الثاني : أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك .
الثالث: أن يكون ما هدد به فورياً فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لا يخلف .
الرابع: أن لا يظهر من المأمور به ما يدل على إختياره أ.ه .
وهذا الكلام يتضح منه أنه جريان العادة بعدم تخلف الأذى مدة معينة أو زمناً قريباً يعد عذراً أما إذا كان الأذى متوقعاً في الجملة فهذا غير معتبر .
فإن قيل: نحن نتمكن من التخلص بالفرار – فالجواب أن من يعلم أن فراره سوف يلحق الأذى المتوقع بأقاربه وأهله وإخوانه أو غيرهم من المسلمين العاجزين عن الفرار لم يكن فعله مشروعاً إذ ترتب عليه هذا المنكر الآخر .
فإن قيل: فالجهاد والحسبة من باب واحد وهو لا يخلو من خوف الأذى و المكروه ، وأين آيات الابتلاء والصبر نحو قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}(2) سورة العنكبوت الأية وغيرها .
الجواب: أن المسلمين في الجهاد لا يغلب على ظنهم الانهزام كما لا يغلب على ظن إنسان بعينه حصول القتل أو الجرح له بل هو مظنون في الجملة أما بالنسبة لشخص بعينه فهو محتمل وممكن .
وقد سبق أنه لا عبرة بالإمكان والاحتمال ، وأما عند غلبة الظن بحصول الهزيمة والقتل للمسلمين لكونهم أقل من نصف عددهم فقد رخص الشرع لهم في الانصراف ، والخلاف في استحباب الثبات أو الانصراف إن كان في الثبات نكاية للعدو ، أما إذا كان القتال فيه هزيمة المسلمين من غير نكاية وجب الإنصراف وحرم القتال إجماعاً نقله ابن جزى عن إمام الحرمين بلا خلاف ، وذكر مثله النووى في الروضة ج 10 ، بل يكون الواجب عند ذلك تحريز المؤمنين استمراراً للدعوة وحفظاً للدين ، أما الصبر الواجب على الأذى فهو عند الأذى لا يعتبر عذراً في الإكراه ، أما الأذى فسيأتى تفصيله إن شاء الله .
فإن قيل: فالأذى الواقع على البعض منكر خاص والمنكرات العامة منكر عام والموازنة تقتضى دفع الضرر العام بتحمل الضرر الخاص ؟
والجواب: إن هذا تطبيق للقواعد في غير موضعها وإهمال لكلام أهل العلم الذي سبق في أمر الموازنة إذ جعلوا الأذى الحاصل للمحتسب أو غيره منكراً يقدم دفعه على دفع المنكر الأصلي _ وهذا لأن المنكر إنما يضر من فعله مختاراً ومن رضي به _ ولا يضر من كرهه وأباه ممن عجز عن تغييره و أما إيذاء المسلمين الأبرياء الذين لا ذنب لهم فهو ضرر محض لمن لا يستحقه .
قال ابن رجب –رحمه الله-: (1) ولعمري إن أيام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم (2) كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول و اليد لتعذر ذلك والخوف على النفس .
وقد حكي أن الحجاج لما مات قال الحسن: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإن أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن: هيهات ، والله حال دون ذلك السيف والسوط .. قال ((فّهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان )) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( فهذه الأمور العدل فيها أن لا يطلب العبد أن يبتلى وإذا ابتلى بها فليتق الله وليصبر والاستعداد لها أن تصيبه من غير طلب الابتلاء بها )) وقال: (( والتعرض للفتنة هو من الذنوب )) .
***
...
ما هو المكروه المعتبر في إسقاط الحسبة
المكروه نوعان :
1- فوات الحاصل .
2- خوف امتناع المنتظر .
وهو في أربعة أشياء :
1- الصحة والسلامة في البدن .
2- المال .
3- الجاه والمنزلة .
4- العلم .
ولايتصور فوات الحاصل في العلم لأنه لا يمكن لأحد أن ينسى غيره ما يعلمه ، ولا يحصل فوات الحاصل في العلم إلا بتقصير منه .
فأما فوات الحاصل في الصحة والسلامة في البدن فمثاله أن يقتل أو يضرب ضرباً مؤلماً أو يقطع عضو من أعضائه أو يحبس حبساً يدخل عليه الضيق .
وفوات الحاصل في المال أن يؤخذ ماله ويهدم داره وتسلب ثيابه .
وفوات الحاصل في الجاه أن يهان الإنسان أمام أهله أو جيرانه أو أصدقائه بما يسقط مرؤته . وكل من هذه الثلاثة لها حد في الكثرة لا بد من اعتباره وحد في القلة لا بد من إهداره ، وما بينهما محل إجتهاد ونظر وترجيح .
والترجيح في ذلك بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع .
فمثال: ما لا بد من اعتباره ما ذكرناه من القتل وسلب المال وهدم الدار والإهانة أمام الأهل والجيران .
ومثال: ما لا بد من إهداره الضربة الخفيفة ألمها وحبس دقائق أو سويعات .
وأخذ الحبة من المال كقروش معدودة ، وفي الجاه لوم الفاسق وعتابه وتعنيفه وسقوط المنزلة من قلبه وقلب أمثاله .(/8)
وكذا غيبته وعيبه للمحتسب ، فكل هذا لا بد من إهداره وعدم اعتباره لأن حياة الإنسان المعتادة لا تخلو من مثل ذلك ولو من غير حسبة أو دعوة فلا يعد هذا عذراً في الحقيقة والدعوة إلى الله لا تخلو أبداً من مثل هذا .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (29) سورة المطففين
وأما خوف امتناع المنتظر في الصحة والسلامة .
فمثاله: مريض يرجو أن يشفى على يد طبيب لو أمره ونهاه امتنع من علاجه فهذا غير معتبر . وفي المال: أن يرجوا الإنسان أن يعين في وظيفة يأخذ منها مالاً أو ينتظر عطاء أو هبة أو يباع ويشترى منه فإذا أنكر عليهم لم يفعلوا ذلك معه فهذا أيضاً غير معتبر .
