وصلة ، وصبر ، وشكر ، ونية صالحة ، وعزم أكيد ، وصدق وسعي حثيث . لا بد لكي تنال حظك من تلك الابتسامة أن تجيب منادي الحبيب إذا ناداك حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وأن تواصل السير في طاعة مولاك ، على سنة نبيك بالمساء والصباح ، لا بد أن تترك الحقير ، لتنال العظيم ، وأن تؤثر الآخرة على الأولى ، وأن تعمل طويلا ، لتستريح طويلا : فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول وليكن بين ناظريك ، ونصب عينيك أن متاع الحياة الدنيا قليل ، وأن الآخرة خير لمن اتقى ، ولا يظلمون فتيلا . ولا يمكن لمحب أن يكون أهله أو ماله ، حجر عثرة في طريق الوصال ، أو أن يأذن لهم أن يقطعوا بينه وبين محبوبه الحبال . فاصبر نفسك في هذه الفانية لتكون من الفائزين في الآخرة ، ومن ظفر بما يؤمله نسي كل عناء أصابه في سبيله ، وهانت عنده كل نفقة أنفقها لنيله ، كما كان عمر رضي الله عنه يتمثل هذا البيت : كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه وقد قال الله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . فلا يتم لهم حقيقة الإيمان إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم ، فضلا عن أبنائهم وآبائهم وأزواجهم . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ، والناس أجمعين . متفق عليه . وقال له عمر رضي الله عنه يوما : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال : لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال : فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي . فقال : الآن يا عمر . وتصديق دعوى المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم هي اتباعه . وعدم الابتداع في دينه الذي بعثه الله به . وأن يقف المحب حيث أمر صلى الله عليه وسلم ، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله . وإذا قضى الله ورسوله أمرا لم يكن له الخيرة من أمره . كما قال جل وعلا : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم . فدعوى المحبة باطلة ، ما لم يثبتها الاتباع . معاشر المسلمين : إذا عدنا إلى ابتسامة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فإننا لم نرها ، ولن نراها إلا في الجنة ، ولن ندخل الجنة إلا بعمل ، يصدق تلك المحبة ، ويدل عليها . وإنما أشرت إلى ما أشرت إليه لأن أكثر الناس في وقتنا الحاضر يكثر من نقل كلام الساقطين ، وحركاتهم ، وتنقلاتهم ، وأخبارهم ، حتى غدوا قدوة للتائهين ، ومثلا للخائبين ، فحذوا حذوهم في ما ابتدعوه من حركات ، ولباس ، وقصات شعر ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير . وإنه لما عمر قلوبهم من حب أولئك ما عمرها ، ظهر أثر ذلك الحب في هيئاتهم ، واهتماماتهم ، حتى إن أحدهم لا يصبر على قراءة صفحة من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، بينا هو يمضي ساعات طويلة في قراءة أخبار الماجنين ، وغيرهم ، وانظر كم يقرأ أكثر الناس من صحف ومجلات ، وقارن ذلك بما يقرأه أحدهم مما أنزل على الحبيب من الآيات !!!! فعجب قولهم نحب النبي ، وهم عن أخباره غفلوا ! وعجبا قولهم نريد مرافقته في الجنة ، وشربة من حوضه ، ودخولا في شفاعته ، وهم بعيدون عن سنته ، كارهون لشريعته ، مبغضون لأتباعه ، محاربون لمن أظهر سنته ، وأحياها ، ونشرها ودعا إليها ، فهم عند القوم متخلفون ، أو رجعيون ، أو ظلاميون ، وفي آونة أخرى سموهم ( إسلامويون ) تهكما ، وظنوا أن التخلي عن السنة حُرية ، وأن نبذ الشريعة حضارة ، وأن التنكر للدين تقدم وازدهار . والصحيح أنهم يخشى أن يكونوا ممن وصف الله تعالى بقوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . وعلى الضد من هؤلاء ، من ظن أن الإسلام حربة وسيف ، وتدمير وقتال ، فلم يحفظ من تعاليم صاحب الرسالة إلا القتل ، والتعزير ، والحدود ، ونسي ، أو غفل ، أو جهل ،(/2)
أعظم درس نأخذه من هذه الابتسامة ، التي ودع بها الحبيب أمته ، وأصحابه ، ففي تلك الابتسامة إيحاء ، ورمز لاطمئنانه عليه الصلاة والسلام على أمته ، ما دامت خلف إمام واحد ، في صفوف منتظمة . تبسم بأبي هو وأمي حين رأى أمته تصلي الجماعة في المسجد ، متراصة ، متابعة للإمام ، لا تسبقه ، و لا تتخلف عنه ، بل تتبعه ، وبه تقتدي . فما دامت الأمة تصلي في المساجد ، فثق بخيريتها أيها المحب ، وتفاءل بمستقبلها ، ولتكن ابتسامة الحبيب علامة الاطمئنان على أن جذوة الحق لا تخبو ، طالما ارتفع صوت المؤذن يصدح عبر المآذن يردد : الله أكبر ، حبذا الترديد . فالعهد العهد ، تمسكا بما تبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم رضا عنه ، وسعادة به ، وسرورا من أجله ، فلا تغب عنه أبدا ، ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، فإنها من أهم الأسباب التي سوف تدخلك إلى الجنة ، وفيها ترى وجه الحبيب ، وابتسامة الحبيب ، وتسمع صوت الحبيب ، وتنال رضا الحبيب ، حبيب من البشر ، محمد بن عبدالله ، بأبي هو وأمي ، صلوات ربي وسلامه عليه ، وحبيب هو رب البشر ، حين يكشف الحجاب ، ويحل على أهل الجنة رضوانه ، فلا يسخط عليهم بعده أبدا . لا حرمني الله ولا إياكم ، ولا والدينا هاتين الرؤيتين ، وأحل علي وعليكم الرضوان ، مع من قال فيهم : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم . بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ... الخطبة الثانية : الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه . أحمده سبحانه ، حمدا يوصل الحامد له به إلى رضوانه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعظيما لشأنه ، ومنجية لي من عقوبته ونيرانه . وموجبة لي بحبوحة جنانه . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دعى من أراد النجاة أن يعمل لها ، بقلبه ، وجوارحه ولسانه ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وإخوانه ، وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ،،، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ في النار ، ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم ، وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم ، وقدموا عذركم ، واستعدوا للعرض الأكبر على الله ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . معاشر المسلمين : إن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها ، وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله ، فكما أحببت النبي صلى الله عليه وسلم بالمقال ، فلتشهد حالك صدق محبتك بالفعال . وليكن فخرك ، كل فخرك في دخولك في عبودية مولاك ، واتباع حبيبك صلى الله عليه وسلم ، كما قال القائل : شرف النفوس دخولها في رقهم والعبد يحوي الفخر بالتمليك ومحبة الله ، ورسوله ، قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون ، هي الحياة التي من فقدها فهو يمشي بين الأحياء وهو من جملة الأموات . من أحب الله ورسوله ، شفي قلبه من جميع الأسقام ، ومن فقد ذلك الحب ، امتلأت حياته بالهموم والآلام . بالمحبة ، تصل النفس إلى الجنة ، التي لا يصلها المرء إلا بشق الأنفس . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لثوبان رضي الله عنه حين سأله عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم . قال : المرء مع من أحب يوم القيامة . فيا لها من نعمة سابغة على المحبين . فحيهلا ، إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهمُ إذا ما دعا : لبيك ، ألفا كواملا وخذ منهم زادا إليهم ، وسر على طريق الهدى والفقر تصبح واصلا وأحي بذكراهم سراك ، إذا ونت ركابك ، فالذكرى تعيدك عاملا وإما تخافن الكلال ، فقل لها : أمامك ورد الوصل ، فابغ المناهلا وخذ قبسا من نورهم ، ثم سر به فنورهم يهديك ليس المشاعلا وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا فما هي إلا ساعة ، ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا هذه الأبيات لابن القيم رحمه الله تعالى ، وقال قدس الله روحه : إذا غرست شجرة المحبة في القلب ، وسقيت بماء الإخلاص ، ومتابعة الحبيب ، أثمرت أنواع الثمار ، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها ، أصلها ثابت في قرار القلب ، وفرعها متصل بسدرة المنتهى . اهـ هذا وصلوا على الحبيب ، إن الله وملائكته(/3)
الابتلاء سنّة الله في خلقه
( محاضرة ملقاة في مسجد دَبلِن بإيرلندا يوم السبت الواقع في غرّةِ ذي القعدة عام 1423 هـ الموافق للرابع من يناير ـ كانون الثاني ـ 2003 م )
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أمّا بعد فأيها الحضور الكريم !
أحمد الله تعالى الذي جمعنا معاً في هذا المجلس الطيب ، و أسأله تعالى أن يجعله مجلساً مباركاً ، لا تِرَةَ فيه و لا ندامة ، تتنزل على أهله السكينة ، و تحفهم الملائكة ، و تغشاهم الرحمة ، و يذكرهم الله تعالى فيمن عنده ، كما ثبت الوعد بذلك لقوم يجتمعون في بيت من بيوت الله ، يقرؤون كتاب الله ، و يتدارسونه فيما بينهم ، فيما رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة .
إخوتي و أحبّتي في الله !
{ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيْدُ - إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } .
فعليكم بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم وبال عصيانه و مخالفة أمره ، و أُذَكِّرُكُم و نفسي بأنّ حياتنا قائمةٌ على الابتلاء ، حيث قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] ، و قال سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأه عنها : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء .
و وَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله :
جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها ***صفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِها *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
هذه هي الدنيا الدنيّة ، لم يسلَم منها أحد ، و مع ذلك فلم يكف عن السعي في الاستزادة منها أحد ، و أسعد الناس فيها من قَنِع منها ببُلغة تبلغه غايته ، و لُقمةٍ يسد بها جوعته ، و ليبذل وسعه بعد ذلك في مقارعة البلاء و اللأواء ، في دار الابتلاءِ ؛ سنةِ اللهِ في خلقِه ، و قدره المحتوم الذي لا يتخلّف في عباده .
و حديثنا اليوم عن الابتلاء له من المبررات الشيئ الكثير ، فهو ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، و هو موضوع تمس إليه الحاجة في زمن غربة الدين التي تكاد تطبق على حياة المسلم من كل جهة و جانب ، الغربةِ التي لا يكاد يشعر بها من لم يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه دينه و أمته ، و لا من لم يتذوق حلاوة الإيمان في حياته الدنيا .
و للمسلم حلاوتان يذوقهما في حياته معاً ؛ حلاوة الإيمان المترتبة على حبه لله و لرسوله ، و حبه العباد في الله دون سواه ، و كراهيته الكفر بعد الإيمان كما يكره أن يُلقى في النار ، فمن ذاق حلاوة الإيمان المترتبة على هذه الخصال ، كان أهلاً لنيل حلاوة التضحية في سبيل الله ، و بذل الغالي و النفيس من النقير إلى القِطمير في سبيل ، فلا يلوي ذراعه بلاء ، و لا تلين له قناة أمام الشدائد و العناء .
أما من أعرض عن ذكر ربِّه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 124 ] .
نعم أيها الأحباب الكرام ..
مَن جانَبَ الهدى ، فمصيره إلى الردى ، و حياته ضنكٌ تعُجُّ بالبلاء ، و تصير به و بغيره إلى هلاكٍ و فناء .
و لكي نعطي موضوع حديثنا اليوم بعض حقه - و ليس بمقدورنا إيفاءه الحق كلّه في هذه العُجالة – نركز فيما يسعفنا به الوقت على المحاور التالية :
المحور الأول : تحرير معنى البلاء و الابتلاء في اللغة و الاصطلاح :
للبلاء في اللغة معان أشهرها ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله [ عند تفسير الآية الثانية بعد المائة من سوره الصافات في الجزء الخامس عشر من تفسيره ] .(/1)
أولاً : الإنعام ، و هو بذل النعمة للغير ، كما في قوله تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء و بلاء إذا أنعم عليه . و قد يقال بلاه ، كما قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي : صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده .
ثانياً : الاختبار و الامتحان بالخير أو الشر ، كما في قوله تعالى : ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] ، أي اختباراً و امتحاناً ، يُقال : بلاه يبلوه إذا اختبره ، و لا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه .
و البلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء ، فهما بمعنىً ، و هو المقصود فيما نحن بصدده .
قال ابن منظور [ في مادة بَلا من المجلد الرابع عشر من لسان العرب ] : ( و ابْتَلاه الله : امْتَحَنَه ، و الاسم البَلْوَى و البِلْوَةُ و البِلْيَةُ و البَلِيَّةُ و البَلاءُ ، و بُلِيَ بالشيء بَلاءً و ابْتُلِيَ ؛ و البَلاءُ يكون في الخير و الشَّر ، و الجمع : البَلايا .
و يقال : أَبْلاه الله يُبْلِيه إبْلاءً حسناً إذا صنع به صُنْعاً جميلاً.
و بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره .
و التَّبالي : الاختبار .
و البَلاء : الاختبار ... الخ .
و الذي يهمنا في موضوع بحثنا هذا هو المعنى المتبادر من الابتلاء عند ذكر ما يترض له المؤمن في حياته من سراء و ضراء ، و هو الاختبار و التمحيص المقرون – غالباً – بالشدائد و المحن ، و المصائب و الفتن .
المحور الثاني : من حِكَم الابتلاء :
لا شك في مدار الأقدار على حكمة الملك الجبار ، الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] و لا في أنّ الحكمة المقدرة في الخلق و التدبير قد تكون مما استأثر الله تعالى بعِلمه ، و قد تكون مما أخبر به في كتابه أو على لسان نبيّه ، و قد تكون مما وفّق من يشاء من عباده لمعرفته باستنباطه أو الاجتهاد في الوقوف عليه ، بإلهام أو دُربةٍ أو غير ذلك .
و من تأمل فيما عاناه ، أو ما وَقَعَت عليه – من معاناة غيره - عيناه من صور الابتلاء ، سيدرك و لا شك بعض الحكم الربانية في ذلك كله ، و من أَجَلّ تلك الحِكَم تمحيص المعبود لعباده { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 173 ] .
فقد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم و تنقيته من الدَغَل و الدَخَل و الدُخلاء ، و من صور الابتلاء للتمحيص ما قد تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك مما هو معروف مشاهد في كل زمان و مكان .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] .
و قد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد ، و جزاءً لهم بالسيئة على السيئة .
قال تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] و قال سبحانه : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] . و قال أيضاً : { وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ، أو وضعاً للآصار و تكفيراً للخطايا و السيئات .
فمما يكون لرفع درجات العباد ، و يراد لهم الخير به ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) . أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناتة على ما يكون من صبره و احتسابه .
و مما يكون لتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( ما من مصيبة ) أي : نازلة ، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر ( إلا كفر اللّه بها عنه) ذنوبه أي محي خطيئاته بمقابلتها ( حتى الشوكة ) قال القاضي : حتى إما ابتدائية فالجملة بعدها خبرها أو عاطفة ( يشاكها) أي : حتى الشوكة يشاك المسلم بتلك الشوكة أي يجرح بشوكة ، و الشوكة هنا المرة من شاكه ، و لو أراد واحدة النبات قال يشاك بها ، و الدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمصائب .اهـ.
و مما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) .(/2)
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه .
المحور الثالث : الابتلاء سنة عامة تتفاوت مراتب الناس فيه :
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه و مراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و ما ادعى أحدٌ إيماناً بالله و رسوله إلا كان نصيب من الابتلاء كما أخبر بذلك رب الأرض و السماء ، فقال تعالى : { أ لم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ - وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1-3 ] .
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تابعهم من الأولياء و الصالحين .
و لكن ؛ ما من نبي أوتي الكتاب و الحكمة إلا و هو معرض لأصناف البلاء حتى يبلغ رسالة الله إلى الناس ، فالأنبياء أكمل الناس إيماناً و أكثرهم بلاءً ، و ذلك لأن الابتلاء على قدر العطاء ، فقد قال ربنا تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } [ المائدة : 48 ] .
و لو تأملنا ما قصه الله تعالى علينا من معاناة الأنبياء لوجدنا ما يذيب الحديد ، و يشيب الوليد .
ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عجن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
و ابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم و صدهم عن سبيل الله و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .
و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 142 ] .
و يالها من أمانة ثقيلة و ابتلاء عظيم على من تصدر له فأناط بعنقه مسؤولية أمة أو طائفة من العباد .
و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] ، و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن ، و لا يخرج عن ذلك إلا صور معدودة جاءت مقرونة بالعز و التمكين كما في قصتي داود و سليمان عليهما و على نبينا الصلاة و السلام .
و من الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل .
فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .
و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .(/3)
ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة ، و بالفراعنة الأشداء من جهة أخرى ، فيهدد بالقتل ، و يخرج من بلدته خائفاً يترقب ، و الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، و تتوالى عليه الأيام ؛ و هي حبلى بالأحداث و صنوف البلاء بعد بعثته ، من ملاحقة فرعون و ملأه لموسى و من معه إلى اليمّ ، إلى ارتداد قومه و اتخاذهم العجل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها ، من صنف من صنوف الابتلاء .
و تُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب ، و تؤذى بسببه ، فيتسلط عليها اليهود و يتهمونها في عرضها ، و هي الصديقة الطاهرة المطهرة .
و يُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد ، حتى سماه المشركون أبتراً ، و هو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، و هو لا يزيد على أن يقول و عيناه تذرفان الدموع : ( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليجزع ، و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) و ( لا نقول إلا ما يرضي ربنا )
نعم أيها الأحباب الكرام ... هكذا يبتلي الله أولياءه ، و من أشدهم بلاءً نبيّه المختار ، و صحابته الأخيار رضوان الله عليهم ؛ جرياً على سنّة مضت و تمضي { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] و لا محيص لأحدٍ عن التمحيص ، و لذلك { ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
و عانى الصحابة مع نبيهم أشد أنواع الابتلاء ، فقُتِّلوا ، و شُرِّدوا ، و أخرجوا من ديارهم ، حتى قال رسول الله ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله ) [ رواه أبو نعيم في الحلية و رواه بنحوه الترمذي و حسّنه – و هو كما قال ، و ابن ماجة و أحمد ] .
و اختص الله تعالى المجاهدين و المرابطين في سبيله بأصناف البلاء ، و لم يذكر غيرهم على سبيل التخصيص رغم عموم سنة الابتلاء لعموم البشر .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31] .
و قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] .
و قال و هو أصدق القائلين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
و ليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، و لكنها سنّة مضت و تمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، و لا يعدُ الابتلاء أن يكون { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، كما دلّ عليه صدر سورة العنكبوت ، و قد تقدم .
و عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله و هو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه و عَظمِه ، فما يصده ذلك عن دينه .. و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء حتى حضر موت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ، و لكنكم تستعجلون ) [ رواه البخاري ] .
و هاهنا فائدة يحسن التنبيه إليها ، و هي متعلقة بمسألة الدعاء على الظالم سواء كان وليَ أمرٍ كافراً ، أو عدواً متسلّطاً ، أو غير ذلك ، حيث كثر عند من يجادل عن المنافقين ، و الحكام الظالمين التذرع بأن النبي ترك الدعاء لخباب و من معه رضي الله عنهم ، و لم يزد على أن أوصاهم بالصبر ، و وعدهم بالظفر و التمكين و لو بعد حين .
فيقال لهؤلاء : ليس في هذا الحديث ما يدل على أنّه لم يدع لخباب و من معه ، و لا النهي عن الدعاء لهم ، بل قد يكون مما فعله و لم يُروَ عنه لعدم وجود المناسبة أو المقتضي ، أو ممّا فعله عليه الصلاة و السلام لاحقاً .(/4)
و إذا سلّم جدلاً إعراضه عليه الصلاة و السلام عن الدعاء و الاستنصار لأصحابه في الحال المذكورة ، فتوجيهه على ما ذكره الحافظ [ في الفتح : 12 / 391 ، 392 ] حيث أورد قول ابن بطال رحمه الله : ( إنما لم يُجب النبي سؤال خباب و من معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] و قوله : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 43 ] لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليُؤجروا عليها ، كما جرت به عادة الله تعالى في من اتَّبَعَ الأنبياء فصبروا على الشدة في ذات الله ، ثم كانت لهم العافية بالنصر و جزيل الأجر ، فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة لأنهم لم يطَّلِّعوا على ما اطلع عليه النبي ) .
و مما تقدم في الآي و الأثر يتقرر أن الابتلاء سنة عامّة لا ينجو منه مؤمن قط ، و إن كان ما يصيب العباد من البلاء متفاوتاً بحسب قوة إيمان العبد و ضعفه فـ ( أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة ) [ كما أخرج النسائي ( في الكبرى ) و ابن ماجه و الترمذي و قال : ( هذا حديث حسن صحيح ) و ابن حبان و الحاكم ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، و بوّب عليه البخاري في صحيحه ] .
و قد يكون الابتلاء بالغير ، أو بالشر و الخير .
و من أصعب صور الابتلاء بالغير أن يبتلى المرء في أقرب الناس إليه ؛ و هم أهله و ولده .
قال تعالى : { وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] .
و قال تعالى : { وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ] .
و ما أكثر من نعرف ممن ابتُليَ بولد عاق أو مريض ، أو زوج نشاز أو ناشز تلطخ ما ابيض من صفحات زوجها بسوء أخلاقها أو أفعالها .
كما يكون الابتلاء بالخير تارةً و بالشر تارةً أخرى ، و قد يكون بهما معاً ، قال تعالى : { وَ بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } } [ الأعراف : 168 ] .
و قال سبحانه { وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، و على المؤمن أن يوطن نفسه على مقابلة الابتلاء في كلتي الحالتين على مرضاة الله التي في تحصيل سعادة الدارين ، و بذلك يحوز خير الخيرَين ، و أفضل الأمرين .
و روى مسلم عن صهيب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
أما من يُسَرُّ بالسرّاء ، و يستاء بالضراء فيسخط و يضجر و ينقلب على وجهه ، فهو على جرف هار يوشك أن ينهار به في نار جهنم و العياذ بالله .
قال تعالى : { و من الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين } [ الحج : 11 ] .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه في ذلك من كفارة خطاياه .اهـ .
و يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
فلينظر امرؤٌ أن يضع قدمه ، فإن الأرض مزلة مزلقة ، و الموفق من ثبته الله حتى يلقاه ، و ما من عبدٍ لله طوعاً أو كرهاً إلا و هو معرّضٌ لأن يُبتلى فيما آتاه الله من أوجه النعماء ، قال تعالى : = { ليبلوكم فيما آتاكم } [ المائدة : 48 ] ، فما أوتي أحد نعمة إلا كانت ابتلاء له و اختباراً لشكره أو صبره .
فالغني يبتلى بغناه و الفقير يبتلى بفقره .
و القوي يبتلى بقوته و الضعيف يبتلى بضعفه .
و العالم يبتلى بعلمه و الجاهل يبتلى بجهله .
و هكذا دواليك ...
كلنا مبتلى ، و إلى أقدارنا سائرون { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] .
المحور الرابع : عوامل الثبات عند المُلِمَّات :
إن من لطف الله تعالى ؛ و { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [ الشورى : 19 ] أن لا يبتليهم إلا بما يطيقون ، و أن يلطف بهم فيما ابتلاهم به ، فيعينهم و يثبتهم ، على ما يرضيه عنهم و يرتضيه لهم .
و في دينه الذي ارتضاه لعباده من العوامل المساعدة على ثبات العباد على ضراوة الفتن و البلاء الشيء الكثير ، الذي لا يستصحبه عبد في شدّة إلا خفف عنه ، و ربط على قلبه ، و من هذه العوامل :(/5)
أوّلاً : التعرف على الله في الرخاء :
من كان مع الله كان الله معه بلا ريب ، كيف و لا جزاء للإحسان إلا بالإحسان ، و من تقرّب إلى الله شبراً تقربّ إليه باعاً ، و من تقربّ إليه باعاً تقرّب إليه ذراعاً ، و من أتى ربّه ماشياً أتاه ربُّه هرولة ، كما ثبت ذلك فيما رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال النبي : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، و إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، و إن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
قال الإمام الترمذي بعد أن روى هذا الحديث في سننه : و يروى عَن الأَعْمَشِ في تفسيرِ هَذَا الحَدِيثِ ( من تقرَّبَ منِّي شِبراً تقرَّبتُ منهُ ذراعاً ) يعني : بالمغفرةِ و الرَّحمةِ ، و هكذا فسَّرَ بعضُ أهلِ العلمِ هَذَا الحَدِيثَ . قَالُوا : إنَّما معناهُ يقولُ : إذا تقرَّبَ إليَّ العبدُ بطَاعَتي و بما أَمَرْتُ تُسَارِعُ إليهِ مغفرتي و رَحْمَتِي .اهـ .
و روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : كنت رديف النبي فقال : ( يا غلام أو يا غُلَيم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ ) فقلت : بلى ، فقال : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، و إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ؛ فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و إن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و اعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، و أن النصر مع الصبر ، و أن الفَرَجَ مع الكرب ، و أن مع العُسر يُسراً ) .
و مما تقدم و نحوه يتبين لنا فضل الإقبال على الله في ساعات الرخاء ، و تتأكد ثمرة ذلك في ساعات الشدائد و البلاء ؛ حيث تتجلى مكافأة بالأولى ، و هو نصرة الله و تسديده و تثبيته لعبده حين يكون أحوج ما يكون إلى رحمة من يقول : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ] .
ثانياً : الإيمان بالقدر :
لا شيء يبعث على التسليم و الطمأنينة عند نزول القضاء مثل التسليم لله في قضائه و قدره ، و البعد عن التسخط و الضجر .
قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .
فلا يكمل إيمان عبد و لا يستقيم حتى يؤمن بالقدر خيره و شرّه ، و يعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر و يلطف ، و يبتلي و يخفف ، و من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 100 ] .
روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب . قال : ربِّ ! و ماذا أكتب ؟ قال : اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يا بُنَيَّ ! إني سمعت رسول الله يقول : ( من مات على غير هذا فليس مني ) .
و ثبت في المسند و عند الطبراني ( في الأوسط ) عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي ، قال : ( لكل شيء حقيقة ، و ما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث =[ في فيض القدير ] : ( إن لكل شيء حقيقة ) أي : كنهاً ( و ما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم ) علماً جازماً ( أن ) أي : بأن ( ما أصابه ) من المقادير ، أي : وصل إليه منها ( لم يكن ليُخطئه ) ؛ لأن ما قُدر عليه في الأزل لا بد أن يصيبه ، و لا يصيب غيره منه شيئاً ، ( و ما أخطأه ) منها ( لم يكن ليُصيبه ) ، و إن تعرَّضَ له ؛ لأنه بان أنه ليس مقدراً عليه ، و لا يُصيبه إلا ما قُدِّرَ عليه . و المراد : أن من تَلَبَّسَ بكمال الإيمان ، و وَلَجَ نورُه في قلبه حقيقةً ؛ عَلِمَ أنه قد فُرِغ مما أصابه أو أخطأه من خيرٍ و شرٍّ ، فما أصابَه فإِصابَتُهُ له مُتَحتِّمةٌ ، لا يُتَصوَّر أن يُخطئه ، و ما أخطأَهُ فسلامَتُهُ منه مُتَحتِّمةٌ ؛ لأنَّها سهامٌ صائبةٌ وُجِّهَت في الأَزَل ؛ فلا بد أن تقع مواقعها . اهـ .
ثالثاً : النظر إلى ما حلّ بالعبد على أنّه مصيبة و لكنها أهون من غيرها :
جاء في الحكمة : ( من نظر إلى مصاب غيره هانت عليه مصيبته ) .(/6)
و من ثمرات إعمال هذه الحكمة الإقرار بأن مصيبة الدنيا أهون من مصيبة الدين ، و قد علمنا رسول الله أن نقول في دعائنا : ( اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا ) رواه الترمذي في سننه ( و قال : هذا حديث حسن غريب ) و الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
و تحمُّل البلاء العاجل خوفاً مما يترتب على فتنة الدين من العذاب في الآجل ؛ هو اختيار الأنبياء ، و من اتبعهم بإحسان من الصالحين الأولياء ، فقد حكى الله تعالى عن نبيه يوسف عليه و على نبينا الصلاة و السلام قوله : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] ، فقد آثر السجن على ما فيه من الكرب و الضيق و اللأواء على ما كان ينتظره من نعيم الدنيا في كنف العزيز و فتنة النساء .
و لما كان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، صار اختيارَ من يدرك العواقب ، بما أوتي من بصيرة و نظر ثاقب ، كما أنّ اختيار أهون الشرين ، و أخف الضررين في أمور الدنيا هو مقتضى العقل و التشريع معاً .
و ما فتئ العقلاء يوازنون بين مصاب و مصاب فيجدون العزاء و السلوان في أنّهم كفوا أضعاف ما ألم بهم ، و هذا ما نلمحه من موقف أئمة السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و منهم عروة بن الزبير ، و هو أحد أئمة التابعين ، و من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة .
قال الحافظ ابن كثير [ في البداية و النهاية : 9 / 120 ، 121 ] : قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد ، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة ، و كان مبدؤها هناك ، فظن أنها لا يكون منها ما كان ، فذهب في وجهه ذلك فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه ، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك ، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها إلى وركه ، و ربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته . فطابَتْ نفسُه بنشرها . و قالوا له : ألا نَسقيك مُرَقِّداً حتى يذهب عقلك منه ؛ فلا تُحس بألم النشر ؟ فقال : لا ! و الله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يُذهِب عقله ، و لكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك و أنا في الصلاة ، فإني لا أحس بذلك ، و لا أشعر به . قال : فنشروا رجله من فوق الأكلة ، من المكان الحي ؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء ، و هو قائم يصلي ، فما تضوّرَ و لا اختلَج ، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله . فقال : اللهم لك الحمد ، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً ، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت ، و إن كنت قد أبليت فلطالما عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت و على ما عافيت . قال : و كان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد ، و كان أحبهم إليه ، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات ، فأتوه فعزَّوه فيه ، فقال : الحمد لله كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحداً و أبقيت ستةً ، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت ، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت . فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة . قال : فما سمعناه ذكر رجله و لا ولده ، و لا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى ، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [ الكهف : 62 ] ، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ، و يُعزُّونه في رجله و ولده ، فبلغه أن بعض الناس قال : إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه . فأنشد عروة في ذلك أبياتاً لمعن بن أوس يقول فيها :
لعمرك ما أهويت كفى لريبة *** و لا حملتني نحو فاحشة رجلي
و لا قادني سمعي و لا بصري لها *** و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي
و لست بماش ما حييت لمنكر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
و لا مؤثر نفسي على ذي قرابة *** و أوثر ضيفي ما أقام على أهلي
و أعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
فارض اللهم عن سلف ما انحطت لهم همة عن قمّة ، و اجعلنا من خيرة أتباعهم ، و اجمعنا بهم على ما يرضيك عنا ، بمنك و فضلك و رحمتك يا أرحم الراحمين .
رابعاً : احتساب الأجر عند الله تعالى :
إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، و لكن الناس أنفسهم يظلمون ، و من عدل الله تعالى في خلقه أن ينصف المظلوم و يكافئ المحروم .
فما من عبد يصاب فيحتسب إلا استحق البشارة بالأجر الجزيل و الخير العميم و لو بعد حين ، إنجازاً لما وعد الله به عباده في كتابه ، و على لسان نبيّه القائل : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، و قد تقدم شرحه .(/7)
كما تقدم معنا أن الابتلاء عام في نزوله على بني البشر ، و هو من سنن الله الكونية التي لا مفر منها ، و لا قبل لأحد نحوها إلا بالرضا و الصبر و التسليم ، الذي أُمرنا به و نُدبنا إليه ، كما في قول ربنا تعالى : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) [ آل عمران : 186 ] .
و إذا كان ( مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ) ؛ فلن تكون عاقبة الجلد الصبور إلا إلى خير الأمور .
قد روى ابن ماجة و الحاكم و الترمذي ( بإسناد قال عنه : حسن غريب ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( أن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه من خطيئة ) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
و ما أبلغ ما قال الرافعي : ( ما أشبه النكبة بالبيضة ، تُحسب سجناً لما فيها و هي تحوطه ، و تربيه و تعينه على تمامه ، و ليس عليه إلا الصبر إلى مدة ، و الرضا إلى غاية ، ثم تفقس البيضة ، فيخرج خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، و ما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته ) .
فطوبى للصابرين ، و العاقبة للمتقين .
المحور الخامس : خاتمة في موقف المسلم من الابتلاء :
يختلف المؤمن في موقفه من المقدور عن سائر البريّات ، فهو يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبة ، و هذا ما يحدوه لتسليم أمره ، و زمام قياده إلى ربّه الرؤوف الرحيم ، الذي وعد المؤمنين و المؤمنات بالتثبيت عند الشدائد و الملمّات .
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
و المؤمن باحتسابه الأجر فيما يلحقه من لأواء ، موعود بجزيل الأجر ، و عظم الجزاء ، و لذلك يتلقاه بتثبيت الله تعالى له ، راضياً مطمئناً ، و إن لم يكن يتمناه .
يقول مسروق الوادعي رحمه الله ( إن أهل البلاء في الدنيا إذا لبثوا على بلائهم في الآخرة إن أحدهم ليتمنى أن جلده كان قرض بالمقاريض ( [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و في مقابل المؤمن الثابت كالطود الشامخ أمام نوائب الدهر ، صنف آخر من البشر لا يلوح له البلاء إلا و تنهار قواه ، و يهتز كيانه ، و لا يلبث أن يسقط في ما يعترض سبيله من فتن ، و هذا شأن المنافقين ، و من قالوا آمنّا بألسنتهم و لم يدخل الإيمان في قلوبهم .
فهم كخُشبٍ مسنّدةٍ ، لا حياة فيها و لا إيمان يقويها .
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ *** إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء!
إنما المَيْتُ من يعيش كئيباً *** كاسِفاً بالَهُ قليلَ الرجاء !
وكأن هؤلاء لم يستمعوا إلى قوله تعالى : { وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] .
قال الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله مفسراً هذه الآية الكريمة : ( يعني أن من الناس من يقول : آمنا بلسانه فإذا أوذي في الله أي آذاه الكفار إيذائهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة ، و العياذ بالله ، كعذاب الله فإنَّه صارف رادع عن الكفر و المعاصي ، و معنى فتنةَ الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، و إيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ) [ أضواء البيان : 6/462 ] .
و لعلّ من المناسب في ختام هذا الكلمات التذكير بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb(/8)
الابتلاء طريق الأنبياء
يتناول الدرس وقفات حول قول الله عز وجل : [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[52] أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[53][ [سورة الطور] وتناول بعض النماذج من اتهام المصلحين والطعن فيهم في أمر دينهم من الأنبياء و السلف الصالح ومن نحا نحوهم .
هذه وقفات حول قول الله عز وجل : [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[52] أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[53]] سورة الطور, ففي هذه الآية أخبر تعالى: أن الأقوام الذين أرسل الله إليهم الرسل قد اتفقوا كلهم على اتهام المرسلين بالسحر، وهذا ما نلحظه حينما نتعرض لقصص الأنبياء,وما قاله سائر الأقوام المكذبين لأنبيائهم، فنجد أنها: كلمة واحدة، حتى كأنهم قد اتفقوا على هذا , وسيكون حديثنا في ذكر بعض النماذج من اتهام المصلحين والطعن فيهم في أمر دينهم.
إن قضية الإصلاح تستوجب صراعاً مع أهل الباطل؛ ذلك أن المصلحين يرون واقعاً لا يرضي الله فيسعون إلى تغييره، ومصالح أهل الباطل ستصطدم مع ما يدعو إليه المصلحون، فيسعى هؤلاء إلى تعويق إصلاحهم من خلال تشويه سيرتهم، ويعلم هؤلاء أن الدين هو القضية التي يدعو إليها هؤلاء، ومن ثم فالطعن في معتقدهم خير وسيلة لتنفير الناس من دعوتهم ... إنها صورة واحدة من صور الابتلاء التي يتعرض لها المؤمنون ... والابتلاء سنة ماضية لمن آمن بالله: ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3][ سورة العنكبوت.
من ثمرات دراسة هذا الموضوع:
أولاً: تسلية لمن يتصدى للدعوة إلى الله, فيصيبه ما يصيبه من الابتلاء، في دينه وشخصه ، فقد كان أنبياء الله يتهمون في دينهم وربما اتهموا في أعراضهم، فغيرهم من باب أولى.
ثانياً:حين يسمع الإنسان اتهاماً لأحد من المصلحين، سواء أكان ممن يعيش بين ظهرانيه، أو ممن مضى وسلف؛ فلن يتسرع في تصديق ذلك, وتلقيه.
نماذج من سير الأنبياء
موسى عليه السلام: لقد تعزى نبينا عليه الصلاة السلام بما أصابه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : ] فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ[ رواه البخاري ومسلم وأحمد . لقد جاء موسى عليه السلام ؛ ليخرج الناس من العبودية لفرعون إلى العبودية لله, فشعر فرعون أن في هذا تحطيماً لألوهيته, وسلطانه على الناس، فلم يجد مبرراً أمام الناس إلا أن يتهم موسى في دينه، كما قال تعالى: ]وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ[26][ سورة غافر ,وحين صار ما صار من المناظرة بين موسى والسحرة, أدرك السحرة الحق فآمنوا بالله , حينها اتهمهم بعدم الصدق في إيمانهم، وأن هذا الإيمان جزء من مؤامرة يُستهدف فيها فرعون:]قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ[123][ سورة الأعراف ,واتهم موسى بأنه ساحر، وأنه هو الذي علم السحرة السحر:]قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71][ سورة طه .(/1)
ويحذر الله عباده المؤمنين مما فعله بنو اسرائيل مع موسى عليه السلام:]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[69][ سورة الأحزاب , وقد بين النبي r ما آذى به بنو إسرائيل موسى, فقال: [إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا[69][ سورة الأحزاب, ] رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي.محمد صلى الله عليه وسلم : اتهم صلى الله عليه وسلم في إخلاصه ودينه؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: [ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ]رواه البخاري ومسلم وأحمد .
مريم رضي الله عنها : اتهمت في عرضها؛إذ قذفها اليهود بالزنا حين نفخ الله فيها من روحه:] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا[27] [سورة مريم , فأنطقه الله :] قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا[30] [ سورة مريم , ومع هذه المعجزة لايزال أولئك يصرون على هذه الجريمة.
مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
عائشة رضي الله عنها: قذفت عائشة رضي الله عنها بما قذفت به مريم، ويسير المنافقون وراء اليهود, فيشيعون الفرية ضدها، فتسمع ما تتهم به، فتبقى حبيسة الألم شهراً, والاتهام لها لم يكن اتهاماً لعائشة وحدها بل كان اتهاماً قبل ذلك كله للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ وطعناً في فراشه, وفي أحب الناس إليه.(/2)
عثمان بن عفان رضي الله عنه: عن عُثْمَانُ بن مَوْهَبٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ, فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا, فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ؟ فَقَالُوا : هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ قَالَ: فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ قَالُوا : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ : نَعَمْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ] وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : [ هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ _ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ _ فَقَالَ : هَذِهِ لِعُثْمَانَ ] فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ .رواه البخاري, والترمذي,و أحمد. وعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر, فسأله عن عثمان، فذكر من محاسن عمله، قال: فلعل ذلك يسوءك؟ قال: نعم، قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله, قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ ثم قال: لعل ذلك يسوءك؟ قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد علي جهدك' .نعم إن هؤلاء يسوءهم أن تذاع مناقب أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ ، ولهذا كبّر هذا الرجل حين أقر له ابن عمر رضي الله عنه بتلك التهم التي اتهم بها عثمان في دينه، وساءه حين برأه منها, وذكر محاسنه.