وفي الجاه: أن يتوقع أنه سوف يحتاج إلى إنسان ومنزلته في المستقبل ، فلو أمره ونهاه الآن لم يكن عنده له وجاهة فلا يعطيه ما يريد ولا ينفذ له ما يبتغيه فهذا غبر معتبر .
وفي العلم: أن يكون الإنسان جاهلاً بأمر يحتاج إلى تعلم كالتلميذ مع أستاذه إذا علم أنه إذا انكر عليه امتنع عن تعليمه فهذا ايضاً لا يعتبر .
لكن يستثنى من عدم إعتبار خوف امتناع المنتظر عذراً يسقط الوجوب ما تشتد الحاجة إليه ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر فهذا يلحق بفوات الحاصل في اعتباره عذراً يسقط الوجوب .
فمثال ذلك في الصحة: المريض يرجو العلاج من طبيب لو أنكر عليه لم يعالجه يكون المرض قاتلاً لو لم يعالج كنزيف أو ألم مبرح ، أو أن يكون الإنسان جائعاً أو عطشان يخشى الهلاك لو لم يُعط الطعام أو الشراب ، فهذا عذر معتبر مع أنه خوف امتناع منتظر وليس فوات الحاصل .
بل هذا عذر معتبر في الإكراه على فعل المنكر وليس في السكوت عن إنكاره .
ومثال ذلك في المال: من إذا لم يعين في وظيفة أو منع من العمل أو فُصل منه لم يجد طعاماً وشراباً و كسوة ضرورية له أو لمن تلزم نفقته حتى يجوع أو يعرى .
فهذا عذر يسقط وجوب الحسبة بل قد يبيح له فعل الحرام طالما لم يجد وسيلة أخرى يكتسب ما يحتاجه .
ومثال ذلك في العلم: أن يكون الجاهل الذي يحتاج إلى التعلم جاهلاً بأمر ضروري كأنه كان لا يحسن الفاتحة ، أو مالا تصح صلاته إلا به ولو نهى أستاذه عن شرب الدخان مثلاً لم يعلمه ما تصح به صلاته وهذا محذور تزيد مفسدته على مفسدة السكوت على المنكر فيكون عذراً معتبراً .
...
***
...
إسقاط الوجوب في الحسبة لحصول المكروه
لا يسقط إستحبابها
إذا لم يتعدى الضرر على المحتسب إلى غيره فإن الوجوب إذا سقط فلا يسقط الاستحباب إذا كان للحسبة أثر في رفع المنكر أو في كسر جاه صاحبه أو في تقوية قلوب أهل الدين وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (21) سورة آل عمران .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سألأه عن أفضل الجهاد: (( كلمة حق عند سلطان جائر )) (1)
لكن إذا علم المحتسب أن لا أثر لحسبته عاجلاً ولا آجلاً ولا خاصاً ولا عاماً لا على المحتسب عليه ولا غيره مع حصول الأذى الجسيم كقتله أو انتهاك عرضه فقد قال تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ َ} (195) سورة البقرة , فسقط الجواز عندئذ .
ـــــــــــــــ
(1)رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة فىي سننه والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ورواه النسائي في سننه من حديث شهاب رضي الله عنه وصحح الحديث الشيخ/الألبانى في صحيح الجامع برقم 1100 وفي السلسلة الصحيحة برقم 491
حكم تعدي الضرر إلى الغير
وأما إذا غلب على ظنه تعدي الأذى إلى غيره من أقاربه أو أصحابه أو رفقائه أو عموم المسلمين حرم الاحتساب ولو قدر زوال المنكر لأنه يفضى إلى منكر آخر وهو إلحاق الأذى بالآخرين وليس له أن يسامح في حق غيره (2) إلا من أذى يسير لا تنفك عنه الحسبة كالشتم والسب فهذا فيه نظر .
ـــــــــــــــ(/9)
(1) الأخذ بالعزيمة مستحب والأخذ بالرخصة جائز وقد يكون مستحباً ، وليس للإنسان أن يفرض على الآخرين الأخذ بالعزيمة وقد جعل الله لهم سعة في الرخصة فمن عرض غيره للأذى فهو يلزمه بما لا يلزمه شرعاً ومن هنا كان له أن يسامح في حق نفسه لا في حق غيره وما أعظم فقه عبد الله بن حذافة الصحابي رضي الله عنه في هذه المسألة: ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له تنصر و أنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتى فقال له: لو أعطيتنى جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن ارجع عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ما فعلت! فقال: أنت وذلك ، فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه النصرانية فيأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه ودعاه فقال: إني بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى فى هذا القدر الساعة فى الله فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله ، فقال له الملك قبل رأسي وأنا أطلقك فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ، قال نعم : فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فرجع إلى عمر بن الخطاب فقال: (( حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة و أنا أبدأ وقبل رأسه رضي الله عنهما )) أ . ه نقلاً من البداية و النهاية لابن كثير .
قال ابن رجب :((إن خشى فى الإنكار على الملوك أن يؤذى أهله أو جيرانه لم ينبغ له حينئذ من تعدى الأذى إلى غيره كذلك قال الفضيل بن عياض و غيره ))
قال الغزالى :(( فإن كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه و جيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور نعم إن كان لا ينالهم أذى فى مال أو فى نفس ولكن ينالهم الأذى بالسب والشتم فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات فى تفاحشها ودرجات الكلام المحذور فى نكايته فى القلب وقدمه فى العرض )) وقال (( وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة فى شىء بل لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر يتعطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإنكار على الأظهر لان المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو ))
قال الشيخ أحمد الدردير (1) فى شروط جواز الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : (( وفى المنكر أن لا يخاف أن يؤدى إلى منكر أعظم منه )) .
قال أحمد الصاوى معلقاً : (( أى كنهيه عن أخذ مال شخص فيؤدى إلى قتله وفى الحقيقة هو شرط فى الأمر أيضاً )) .