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ممن اتهم في دينه, وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر، فقالوا: إنه لايحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا، فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ صلاتي العشي لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فقال عمر: ذاك الظن بك ياأبا إسحاق. فبعث عمر رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لايأتون مسجداً من مساجد الكوفة إلا قالوا خيراً، حتى أتوا مسجداً لبني عبس، فقال رجل: أما إذ نشدتمونا بالله _ انظر إلى منطق هؤلاء مع أنه نُشِد بالله, وتعينت عليه كلمة الحق إلا أنهم كما أخبر تعالى: ] وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204][ سورة البقرة ـ فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، فقال سعد: اللهم إن كان كاذباً، فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، قال عبدالملك : فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد . وعن قبيصة بن جابر قال: قال ابن عم لنا يوم القادسية:
ألم تر أن الله أنزل نصره سعد بباب القادسية معصم
وقد أيمت نساء كثيرة ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبلغ سعداً قوله، فقال: عيى لسانه ويده، فجاءت نشابة, فأصابت فاه, فخرس، ثم قطعت يده في القتال، فقال -أي سعد-: احملوني على باب، فخرج به محمولاً، ثم كشف عن ظهره وفيه قروح فأخبر الناس بعذره فعذروه، وكان سعد لا يجبن، وفي رواية يقاتل حتى ينزل الله نصره، وقال: وقطعت يده وقتل.
مع سائر السلف
ونتجاوز ما قيل عن أصحاب الرسول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ وهو كثير إلى ما قيل عن الأئمة بعدهم, و منهم:(/3)
الإمام البخاري: صاحب الصحيح, يتهم في عقيدته ودينه؛ فقد اتهم بأنه يقول: بخلق القرآن في مسألة اللفظ المشهورة, فاتهمه محمد بن يحيى, فقال: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية.وحين قدم بخارى استقبله الناس، فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل _ يعني : البخاري _ قد أظهر خلاف السنة، فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لانفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد, فأخرج رحمه الله . وروى الحاكم عن محمد بن العباس الضبي قال: سمعت أبابكر بن أبي عمرو الحافظ البخاري يقول:كان سبب منافرة أبي عبدالله أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير, خليفة الطاهرية ببخارى سأله أن يحضر منزله, فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده, فراسله بأن يعقد مجلساً لأولاده، لايحضره غيرهم، فامتنع وقال: لاأخص أحداً، فاستعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت إلا شهر, حتى ورد أمر الطاهرية، بأن ينادى على خالد في البلد، فنودي عليه على أتان، وأما حريث فإنه ابتلي بأهله، فرأى فيهم مايجل عن الوصف، وأما فلان, فابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا. وبقي الإمام البخاري بعد ذلك إماماً عالماًَ يترحم الناس عليه.
الإمام الشافعي: المجدد, اتهم بالتشيع لذا قال هذه الأبيات المشهورة التي حكاها عنه الربيع بن سليمان، قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً، ولاهبط وادياً، إلا وهو يبكي وينشد:-
ياراكبا قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
قال الذهبي: لو كان شيعياً _ وحاشاه من ذلك _ لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة، بدأ بالصديق، وختم بعمر بن عبدالعزيز. وقال أحمد عن ذلك: اعلموا رحمكم الله أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحرمه قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم. ولما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، فلما رأوه يخالف مالكاً، وينقض عليه جفوه وتنكروا له، حتى حدث أبو عبدالله بن منده قال: حدثت عن الربيع أنه قال: رأيت أشهب بن عبدالعزيز ساجداً يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي لايذهب علم مالك، فبلغ الشافعي فأنشأ يقول:-
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ولهذا كان الشافعي يقول:رضى الناس غاية لاتدرك، وليس إلى السلامة منهم سبيل.
الإمام أحمد بن حنبل : ومحنته مشهورة، ابتلي واتهم بأنه: قد ابتدع في دين الله ما ليس فيه، وضرب وأوذي، وكانت تهمته في دينه, وأنه يفتري ,ويبتدع ويتجرأ على الله وقضيته مشهورة نتجاوزها.
ابن أبي عاصم : وممن اتهم في دينه الإمام : ابن أبي عاصم رحمه الله، قال عنه الذهبي: حافظ كبير، إمام بارع، متبع للآثار، كثير التصانيف . اتهم بالنصب، وأرسل له ليلى الديلمي غلاماً له ومخلاة وسيفاً، وأمره أن يأتيه برأسه فأتاه وهو في مسجده يحدث، فقال: إن الأمير قد أمرني أن آتي برأسك، فوضع الكتاب الذي كان يقرأ فيه على رأسه, ثم أتاه آت, فقال: إن الأمير ينهاك عن ذلك.... والشاهد أن الإمام ابن أبي عاصم, إمام من أئمة أهل السنة, و يتهم بأنه ناصبي يبغض آل البيت.
بقي بن مخلد : قال عنه الذهبي: الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبدالرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ صاحب التفسير والمسند اللذين لانظير لهما . وكان إماماً مجتهداً صالحاً، ربانياً صادقاً مخلصاً، رأساً في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولايقلد أحداً، قدم إلى الأندلس, فأحيا فيها مذهب أهل الحديث، فشرق به أولئك. قال ابن حزم: وكان حمد بن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس محباً للعلوم عارفاً، فلما دخل بقي الأندلس بمصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وقريء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي مافيه من الخلاف واستبشعوه، ونشطوا العامة عليه، ومنعوا من قراءته، فاستحضره صاحب الأندلس محمد وإياهم، وتصفح الكتاب كله جزءاً جزءاً، حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن الكتب: هذا كتاب لاتستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، ثم قال لبقي: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له.(/4)
ابن قتيبة : اتهمه سبط ابن الجوزي بأنه يميل إلى التشبيه، وأن كلامه يدل عليه، وأنه يرى رأي الكرامية.... قال عنه شيخ الإسلام:'ابن قتيبة من أهل السنة... وهو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة . قال فيه صاحب التحديث بمناقب أهل الحديث: هو أحد أعلام الأئمة والعلماء الفضلاء، أجودهم تصنيفاً وأحسنهم ترصيفاً... وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه، قلت -أي شيخ الإسلام-: ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة' . هذه هي حال ابن قتيبة كما حكى شيخ الإسلام ومع ذلك يتهمه سبط ابن الجوزي في عقيدته بالتشبيه, وبأنه يرى رأي الكرامية.
محمد بن الفضل : قال السلمي في محن الصوفية: لما تكلم محمد بن الفضل ببلخ في فهم القرآن وأحوال الأئمة، أنكر عليه فقهاء بلخ، وقالوا: مبتدع، وإنما ذاك بسبب اعتقاده مذهب أهل الحديث.
الإمام البربهاري : قال أبو الحسين الفراء: كان للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين، وكان المخالفون يغلظون قلب السلطان عليه، ففي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة: أرادوا حبسه فاختفى، وأخذ كبار أصحابه، وحملوا إلى البصرة، فعاقب الله الوزير ابن مقلة، وأعاد الله البربهاري إلى حشمته وزادت، وكثر أصحابه، فبلغنا أنه اجتاز الجانب الغربي، فعطس فشمته أصحابه، فارتفعت ضجتهم، حتى سمعها الخليفة، فأخبر بالحال فاستهولها، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلب الراضي حتى نودي في بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري؛ فاختفى وتوفي مستتراً في رجب سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة.
أبو عثمان المغربي : قال عنه الذهبي :الإمام القدوة شيخ الصوفية أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي القيرواني نزيل نيسابور. قال السلمي: كان أوحد المشايخ في طريقته، لم نر مثله في علو الحال وصون الوقت، امتحن بسبب زور نسب إليه، حتى ضرب وشهر على جمل ففارق الحرم .
الخطيب البغدادي : قال محمد بن طاهر: حدثنا مكي بن عبدالسلام الرميلي، قال: كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلى صور: أنه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلم الناس في ذلك، وكان أمير البلاد رافضياً متعصباً، فبلغته القصة، فجعل ذلك سبباً إلى الفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل فيقتله، وكان صاحب الشرطة سنياً، فقصده تلك الليلة في جماعة ولم يمكنه أن يخالف الأمير، فأخذه وقال: قد أمرت فيك بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة إلا أني أعبر بك عند دار الشريف ابن أبي الحسن، فإذا حاذيت الدار اقفز وادخل فإني لا أطلبك، وأرجع إلى الأمير فأخبره بالقصة، ففعل ذلك، ودخل دار الشريف ابن أبي الحسن، فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال: أيها الأمير، أنت تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، وليس في قتله مصلحة، هذا مشهور بالعراق، إن قتلته قتل به جماعة من الشيعة وخربت المشاهد، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن ينزح من بلدك، فأمر بإخراجه، فراح إلى صور وبقي فيها مدة . وقال أبو القاسم بن عساكر: سعى بالخطيب حسين بن علي الدمنشي إلى أمير الجيوش، فقال: هو ناصبي يروي فضائل الصحابة وفضائل العباس في الجامع.... وليست هذه التهمة نهاية ما تعرض له الخطيب من التهم, فمن عجائب ذلك : ما اتهمه به النخشبي, فقال في معجم شيوخه: ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب... حافظ فهم, ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيت أبابكر الخطيب سكران! فقلت له قد لقيته متغيراً واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران.
قال ابن السمعاني: ولم يذكر من الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه.
الشاطبي : يقول عن نفسه مصوراً ما اتهم به:' فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه؛ كما يعزي إلى بعض الناس؛ بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة, وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء -وذلك أن هذه البدعة قد انتشرت عند الناس كانوا يلتزمون أن يدعو الناس بعد الصلاة بصوت عالٍ فأنكر الإمام الشاطبي هذه البدعة لأنها لم تكن واردة عن سلف الأمة, فاتهموه بأنه يرى أن الدعاء لا ينفع- ثم قال :وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة -رضي الله عنهم - بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولاذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وتارة أضيف إليّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلىًّ إلا من عدم ذكرهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم '.ثم ذكر جوانب أخرى اتهم فيها رحمه الله.(/5)
ابن الجوزي : قال الذهبي:' وقد نالته محنة في أواخر عمره، وشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته'.
شيخ الإسلام ابن تيمية : فقد امتحن في عقيدته, فاتهم بأنه ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين حين أفتى بتحريم شد الرحال إلى زيارة القبور وأصابه في ذلك ما أصابه, واتهم أيضاً -حين أفتى في مسألة الطلاق- بخروجه عن إجماع الأئمة الأربعة وشذوذه، واتهم في عقيدته حين صنف العقيدة الواسطية, وعقدوا له مجالس للمناظرة حكى أجزاء منها وهي موجودة في كتابه: مجموع الفتاوى.
محمد بن عبد الوهاب : اتهم بتهم كثيرة، منها : أنه ينطبق عليه حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ:] اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ [ رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد والترمذي , قالوا : أن المقصود: 'نجد' التي خرج فيها محمد بن عبد الوهاب, مع أن المقصود بـ' نجد' هذه :' نجد بلاد العراق' حيث أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق، وقال حيث يطلع قرن الشيطان, وذلك أن العراق في جهة المشرق, وفعلاً منها الفتن والزلازل, فالكثير من الفتن التي مرت بالأمة إنما جاءت من هناك . واتهم ببغض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ينهى عن الصلاة عليه، واتهم بأنه صاحب مذهب خامس.
والخلاصة : أن هذه صور من صور الابتلاء التي يتعرض لها المصلحون, وذلك لأسباب وعوامل منها:
1-أن هؤلاء المصلحين لابد أن يأتوا الناس بأمر لم يعهدوه، فيصعب على الناس أن يتركوا ما ألفوه ؛ فيلجأون إلى اتهامه في دينه ليبرروا موقفهم....
2-قد يدفع لذلك الحسد حين يكتب للمصلح شهرة حسنة وقبول لدى الناس، وأكثر ما يقع ذلك من الأقران، وكما قيل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
وحينئذ يتلقف الشبهة والاتهام من كان في قلبه هوى، ويحمل الاستعداد من الداخل لأن يسئ الظن بإخوانه المسلمين .... أما الذين تربوا بتربية القرآن, فيحكمهم قول الله:] لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[12] [سورة النور,وقوله: ] وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ[16] [سورة النور .
ومما يلحظ في هذه المواقف: أن هؤلاء المبطلين لا بد أن يلبسوا باطلهم لباساً يقبله الناس؛ لهذا فهم يخرجون القضية إخراجاً مقبولا.
والمقصود : أن سنة الله : أن يكون الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، و أن يبتلي المصلحون؛ ولهذا فينبغي للمسلم أن لا يستجيب لما يسمع خاصة عن أهل العلم والمصلحين .... وأسأل الله عز وجل أن يقيض لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ناصراً ومعينا؛ وصلى الله على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
الابتلاء طريق الأنبياء للد(/6)
الابتلاء وطريق السلامة(*)
أ.د. ناصر العمر
الدنيا دار بلاء، فالناس كل الناس مبتلون فيها بالضراء أو السراء، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" [محمد:31]، "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" [الأنبياء:35]، "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف:7]، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة:155]، وقال عن السابقين: "وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [لأعراف:168]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكلما نظر صاحب المصيبة إلى حال غيره من المصابين هان عليه ما هو فيه، ورأى لطف الله - تعالى- به. ومن الحكمة المنقولة ما يروى من أن الإسكندر بن فيلبس المعروف بالمقدوني لما حضرته الوفاة بعث لأمه رسالة يقول فيها: إذا بلغك نبأ وفاتي فأقيمي مأدبة، وادعي كل الناس إلاّ من أصابته مصيبة، ففعلت، فلم يحضر أحد، فعلمت أنه أراد أن يعزيها، فإن المصائب إذا علم بأن جنسها يطرق الناس كل الناس، لم يبغت العاقل ثابت الجنان راجح اللب بها، ووجد في الأُسى عزاء للأسى، وأجاد من قال:
ألم تر رزء الدهر من قبل كونه = كفاحاً إذا فكرت في الخلواتِ
فما لك كالمرمِيِّ في مأمنٍ له = بنبلٍ أتته غير مرتقباتِ
فإن قلتَ مكروهٌ أتاني فُجَاءةً = فما فُوجئتْ نفْسٌ مع الخَطرات
ولاعوفصت(1)نفسٌ لبلوى وقد رأت = عظات من الأيام بعد عِظات
إذا بغتت أشياءُ قد كان مثُلها = قديماً فلا تَعْتَدَّها بغتات
والمؤمن أولى الناس بذلك فإنه مهما كان المصاب فهو على غنم، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم (2)، بل مع الصبر على الضراء تراه يحمد الله أن جعل مصيبته في دنياه لا في دينه، بل ترى بعضهم يشهد في ذلك المقام المنة، فيعلم أنه وإن أعسر شهراً فقد أيسر دهراً، وإن مارس الشدة أياماً، فقد لابس النعمة أعواماً، على ثقة من أن ساعة الضراء تزول، كما أن مدة السراء قد تحول، وكما لم تثبت نوبة المنحة، فلن تلبث نوبة المحنة، فما أعظم طمأنينة قلب من كان هذه حاله، وهنيئاً له الفوز بالدرجات العلى يوم القيامة.
ويعقوب عليه السلام طراز فريد من أولئك، وقد جمع بين الصبر الجميل وبين التعلق بالله القدير، ففر إلى من بيده مفاتيح الفرج سبحانه، لعلمه بأن من آوى إليه كفاه، فالفزع إلى الله -تعالى- عند نزول المصائب يربط على القلب، ويقرِّب من الرب، ويخفف من وطأة المصيبة على النفس، وهو دأب الصالحين في كل زمان. ونبينا - صلى الله عليه وسلم- كان "إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"(3). وأحسن من قال:
إذا أرهقتك هموم الحياة ومسك منها عظيم الضرر
و ذُقت الأمرين حتى بكيت وضج فؤادك حتى انفجر
وسُدت بوجهك كل الدروب و أوشكت تسقط بين الحفر
فيمِّم إلى الله في لهفة و بث الشكاة لرب البشر(/1)
ولا ينافي الصبر والفرار إلى الله بذل الأسباب بل يقتضيها، فهذا يعقوب _عليه السلام_، صاحب الصبر الجميل، قال وهو الصادق فيما يقول: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"، ومع ذلك لم يغفل قانون الأسباب، "يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، فأنت تراه يوجه بنيه كل بنيه: يا بَنيَّ، لا تيأسوا من روح الله، فكل عسير إذا يسره الله يهون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، لا يقعدنكم اليأس، تحركوا وامضوا، فباحثوا عن أخبار من تلوموني في ذكره، وعن أخيه، وفي هذا بيان لقوة نفسه عليه السلام وثبات جنانه، ولك أن تقدر ما يقوله الناس له، وعظيم إنكارهم عليه، وما يتحدثون به في مجتمعه، وخذ مقياساً لذلك كلمة بنيه: "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين" فإذا كان هذا قول الأبناء المقربين فكيف بالغرباء الأبعدين، بل كيف بمن لم يعرف له مقام نبوة؟ إنك ترى كثيراً من الناس ربما قال بحق في مسألة من المسائل التي بدت له أدلتها، وظهر له برهانها، فيلبث قليلاً فيعظم إنكار بعض الناس عليه، فيخنس! أما الأنبياء.. أما من عرف قدر الحق من أصحاب النفوس القوية فلا، بل يثبتهم اليقين فيصبرون، وعندها يجعل الله منهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون. إن يعقوب عليه السلام لقي من الإنكار ما لقي حتى من الأبناء، وربما رأى من لا يبصر بنور الوحي أن رأيهم هو الرأي، إلاّ أن يقين يعقوب وصبره عكسا القضية، فإذا بالمُنْكِرِ المخالفِ منذ قليل يتوجه إلى البحث عما أنكر، لما رأى الصبر واليقين ماثلين أمامه.
ويعقوب _عليه السلام_ طراز فريد من أولئك، وقد جمع بين الصبر الجميل وبين التعلق بالله القدير، ففر إلى من بيده مفاتيح الفرج سبحانه، لعلمه بأن من آوى إليه كفاه
إننا بحاجة في واقعنا المعاصر إلى أهل علم راسخين ينظرون بنور الله في الأمور، ثم يبصرون بنور الله أهل العمى، ويثبتون فلا تصرفهم عن ذلك شناعة شنعت، عندها يجعل الله منهم أئمة وقادة لسفينة الحياة، وعندها يرسى الناس عند شاطئ السلامة وبر النجاة. بفضل اتباعهم الذين يعلمون من الله ما لا يعلمون.
* مستل من كتاب الشيخ –حفظه الله- آيات للسائلين.
(1) تقبضت وضاقت.
(2) في الصحيح 4/2295 (2999).
(3) ابن كثير: 1/88.(/2)
الابتلاء
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون?[ آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً?[ الأحزاب:71].وبعد:
فقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة ليختبره ويبتليه، وجعل حياته في هذه الدنيا حياة كد وكدح وكبد، فقال سبحانه موضحاً هذه المعاني: ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ? [سورة الملك. الآية:1-2]، وقال : ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? [سورة الكهف. الآية: 7]، وقال: ?..وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ? [سورة الأنبياء. الآيتان: 34 - 35]، وقال: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ? [العنكبوت:2].
يًبتلى الكافر كما يُبتلى المؤمن ، لكن المؤمن أكثر فتنة وأشد ابتلاء (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) يبتلى الإنسان على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء حتى يمشي على الأرض وليس له خطيئة.
ابتلاءات ومحن وفتن تموج بها الحياة موجاً وتتلاطم وتتدافع، فتنة بعد أخرى حتى يتمايز الناس ويظهر عملياً في واقع الحياة الصادقون من الكاذبين والمؤمنون من الكافرين ، ?مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ...? [آل عمرآن:179]
وإن من صور الفتن التي يتعرض لها المؤمن في حياته يعايشها ويراها:
تعرضه للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان
فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير .. وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يشعر به أحد .
ومن الفتن فتنة الغربة في البيئة والمجتمع حين تنقلب المفاهيم يحس أنه بإيمانه ودينه وقيمه وأخلاقه غريب وأنه كالقابض على الجمر "فطوبى للغرباء .."
ومن الفتن وجود أمم ودول غارقة في الرذيلة والفسق وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية وقوية وهي محادة لله ورسوله.
فتنة النفس والشهوة ، وجاذبية الأرض، والرغبة في المتاع والسلطان يبيع المرء دينه وخلقه وكرامته وأمته، فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد.
إن المؤمن يحتاج إلى إيمان عميق وإلى صبر وتحمل وجلد في مواجهة تلك الابتلاءات والفتن والتحديات والمحن، ولهذا نجد أن الله تعالى يندب عباده ويأمرهم أن يستعينوا بالصبر والصلاة فإن ذلك مما يهون الأمر ويسلي النفس ويطمئن القلب كما قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [البقرة:153]
ولأهمية الصبر وضرورته تجد أنه ذكر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً آمراً به ونهياً عن ضده، والثناء على أهله وبيان أن الفوز بالآخرة ونعيمها والنجاة من النار إنما يحصل عليه المؤمنون بصبرهم ?... وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23)سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد:23-24].
ودرجة الإمامة في الخير والهدى إنما تنال بالصبر واليقين ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ? [السجدة:24](/1)
فحين يجد المؤمن الحقد والكراهية والكيد والغرور والتشفي من المنافقين يأمرهم الله بالصبر ويبين لهم حقيقة الأمر فيقول: ?إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ? [آل عمرآن:120].
وحين يشن أعداء الإسلام حملة إعلامية شرسة على الإسلام الحنيف والشرع الشريف، لتنفير من يريد أن يؤمن وتخطئة من آمن وتسفيهه، يخبرهم تعالى قبل وقوعه ليوطنوا أنفسهم على الصبر واحتمال المكروه كما قال سبحانه : ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [آل عمرآن: 186]
وحين يزداد طغيان الظالمين ويجاوز الأمر حدوده بالتهديد والوعيد يأمر الله عباده بالصبر في مواجهة كل ذلك بقوله تعالى: ? وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127)قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [الاعراف:127-128].
ويسلي الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين يكذبه قومه ويسخرون منه ويستهزئون ويكيدون ويتآمرون ، فيأمره بالصبر وأن يتأسى بأُولي العزم من الرسل في تحملهم وصبرهم فيقول له: ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ? [الاحقاف:35].
استمع إلى هذا النموذج القوي الرائع في التحمل والصبر على تكاليف الدعوة وسخرية الساخرين وإعراض الجاهلية في مدة زمنية قياسية عند نبي الله نوح ألف سنة ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِي? [يونس:71]
عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
إن حال المؤمن كلها خير في فقره وغناه، في السلم والحرب ، في الهزيمة والنصر ، إنه يتقلب بين الشكر والصبر.
أما غيره فليس كذلك. إن غير المؤمن إن جاءه غنى أبطره وأخرجه عن طوره ومنع الحقوق الواجبة ولم يشكر المنعم بل ينسب الأمور إلى فطنته وذكاءه ويعص ربه بتلك النعم .. وإن أصابه شر وضر جزع وخرج عن طوره وكانت له دعاوى طويلة وعريضة من التبريرات والفلسفات وقد ينتحر ويرتكب الموبقات.. ? إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا? [المعارج:19-20-21]
إن الصبر هو خير ما يمنحه الله لعباده كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"
سنن الترمذي باب ما جاء في الصبر على البلاء 2398 عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 1956. وصحيح ابن ماجه برقم 3249.
وفي صحيح البخاري باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول برقم 5324 عن عبد الله قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا قال:" أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت ذلك بأن لك أجرين قال أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ".
صحيح مسلم باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين برقم 145 عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء".(/2)
صحيح مسلم باب المؤمن أمره كله خير برقم 2999عَنْ أبي يحيى صهيب بن سنان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
سنن أبي داود باب في الاستعفاف برقم 1644 عن أبي سعيد الخدري :"أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى الله أحدا من عطاء أوسع من الصبر". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 1647، وصحيح أبي داود برقم 1447، وصحيح النسائي برقم 2425. ...(/3)
الاتباع الأعمى
... مقالات متفرقة
إعداد: وليد عباس
كثيراً ما تُصاب النفوس بآفات خطيرة من شأنها أن تؤثِّر سلباً على سلوكها وأفكارها وموازينها. ولعلّ أخطر هذه الآفات أو الأمراض: ظاهرة الاتّباع الأعمى الذي لا ينمّ إلاّ عن تعصّب لكبير من الكبراء أو أحد الزعماء أو لمسؤول أو لشخص فلان أو لرأي شيخ بغضِّ النظر عن مدى استقامة هذا الشيخ أو مدى صواب رأي ذاك الزعيم. وحتى العامل للإسلام قد يُصاب بهذا المرض دون أن يدري بالرغم من إصراره على ألاّ يوصف بالتعصب أو التبعية العمياء، ففي هذه الحالة يكون المرض عنده في بدايته وبالتالي فمن السهل استئصاله من نفسه قبل أن يستشري. لذا فسيجد عموم المسلمين وحتى العاملون للإسلام، رجالاً ونساءً، بين ثنايا هذا الموضوع بحثاً مفصَّلاً عن خطورة هذه الظاهرة وسوء مآلها تماماً كما وصفها القرآن الكريم.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {ومن الناس من يتّخذُ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبِّ الله والذين أمنوا أشدُّ حُبّاً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرَوْن العذاب أنّ القوّةَ لله جميعاً وأنّ اللهَ شديدُ العذاب * إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتُّبعوا ورأَوْا العذابَ وتقطَّعت بهم الأسباب * وقال الذين اتَّبعوا لو أنّ لنا كَرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرَّءوا منّا كذلك يُريهم اللهُ أعمالَهم حَسَرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165 ـ 167].
فالآيات الكريمة تجسّد الصورة الحقيقية لما عليه هذه الفئة من ضلالٍ ناتج عن اتّباعهم الأعمى لبشرٍ أمثالِهِمُ وحبّهم لهم كحبّ الله، وتصوِّر لنا المصير الأليم الذي يلقهاه هؤلاء وما يكونون عليه من ندم وحسَرات عند ملاقاة مصيرهم المشؤوم.
إذاً، فالتبعية هي ظاهرة خطيرة ومشكلة رافقت البشرية منذ ظهورها، وقد كانت عبر الأزمنة تختلف أشكالاً وأنواعاً في التابع والمتبوع، ولكنّ الملاحظ لسيَر الأمم في التاريخ من خلال العرض القرآني أنّ هذه الأنواع وهذه الأشكال تنقسم في حقيقتها إلى معسكَرَيْن اثنَيْن:
الأول: أناسٌ يتّبعون بعضهم ويتعاونون فيما بينهم لتبليغ دين الله والدعوة إليه وهم الأنبياء والرُّسُل ومَن سار على نهجهم. وفي الجهة المقابلة أتباعٌ ومتبوعون يقودهم إبليس لمحاربة الحقّ ونشر الفساد في الأرض، وإن تمثّلت هذه القيادة يوماً في زعيم من البشر أو صنم من الحجر ولكنها دائماً شيطانية، تسخِّر جميع إمكاناتها من أجل دعوة الناس بمختلف الوسائل (ترهيبية وترغيبية) لإجبارهم على السير في رَكْبها ودعم مسيرتها.
(لقد كانوا على عهد المخاطَبين بهذه الآيات أحجاراً وأشجاراً، أو نجوماً وكواكب، أو ملائكة وشياطين... وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو إشارات أو اعتبارات ... ولكنها شِرْك خفي أو ظاهر، إذا ذُكِرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حبّ الله. فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفردَ هذه الأنداد بالحُبِّ الذي لا يكون إلا لله؟
لذا نجد أنّ العلامة الفارقة التي تميِّز المؤمنين عمّن دونهم أنهم لا يحبون شيئاً كحبهم لله، لا أنفسَهم ولا سواهم، لا أشخاص ولا اعتبارات ولا شارات، ولا قيماً من قيَم هذه الأرض التي يتكالب عليها معظم الناس إلا مَن رحم ربي).
ففي هذا السياق يصفهم ربّهم بأنهم أشدُّ حبّاً له من أنفسهم وأهليهم والناس أجمعين: {والذين آمنوا أشدُّ حباً لله}، فحبّهم لبارئهم حبٌّ مُطلقٌ من كل موازنة، ومن كل قيد. هم أشدّ حباً لله من كل حبّ يتّجهون به إلى سواه. والتعبير هنا بالحُب تعبير جميل فضلاً عن كونه تعبيراً صادقاً. فالصلة بين المؤمن الحقّ وبين الله هي صلة الحب، صلة الوشيجة القلبية والتجاذب الروحي، صلة الموَدّة والقُربى، صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحُب المشرق الوَدود.
تلك الصورة المشرقة للقلب المؤمن المتجرِّد إلاّ من حبّ الله، تقابلها الصورة المظلمة التي أشرك أصحابها مع الله آخرين، أولئك الذين اتّخذوا من دون الله أنداداً، فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم... ولو مدّوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد، لو تطلّعوا ببصائرهم إلى يوم يرَوْن العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو أبصروا بعين البصيرة لرأوا {أنّ القوة لله جميعاً} فلا شركاء ولا أنداد {وأنّ الله شديد العذاب}.
لو يَرْون كيف تبرّأ المتبوعون من التابعين، ورأَوْا العذاب، فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كلٌّ بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً، وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها اتباعاً أعمى وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها وظهرت حقيق الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة وكَذِب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله سبحانه وأمام العذاب.(/1)
وفي هذا المقام يتجلّى الندم لدى هؤلاء بأشقى مظاهره وأتعس مراحله: {وقال الذين اتَّبعوا لو أنّ لنا كَرّةً فنتبرأَ منهم كما تبرأوا منا}... فتبدّى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالّة، وتمنَّوْا لو يَرُدُّون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرّأوا من تبَعيّتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب!!
إنه لمشهد مؤثِّر، مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين، وهنا يجيء التقرير الإلهي المؤلم: {كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.
وفي هذا السياق، لا بدّ لنا من تحليل نفسية وعقلية كل من التابع والمتبوع، حتى تتأتّى لنا الأسباب الكامنة وراء ضلالهم عن النهج القويم.
فمن أهم أسباب تبعيّة الأتباع للمتبوعين:
1. ... خوفهم على أموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم.
2. ... خوفهم على أعمارهم وحياتهم ودنياهم.
3. ... خوفهم من بطش المتبوعين وأذاهم.
4. ... فِسقْهم وانحرافهم وابتعادهم عن المنهج الرباني.
5. ... رغبتهم في الدنيا وإقبالهم عليها وحرصهم على ملذّاتها.
6. ... نسيانهم الآخرة.
7. ... حرصهم على التزلف والتقرُّب للسادة والكُبَراء المتبوعين.
8. ... هوانهم على أنفسهم ووأْدهم لشخصياتهم وإراداتهم وحرّياتهم.
أما أهم الأسباب الكامنة وراء استكبار المتبوعين وغطرستهم وإذلالهم لأتباعهم فإنها تتجلى في:
1. ... انتفاش نفسياتهم وانتفاخها.
2. ... استحواذ الشيطان عليهم.
3. ... كفرهم بالله أو نسيانهم له وتعدِّيهم على حقّ الله في العبادة والإستعانة والحكم والتشريع.
4. ... عدم إيمانهم بالآخرة.
5. ... انحرافهم وانكبابهم على المعاصي والذنوب.
6. ... اغترارهم بما جعل الله تحت أيديهم من مظاهر المال والجاه والسُّلطان.
7. ... رضوخ أتباعهم لهم ورضاهم بما يمارسه متبوعوهم من استخفاف وازدراء واستعباد، وتنازل الأتْباع عن وجودهم وشخصياتهم وآرائهم.
وبما أنّ الاتّباع الأعمى مُنْزَلقة خطير وعاقبته وخيمة، فالأجدر بكل مسلم فضلاً عن كل عامل للإسلام أن يُبصر بتجرُّد ليتبيّن حقيقة الطريق الذي يسير عليه. وقد يبدأ الاتّباع بالتعصُّب لكلمة أو رأي مخالف للكتاب والسُّنّة بشكل لا يُخرِج من الدين، ولكن لا يجوز التهاون بذلك أبداً فلعله يبدأ بكلمة وينتهي والعياذ بالله إلى ما يؤول إليه حال مَن خَلّدهم الله في نار جهنّم.
لذا فإنّ المؤمن لا بدّ له أن يستقي العِبَر من هذه الآيات الكريمة والتي منها:
1. ... حبّ المؤمن لله ولشريعته حباً مُطلقاً لا يوازيه شيء من أشياء الدنيا.
2. ... على المؤمن أن يتّبع قيادة مؤمنة تقوده إلى طاعة الله ومرضاته.
3. ... على المؤمن أن يتبرّأ من القيادات الضالّة التي تقوده إلى معصية الله مهما اختلفت أشكالها وأنواعها.
4. ... العمل على إيجاد قيادة مؤمنة مُحبة لله عاملة على تطبيق شريعته تقود البشرية إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
5. ... النهاية السيئة لكل (تابع ومتبوع) على غير شرع الله.
6. ... عزة المؤمن بإيمانه بالله وعبوديته له تجعله يترفّع على هذه القيادات الضالة بنظرتها لحقيقة وجودها وما تملكه من إمكانات بشرية ومادية وأنه من رحمته لها وشفقته عليها يعمل على تقويم اعوجاجها وتصحيح مفاهيمها وإقصائها لشريعة ربها.
7. ... من أهم أسباب وقاية المؤمن من اتّباع القيادات الضالة:
1. ... اتصاله الدائم بالله وذلك من خلال العبادة والذِّكر وقراءة القرآن والتفكر في أحوال الأمم السابقة ومصيرها.
2. ... نظرته إلى حقيقة مصير هذه القيادات يوم القيامة وذلك من خلال قياس أعمالها على شرع الله.
هذا ما نستشفّه من دروس وعِبَر هذه الآيات الكريمة، وإنّ هذه العِظات لجديرة بأن يُمحِّصها ويستفيد من دِلالاتها كل مَن انحرف عن النهج المستقيم بل ويعمل من الآن على تطبيقها، وعلى المجتمع المسلم أن يتطهّر من هذه الآفة الخطيرة.
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألْقى السَّمْع وهو شهيد}.(/2)
الاتجار في العراق المحتل
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ البيوع/مسائل متفرقة
التاريخ ... 19/5/1425هـ
السؤال
بارك الله فيك يا شيخ، ما حكم التجارة في العراق في هذا الوقت؟ وما حكمها إذا كانت بحماية الأمريكان؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
التجارة في الأشياء المباحة والحلال جائزة شرعاً في كل زمان ومكان لعموم قوله –تعالى-: "وأحل الله البيع وحرم الربا..." الآية[البقرة: 275]، وأنزل الله في كتابه آية الدين وهي أطول آية في كتاب الله –تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل..." الآية[البقرة: 282] بيَّن الله فيها عامة أحكام البيوع العاجلة والآجلة، من كتابة العقد وحكم الانتهاء، والإشهاد عليه وأنواع الشهود ووجوب العدل في هذا كله، ومبايعة الكفار المشركين الصرحاء، وأهل الكتاب ثابتة في عموم القرآن والسنة، فقد عامل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أهل الكتاب بالبيع والشراء، وتبادل معهم الهدايا، فقد استعار من يهودي أدرعاً للحرب، عارية مضمونة، انظر ما رواه أبو داود(3563)، وأحمد(14878) من حديث صفوان بن أمية –رضي الله عنه-، وشرب –صلى الله عليه وسلم- من مزادة (قربة) يهودية، انظر ما رواه البخاري(344)، ومسلم(682) من حديث عمران بن حصين –رضي الله عنه- ومات –صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير، انظر ما رواه البخاري(2916)، ومسلم(1603) من حديث عائشة –رضي الله عنها-، أما إذا كانت التجارة بشيء محرم بذاته كالمخدرات أو كان حلالاً وفيه إعانة للكفار كبيع السلاح لهم وقت الفتنة ليقتلوا به المسلمين، أو كان فيه تشجيع لبضاعتهم، وتقوية لاقتصادهم، فلا تجوز التجارة معهم حينئذ، ويتعين مقاطعة منتجاتهم، ولو كانت في الأصل حلالاً؛ لأن هذا فيه تقوية لهم وإضعاف للمسلمين، والخلاصة أن معاملة الأمريكان في الأمور التجارية المباحة حلال، لا إشكال في ذلك كغيرهم من الكفار. والله أعلم.(/1)
الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن
محمد عبد الرحمن آل الشيخ
الاهتمام بالقرآن وتفسيره مظهر من أهم مظاهر الاهتمام بالإسلام ، ومنذ عصر الإسلام الأول ومكتبة التفسير تزداد غنى وتضخماً ، حتى أصبح القارئ اليوم يجد نفسه في حيرة أمام هذه الكتب ومناهجهاً ، فلا يكاد يسلم له اختيار ، ولا تستقيم له قراءة ، إذا لم يبذل جهداً كبيراً في اختيار الكتاب والكاتب ، من هذا المنطلق عنى جماعة من علماء المسلمين بأصول التفسير ومنهجه ، فكتبوا -عن التفسير وتاريخه ومراحل تطوره، وكتبوا عن المفسرين واتجاهاتهم وغاياتهم ، ليخلصوا بعد ذلك إلى منهج واضح في التعامل مع المفسرين في كتبهم،تعين القارئ المسلم في تناوله لكتب التفسير ، وتجعل أمامه معايير واضحة في القبول والرد لأي فكرة أو عبارة.
ويعد الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - واحداً من علماء المسلمين الذين تخصصوا في التفسير وعلمه، فعاش مع الأولين والآخرين من خلال قراءته لكتبهم المطبوعة والمخطوطة ، ويكفي شاهداً على مكانته في هذا المجال كتابه القيم "التفسير والمفسرون"، غير أن للشيخ كتيباً آخر - وإن كان جزء كبير منه مأخوذاً من الكتاب الأول - يقع في حوالى مائة صفحة تحت عنوان:"الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها"، ومع صغر حجم الكتاب إلا أنه وفي الموضوع توفية جيدة ، وأبان فيه كثيراً من أحوال الذين دخلوا عالم التفسير ولكن لم تسلم مؤلفاتهم من انحرافات وأخطاء ، ولا نعني بها الأخطاء الفردية الجانبية ، بل المنهجي منها ،حيث يلتزم المؤلف في تفسيره منهجاً غير سليم في تناول النصوص القرآنية يخالف أهل السنة.
والكتاب يقع في مقدمة وتسع مقالات ، تكلم في المقدمة عن تدرج التفسير ، وعن مبدأ ظهور الانحراف ، ثم في المقالات التسع: ذكر أحوال تسعة اتجاهات تناولت القرآن تناولاً فيه انحراف في جانب من جوانب منهجها.
المقدمة:
تكلمت المقدمة أولاً عن:تدرج التفسير، فتكلم المؤلف في البداية عن تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن للصحابة ، وذكر خلاف العلماء حول: هل فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن جميعه للصحابة أم بعضه؟ واختار: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما فسر معظم القرآن ، وأن هناك أشياء لم يفسرها للصحابة مثل ما استأثر الله بعلمه ، أو ما تعرفه العرب بلغتها ، أو ما يعرفه المرء من القرآن بداهة ، أما الأمور التي هي من اختصاص العلماء فهي التي كانت مجال التفسير كبيان المجمل ، وتخصيص العام وتقييد المطلق... وغير ذلك مما خفي معناه والتبس المراد به.
ثم جاء بعد ذلك عصر التابعين الذين أخذوا التفسير مشافهة من الصحابة ، وزادوا على ذلك باجتهاداتهم بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعُد الناس عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم. وهكذا استمر تنقل التفسير بين الطبقات، يزداد الناس بعداً عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتزداد اجتهادات العلماء لسد تلك الفجوة ، حتى ظهر عصر التدوين.
ويقسم المؤلف مراحل التفسير منذ عصر التدوين إلى يومنا هذا إلى أربع مراحل ؛ فيجعل:
الأولى: يوم كان التفسير جزءاً من كتب الحديث ، وكان التفسير بالمأثور يروى بأسانيده ، وأحياناً يفرد له باب داخل كتب الحديث.
المرحلة الثانية: يوم انفصل التفسير في كتبه المستقلة ، ومن أعلام هذه المرحلة - عند المؤلف -: ابن ماجه (ت:237 هـ) وابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) وغيرهما ، وقد عدّ الكاتب هاتين المرحلتين من المراحل الخيِّرة في تاريخ تدوين التفسير بالمأثور.
المرحلة الثالثة: لم تكن كسابقتيها ، حيث شهدت ظهور تفاسير لم تعتن كثيراً بالأسانيد وإثباتها،بل عمدت إلى اختصارها وذكر أقوال السلف من غير سند ، ومأخذ الكاتب على هذه المرحلة ننقله بعبارته ؛ حيث يقول:" فدخل الوضع في التفسير ، والتبس الصحيح بالعليل ، وكان هذا مبدأ ظهور الوضع في التفسير.
المرحلة الرابعة: وهي أوسع المراحل حيث امتدت من العصر العباسي إلى هذا اليوم ، يقول- رحمه الله-: فبعد أن كان التفسير مقصوراً على رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة ، وجدناه يتجاوز هذه الخطوة إلى تدوين تفاسير اختلط فيها الفهم العقلي بالتفسير النقلي ، وكان ذلك على تدرج ملحوظ ،فبدأ أولاً على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض ، وكان هذا أمراً مقبولاً مادام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة كلمات القرآن. ولكن جانب الفهم العقلي أخذ يخرج عن إطاره المقبول مع مرور الزمن،إلى أن وصل إلى مرحلة قال عنها: حتى وُجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعد عظيم.
واشتملت المقدمة كذلك على مبحث في: مبدأ ظهور تلك الاتجاهات المنحرفة ، مع دراسة تحليلية موجزة لأسباب ذلك.
ليس من الصعب على من يقرأ كلام المؤلف أن يخلص إلى أنه يرجع أسباب تلك الانحرافات إلى عاملين:
أولهما: حذف الأسانيد .(/1)
العامل الآخر: اتجاه أهل الرأي في تفسير القرآن ،حيث يقول: ولاشك في أن انتهاء التفسير بالرأي إلى إخضاعه لميولٍ شخصية ومذاهب عقدية وغير عقدية فتح على المسلمين باب شر عظيم. ولهذا العامل عنده سببان:
أولهما: أن يعتقد المفسر معنى من المعاني ، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن على ذلك المعنى قسراً ، وإن كان ما قصد إليه معنى حساً ، ولكن لا علاقة له بالآية ، كمن فسر قوله تعالى: ((ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم)) [النساء / 66 ] ، بأن قتل النفس هنا: مخالفتها ، والخروج من الديار هو: إخراج حب الدنيا من القلوب. وقد يكون المعنى الذي قصد إليه خطأ أصلاً ، ومع هذا يريد أن يحمل كلام الله عليه ، ومثل على ذلك بمن فسر قوله تعالى: ((واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً )) [المزمل /8 ] اذكر اسم ربك الذي هو أنت ، أي: اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله.
والسبب الثاني: أن يقف المفسر مع ظاهر اللفظ ،دون نظر في حال القوم الذين نزل فيهم القرآن ، أو سبب نزول الآية.
وبعد هذه المقدمة ، بدأ في تناول الاتجاهات المنحرفة وهي:
1 - اتجاه الإخباريين والقصاص.
2 - اتجاه أصحاب المذاهب النحوية.
3 - اتجاه من يجهل قواعد النحو.
4 - اتجاه المعتزلة.
5 - اتجاه الشيعة.
6 -- اتجاه الخوارج.
7 - اتجاه الصوفية.
8 - اتجاه أصحاب التفسير العلمي.
9 - اتجاه مدعي التجديد.
وقد استغرق الكلام على هذه الاتجاهات بقية الكتاب ، وسنقتصر في هذا المقال على ذكر اتجاهين اثنين، أحدهما قديم والآخر حديث ، هما: الشيعة ومدعي التجديد.
وقد نهج المؤلف في دراسته لهذه الاتجاهات نهجاً تحليلاً موفقاً ، فبدأ وقدم لكل اتجاه بمقدمة موجزة تكلم فيها عن مذهب القوم وبعض عقائدهم التي تخالف عقائد أهل السنة ، ثم أخذ أمثلة من تفاسيرهم ، وذكر انحرافاتهم فيها ، وكيف أوّلوا آيات القرآن لتوافق آراءهم ومذاهبهم ، ويتبع ذلك غالباً بالرد على ادعاءاتهم ، وإبطال تأويلاتهم.
الاتجاهات المنحرفة في تفسير الشيعة:
بدأ الحديث عن الشيعة بذكر أقسامهم من جهة غلوهم في أمير المؤمنين علي بن أبى طالب- رضي الله عنه-، ولخص بعد ذلك عقائد الإمامية الإثني عشرية القائلين بإمامة اثني عشر إماماً، فقال: وللإمامية الإثني عشرية تعاليم ، أشهرها: العصمة والمهدية والرجعة والتقية. وأتبع ذلك بشرح موجز لكل عقيدة من هذه العقائد.
وتكلم بعد ذلك عن تفاسير القوم ، وضرب أمثلة لكيفية اعتسافهم لآيات القرآن الكريم لتوافق عقائدهم ، وحسبنا أن نورد هنا مثالاً واحداً مما ورد في الكتاب ، فقد نقل عن البحراني في تفسير للآيتين 8 ، 9 من سورة الذاريات: ((إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)) أنه قال: يروى عن أبي جعفر أنه قال في تفسيرها: اختلف في ولاية هذه الأمة ، فمن استقام على ولاية عليِّ دخل الجنة ، ومن خالف ولاية عليِّ دخل النار ، وأما قوله: ((يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)) قال: يعني علياً ، ومن أفك عن ولايته أفك عن الجنة. ثم يرد المؤلف على هذا الانحراف رداً منهجياً جيداً حيث يقول: ولسنا بحاجة إلى الإطالة في إبطال هذا الاتجاه ، بعدما أثبت لنا علماء الحديث ونقاده أن كل الروايات في ولاية علي ليس لها أساس من الصحة ، وأنها من وضع الشيعة أنفسهم ليروجوا بها مذهبهم في الإمامة والأئمة.
القارئ لهذا الفصل من الكتاب يصل في نهايته إلى حيث أراد الكاتب: من أن تفاسير القوم لم توضع بتجرد وإخلاص ، ولا يمكن اعتبارها تفاسير للقرآن بقدر ما يمكن اعتبارها قنوات لصب أفكار الشيعة وعقائدهم من خلالها.
الاتجاهات المنحرفة في التفسير لبعض مدعي التجديد:(/2)
إذا كان الكاتب قد التزم الاتزان في العبارة ، والهدوء في المناقشة والرد - وهو خُلق جيد -، فإنه هنا وإن لم يخرج عن هذا الإطار إلا أنه استخدم عباراتٍ أشد وأسلوباً أقوى مع أصحاب هذا الاتجاه ، ولعل ذلك عائد إلى أنه عدّ بعضهم ممن يريد الكيد للإسلام وأهله ، وبعضهم ممن أقحم نفسه في هذا المجال وليس من أصحابه ، فنجد المؤلف في هذا الفصل بعد أن ذكر أن الإسلام بُلي بقوم كادوا له ، وعملوا على هدمه ، نراه يقول بعد ذلك: مني الإسلام بهذا من أيامه الأولى ، ومني بمثل هذا في أحدث عصوره ، فظهر في هذا القرن أشخاص يتأولون القرآن على غير تأويله ، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم ، ويقضي حاجات نفوسهم... فمنهم من حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله تعالى سبب لظهوره وشهرته في المحيط العلمي ، فذهب يفسر كتاب الله تفسيراً لا تقره لغة القرآن ، ولا يتفق مع قواعد الدين العامة ، ومنهم من تلقى من العلم حظاً يسيراً لا يرقى به إلى مستوى العلماء ، ولكنه اغتر بما لديه فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين في العلم ، ونسي أنه قل في علم اللغة نصيبه ، وخف في علم الشريعة وزنه ،... فأخذ يهذي بأفكار فاسدة تتنافى مع ما قرره علماء اللغة وأئمة الدين.
بهذا الأسلوب وبهذه الروح تناول الكاتب أصحاب هذا الاتجاه.
ومن أصحاب هذا المنهج: صاحب كتاب "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" ، وقد ثار على هذا الكتاب علماء الأزهر حتى صودر ومنع ، فقد تسلط صاحب هذا التفسير على معجزات الأنبياء وجردها من معانيها الإعجازية ، فلا عيسى عنده ينفخ في الطين فيصير طيراً بإذن الله ، ولا هو يبرئ الأكمه والأبرص ولا يحيي الموتى بإذن الله. ومما نقله عنه المؤلف في تفسيره لقوله تعالى ((وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:79 ]، يقول: ((يُسَبِّحْنَ)) يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته الحربية ، ((والطَّيْرَ)) يطلق على كل ذي جناح ، وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية ، وفسر قوله تعالى: ((ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) [الأنبياء:81 ] يقول: ((تَجْرِي بِأَمْرِهِ)) الآن تجري بأمر الدول الأوربية وإشاراتها في التلغراف والتلفونات الهوائية.
فليس بعد ذلك من عجب أن يقسو الذهبي -رحمه الله-على هذا المفسر ويقول عنه: وهذا بلا شك خروج صريح عن مدلولات النصوص القرآنية وإلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى.
وبعد ، فهذا هو الكتاب كما قرأته ، لا يخلو كل قارئ له من أن يصل في نهايته إلى معرفة الانحرافات التي قد ترد على كتب التفسير وأسبابها ، ولا يخلو القارئ كذلك أن يستنتج من إجمال الكتاب المنهج الصحيح في التفسير ، الذي به نستطيع قبول قول المفسر أو رده ، ولم يتوسع - رحمه الله - في ذلك ، ولم يعرضه عرضاً مستقلاً ، لأن عنوان الكتاب مقصور على الاتجاهات المنحرفة ، ولكن يمكن أن نستنتج جانباً من ذلك من خلال كلامه وردوده ، فأهم مقومات المنهج الصحيح فيما ذكر: الاهتمام بالأسانيد وتمحيصها ليعلم الصحيح من الدخيل ، ويضاف إلى ذلك التجرد في تناول الآيات القرآنية دون إخضاعها لمؤثرات ومقررات سابقة(/3)
الاتصال في عالم الغيب عصام يوسف بدري*
مقدمة:
الحياة حركة مستمرة لا تنقطع على مدار اليوم والليلة وتشترك فيها وتتواصل مكوناتها المختلفة في علاقة تبادلية وأدوار متناسقة وإيقاع متناغم تجد فيها القلوب الموصولة بالله عز وجل شواهد تزداد بها إيماناً ويقيناً، أنه لا مكان ثَمّ لصدفة أو عبث، بل قصد وتدبير: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).
قصد وتدبير في خلق الإنسان على هيئته وتكوينه ووظائف أعضائه والعلاقة التي لا تنفصم بينها واتصالها المستمر في غير ما انقطاع: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).
قصد وتدبير في الكون وما فيه من مظاهر الحياة وما استودع فيه من معيناتها تعود بكراً كلما طمسها الإنسان انتفاعاً مشروعاً بما فيها فهي له وهو لها: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)، وجعل الله عز وجل الكون وما فيه مسخراً للإنسان يعمل فيه وسائل اتصاله وأسباب تواصله لإعمار الكون وما فيه مستصحباً بصيرة نافذة وبصراً فاحصاً وفكراً ثاقباً: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).
فهو – أي الإنسان – إذ ذاك يتجاوز باتصاله وتواصله الماديات والحسيات من حوله وينخلع من ربقة المكان والزمان ويسبح في عالم آخر يراه بقلبه ويتصل به: ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
الله سبحانه وتعالى هو الغاية والعبودية هي مدار مدار الاستخلاف والاتصال والتواصل أداة الاستكناه ووسيلة المعرفة وسبر الغور والشقي من كان في زمرة: ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
الميثاق:
الله عز وجل خلق كل شيء ولا أحد سواه قادر على خلق شيء: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ )، لأنهم أنفسهم خلق الله عز وجل الخالق: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، فأنى لمخلوق أن يكون خالقاً وهو الذي يعيه ذباباً أن يخلقه.. وماءً من المزن أن ينزله.. وحرثاً من الأرض أن يزرعه.. وناراً وقودها شجر من أن ينشئه وماءً دافقاً فيه بذرة الحياة ومبتدأ النشأة أن يخلقه......: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ . أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُون . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ).
وعندما يتكبر الإنسان ويكابر يلقى عقله ينظر بعينين مغمضتين ويظن بنفسه الظنون لا يستحيي أن يقول بلسان غير عقول: ( أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ )، يقتل رجلاً ويعفو عن آخر!! حجة داحضة وبله أبلج كل حمقى الأرض عيال عليه... وحتى مقام البله والحمق لم يستطيعا له احتمالاً وتنفسا الصعداء وهو يخر صريعاً من سنامهما تطيح به أشعة شمس عجز أن يأتي بها من المغرب: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
لقد بين الله سبحانه وتعالى أنه ما خلق الكون وما فيه إلا لعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، غاية لا يتخلف مخلوق عن مقصدها: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة الحديد: 1)، ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ )، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً).وعند مبيتدأ الخلق أخذ سبحانه وتعالى من بني آدم الميثاق على ذلك: ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
ميثاق الخلق والمنشأ..وميثاق المنهاج والمسير..وميثاق المآل والمصير..وأسدل ستار الغيب ووريت حجبه ووزعت كراسة التعليمات ومعينات التواصل مع عالم الغيب.(/1)
رسلاً مبشرين ومنذرين..وكتب تخرج الناس من الظلمات إلى النور..وأعيناً تسافر وتسيح في كتاب الكون المنظور.. وحجراً يعقل شواهد الغيب المبثوثة لكل ذي لب بدءاً من البعرة والبعير وانتقالاً للأثر والمسير ومروراً بأرض ذات فجاج وصعوداً ينتهي إلى سماء ذات أبراج اتصال شامل يستوعب الجوارح وقنوات الاتصال كلها يشهد ويقر ويدل على العليم الخبير.(/2)
الاتصال مظالم وقصاص
عصام يوسف بدري*
تسود بين الناس في الحياة الدنيا مختلف أنواع الاتصالات، وتتعدد العلاقات التي تصدر عنهم تجاه بعضهم بعضا؛ فالإنسان يتصل بنفسه، ويتواصل مع الآخرين ظالماً أو مقتصداً أو سابقاً بالخيرات..
يقل خيراً أو يصمت؛ يكف أذاه عن الناس؛ فلا يصدر عنه في تواصله معهم إلا خيرا.. يعرف حقوقه عليهم، وحقوقهم عليه؛ فيكون وقّافاً عندها؛ لا يتجاوزها، ولا يدور حول الحمى.
يسارع في الخيرات، ويستبق المعروف..
يعرف حق نفسه عليه، وحق أهله، وحق أبنائه، وحق جاره، وحق عمله، وحق مجتمعه، وحق دولته، وفوق كل ذلك حق ربه (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ)، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ)؛ شكراً يتمثل في إعمال الجوارح في مرضاته سبحانه.. شكر اللسان والعمل: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).. والشكر نعمة تستوجب الشكر؛ ومن ثم فلا سبيل ثم للشكر مهما شمر عبد واجتهد يبتغي رضاء رب منعم هدى لدين كمل وتم.
ولنفسه عليه حق؛ ألا يعمل جوارحه في معصية الله، وألا يوردها المهالك، وألا يمضي في طريق عاقبته حسرة وندم.
ولأهله عليه حق؛ أن يعيش معهم حياة ربانية؛ راضية مرضية؛ تسودها علاقات واتصالات تصدر عن شرعة ومنهاج؛ تنشئة وتربية، كسباً وحرثا؛ فلا يكون في بيته ولا محيط إقامته مكان لمعصية، ولا متسع لتفلت من مثل، ولا متروى لتجاوز وتعد لقيم..
تعلو منه وضاءة القرءان، وتتصاعد إشراقة الصالحات حبلا ممدودا من السماء؛ تنتهي أطرافه عند بداية الصراط المستقيم؛ انتظاراً لأصحابها هناك؛ خير معين -من بعد الله تعالى- لأهلها على تجاوز الصراط، والمرور الآمن؛ فإن المرور على الصراط تكون سرعته فيه بحسب الأعمال التي تكتسبها جوارح الاتصال.. (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)..
يشهد له جيرانه، ويذكره معارفه بالخير حيًّا ومَيْتا.. إذا خرجت جنازته، وحمل جثمانه كانت ألسنتهم أقلام الحق؛ بإذنه سبحانه وتعالى.. وفي السنة ما يشير إلى ذلك.. فقد مرت جنازة؛ فأثنى عليها الناس خيراً؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (وجبت).. ومرت جنازة أخرى؛ فأثنى عليها الناس شرًّا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (وجبت).. وعندما سئل صلى الله عليه وسلم؛ قال: (أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الثانية شرا فوجبت لها النار).. وهو معنى جامع؛ ينتظم سيرة ومسيرة الإنسان مع كل من كان له به صلة.. (كل خليقة وإن خالها ابن آدم تخفى على الناس تعلم).. (لا يضيع العرف بين الله والناس *** ومن يصنع المعروف لا يعدم جوازيه)..
ولم ينفع تلك المرأة قيامها الليل، وصومها النهار؛ وهي تؤذي جيرانها؛ فقال صلى الله عليه وسلم عنها: (هي في النار).. وتعظيماً لشأن الصلة بالجيران ورد في ذلك ما ورد من آيات وأحاديث منها: قوله تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (سورة النساء: من الآية 36)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن).. قيل: ومن يا رسول الله؟!.. قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)..
عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟.. قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك).. قلت: إن ذلك لعظيم.. قلت: ثم أي؟.. قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك).. قلت: ثم أي؟.. قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك)..
(ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)..
ولأمر ما قدمت في الجنة أهمية الجار قبل الدار: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (سورة التحريم: من الآية 11)، والمثل الشعبي: (الجار قبل الدار)..
وتمتد أهمية الصلة والاتصال إلى المجتمع كافة (خير الناس أنفعهم للناس)، (ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)..
بل وتشمل حتى الحيوان؛ (دخلت امرأة النار في هرة؛ ربطتها؛ فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض؛ حتى ماتت هزلاً)..
ودخل رجل الجنة في كلب سقاه (فغفر الله له)..
ثم تنتقل محصلة ذلك الاتصال والتواصل إلى عالم الغيب انتفاعاً بنافعها وصالحها، وقصاصا من فاسدها وظالمها، وفي عقبة القصاص تلتقي الخصوم؛ حتى يقتص للشاة العجماء من الشاة القرناء.
لا درهم، ولا دينار ولا عملة تتداول؛ بها يتحلل من تبعات، وترد لحقوق؛ بل حسنات وسيئات؛ يزيد رصيدها أو ينقص بقدر طبيعة الاتصال، ومردود التواصل الذي كان في عالم الدنيا التي انقض سامرها، وانفض سوقها.
وقد أفلح ابن القيم في وصف الدنيا بأنها سوق قام وانفض، وميدان سباق علاه الغبار، وانطلق فيه المتسابقون.
وغداً سينجلي الغبار، وتعرف أتحتك فرس أم حمار!!..(/1)
وكما تفيد وسيلة الاتصال السريعة في تحقيق المقاصد، والفوز بالمكاسب في الدنيا؛ فإن ذات الوسائل تورث صاحبها غنى أو فقراً، ثقلاً أو خفة في الموازين يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أ تدرون من المفلس؟).. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.. فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)..
شتم وضرب وأكل وغيرها من المظالم ترتكبها جوارح العصاة الظلمة في علاقات وتواصل مع الآخرين أقاموها على قدرة متوهمة عابرة أنستهم القوي الجبار.. وأعملوا فيها جوارح؛ نسوا تسخيرها في مرضات واهبها وخالقها وغفلوا (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، و(كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)..
وعند الله تلتقي الخصوم.(/2)
الاتفاق في العمل الإسلامي الدواعي والوسائل
أ. د. الخضر علي إدريس*
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهْده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلي الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
وبعد..
فهذا بحث موجز، تناولت فيه بالدراسة موضوعات رأيت أنها محققة لأهداف هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله.
ويمكن إجمال أهم هذه الموضوعات في الآتي:
الموضوع الأول: مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي:
حيث حصرت هذا المفهوم في مبدأين:
الأول: الوحدة هي الأصل والاختلاف أمر طارئ.
الثاني: التعاون على المتفق فيه والعذر في المختلف فيه.
الموضوع الثاني: دواعي الاتفاق.
وقد أجملتها في داعيين، وتحت كلٍ دواعٍ:
أولاً: الدواعي الشرعية.
ثانياً: الدواعي الواقعية.
الموضوع الثالث: الوسائل المعينة على الاتفاق والوحدة.
تناولتها من خلال وسيلتين:
الأولي: الالتزام بآداب الخلاف.
الثانية: الالتزام بآداب الحوار.
والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الموضوع الأول
مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي
الاتفاق بين العاملين في الحقل الإسلامي يعني: أن يتعاونوا علي البر والتقوى، وعلي محاربة الإثم والعدوان، وعلي الأمر بالمعروف، والنهي المنكر، وإصلاح المجتمع، ورده إلي الجادة.
وهذا لا يلزم منه أن يكونوا علي رأي واحد، ومذهب واحد في كل الشؤون، وأن تتطابق وجهات نظرهم فيها، بل لا بد أن تتباين آراؤهم في بعض المسائل والقضايا الفكرية، والمواقف الدعوية، والتراتيب الإدارية والتنظيمية.
وإذا كان هذا واقعاً لا محالة فإنه يقتضي من الدعاة الالتزام بمبدأين أساسين هامين.
أولهما: جعل الوحدة أصلاً والخلاف أمراً طارئاً.
ثانيهما: التعاون على المتفق عليه والعذر في المختلف فيه، ومن خلال هذه الأسطر المعدودة نبيِّن بشيء من الإيجاز هذين المبدأين.
المبدأ الأول: الوحدة هي الأصل والخلاف أمر طارئ:
لا شك أن وحدة المسلمين هي الأصل الأصيل، والركن الركين، الذي كل فرع دونه يهون، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الخلاف مهما عظم شأنه، وعلت درجته، وتعاظمت مكانته، ومهما كانت موضوعاته ومسائله أصلاً في بابها؛ فإنها في مقابلة وحدة الصف، وتوحيد الكلمة أمر طارئ وقضية ثانوية يمكن معالجتها في إطار هذا الأصل؛ ذلك لأن الإسلام إنما جاء أصالة ليقيم جماعة، وينشئ أمة أفرادها متحابون ومتآخون ومتوادون؛ ليكونوا عبيداً لله، يخرجون من عبادة الهوى، وعبادة العبيد إلى عبادة الله وحده.
والإسلام كما أنه دعا إلى كلمة التوحيد فإنه كذلك دعا إلى توحيد الكلمة، ولا تتحقق كلمة التوحيد على أكمل وجهها إلا بتوحيد الكلمة، فالأمران متلازمان لا ينفكان عن بعضهما.
وهذا ما جاءت النصوص القرآنية والسنية تؤكده، ومن ذلك: قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)([1])، و قوله تعالى: (وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)([2]).
بل الله سبحانه وتعالى سمَّى الإيمان وِحْدَة وسمَّى التفرقة كفراً فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم)([3]). فالله سبحانه هنا يحذر المؤمنين قائلاً لهم: إن تطيعوا فريقاً من الذين أتوا الكتاب يردّوكم بعد وحدتكم متفرقين، ولذا جاء بعد ذلك الاستفهام الإنكاري: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) فيكون المعنى: وكيف تتفرقون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله([4]).
و يؤيد هذا التأويل ويؤكده سبب نزول هاتين الآيتين والآيات التي قبلها وبعدها، والتي نزلت في شأن الأوس والخزرج عندما كادوا يقتتلون بسبب فتنة ومكر من عدو الله اليهودي شاس بن قيس عندما ذكّرهم بيوم بُعاث، إلا أن الله عصمهم من هذا الشر قبل وقوعه بإدراك الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووعظه إياهم وإصلاحه ذات بينهم([5]).
ويؤكد هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً سمَّى التفرقة كفراً عندما قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))([6]). وفي رواية أخرى: ((لا ترتدوا بعدي كفاراً))([7]).
و مثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))([8]).
و الله سبحانه وتعالى اعتبر التفرق والشقاق سلوكاً لمنهج الضالين والمنحرفين من الأمم التي سبقتنا، فقال محذراً لنا منه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات)([9])، وقال سبحانه: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون)([10]). انظر كيف سماهم مشركين بسبب كفرهم.(/1)
و مثلها قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونُصلهِ جهنم وساءت مصيراً)([11]).
و هذه المعاني جاءت تؤكدها السنة في أكثر من حديث، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))([12]).
و قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ...))([13]).
و قوله صلى الله عليه سلم: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم))([14]).
و قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة الجاهلية))([15]).
و قوله في رواية أخرى: ((... فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية))([16]).
و في رواية أخرى: (... إن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة([17]) الإسلام من عنقه))([18]).
وقوله صلي الله عليه وسلم: ((... عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة ([19]) الجنة فليلزم الجماعة))([20]).
و ليس معنى أن يتوحد الناس ويكونوا أمة واحدة، وجماعة واحدة، أن يكونوا في كل الشؤون على رأي واحد، ومذهب واحد، بل لا بد أن تتعدد مذاهبهم ووجهات نظرهم في بعض المسائل، وقد يكون البون في بعضها شاسعاً، ذلك لأن طبيعة البشر هكذا لا بد أن تتفاوت مداركهم ومعارفهم، وحدة أذهانهم في تصور القضايا، ثم الحكم عليها. فلو شاء الله لركَّب في جميع البشر عقلاً واحداً يفكر بطريقة واحدة، ومنهج واحد في جميع المسائل.
و هذا لا يعني أن الخلاف كله مشروع، بل منه ما هو مشروع ومنه ما هو مذموم.
فالخلاف المذموم هو الذي يؤدي إلى الخلاف والشقاق، والشحناء والبغضاء، والعداوة بين المسلمين فهذا بلا شك محظور، وقد جاءت الكثرة الكاثرة من النصوص تنهي عنه وتحذر منه. ومن ذلك:
قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)([21]).
وقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)([22]).
و الأدلة والنصوص الواردة في شأن هذا الموضوع يصعب حصرها.
والخلاف المذموم إنما يتصور وجوده في حالتين اثنتين هما:
الأولى:الخلاف المترتب على مسائل قطعية لا يجوز الاجتهاد فيها، وهذا بلا شك باطل مردود على صاحبه وقد جاءت النصوص تنهي عنه وتحذر منه.
الثانية: الخلاف والشقاق المترتب على مسائل يجوز فيها الاجتهاد. وهذا النوع من الاجتهاد ليس منهياً عنه ابتداء من حيث هو اجتهاد،لأن الاجتهاد في الأصل مشروع، وجاءت النصوص الشرعية دالة على جوازه والإذن به، وإنما المنهي عنه ما يترتب عليه من شقاق وفرقة وشتات وتباغض وتدابر.
و ما دام هذا النوع ليس منهياً عنه ابتداء من حيث هو اجتهاد فإنه لا بد أن يترتب عليه اختلاف في وجهات النظر بين المجتهدين، وإذا كان الاختلاف مترتباً لا محالة على هذا النوع من الاجتهاد، والشأن فيه أنه مشروع، فلا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن يكون ما يترتب عليه من تعدد وتنوع في الآراء مذموماً ممقوتاً؛ إذ (لا بد من ما ليس منه بد)، فلو نهانا الشارع عن الاختلاف في هذا النوع لكلفنا شططاً وعنتاً، والشريعة إنما جاءت لرفع الحرج والعنت والضيق لا الأمر به، ألم تسمع لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)([23]).
وقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)([24]).
والاجتهاد الذي يترتب عليه مثل هذا الاختلاف المشروع، إنما يقع في الأحكام الشرعية في موضعين اثنين:
الأول: في المسائل التي لم يرد نص بشأنها، بل سكت عنها الشارع وتركها ليتوصل المجتهدون إلى حكمها بواسطة أصول الشرع، وقواعده الكلية، متحرِّين المصلحة في ذلك.
الثاني: المسائل التي وردت بشأنها أدلة ظنية، سواء أكانت ظنية الثبوت، أو ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت والدلالة معاً، وهذه يتوصل إلى الحكم فيها عن طريق الموازنة بين هذه الأدلة سنداً ومتناً بواسطة قواعد تفسير النصوص، والتعارض والترجيح المعروفة وغيرها من القواعد المشابهة في علم أصول الفقه. وإنما يُمنع الاجتهاد في المسائل التي أدلتها قطعية الثبوت والدلالة معاً([25]) وهذه نادرة في أدلة الشرع. وإذا كان الاجتهاد جائزاً شرعاً في الموضوعين المذكورين آنفاً فإنه لا بد ــ إذا وقع ــ أن يترتب عليه اختلاف في وجهات النظر بين المجتهدين وأن تتعدد تبعاً لذلك مذاهبهم في المسألة الواحدة أو المسائل موضوع النظر.
وهذا التعدد والاختلاف ــ الذي بمثابة تنوع لا تضاد ــ ليس منهياً عنه شرعاً، بل رتب الشارع عليه الأجر والثواب للمصيب والمخطئ معاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))([26]).(/2)
و إذا كان هذا النوع ليس منهياً عنه، فإن الخلاف فيه كما تقدم لا يُعد مذموماً إلا إذا أدى إلى الشقاق والنزاع والتباغض والتدابر. ولهذا نجد أن مثل هذا الاختلاف قد وقع في جميع الحقب ابتداء من عهده صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا، وقد حفلت كتب أهل العلم بالكثير منه.
المبدأ الثاني: التعاون على المتفق عليه والعذر في المختلف فيه:
تقدم معنا في الفقرة الماضية أن الخلاف فيما يحتمل الخلاف ينبغي أن لا يفسد للود قضية، وأنه مشروع وليس بمذموم.
وما دام أن الأمر كذلك، فينبغي أن تدرك الجماعات هذا المبدأ، وأن تتسامح في مسائل الخلاف، وأن ترفع الملام فيها، وأن يعذر بعضها بعضاً، وأن تتعاون وتتوحد كلمتها حول قضايا الوفاق، وهي كثيرة والحمد لله. وهذا ما كان عليه الصالحون من أئمة وعلماء هذه الأمة.
وحتى يتحقق هذا المبدأ وتؤدي الجماعات العاملة في الساحة الدور المناط بها في تحقيق وحدة الصف وتوحيد الكلمة، أرى أنه لا بد من توفير ثلاثة شروط هي أساس في هذا الموضوع، وهي:
الشرط الأول: أن تري الجماعة نفسها أنها جماعة من المسلمين، تسعى لتوحيد صفوفهم، ولمِّ شملهم، وأنها ليست هي وحدها جماعة المسلمين كما تصرح بهذا بعض الجماعات، وكما يدل على ذلك تصرفات الأكثر، كما أنه لا بد من أن يكون هذا المبدأ عقيدة راسخة ثابتة عند كل جماعة.
وإنما كان هذا الشرط ضرورياً لأن كل جماعة إذا صرحت بأنها هي الجماعة الوحيدة ــ بالقول أو كانت تصرفاتها مع غيرها تدل على هذا الفهم ــ فإنه ستكون علاقتها مع غيرها من الجماعات ــ شاءت أم أبت ــ علاقة عداء وشحناء وبغضاء.
الشرط الثاني: أن تعترف بالجماعات الأخرى العاملة معها في الساحة مهما اختلفت معها، سواء كان ذلك الخلاف فكرياً في بعض المسائل والفروع، أم خلافاً تنظيمياً في بعض الوسائل والسبل المؤدية إلى المقصود.
الشرط الثالث: أن تجتمع هذه الجماعات وتتعاون، بل وتتعاضد في تحقيق القضايا المتفق عليها وهي كثيرة جداً لا حصر لها، وأن يعذر بعضها بعضاً في مسائل الخلاف مع إدارة النقاش والحوار العلمي حولها بالحسنى.
وليس معنى إدارة الحوار والنقاش حولها بالحسنى أن نجعلها محور نشاطنا بل ينظر إليها بحسب أهميتها وضرورتها الوقتية، فإن كانت مسألة ينبني عليها عمل الآن، أو يتوقف على حسمها موضوع ذو بال فيمكن مناقشتها في إطار ما ذكر من تعاون وتواد، بشرط أن يقوم بذلك أهل الذكر والاختصاص في كل مجال، من أهل العلم والفقه بالمسألة، أو المسائل موضوع النظر.
هذا هو المنهج الذي ــ في رأيي ــ ينبغي أن يتبع، لكن الناظر لحال أغلب الجماعات اليوم يرى أن أكثرها قد بَعُدَ عن هذا الفهم حتى أصبحت هذه الجماعات معاول هدم، بدلاً من أن تكون أدوات بناء وإصلاح. فمنها التي سلكت مسالك التكفير والتفسيق والتضليل للأفراد أو الجماعات أو الهيئات، ومنها التي ما لبثت بعد إنشائها أن سلكت مسلك ما يعرف في زماننا هذا (بالأحزاب العقائدية)؛ فنجدها تفسر وتحلل كل مجريات الأحداث من حولها بناء على مقولاتها العقدية حتى تحولت اجتهاداتها وبرامجها إلى عقائد يجب الإيمان بها، ويحرم التعامل مع سواها.
ومنها التي أقامت بنيانها من أول يوم على أسلوب المعارضة الغربي فتراها ضد كل حاكم وحكومة، بل ربما جعلت هذا من كمال التصور الإسلامي!! وليتها كانت ضده فيما فيه معصية فقط، بل تجدها ضده في كل شيء مع أن الله سبحانه وتعالى يحذرنا من سلوك مثل هذه المسالك حين يقول: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)([27]).
ألم تر أن الله سبحانه وتعالى أنصف قائل الحق حتى ولو كان كافراً؟ أليس هو القائل في شأن بلقيس عندما قالت: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)([28])؟ أليس هو القائل: (وكذلك يفعلون)([29]) تقريراً وتصديقاً لما قالت؟ مع أنها قالت هذه العبارة في حق سيدنا سليمان ومعلوم أن سيدنا سليمان لا كسائر الملوك بل كان الملك النبي عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وهناك نماذج ونماذج أخرى منتشرة في عالمنا الإسلامي من الجماعات التي لها مسالك ووسائل مشابهة لهذه، وبعضها أشد نكارة منها. ولكن المنهج الذي أراه محققاً لوحدة المسلمين وتجميع صفوفهم هو المنهج الذي يوحد ولا يفرق، والذي يجمع الناس على الحد الأدنى، ويبذل أصحابه قصارى جهدهم ووسعهم في تقريب شقة الخلاف ومعالجته، ولا يكون ذلك ولا يتم إلا بتعميق روح الإخاء والمحبة، والتسامح، والإعلاء من شأن الوحدة أولاً ثم بعد ذلك معالجة ما قد يوجد من تقصير أو خطأ في إطار هذا الحب والإخاء والوحدة.
ما أحوج الدعاة اليوم إلى الوقوف كثيراً أمام هذا الشعار الذي أصبح يتردد لمجرد الهتاف فقط من غير بذل جهد لتحقيقه في الواقع، وهو: "نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"([30]).(/3)
وخلاصة الأمر فإن المسلم عليه أن يسعى ما وسعه الجهد لتوحيد الصفوف وجمع الشمل، وأن يقوم بما تيسر له من ذلك، وأن يتقي الله ما استطاع.
فنحن الآن في عهد لعله لم يبلغ في البعد ذلك المبلغ الذي خاف منه حذيفة رضي الله عنه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل إذا أدركه وهو: عدم وجود الجماعة والإمام فلعلنا نحن الآن في عهد: الجماعةُ فيه موجودة ولكن بلا إمام. صحيح أن وجود الجماعة فيه شيء من العوج والدخن، ولكن هذا يوجب علينا السعي لإصلاح هذا العوج، وإزالة هذا الدخن لا العكس، وهذا يلزمنا أن نحافظ على هذه الجماعة من حيث هي جماعة، على أي كيفية ودرجة وجدناها، ثم بعد ذلك نسعى للرفع من شأنها حتى نرد الإمام والسلطان إليها وإلى الإسلام رداً جميلاً.
الموضوع الثاني
دواعي الاتفاق
الاتفاق والوحدة والإخاء بين الجماعات العاملة في الساحة الدعوية تفرضه وتمليه دواع كثيرة، منها الشرعية ومنها الواقعية، ويمكن تلخيص أهم هذه الدواعي فيما يلي:
أولاً: الدواعي الشرعية:
وأعني بالدواعي الشرعية هنا: ما ورد من أدلة شرعية توجب علي الأمة وعلمائها ودعاتها التوحد والتعاضد والتعاون علي البر والتقوي. ويمكن جمع هذه الدواعي في الآتي:
(1) الوجوب الشرعي للوحدة:
مما لا شك فيه أن التوحد والتعاون بين المسلمين أفراداً وجماعات واجب شرعي تمليه عليهم العقيدة قبل الشريعة؛ ذلك لأن التفرق أخو الكفر والتوحد أخو الإيمان. وقد ذكرنا ذلك بما لا حاجة لتكراره هنا عند تناولنا للمبدأ الأول من الموضوع الأول. وقد ذكرنا هناك نصوصاً من القرآن والسنة نؤكد هذا المعني وتجعله أصلاً أصيلاً وركناً ركيناً لا تتم وحدة المسلمين إلا به.
(2) مقتضى عقيدة الولاء والبراء:
ومما يحتم علي الدعاة أمر الوحدة بين جماعاتهم وتنظيماتهم المختلفة هذه العقيدة العظيمة (عقيدة الولاء والبراء) أو (المولاة والمعاداة) أو (الحب والبغض)، ذلك لأن الوحدة لا تكون إلا إذا والى المؤمن أخاه المؤمن بغض النظر عن فكره، أو مذهبه، أوجماعته، أو قبيلته، أو إقليمه الذي انحدر منه، يواليه ويحبه، ويبغض أعداء الله ويتبرأ منهم حيثما وجدوا، وأينما كانوا، ولقد تواترت النصوص القرآنية والسنية المؤيدة لهذا المعني ومن ذلك:
قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)([31]).