قال الشيخ عز الدين بن عبد الملك : (( و إذا حدث رد فعل سىء للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فله نوعان : أحدهما أن يصيبه القائم به أذى و الآخر ألا يضر نفسه و لكن تحدث مفسدة أخرى نحو أن يقتل رجل برىء أو يزيد مرتكب المنكر تمادياً و إصراراً و غير ذلك .
أما النوع الثانى من رد الفعل فقد أجمع العلماء على عدم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى هذا الوجه )) (2)
ــــــــــــ
(1) الشرح الصغير 2/483 .
(2) ميثاق الأزهار 1/50
مراعاة المصلحة والمفسدة في الحسبة
قال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة ، وقال عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } (88) سورة هود ، وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (64) المائدة.
قال بن القيم رحمه الله (1) (( إنكار المنكر أربع درجات :
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده .
الثانى: أن يقل وإن لم يزل بالكلية .
الثالث: أن يخلفه ما هو مثله .
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليتان مشروعتان ، والثالثة موضع إجتهاد ، والرابعة محرمة )) .
قال ابن تيمية رحمه الله : (( ولهذا قيل وليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم )) أ .ه
قال النووى فى شرح مسلم: (( قال إمام الحرمين رحمه الله ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله مالم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان .
ــــــــــــ
(1) أعلام الموقعين 3/5:4(/10)
قال: وإذا جار والى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب هذا الكلام إمام الحرمين وهذا الذى ذكره من خلعه غريب ومع هذا فهو محمول على ما إذا يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه ))أ .ه
قال الجويني في غياث الأمم: (( وإن علمنا أنه لا يأتى نصب إمام دون اقتحام داهية دهياء وإراقة الدماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال وإهلاك أنفس ونزف دماء فالوجه أن يقاس ما الناس إليه مدفعون مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون على ما الخلق مدفعون إليه فلا يسوغ التشاغل بالدفع بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع )) أ .ه
وقال أيضاً: (( إن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشا احتكامه واهتضامه وبدت فضيحته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا وكان ذلك سبباً في ازدياد المحن وإثارة الفتنة ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع ويقوم محتسباً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدماً والله نصيره على الشرط المتقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع (1)
ــــــــــــــ
(1) غياث الأمم /731
كيف نوازن بين المصالح والمفاسد ؟
يقول ابن تيمية رحمه الله: (( وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت )). (( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام ))أ.ه (1)
ـــــــــــــ
(1) الحسبة /75 .
أنواع المصلحة
وقد بين أهل العلم أنواع المصلحة من حيث اعتبارها شرعاً إلى:
1-مصلحة شهد الشرع لاعتباها:
الأول: وهى ما دلت أصول الشرع لنوعها ( وهى في الحقيقة نوع من القياس بل من القياس بل هي القياس الصحيح ومثالها تضمين السارق قيمة المسروق قياساً على الغاضب )
الثانى: ما دلت أصول الشرع لجنسها في القول بها من عدمه وإن كان تصرف أكثر العلماء على اعتبارها في الجملة .
2_ مصلحة شهد الشرع لبطلانها:
وهي ما وجدت في الواقعة نصوص شرعية تناقش الحكم الذي تمليه المصلحة ، ومثالها فتوى بعض المنتسبين للفقه لأحد الملوك بالصوم بدلاً من العتق في الكفارة المرتبة زجراً له )) وهذا القول باطل بإتفاق من يعتد به من أهل العلم إذ هذه المصلحة متوهمة باطلة وليست مصلحة في الحقيقة .
ولا شك أن تعطيل النصوص بزعم المصلحة كما في تحليل الربا والخمر وسائر المحرمات بزعم المصلحة وكذا تعطيل الحدود هو من هذا الباطل الذي يراد به هدم الشريعة .
ومن هنا نعلم أن النصوص الشرعية هي الأصل في معرفة المصالح وليس العكس ولا شك أن الموازنة بين المصالح والمفاسد من أعظم الأمور خطراً وهى تحتاج إلى علم واجتهاد وبصيرة وفقه عظيم في دين الله وسنن الأنبياء في الكتاب والسنة ليكون الترجيح بموجب الدين لا بموجب الطبع والهوى .
هل يشترط الانتفاع بالاحتساب لوجوبه ؟
- الأظهر من قولي العلماء أن الحسبة واجبة مع ظن التأثير والنفع ، ومع عدمه إذا كانت فيه مصلحة أخرى كانتفاع غير المحتسب أو إظهار شعائر الإسلام أو الأثر والنفع آجلاً لا عاجلاً(1) فإن عدم ذلك سقط الوجوب وعليه تحمل الأحاديث الواردة في ترك الأمر والنهي ونحوها مما ورد في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (105) سورة المائدة.
مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام..)) (2) الحديث ، رغم أن في سنده مقال .
والهداية لا تتم للعبد إلا بأداء الواجبات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد تجب العزلة إذا لم يمكن للإنسان حفظ دينه والنجاة من الفتن إلا بالعزلة مع التنبيه على أن ذلك أمر مخصوص في أحوال مخصوصة وليس عاماً في الأرض كلها في أى زمن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم إلى قيام الساعة " (3)
... ... ــــــــــــــــــــ(/11)
(1)احتج من يرى سقوط وجوب الحسبة إذا ظن عدم التأثير بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} فمفهومه أنها إذا لم تنفع لم يجب التذكير وهو مفهوم شرط وجمهور أهل العلم يقولون به والأصل عدم تقدير محذوف نحو قولهم: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي وإن لم تنفع مثل قوله تعالى: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } أي والبرد والحق أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا تصور انتفاء جميع أنواع النفع فإن المسلم إذا لم يستجب للحسبة من أول مرة فإن ذلك يحدث في قلبه أثراً ولا شك وهو ما يسميه بعض أهل العلم نكاية في قلبه وبتكرار ذلك عليه يشعر بأن فعله مستقبح لدى الناس ففعله في الآجل يترك هذا المنكر أو حتى يفعله وهو في حرج لا أن يتعود عليه إذا لم ينكر عليه أحد- حتى يصبح هذا المنكر معروفاً وكذلك قد ينتفع بالحسبة آخرون غير المحتسب عليه – وينتفع المجتمع كله بظهور شعار الإسلام فيه وامتناع العذاب العام والفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة .
(2)رواه أبو داود والترمذى وابن ماجة في سننهم وابن حبان في صحيخه من حديث أبي شعلة الخشنى رضي الله عنه ، والحديث ضغفه الشيخ/ الألباني في ضعيف الجامع برقم 2344 . (3) في الصفحة القادمة =
* المقصود أن الأمر بالاعتزال إنما هو لمن لم يجد على الخير أعواناً وخشى على نفسه الوقوع في الفتن أو على حصول الأذى الذي لا يصبر عليه ، وهذا لا يكون عاماً بل هو خاص بمن وجد في هذه الأحوال .
ــــــــــــــــــــــ
=(3) رواه البخارى ومسلم عن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وروى الحديث أيضاً الإمام أحمد والترمذى و أبو داود وابن ماجة والحاكم وابن حبان والدارمى بألفاظ مقاربة عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم.
شروط المنكر
1- أن يكون ظاهراً بدون تجسس:
( سواء عن طريق البصر أو السمع أو غيرها من الحواس ) حتى لو غلب الظن الاستسرار بها إلا ما ظهرت أماراته أو آثاره ويكون في تركه حرمة يفوت استدراكها فيجوز الإقدام والكشف مثل أن يخبره من يثق به أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها .(1)
2- ومن شروطه أن يكون قائماً فى الحال:
فما لم يقع بعد من المنكرات لا يجوز فيها الاحتساب بغير الوعظ والإرشاد إذا ظهرت بوادره ، وما وقع وانتهى من المنكرات فالعقوبة عليه من حد أو تعزير لولى الأمر ومن يقوم مقامه ، وأما ما كان واقعاً في الحال فيغير بحسب الإمكان بدرجات التغيير المختلفة على ترتيبها الذي سنذكره إن شاء الله .
فمن كان ممكناً وله قدرة مطلقة فيجب عليه القيام بالحسبة كاملاً حتى يزول المنكر .
3- ومن شروطه أن يكون غير مختلفاً فيه اختلافاً سائغاً:
وأما الخلاف غير السائغ وهو الذى دل صريح القرآن أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي القديم على بطلانه وشذوذه فلا يمنع الإنكار .
قال ابن رجب: المنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج ، وتأوله القاضي على من لعب بغير اجتهاد أو تقليد سائغ وفيه نظر فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك أ .ه
ــــــــــــــــ
(1) الماوردى : الأحكام السلطانية .
وقال النووى: مرجحاً أنه ليس للمحتسب حمل الناس على مذهبه ولم يدل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً و الله أعلم أ .ه
ومن هذا الكلام يتضح لك معنى قول من أطلق من أهل العلم أنه لا ينكر إلا ما كان منكراً في مذهب فاعله أو إلا ما كان متفقاً عليه فإن العلماء يستثنون ما خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي ، مع أن الصحابة أنكروا على من خالف النصوص ولو متأولاً .
فقد أنكر ابن الزبير على ابن عباس: فتواه في المتعة وغلظ عليه .
ورد عليه ابن عباس بقوله: إنك لجلف غليظ قد كانت تفعل على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "جرب بنفسك وإن فعلت لأرجمنك بأحجارك " .(1)
وأنكرت عائشة على زيد ابن أرقم بيع العينة .
وأنكر ابن عمر على ابنه وسبه لما حدثه بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". (2)
فقال ابنه: والله لنمنعهن فسبه سباً لم يسبه أحداً .
وأنكر أبو الدرداء على معاوية في مسألة ربا الفضل .
وقال له: لا أساكنك بأرض أنت فيها – وغير ذلك كثير- وهو يثبت أن من خالف السنة أو الإجماع أنكر عليه ولو كان متأولاً .
ـــــــــــــ
(1) رواه مسلم فى صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه .
(2) رواه مسلم فى صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ورواه بنفس اللفظ الإمام أحمد في(/12)
مسنده ورواه الإمام البخاري و أبو داود وابن ماجة والحاكم بألفاظ متقاربة .
درجات التغيير
أولاً: يبدأ بالتعريف: وهذا في حق الجاهل (1)
ثم: الوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى: وهذا في حق من يعلم ويصر ويكون برفق من غير عنف وشدة .
ثم: التعنيف والتغليظ بالقول الخشن: عند العجز عن المنع بالرفق .
ثم: تغيير المنكر باليد: كإراقة وكسر آلات اللهو والباطل كالموسيقى وغير ذلك ويدخل في ذلك إتلاف كتب البدع والضلال من غير تعرض لمرتكبه .
ـــــــــــــــ
(1)كحديث الأعرابى الذي بال فى المسجد (*) وحديث معاوية ابن الحكم السلمى الذى تكلم فى الصلاة وهو عند مسلم بلفظ بينما أنا أصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واَثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلى هكذا فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصدوننى لكنى سكت .
فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبى هو و أمى ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فو الله ما نهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.( **)
ـــــــــ
* ) رواه البخارى ومسلم من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه . (
رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى .(**)
ثم: التهديد والتخويف بالعقوبة لمرتكبه ثم مباشرة العقوبة كالضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح – وذلك مشروع للآحاد حال وجود المنكر بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة للدفع ولو أدى للقتل كدفع الصائل على نفسه أو غيره وإن احتاج إلى شهر سلاح وجمع أعوان فللآحاد ذلك ما لم يثر فتنة ومفسدة أعظم ومن العلماء من قيد ذلك بإذن إمام وخلفائه كما سبق عن إمام الحرمين. (1)
وينبغى أن يعلم أن الحسبة مع الوالدين لا تتعدى التعريف والوعظ والنصح لقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } (23) سورة الإسراء , وقوله: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (15) سورة لقمان ، وكذا الزوجة مع زوجها لقوامته وأما الأب مع الولد غير البالغ والزوج والزوجة فله تعزيرهم في حدود ما أذن به الشرع بغرض الإصلاح بل للأب تعزير ولده البالغ كما في حديث التيمم ففيه تعزير أبي بكر لعائشة رضي الله عنها .