وحتى لا يتهاون المسلم في أمر الموالاة لإخوانه المسلمين، ويتشاغل عنها بما هو دونها، نبهه الله سبحانه وتعالى ولفت نظره إلى حال أهل الكفر وعلاقتهم مع بعضهم، وأنهم يتوالون ويتآخون ويتناصرون ضده، وأنه إذا لم يقابلهم بما يكافئ هذا الصنيع وهو موالاته لإخوانه، وموادته ومناصرته لهم تقع الفتنة في الأرض والفساد الكبير.
وذلك في قول الله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)([32]).
وهذا سمة مميزة وطبع مركوز في أعداء الله ورسوله، إنهم هكذا يتحالفون ويتآزرون ضد أولياء الله وحزبه في كل عصر وفي كل مصر. وهذا ما نشاهده اليوم فانظر إلى حالهم ثم انظر إلى حالنا وما نحن فيه من فرقة وشتات. وليتنا وقفنا عند هذا الحد بل أصبح بأسنا بيننا شديداً.
ثم إن الموالاة لأولياء الله وحزبه ليست هي وحدها المطلوبة، بل لا بد معها من معاداة أعداء الله، وقطع أية صلة ولاء بينهم وبين المسلم، ما دامت هذه صفتهم ــ أعني معاداة المسلمين ــ، اسمع معي إلى قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة... الآية)([33]).
وهذه الآية بالإضافة إلى وضوح معناها فإن سبب نزولها يزيد هذا المعنى إيضاحاً حيث نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أسرَّ لبعض مشركي مكة بنية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوهم.
إلا أنه لما بيَّن للنبي صلي الله عليه وسلم السبب الذي حمله على ذلك قال صلي الله عليه وسلم راداً علي عمر رضي الله عنه الذي طلب منه أن يأذن له في قتله: ((إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
ويكفي موالاة الأعداء جرماً أن الله اعتبرها منافية للإيمان ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه... الآية)([34]).
والآيات والأحاديث في هذا المعني كثيرة محفوظة.
ثانياً: الدواعي الواقعية:
وأعني بالدواعي الواقعية هنا: الظروف المحيطة بالأمة والتي جعلت عقد وحدتها ينفرط وبنيانه يتصدع ويمكن تلخيص أهم هذه الدواعي في الآتي:
الأول: الأعداء:(/4)
لا شك أن من أقوي الدواعي على تكاتف المسلمين عموماً والدعاة والعلماء، خصوصاً ما تعانيه الأمة اليوم من شتات وتمزق، واختلاف وشقاق، وبعد عن منهج الله في كل الشئون.
هذا بالإضافة إلي تداعي الأمم عليهم كتداعي الأكلة إلي قصعتها، وتكالب الطامعين على أوطانهم وثرواتهم، وحقدهم عليهم، وعلي دينهم، وسعيهم الحثيث لضربهم، في عقيدتهم وصرفهم عنها.
وعلي رأس هؤلاء الذين يؤججون ــ قديماً وحديثاً ــ نيران الخلاف ويذكونها بين المسلمين ابتداءً من يهود ومنافقين قديماً، وصليبين ومستعمرين ويهود حديثاً، وأكبر من أسهم في هذا بقسط وافر، الاستعمار الغربي الحديث الذي أجَّج نيران الفرقة والشتات والصراع بين القبائل والطوائف والجماعات في القطر الواحد بل ربما أنشأ جماعات بوعي منها أو بدون وعي لأجل هذا الغرض؛ وذلك كله إعمالاً لقاعدته الشهيرة: (فرق تسد)،وذلك لم يتم له على أكمل وجه إلا بعد أن قطع أوصال ما تبقى من جسم الخلافة، هذا بالإضافة إلى تنحيته الكاملة لما بقى من أحكام الإسلام في شئون الحياة العامة من واقع الناس.
الثاني: التعصب للجماعات والهيئات:
وأعني بها الجماعات والهيئات التي نشأت لأهداف وأغراض جزئية محدودة تضيق أو تتسع، كأن تنشأ خصيصاً لخدمة أفرادها مثلاً، أو التمكين لفكرها دون غيره، أو لمذهبها العقدي، أو السياسي الذي يوجد ما يخالفه، وبالتالي عدم التقائها مع الآخرين، بل المحاربة لهم، ومحاولة القضاء عليهم وعلى فكرهم. فتجدها تنظر إلى غيرها من الجماعات والهيئات والأفراد نظرة احتقار، تتتبع عيوبها، وتسعى لكشف عوراتها، وتفخيم وتضخيم أخطائها، وإفشال مجهوداتها وخططها، والطعن في زعمائها وقادتها، ورميهم بكل منقصة وقد يصل أحياناً إلى اتهامهم بالمروق والخروج.
وتبعاً لذلك تنظر لنفسها بأنها على الحق الصراح الذي دونه الكفر البواح، والصواب الذي دونه الخطأ الماحق، وأنها الطائفة المنصورة الموعودة بالتمكين والنصرة، والمعصومة من الخطأ فنجدها تبرر لنفسها كل ما تفعل، وتحكم على جميع تصرفاتها بالشرعية والجواز حتى ولو كانت خطأً بيناً حتى يقودها هذا لأن تجعل من الجماعة غاية في ذاتها، لا يمكن تجاوزها لخير غيرها من الجماعات. وقد يتعدى الأمر أكثر من هذا ــ عند بعضها ــ حتى ترى نفسها هي جماعة المسلمين، وإمامها هو إمامهم، ومن كان على خلاف نهجها فهو كافر مشرك متبع للطاغوت والهوى، وإن كل جماعة سوى جماعتهم جماعة جاهلية... إلخ.
وقد تنشأ جماعة لغرض حميد طيب، ولكن تنْزلق وتتعثر في منتصف الطريق، فتقع في مثل هذه المحاذير، وقد تنشأ بقصد نشر فكر أو مذهب تراه صحيحاً، ولكنها تقضي جل وقتها إن لم يكن كله في النقاش والجدال والمراء الفكري مع المخالفين حتى تترتب علاقاتها معهم على هذا النحو. وهناك نماذج ونماذج ظاهرة للعيان تملأ الساحة الدعوية الآن.
كل هذا يحدث بين الجماعات الآن مع أن الناظر المنصف إذا بحث نقاط الخلاف ونظر فيها نظرة فاحصة محايدة لا يجد خلافاً جوهرياً، بل يجد ما يجمع أكثر مما يشتت للجهد ويبعثر، وما يوحد أكثر مما يفرِّق، ولذلك كان الصالحون من المؤسسين للجماعات المعاصرة عندما رأوا أن ما اجتمع في الإسلام من كمال وشمول تفرَّق على هذه الجماعات رأوا ــ وهم محقون ــ أن كل جماعة يمكن أن تكون مكمِّلة وخادمة للأخرى من خلال ميدانها الذي تعمل فيه، وبالتالي تعتبر محققه لجزء من أهدافها وبرامجها.
ومما لا شك فيه أن هذا التعصب الممقوت من أقوي الدواعي الواقعية على ضرورة الاتفاق والوحدة والتلاقي بين العاملين في حقل الدعوة.
الموضوع الثالث
الوسائل المعينة علي الاتفاق والوحدة
لا شك أن الوسائل المعينة على وحدة الصف ونبذ التفرقة والشقاق كثيرة، وقد ذكرنا طرفاً منها فيما سبق، وفي هذه الصفحات المحدودة لا يمكننا حصرها وإحصاؤها، ولكن يمكننا الإشارة إلي أهمها في هذه الأسطر من خلال وسيلتين:
الوسيلة الأولى: ضرورة الالتزام بآداب الاختلاف:
هناك آداب لا بد من مراعاتها بين المختلفين والالتزام بها الآن ــ إضافة لما ذكر ــ وذلك قبل أن يخوض الخائض في مسائل الخلاف والحوار حولها أجملها فيما يلي:
أولاً: لا بد من التأكيد على أن المسلمين أمة واحدة يجمعهم دين واحد ورسول واحد وكتاب واحد، وقبلة واحدة، وأنهم مهما اختلفوا ينبغي أن يعتصموا بهذه الوحدة الجامعة وأن يجعلوا منها صخرة تتكسر عندها كل دواعي الفرقة والشتات ولقد سبق مزيد تفصيل لهذا الموضوع في أكثر من موضع.
ثانياً: لا بد من الإعلان الصريح والقوى عن حرية الرأي والفكر، وأن الإسلام أعلى من شأنها، والإعلان تبعاً لذلك بأن الخلاف في الرأي ــ فيما يحتمل الخلاف ــ ظاهرة صحية. وأن الله سبحانه وتعالى تعبَّدنا بالاجتهاد وبلوغ غاية الوسع فيه للوصول إلى الحق في مثل هذه المسائل.(/5)
ثالثاً: لا بد من الاعتراف بالواقع الحالي للمسلمين وعدم القفز فوقه، أو الهروب منه وهذا يستلزم الاعتراف بتعدد الجماعات، والأحزاب والمذاهب، والطوائف الموجودة الآن أو التي ستوجد لاحقاً والتعامل والتعاون معها للوصول إلى الغايات المبتغاة. وهذا يلزم منه الصبر على الأدواء الموجودة والتماس الأدوية المناسبة لها ومعالجتها بها في تدرج، ومرحلية، وسعة صدر، مع البعد كل البعد عن طي المراحل دعك من حرقها، كما يقولون،كل ذلك مع السعي الحثيث لتوحيد الكلمة بالحسنى.
رابعاً: الحكم على المخالف في الرأي بمقتضى مذهبه هو لا بمقتضى مذهبك أنت، خاصة في المسائل التي يلزم من القول بها على مذهبك كفرٌ أو معصية غليظة، أو لعن يلحق بالفاعل، بينما لا يلزم شيء من ذلك بناء على مقتضى مذهبه هو.
ولهذا أمثله عديدة من مسائل الخلاف الموروثة منها علي سبيل المثال: ما لو كان مخالفك يرى جواز أو وجوب الاستثناء في الإيمان([35]) بينما أنت ترى حرمته أو كفر قائله؛ فعلى مقتضى مذهبك أنت فهو إما واقع في معصية غليظة، أو مقترف لكفر، أما على مذهبه هو فلا يلزم شيء من ذلك. ومثله أيضاً ما لو كان مخالفك يرى صحة النكاح من غير ولي، وأنت ترى الولي ركناً في النكاح، فعلى مقتضى مذهبك النكاح باطل يُفسح بينما على مقتضى مذهبه هو صحيح نافذ، ولذلك عند حكمك عليه لا يحل لك أن تحكم عليه بأنه يعاشر من لا تحل له، أو تحكم عليه بأنه واقع في الإثم والمعصية واللعن وما شاكل ذلك. بل لولا اعتبار هذا الأصل لما صحت عبادة أو معاملة قط؛ ذلك لأن ما يرجحه إمام في شأن عبادة أو معاملة معينة يكون مرجوحاً عند غيره وحينئذ لا تتحقق صحة عبادة أو معاملة، وإليك هذا المثال الذي يدل دلالة واضحة على ما قلنا وهو متعلق بعبادة واحدة فقط.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)([36]).
يقول الشيخ الدكتور القرضاوي تعليقاً على هذه الآية: "كم في هذه الآية من آراء وأقوال للفقهاء اختلفت باختلاف أفهامهم، وتعدد تفسيراتهم. وجلها يتعلق بأمور لغوية.
هل الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة مغسولة وممسوحة فرض أم لا؟ وهل الغاية في قوله: (إلى المرافق)، وقوله: إلى (الكعبين) داخلة أو لا؟ وهل الباء في قوله: (برؤوسكم) تفيد الإلصاق، أو التبعيض، أو هي زائدة؟ وما تأويل قراءة: (وأرجلكم) بالجر.
والمراد بقوله تعالى: (أو لامستم النساء) أهو لمس البشرة بالبشرة أم كناية عن جماعه كما يقول ابن عباس؟.
وما المراد بالصعيد في التيمم؟ أهو التراب؟ أم كل ما كان من جنس الأرض؟
وما المراد باليد في قوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) أهي مجرد الكفين؟ أم ما ذكر وهو ما يصل إلى المرفقين؟
وما معنى قوله: (فلم تجدوا ماء)؟ أيدخل فيه فقدان الماء حكماً، وإن وجد الماء حقيقة؟ كما إذا كان محتاجاً إليه لشرب أو عجن أو طبخ؟
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي أخذ بكل منها إمام من الأئمة"([37]).
فتأمل معي كيف إن هذه العبادة الواحدة، والتي هي مفتاح أكثر العبادات تعددت مذاهب العلماء فيها تبعاً لاختلافهم في الدلالات اللغوية لبعض العبارات، مع أن النص من حيث الثبوت قطعي إجماعاً، ولا شك أننا إذا لم نراعِ مذهب كل إمام وما أداه إليه اجتهاده لحكمنا على وضوئه أو تيممه بالبطلان، ولحكمنا تبعاً لذلك على وضوئنا أو تيممنا نحن بالبطلان كذاك؛ لأن ما تراه أنت فيه وفي وضوئه أو تيممه يراه هو فيك وفي وضوئك أو تيممك، وليس أحد الحكمين بأولى من الآخر، ولذلك كان علماؤنا الأجلاء رحمهم الله يجادلون في مسائل الخلاف بالحسنى للوصول إلى الصواب، ولا يخطِّئون بل ولا ينكرون تبعاً لقاعدتهم المعروفة (لا إنكار في مسائل الخلاف)([38]).
ولبيان هذا الموضوع يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لطائفة من أسباب الاختلاف بين العلماء: "... وإن كان الترك ــ أي ترك الدليل ــ يكون لبعض هذه الأسباب فإن جاء حديث صحيح فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن نعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب لكونه حلَّل الحرام، أو حرَّم الحلال أو حكم بغير ما أنزل الله"([39]).
ثم بعد ذلك ذكر نماذج من العلماء ذهبوا مذاهب وتمسكوا بآراء مخالفة لبعض الأدلة بناء على الأسباب المتقدمة فقال: "... فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد لما كان لهم من العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أُخر"([40]).(/6)
وقال رحمه الله في موضع آخر بعد أن ذكر كلاماً على نحو ما ذكر قال: ".. وهذا باب واسع فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأئمة لم تبلغهم أدلة التحريم فاستحلوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى رأوا رجحانها عليها مجتهدين في ذلك الترجيح بحسب عقلهم وعلمهم، فإن التحريم له أحكام من التأثيم، والذم والعقوبة، والفسق وغير ذلك لكن لها شروط وموانع. فقد يكون التحريم ثابتاً، وهذه الأحكام منتفية لفوات شرطها، أو وجود مانعها، أو يكون التحريم منتفياً في حق ذلك الشخص مع ثبوته في حق غيره..."([41]).
وما ذكرناه من قاعدة، وما ذكر الشيخ رحمه الله من فروع يشهد له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر))([42]).
وبناء على هذا الحديث فإن من اجتهد في مسألة فخالف الحق فيها فهو مخطئ معذور مأجور، وهذا لا يمنع أن يكون هذا الفعل الذي فعله هذا المجتهد المتأوِّل بعينه حراماً، لكن لا يترتب أثر التحريم عليه لعفو الله عنه فإنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها([43]).
وخلاصة القول أن الاختلاف لم يمنعنا أن نعتقد تحريم ما ورد تحريمه في الدليل محتجين بهذا الدليل، كما أن مجيء هذا الدليل لا يمنعنا أن نعتقد أن هذا المتأوِّل معذور في ذلك لا يلحقه الوعيد([44]).
وبناء على هذه القاعدة فرَّع الشيخ رحمه الله فروعاً كثيرة بثها ونثرها كالدرر في ثنايا كتابه مع التعليقات التعليلية الدقيقة عليها وإليك نماذج من هذه النقول:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم))([45]).
ومع ذلك من الفقهاء من يكره هذا الفعل كراهة تنزيه([46]) لا تحريم ومعلوم أن كراهة التنزيه لا يترتب على فعلها إثم ولا عقاب.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))([47]).
فهذا الحديث يجب العمل به في تحريم قتال المؤمنين بغير حق، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا في النار لأن لهم عذراً وتأويلاً في القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله([48]).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلِّل والمحلًّل له))([49]). فهذا حديث صحيح روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن أصحابه رضى الله عنهم، ولكن مع ذلك هنالك طائفة من العلماء صححوا هذا النكاح مطلقاً ومنهم من صححه إذا لم يشترط في العقد، ولهم في ذلك أعذار معروفة، فنحن نعلم أن مثل هؤلاء لا يصيبه هذا الوعيد لو أنه فعل التحليل معتقداً حله على ذلك الوجه، ولا يمنعنا ذلك أن نعلم أن التحليل سبب لهذا الوعيد وإن تخلف في حق بعض الأشخاص لفوات شرط، أو لوجود مانع([50]).
ومن ذلك ما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "ثلاثة (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)"، قال: "قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات"، فقال أبو ذر: "خسروا وخابوا من هم يا رسول الله؟"؛ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"([51]).
مع أن طائفة من الفقهاء يقولون الجرَّ والإسبال للخيلاء مكروه غير محرم([52]).
وخلاصة الأمر أن الذم لا يلحق المجتهد في مثل هذه المسائل، ما دام أنها قابلة للاجتهاد، وأنه معذور فيها. يقال كل هذا مع أن الجميع متفقون على أن محلل الحرام أعظم إثماً من فاعله ولكن مع ذلك: المعذور معذور([53]) ولهذا لا يعتبر محلاً للحرام، وإن شابه مُحّل الحرام في الصورة؛ وذلك لأنه عندما حلله لم يحلله مع علمه بحرمته بل لم يثبت عنده التحريم كما مر.
وهذا باب عظيم يغفل عنه كثير من الناس الآن، حيث يحكمون على مخالفيهم بالتضليل والتفسيق، بل والتكفير أحياناً، ويرتبون في حقهم الوعيد بسبب خلافهم معهم في بعض المسائل، أو بسبب فعلهم لبعض المحظورات التي لا يرون أن حكمها كذلك.
وإذا كان الخلاف في مثل هذه المسائل متسامحاً فيه مع أهميتها؛ فمن باب أولى يكون التسامح فيما هو دونها في الأهمية، كالاختلاف في ترتيب الأوليات بين الجماعات، والخلافات الفكرية والتنظيمية بينها.. إلخ.
خامساً: إدارة الحوار والنقاش العلمي المنظم حول هذه الموضوعات من قبل الباحثين وأهل الاختصاص، مع وضع الضوابط التي تنظم هذا الحوار والنقاش بين الأطراف المتحاورة، مع الاستهداء في ذلك بالقواعد والأسس التي كان يستهدي بها العلماء الأوائل، كالتي صيغت ضمن: (علم البحث والمناظرة) وغيرها، مما يفيدنا في واقعنا المعاصر مع التنبيه على إنها مسائل علمية، والشأن فيها تركها لأهل الاختصاص ولا شأن للعامة فيها.
الوسيلة الثانية: ضرورة الالتزام بآداب الحوار:
سوف أشير هنا مجرد إشارات إلى قواعد يمكن أن تعيننا في هذا المجال في واقعنا المعاصر، وهي في جملتها مستخلصة من روح علم البحث والمناظرة المشار إليه قبل قليل لا من نصوصه.(/7)
أولاً: استعداد الطرفين للتخلي عن الرأي السابق متى ما ظهر أن الحق على خلافه، مع عدم استباق النتائج بتخطئة المخالف ابتداء وقبل نصب الأدلة والبراهين الدالة على ذلك، شعارهم في ذلك قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)([54]).
يقول الفخر الرازي رحمه الله تعليقاً على هذه الآيات: "هذا إرشاد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في المناظرات الجارية في العلوم وغيرها لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت مخطئ يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ، والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع للحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب، وذلك لا يوجب نقصاً في المنزلة؛ لأنه أوهم بأنه في قوله شاك، ويدل عليه قوله:(وإنا أو إياكم) مع إنه لاشك في إنه هو الهادي وهو المهتدي، وهم الضالون والمضلون.
ثم قال تعالى: (قل لا تُسأَلون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: (ولا نُسأل عما تعملون) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع في الفهم. وقوله: (ولا تُسألون) (ولا نُسأل) زيادة حث على النظر، وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذاً بجرمه فإذا احترس نجا ولو كان البريءُ يؤاخذ بالجرم لما كَفَى النظر.
ثم قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)([55]) أكد ما يوجب النظر والتفكير، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب"([56]).
ثانياً: التقيُّد بالقول الحسن المهذب بعيداً عن الطعن والتجريح والسب واللعن ذلك لأن اللعن والسب ونحوهما ليس من خصال المؤمن الحق، اسمع معي إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))([57]). كما أنه يلزم هنا: البعد عن الطعن في الأشخاص والهيئات ومهاتراتهم، وتحميل أقوالهم وأفعالهم ما لم تحتمله، مع مناقشة ظاهر أقوالهم وآرائهم دون اللجوء إلي لوازمها وتأويلاتها البعيدة، بل الأولى حملها المحمل الحسن ما أمكن ذلك. ثم اسمع معي إلى هذه التوجيهات الربانية القوية الدلالة في هذا الموضوع: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)([58]).
وقوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين)([59])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث))([60])، ويكون الحذر أشد عندما يجتمع اتباع الظن مع اتباع الهوى كالذي ذم الله به المشركين في قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)([61])، وقوله تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)([62]).
ومن أخطر الأدواء في هذا الجانب اتهام النيات والمقاصد والحكم على سرائر الناس، ويزداد الأمر سوءً عندما يرتب المرء حكماً بناءً على هذه التهم، ولعل نموذجاً سنياً واحداً في هذا المقام يكفي كدلالة على بشاعة وشناعة مثل هذا الصنيع.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله. وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: ((يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!))، قال قلت: "يا رسول الله إنما كان متعوذاً". قال: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت إني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم([63]).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أشققت قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))([64]).
والآداب المتعلقة بهذا الموضوع يصعب حصرها([65]).
ثالثاً: الحوار بالتي هي أحسن: إذا كان الأدب الإسلامي مع المخالف يمنعك أن تتهم نيته، ويمنعك من الطعن فيه والتنقيص من شأنه؛ فإن الشارع لم يكتف بهذا، بل قرنه بأدب آخر وهو الجدال بالتي هي أحسن، ولم يقل بالحسنى، ذلك لأن لأفعل التفضيل هنا فائدة عظيمة فما من زيادة في المبنى إلا ولها زيادة في المعنى، وخاصة في الخطاب القرآني، فالله سبحانه وتعالى هنا ينهانا من مجادلة أهل الكتاب إذا لم نستطع مجادلتهم بأحسن الأساليب، حيث يقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)([66]). ومما يقوي ويعضد هذا إنه سبحانه عندما قرن الموعظة مع الجدال أمرنا أن نعظ بالحسنى أما الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن اسمع معي إلى قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)([67]).
و المعنى: أنه إذا كان هناك طريقان للجدال إحداهما حسنة والأخرى أحسن منها؛ فالأفضل للمجادل أن يجادل بالتي هي أحسن، وتأمل معي هل ثمة طريق آخر مشروع غير هذين؟([68]).(/8)
رابعاً: البعد عن المراء والجدل المذموم: وهذا نوعٌ من الجدال حذر منه القرآن الكريم، والسُنّة المطهرة، وهو المراء المذموم والشدة في الخصومة والتي عبر عنها القرآن باللَّدد وهو المراء الذي يريد منه صاحبه الغلبة على محاوره من دون التزام بأسلوب صحيح، أو منطق مقبول أو خضوع لميزانٍ حاكم.
وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه أهل الشرك والكفر، وذمهم القرآن بسببه كما في قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق)([69]).
وكما في قوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)([70])، وقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُداً)([71])، وقال في شأن مشركي قريش: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)([72])، وذم أصنافاً منهم فقال: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)([73]).
وهذا الأسلوب حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث ومن ذلك ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)([74])([75]).
وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم([76])"([77]).
وأكره المراء هو ما يكون في أمور الشرع، وأشده كراهة ما يكون حول القرآن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما قال: هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف على وجهه الغضب فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب))([78]).
وفي رواية أخرى لعبد الله بن عمرو: ((أنهم كانوا يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية))([79])، وفي رواية أخرى عنه أيضاً ورد فيها أنه صلى الله عليه وسلم غضب حتى احمّر وجهه يرميهم بالتراب وهو يقول: ((مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض أن القرآن لم ينزل بكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه))([80]).
فما أحوج الدعاة اليوم على اختلاف مشاربهم، ومناهجهم، وجماعاتهم إلى الالتزام بهذه الآداب الجليلة الرفيعة([81]).
خامساً: قبول النتائج التي توصل إليها الحوار دون تعصب للرأي السابق إن كانت المسألة مما يتأتى فيها الترجيح.
سادساً: إذا لم يتوصل الطرفان لاتفاق فيظل الحب والمودة والإخاء بينهم على أكمل وجه ولا يذهبه الخلاف في مثل هذه القضايا الفرعية. و قديماً قيل:(اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)
و الخلاصة: أنه لا بد من المحافظة على ما ذكر من ضوابط وأسس ووسائل للوحدة مع العض عليها بالنواجذ، ثم الإعلاء من شأن ما تقدم من آداب للخلاف والحوار إذا أُريد لسفينة الإسلام أن تعبر إلى شاطئ الأمان.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قائمة المراجع والمصادر
(1) القرآن الكريم.
(2) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية، لجلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ،1983م.
(3) التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي، قدم له الشيخ : خليل محي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1410هـ، 1995م.
(3) رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مؤسسة مكة للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة، 1396هـ، 1976م.
(4) سنن ابن ماجة، عبد الله بن محمد يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار الحديث بالقاهرة، أخرى: دار إحياء التراث العربي 1395هـ، 1975م.
(5) سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الجيل، ببيروت 1408هـ، 1988م.
(6) سنن الترمذي، للإمام بن عيسى الترمذي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1408هـ،1988م.
(7) سنن النسائي، للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي، وعليه شرح الحافظ السيوطي وحاشية السندي، دار الحديث بالقاهرة، 1407هـ،1987م.
(8) شرح العقيدة الطحاوية، لمحمد بن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1391هـ، 1971م.
(9) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفريق المذموم، للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1411هـ،1991م.
(10) صحيح مسلم، للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج النيسابوري، مطبوع مع شرح الإمام النووي عليه، دار المعرفة، ببيروت، 1401هـ،1981م.(/9)
(11) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، ومطبوع معه متن صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، وتصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ،1989م.
(12) لباب النقول في أسباب النزول، للحافظ جلال الدين السيوطي، مطبوع بهامش القرآن الكريم،مكتبة ميرزا بمكة المكرمة.
(13) المسند، للإمام أحمد بن حنبل، وبهامشه كنز العمال، المكتب الإسلامي، بيروت.
(14) مهذب شرح العقيدة الطحاوية، إعداد صالح بن عبد الرحمن، مراجعة الدكتور:على محمد ناصر فقيه، والدكتور أحمد بن عطية الغامدي، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(15) النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي، دار الفكر للطابعة والنشر، الطبعة الثانية، 1399هـ، 1979م.
([1]) سورة الأنبياء: 92.
([2]) سورة المؤمنون:52.
([3]) سورة آل عمران: 100ــ 101.
([4]) انظر الصحوة الاسلامية للقرضاوي ص22، ولقد مال إلى هذا التأويل قبله الإمام حسن البنا عليه رحمة الله.
([5]) انظر هذه القصة في لباب النقول للسيوطي ص 84، وقال بعد ذكرها رواه ابن اسحاق وأبو الشيخ.
([6]) رواه البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارا)) 13/32 ، حديث رقم 7078، ومسلم في الفتن في باب: ((إذا تواجه المسلمان بسيفهما)) 18/11.
([7]) رواه البخاري في الباب نفسه 13/32 حديث رقم 7079.
([8]) رواه البخاري في الإيمان باب: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) 11/115، حديث رقم 31، ومسلم في الفتن باب: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) 10/339.
([9]) سورة آل عمران: 105.
([10]) سورة الروم: 31،32
([11]) سورة النساء: 115
([12]) رواه مسلم في البر والصلة باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 10/17.
([13]) رواه البخاري في الأدب باب: تعاون المسلمين بعضهم بعضاً، 10/551 حديث رقم 6026 ومسلم في البر والصلة باب: تراحم المسلمين..، 10/17.
([14]) رواه أبو داود في الديات باب: إيقاد المسلم بالكافر، 4/179، حديث رقم 2683.
([15]) رواه مسلم في الإمارة باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12/139.
([16]) رواه مسلم في الباب نفسه 12/240.
([17]) الربقة هنا: هي ما يشد به المسلم نفسه من عرى الاسلام، أي: حدوده وأحكامه، وأوامره ونواهيه. وهي في الأصل عروة تجعل في حبل تجعل في رقبة البهيمة أو يدها تمسكها عن الحركة (انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 2/190).
([18]) رواه أحمد في المسند 4/202، وقال صاحب مهذب العقيدة الطحاوية ص 303 سنده صحيح.
([19]) بحبوحة الجنة: أوسطها وأرجحها.
([20]) رواه الترمذي في الفتن باب: ما جاء في لزوم الجماعة، 4/404 و405 حديث رقم 2165 والنسائي في عشرة النساء.
([21]) سورة الأنفال: 46.
([22]) سورة الأنعام: 159.
([23]) سورة الحج: 78.
([24]) سورة البقرة: 185.
([25]) الدليل القطعي الثبوت: هو القرآن الكريم لثبوته ثبوتاً قطعياً عن طريق التواتر، ومثله الحديث المتواتر الذي يرويه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، والدليل الظني الثبوت: هو السنة التي رويت عن طريق الآحاد. أما الدليل القطعي الدلالة: فهو الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً كقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [سورة النور:2]. فقوله: (مائة جلدة) قطعي في دلالته على عدد الجلد حيث حدد بمائة، والمائة لا تحتمل تسعين ولا ثمانين ولا غيرها... أما الدليل الظني الدلالة فعكسه فهو يحتمل أكثر من معنى ولكنه راجح في أحد هذه المعاني دون الأخرى، كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [سورة البقرة:288]، فالقرء الوارد في هذه الآية يطلقه بعض علماء اللغة على الطهر، وبعضهم على الحيض، وبناء على هذا اختلف علماء الشرع، فمنهم من حمله على هذا ومنهم من حمله على ذاك. فمثل هذا لا يمكن أن تكون دلالته لأحد الطرفين قطعية ما دام أنه يحمل أكثر من معنى. هذا والدلالة الظنية تكون في القرآن كما تكون في السنة. انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتب أصول الفقه، فقد بسطت الكلام حول هذا الموضوع وفصّلته.
([26]) رواه البخاري في الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد وأصاب أو أخطأ 13/393، حديث رقم 7352، ومسلم في الأقضية، باب بيان أمر الحاكم إذا اجتهد وأصاب أو أخطأ 7/269.
([27]) سورة المائدة: 8.
([28]) سورة النمل: 34.
([29]) سورة النمل: 34.
([30]) قال الشيخ الدكتور القرضاوي في كتابه: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ص159:إن أول من أطلق هذا الشعار هو المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا. ثم استحسنه الإمام الشهيد حسن البنا فجعله شعاراً له ولإخوانه ولأتباعه يحضهم به على الالتقاء والتعاون مع الآخرين.
([31]) سورة التوبة: 71.(/10)
([32]) سورة الأنفال: 73.
([33]) سورة الممتحنة: 1.
([34]) سورة المجادلة: 22.
([35]) الاستثناء في الايمان هو: قول الشخص أنا مؤمن إن شاء الله، وينسب القول به للشافعية انظر تفاصيل هذا الموضوع في مهذب شرح العقيدة الطحاوية ص 271ــ273.
([36]) سورة المائدة: 7.
([37]) الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 63 و64.
([38]) انظر هذه القاعدة في الأشباه والنظائر للسيوطي ص 58.
([39]) رفع الملام ص 48 و49.
([40]) المصدر نفسه ص 78.
([41]) المصدر نفسه ص 85 ــ 86.
([42]) رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 13/393، حديث رقم 7352، ومسلم في الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 7/269.
([43]) انظر رفع الملام ص 68.
([44]) انظر المصدر نفسه ص 81 ــ 82.
([45]) رواه البخاري في الأشربة، باب آنية الفضة 10/118، حديث رقم 5634، ومسلم في اللباس، باب تحريم استعمال الذهب والفضة 8/337.
([46]) انظر رفع الملام ص 80.
([47]) متفق عليه من حديث أبي بكرة وتقدم تخريجه ص 140.
([48]) انظر رفع الملام ص 80 و81.
([49]) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: لعن رسول الله... في كتاب النكاح باب ما جاء في المحلل والمحلل له 3/428 و429 حديث رقم 1130: وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي في الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثاًو ما فيه من التغليظ 6/149، ورواه أبو داود من حديث علي في النكاح، باب: التحليل 2/234 حديث رقم 2076، ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس في النكاح، باب: المحلل والمحلل له 1/622 حديث رقم 1934، ومن حديث علي 1/622 حديث رقم 1935، ومن حديث عقبة بن عامر 1/623 حديث رقم 1936.
([50]) رفع الملام ص 82 ــ 83.
([51]) رواه مسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم إسبال الأزار 1/449و450، ورواه أبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
([52]) انظر رفع الملام ص 103.
([53]) انظر المصدر نفسه ص 106.
([54]) سورة سبأ: 24ــ 26.
(55) سورة سبأ: 26.
([56]) التفسير الكبير 25/257ــ259.
([57]) رواه أحمد في مسنده 5/322 حديث رقم 3839.
([58]) سورة الحجرات: 12.
([59]) سورة النور: 12.
([60]) رواه البخاري في الأدب، باب: ما نهي عن التحاسد والتدابر 10/589 حديث رقم 6064، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم والتجسس 19/400.
([61]) سورة النجم: 23.
([62]) سورة القصص: 50.
([63]) رواه البخاري في المغازي، باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة... 7/658 حديث رقم 4269، ورواه مسلم في الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله 1/437.
([64]) رواه مسلم في الكتاب والباب نفسيهما 1/437.
([65]) لمزيد من التوسع في هذا الأدب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 223ــ 228.
([66]) سورة العنكبوت: 46.
([67]) سورة النحل: 125.
([68]) لمزيد من التوسع في هذا الأدب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 245ــ253.
([69]) سورة الحج: 8ــ9.
([70]) سورة الكهف: 56.
([71]) سورة مريم: 97.
([72]) سورة الزخرف: 58.
([73]) سورة البقرة: 204.
([74]) سورة الزخرف: 58.
([75]) رواه الترمذي في التفسير، باب: سورة الزخرف 5/353 حديث رقم 3253، وقال: حسن صحيح.
([76]) الألد: الشديد الخصومة، والخصم: الحازق بالخصومة.
([77]) رواه مسلم في كتاب العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن 10/102. ورواه النسائي في آداب القضاء، باب: الألد الخصم 8/247ــ 248.
([78]) رواه مسلم في كتاب العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن 10/100و101.
([79]) رواه أحمد في المسند 11/72 حديث رقم 6846، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر.
([80]) رواه أحمد في المسند 10/174و175 حديث رقم 6702، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح.
([81]) لمزيد من التوسع في دراسة هذه الآداب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 239ــ244.
* أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القرآن الكريم وعميد المعهد العالي لعلوم الزكاة(/11)
الاتفاق والافتراق الأقليات المسلمة في أوروبا نموذجاً
الشيخ. عماد بكري أبو حراز*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فيا أيها الإخوة الفضلاء،
مما لا يخفى عليكم أن الوحدة الإسلامية هدف ينشده ويتمناه، بل يسعى لتحقيقه كل مسلم غيور؛ لأنه من الأسباب التي إذا استوفيناها جلبت النصر.
فالله سبحانه وتعالى قد أمر بالوحدة في غير ما آية في كتابه العزيز،قال سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) [سورة آل عمران: 103].
وحذر الله من الفُرقة والشتات التي هي عين الفشل فقال: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) [سورة الأنفال: 46].
بالرغم من أمر الله بالوحدة والاعتصام ونهيه عن الفُرقَةِ والتنازع والشتات،إلا أن الأمة في واقعها تعيش الفرقة والشتات والتنازع والاختلاف بجميع الصور، فباستقراء ما كتبه العلماء والدعاة في هذا الصدد، وخاصة العلامة الدكتور عمر سليمان الأشقر نجد أن هذه الفُرقة التي تعددت أشكالها يمكن إرجاعها إلى ثلاثة أنواع:
(1) الفُرقة العقائدية. (2) الفُرقة التشريعية. (3) الفُرقة السياسية.
(1) الفُرقة العقائدية:
وهي أخطر أنواع الفرقة؛ لأن الإنسان أسير فكره ومعتقده، وما عمل الإنسان عملاً أو سلك سلوكاً أو تصرف تصرفاً في واقع الحياة، إلا كان ذلك صدىً لفكره وعقيدته. ومن هنا كان واضحاً أن تبنِّي الفكر المنحرف وغرس العقائد الضالة في قلوب المسلمين هو الموجب لاختلاف المسلمين واقعاً.
إن الله تعالى أراد لهذه الأمة أن تكون على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها تحت اسم واحد هو الإسلام، ولكن الدعوات الباطلة الضالة لم تزل تطل برؤوسها عبر التاريخ لتجزِّيء المسلمين إلى فرق وجماعات، تخالف الإسلام مخالفة كلية أو جزئية. إن بعض الدعوات التي أوجدت في صفوف المسلمين تنادي بتوجه المسلمين إلى عبادة غير الله، واتباع غير منهجه، فرجعت إلى بلاد المسلمين كثير من مظاهر الشرك والاختلاف في الدين، باتخاذ الأنداد من دون، الله وعدم استقامتهم على دين الله ومنهجه، والله تعالى يقول: (وإنَّ هذه أمَّتُكم أمَّةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون فتقطَّعوا أمرهم بينهم زُبُراً كلُّ حزب بما لديهم فرحون) [سورة المؤمنون: 52ــ53]، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما الأمة الواحدة الواردة في الآية بالدين الواحد.
والتقطع الذي أشارت إليه الآية هو التفرق والاختلاف وعبادة غير الله واتباع غير منهجه.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا البلاء قد أصاب الأمم قبلنا، وأنه سيصيب هذه الأمة كما أصاب غيرها من قبلها.
ففي سنن أبي داود ومسند أحمد عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ((ألا إن من كان قبلكم أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة))، وفي رواية: ((ما أنا عليه وأصحابي)).
لقد انقسمت الأمة إلى خوارج ومعتزلة وأشاعرة وشيعة وكلابية وماتريدية ومرجئة وقدرية، واختلفت هذه الفرق في الإيمان وحدوده، كما اختلفت في صفات الله وقدره، ونتج عن ذلك كله اختلاف في واقع الأمر، وتبنت كثير من الفرق مناهج مضادة للمنهج الإسلامي، ومن المناهج المخالفة للمنهج الإسلامي، المنهج الذي يغرق في التعبد مستحدثاً أنماطاً من العبادات لم يشرعها الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما في حديث الثلاثة في مسائل الصيام والقيام وعدم والزواج.
وجاءت مصائب عظيمة كبرى في العصر الحديث، حيث قامت في ديار المسلمين دعوات تنادي بالكفر الصراح ونبذ الإسلام والانضواء تحت رايات تحارب الإسلام وأهله، منها التي تنادي بالعلمانية، والشيوعية والبعثية، وأخرى تنادي بحضارات بائدة كافرة كالفرعونية والبابلية والأشورية، ومنها ما ينادي بتقليد العالم الغربي والسير في الطريق الذي سار فيه، منهم من يرون أننا لا ننهض حتى ننبذ ديننا ونسير في ركب الغرب، ولو أدى هذا إلى أن ننسلخ من جلودنا ونلبس جلودهم، وما هذا الانبهار بالحضارة الغربية إلا ثمرة لجهل الأمة بدينها ومركزها، وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم)). قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)).
(2) الفرقة التشريعية:(/1)
لا يقصد بها بطبيعة الحال الاختلاف الذي وقع بين السلف في فقه النصوص بسبب تفاوت العلماء في الفهم والإدراك، كما لا يقصد بها الاختلاف الناشيء عن عدم وجود نص، فهذا النوع لا يسبب فجوة بين المسلمين، بل وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود الاختلاف الناشئ عن الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة تقليداً لآراء الرجال أو الاعراض عن النصوص اتباعاً للهوى.
فالفرقة التشريعية ظهرت في أشكال وأنماط مختلفة منها:
(1) الدعوة التي تهدف إلى زحزحة نصوص الكتاب والسنة عن الصدارة وردِّ الأمر إلى عقول الرجال.
(2) أولئك الذين نادوا بالرجوع إلى القواعد العقلية لأن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين بزعمهم.
(3) القرآنيين الذين ينادون بالاقتصار على القرآن وحده.
(4) ومن الفُرقة التشريعية: الافتراق بسبب التقليد، فكثير من المقلِّدة يرفضون الأخذ بنصوص الكتاب والسنة التي تخالف قول الإمام بدعوى أنه أعلم منهم بالنصوص، بل ذهب بعضهم إلى أن كل نص من كتاب أو سنة يخالف قول الإمام إما مؤوَّل أو منسوخ.
بالتالي أفرزت المذهبية فُرقة بين الأمة فانقسمت إلى مذاهب كل فريق يناصر مذهبه.
(5) الفرقة التشريعية في الجماعات: فقد ترى بعض الجماعات تلزم أتباعها بكل ما تتبناه الجماعة، ويوجد فيما تبنته تلك الجماعة أمور مخالفة للكتاب والسنة، فإذا ما تمسك أحد أفراد الجماعة بنصوص الكتاب والسنة المخالفة لرأي تلك الجماعة طردته من صفوفها.
(6) وزاد بلاء الفُرقة التشريعية في هذا العصر عندما أقصيت الشريعة الإسلامية عن الحكم، في ديار الإسلام، واستبدلت بها القوانين الوضعية وحكَّم المسلمون في رقابهم حكم الطاغوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(3) الفُرقة السياسية:
الأمة الإسلامية أمة واحدة، يجمعها إطار سياسي واحد، ويحكمها حاكم واحد، هكذا علَّمنا الإسلام. وظل ذلك منذ الدولة الإسلامية الأولى، مروراً بالأموية، ثم العباسية، إلى العثمانية، حتى كاد اليهود للدولة الإسلامية وقضوا عليها بيد كمال أتاتورك.
ونشأت بعد ذلك العصبيات والنعرات التي أتت بالفُرقة السياسية، التي جعلت التنادي بين المسلمين للتجمع على أساس غير أساس الرابطة الإسلامية.
والعصبيات التي أدت للفرقة السياسية كثيرة منها:
(1) عصبية القرابة والنسب: فقد ظلت أواصر القربى في كثير من المجتمعات البدائية اليوم القاعدة الأساسية لعضوية المجتمع والإندماج فيه.
(2) التعصب للمباديء والمذاهب: وقد شكَّل أصحاب هذا النوع تياراً وجماعات، فترى الفرد في هذه الجماعات يناصر جماعته سواء كانوا محقين أم مبطلين، وبعضها لا يسمح للفرد بمخالفة الجماعة بحال من الأحوال، فإن حصل فإن مصيره الطرد،وقد تكون هذه الجماعات دينية وغير دينية.
(3) العصبية الإقليمية: والتي تشكلت بعد انهيار دولة الخلافة، وكان من أهم أهداف أعداء الإسلام تجزئة الدولة الإسلامية، ونجحوا في ذلك أيما نجاح، وضعفت الأمة مما سهَّل سيطرة أعداء الإسلام عليها.
فأصبح المسلمون يتمسكون بالإقليم والعرق واللسان، ويقدمونها عملياً على الإسلام، فنتجت الطورانية وصارت تركيا للأتراك، وتوحَّد العرب على أساس اللغة واللسان، فصارت الجامعة العربية والقومية العربية، فتكتلوا على أساس اللغة حتى ردوا بعض المسلمين من غير العرب إبان حربهم لليهود بحجة أنهم ليسوا بعرب، وهكذا قامت القومية الكردية بل أرادوا تأسيس دولة على أساس القومية واللسان الكردي، وقامت في المغرب الدعوة إلى القومية البربرية ، وهكذا بقية القوميات والعصبيات الإقليمية، فهذه دولة خليجية وتلك مغاربية، وهكذا انقسمت الأمة لأقاليم وما زالت تنقسم مما جعلها أضعف ما تكون والحالة هذه.
(4) عصبية اللون: وإن كان تأثيره ضعيفاً إلا أنه موجود، وإن كان وجوده في البلد الواحد قليلاً، أعني بالبلد الواحد المنطقة من مناطق المسلمين، إلا أنه بين البلدان كبير وكثير.
وعلى ضوء ما قدمنا في الفُرقة بأنواعها وأشكالها فإنها قد أفرزت مآسي كثيرة وكبيرة وعظيمة في شتى بقاع الأرض التي قطنها المسلمون، ومنها أوربا، فالفرقة أدت إلى مآسٍ عظيمة فيها قديماً وحديثاً:
( أ ) قديماً:
ملوك الطوائف في الأندلس:(/2)
لما كان المسلمون على قلب رجل واحد، متحدين عقيدة وشريعة، وسياسة وسلوكاً وتوجهاً، فقد دانت لهم كثير من بلاد الدنيا ومنها ـ غرباً ـ الأندلس، ففُتحت الأندلس على أيدي رجال هم من خيرة أهل الأرض يومئذٍ، وشعَّ نور الإيمان بها فأضاء جبالها وسهولها ووديانها، فانتشر الإسلام بها ودخل الناس فيه أفواجا لسماحته، وفي وقت كان الأوربيون في أمس الحاجة له، بل وازدهرت العلوم في جميع التخصصات حتى غدت قبلة للأوربيين يأتونها من شتى بلدانها لينهلوا من معين علومها الصافي، في الطب والهندسة وبقية العلوم، فبلغ عز المسلمين بها مبلغاً عظيماً سطرته كتب التاريخ، فكان يأتي الطالب الأوربي طلباً للعلم من عند نفسه ورغبته، ويأتي بعضهم بتوجيه من دولته ممثلاً في ملكه طالباً من أمير المؤمنين بالأندلس أن يقبل له مجموعة من الطلاب ليدرسوا علوم الطب وكذا وكذا من العلوم.
كما نفعل نحن اليوم تماماً يذهب بعض أبنائنا لبلدان أوربا لرغبته الشخصية، أو ابتعاثاً من حكومته ودولته طلباً للعلم الإنساني التجريبي من طب وهندسة وفلك وبقية العلوم.
فازدهرت الأندلس أيما ازدهار، وغدت مناراً للعلم بلغت شهرتها الآفاق، وما ذاك إلا للتمسك بهذا الدين الحنيف الذي شكل لهم وحدة حقيقية يستحيل معها ضربهم من أي جهة مهما كانت قوتها.
واستمرت دولة الإسلام بالأندلس قروناً، إلى أن دبَّ فيها الاختلاف، فجاءت الخلافات العرقية الإقليمية فهؤلاء من أصول يمنية، وهؤلاء من أصول شامية، وأصول حجازية وهكذا، ورأى كل منهم أنه أحق بالإمامة والخلافة من دون الآخرين.
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [سورة الحجرات: 13].
فدبت العصبية في قياداتهم واستقل كل قائد بمنطقة، ونصب نفسه ملكاً عليها بسند من طائفته وعصبته
ألقاب مملكة في غير موضعها**** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وأخذ كل منهم يغزو الطائفة الأخرى، بل استعانوا بالنصارى ليتقووا بهم على إخوانهم، فضعفت الدولة بتقسمها إلى طوائف ودويلات، مما جعلها بعد ذلك لقمة سائغة للنصارى الذين أرجعوها لنفوذهم بعد أن دانت للمسلمين ثمانية قرون، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا) [سورة الأنفال: 46].
(ب) في العصر الحديث:
(1) من مآسي الافتراق في أوربا: زوال الخلافة، فإن كانت قد ذهبت دولة الأندلس وزالت،وإن كان وقع الأمر على المسلمين عظيماً إلا أن دولة الخلافة بالشرق لم تزل قائمة. إلى الثلث من بداية القرن الهجري الماضي (القرن الرابع عشر)، حتى جاءت قاصمة الظهر: دعوة الأتراك إلى القومية الطورانية ــ أي التركية ــ فقامت دعوة على أساس عرقي قومي، مما أدى إلى ذهاب الخلافة بالكلية لأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((دعوها فإنها منتنة))، ومن نتنها أنها ذهبت بالخلافة، نسأل الله ردها، فتآمر اليهود مع الطورانيين، فقضوا على الخلافة، وغدت تركيا من الدولة الرئيسة في الشرق إلى الذيل في الغرب، تجري وراء أوربا حتى الآن وذلك بأنها جزء منها ولم تعترف لها أوربا بشيء من ذلك بالرغم مما قامت به من القضاء على الخلافة، (ومن يهن الله فما له من مكرم) [سورة الحج: 18].
(2) وجاء المسلمون إلى أوربا مرة أخرى، وبدأ تواجدهم بها بعد الحرب العالمية الأولى إلا أنهم كثروا بعد العالمية الثانية، ثم ما زالوا في زيادة مضطردة وذلك: بازدياد القادمين إليها من البلدان الإسلامية، وبتناسل الموجودين، وبإسلام بعض أهل البلاد الأصليين من الأوربيين.
وعددهم اليوم لا بأس به:
• أكثر من ستة ملايين بفرنسا.
• أكثر من أربعة ملايين بإنجلترا.
• أكثر من أربعة ملايين بألمانيا.
• أكثر من سبعمائة ألف ببلجيكا.
• أكثر من سبعمائة ألف بهولندا.
• وهناك مئات الألوف بالدول الاسكندنافية: السويد، النرويج، الدنمارك، وفنلندا.
• وكذلك مئات الآلوف بإيطاليا واليونان والدنمارك وغيرها من البلدان.
فعدد المسلمين في أوربا لا يستهان به، ولكنهم أَتَوْا بخلافاتهم لأوربا بأشكالها المختلفة، العقائدية، التشريعية، والسياسية بعصبياتها المختلفة.
وقد يكون لعامل العصبية القبلية والإقليمية الضلع الأكبر في مآسي الافتراق بأوربا.
فبسبب الانتماء للبلد افترق الناس، ولم يجتمعوا حتى في المساجد، فهذا مسجد للمغاربة، وذاك للأتراك، وثالث للباكستانيين وهكذا.
وفي أبناء البلد الواحد فُرقة أخرى، هؤلاء من الناطقين بالعربية وهؤلاء من الناطقين بالبربرية.(/3)
وأخذ أصحاب كل بلد يصارعون لتكون لهم الرياسة والريادة دون أصحاب البلد الآخر، وهناك بعض الافتراقات والاختلافات التي أتى بها المسلمون لبلدان أوربا، قليلها عقدي وكثيرها تشريعي، وإن كانت قليلة إلا أنها تؤثر بجزء في جسم المسلمين هناك، إذ غدا بعضهم يحذر طلاب العلم من الدراسة بمعهد كذا لأنه لمجموعة ليسوا على الهدى، مع أن المواد التي تدرَّس فيه هي مواد شرعية متفق على مسمياتها ومراجعها. وهذا ما أفقدهم الكثير، وجعل منهم أضحوكة لأهل البلاد من الأوربيين مما خلف مآسي كثيرة منها:
(1) عدم القيام بالدور المطلوب منهم أصلاً، وهو دعوة الأوربيين للإسلام، هذا الدين السمح الذي هم والله أحوج ما يكونون إليه إذ يعيشون في خواء لا ينفكون عنه إلا بالإسلام.
(2) اختلافهم وافتراقهم أفقدهم الكثير من حقوقهم:
( أ ) التعليمية:
إذ من المفترض أن ينشئوا مدارس إسلامية تخصهم؛ لتعليم أبنائهم دينهم ولغتهم على نفقة الدول الأوربية التي يعيشون فيها، ولقد حصل هذا لبعضهم كمسلمي هولندا ولم يحصل للآخرين لاختلافهم وتفرقهم.
( ب ) الدستورية:
وذلك من أن يكون لهم كيان واحد، مجلس أعلى أو رابطة أو غير ذلك من الأسماء؛ لأنه الجهة الوحيدة التي يمكن أن تخاطب المسئولين بالبلد بالتذكير بأخذ حقوقهم والمطالبة بها.
فلما لم يتحدوا لم تقم المجالس و الروابط مما ضيع عليهم حقوقاً كثيرة، في كثير من دول أوربا.
( ج ) الثقافية والاجتماعية:
فكل الدول الأوربية تخصص ميزانية للجاليات والأقليات ذات الثقافة والطابع الخاص، فبالفرقة والشتات والخصام فقدوا هذا المخصص الذي هو لهم أصلاً، وبه كان يمكنهم إنشاء دور للنشء ونوادٍ لأبناء المسلمين تقوم على هدى لترعاهم وتفصلهم عن نوادي الآخرين من غير المسلمين، والتي بها كل ما يخطر على بالك من شرور ومآسي الافتراق كثيرة، والتي ذكرنا، نماذج لها.
ولا يمكن أن نتجاوز هذه المآسي إلا بتخطينا لعقبة الفرقة لنصل لبرِّ الوحدة، فنحقق ما تحقق للصحابة من سلامة صدر ووحدة حقيقية، وذلك ما امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) [سورة الأنفال: 62ــ 63] فلا وحدة إلا باتحاد القلوب ولا اتحاد قلوب إلا باتحاد الاعتقاد.
فبالوحدة والاعتصام سنفعل الكثير بإذن الله تعالى ((ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
هذا وبالله التوفيق(/4)
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الأحد الموافق الرابع من شهر ذي الحجة لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر للهجرة وفى هذا المسجد المبارك في مدينة < الرس> وقبل أن أبدأ في موضوعي الذي بين يدي أوجه الشكر الجزيل لجماعة هذا المسجد والحقيقة أننا نعترف لهم بالعرفان الجميل ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوي الفضل فإننا نسمع عن نشاطاتهم وأعمالهم الخيرة ومنتدياتهم وملتقياتهم فنسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وأن يجمع قلوبهم وأن يوفقهم ويسدد خطاهم ونتمنى من مساجد أحياء هذه المدينة وغيرها من المساجد أن تحتذي بحذوهم شكر الله لهم سعيهم أيها الأحبة عنوان هذا اللقاء وهذا الموضوع هو الأنقياء أو إن شئت قل سلامة الصدر مثلاً وهذا الموضوع هو ثالث ثلاثة فقد سبقه درس بعنوان الأخفياء وسبقهما درس آخر بعنوان الأتقياء وإن كان درسا الأتقياء والأنقياء منبعهما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه [مسلم] من حديث [سعد بن أبي وقاص] رضي الله تعالى عنه أن النبي قال " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" كما تقدم بيانه في الموضوعين السابقين فإن منبع هذا الموضوع أيضًا هو حديث أخرجه الإمام [ابن ماجة] في سننه في كتاب الزهد باب الورع والتقى من حديث [عبد الله بن عمرو] رضي الله عنهما قال "قيل يا رسول الله أي الناس أفضل قال صلى الله عليه وآله وسلم كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" وقال [البصري] في الزوائد بإسناد صحيح ورجاله ثقات والحديث الذي أخرجه [الطبراني] في معجمه [وأبو نعيم ] في الحلية و[البيهقي] في اللعب وفيه زيادة وذكره [الألباني] في الصحيح الجامع ومعنى موم أممت البيت أي كنسته ولذلك بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد فقلت في نفسي وأنا أتدبر هذا البيت ما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة النزاع والخلاف والفرقة فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور فلا تسمع إلا لكلمات التنقص والأجراء وسؤ كم والدخول في النيات والمقاصد فما هي النتيجة إن خوطبوا كذبوا أو طبوا غضبوا أو ضربوا هربوا أو أهبوا غدروا على أرائكهم سبحان خالقهم عاشوا وشعروا ماتوا وما غروا إذا فالنتيجة أصبح المسلمون أحزاب وكل حزب بما لديهم فرحون لا بل كل حزب من الآخر ينتقصون فلا تسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم ففرح الماكرون وهم لها ناذرون وساقون وراعون وصدق عز وجل عندما قال ( أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتهذب ريحكم) (واصبروا إن الله مع الصابرين) وأستغفر الله أن أعم ولكنها إثمة وبلاء طمت وعمت أقول ما أحوجنا لمثل هذا البيت فأخذت أطوي صفحات السير والتراجم للوقوف على حياة أولئك الأنقياء وتتبع أحوالهم وصفاتهم فوجدت العجب ومن العجب الذي وقفت فيه أن من صفاتهم أنهم حرصوا رضا الله عليهم على تصفيه قلوبهم من الحقد والحسد فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي يتجاوزون عن الهفوات والأخطاء الأنقياء يتثبتون لا يتسرعون أنقياء سليمة قلوبهم نقية صدورهم الأنقياء يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم الأنقياء ألسنتهم نظيفة فلبون ولا يشتمون والأنقياء بسطاء في السريرة ولهم في السيرة دعاهم اللهم قنا شح أنفسنا (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وسنرى كثيرا من المواقف التي تبرهن لك على ما أقول ولكن خاطب النفس وقل لها(/1)
ويحك يا نفس احرصي على زياد واخلصي طاوعي وأخلصي واسمعي النصح واعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجأة القضا وحذاري أن تفزعي ويحك يا نفس احرصي على استماع القصص وطاوعي واخلصي للواحد الصمد لماذا الحديث عن الأنقياء ولماذا الحديث عن سلامة الصدر أخي الحبيب أيها الأخ المسلم يا من نلتقي وإياك على لا إله إلا الله أدعوك وأنت تسمع هذه الكلمات أدعوك إلى التجرد من الهوى وترك حظوظ النفس تجرد من حب التصدر والزعامة تجرد من التعالي وتجرد من الكبرياء والغرور ومن الحقد والحسد تجرد من كل الأمراض القلبية فإنني أريدك أن تسمع كلامي هذا بقلب سليم بقلب ذلك المسلم الطيب التقي النقي أنسيت أنك خلقت لعبادة الله ومرضاته وطلبا لجنات الفردوس أيجوز يا أخي الحبيب لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء والحمل على الآخرين والانتقام والتشفي أخي الحبيب أيها المسلم لماذا أصبحنا نسمع كلمات الذم أكثر من سماعنا كلمات الثناء أخي الحبيب لماذا أصبحنا نسمع كلمات التنقص أكثر من سماعنا لكلمات التثبت إلا ما شاء الله منا كيف غفلت عن هذه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله سلامة الصدر طهارة القلب صفاء النفس كلمات نادرة الاستعمال وعزيزة الذكر لا نكاد نسمعها في مجالسنا ومنتدياتنا موضوعات كثيرة تلك التي نتحدث عنها لكنها لا تخلوا من غيبة ملبسة بلباس النصيحة أو من حديث يشفي الغليل و يرضى الخليل أو من هم فيه همز ولمز وانتصار للنفس في من في قلبك خوف من الله جل وعلا أننا نريد أن نسمع كلمات الحب والإخاء والصدق والوفاء والنصح والصفاء نريد أن نسمع كلمات الشكر والعرفان وذكر الفضل والإحسان نريد أن نسمع عن جمع القلوب وعن توحيد الكلمة وعن الإصلاح بين الناس وكل ذلك وللأسف في مجالسنا عزيز إنني أصغي سمعي لعلي أسمع إلى التماس الأعذار وذكر محاسن الأبرار فيرتد سمعي خاسئا وهو حسير إلا ما شاء الله ولكني كلي أمل فيكم يا من تجلسون أمامي بل ولأن هذا الكلام يسمعه غيركم أقول وكلي أمل في كل من يسمع هذا الكلام بل ومشايخي وأساتذتي وإخواني الدعاة وشباب الصحوة كلهم وكل من سمع هذا الحديث كلي أمل أن نهضم أنفسنا ونعرف قدرها وأن نحمل على عاتقنا نشر هذا الموضوع وإكثار الحديث عنه وتكراره في كل مكان وعلى كل لسان ولا نمل الحديث عنه أبدا بل ولنجعله شعارا لنا في كل ميدان في ميدان العلم والعلماء وفى ميدان البيع والشراء وبين الرجال والنساء وبين العامة والخاصة في مدارسنا في جامعاتنا في أسواقنا في مجالسنا وبيوتنا فلنملأ قلوبنا بخوف الله عز وجل ولتمتلئ نفوسنا بذكر الله عز وجل فإننا نشعر بقسوة القلب وامتلاء النفس وجفاف العين من الدمع وليكن هجير كل واحد منا أيها الأحبة اللهم إني أسألك قلبا سليما ونردد كثيرا وفى كل لحظة بل وفى كل ساعة وفى كل سجدة وركعة ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . عناصر هذا الموضوع ثلاثة قبل البداية القرآن يدعوك صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء تكامل الشخصية في حياة السلف نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره أسباب امتلاء الصدر وغل القلب كيف السبيل لسلامة الصدر وتنقية القلب ثلاثة قبل النهاية أما ثلاثة قبل البداية فانتبه لها جيدا وأعرني سمعك بارك الله فيك فالأولى راجع نفسك بعد سماع هذه الكلمات واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك وأرجوك أن لا تبرئ ساحة من التقصير واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك دائما احسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى فرب أشعث أغبر ذي تمرين لو أقسم على الله لأبره لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع لا وكم من مسكين منك عند الله وكم عامي أنت يا طالب العلم هو خير منك عند الله جل وعلا كم من إنسان استجاب الله دعاءه وفتح الله على قلبه بينما أنت ما زلت تنظر لنفسك في خيلاء وفى كبر والعياذ بالله فأقول يا أخي الحبيب أما سمعت بقول [بكر بن عبد الله المزني] وهو واقف بعرفة رضى الله عنه وأرضاه واقف بعرفه ينظر إلى الناس ثم يقول لا إله إلا الله لولا أنى فيهم لقلت قد غفر الله لهم من القائل بكر ابن عبد الله المزني رحمه الله تعالى يقول الذهبي وهو ينقل هذه العبارة في السير يقول معلقا ومعقبا كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها الإزراء على النفس إذن مطلب .(/2)
الأمر الثاني : اعلم أنك كالصدر وتنقية القلب مطلب عزيز والحرص عليه واجب وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين ولكن لا تنس أن الناس بشر لا تنس أنك تعامل بشرا وأن النفس ضعيفة فلابد من الخطأ ولابد للنفس أن تتأثر فانتبه لهذا وعامل الآخرين بحسب وبهذا يقول [سعيد بن المسيب] رحمه الله تعالى وانتبه لكلماته به يقول إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط وتجاف عن تعنيفه أن زاغ يوما أو قسط واعلم بأنك إن طلبت مهذبا رمت الشطط من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط .
ثالثا : لست بالخب ولا الخب يخدعني هذا لا ينافي سلامة قط والأخذ بالظاهر ولكنه يعنى الحيطة والحذر فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم فعليك أن تكون فطنا منتبها فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين ( خذوا حذركم ) ويقول سبحانه وتعالى ( ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) بعد هذه الثلاثة والتي أرجو أن تنتبه لها جيدا لترجعها بنفسك فكلنا في حاجة لها أقول يا أخي الحبيب إن القرآن يدعونا جميعا في أكثر من سورة وفى أكثر من آية يدعونا لمثل هذا الموضوع متى أن تدبرنا القرآن ونظرنا فيه إن قرآننا هو كلام ربنا وهو دستور حياتنا وهو منبع صفائنا وهو الميزان الذي نحتكم إليه عند خلافنا بل وفى كل حياتنا وأمورنا فالقرآن يا أخي الكريم يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين أمنوا ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا) والقرآن يدعوك فيقول (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) والقرآن يدعوك فيقول: (فاعفوا واصفحوا حتى يقضي الله بأمره) والقرآن يدعوك فيقول (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) والقرآن يدعوك فيقول (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) والقرآن يدعوك فيقول:( وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) والقرآن يدعوك فيقول:(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) والقرآن يدعوك فيقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) والقرآن يدعوك فيقول( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) وأخيرا القرآن يا أخي الحبيب يدعوك فيقول (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة ماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا أخي الحبيب هل وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيدا إن القرآن يدعوك (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) أسمعت جيدا لهذه الآيات تدبرها بارك الله فيك اسمعها جيدا وارجع لها كثيرا فكم من الخلاف يقع بيننا وبين أصحابنا وكم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس وإن رجعنا للقرآن فوجدنا هذه الآيات تحدونا بالعفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس ومن عفا وصفح فأجره على الله ونعم بل عظم هذا الأجر عند الله سبحانه وتعالى صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء قلبت صفحات التاريخ ونظرت في كتب السير والتراجم فوجدت عجبا يا أخي الحبيب وجدت عجبا لرجال يعلم الله أن العين تدمع كثيرا والإنسان يقرأ مثل هذه المواقف ويتدبر ويقول يا للعجب أفهؤلاء بشر؟ كيف كانت هذه قلوبهم وأين قلوبنا من هذه القلوب؟ وقبل أن أبدأ وإياك بذكر هذه الصور لا ننس أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب وسلامة الصدر كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها مليئة بل يجد هذه الدرجة بعينها ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد الرواة صلى الله عليه وآله وسلم .(/3)
ثم تعال للصورة الأولى وهى التي لا نطيق روى عن الإمام أحمد في مسنده في حديث [أنس] قال "كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته من وضوئه وقد عل نعليه بيده الشمال فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه [عبد الله بن عمرو بن العاص] فقال للرجل إني لا حيت أبي أي وقع بيني وبين أبى خصومة فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تأويني إليك حتى تمضي فعلت قال الرجل نعم فحكى عبد الله أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله وقلت يا عبد الله لم يكن بين أبي وبيني غضبة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم قال أي الرجل ما هو إلا ما رأيت قال عبد الله فلما وليت دعاني فقال الرجل ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق وهي التي لا تطاق" رواه النسائي في اليوم والليلة عن[ سويد بن نسر] عن ابن المبارك عن [معمر] به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه [عقيل] وغيره عن [الزهري] عن رجل عن أنس والله أعلم.
أقول إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله النابض بحلاوة الإيمان لا يحتمل أبدا أن يحمل في جنباته حقدا على أحد من المسلمين إن من كان في قلبه إيمانا صادقا لا يحتمل أبدا في هذا القلب الذي مليء بالإيمان أن يحمل حقدا على أحد من إخوانه أرأيت يا أخي الحبيب كيف أن تنقية القلب وتنقية الصدر من الغل والأحقاد ومن الغش للسلمين كيف كان سببا لدخول الجنة هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كثير عمل ولكن العمل الذي كان سببا في دخوله الجنة هو أنه لا يجد في نفسه حسدا لأحد وليس في قلبه غشا على أحد من المسلين الله أكبر متى تتحقق هذه الصفة فالمسلم الذي يركع ليله نهاره طالبا مرضاة الله وطالبا جنات الفردوس أين العباد أيها الأحبة أين الزهاد من هذا الفعل كم نتعب أنفسنا في الصلوات وفي الصدقات وفى الصيام وغيرها من الأعمال والعبادات ولكن الأمر ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة إنما بشيء وقر القلب فنالوه رحمهم الله تعالى ،سلامة الصدر وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين .
الصورة الثانية : أيعجز أحدكم أن يكون [أبي ضمضم ] أخرج [أبو داود] في الأدب باب الرجل يحل الرجل قد اغتابه واسمع الترجمة باب الرجل يحل الرجل قد اغتابه و[ابن أبي الدنيا] في مكارم الأخلاق باب فضل كظم الغيظ وأخرجه أيضا [ابن السني] في عمل اليوم والليلة باب ماذا يقول إذا اصبح ثلاثتهم من حديث قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لأصحابه " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم يا رسول الله قال رجل كان إذا أصبح يقول اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي فلا يشتم من شتمه ولا يظلم من ظلمه ولا يضرب من ضربه" هذا لفظ أبى الدنيا وابن السني وهو ضعيف وأخرجه أبو داود من وجه آخر موقوف عن [قتادة] أخرجه أيضا البخاري في التاريخ في ترجمة [محمد بن عبد الله العجمي] ثم قال أي البخاري قد أخرجه [أبو بكر البزار] في مسنده و[العقيلي] وقال في الضعفاء وكذلك [التاجي] و[البيهقي] في الشعب
وقال [الألباني] في الإرواء عن هذا الحديث والمحفوظ عن قتادة وإسناده صحيح إلى قتادة ثم ذكره في صحيح أبي داود قال صحيح مقطوع .
أرأيت صفة أبي ضمضم هذا اسمع ماذا قال عنه ابن القيم في كتابه مدارك السالكين في صفحة 295 قال والجود عشر مراتب ثم ذكرها فقال سابعة الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضى الله تعالى عنهم كان إذا أصبح قال اللهم ما لي مال أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم وفى هذا والكلام ما زال لابن القيم يقول ابن القيم وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق وما فيه انتهى كلامه رحمه الله تعالى .(/4)
صورة ثالثة : من عندي إلا عرضي وقد أخرج هذا الحديث كشف الأستار في كتاب الزكاة باب فيمن تصدق بعرضه انتبه أيضا للترجمة باب فيمن تصدق بعرضه أخرجه [محي الدين بن كثير بن عوف] عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يوما على الصدقة فقال [علبة بن زيد] فقال ما عندي إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أنى تصدقت بعرضي على من ظلمني ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين علبة بن زيد قالها مرتين أو ثلاثا قال فقام علبة فقال أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك " وقال [الهيثمي] رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف أيضا ذكره البزار من حديث ابن صالح على التؤامة* عن علبة ابن زيد قال "حث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصدقة فقام علبة فقال يا رسول الله حدثت عن الصدقة وما عندي إلا عرضي فقد تصدقت به على من ظلمني قال فأعرض عنه فلما كان اليوم الثاني قال أين علبة ابن زيد أو أين المتصدق بعرضه فإن الله تبارك وتعالى قبل ذلك منه" على نحو ذلك وهذا أيضا قال ابن الهيثمي ورواه البزار وفيه محمد وقال ابن أحمد بن سليمان بن مشوم وهو ضعيف عند مجمع الزوائد إذن فانظر إلى حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبى ضمضم وهذا علبة بن زيد وغيرهم كثير كانوا يتصدقون بأعراضهم رضوان الله تعالى عليهم يعفوا ويصفحوا عمن سبهم وشتمهم وضربهم واغتابهم أو ذكرهم في شيء لا يرضونه فماذا نقول نحن لأنفسنا أيها الأحبة .
الصورة الرابعة واسمحوا لي أن أتكلم وأسرد المواقف سردا في عجالة المواقف كثيرة ولعلي أكتفي بالسرد وفى ذلك لا شك دروس كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من تدبر ونظر وسمع موقفه مثل هذه المواقف علم كثيرا ضعف نفسه ونحن إذا نظرنا لمثل هذه المواقف نقارن ذلك بأنفسنا الضعيفة أيها الأحبة لعل الله يطلع علينا وعلى ضعفنا ويرحمنا الله سبحانه وتعالى ويعيننا على هذه الأنفس الرابعة بئس ما قلت والله ما نعلم إلا خيرا هذا الموقف قاله [كعب بن مالك] في قصته أو في قصة تخلفه عن غزوة تبوك ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ذكرني وقال ما فعل كعب النبي يسأل عن كعب وقال رجل من قومه خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه فقال [ معاذ بن جبل] كان حاضرا فسمع واسمع ماذا يقول معاذ فقام معاذ فقال بئس ما قلت والله ما نعلم إلا خيرا أسمعت هذا الموقف لقد كان بإمكان ابن معاذ رضى الله تعالى عنه السكوت تأدبا أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلا سكوته ولكنه أعلن الحق الذي امتلئ به قلبه لم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات في أخيه كعب فأعلن الحق الذي في قلبه انتصارا لكعب بن مالك رضى الله تعالى عنهما جميعا إنه الدفاع والذب وصد عن عرض أخيك أيها الحبيب متى ما سمعت في مجالس أحدا يتكلم بعرض من أعراض إخوانك فمن منا وقف مثل هذا الموقف كم نسمع في مجالسنا وفى منتدياتنا من يذكر فلانا وعلانا من إخواننا من المسلمين ممن يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله كم نسمع من الكلمات التي تذكر في عرضه فمن منا وقف مثل هذا الموقف أقول بل ربما بعضنا والعياذ بالله يتلذذ ويسمع ويأنس بمثل هذه الكلمات عياذا بالله ولكن صحابة رسول الله تربوا على هذا المنهج إنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" كل المسلم على المسلم حرام عرضه ودمه وماله" فعلموا حرمة ذلك فعن أبى الدرداء أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة " كما أخرجه الترمذي في سننه في كتابه البر والصلة باب ما جاء في الذب عن المسلم وإسناده صحيح واسمع هذا الموقف قال [أحمد بن إسحاق] سمعت[ ابن معين] يقول رأيت عند [مروان بن معاوية] لوحا فيه أسماء شيوخ فلان رافضي فلان كذا وفلان كذا ووكيع رافضي وكيع ابن الجراح أحد الأئمة الأعلام ووكيع رافضي يقول يحي ابن معين فقلت لمروان وكيع خير منك انظر لانتصار الأخ انظر للذب عن عرض المسلم وكيع خير منك قال مروان مني يعني تعجب قلت قال نعم قال فسكت ولو قال لي شيئا لوثب أصحاب الحديث عليه قال أي يحي فبلغ ذلك وكيعا فقال وكيع يحي صاحبنا وكان بعد ذلك يعرف لي ويرحب. أرأيت انظر أثر الدفاع عن العرض في قلب وكيع رحمه الله تعالى أصبح يحي بن معين حبيبا إلى قلبه أصبح يرحب به كثيرا هكذا يكون جمع القلوب هكذا إذا أردنا أن نحبب النفوس بعضها لبعض هكذا إذا أردنا أن نرص الصفوف أيها الأحبة في وجوه أعدائنا لينصب كل فرد منا أنه محام عن أعراض المسلمين في كل مكان في أي مجلس كان وأمام من كان مهما بلغ من المرتبة والشرف مادام أنه تجرأ على عرض أخ من إخواننا المسلمين يجب أن أقف وأن أذب عن عرض هذا المسلم هكذا يكون الإنسان محبوبا عند الناس لا بل هكذا يكون محبوبا عند الله وعند رسوله قبل كل شيء ومن أحبه الله أحبه الناس.(/5)
الصورة الخامسة :سررتني سرك الله ذكر الذهبي في السير قال بسنده إلى [عوف بن الحارث] أنه قال سمعت عائشة تقول دعتني أم حبيبة وهذه في صف النساء هذا موقف نسوقه للنساء تقول عائشة رضى الله عنها دعتني أم حبيبة أي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم دعتني أم حبية عند موتها قالت قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك هذه أم حبيبة تقول لعائشة فقلت أي عائشة فقلت غفر الله لك كله وحللك من ذلك فقالت أم حبيبة سررتني سرك الله تقول عائشة وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك انظر انتصاف القلوب ـ قلوب النساء ـ ما أحلى هذه القلوب إذا اجتمعت على المحبة وإذا حرصت على تنقيتها أو تنقية هذا القلب من الغل والحقد والحسد أقول كم نسمع نساءنا يتحدثن في المجالس عن فلانة وعلانة ولربما كالت لها كثيرا من الشتم والسب والعياذ بالله وكأنها تتكلم عن كافرة من الكفار لا تشعر أنها تتكلم عن مسلمة وأن عائشة رضي الله عنها لما أشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها فقط عن صفية أنها قصيرة قال" ألا وأنك قلت كلمة وفعلت فعلة لو مزجت بماء البحر لمزجته" بالماء فقط إنها تعني أنها قصيرة فهل عقل مثل هذا الأمر نساؤنا وعلمن أنهن يخضن كثيرا في أعراض كثير من المسلمات وكم من الحسنات تذهب في مثل هذه الكلمات .
الصورة السادسة إذن تقع في الشغل صورة قصيرة لكنها كبيرة في المعنى قال رجل لـ[عمرو بن العاص] رضي الله تعالى عنه والله لأتفرغن لك انظر الرجل يهدد عمرو بن العاص والله لأتفرغن لك يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك فماذا كان رد عمرو بن العاص اسمع للعلم كيف ينير القلوب اسمع للخوف من الله جل وعلا كيف يرتبط بالله جل وعلا فقال عمرو بن العاص إذن تقع في الشغل نعم فإن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغا أبدا إنما يشغله نفسه وحقده يشغله بالناس فيضيع عمره فيما لا ينفع ولا شك أن قول عمرو هنا هو الصواب ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات فيمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده إذن تقع في الشغل لأن صاحب القلب الذي تعلق بالناس والانتقام من الناس والتشفي منهم هذا القلب مشغول دائما أما القلب الذي أخلى روحه من هذه الأمور وامتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب أصبح قلبا سليما صافيا لا يفكر إلا فيما ينفعه فهو إما في علم أو في طلب علم أو في عمل خير أما السيئات المضرات والشغل بالناس وبأعراض الناس فهو بريء منه لأنه عاهد الله على عدم فعل ذلك .