ـــــــــــــــ
(1)هذا استثناء في الأغلب وليس بأصل إذ الأغلب حصول الفتن بالنسبة للجماعة التي تمارس الحسبة بدون ولاية بل تعم المفسدة وغيرها من الجماعات كما هو مشاهد .
ملحوظة: ذكر الغزالى رحمه الله هذه المراتب وتبعه عليها غيره من أهل العلم والدليل عليهما هدى الرسول في التغيير كما سبق فى قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاوية ابن الحكم وغيرها كثير .
ومن القواعد العامة فى الشريعة مثل استعمال الرفق مع المسلمين ما أمكن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(( الرفق لا يكون في شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه )).(*)
وأن الأصل حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه وارتكابه المنكر هو استوجب عقابه إذا أصر عليه والضرورات تقدر بقدرها فإن اندفع بالأخف لم يجز الانتقال إلى الأشد مراعاة لأصل الحرمة .
ــــــــ
(*) رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنه بلفظ :
(( إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه ولا ينزع من شىء إلا شانه ))
آداب المحتسب
ينبغى على المحتسب التحلى بالرفق والصبر والعفو والإعراض عن الجاهلين .
قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (10) سورة المزمل.
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف , وأن يجتهد في إخلاص النية لله تعالى .
ونسأله تعالى أن يجعلنا آمرين بالمعروف فاعلين له ناهين عن المنكر مجتنبين إياه وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والبصيرة في الحق وأن يغفر لنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم .
كتبه:
ياسر برهامي(/13)
الأُُخوَّةُ الإسلاميّة.. والبحث عنها
محمد عبد الله السمان 21/5/1426
28/06/2005
لا عجب إذا قلت: نحن بحاجة إلى فيلسوف مسلم، يبحث عن الأخوة الإسلاميّة التائهة، في وضح النهار، وبيده مصباح.
لقد أصبحت الأخوة الإسلامية -اليوم- مجرد شعار، يردّده بعض خطباء المنابر والوعاظ، في أضيق الحدود، بل وعلى استحياء!
إن الرسول – صلوات الله وسلامه عليه- حين قال لنا: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه ولا يخذله"، لم يقل لنا هذه الكلمات، لكي تكون مجرد شعار نردّده للاستهلاك، بل لتكون منهج عمل وخطة للتنفيذ.
لقد أصبحت التوعية الدينية -اليوم- ضرورة ملحة .. أعني التوعية الدينية الرشيدة، التي تهتم بمعالي الأمور، وتتابع الأحداث الجارية، وفي مقدمتها ما يمس الإسلام، بل والمسلمين في شتى بقاع العالم، ولم يعد لنا عذر أي عذر، بعد أن تقدمت وسائل الاتصال، حتى أصبح العالم قرية صغيرة.
إن التوعية الدينيّة التي نريدها، ليست قاصرة على ما يتعلق بأمور الدين، بل يجب أن تشمل أمور الدنيا، باعتبار الإسلام ديناً ودنيا معاً، أعني هنا التربية التوعية السياسية الإسلاميّة في المقام الأول. ومما يُؤسف له أن المناهج الدراسيّة في وطننا العربي – ولا يُستثنى من ذلك الأزهر- لا تزال في معزل عن دراسة السياسة الإسلاميّة العامة والخاصة، والتي يجب أن تتبناها مناهج الدراسة، لإنارة الوعي الديني لدى الشباب المسلم أمل الحاضر والمستقبل، على الرغم من غياب الوحدة الإسلاميّة!
وكم أحزنني، حين سألني أستاذ بجامعة الأزهر عن رحلتي القادمة فأجبته إلى ماليزيا -إن شاء الله- , قال:" مالك يا أخي، وهذه البلاد الأفريقيّة، التي تتنفس فيها الأوبئة ؟" وضحكت..ولم يكن الشيخ يدري أن ماليزيا دولة آسيوية، وليست أفريقيّة!!
وكان للشيخ الأزهري عذره، وهذا ما عبّر عنه الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- في كتابه"علل وأدوية "؛ إذ قال: "إن دراسة أي شعب إسلامي أمر إسلامي واجب .. فالمسلمون أمة واحدة، غير أنني أتممت دراستي الأزهرية، التي استغرقت (15)عاماً، دون أن أدرس حرفاً واحداً عن الاستعمار الهولندي لإندونيسيا، ولا الأسباني لجزر سولدومندناو، والتي سُمّيت بعد الفلبين، ولاعن مسلمي جنوب شرق آسيا وشمال أفريقيا وغربها .. لم نعرف كيف استعمر الفرنسيون الهند الهلينية، ولا ما حدث للمسلمين في فطاني والملايو وسنغافورة، وما يُقال مثله عن جهلنا المطبق بمسلمي تركستان الهيلينية والروسية، وبقية الشعوب المسلمة التي ابتلعها التنين الروسي، أما القارة السوداء، والإسلام هو الدين الأول في أقطارها، فالموقف أدهى وأمر في أقطارها، وقد أنشئت فيها -اليوم- خمسون دولة.
ويضيف الداعية، في مرارة أشد : لقد تبين لي أن دراستنا للتاريخ الإسلامي ضحلة، وأن دراستنا للتاريخ الإنساني فوق الصفر ..كيف هذا؟؟
إن رسالة محمد للقارات كلها، فكيف نجهل هذه القارات، ولا نعرف ما يعمرها من أجناس ومذاهب وفلسفات؟..ولماذا نلوك بألسنتنا أن رسالتنا عالمية دون أدنى اتصال بهذا العالم الرحب؟
إن ما قاله الداعية الإسلامي الكبير في عام 1984م جدير بأن يثير في نفس كل مسلم كوامن الأسى المرير.