والصورة السابعة ما عرفني إلا أنت أيضا موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه في سيرة [ سالم بن عبد الله بن عمر] رضى الله تعالى عنهم جميعا أن رجلا زاحمه في منى وأنتم تعلمون موقف الناس وموقف الحجاج كيف تكون وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف والزحام الشديد أن رجلا زاحمه في منى فالتفت رجل مغضبا إلى سالم وسالم هذا علامة من التابعين رضى الله تعالى عنه فقال الرجل لسالم إني لأظنك رجل سوء بسبب الزحام بلغت نفس هذا الرجل مبلغها فقال هذه الكلمة فماذا أجاب سالم رضى الله تعالى عنه قال كلمتين قال ما عرفني إلا أنت سبحان الله هكذا كان ازدراؤهم لأنفسهم رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وكثرة عبادتهم وكثرة جهادهم وكثرة خوفهم وبكائهم من الله جل وعلا إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضوان الله تعالى عليهم أين العجب والعنف والغرور الذي يصيب أنفسنا إذا فعل الإنسان منا فعلا أو عبادة أو قام بعمل خير؛ أعجبته نفسه وأصبح عند نفسه زاهدا من الزهاد لا إله إلا الله ما عرفني إلا أنت رحمك الله يا سالم.(/6)
الصورة الثامنة ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ذكر الذهبي في السير ترجمة الإمام البخاري ومحمد بن إسماعيل صاحب الصحيح رضوان الله عليه قال الذهبي وكان كثير من أصحابه يقولون له أي البخاري إن بعض الناس يقع فيك لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا يا أحبة ماذا سيقول سيقول ربما لا تكون مباشرة ماذا يقولون ماذا قالوا اسمع للإمام للبخاري رضوان الله عليه لما قيل له هذه الكلمة إن بعض الناس يقع فيك فيقول أي البخاري إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويتلو أيضا قوله تعالى ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) هذا والله هو الفقه وهذه هي والله هي البصيرة والحكمة ولكن من يؤتى هذه البصيرة من يؤتى هذه الحكمة ولذلك قلنا الناس تعلموا واقرءوا في سير الرجال واستفيدوا منها رأينا كثيرا منهم يعرض عن هذا وما علم أولئك المساكين أنه والله في النظر لحياتهم وترجمتهم وفى العلم نور لهذه القلوب فإذا سمعت الناس يغتابونك أو يذكرونك بسوء فأنت أعلم بنفسك وأعلم ما بينك وبين الله جل وعلا فاعف عنهم واصفح وسترى أثر ذلك ومن كاد لك فإن الله سبحانه وتعالى يكفيك ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله يقول فقال له أي للبخاري عبد المجيد بن إبراهيم كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك أقل شيء الدعاء يا بخاري كيف لا تدعو الله على هؤلاء فقال أي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" رواه البخاري في سنده ومسلم في الإمارة وقال أيضا قال صلى الله عليه وسلم " من دعا على ظالمه فقد انتصر " رواه الترمذي في الدعوات وضعفه محقق السير إنه رحمه الله أي البخاري لا يدعو مجرد الدعاء على من ظلمه لا يدعو عليهم دعاء فضلا عن أن يشغل نفسه في التقصي والانتقام والتشفي منهم لا يفكر في مجرد الدعاء على من ظلمه أو بهته فضلا على أن يهتم بقول أو فعل والانتقام منهم والتشفي رضي الله عن هؤلاء الأنقياء رحمهم الله رحمة واسعة .
صورة تاسعة : إن كنت صادقا فغفر الله لي واسمع هذا الموقف جيدا فقد ذكر الذهبي أيضا في السير قال عن [أبى يعقوب المدني] أنه قال بين [حسن بن الحسن] وبين [علي بن الحسين] يعني زين العابدين بعد الأمر يعني كان بينهما بعض الشيء فجاء ابن حسن إلى علي بن الحسين وهو مع أصحابه في المسجد جاء الحسن إلى زين العابدين وهو جالس مع أصحابه في المسجد فما ترك حسن شيئا إلا قاله له ما ترك سبا ولا شتما إلا قاله لزين العابدين وهو جالس مع أصحابه قال أي أبي يعقوب المدني قال وعلى ساكت وزين العابدين سهم أي يسمع كلام الحسن فيه وهو ساكت فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه فخرج إليه فقال له علي زين العابدين ذهب إلى حسن ابن الحسن في الليل فقرع عليه بابه فقال له زين العابدين يا أخي إن كنت صادقا فيما قلت لي فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك السلام عليك هذا موقف هل انتهى الموقف انظر قيمة حبس النفس وقيمة الصبر وقيمة حسن الخلق كيف يكون الإنسان داعيا قدوة لغيره بدون أن يشعر الموقف ما انتهى حتى الآن فإذا بالحسن يتبعه ويلزمه من الخلف ويبكي بكاء شديدا حتى رثى زين العابدين لحاله وكان يستسمح منه فقال زين العابدين له لا جرم لا عدت في أمر تكرهه أي الحسن يقول لزين العابدين لا جرم لا عدت في أمر تكرهه لا أعود مثل هذا الأمر فقال زين العابدين وأنت في حل مما قلت لي الله أكبر
إذا تشاجر في فؤادك مرة
أمران فاعمد للأعف الأجمل
فإذا هممت بأمر سوء فاتئد
وإذا هممت بأمر خير فافعل
إنه صبر أيها الأحبة على أدنى الخلق إنه هوم النفس حتى ولو كان الحق معها هكذا يتصف الرجال وهكذا من أراد العلياء ومن أراد معالي الأمور وعزة النفس
طلقت تطليق الثلاث رغائب
وكتبت للعلياء عقد نكاح(/7)
الصورة العاشرة : أو قبل الصورة العاشرة وكما يحدث خلاف بين كثير من الناس حتى وإن بلغوا ما بلغوا من العلم فهذه النفوس نفوس بشر ولذلك هكذا وهذا ما كان بين الحسن وبين علي بن الحسين واسمع أيضا لإنصاف الذهبي رحمه الله لابن حزم عند ما ترجم له في السير قال الذهبي عن ابن حزم قد أخذ المنطق أبعده الله من علمه عن [محمد بن الحسن البلحجي] وأمعن فيه فزلزله في أشياء ولي أنا كلام الذهبي عن ابن حزم ولى أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع وأقطع بخطئه في غير ما مسألة ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه إذن فيقول الذهبي رحمه الله تعالى وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل والمسائل البشعة والأصول والفروع وأقطع بخطئه في غير ما مسألة ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة انظر إلى النفوس الطيبة وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه رحم الله الذهبي وقد وجدت له كثيرا من الإنصاف في كتابه العظيم ( سير أعلام النبلاء للرجال ) وقد ينقل فلان كثيرا في من شدد على كثير من الرجال ومع ذلك إذا روى أو نقل تطولاته رجع رحمه الله تعالى وأنصف هؤلاء الرجال بما فيهم وهكذا يكون الرجل الحق هكذا الذي يأتمر بأمر الله وإذا قلتم فاعدلوا فهل سمع شبابنا مثل هذا الموقف وهل اقتدى شبابنا غفر الله لنا ولهم بسلفهم الصالح رضوان الله تعالى عليهم أيها الشباب أيها المسلمون لا تبخسوا جهود بعضكم بعضا لا تحتقروا أعمال بعضكم بعضا فكل منكم على ثغر وكل منكم على خير والميدان يتسع للجميع بل هو بأمس الحاجة لكل عمل لكل كلمة طيبة لكل جهد أيا كان صاحبه فهلا سمعنا وعقلنا واسمع لهذا الموقف أيضا وتدبره جيدا وكم نحن بحاجة إليه قال الذهبي قال الحافظ [ابن عبد البر] في التمهيد هذا أكتبه من حفظي وغاب عن أصله أن [عبد الله القمري العابد] كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل فكتب إليه مالك واسمع : إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم ولم يفتح له في الصدقة وآخر فتح له في الصوم وآخر فتح له في الجهاد فنشر العلم من أفضل أعمال البر وقد رضيت بما فتح لي فيه وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. فيا شباب الأمة نحن بحاجة للجميع فهذا يحفظ القرآن ويعلمه وهذا يطلب العلم وينشره وهذا يعظ الناس في المساجد والقرى وهذا ينكر المنكرات في الأسواق وفى الأماكن العامة وهذا على منبره وذاك بقلمه والآخر بماله وهذا بتوزيع الشريط والكتاب وذاك بتوزيع الطعام واللباس وهذا بالرحلات والمخيمات وهذا بالدعوات الصادقات ولا يخلوا الجميع أبدا من خطأ وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فهذا يصحح لهذا وهذا يوجه هذا وهذا يعين هذا بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة مع التماس الأعذار والعفو والصفح هكذا يجب أن نكون هكذا يجب أن نتعامل أيها الأحبة هكذا يجب أن ننشر في مجالسنا وفى منتدياتنا مع إخواننا جميعا يجب أن ننشر مثل هذه المفاهيم في قلوب الكبير والصغير الرجال والنساء حتى يشعر أعداء الإسلام في هذا التراص في تراص هذه الصفوف جمع هذه القلوب وبتوحيد هذه الكلمة هكذا يكون العمل وهكذا تكون الدعوة وهكذا يكون عباد الله إذا أحبهم الله جل وعلا فهلا عملنا لمثل هذا الأمر أيها الأحبة فإن قال قائل لا فنقول على أقل تقدير فإن لم تكن من هؤلاء فقل خيرا أو اصمت واعلم يا أخي الحبيب أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فكف عنهم بارك الله فيك لسانك ويدك كفه عن المسلمين واترك المسلمين يعملون كل فيما استطاع وكل لما قدم فإن الله جل وعلا يطلع على عباده وهو وحده سبحانه وتعالى يعلم ما تكنه القلوب .(/8)
الصورة العاشرة والأخيرة من هذه الصور لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة قال [أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي] سمعت [أبا بكر محمد بن مهرويه] الرازي قال سمعت [عليا بن الحسين بن الجنيد] قال سمعت يحي بن معين يقول ماذا يقول الآن يحي بن معين يقول إنا لنطعن على أقوام يقصد في الجرح والتعديل في الحديث والطعن في الجرح والتعديل أمر مندوب إليه ومأجور من يفعل ذلك فهو نصر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول يحي بن معين يقول إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة قال بن مهرويه فدخلت على [عبد الرحمن بن أبي حاتم] صاحب كتاب الجرح والتعديل فدخلت على عبد الرحمن بن أبى حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيد في الحكاية سبحان الله والله إن القلب ليقشعر أيها الأحبة ونحن نسمع مثل هذه المواقف ومثل هذه القلوب بكى رضى الله تعالى عنه وأرضاه وهو ماذا يفعل يقول الذهبي معلقا على هذا الموقف أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح على دين الله والذب عن السنة وهو أمر مطلوب منهم ومأجور عليه ومع ذلك ترتعد يداه ويبكي رضي الله تعالى عنه لأنه تكلم في رجال في أمر واجب فماذا نقول نحن إذن أيها الأحبة ماذا نقول ونحن في المجلس بل ربما أو في الساعة الواحدة نتكلم عن عشرات الناس عياذا بالله ماذا نقول ونحن نسمع من كثير من إخواننا عفاهم الله وصفح عنهم وغفر لهم ما يذكرونه في كثير من المشايخ والعلماء وطلبة العلم بل والصالحين سبحان الله ما وجدنا إلا الصالحين إلا العلماء نخوض في أعراضهم ونتكلم عنهم عياذا بالله ما وجدنا إلا هؤلاء أين أنت من المنافقين وأين أنت من اليهود من النصارى أين أنت من أعداء الدين من الذين يكيدون للدين ليل نهار لم تجد إلا أعراض إخوانك حتى تتكلم فيها سبحان الله ورحم الله ابن المبارك يوم أن جاءه ذلك الرجل فذكر له قولا في فلان وعلان فقال له ابن المبارك واسمع الكلمات اسمع العلم كيف ينور قلوب أصحابه فيقول ابن المبارك ذلك الرجل: عجبا سلم منك اليهود والنصارى ولم يسلم منك إخوانك كلمات تكتب بميزان الذهب
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
هكذا من يريد رضا الله جل وعلا هكذا من يريد أن يحافظ على عمله الصالح كم من الأعمال الصالحة يقوم بها كثير من الناس ثم يطلقون العنان لألسنتهم فتذهب بهذه الأعمال وتبريها بريا والعياذ بالله تكامل الشخصية في حياة السلف رضوان الله عليهم في العنصر السابق تكلمنا عن صور ومواقف متناثرة وإليك في هذا العنصر وقفة سريعة في حياة علمين فاضلين فإنك إذا نظرت لحياة أولئك الرجال وجدت مدرسة في جميع الجوانب وهذا هو العجب والله في حياتهم وأنا أقول نالوا ما نالوا رحمهم الله تعالى والله بسخاء أنفسهم ونصحهم لهذه الأمة ليس بكثرة الصلاة ولا الصيام ولا العلم وإنما بسخاء هذه النفوس وطهارة هذه القلوب نالوا ما نالوا رحمهم الله تعالى اسمع أقول مدرسة في جميع الجوانب في العلم في الجهاد في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في العبادة في الحرص على النوافل في الخوف من الله في الزهد في الورع في التواضع في حسن الخلق في كل شيء
حدث ما شئت من حلم ومن كرم
وانشر مآثرهم والباب متسع(/9)
أما اليوم فتعال وانظر لحالنا فإن ظاهرها الصلاح وقد نحسب في القدوات والسادات والله أعلم بسرائرنا مصارحة النفس وصلاحها يعلم الله ما يريد فإننا ننظر لأقوالنا وأفعالنا وأحوالنا وانتصارنا لأنفسنا وتسترنا وعجبنا لذاتنا وإذا وقفت على حالنا مع النوافل والطاعات أصابتك الحسرات والآهات وقل مثل ذلك في طلبنا للعلم وقل مثل ذلك في أمرنا ونهينا عن المنكر ثم قل مثل ذلك في إهمالنا لقلوبنا وحملنا على الآخرين وجرحهم ونبذهم واستغفر الله أن أعمم ولكن كل نفس أعلم بنفسه وكل نفس منا بما كسبت رهينة إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله أقول لك يا أخي الحبيب تعال أقف وإياك للنظر في جانب سلامة الصدر فقط وطهارة القلب في حياة هذين الرجلين في أكثر من في حياتهما إنهما [أحمد بن حنبل] والإمام ابن تيميه رحمهما الله تعالى جميعا وفي حياتهما مثل أعلى للعاملين والدعاة المصلحين والعباد المخلصين فمع كثرة الأذى لهما والنيل منهما وسجنهما وجلدهما والتعرض للفتن بل والتكفير والتفسيق وللتدبير وللتبديع عياذا بالله ومع ذلك كله فاسمع وتفكر لتعرف من أنت أيها المسكين اسمع فصارح نفسك وكن لها من الناصحين أنت إذا رماك أحد تهمة أوغرت عليه وقلت ما تركت صغيرة ولا كبيرة إلا وذكرتها في قائلك أما هؤلاء فاسمع رعاك الله ذكر [عبد الغنى المقدسي] في كتابه محنة الإمام أحمد في مسنده إلي أبى على حنبل قال حضرت أبا عبيد الله إي أحمد بن حنبل وأتاه رجل في مسجدنا وكان الرجل حسن الهيئة كأنه كان مع السلطان فجلسا حتى انصرفا من كان عند عبد الله ثم دنا منه فرفع أبو عبد الله بما رأى من هيئته فقال له يا أبا عبد الله اجعلني في حل الرجل يقول لأحمد اجعلني في حل قال أحمد من ماذا قال كنت حاضرا يوم ضربت وما أعنت ولا تكلمت إلا أنى حضرت ذلك تأمل الرجل يستسمح فقط لأنه حضر يوم ضرب أحمد فأطرق أبو عبد الله ثم رفع رأسه إليه فقال أحدث لله توبة ولا تعد إلى مثل ذلك الموقف فقال له يا أبا عبد الله أنا تائب إلى الله تعالى من للسلطان قال له أبو عبد الله فأنت في حل وكل من ذكرني إلا مبتدع هذا كلام الإمام أحمد رحمه الله قال أبو عبد الله وقد جعلت أبا إسحاق في حل من هو أبو إسحاق؟ المعتصم الذي ضرب وآذى الإمام أحمد قال وقد جعلت أبا إسحاق في حل ورأيت الله عز وجل يقول اسمع لمن تدبر القرآن (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ـ هذا الكلام للإمام أحمد ـ بالعفو في قضية مسطح ثم قال أبو عبد الله: العفو أفضل إذا دار في نفس الإنسان الانتقام والتشفي إذا حق عليك أحد أو سمعت أن أحدا قال فيك أو حتى آذاك مهما كان هذا الأذى لا شك أن النفس بطبعها كبشر تعمد إلى الانتقام تعمد إلى الغضب ولكن على الإنسان أن يرعى هذه النفس وأن يحرص على تربيتها أن حسن الخلق لا يكون صاحب الخلق حسن الأخلاق إلا في المواقف العصيبة الشديدة أما في المواقف الهينة اللينة لا لا يمكن أن يتضح حسن خلقه إلا في المواقف العصيبة فلما فكر الإمام أحمد رحمة الله تعالى وتذكر قول الله تعالى ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) من عفا الله عنه فإذا به يقول: العفو هو الأفضل وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك هذا كلام الإمام أحمد ولكن تعفو وتصفح عنه فيغفر الله لك كما وعدك انتهى الموقف وأيضا ساق المقدسي رحمه الله بسنده إلى[ أبى على عبد الله بن الحسين بن عبد الله الخرقي] وقد رأى أحمد بن حنبل قال بت مع أحمد بن حنبل ليلة لم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح قال ذكرت فقلت يا أبا عبد الله كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ قال أحمد واسمع قال أحمد ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي بالدرس قوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فسجدت وأحللته من ضربي في السجود رحم الله الإمام أحمد هكذا والله القلوب وهكذا والله هو التعلق بالله جل وعلا والتدبر لهذا الكتاب فمن منا يريد أن يعفو الله عنه ، ويصفح الله جل وعلا عنه أيها الأحبة وذكر [ابن رجب] في طبقات الحنابلة عن [أبى محمد خوزان] قال جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له نكتب عن [محمد بن منصور] ؛محمد بن منصور الطوسي فقال إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعن من يكون ذلك قالها مرارا يكررها الإمام أحمد إلى الآن المسألة لا شيء فيها لكن أتعرف من هو محمد بن الطوسي هذا؟ قال الرجل إنه يتكلم فيك فماذا قال الإمام أحمد مع أن الإمام أحمد يعلم عندما قال إذ لم تكتب عن محمد بن منصور الطوسي فعن من تكتب يعلم أن محمدا يتكلم فيه فقال الرجل إنه يتكلم فيك فقال أحمد رحمه الله تعالى رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل وما أعجب مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى اقرأ هذا الكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل وانظر مواقفه مع من عاداه ومع من ضربه ومع من سبه وشتمه فرحم الله الإمام أحمد
أضحى ابن حنبل محنة مأمومة
وبحبه يعرف المتنسك(/10)
فإذا رأيت لأحمد منتقصا
فاعلم بأن ستوره ستهتك
ومن مواقف شيخ الإسلام أبى تيميه رحمه الله تعالى مع مخالفيه بالرغم من إيذائهم له وتعديهم عليه بالباطل إلا أنه لم يقابل ذلك رحمه الله إلا بالإحسان فها هو يقول في الفتاوى في الجزء الثالث صفحة 271 يقول وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفى غيرها يقصد في الفتنة التي حصلت في وقته وإقامة كل خير وابن مخلوف هذا ومن هو ابن مخلوف ابن مخلوف هذا قال عن ابن تيميه قال عن شيخ الإسلام هو عدوي ولما بلغه أن الناس يترددون إلى ابن تيميه في سجنه قال ابن مخلوف عن ابن تيميه يجب التضييق عليه وإن لم يقبل وإلا فقد ثبت كفره يعني وصل الحد والعياذ بالله الحد عند ابن مخلوف أن يكفر ابن تيميه رحمه الله تعالى ومع ذلك اسمع كلام ابن تيميه فيه أو ابن مخلوف فيه يقول ابن تيميه لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فأني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونا للشيطان على إخواني المسلمين انتهى كلامه رحمه الله ويقول أيضا في موضع آخر في الجزء الثالث في صفحة 245 هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء فالقضية ليست قضية كلام وشتم لا بتكفير بتفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعل وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وأجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه وما كان لي ما اختلفوا فيه ويقول رحمه الله أيضا الجزء الثاني والعشرون ص 55 فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم ولو كان الرجل مشكورا على سوء عمل لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خيري الدنيا والآخرة لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وعلائه وأياديه الذي لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له انتهى كلامه رحمه الله تعالى ويقول ابن القيم في كتابه عن شيخه ابن تيميه رحمه الله تعالى وما رأيت قد أجمع بمثل هذه الخصال يعني سلامة الصدر وتنقية القلب والعفو عن الناس وما رأيت أحدا قد أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول وددت أنى لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئته يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه اسمع يقول وجئت يوما مبشرا له موت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله وعزاهم وقال إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه على نحو هذا الكلام فسروا به وعظموا هذه الحالة منه فرحمه الله ورضي الله عنه
فكرر علي حديثهم يا حادي
فحديثهم يجلي الفوائد الصادي(/11)
هكذا يكونون رضوان الله تعالى عليهم في مواقفهم وفى حياتهم وفى أحوالهم مع من عاداهم أو حتى كفرهم أو فسقهم أو بدعهم أو آذاهم هكذا تكون القلوب المؤمنة المتعلقة الخائفة الراجية من الله العفو والصفح والتي تمضى إلى هذه الدنيا على أنها حياة أو دنيا ممر ودار مر لا دار مقر هكذا التعلق بالله جل وعلا وطلب العفو ومرضاته سبحانه وتعالى أخيرا نتائج سلامة الصدر وآثاره ولو لم يكن من آثار سلامة الصدر وتنقية القلب إلا أنه سبب لدخوله الجنة كما ذكرنا في أول حديث ذكرناه من حديث أنس فإن سلامة الصدر من أعظم أسباب دخول الجنة ولذلك اسمع ابن القيم أيضا يقول في مدارك السالكين في الجزء الثالث 318 يقول وها هنا للعبد إحدى عشر مشهدا فيما يصيبه من الخلق وجنايتهم ويقول ثم قال في صفحة 319 المشهد الثالث مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لعشي بصيرته فإنه "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا "كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل هذا وفى الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام ويقول أيضا رحمه الله تعالى- ابن القيم - في صفحة 311 في المشهد السادس يقول نشر السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما له من الأذى وطلب الوصول إلى ترك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه بين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوقاس* وإعمال الفكر في إدراك الانتقام ثم أثرا آخر ونتيجة أخرى من نتائج تنقية القلب من الغل والحسد وهي لو لم يكن في هذا القلب كما أشار ابن القيم رحمه الله إلا الطمأنينة منه وراحة البال لصاحب هذا القلب ولو لم يكن إلا هذا الأمر لكفي به شرفا ونتيجة فصاحب القلب الذي لا ينظر ولا يتشفى ولا يحقد ولا يحسد مطمئنا مرتاحا هادئا وذلك تجد أنه خال من الأحقاد والظنون ولا ينشغل إلا بطاعة أو بعمل خير فمتى نتحرر من هذا الأثر أيها الاخوة ولذلك اسمع لابن تيميه عن الذهبي وهو يقول أو ينقل قول [زيد بن أسلم] يقول نقل عن [أبي دجانة] رضي الله تعالى عنه وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له ما لوجهك يتهلل فقال ما من عمل شيء أوفي عندي من اثنتين كنت لا أتكلم إلا فيما يعنيني والأخرى كان قلبي للمسلمين سليما ما أحلى أن تقابل الله جل وعلا وقلبك سليم ويقول أيضا [سفيان بن الحارث] قلت لأبى بشر وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخبرنا عن أعمال من كان قبلنا قال كانوا يعملون يسيرا ويأجرون كثيرا إذن ما ذكرت لك في البداية ليست بكثرة صيامهم وصلاتهم وصدقاتهم فكانوا يعملون يسيرا ويأجرون كثيرا قال وقلت ولما ذاك قال لسلامة صدورهم ويروى هذا الأثر الذهبي في كتابه الزهد. وأيضا ذكر ابن رجب في كتابه روضة الإسلام قال عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال لن يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة.
أخيرا الأسباب التي يجيء منها حقد القلب أو موته والأسباب أسباب امتلاء الصدر وغل القلب تنقسم إلى قسمين:(/12)
أسباب مباشرة وأسباب غير مباشرة وانتبه لها لعل ألا يكون أحد الأسباب موجود في نفسك فمن الأسباب المباشرة على رأسها الشيطان إن الفرقة والخلاف وملء الصدور بالشحن وضيق الصدر غاية من غاياته كما في الترمذي رواه مسلم كتاب صلاة المنافقين تحريش الشيطان وبعثه سرياه إلى فتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا وحديث [جابر] رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " أي بالخصومات والحروب والفتن وغيرها ،انظروا لأحوال المسلمين اليوم من جميع الجهات تجدون أن الشيطان يقوم بالتحريش بين المسلمين في كل مكان إذن هذا هو السبب الأول المباشر وسبب غير مباشر هي أمراض القلب بأنواعها سبب امتلاء القلب والصدر بالغل والحقد والحسد والانتقام والتشفي سبب مباشر وهو أمراض القلب بأنواعها بدءا بسوء الظن والحسد والنجوى والغرور والهوى وحب التستر وغيرها كثير مما تعلمون من أمراض القلب وجماع ذلك الغفلة عن القلب وإهماله ونشكو إلي الله جل وعلا حالنا مع قلوبنا وإطلاق عنانها إننا نهتم بأنفسنا كثيرا نهتم بمظهرنا نهتم ببيوتنا بمراكبنا بمأكولاتنا بمشروباتنا ولكننا نغفل كثيرا عن قلوبنا أن نراقب هذا القلب أن نرعاه أن نحفظ عليه نهمله كثيرا ونغفل عنه وبالتالي يمتلئ بغضا على فلان وحقدا لفلان وحسدا لفلان وسوء ظن بعلان فتجتمع واليعاذ بالله نقط سود نقطة نقطة حتى يصبح القلب أسودا **** لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا عياذا بالله ولذلك أقول إن المسلم لو اهتم بقلبه أكثر مما يهتم بمظهره وبيته وأكله وشربه لوجد أن الله سبحانه وتعالى وفقه في كل صغيرة وكبيرة سمعت حياة أولئك الأنقياء رحمهم الله تعالى كيف كان بمجرد سخاء نفوسهم وسلامة قلوبهم وسخاء نفوسهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه فخذ مثلا سوء الظن فسوء الظن هو ترجيح ما يخطر في النفس من تحميل سوء ويبدأ سوء الظن بخافق يخفق به ثم لا يزال الشيطان ينفخ فيها حتى ينزلها منزلة الحقيقة هذا هو سوء الظن فتكلمنا في المقاصد والنيات فنقول مثلا فلان يقول كذا ويقصد من كلامه كذا فأصبحنا نظن فيه النوايا واليعاذ بالله وإرادات الناس فنتكلم فيما في قلوب الناس وكأننا أصبحنا نعلم الغيب وما يدور في قلوب هؤلاء وفى نفوسهم وما أجمل قول [محمد بن سيرين] رحمه الله تعالى قال إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد فقل ألتمس له عذرا لا أعمله0
وأما الأسباب الغير مباشرة فأولا الاختلاف في وجهات النظر وطريقة سير العمل فقد يؤدى الخلاف في الآراء والتصورات إلي اختلاف قلوبهم وجفوتهم إليهم بالشحناء يعني ليس شرطا يا أخي الحبيب أن يوافقك الناس في كل ما تريد ليس معنى ذلك أن توافقني وإلا أن تعدوني خطأ أن نأخذ هذه القاعدة في حياتنا فاختلاف وجهات النظر كل من الناس له وجهات نظر المهم الحمد لله أن نتفق في الأصول أما الفروع والاختلاف فيها واختلاف وجهات النظر وطريقة العمل هذا يدعو إلى كذا وذاك يدعو إلى ذاك الأمر فهذا لا يدعي أبدا إلى أن تمتلئ قلوبنا بغضا وحقدا وشحناء على بعضنا واليعاذ بالله بل ننصح أخانا وننبهه على ما وقع فيه من خطأ هذا هو واجبنا أما نبغضه ونحقد عليه ونهجره لا ثم .
ذكر الذهبي في السير قال قال [يوسف السلفي] قال ما رأيت أحدا أفضل من الشافعي ناظرته يوما في مسألة وافترقنا ولقيني ثم أخذ بيدي ثم قال يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة شف النفوس ألا يسعنا ما وسعهم يا اخوة قال [أحمد بن حسن السعدي بن عدي] سمعت أحمد بن حنبل يقول لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا هكذا كان رحمهم الله تعالى إذن فالخلاف في المسائل الفرعية لا يفسد للود قضية أبدا أيها الأحبة فقد كان يعذر بعضهم بعضا فيقول لعل له تأويلا ويقول لعل ذلك الحديث لم يبلغه أو لم يصله أو غير ذلك من الأعذار التي كانوا يبحثونها لبعضهم رحمهم الله تعالى ولذلك قال الذهبي في السير ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضا ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل .(/13)
الأمر الثاني من الأسباب الغير مباشرة لسبب امتلاء الصدر غلا وحقدا التنافس ولا شك أن التنافس أمر محمود ولكنه قد يتعدى ذلك إلى الحسد والغل على الآخرين خاصة بين الأقران ولذلك يقول الذهبي اسمع كلام الذهبي في الأقران يقول استبق وجهك وسل ربك العافية فكلام الأقران هو في بعض الأمر عجيب وقع فيهم سادة رحم الله الجميع ويقول أيضا كلام الأقران يطوى ولا يروى ويقول أيضا كلام الأقران هو في بعضهم يحتمل وطيه أولى من بثه إلا ما اتفق المعاصرون على جرح شيخ فيعتمد قوله إذن فالتنافس مطلوب ولكن طبيعة البشر قد يصل إلى قلبك قرين لك أو زميل فلان قد يصل إليه شيء من الحقد والبغض عليه فانتبه لمثل هذا الأمر ولكن ليس هذا الكلام على أن ينطبق على أحبابنا فهناك من الأقران أيضا من يهتم بقرينه بل هو يفضله على نفسه فاسمع فهذا [هشام بن يوسف] يقول كان [أبو بزار] أعلمنا وأحفظنا فهي صورة جميلة لحال الأقران المسلمين بل هناك صور أخرى كثيرة ولله الحمد والمنة .
ثالثا : التناصح وكيف يكون التناصح سببا للحسد والحقد فبعض الناس لا يحتمل النصيحة فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبثها فإذا نصحت أحدا فلانا من الناس وحرصت على وسائل النصيحة الصحيحة فإذا به يملئ قلبه عليك حقدا ويبدأ يبحث عن عيوبك ليته يقبل النصيحة أو يأخذها ويسكت ولكنه يحاول الانتقام لأنك ذكرت شيا من أخطائه مع أنك حرصت على أنها تكون وسيلة صحيحة بانفراد بينه وبينك وبالألفاظ الجميلة الطيبة وبالموعظة الحسنة ومع ذلك وجد في نفسه حقدا عليك فما زال والعياذ بالله يحتمل أو يبحث خطأك حتى يرد الصاع صاعين والسبب الرابع التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين ورحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري في باب السهولة والسماحة في البيع والشراء كيف السبيل إلى سلامة الصدر أعد عليك وسائلا إذا أردت أن تصل لسلامة الصدر باختصار .
أولا : تدعوا الله بصدق وإلحاح أن يرزقك قلبا سليما محبا للآخرين فقد كان في دعائه صلى الله عليه وسلم" اللهم أنى أسألك قلبا سليما" وردد يا أخي ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ) واسأل الله حسن الخلق فإن العبد ليدرك بحسن الخلق الصائم والقائم ،وما وصل أولئك الرجال إلى ما وصلوا إليه إلا بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح كما ذكرنا فاحرص على الدعاء لإخوانك وما أجمل إذا دعوت لإخوانك بهذه الكلمات وقلت قبل منامك اللهم من سبني وشتمني وضربني عند نومك اللهم إني عفوت عنه وصفحت عنه ما أجمل أن تردد الكلمات بنفسك وفى كل ليلة فإذا أنت نمت بقلب سليم وإذا مت مت على قلب سليم ولله الحمد ثم أتبع هذه الكلمات قولا جميلا قل وادع الله اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني أسألك بالله يا أخي الحبيب هل ستكون أحلم من الله وهل ستكون أعظم من الله سبحانه وتعالى في عفوه عنك أيها العبد فما عفوت عنه عن خلقه لا والله ثقة بالله ولذلك أقول لك يا أخي الحبيب اعف عن عباد الله يعف الله عنك طهر قلبك من الحقد والغل على الآخرين تجد أن الله سبحانه وتعالى يحفظك ويعف عنك سبحانه وتعالى ثم أيضا احذر الغفلة عن القلب وراقبها مراقبة جيدة واعلم أن تنقية القلب من الغل والحقد يحتاج إلى ترويض نفس وطول مجاهدة ومراقبة فإذا وجدت في قلبك على أحد فابحث عن الأسباب وصارح نفسك ولا تستجب لبائع الهوى فيها وعليك هضم النفس واسأل الله العون والتوفيق .
ثم ثالثا أحسن الظن بالآخرين والتمس لهم الأعذار فان لم تجد فقل لعلي أجد لك عذرا لا أعلمه قيل أن أبا إسحاق نسى عمامته يوما وكانت بعشرين دينارا عمامة وكانت جديدة وكانت بعشرين دينارا وتولى في دجلة أي جعلها في نهر دجلة لكي يتوضأ فجاء لص فأخذها ترك عمامة رديئة بدلها فطلع الشيخ فلبسها وما شعر حتى سألوه وهو يدرس في درسه فقال لعل الذي أخذها محتاج لم يقل اللص الذي فيه وما لفيه لا وإنما قال لعل الذي أخذها محتاج وانتهت القضية
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فالرابع الصبر والتحمل فإن الاحتمال مقبرة المتاعب فتمثل قول الشاعر:
إذا أمست قوارصة الفؤاد
صبرت على أذاهم وانطويت
وجئت إليكم ترك المحيا
كأني ما سمعت ولا رأيت(/14)
ثم الخامس العفو والصفح فمن عفا وأصلح فأجره على الله ومن علامته كما ذكرنا الدعاء لإخوانك خاصة من كان بينك وبينه بغضاء أو من كان بينك وبينه شحناء حاول أن تدعو له مع أنني أعلم أن هذا لا يطاق تدعو لإنسان وفى قلبك بغض عليه تدعو لإنسان وفي قلبك بغض وشحناء وحقد عليه هذا لا يطاق ولكن جرب وحاول أن تدعو لإخوانك وارض النفس من الشيطان فالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق والهداية كما يقول [عبد الله بن أحمد] ربما سمعت أبي في السر يدعو لأقوام بأسمائهم وإني لأعجب أن ينام المسلم ملء جفنيه وبينه وبين أخيه شحناء أو جفوة يقول لمن له قلب حي قرار وقد نام وقد تأتيه المنية تلك الليلة وما أجمل قول ذلك الشاعر وهو [مقنع الكندي] عندما قال:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبيني وبين ذي عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم
وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
لا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس ريم القوم من يحمل الحقدا
ثلاثة قبل النهاية وآخر المطاف أيها الأحبة أقول انتبه لهذه الثلاث
أولا: إن ما تقدم لا يعني أننا ننهى عن كثرة الأخطاء وعن التغاضي عن الزلات وعدم التنبيه عليها وتقويم الآراء فإننا نطالب بذلك ولكن الضوابط الشرعية المقررة عند سلفنا الصالح وعلمائنا الأفاضل رحمهم الله تعالى
الثانية هذا الموضوع رسالة . رسالة إليكم جميعا أيها الأحبة وإلى العلماء وإلى المشايخ وإلى طلاب العلم والمدرسين والأباء والمربين وجميع من يسمع هذا الأمر تربية الشباب وتربية الأجيال وتربية النفوس على صفاء النفس وطهارة القلب وصدق العمل وتقدير العلماء والدعاة وإن من أساليب التربية هي القدوة الحسنة.
وثالثا إن هذا الموضوع دعوة عامة لطهارة القلب وسلامة الصدر ووفاء النفس فهو أمانة عند كل من سمعه نشره وبثه بين الناس في كل طبقاتهم وفى مختلف أحوالهم إليكم مثل هذا الموضوع ولنتحدث به كثيرا ليحصل الحب والمودة وجمع القلوب وتوحيد الكلمة بين المسلمين فيسقط بذلك أعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم فبادر بنشره وليكن حديث مجالسنا ومدارسنا ورب مبلغ أوعى من سامع اللهم إني بلغت اللهم فاشهد اللهم إني بلغت اللهم فاشهد اللهم إني بلغت عبادك يا أرحم الراحمين بحقيقة هذا الموضوع وعظمته في نشره في قلوبهم وفى أنفسهم وبين صفوف الناس أجمعين اللهم فاشهد ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) (ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين )(/15)
الاجتماع السياسي عند العلامة ابن خلدون
لؤي عبد الباقي/ملبورن
يصادف هذا العام الذكرى المئوية السادسة لوفاة العلامة ابن خلدون، الذي يعتبر ممثل النص المؤسس لعلم الاجتماع وفلسفة العمران البشري، فهو من أهم المفكرين الذين تصدوا لتفسير نشأة الأمم وبناء الدول وقيامها واضمحلالها.
وُلد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي في تونس سنة 1332 وتوفي سنة 1406. تلقى علوم الشريعة واللغة والأدب في سن مبكرة، حيث حفظ القرآن الكريم، ودرس العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه، كما درس العلوم اللسانية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأدب، ثم انتقل بعد ذلك لدراسة المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية، إضافة إلى أنه جمع العلوم التي كانت سائدة في عصره من تاريخ وسياسة وغيره.
علم الاجتماع والعمران عند ابن خلدون
لقد وَضع ابن خلدون أول كتاب يعرض لعلم السياسة كعلم مستقل ذي كيان خاص، ليس بمعنى الأحكام السلطانية أو فلسفة المدينة الفاضلة، بل بالمعنى الاجتماعي الحديث، فلم ينتهج نهج الفكر التبريري، ولم يجنح نحو الفلسفة الطوباوية المثالية. فمهد لبحوثه التاريخية بمقدمته الشهيرة التي احتوت على أهم اجتهاداته ودراساته التي انتهت به إلى تأسيس علم مستقل بنفسه مستحدث الصنعة لم يقف لأحد قبله على كلام فيه، كما يؤكد ذلك بنفسه: "وكأن هذا علم مستقل بنفسه . فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى . وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقليا. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ".
لقد شكل المجتمع الإنساني، وما يعرض له من ظواهر وتحولات، المادة الأساسية والموضوع المحوري لبحوث ودراسات ابن خلدون، لذلك جاءت نظرته إلى موضوعه الاجتماعي منطلقة من أفق واسع ساعده - وخاصة أنه اتخذ من التاريخ أداة لتأييد وتوثيق آرائه - على معالجة أبحاث علم السياسة بشكل مستفيض في سلك منتظم من الروابط والشواهد. لذلك فقد كان ابن خلدون الاستثناء، ربما الوحيد، للفكر التبريري للواقع، من ناحية، والكتابات الفلسفية المثالية، من ناحية أخرى، إذ انه اهتم بتوصيف الواقع السياسي وتطوره، وربطه بالبناء الاجتماعي القائم، مستخلصاً عبر ذلك القوانين العامة لحركة وسير المجتمعات ولنشأة وتطور الدول، فكانت هذه القوانين، في كثير منها، صالحة لتوصيف الكثير من المجتمعات الإنسانية والدول التي جاءت بعد ابن خلدون حتى عصرنا الراهن، وهذا ما حدا بالدكتور محمد عابد الجابري إلى اعتبار أفكار ابن خلدون بأنها تمس الكثير من قضايانا المعاصرة، وإلى النظر إلى الخلدونية "كعناوين لواقع نعيشه ولا نتحدث عنه".