إن هناك أثراً يقول : "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ولا أهمية هنا لصدور هذا الأثر، فالمهم هو المضمون ألم يقل الحق –سبحانه- :"إنما المؤمنون إخوة" وأي أخوة تكون إذا كانت مجرد شعار يردّده الخطباء على المنابر؟!
ألم يقل كتاب الله لنا: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) [النساء:75]
ألم يقل لنا – صلوات الله وسلامه عليه-، فيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما-:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" .
إن هناك أقليات مسلمة، مستضعفة تشن عليها حرب إبادة في كثير من بقاع العالم لا نحسّ بها، وتتجاهلها وسائل إعلامنا المشغولة بالفن والكرة والتلميع، وما تزال ذاكرتي تحفظ ما أذاعته إذاعة لندن أوائل الستينيات من القرن الماضي وانفردت به، ولم تذعه إذاعة عربية، قالت: إن الكهنة في بورما، قادوا مظاهرة في العاصمة(رانجون) اتجهت للمساجد الثلاثة، وقامت بإحراقها!
وكتبت يومها مقالاً بمجلة الأزهر عن الجريمة، وعلى إثر ظهور المجلة .. كان سفيربورما يزور شيخ الأزهر الشيخ شلتوت –رحمه الله- يبدي عتابه على مجلة الأزهر، وفوجئ الشيخ بأن مكتبه لا يقرأ المجلة!!(/1)
ولا داعي للدهشة إذا قلت لك: إن بابا الفاتيكان الراحل ذهب إلى نيجيريا؛ لكي يتدخل بشأن ثلاثة قساوسة اعتقلوا، ولم يغادرها حتى أقام قداساً وأفرج عن القساوسة، والسودان قرر طرد بعض القساوسة، ضبطوا وهم متلبسون بالتجسّس، فقامت الدنيا ولم تقعد.. وتدخل بعض سفراء الدول الأوربية، وجاؤوا للسودان للتدخل.
ونتساءل في أسى مرير: لو كان هؤلاء مسلمون في دولة غير إسلامية، أكانت الدول المسلمة تدخلت؟ وهل كانت وسائل إعلامنا العربي والإسلامي تهتم ولو لمجرد خبر عادي؟
ولك أن تتصور أن الرئيس الروسي بوتين، حين زار إسرائيل أواخر إبريل الماضي أراد أن يطمئن على آلاف الروس، الذين هاجروا إلى إسرائيل، على الرغم من اكتسابهم للجنسية الإسرائيلية، بينما الرؤساء العرب والمسلمون يزورون دولاً فيها أقليات مسلمة، ولا أظن أحداً منهم تجرّأ وسأل عن حال هذه الأقلية المضطهدة!!
كان الرئيس عبد الناصر في زيارة ليوغسلافيا أيام السفاح تيتو، الذي أزهق أرواح الألوف من المسلمين، ودُعي إلى البرلمان ليتحدث، وفوجئ بالدعوة إلى الوقوف دقيقة حداداً على روح الشهيد الشيوعي المصري، الذي مات تحت وطأة التعذيب في سجن أبي زعبل ، وأُسقط في يد الرئيس عبد الناصر، واتصل –على الفور- بالمسؤولين؛ لوقف تعذيب المعتقلين الشيوعيين، بل أكثر من هذا فإن الرئيس الروسي خروتشوف اشترط -قبل أن يقبل الدعوة لزيارة القاهرة- أن يُِفرج عن سائر المعتقلين الشيوعيين المصريين،
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إننا نستقبل في ديارنا –أحياناً- زعماء وحكاماً -أيديهم ملوثة بدماء المسلمين- بالترحاب!! وحسبنا أن نذكر إمبراطور الحبشة الراحل هيلا سي لاسي، وما فعله بمسلمي الحبشة من اضطهاد لدرجة أنه فرض جزية على المسلمين هناك أسماها ضريبة الكنائس، في عام 1960 دُعي لزيارة مصر ، في طريق عودته من نيويورك، واستقبل استقبالاً شعبياً، وسيق بعض الناس للمطار؛ ليهتفوا بحياة الإمبراطور، الذي صرح للصحفيين- في نيويورك- قائلاً: إن المسلمين في بلاده قلة دخلوا الإسلام على أيدي بعض التجار العرب، وقريباً سوف يعودون لدين آبائهم وأجدادهم، أي المسيحية!!
ألست على حق حين قلت: نحن في حاجة لفيلسوف مسلم يبحث عن"الأخوة الإسلامية التائهة" في وضح النهار، وبيده مصباح، كما فعل فيلسوف يوناني، كان في وضح النهار يبحث عن الحقيقة وبيده مصباح!!
ولله الأمر من قبل ومن بعد(/2)
الإبداع الشيطاني في إفساد الشهر الرمضاني
أ. صلاح عبد العزيز ـ الشبكة
بعد أن تيقن إبليس من أن قياسه بين خيرية النار على الطين أصبحت هبابا.. و أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر.. و بناءً على قاعدة أنه ما لا يُدرك جُله .. يُترك كُله !! هذه الجنة التي كنت أنعم في رياضها و أمرح .. أصبَحت أحلاماً لي و ذكريات .. و لكن يا إبليس يا ابن النار و مجدها و سحرها و لهيبها الذي يأخذ بالألباب.. أنسيت أن أمامك فُسحة زمنية إلى يوم يُبعثون ؟! هَيَّ.. هَيَّ أُدعو جُندك و العاملين في صفك من بني عبد النار .. و تشبه بالخالق في عرشه إذ إن عرش الله على الماء.. ولِمَا لا أجعل عرشي على وجه البحر أجلس عليه و أبعث السرايا يلقون بين الناس الشر والفتن ؛ فأعظمهم عندي منزلة أعظمهم فتنة للناس... و أقربهم مني منزلة أَقْدَرُهْم على كسب أكبر عدد منهم لصالحنا نحن شياطين الجان.. و الوقت قد حان لعقد اجتماع طارئ لحبك خطة إفشال شهر رمضان و نسف عمليات تصفيد جنودنا الأبالسة المغاوير .. و نادى إبليس في الملأ أن هَلُموا من كُل حَدَب و صَوب و أجمعوا أمركم على قلب إبليس واحد.. فالحرب خُدعة و الخطب جلل... و لكن احرصوا على السرية التامة و إياكم من الشُهب أن تحرقكم .. و بدأ الاجتماع السري بحضور حكماء شيطون الذين يُفسدون في الأرض و لا يُصلحون ؛ وانتهزوا فرصة رئاسة أبي قطرة ألإبليسي كي يُعمم رسالة لشياطين الدنيا الذين لم يحضروا هذا الاجتماع الخطير:
عنوان الرسالة: الإبداع الشيطاني في إفساد الشهر الرمضاني
المصدر: بروتوكولات حُكماء شيطون – الاجتماع رقم – 1424 ( أي منذ السنة الثانية للهجرة والتي فرض فيها الصيام على المؤمنين في شهر شعبان من تلكم السنة ).
التاريخ – شهر شعبان 1426 هجرية
وسائل الإفساد : بدأ إبليس حديثه أمام جموع الشياطين قائلاً..
لقد أصبحتم يا معشر الجن خبراء غواية و فتنة لبني آدم... ذاك العدو الذي كان سبباً في حرماننا من الجِنان.. و لن أتعرض للوسائل التي كنا نذكرها في كل اجتماع لنا في شهر شعبان من كل عام لوضع خطة إفساد رمضان على أهل الصيام و القيام.. و يكفينا فخراً أننا استطعنا أن نستغل الاكتشافات العلمية مثل التلفزيون ( المفسديون ) و السينما كوسائل للغواية و الإلهاء و كذلك المسرح و الموسيقى .. و يجب أن أُصارحكم أن شياطين الإنس قد فاقونا إبداعاً و تفنناً في إفساد شهر رمضان على عباد الله الصائمين ؛ و أخص بالذكر منهم وزراء الإعلام و الثقافة الأعراب.. و نجوم الفن الهابط عن طريق الأفلام الأسبوعية و البرامج التلفزيونية من مسلسلات يومية .. والمسرحيات النصف شهرية و سهرات صباحية ممتلئة باللقاءات مع الفنانات والراقصات تعجز عن أدائها الرعية الإبليسية..
أما ما لا يقدر عليه شياطين الإنس ؛ فهو موضوع اجتماعنا و غاية رغبتنا!! و هاكم الخُطة:
ألم تعلموا أن كل عمل ابن أدم له إلا الصوم فإنه لله و هو يجزي به.. فهل فهمتم يا حُكماء شيطون.. إنه الإخلاص مَنَاطُ عبادة الصوم.. وهل فهمتم هدفكم المُحدد الآن؟! إنه قلب ابن آدم مُستودع الإخلاص... إنكم تَجرون من ابن آدم مجرى الدم.. فانفذوا إلى قلبه و زينوا له أنه ما صام إلا بقدرته هو على كبح جِمَاحِ شهواته.. و عند ذلك سوف يرى نفسه و يُعجب بها .. و لا يرى توفيق ربه له.. فيملأ قلبه العُجب.. و العُجب يا أحبابي الشياطين هو الذي أدخل عليَّ الكِبر؛ فرأيت أنني خير من آدم و أبيت أن أسجد له... استخدموا إذاعاتكم القلبية لتبث سوء الظن و الغِيبة الكلامية أثناء صيامهم حتى يأكلوا لحوم بعضهم البعض... ازرعوا الحسد فيما بينهم.. فلقد حَسَدْتُ أباهم آدم على مكانته أمام الملائكة.. و النتيجة أنتم تعرفونها !! خرجت من الجنة بسببه.. الحسد يأكل الحسنات كما تأكل نارنا الحطب ؛ المجد للنار.. أشعلوا نار الفتن ما ظهر منها و ما بطن بين الصائمين.. أليست الفتنة أشد و أكبر من القتل... فتنة حُب المال و ذِكر الدنيا و زُخرفها .. حتى إذا ما مَلأت قلب الصائم ؛ لم يجد ذكر ربه في قلبه فُسحة و لا مكان.. و لا تنسوا النميمة بين الصائمين فإنها الوقيعة.. خاصة بين الابن و أبيه و البنت و أمها و الأخ و أخيه و الأخت و أختها.. و بذلك تُفسدوا عليهم صيامهم و تُقَطِعوا أرحامهم... إذا كانت النظرة سهم من سهامي ؛ فقد تكفل في صياغتها شياطين الدعاية و الصحافة و الفن.. أيها الحمقى .. ما أردت سهام النظر كي توجهوها للصائمين !! وجهوا سهامكم إلى قلوبهم و املؤها في رمضان كِبراً و عُجْباً و رياء و نفاقاً و سُمعةً و في التحريش بينهم.(/1)
أنا أعرف أن مهمتكم صعبة في رمضان لأن الجوع و العطش يُضيق عليكم المنافذ إلى قلب الصائم.. و لكن استغلوا غفلته عن ذكر ربه و ادخلوا من أبواب الغفلة .. و احذروا أن تحرقكم شِهاب إخلاص قلوب عباد فُطنا.. سَمَوا بإخلاصهم لربهم في صيامهم و دخلوا على حضرة قُدُسية ربهم بكثرة ذكرهم و محبتهم له، و محبته لهم.. فَفُتح لهم الباب ... ففازوا و خَسِرْنا .. أُولئك هيهات هيهات أن تنالوا من صومهم .
و في الختام.. أشكر لكم معشر بني شيطون تجديد بيعتكم و توثيق عهودكم على درب غواية أعدائكم بني آدم أجمعين... إلا عباد الله المُخْلَصين.
التوقيع: أبو قِطرة ألإبليسي(/2)
الإبداع في كمال الشرع و خطر الإبتداع 1/ 2 / 3
الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بين فيها ما تحتاجه الأمة في جميع شئونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه : ( ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ، طائرا يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ) وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه علمكم نبيكم حتى الخراة ـ آداب قضاء الحاجة ـ قال : ( نعم ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، أو نستنجي باليمين أو نستنجي برجيع أو عظم).