وبما أن المجتمع الإنساني كان مركز اهتمام ودراسة ابن خلدون فإضافة لما تعرض إليه في مقدمته من العمران وطبيعة الاجتماع وضرورته، وكيفية تنوعه، وما يؤثر عليه، من العوامل وأثر الطبيعة في أخلاق البشر وألوانهم وأحوالهم، كانت الدولة والسلطة والشؤون المتعلقة بهما من أهم محاور بحثه الأساسية، فأشار إلى قيام الدولة بالقبيلة والعصبية، وبين خصائصها وأشكالها وأسباب سقوطها، وتحدث عن تحول الدول من عهد البداوة إلى عهد الحضارة، وعن الملك وأصنافه، وعن الإمامة والخلافة، وما يتعلق بالخلافة من بيعة وولاية عهد، وعن القضاء، وعن الإدارة والوزارة والدواوين، وعن الشرطة والجيش، وعن الجزية والخراج، وعن الحروب ومذاهبها، وعن التجارة والصناعة والعلوم.
أما بالنسبة للسلطة فقد فرق ابن خلدون بين الملك والسياسة والخلافة، فعرف الملك الطبيعي على أنه "حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة"، فيكون الملك عند ابن خلدون مبنياً دائماً على الغلبة والقهر، ثم بين أن "السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار"، وعلى هذا فإن السياسة ترتبط بالحكمة والتجرد من المصالح الذاتية، أما بالنسبة للخلافة فهي في نظر ابن خلدون "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به "، وبذلك تكون الخلافة أعم وأشمل من السياسة الدنيوية، إذ أنها تتضمن مصالح الدنيا والآخرة.(/1)
وقد اعتبر ابن خلدون الحكومة من المصالح العامة التي فوض الله أمرها إلى الأمة، وهو يرى أن مقصد الشارع أن يكون للمجتمع نظام عادل يصون وحدته ولحمته الداخلية ويحميه من هجمات العدو الأجنبي، لذلك فإن الشرع لم يحدد شكل الحكومة سمعاً؛ أي بالنص. وبما أن أحكام الشريعة الإسلامية هي الأساس في محتوى النظام وضوابط العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، فإن النظام الذي يحقق غايته ضمن محتوى الشريعة لا يتعارض، كما أكد ابن خلدون، مع الإسلام، فالإمامة أو الخلافة عند ابن خلدون من القضايا المعقولة ولم تثبت تعيينا بنص شرعي. وإذا ما كان نصب الإمام واجباً شرعياً بالإجماع، فإن هذا الإجماع حصل بناءً على حاجة عقلية ولم يكن مبنياً على نص شرعي: "ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم . وكذا في كل عصر من بعد ذلك . ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار . واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام . وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه قالوا وإنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض ". وحول كيفية نصب الإمام يقرر ابن خلدون أن ذلك "من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحل فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعاً طاعته".
ختاماً، على الرغم من أن ابن خلدون يعتبر أول من تناول العلوم الاجتماعية والسياسية بشمولية واسعة ومنهجية دقيقة واضحة؛ وهو أمر يفترض أن يكون فاتحة للمزيد من التأمل والبحث في واقع الأمة المتدهور من سيئ إلى أسوأ، إلا أن الفكر السياسي الإسلامي – في الوقت الذي كان فيه الغرب يشهد بداية نهضته العلمية والفكرية والسياسية - دخل بعده (أي ابن خلدون) حالة جمود وركود، لم يشهد مثلها من قبل، استمرت حتى العصر الحديث، الذي شهد ظهور العديد من الحركات الإسلامية الإصلاحية والتجديدية والصحوية.
-----------------
الهوامش
ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ص 38.
الجابري، د. محمد عابد، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، دار الطليعة، بيروت، 1980.
ابن خلدون، المقدمة، مصدر سابق، ص 191.
المصدر السابق، ص 191-192.
المصدر السابق، ص 193.(/2)
الاجتهاد فى الإسلام على الطريقة الأمريكية
"شيخة الإسلام السحاقية"
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
كانت البداية مقالاً بعنوان "الكاتبة إرشاد مانجي تطلق حملة الاجتهاد لدعم الإصلاح في الإسلام " نشرته صحيفة "صوت الوطن" المشباكية الفلسطينية فى 9/ 5/ 2005م ومعه التعليقات التى علق بها بعض القراء، ومنها تعليقٌ جزى الله صاحبه خيرا أشار فيه إلى موقع الكاتبة، وهو بالإنجليزية، على المشباك، فانتقلتُ إليه فى الحال، وهناك قرأت بعض المقالات عنها، ووجدت ترجمة عربية لكِتَابها "مشكلة الإسلام اليوم"، إلا أننى لم أجد النص الإنجليزى. لذا اكتفيتُ بمطالعة الترجمة العربية، فألفيتُ جرأة على الإسلام وقحة وأفكارا خبيثة مدمرة، ووجدت أنه لا بد من التعليق على ما قرأت، فكانت هذه الدراسة التى سيطالعها القارئ بعد قليل. ولكن علينا أولا الاطلاع على مقال جريدة "صوت الوطن".
الكاتبة إرشاد مانجي تطلق حملة الاجتهاد لدعم الإصلاح في الإسلام
غزة-دنيا الوطن
تستعد المؤلفة الكندية المسلمة من أصل باكستاني إرشاد مانجي، التي تصفها وسائل إعلام غربية بالكابوس الأسوأ الذي يواجهه أسامة بن لادن، تستعد لإطلاق حملة "الاجتهاد" من أجل تحقيق تعددية الآراء في الإسلام وتأسيس هيئة تساعد في خلق جيل من الشباب الإسلامي الإصلاحي لاستكشاف ودعم المزيد من الآراء الجديدة.
وفي هذا السياق قالت إرشاد مانجي في تصريحات لصحفية "الغارديان" البريطانية إنه لا يمكن لأي مجتمع أو عرق أو دين البقاء بعيدا عن احترام حقوق الإنسان. وتضيف مانجي في حديثها لـ"الغارديان" صباح اليوم الاثنين 9-5- 2005 "نحن المسلمون نتآمر ضد أنفسنا وفي أزمة حقيقة لأننا نجر بقية العالم معنا وإذا كانت ثمة لحظة مناسبة للإصلاح فهي الآن".
وتوضح مانجي حملتها الجديدة "الاجتهاد" عبر الإشارة إلى عقول إصلاحية عديدة في الإسلام "إلا أننا جميعا نعمل بشكل منعزل ونتحاج لتطوير علاقاتنا ونعتمد على بعضنا البعض في ذلك". ويبدو حسب الصحيفة البريطانية أن إرشاد مانجي تزور لندن حاليا للقيام بسلسة محاضرات حول حملتها الجديدة "الاجتهاد" لجمع المزيد من المناصرين لها في العالم الإسلامي.
وقالت مانجي أيضا بأنها تشعر بقرب النساء المسلمات منها أينما حطت رحالها و"هن في شوق لمعرفة كيف يمكن الانشقاق عن الآراء التقليدية المسيطرة والتمسك بالإيمان في الوقت نفسه". وتتابع "نحن بحاجة الآن لتحويل هذا التوق السري للتغيير إلى ظاهرة صريحة ومعلنة".
وكانت أصدرت إرشاد مانجي كتابا عن الإسلام هو من أكثر الكتب مبيعا في الغرب واسمه "الخلل في الإسلام دعوة إلى الصحوة من أجل الأمانة والتغيير" الذي نشر في باكستان وسينشر قريبا في العراق وتركيا والهند.
ومعلوم أن صحيفة "نيويورك تايمز" وصفتها "بالكابوس الأسوأ" الذي يواجهه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن كما قالت عنها صحيفة "جاكرتا بوست" بأنها واحدة من ثلاث نساء تصنعن تغييرا إيجابيا في الإسلام.
والآن إلى الدراسة التى عرضتُ فيها لكتاب المدعوّة "إرشاد مانجى"، صاحبة "الحملة ”اجتهاد”"، ونبدأ بإيراد السطور التالية من صفحة الشكر فى أول الكتاب:
" شكر وتقدير: إني ألبسُ خاتمين: خاتم يرمز إلى حبي لله، وخاتم للتعبير عن آصرة ارتباطي بشريكتي ميشيل دوغلاس. لذا سأبدأ بشكر الله، وأكثر ما أشكره عليه هو ميشيل. فمن بين كل ما منحتْني إياه منحتْني أيضا التولُّع بالعَدْو. وبسبب هذه الهواية أنهيتُ نصف ماراثون في الأيام الأولى من تأليف هذا الكتاب. وخلال تلك الساعتين اللتين توقف فيهما العقل رأيتُ أشجارا على يساري، وشلال ماء على يميني، وأبنية امامي، وشعرتُ من صميم قلبي بالتوحيد، بوحدة خلق الله، الذي يصدف كونه أول ركن من أركان الاسلام. ومن نواحي أكثر مما يتسنَّى لي تعدادها فإن ميشيل هي صفحة الشكر والتقدير.
آن كولينز من دار "راندوم هاوس: Random House" تأتي أيضا على رأس القائمة، أولا لشجاعتها في نشر هذه الرسالة- الكتاب. ولكن هذا ليس كل شيء، فالأمانة التي تحدثتُ بها عن الإسلام قابَلَتْها آن بأمانة مماثلة في كل ما يتعلق بالمخطوطة. وآن بوصفها حاضنة تحتاج إلى ممارسة، ولكن بوصفها محررة وناشرة ما كان لي أن أطمح بأفضل منها. كما يستحق بيل كامبل وفريقه في دار "ماينستريم ببليشنغ: Mainstream Publishing" كل التقدير لموافقتهم على هذا النص في وقت ابتعد عنه ناشرون بريطانيون آخرون. وهذا تذكير في محله بأن "الاتجاه السائد" لا يعني بالضرورة اتجاها "تقليديا".(/1)
كان هناك آخرون مَنَّ الله عليّ بهم، فإن بول مايكلز ساعدني على إقامة اتصالات، وفي مجرى ذلك أصبح صديقا موثوقا. وأنا أعتزُ بصحبته المتألقة فكريا. والجوقة ذات القلوب الكبيرة في مركز هارت هاوس الطلابي بجامعة تورنتو، وعلى رأسها مارغريت هانكوك، وفَّرتْ لي مكتبا فاخرا ومكتبة للعمل منهما. وقد أتاح لي ما وهوبه من مكان أن أنكبّ على عملي في البحث والتنقيب مع الإبقاء على علاقتي في البيت سالمة. فشكرا هارت هاوس. أشكرُ أيضا، على ما يبدو في ذلك من غرابة، جهازي المحمول لاستخدام البريد الإلكتروني "بلاكْبري: Blackberry"، الذي سجلتُ وحفظتُ فيه ملاحظات مستفيضة وَجَدتْ طريقها إلى نص الكتاب. بل إني حتى استخدمتُ جهازي هذا لكتابة مقطع نقدي لم يتحمل الانتظار الى أن أمتشق القلم والورق من أجل تسطيره. وفي أوقات كهذه أهيمُ بتضافر التكنولوجيا والإيمان.
رغم أن هذا الكتاب استغرق زمن حياة كاملة قبل أن يختمر فلم يكن لدي سوى عام لكتابته. وبمثل هذا الجدول الزمني الضيق أسهم كثيرون بسقْطهم: فإن فال روس وجون بيرس وكندال أندرسن ساعدوني على تشذيب الأفكار من لحظة الانطلاق الأولى، ونشأ طابور دولي من المشاركين في مجال البحث ـ والذين تطوروا إلى مساعدين هم سمارة حبيب وكارولين فيرنانديز وميكي سيراك. وكانت معونة ريك ماثيوز وصموئيل سيغيف كبيرة في تدقيق الحقائق. وإن مداخلات فرانك كلارك وأماندا ساسمان ولينساي هندرسن حققت لي لقاءات هامة، في حين أن النقاشات المحتدمة مع جيرالدين شيرمان وروبرت فولفورد وأنا بورتر وأنا مورغان وأماتزيا بارام ودوغ سوندرز ودون حبيبي وطارق ونرجس فتاح قادتني إلى معارف هامة (ينبغي أن أُشير إلى أن الزوجين فتاح يختلفان تماما مع وجهة النظر التي أبديتها عن فلسطين، وكذلك مع ما أُوجهه من اتهام بوجود تواطؤ إسلامي مع الهولوكسوت (المحرقة). ويفضي هذا إلى سبب آخر للتعبير عن شكري لهما على عدم سماحهما للاختلاف الحاد بأن يُفسد في الود قضية ). كما كان مهما في ثقافتي عملي مع منافذ إعلامية مختلفة بينها "غلوب أند ميل: Globe and Mail "، و"ستي تي في: Citytv "، و"ماكلينز: Maclean’s"، و"فيشن تي في:Vision TV "، و"ناشنال بوست: National Post "، و"غلوبال تي في:Global TV "، و"هيئة الإرسال الكندية"، و"هُورايْزُونْز: Horizons"، وفي المقام الأول "تي في أونتاريو: TVOntario"حيث للأفكار الكبيرة أهميتها.
إن الدعم الذي أبداه الأصدقاء في لحظات هبوط المعنويات هو ما أُثمنّه أعظم تثمين. وفي هذا المجال أخصُّ بالذكر سمانثا هايوود وأدريانا سالفيا وأندرو فيدوسوف وميشال لامورو ومايكل سافج وعصبة بوشكونغ لايك. أما الذين لا يجدون أسماءهم في هذه القائمة المختصَرة فبإمكانهم التعويل على وجبة عَشاء على حسابي (لم أذكر إلا أكثر الأصدقاء بذخا لكي لا ينتهي بي المطاف إلى الإفلاس). وبمناسبة الحديث عن تفادي الإفلاس فمنِّي أعمق التقدير لوكيل أعمالي مايكل لايفاين وساعده الأيمن، ماكسين كوينغلي".(/2)
هذا ما كتبته المدعوّة إرشاد مانجى الباكستانية الكندية فى كلمة الشكر التى صدَّرتْ بها كتابها: "مشكلة الإسلام اليوم"، وهو الكتاب التى تقول إنها كتبته لكى تساعد المسلمين على الخروج من مستنقع التخلف الذى هم فيه، والذى تصوِّر نفسها عبر صفحاته على أنها فقيهة مجتهدة تعمل على تقديم فهم متنور للقرآن والإسلام يناسب العصر ويضمن للمسلمين أن يتبوأوا المكان الذى ينبغى أن تشغله الأمم المتحضرة. وكما يقولون فأول القصيدة كفر، إذ إن الشكر الذى وجهته الكاتبة لله سبحانه وتعالى هو شكره على أنه قد وهبها ميشيل. أتدرون من ميشيل؟ إنها صديقتها التى تعيش معها كما يعيش أى رجل وامرأة متزوجين، وتمارس معها السِّحاق. والذى فهمتُه أنها هى الفاعلة، وميشيل هى المفعول بها، علاوة على أن منظرها أقرب إلى الذكورة منه إلى الأنوثة، كما أن التمرد الذى تبديه والاقتحام الذى تعمل على إحداثه فى جدار الحصن الإسلامى لا يناسب الجانب السلبى من الشذوذ الجنسى، أى لا يناسب المفعول بل الفاعل. لعنة الله على الفاعل والمفعول والمرفوع والمنصوب والمشبوح جميعا وكل أبواب النحو الخاصة بالفاعلين (ونواب الفاعلين بالمرة فوق البيعة من أجل خاطر هذه الشاذة ومن يشاكلها، وكثيرٌ ما هُمْ، وكثيراتٌ ما هُنّ بين الملاحدة والمتواطئين مع أعداء الإسلام، وهو ما كنت أردده دائما ويستغربه منى بعض من لا علم لهم بطبيعة هذه النفوس الوضيعة، ويتأكد لى كل يوم أثناء تقليبى فى حيوات المتمردين والمتمردات على دين محمد الكريم، هذا الدين الذى لا يحبه إلا من كان كريما مثله). قلت: لعنة الله على الفاعلين وعلى نواب الفاعلين. ولعنة الله كذلك على المفاعيل، سواء كانت مفعولا به أو فيه من أمثال ميشيل، ننّوسة عين الباجسة المتمردة السليطة اللسان النجسة المعتقد والقلب، أو مفعولا لأجله، أى الغربيين والصهاينة وأجهزة مخابراتهم. ولقد افتتحت السحاقية كتابها بذكر شذوذها والمفاخرة به، وإلا ما تنبهتُ إلى مغزى الشكر الذى وجهتْه إلى الله والثناء الذى أغدقته على ميشيل فى النص السابق، ولظننتُ العلاقة بينهما مجرد صداقة عادية كأية علاقة من هذا النوع بين فتاتين أو امرأتين طبيعيتين!
وهذا ما قالته البنت المفعوصة التى ضحكوا عليها وأوهموها أنها ستكون مجتهدة الإسلام للقرن الخامس عشر للهجرة، عصر اللوطيين والسحاقيات فى الغرب وأمريكا وكندا، و"يا ما فى جراب الحاوى"، وما أكثر ما ستَرَوْنَ أيها المسلمون من البهلوان الأمريكى العجيب وأرانبه وكتاكيته، وكذلك خنازيره، التى يخرجها من كمه (أو من قبعته. لا فرق، المهم أنه يخرجها والسلام، وإن كان العرض البهلوانى لا يبعث على السرور، بل على الغم والهم والرعب لأنه عرض الدمار والخراب والقتل والأحقاد الشيطانية المتسكنة فى قلوبهم السُّود لم تبرد أو يهدأ لها أُوَار على مدى القرون الطوال من عينة ما تَرَوْنه فى فلسطين وأفغانستان والعراق، والبقية تأتى، لا جعلها الله تأتى رغم أننا لا نستحق أن يعفينا الله من العقاب، فنحن المغفَّلون والخونة لأنفسنا بامتياز! هل رأيتم أمة تقدم رقابها للذبح إلى الجزار راجيةً إياه أن يشرّفها بالقتل بسكينه المتحضر، ومعطيةً إياه المال بالمليارات، ومزودةً إياه بالجنود والمخابرات، كى يستطيع إتمام المهمة؟ إذا لم تكونوا قد رأيتم أو سمعتم، فالمثَل الحىّ أمامكم. إنه نحن: أنا وأنتم على السواء!). أقلت إنهم ضحكوا عليها وأوهموها؟ لا ضحك ولا يحزنون، بل هو مجرد تعبير تقليدى مما يجرى على اللسان والقلم دون قصد، لأن أمثالها إنما يذهبون إلى وكر الشيطان بملء حريتهم، تحفزهم إلى ذلك النجاسة المشتركة والخبث المنحط الذى يربط بينهما! قالت شيخة إسلام آخر زمن دون أن يختلج لها جفن أو تعتمل فى أعماقها رفّة ندم أو حياء إن هناك سؤالين تريد أن تطرحهما مدخلا لاجتهادها الفقهى فى هذا الكتاب، ثم تبدأ بالسؤال الأول قائلة: "كيف يمكن التوفيق بين المِثْلِيّة والإسلام؟ فأنا سحاقية بصراحة (أّنْعِمْ وأَكْرِمْ!). وأختار "الإفصاح" عن توجهي الجنسي لأني بعدما نشأتُ في بيت تعيس برعاية أب يحتقر الفرح ، لستُ الآن بصدد تخريب الحب المتبادل الذي يمنحني البهجة في سن البلوغ. التقيتُ أولى صديقاتي في العشرينات من عمري، وبعد أسابيع أخبرتُ أمي بالعلاقة. استجابتْ كعهدي بها أمًّا حنونًا (يا للحنان الأموى الرهيف! ألذلك جُعِلَت الجنة تحت أقدام الأمهات؟). وبالتالي فان مسألةَ ما إذا كان بمقدوري أن أكون مسلمة وسحاقية في الوقت نفسه بالكاد كدَّرتني. فذاك دين، وهذه سعادة. وكنتُ أعرف أيهما أحتاج أكثر (وهل فى ذلك ريب؟ السِّحَاق طبعا!). واصلتُ حياتي أدرس الإسلام بصورة متقطعة، وأتعلم الفن الجميل لإقامة علاقات مع النساء (موضوع كتاب آخر بحد ذاته)، وأنتج برامج للتلفزيون، وأعيش على العموم الحياة متعددة الاتجاهات لشابة في العشرين ونيف في أميركا الشمالية.(/3)
وعندما جعلني عملي في التلفزيون شخصية عامة أكثر شهرة تطوَّر أملي في التوفيق بين مثليَّتي والإسلام إلى واحد من انشغالاتي. وكان المشاهدون يريدون مني أن أُبرِّر حالتي الاستثنائية في الجمع بين هويَّتين. وقد دُفِعْتُ إلى نوبة حادة من المراجعة، بل راودتني حتى إمكانية التخلي أخيرا عن الإسلام من أجل الحب. اسمعوا: أيُّ حافز أفضل من هذا الحافز للتضحية بأي شيء؟ ولكني كلما أصل إلى حافة إقصاء نفسي كنتُ أتراجع ، لا بدافع الخوف وإنما من باب الإنصاف، إنصاف نفسي. وكان سؤال واحد يتطلب مزيدا من التفكير: إذا كان الله العليم القدير لا يريد أن يجعلني سحاقية فلماذا خلقني سحاقية؟ (صحيح: لماذا؟ أسعفينا بالجواب، جزاك الله عنا خيرا) هل خلق أحدا آخر بدلا مني؟
التحديات العدائية لـ"تبرير نفسي" أصبحت حدثا يكاد يكون يوميا بعد عام 1998. ففي ذلك العام بدأتُ أستضيف برنامج "تلفزيون شاذ: Queer Television"، وهو مسلسل تلفزيوني يُبَثّ على الإنترنت أيضا عن ثقافَتَيِ المثليين والسحاقيات. وكان البرنامج يتعلق ببشرٍ مثلنا بعيدا عن الإباحية والخلاعة. ومع ذلك فإن مسلمين أتقياء انضموا إلى أصوليين مسيحيين في الاحتجاج ضد ظهوري على شاشات تلفزيوناتهم. وفي الواقع أني ما كنتُ أتوقع أقل من ذلك، ولكن هل كنتُ من السذاجة كي أتوقع أكثر قليلا من ذلك: مناظرة بدلا من مجرد الإدانة؟".
ولعل القارئ لم يفته أن الذين وقفوا يعضّدون هذه السحاقية كلهم من الغربيين واليهود، وأن الذين شجعوها على تأليف الكتاب ووفّروا لها الجو والمراجع والمال وراحة البال (مع مستلزمات ممارسة الشذوذ الجنسى بدءًا بميشيل، وانتهاءً بما لا أدرى ماذا) ونشروه لها هم مسؤولو دار "راندم هاوس: Random House"، وهى دار نشر يهودية. وبالمناسبة فالكتاب قد تُرْجِم إلى كل اللغات الرئيسية فى القارات الخمس، ويوزَّع الآن فى كل أرجاء الأرض على أوسع نطاق مع أنه الكتاب الثانى فقط الذى يحمل اسمها. فإذا أضفنا أنه يفيض بالتغزل فى اليهود والأمريكان، والغرب بوجه عام، ويرمى المسلمين والإسلام ورسوله وإلهه بكل نقيصة من أجل سواد عيونهم (أو زرقتها على الأصح) اتضحت لنا ملامح الصورة، وعرفنا أسرار ما يجرى خلف الأستار! ولكى نزوِّد القارئ بعينة سريعة مما تلقته من تربيةٍ فى صباها تلك البنتُ السحاقية التى يَسْعَوْن لتكون أول شيخة إسلام فى التاريخ، وكذلك أول من يلبس من المشايخ الطاقية اليهودية بدلا من العمامة)، لكى نزود القارئ بعينة مما تلقته من تربيةٍ فى صباها هذه البنتُ التى تشتم المسلمين فى كل صفحة من صفحات كتابها وتشنِّع عليهم وعلى دينهم ولا ترى فيه أو فيهم إلا كل شر وقبح وغباء، مثلما لا تستطيع أن تبصر فى اليهود والغربيين ودينهم إلا كل ما هو نبيل كريم ذكىّ متحضر، أَسُوق هذه السطور من حديثها عن المدرسة النصرانية التى أخذت تتردد عليها فى بيئتها الجديدة التى انتقلت إليها أسرتها إثر مغادرتها أوغندا فى أيام عيدى أمين حسبما تقول:
"بعد عامين على استقرار عائلتي اكتشف والدي توافر خدمات مجانية للعناية بالأطفال أثناء غياب الوالدين، في كنيسة "روز أوف شارون المعمدانيةRose of Sharon Baptist : Church" (ما أن تقول كلمة "مجانا" للمهاجر حتى تتراجع الانتماءات الدينية إلى موقع ثانوي أمام الصفقة المتاحة في اليد). وكلَّ أسبوع عندما كانت والدتي تغادر المنزل لبيع منتجات "إيفون" بالطواف على البيوت كان والدي، الذي لا يكن حبا كبيرا للأطفال، يترك صغاره في الكنيسة. وهناك كانت السيدة الجنوب آسيوية المشرفة على دراسة الكتاب المقدس تُبْدِي من الصبر معي ومع شقيقتي الأكبر سنًّا ما تُبْديه مع ابنها الذي من دمها ولحمها. وهي التي غرست فيّ القناعة بأن أسئلتي كانت جديرة بأن تُسأل. وبديهي أن الأسئلة التي كنتُ أطرحها طفلةً في السابعة من العمر ما كان لها إلا أن تكون أسئلة بسيطة: من أين أتى المسيح؟ متى عاش؟ ماذا كان يشتغل؟ ممَّ تزوج؟ هذه الأسئلة لم تضع أحدا في مأزق، ولكن مقصدي أن فعل السؤال، ثم السؤال، كان دائما يَلْقَى ابتسامة أخَّاذة.(/4)
لعل هذا هو الحافز وراء فوزي، في الثامنة من العمر، بجائزة "أفضل المسيحيين الواعدين لهذا العام". وكانت جائزتي طبعة مصورة بألوان زاهية لمائة قصة وقصة من الكتاب المقدس. أنَظْرُ إلى الماضي الآن وأحمدُ الله أن المطاف انتهى بي في عالمٍَ لا يتعين أن يكون القرآن كتابي الأول والأوحد فيه كأنه الغذاء الروحي الوحيد الذي تقدمه الحياة إلى المؤمنين. زد على ذلك أن طبعة الـ 101 قصة من الكتاب المقدس سحرتني بصورها. كيف ستبدو 101 قصة من القرآن؟ في حينه لم أرَ شيئا من هذا القبيل. واليوم ليس هناك شُحٌّ في كتب الأطفال التي تتناول الإسلام بما فيها كتاب "حرف الألف مفتاح لكلمة الله" من تأليف يوسف إسلام (المعروف سابقا باسم كات ستيفينز: Cat Stevens)، فالمجتمعات الحرة تتيح إعادة اختراع الذات وتَطَوُّر الديانات. بعد فترة وجيزة على فوزي بلقب "أفضل المسيحيين الواعدين" اقتلعني والدي من الكنيسة، فإن مدرسة دينية إسلامية جديدة ستُفتَح قريبا، وهذه المتشاطرة الصغيرة لا تستطيع الانتظار. وقياسًا على تجربتي في مدرسة أيام الأحد ستكون المدرسة الإسلامية مسلِّية، أو هكذا افترضتُ ببراءة". ولست بحاجة إلى أن أوضح للقارئ أن المدرسة الإسلامية التى أخذت تتردد عليها السحاقية البريئة الطاهرة أعطتها خازوقا كبيرا، إذ طلعت مدرسة "تقرف الكلب" كما صوَّرَتْها! وهذا أمر طبيعى تماما، وهل كان يمكن أن نتوقع غيره فى حالة تلك البائسة؟
وكنت قرأت منذ وقت قريب كتاب "النوافذ المفتوحة" الذى يترجم فيه شريف حتاتة لنفسه، وهو شيوعى معروف، فلفت نظرى منه أشياءُ مما لفت نظرى فى كتاب إرشاد مانجى ككراهيته للإسلام وشعائره، والرقة فى ذات الوقت مع الديانات الأخرى، فهو مثلا يتقبل كل الأصوات العالية المزعجة فى قريته التى عاد للحياة فيها بعد أن تقدمت به السن، اللهم إلا صوت الأذان، الذى ينعته بالتشنج والوعيد، ويرى فى علوّه دليلا على الجهل والكذب والنفاق، مع أن مبلغ علمى أن الأذان فى قريتهم هو نفسه الأذان فى قريتى وفى كل القرى والمدن المصرية والعربية والإسلامية، وأنهم فى مساجدهم يقولون مثلما نقول: "حى على الصلاة، حى على الفلاح"، ولا يقولون: "هيا يا أوغاد! تعالَوْا يا أوباش! إلى الصلاة يا غجر! لعنكم الله أيها المجرمون!" مثلا. ثم إننى لا أدرى كيف يمكن أن يكون الأذان خفيضا. أتراه يريد من المؤذنين أن يظلوا يصعدون فى المئذنة حتى تنقطع أنفاسهم، ثم بعد ذلك يكتفون بالهمس به فى أكمامهم لا يُسْمِعونه أحدا؟ ومما لفت نظرى عنده أيضا المباهاة دائما، بمناسبة وبغير مناسبة، بتربيته الإنجليزية المتحضرة على يد أمه (وإن لم ينس أيضا ذكر خليلات أبيه وإدمانه للقمار وكثرة مشاجرتها له بسبب مصروف البيت)، وأنه قد تلقَّى تعليمه أثناء صغره فى مدرسة نصرانية، وتحمّس لديانة الصليب وفكّر فى اعتناقها فى تلك السن وفى تهيئة نفسه للقُسُوسة عندما يكبر لولا أن سارع أبوه بسحبه من المدرسة وتحويله لمدرسة أخرى. كما أن الإطار اليهودى موجود أيضا فى حالته، إذ كانت أمه الإنجليزية الجنسية ذات جذور يهودية، وإن كانت قد تنصَّرت تبعًا لأهلها، ثم أعلنت إسلامها بعد زواجها من أبيه ومجيئها إلى مصر، فشكَّك هو فى هذا الإسلام مُرْجِعًا إياه إلى دوافع مصلحية، وهو ما لم يفعله حين أشار إلى تنصُّرها وتنصُّر أسرتها من قبل، بل تقبَّل الأمر تقبلا طبيعيا غير واجد فيه ما يدعو إلى التشكيك.
وكمثل كتاب مانجى أيضا هناك نصيب للشذوذ الجنسى فى كتاب "النوافذ المفتوحة"، فقد وصف لنا صاحبه بالتفصيل الحى، وبالصوت والصورة (واللمس أيضا) ما فعله به خادمهم النوبى فى صباه حين...حين ماذا؟ يحسن أن يرجع القراء بأنفسهم إذا أحبوا كى يطالعوا اللوحة الناطقة التى رسمتها ريشة الكاتب لهذه الحادثة فلم تترك شاردة ولا واردة إلا أوردتها، حتى لهاث الخادم وهو يعمل عملته واحمرار عينيه وعملية الإنزال والمكان الذى تمت فيه من جسده وما أحسّه من دفء السائل اللزج على أفخاذه، وكيف ذهب إلى دورة المياه بعدها ليغسل المنىّ عن نفسه وملابسه، وقد أمسك بالسروال فى يديه بعد أن سقط عند قدميه، وكيف كان حذاؤه يصدر صوتا وهو يسير فى أرجاء البيت بسبب ما تسرب إليه من ماء أثناء التنظيف! وكنت قرأت فى الصيف الماضى كذلك كتاب "بيضة النعامة" لأحد الشيوعيين المصريين، وفيه هو أيضا كلام عن انتشار الميول المثليّة بين الشيوعيين فى السجن وتلذذهم بذلك دون أى حرج على الإطلاق رغم ما يتظاهرون به أمام الناس من النفور من هذا الشذوذ، وهو ما أثار حنق الكاتب فاتهمهم بالنفاق والمراوغة، إذ يراهم يستنكرون فى العلن ما يأتونه فيما بينهم ولا يجدون فيه أدنى مؤاخذة، بل يُضْفُون عليه غلالة شاعرية دافئة!(/5)
كما ينتفض فى الذاكرة الآن ما قرأتُه أوائل ثمانينات القرن العشرين فى رواية نجيب محفوظ: "رحلة ابن فطومة" مما رآه بطل الرواية فى رحلته إلى البلاد التى ترمز فى الرواية إلى أوربا وأمريكا من تساهل المسلمين الموجودين هناك فى مسألة الخمر وقيام طائفة منهم بالتظاهر دفاعا عن ممارسة الشذوذ الجنسى. وقد أثار استغرابى ألا يجد المؤلف من مشاكل مسلمى الغرب ما يستحق معالجته إلا هذين الموضوعين، فضلا عما لاحظتُه من تعاطف الرواية مع هاتين النزعتين بشبهة الحاجة إلى تفهم ظروف المسلمين فى تلك البلاد وما يسودها من نزوع إلى الحرية، مع أن هاتين القضيتين هما آخر ما ينبغى أن يفكر المسلمون فى تقليد الغرب فيهما، إذ لا ينقصنا بحمد الله ألوان التقهقر حتى نضيف إليها ما يثبِّت تخلفنا ويضاعف الخلل لدينا. ومما أثار استغرابى فى الأمر أن مسألة اشتراك مسلمى الغرب فى تظاهرات المطالبة بحق ممارسة الشذوذ الجنسى لم تكن واردة آنذاك، بل لم أسمع أصلا، وأنا فى بريطانيا أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم، أن هناك مسلمين شواذ، فضلا عن أن يتظاهروا من أجل تقرير حقهم هم وأمثالهم فى ممارسة اللواط والسحاق، بل لا أذكر أنه كانت هناك مظاهرات لهذا الغرض قام بها غير المسلمين. وهذه أول مرة أسمع بأن هناك مسلمين ومسلمات شواذّ فى كندا وأمريكا وأوربا يعضّدون سحاقيتنا هذه ويشتركون فى مؤتمرات خاصة بالشذوذ الجنسى ويتصلون بها أثناء تقديمها برنامجها الشاذ فى التلفاز يظاهرونها على ما تقوله وتدعو إليه، ولهم منظمة تدبّر شؤونهم...إلخ.
من أين استمد نجيب محفوظ إذن فكرته هذه الاستباقية؟ أنقول إنها عبقرية الإبداع الأدبى التى تستبصر المستقبل قبل وقوعه؟ لكن مبلغ علمنا أن الأستاذ محفوظ لم يكن يوما من "ضاربى الودع"، بل إنه لم يسافر قط إلى أوربا أو أمريكا، فما الذى لَمَّ الشامى على المغربى وجعل شيخ الروائيين العرب وتلك المفعوصة الشاذة ينزعان عن قوس واحدة رغم تنائى الزمان والمكان والبيئة والخُلاّن! ألا إنه لأمر غريب! لقد كتبت دراسة تحليلية لرواية "رحلة ابن فطومة" يجدها القارئ فى الفصل الأخير من كتابى: "فصول من النقد القصصى" فى أواسط الثمانينات من القرن الماصى، أبديت فيها استغرابى لموقف عمنا الكبير، ولم يكن فى حسبانى أن هناك فصلاً آخر لم يئن أوانه بعد سوف أطلع على أحداثه على موقع من مواقع المشباك بعد نحو عشرين عاما. ولعلنا كذلك لم ننس ما كتبه توفيق الحكيم فى أخريات حياته عن أفلام ممارسة الجنس التى شاهدها فى إحدى سفرياته الأخيرة إلى "عاصمة النور" فى ذلك الوقت، والهالة المتألقة التى رسمها لجو الوقار والاحترام الذى يقول إنه كان يسود صالة العرض آنذاك، وكأن المشاهدين فى محراب علم، ودعانا إلى أن نتأسى بالفرنسيين فى سلوكهم هذا الوقور المحترم! وبالمثل ينبغى ألا ننسى شغف الروايات التى يحبِّرها جمال الغيطانى بالشذوذ الجنسى لدرجة أنه فى إحدى رواياته قد تريث عند مضاجعة أحد الفحول لصحفى (أو وزير. لا أذكر بالضبط)، وبالصوت والصورة أيضا. كما قرأت لفاروق عبد القادر فى كتابه الذى صدر العام الماضى فى سلسلة "كتاب الهلال" أن الغيطانى فى رواية أخرى من رواياته قد أخذ راحته على الآخر فى وصفٍ عجائبىٍّ (أرجو مسامحتى على استخدامى لهذا المصطلح الذى يتهوَّس به الحداثيون) لِذَكَر بطل الرواية يدل على خيال غير طبيعى. لا بأس أيها القراء، فنحن فى مولد للشذوذ الجنسى. شىء لله يا مولد!
ونعود الآن إلى شيخة الإسلام السِّحاقيّة لنقلِّب حججها الشاذة التى تشهرها فى وجوه خلق الله الأسوياء فى الدفاع عن انحرافها إلى مضاجعة مثيلاتها من بنات حواء بدلا من الزواج برجل كما تفعل سائر إماء الله الطبيعيات: "ترى إذا كان الله العليم القدير لا يريد أن يجعلني سحاقية فلماذا خلقني سحاقية؟ وكيف يمكن للقرآن أن يستنكر في آنٍ واحدٍ المثليةَ ويعلن أن الله يخلق كل شيء على أحسن تقويم كما جاء فى الآيتين6-7 من سورة "السجدة": "ذلك عالِم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كلَّ شيء خلَقَه، وبدأ خَلْق الإنسان من طين"؟ كيف يفسر مَنْ ينتقدونني حقيقة أن الله ، حسب الكتاب الذي يلتزمون به التزاما صارما، خلق عن سابق إصرار ما في العالم من تعددية أخَّاذة، وكما جاء فى الآية 26 من سورة "ص": "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار"، وما جاء كذلك فى الآية 48من سورة "آل عمران" على لسان مريم عليها السلام: "قالت: ربِّ، أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال: كذلكِ الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون"؟".(/6)
ومن بين الحجج التى شهرتها فى وجوه الأنقياء الذين لا يشاطرونها هذا الدنس قولها عن الرسائل التى تلقتها تعليقًا على إحدى حلقات برنامجها المرنائى الذى تقدّمه فى التلفاز الكَنَدىّ عن اللوطيين والسحاقيات والدفاع عن ميولهم المنحرفة والعمل على ترويجها بين الطبيعيين الذين لم تتلوث فطرتهم الأصلية بهذا القَذَر المنتن: "كلما كنتُ أبثّ تعليقات معادية للمثليين من مسيحيين يستشهدون بالكتاب المقدس، كان من المحتم أن يعقبهم مسيحيون آخرون بتأويلات متسامحة مضادة. هذا لم يحدث قَطّ عندما كان مسلمون يتهجمون عليّ، إذ لم يكن هناك شك، على ما يبدو، في أن المتهجمين ينطقون باسم الإسلام، كل الإسلام. ولا يعني هذا أن المسلمين كافةً دون استئناء يعترضون على المثليين، فإن "الفاتحة" (من الافتتاح الذي يفيد معنى الصدارة في الطليعة) هو اسم مجموعة من المثليين المسلمين لديها فروع في مدن كبرى في عموم أميركا الشمالية وأوروبا. وفي تورنتو على الأقل يحقق حفلُ عشائها السنوي حضورَ بعض الآباء والأمهات المسلمين. ولكن حتى إذا كان الكثير من المسلمين لا يشاطرون إسلامَ الاتجاه السائد أحكامَه المتحاملةَ فإننا لسنا بالعدد الكافي لفتح حوارات مع الاتجاه السائد، وإلا كيف نفسر السبب في أنه ما من مسلم واحد كتب إلى برنامج "تلفزيون شاذ" أو اتصل به ليسوق تأويلا بديلا رحيما للقرآن؟".
ومن هنا كان الإسلام، حسبما أفتت شيخة الإسلام السحاقية، "أكثر جمودا اليوم من نظيريه الروحيين: المسيحية واليهودية... ما كنتُ أعرفه أن المؤمنين في الديانات التي خضعت تاريخيا للإصلاح لا يتصرفون قطعا بعقلية القطيع كما يتصرف المسلمون. فالقادة المسيحيون يدركون التنوع الفكري في صفوفهم. وفي حين أن لكل منهم أن ينفي صلاحية التأويلات الاخرى، والكثير منهم ينفونها، فلا أحد منهم ينكر وجود جملة كاملة من التأويلات. أما اليهود فهم متقدمون بمسافة بعيدة عن الباقين. والحق أن اليهود يشيعون الاختلافات القائمة بإحاطة نصوصهم المقدسة بالتعليقات ودمج المناظرات بالتلمود نفسه. وعلى النقيض من ذلك فإن غالبية المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه وثيقة تُحاكَى ولا تؤوَّل خانقًا قدرتنا على التفكير المستقل". يعنى بالعربى الفصيح أن على المسلمين خلط قرآنهم بما يقوله شيوخهم حتى يصبح البساط أحمديا ويبقى زيتنا فى دقيقنا كما صنع الحاخامات اليهود بالتوراة فى تلمودهم. وبهذه الطريقة لا يكون أحد أحسن من أحد. أى أن على المسلمين مداواة داء اليهود بأن يصابوا به هم أيضا بحيث يفضّونها سيرة فلا يرتفع لهم بعد ذلك صوت فى التنديد بما أحدثه اليهود والنصارى من تحريف فى كتابهم، إذ من ذا الذى يمكن أن تواتيه نفسه عندئذ من المسلمين على أن يفتح فمه بكلمة انتقاد واحدة لأهل الكتاب؟ والله لقد احترنا واحتار دليلنا مع هؤلاء الناس! إنهم يوجعون دماغنا ليل نهار فى إفهام أمخاخنا الزَّنِخَة أن القرآن والحديث فقط (أو القرآن وحده، وطُظّ فى الحديث!) هو الذى ينبغى أن نتمسك به، أما أقوال حاخاماتنا (أقصد مشايخنا. حاجة تبرجل المخ، صحيح!) فهى بنت عصرها الذى لا يصلح أن يكون معيارا لعصرنا. وها هم أولاء الآن يعودون فينادون بأن نخلط أقوال مشايخنا بالقرآن الكريم حتى يصبح لنا تلمود كما لليهود تلمود، ولا نشعر بالدونية تجاههم. يا جماعة، ارسوا على برّ: نفتح الشباك أم نغلق الشباك؟ ولا إخال القارئ بحاجة إلى أن أقول له إن الهدف فى الحالتين جميعا هو قطع رقبة الإسلام، كلٌّ بطريقته وسِكِّينه!(/7)
ومما له مغزاه فى هذا السياق أنها قد وضعت على رأس الفصل الثانى الذى نقلنا منه النص السابق هذا العنوان الموحى: "سبعون حورية". وهذا أمر طبيعى، إذ إن سحاقية مثلها لا يمكن أن تعجبها جنة المسلمين النظيفة التى يستمتع فيها أهلها الاستمتاع الفطرى الطاهر، وتريدها أن تكون جنة شاذة يمارَس فيها اللواط والسحاق، وبالمرة "السادية والمازوكية" (ولم لا؟ هل سندفع لهم شيئا من جيبنا؟)، وذلك حتى تكتمل القعدة وتحلو وتصبح آخر صهللة! وإلا فكيف يستمتع الشواذ بجنة ينقصها تلك الأطباق المتبَّلة التى لا يكون طعام الشواذ شهيًّا بدونها كما تقول كتبهم وأفلامهم وأدبهم؟ (آسف! أقصد قلة أدبهم!). ومما له مغزاه أيضا ألا يجد اللواطيون والسحاقيات اسما يطلقونه على منظمتهم الشاذة إلا "الفاتحة" (أول سورة فى القرآن الكريم) محاولةً منهم وممن وراءهم تدنيس طهارة المصحف (مثلما لم يجد سلمان رشدى اسما يطلقه فى روايته: "الآيات الشيطانية" على الماخور الذى يزعم أنه كان موجودا على أيام الرسول إلا "الحجاب"، وهو ماخور يضم تسع نساء يسمَّيْن: عائشة وحفصة وزينب بنت خزيمة... إلى آخر الأسماء الكريمة لأمهات المؤمنين الطاهرات)، وإن زعمت السحاقية أن اسم منظمة المثليين مأخوذ "من الافتتاح الذي يفيد معنى الصدارة في الطليعة"! ومرة أخرى نجد أنفسنا فى هذا السياق مع التقدميين والشيوعيين، فهم الذين يسمّون أنفسهم بـ"الطليعة" و"الطليعيين"! وبالمناسبة فقد كان الشيوعيون أيضا من بين من رفعوا أصواتهم حتى بُحَّتْ حناجرهم دفاعا عن حق سلمان رشدى فى ممارسة إبداعه، مثلما كانوا على رأس من هبّوا لنصرة حيدر حيدر وتمجيد روايته: "وليمة لأعشاب البحر"، التى حشد فيها كل قواه لدفع الفتاة المسلمة إلى الزنا وإغرائه لها بمقارفته بذريعة أنها إنما تحطم بهذا الانحرافِ البائسِ قيودَ المجتمعِ المسلمِ الرجعىِّ المكبلةَ لحريتها، وتمارس حقها الطبيعى فى الاستمتاع بجسدها كما يحلو لها دون زواج، كما أنه لم يترك شيئا يعتز به المسلمون إلا تعمد إهانته وسبَّه وتحقيره: بدءا من الله سبحانه وتعالى، ومرورًا بالرسول الكريم والقرآن المجيد الذى جاء به، وانتهاء بالشريعة والعبادات!
على أننا إذا أتينا إلى حُجّتها (أو بالأحرى: شُبْهتها) التى تسوغ بها شذوذها السحاقى وجدناها تردد كلام المشركين الذين كانوا إذا دعاهم الرسول الأكرم إلى نبذ كفرهم وأوثانهم أجابوه فى عناد غبى: "لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرَّمْنا من شىء" (الأنعام/ 148). وعجيب أن تردِّد سحاقيتُنا هذا الكلام البدوى المتخلف، وهى التى لا يعجبها الإسلام لأنه، كما تقول بسلامتها، دين قبلى (مثلما لا يعجب البقرةَ الجاحظةَ فتسميه: "ثقافة البعير". ما علينا! خَلِّنا فى إرشاد، فنحن فى غنى عن إضافة بلوى جديدة إلى بلايانا). إننا لو اتبعنا منطق "إرشاد" (لاحظوا أيها القراء كيف أن أحوال هذه البنت كلها معكوسة، فهى تسمَّى: إرشاد، على حين أنها كلها إضلال فى إضلال)، أوقل: إننا لو اتبعنا منطق "إضلال" هذه فلن يكون لذلك من معنى إلا أن نترك أمور الدنيا كلها على ما هى عليه، بحجة أن هذا هو خلق الله. وعلى هذا فلا ينبغى أن نكافح فقرا أو مرضا أو فوضى أو وساخة أو جلافة أو جهلا، أو نسعى إلى تغيير أى شىء أو أى وضع، فهكذا هى الدنيا التى خلقها الله، وإلا فلو كان الله يريد منا أن نغير فيها شيئا لكان قد غيره هو بمعرفته منذ البداية! ثم لماذا كتبت هى كتابها هذا؟ أليست كتبتْه لدعوة المسلمين إلى أن يتغيروا؟ طيب، ماذا لو أن المسلمين طقّتْ فى دماغهم، ولهم عندئذ كل الحق، وقالوا: راسنا وألف برطوشة قديمة لا تغيُّر ولا تغيير؟ فالله قد خلقنا هكذا، بالضبط مثلما خلق إرشاد مانجى سحاقية، ولا يصح أن يفكر أحد فى تغيير خلقة الله، لأنه سبحانه وتعالى لو كان يريد منا أن نتقدم ونتحضر ونَحُوز رضا المفعوصة السحاقية ومن يقفون وراءها ويَؤُزُّونها علينا لَغَيَّرَنا هو بنفسه ولما أحوجَنا إلى تجشم كل هذا التعب وخوتة الدماغ! هذا هو المنطق الذى تتبعه شيخة الإسلام الجديدة! أم تراها قائلة: "إن هذه الحجة لا تصلح إلا لتسويغ السحاق فحسب، وعندى أنا وحدى، ومن بعدى الطوفان؟". لكن فاتها أن المبدأ الأخلاقى لا بد أن يتميز بالشمولية، فإما أن نأخذ به فى كل مجالات الحياة ونعمِّمه على كل الناس، وإما أن نطرحه بعيدا عنا غير مأسوف عليه.(/8)
إن الله قد خلق كل شىء فأحسن خلقه فعلا، لا يشاحّ أحد من المؤمنين فى هذا ولا طرفة عين، إلا أن المقصود بالآية الكريمة هو عكس ما تقوله هذه السحاقية تماما، فالله عندما خلق البشر إنما خلقهم ذكرا وأنثى ليتزاوجوا لا ليلوطوا ويتساحقن، ثم لم يكتف سبحانه بهذا، بل حذرهم اللواط والسحاق ونبههم إلى أن هذا الانحراف إنما هو رِجْسٌ من لدن الشيطان، الذى يوسوس فى صدور بنى آدم فيُصِيخون له أو يُعْرِضون عنه حسبما يختارون فى ضوء ما سبق تنبيههم إليه وما يراه العقل السليم الذى لم يلوثه الهوى المأفون والشهوة المنحرفة المنحطة. لكن سحاقيتنا تريد منا أن نعبث بالقرآن كما عبث أهل الكتاب بكتابهم كى نحلل لها ما هى مرتكسة فيه من شذوذٍ مُنْكَرٍ وَسِخ، وإلا هددتْنا بترك الإسلام، وكأن تركها الإسلام سيقلب موازين الدين والحياة رأسا على عقب! أو كأن الإسلام يريد بقاء هذا العفن فى بيته المعطَّر النظيف، أو كأنها لا تزال مسلمة بعد كل الذى قالته فى حق الله والرسول والقرآن، وبعد كل الذى أتته وتأتيه وتدعو إليه من تصرفات وأفعال شائنة تبعث على القىء! لا يا شيختاه، الإسلام فى غنى عنك وعن شذوذك، فهو كما قلنا دين طاهر كريم، وإلهه طيب لا يقبل إلا طيبا. وما دمت تحبين اليهود وتتفتتين وتذوبين فى هواهم وترَيْنَهم أفضل الخلق، فلماذا تتعبين قلبك مع المسلمين "أولاد الذين" بدلا من أن تأخذى الطريق من قصيره وتلتحقى بسلالة يعقوب الذين يناسبونك ويوافقونك بما سجله عليهم العهد القديم من مخزيات، بدلا من أولاد إسماعيل المفقود منهم الأمل، وكفى الله اللوطيين والسحاقيات متاعب تأليف الكتب وإعداد البرامج التلفازية فى الدعوة إلى الشذوذ؟
لقد سبق أن سمعناها تقول ما تقول فى الموازنة بين الإسلام والشذوذ الذى ابتُلِيَتْ به، وبدلا من أن تستتر بهذه العورة الأخلاقية نراها تجاهر بها وتفاخر وتتهم الأطهار الشرفاء فى أذواقهم وعقولهم وعقيدتهم وتهدد بأنه إما أن يوافق المسلمون على سحاقيتها، وإما أن تترك الإسلام: "عندما جعلني عملي في التلفزيون شخصية عامة أكثر شهرة تطوَّر أملي في التوفيق بين مثليّتي والإسلام إلى واحد من انشغالاتي. وكان المشاهدون يريدون مني أن أُبرِّر حالتي الاستثنائية في الجمع بين هويَّتين. وقد دُفِعْتُ إلى نوبة حادة من المراجعة، بل راودتني حتى إمكانية التخلي أخيرا عن الإسلام من أجل الحب. اسمعوا: أيُّ حافز أفضل من هذا الحافز للتضحية بأي شيء؟". وها هى ذى تكرر هذا المعنى بطريقةٍ غير مباشرةٍ مفهمةً إيانا أنها إن كانت لا تزال حتى الآن مسلمة فذلك بفضل سعة الأفق والتفهم الذى تجده فى القارة الأمريكية ليس إلا. تقصد أنهم لا يجدون فى شذوذها عِوَجًا ولا أَمْتًا، بل يحبونها ويشجعونها ويفتحون لها التلفاز على مصراعيه لتطل من شاشته بطلعتها البهية، وتنشر على الملإ دعوتها السحاقية اللواطية: "روح الاستطلاع هذه هي الهواء الذي أشعر بالامتنان لأميركا الشمالية عليه. ففي كثير من بقاع العالم الاسلامي، إذا كان المرء أكثر مما مقرر له أن يكون، تكون قيمته أقل. وفي كثير من أميركا الشمالية يتمتع المسلمون بالحرية في أن يكونوا ذوي أبعاد متعددة. وهذه هي حال أُناس من شتى الأعراق. وكان من ضحايا 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك الأب ميكال جادج، وهو قس كاثوليكي مِثْلِيّ نعاه الإطفائيون الذين رعاهم طيلة سنوات (قطَّعْتِ قلبنا يا شيخة على هذا القس المأبون!). تعددية البشر، تعددية الأفكار. ولكم أن تجدوا العلاقة بين الاثنين. أنا وجدتُها، وهذه العلاقة أنقذت إيماني بالإسلام، حتى الآن. لو نشأتُ في بلد مسلم لصرتُ على الأرجح ملحدة في قرارة نفسي. ولأني أعيش في هذا الركن من العالم حيث أستطيع أن أُفكر وأختلف وأغور أعمق في أي موضوع، فقد تعلمتُ لماذا ينبغي أن لا أفقد الأمل بالإسلام بعد". إنها تحمد لله على أَنْ لم تفقد الأمل بالإسلام بعد، فما زال الأمل يراودها فى أن تكسب المسلمين إلى صف دعوتها الشذوذية النجسة! ونحن بدورنا أيضا نحمد الله، الذى لا يُحْمَد على مكروهٍ سواه!(/9)
إن العاشقة المغرمة صبابة بميشيل تتساءل باستنكار: "كيف نفسر السبب في أنه ما من مسلم واحد كتب الى برنامج "تلفزيون شاذ" أو اتصل به ليسوق تأويلا بديلا رحيما للقرآن؟". وهى لذلك تتهم الإسلام بأنه "أكثر جمودا اليوم من نظيريه الروحيين: المسيحية واليهودية... ما كنتُ أعرفه أن المؤمنين في الديانات التي خضعت تاريخيا للإصلاح لا يتصرفون قطعا بعقلية القطيع كما يتصرف المسلمون. فالقادة المسيحيون يدركون التنوع الفكري في صفوفهم. وفي حين أن لكل منهم أن ينفي صلاحية التأويلات الاخرى، والكثير منهم ينفونها، فلا أحد منهم ينكر وجود جملة كاملة من التأويلات. أما اليهود فهم متقدمون بمسافة بعيدة عن الباقين. والحق أن اليهود يشيعون الاختلافات القائمة بإحاطة نصوصهم المقدسة بالتعليقات ودمج المناظرات بالتلمود نفسه. وعلى النقيض من ذلك فإن غالبية المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه وثيقة تُحاكَى ولا تؤوَّل خانقًا قدرتنا على التفكير المستقل". باختصار تريد أن ينزل الإسلام على صوت انحرافها وشذوذها، وما هذا تكون الأديان. إن دينا يمهد الطريق لمزاولة كل منحرف انحرافه، وممارسة كل شاذ شذوذه، لا يمكن أن يكون دينا سماويا، بل دينا من لدن الشيطان.
إن الأديان، يا هذه، إنما جاءت لتهذب الغرائز وتحميها من الانحراف والانجراف، أما النفخ فى ضرامها فلا، إذ الشهوات والغرائز ليست بحاجة إلى من ينفخ فيها، فهى مشتعلة بطبيعتها، بل تحتاج إلى من يتعامل معها باحتراس ولباقة. كذلك لم تأت الأديان بمصادرة الغرائز. كلا لا يقول بهذا عاقل. وعلى أية حال لم يأت الإسلام بذلك، بل أتت به أديان أخرى، ولمّا لم تستطع أن تصادر الغرائز وتقمعها بلا رحمة أو هوادة استدارت من الناحية الأخرى وأرخت لها الزمام تماما وتركتها تفعل ما تشاء. والسحاقية المفعوصة تريد منا أن نتلاعب بدين محمد الصافى النقى كما تلاعب غيرنا بدينهم ونسمح لها بالسحاق، وللرجال ممن هم على سُنَّتها باللواط! إننا لو أخذنا بمنطقها هذا الشاذ المنحرف لما بقيت قيمة واحدة كريمة فى الأرض، بل لما بقى دين أو إسلام: فالقاتل الذى يجد لذة فى إزهاق النفوس البشرية سيطالبنا بأن نكون رحماء فنقدم له تأويلا لآيات القرآن الكريم التى تتوعد القتلة بنار جهنم يَقْلِب معناها بحيث تجوِّز له القتل، والسارق الذى يجد لذة فى اغتصاب ما عند الآخرين دون وجه حق سيطالبنا بأن نكون رحماء به ونقدم تأويلا لآيات القرآن الكريم التى تنادى بقطع يد السارق وتهدده بعقاب الآخرة يجعلها تسمح له، لا بتسلق المواسير، فتلك مهمة خطرة، بل بالدخول على أهل البيت الذى يريد سرقته من الباب وفى عز النهار، فيدخل ويقُشّ ما يريد قَشَّه ويخرج مشيعا بالدعوات والأمنيات الطيبة. ويا حبذا لو زاد كَرَمُ المؤوِّل حبتين فأوجب على أهل البيت أن يجهزوا للِّص ما يريد سرقته منهم بعد أن يتصل بهم قبلها بيومين بحيث لا يضيع وقته فى الانتظار فى الصالة، بل يذهب فيجد الصُّرَّة التى تحوى كل ما لذ وطاب مما غلا ثمنه وخف وزنه جاهزة، فيأخذها ويمضى لحال سبيله وهو يغنى "لحن الوفاء" لميشيل وعاشقة ميشيل، لكن بعد توزيعه توزيعا موسيقيا جديدا يناسب المرحلة! ترى هل تريد عاشقة ميشيل أن يكون عندنا آيات شيطانية تجرى على هذا النحو مثلا: "واللص واللصة أكرموهما وانزلوا لهما عما يريدان سرقته منكم، ومن يشفع ذلك بالدعاء لهما وهما خارجان يحملان ما أخذاه فله ثواب عظيم"، أو "إن اللوطيين والسحاقيات، والساديّين والساديّات، والمازوكيّين والمازوكيّات، أعدت أمريكا لهم ولهن ميشيلين وميشيلات يلوطون بهم ويساحقنهن ويتلذذون بهم وبهن إلى أبد الآبدين، ابتهاجًا بوساخة مقصوفى الرقبة الملاعين". حَنَانَيْكِ يا شيخة الإسلام!(/10)
حتى رشاد خليفة المتنبئ الكذاب وأتباعه، الذين كان أحرى بهم، ما داموا يعيشون فى أمريكا ويتبعون ما يخططونه لهم هناك، أن يقولوا بإباحة الشذوذ الجنسى بين الرجال والنساء كما تريد هذه الملعونة الدنسة، هذا النبى الكذاب وأتباعه لم يقولوها رغم ذلك ودانوا هذا الخروجَ على الفطرة التى فطرنا الله عليها، إذ قال متنبئهم تفسيرا لقوله تعالى: "واتَّقُوا فتنةً لا تُصِيبَنَّ الذين ظَلَموا منكم خاصّةً، واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال/ 25): "إن الأمة التى تتسامح مع الشذوذ الجنسى مثلا يمكن أن يعاقبها الله بزلزال: A community that tolerates homosexuality, for example, may be hit by an earthquake"، كما كتب أحد أتباعه فى موقعهم المشباكى، وهو م. صديقى، أنه مثلما يخلق الله بعض الناس عُمْيًا فلا يعفيهم عماهم من وجوب اتّباع القانون الإلهى، ويخلق بعض الناس صُمًّا ولا يعفيهم صَمَمهم من وجوب اتّباع ذلك القانون...، فكذلك ينبغى أن يكون الأمر مع مَنْ عندهم ميول جنسية، إذ لا تعفيهم هذه الميول من وجوب اتباع القانون الإلهى ومكافحة ذلك الشذوذ فى أنفسهم بكل وسيلة: طبيةً كانت أو اجتماعية أو نفسيةً أو دينية...إلخ، ولسوف يبرؤون منها إذا صدقت العزائم. وليس فى القرآن ما يمكن أن يسوغ الشذوذ الجنسى بأى حال، وكل من يستسلم لتلك النوازع الشاذة وينزل على حكمها لا على حكم الله فلسوف ينال العقاب الإلهى. أى أن ذلك النبى الكذاب وأتباعه لم يرضَوْا أن يَتَدَهْدَوْا إلى هذا الدَّرْك المنحط من وساخة الجسد والنفس والخلق. وهذا كلام صديقى بنصه كما ورد بموقعهم على المشباك ردًّا على سؤال وجهه أحد رُوّاد الموقع له، وهو سؤال يتكرر كثيرا من القراء حسبما يقول فى التقدمة:
This is a reply to a question like many others we receive on our web site.
QUESTION:<< My question concerns the issue of homosexuality.
Please provide a Quranic spotlight on this contentious issue. Is
homosexuality normal/natural? Is it accepted in Quran? How to
deal with people who are homosexual? Can homosexuals be
submitters?>>
Homosexuality is a sin. Men and women should abstain from any practice
of Homosexuality.
Homosexuality is prohibited in Quran per the example of the people of Lot.
The following verses will make this clear, God willing.
[7:80-81]
Lot said to his people, "You commit such an abomination; no one
in the world has done it before! "You practice sex with the men,
instead of the women. Indeed, you are a transgressing people."
[26:165-166]
"Do you have sex with the males, of all the people? "You forsake
the wives that your Lord has created for you! Indeed, you are
transgressing people."
The Quran forbids any sexual relationship other than in a marriage
between a man and a woman. Many homosexual men and women
claim that they are born with their sexual preferences and that they
have no choice. Although this point is very much in dispute in the
medical world, it has no support in the Quran. Even then, irrespective
of the nature of homosexuality, this matter would not affect the laws
spelled out clearly in the Quran .
We know that this life is a test. Everyone of us has his/her own test.
For example someone may be born blind, but that person is expected
to live his/her life according to God's law. Others are born poor, short,
tall, weak, missing fingers, having big nose...etc but all of them are
expected to follow God's law. Some men or women may never marry in
their life, or spend part of their life without a spouse. As per the Quran
they still have to live a chaste life and avoid any sexual contacts outside a
marriage. They have to suppress their sexual feelings to follow God's law.
It is a major test and not an easy one for many. Only those who submit to
God will do everything they can to follow His law. They know that their
salvation and eternal happiness rests in doing so.
Since God condemns homosexuality, then we have to believe that a
man or a woman with homosexual feelings is expected to behave like
any other human being and follows God's laws if he/she truely believes in
them. He/she shall resist his/her feelings , maintains abstinence , use all
available resources of help including medical, social and behavioral
therapies to overcome their behavior and feelings.(/11)
They should pray to God to help them getting over it and submit to God's
law that sees homosexuality as gross sin. Only those who steadfastly
persevere in obeying God's law will they pass their test and confirm their
submission to God.
For a person who asks, "why me?" We know God is the Most
Merciful and Just (16:90) and He will give each one of us a fair
test and a fair chance. He assigns the tests to suite each one of us
and we believe that He will never burden any soul beyond its
means (23:2).
على أن فسوق عاشقة ميشيل عن الإسلام لا يقف عند هذا الحد رغم أنه بهذه الطريقة فسوق بلا حدّ، وفسوق عن كل حدّ. إنها تؤكد أن الإسلام ليس شيئا آخر غير ما جاءت به اليهودية، ومن ثم فلا داعى لاعتقاد المسلمين بأفضلية دينهم لأن هذا الدين الذى يفاخرون به إنما هو مأخوذ من ديانة اليهود: "انتقلتُ إلى ملف ضخم آخر من ملفات حقوق الإنسان: معاملة الذميين. فبسبب التقاليد اليهودية- المسيحية التي يتحدر منها الإسلام فإن لدى القرآن الكثير مما يقوله عن اليهود والمسيحيين. وهو يكيل المديح على إبراهيم، أب الديانات التوحيدية الثلاث. وُيطري عيسى بوصفه "المسيح" أكثر من مرة. ويأتي على ذكر مريم أم عيسى اليسوع إيجابا عدة مرات. يضاف إلى ذلك أن القرآن يذكِّرنا بكون اليهود ينتمون الى أمة "مُفَضَّلة" هي بنو اسرائيل! مفَضَّلون؟ اليهود؟ دقَّقْتُ في بعض الترجمات الإنجليزية للتوثق. إزاء هذه العواطف الحارة تجاه أجدادنا الروحيين يكون من المنطقي أن يشير القرآن على اليهود والمسيحيين بأن يطمئنوا أنْ "لاخوف عليهم ولا هم يحزنون" ما داموا مؤمنين بالله واليوم الآخر كما تنص عليه كتبهم المقدسة.
من جهة أخرى يعتبر القرآن بصراحة أن لا دين إلا الإسلام. غريب. أم يا تُرى أهو حقا غريب؟ فثمة فكرة في غاية الأهمية هنا لا شيء يفوقها أهمية في أوقاتنا المشتتة، وهي تتعلق بسبب ظهور الإسلام أصلا. كل ما ينبغي أن يؤمن به المسلمون نزل على اليهود قبلنا بآلاف السنين. وقد حدث ذلك عندما سار بعض اليهود في طريق الضلال عن الحقيقة المنزَّلة بتحولهم إلى عبادة الأصنام مثل العجل الذهبي، فاستثاروا عليهم غضب الله. (أدري، أدري: أي خالق هذا الذي يغار من مولود بقرة؟ أحسبُ أنه خالق يسعى الى الصلح بين قبائل في احتراب دائم مع بعضها بعضا من خلال المحور الجوهري المتمثل في ديانة مشتركة). نعود الى البقرة. فإن انبعاث الوثنية اقتضى إرسال واحد آخر من أبناء إبراهيم لتذكير عالم الساميين بحقيقة ربه، فكان مجيء اليهود، وكذلك نزول الكتاب المقدس الذي يجمع كتب موسى العبرانية (تُعرَف عند المسيحيين باسم العهد القديم ). ولكن في النهاية بدأ بعض المسيحيين يدَّعون أن المسيح هو الله، فضلا عن كونه ابن الله، وليس رسولا آدميا اصطفاه الله الواحد الأحد. لقد كانت الوثنية تهدد برفع رأسها (أو رؤوسها) من جديد.
لذا في حوالي سنة 610 ميلادية عاد الله إلى قائمة المرشحين للنبوة واختار محمدا، وهو حفيدٌ آخَرُ من أحفاد إبراهيم، لتطهير كلامه المنزَّل من الفساد الذي أعاثه فيه اليهود والمسيحيون. وأينما فتحتُ القرآن لم أكن قط بعيدة عن رسالةٍ كثيرا ما تتكرر بأن ما سبقه من كتب مقدسة جدير بالتبجيل. مرحبا بكم إلى الفكرة ذات الأهمية البالغة التي لمَّحتُ إليها قبل لحظات: أن الجهل القَبَلي لا يمكن أن يكون حقيقة. وعندما أعدتُ قراءة القرآن للتبصر في "الآخر" وجدتُ أن اليهود ليسوا كلهم الذين يُقال للمسلمين أن يجتنبوهم، بل فقط أولئك الذين يسخرون من الإسلام بوصفه دينا كاذبا على نحو متأصل. وينبغي على المسلمين أن لا ينكروا صحة الديانة اليهودية، وإلا فإنهم يسيئون إلى دينهم ذاته.(/12)
ولكن إذا كانت اليهودية والإسلام ديانة واحدة فما هي الحكمة في جعلهما كيانين منفصلين؟ وعلى الغرار نفسه ما الحكمة من الإبقاء على المسيحية؟ أو الهندوسية؟ أو البوذية؟ أو السيخية؟ ولكم أن تملأوا الفراغات التي تلي ذلك. لماذا لا نتخلى عن إحساسنا الدفين بالتفوق وننظر إلى بعضنا بعضا على أننا من صنع خالق واحد؟ القرآن لا يتهرب من هذا السؤال الأكثر تنكيدا من الأسئلة الأخرى كلها، فهو يقول إن الله جعل لكل قوم شرعة لحفزهم على التسابق من أجل عمل الخير معترفا أن عمل الخير لن يكون ممكنا إذا اشتبكنا في خلافات على مَنْ هو "الأحق" في تنفيذ مشيئة الله. أنا وأنتم لا علم لنا، وعلينا أن نتخطى هذه المعضلة. والقرآن يؤكد لنا أن الله سيتكفل بتسوية خلافاتنا المذهبية حين إليه نعود. في هذه الأثناء فإن التسابق على عمل الخير إنما هو دعوة تحولت من الشطارة في عالم المال والأعمال إلى الإبداع الفني في تناول الطينة المقدسة ذاتها والدأب على تحسين جمال ما صُنع منها. ويتلازم مع هذه الممارسة الدافع الآخر لقرار الله أن يخلقنا أقواما ومِلَلاً شتى: لكي نشعر بوجود حافز يغرينا بالتعارف على بعضنا بعضا. فالأمر كما لو أن الخالق يريد لنا أن نستخدم الاختلاف كاسحة جليد بدلا من استخدامه ذريعة للانكفاء إلى زوايا متقابلة.
أقر بأن هذا ما بودي أن يكون المعنى من الألف إلى الياء. ولكن كل شيء مطروح للتأويل لأن القرآن يشير على المسلمين بأن لا يتخذوا من اليهود والمسيحيين أصدقاء لهم كيلا نصبح "منهم". وهو يتحدث عنـ"ـهم" بوصفهم من "القوم الظالمين" الذين لا يهديهم الله. وثمة كلام عن إنزال أذى شديد وضرب رقاب وفرض الجزية على أهل الكتاب أتاوة لقاهريهم المسلمين. كلام مخيف بحق، وهذه المقاطع تضفي صدقية على أولئك المسلمين الذين يديرون ظهورهم إلى الوئام بين الأديان. وعند هؤلاء يجوز للذميين أن يوجَدوا، ولكن قطعا ليس على أساس من التكافؤ مع المسلمين، وقطعا ليس على مستوى واحد معهم، لأن الإسلام ليس مجرد دين آخر يضاف إلى بقية الأديان، بل يعلو عليها جميعا بحكم كونه دين الحق، ورسوله خاتم الأنبياء في خدمة الواحد الأحد. إنه لخيار أن يُقْرَأ القرآن على هذا النحو. أوَليس كذلك؟ ولكننا لسنا واعين بهذا الخيار.
لعل أحدكم يحتج قائلا: "تمهلي، فأنا لا أختار هذا التأويل بالمرة. وأنا لا أُريد أن أضرب جاري لاحتفاله بعيد هانوكا، فلا تحسبيني على كارهي اليهود. إني إنسان حسن الطوية بحق السماء". نعم، إنك على الأرجح حسن الطوية. فلتسأل نفسك من باب هذه الطيبة: هل اخترتُ أن أتحدى الاعتقاد الشائع بين مسلمي الاتجاه السائد بأن الإسلام متفوق على المسيحية واليهودية؟ إننا غارقون في نرجسيتنا الروحية حتى أن غالبية المسلمين لا يفكرون مرتين، أو حتى مرة، في الضرر الذي يمكن أن يُلْحِقه هذا الموقف بالعالم. نحن نتقبله فطريا مطلِّين بين حين وآخر من تحت الرمال حيث دفنَّا رؤوسنا لنلحظ وجود "المتطرفين"، وأحيانا لا نلحظ وجودهم حتى وقتذاك".
ولا بد فى البداية من التنبيه إلى أن كل اعتماد الكاتبة السحاقية فى دراسة القرآن واستخلاص أحكامها منه وعليه، كما ذكرت هى، على الترجمة الإنجليزية لا غير، فلا محاولة لتعلم اللغة العربية لقراءته فى أصله العربى بدلا من الترجمة التى لا يمكن أن تنقل الأصل أبدا مهما كانت عبقرية المترجم كما هو معروف، كما أنها لم تَسْعَ بتاتًا لمعرفة أسباب النزول أو المكى والمدنى مثلا أو كيفية التفرقة بين الخاص والعام من النصوص القرآنية، أو للاطلاع على وقائع السيرة من مصادرها الإسلامية، وهذا إن صدَّقْنا أنها هى مؤلفة هذا الكتاب، ولم يؤلفه أحد المستشرقين أو المبشرين وانحصر دورها فى وضع اسمها على غلافه، إذ إن الروح التى تسود الكتاب هى روح عدائية لكل ما هو مسلم وإسلامى، سواء تعلق الأمر بالقرآن أو الرسول أو المسلمين، فهو يدين المسلمين والإسلام دائما، ويسوّغ ما يفعله الغرب واليهود بهم على طول الخط، والخطأ باستمرار من نصيبهم، والصواب ضربةَ لازبٍ من نصيب أعدائهم. بيد أن هذه مسألة أخرى لا أقف عندها الآن، وقد يكشف حقيقتَها التاريخ. وبالإضافة إلى ذلك فهو مكتوب بحِرْفِيّة واضحة، والروح السارية فيه روح غربية مخابراتية لا تخطئها العين ولا الأذن، والخبث والدهاء اللذان يغلِّفانه: سواء فى الأسلوب الكتابى أو فى طريقة العرض أو فى التلاعب بمنطق العقل ونصوص القرآن، وإن كانا لا ينطليان على من عنده مُخّ، أكبر من أن تستطيعهما فتاةٌ غِرَّةٌ وسحاقيّة مثلها، بل يتطلب نابًا شيطانيًّا أزرق من عتاة المستشرقين الكارهين للإسلام من أمثال برنارد لويس اليهودى وشيعته.(/13)
إنها تخلط بين الأمور خلطا شنيعا: فالقرآن مثلا يتحدث عن التوراة والإنجيل بوصفهما كتابين سماويين صحيحين، فتأتى هى وتتحدث عن أن المقصود هو كتب اليهود والنصارى الحاليّة رغم ما ورد فى القرآن أيضا أن ما بأيدى القوم الآن هو شىء آخر غير ما نزل على أنبيائهم، فقد حرَّفوا كتبهم ونَسُوا بعضها وعبثوا ببعضها، وإلا أفيمكن أن يكون ما نقرؤه فيها عن تصوير الله فى مواضع غير قليلة من العهد القديم تصويرا وثنيا يجسِّده سبحانه، وعن آدم وأنه ابن الله، وعن نوح وسُكْره وانكشاف سوأته، وعن لوط وسَقْى بنتيه إياه خمرا ومضاجعة كل منهما له وحبلهما منه، وعن إبراهيم ورضاه بالتدييث على زوجته، ويعقوب ومصارعته لله وتكتيفه إياه، وعن هارون وصنعه العجل الذهبى ليعبده بنو إسرائيل، وداود وزناه بزوجة جاره وقائده العسكرى وقتله إياه تآمرا وغدرا، وسليمان ومساعدته لزوجاته فى عبادة آلهتهن الوثنية فى بيته ونَظْمه لـ"نشيد الأناشيد" المفعم بالعهر وتزيين الشهوات الجنسية، والمسيح وتعمُّده على يد يحيى، والمفروض أن يحيى ما هو إلا واحد من عباده ما دام هو الله، وطمع إبليس فى اختبار إيمانه وأخلاقه رغم أنه هو رب إبليس وكل الأباليس الذين فى الدنيا أجمعين، وموته على الخشبة رغم ما جاء فى العهد القديم من أن من عُلِّق على خشبة فهو ملعون، وتأكيده أنه ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله ثم نقْضه للتوّ لكل النواميس التى أتى بها موسى، ثم بولس وزعْمه أنه رأى الله (أى المسيح) فى السماء عيانا بيانا وتخبُّطه فى الحديث الذى ادعى أنه دار بينهما بما لا يدخل العقل...، أفيمكن أن يكون هذا كله وأمثاله، وهو كثير جدا، هو ما يقول القرآن عنه إنه وحى سماوى ويوجب على المسلمين تصديقه والإيمان به؟ لذلك فإن المسلم يؤمن أن ما جاء به محمد هو وحده الدين الصحيح. ولسوف نرى بعد قليل أن اليهود يرَوْن أن دينهم هو وحده الدين الصحيح. ولم يقل أحد لهم شيئا، فكل إنسان حر فى أن يعتقد ما يشاء، ويوم القيامة نمثل أمام الديان فيحاسبنا على ما كنا نقول ونعتقد، ويتبين الحق من الباطل، والرشد من الغَىّ.(/14)
أما قوله تعالى الذى استشهدتْ به مانجى من أن اليهود والصابئين والنصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا يعنى ما تريد أن تُدْخِله فى رُوع القراء من أن أولئك الأقوام داخلون الجنة حتى لو بَقُوا على أديانهم المنحرفة، بل تعنى أن الباب فى الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعا للإيمان بدعوة محمد والنجاة من ثمّ فى الآخرة حتى لو لم يكونوا من العرب الذين آمنوا فى البداية بمحمد، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلا. ولهذا نجد أن الإسلام قد علَّق تلك النجاة على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات: "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (المائدة/ 69). وفى البقرة آية أخرى مشابهة لهذه هى الآية 62)، والإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن الشخص بجميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم، بل وعلى رأسهم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك واضح من الآيات التالية: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا" (النساء/ 150- 151)، "وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ مصدِّقُ الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها. والذين يُؤْمِنون بالآخرة يُؤْمِنون به، وهم على صلاتهم يحافظون" (الأنعام/ 92)، "قال: عذابى أُصِيبُ به من أشاء، ورحمتى وسِعَتْ كل شىء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون* الذين يتَّبِعون الرسولَ النبىَّ الأُمّىَّ الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويُحَرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصَروه واتَّبَعوا النور الذى أُنْزِل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/ 156- 157)، وغير ذلك. وما من مرة أثنى القرآن على أحد من أهل الكتاب إلا كان بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء يَبْغُون منا أن نقرأ النصوص القرآنية بقلوب مريضة وعيون عمياء، لكن كيف يبصر الأعمى ومن فى قلبه مرض؟ وعلى هذا فليس فى القرآن أى تناقض، لا فى هذه القضية ولا فى غيرها كما تزعم مانجى أو من كتبوا لها الكتاب، بل ينبغى أن نقرأ كتاب الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين. وإذا دقق القارئ فى الطريقة الترقيمية التى كُتِبَتْ بها الآية السابقة فسوف يتضح له ما أقصد. ونستطيع أن نعيد كتابتها بطريقة ترقيمية أخرى كى تزداد الأمور اتضاحًا: "إن الذين آمنوا (والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أى المسلمين، وهم الطائفة المذكورة فى بداية الكلام، إذ هم مؤمنون فعلا، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا قبلا من خلال آيات القرآن الكريم.(/15)