وإنك لترى هذا القرآن قد بين الله تعالى فيه أصول الدين وفروع الدين فبين التوحيد بجميع أنواعه وبين حتى آداب المجالس والاستئذان قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) ـ المجادلة ، وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم ) ـ النور ،.
حتى آداب اللباس قال الله تعالى ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ) النور(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ، وكان الله غفورا رحيما ) ـ الأحزاب ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) ـ النور ، ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى . وأتوا البيوت من أبوابها ) ـ البقرة ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتبين بها أن هذا الدين شامل كامل لا يحتاج إلى زيادة كما أنه لا يجوز فيه النقص ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ـ النحل . فما من شيء يحتاج الناس إليه في معادهم ومعاشهم إلا بينه الله تعالى في كتابه إما نصا أو وإيماء وإما منطوقا وإما مفهوما .
أيها الأخوة : إن بعض الناس يفسر قول الله تعالى ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) ـ الأنعام ، يفسر قوله ( ما فرطنا في الكتاب ) على أن الكتاب القرآن والصواب بالكتاب هنا اللوح المحفوظ ، وأما القرآن فإن الله تعالى وصفه بأبلغ من النفي وهو قوله ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) فهذا أبلغ وأبين من قوله ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ولعل قائلا يقول أين نجد في القرآن أعداد الصلوات الخمس في القرآن ؟ وعدد كل صلاة في القرآن ؟ وكيف يستقيم أننا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كل صلاة والله يقول ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) .
والجواب على ذلك أن الله تعالى بين لنا في كتابه أنه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وبما دلنا عليه ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ـ النساء ، ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )الحشر ، فما بينته السنة فإن القرآن قد دل عليه لأن السنة أحد قسمي الوحي الذي أنزله الله على رسوله وعلمه إياه كما قال الله تعالى ( وأنزل عليك الكتاب والحكمة ) ـ النساء.وعلى هذا فما جاء في السنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل .
أيها الأخوة : إذ تقرر ذلك عندكم فهل النبي ،صلى الله عليه وسلم ، توفي وقد بقي شيء من الدين المقرب إلى الله تعالى لم يبينه ؟.
أبدا فالنبي عليه الصلاة والسلام بين كل الدين إما بقوله وإما بفعله وإما ابتداءا أو جوابا عن سؤال وأحيانا يبعث الله أعرابيا من أقصى البادية ليأتي إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يسأل عن شيء من أمور الدين لا يسأله عنه الصحابة الملازمون لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابي يسأل عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن بعض المسائل ، ويدلك على أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلا بينه يدلك على ذلك قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ـ المائدة .(/1)
إذا تقرر ذلك عندك أيها المسلم فاعلم أن كل من ابتدع شريعة في دين الله ولو بقصد حسن فإن بدعته هذه مع كونها ضلالة تعتبر طعنا في دين الله عز وجل ، وتعتبر تكذيبا لله تعالى في قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) لأن هذا المبتدع الذي ابتدع شريعة في دين الله تعالى وليست في دين الله تعالى كأنه يقول بلسان الحال إن الدين لم يكمل لأنه قد بقي عليه هذه الشريعة التي ابتدعها يتقرب بها إلى الله عز وجل . ومن عجب أن يبتدع الإنسان بدعة تتعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته ثم يقول إنه في ذلك معظم لربه ، إنه في ذلك منزه لربه ، إنه في ذلك ممتثل لقوله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا ) ـ البقرة، إنك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلقة بذات الله التي ليس عليها سلف الأمة ولا أئمتها ثم يقول إنه هو المنزه لله وإنه هو المعظم لله وإنه هو الممتثل لقول الله تعالى ( فلا تجعلوا لله أندادا) وأن من خالف ذلك فهو ممثل مشبه أو نحو ذلك من ألقاب السوء .
كما أنك لتعجب من قوم يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ويدعون بذلك أنهم هم المحبون لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنهم المعظمون لرسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، وإن من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنه مبغض لرسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
ومن العجب أن مثل هؤلاء يقولون نحن المعظمون لله ولرسوله، وهم إذا ابتدعوا في دين الله وفي شريعته التي جاء بها رسول الله ما ليس منها فإنهم بلا شك متقدمون بين يدي الله ورسوله وقد قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم ) الحجرات.
أيها الأخوة : إني سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم ، من مقتضى دينكم لا من مقتضى تقليدكم . ما تقولون فيمن يبتدعون في دين الله ما ليس منه سواء فيما يتعلق بذات الله وصفات الله وأسماء الله أو فيما يتعلق برسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم يقولون نحن المعظمون لله ولرسول الله أهؤلاء أحق بأن يكونوا معظمين لله ولرسول الله؟ أم أولئك القوم الذين لا يحيدون قيد أنمله عن شريعة الله ، يقولون فيما جاء من الشريعة آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا ، فيما أمرنا به أو نهينا عنه ، ويقولون فيما لم تأت به الشريعة أحجمنا وانتهينا وليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله ، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه . أيهما أحق أن يكون محبا لله ورسوله ومعظما لله ورسوله ؟ لا شك أن الذين قالوا آمنا وصدقنا فيما أخبرنا به وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به وقالوا كففنا وانتهينا عما لم نؤمر به ، وقالوا نحن أقل قدرا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه ، لا شك أن هؤلاء هم الذين عرفوا قدر أنفسهم وعرفوا قدر خالقهم هم الذين عظموا الله ورسوله وهم الذين أظهروا صدق محبتهم لله ورسوله .
لا أولئك الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة أو القول أو العمل وإنك لتعجب من قوم يعرفون قول رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، ( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )، ويعلمون أن قوله ( كل بدعة) كلية عامة شاملة مسورة بأقوى أدوات الشمول والعموم ( كل ) والذي نطق بهذه الكلية صلوات الله وسلامه عليه يعلم مدلول هذا اللفظ وهو أفصح الخلق ، وأنصح الخلق . .
للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه . إذا فالنبي ، صلى الله عليه وسلم، حينما قال ( كل بدعة ضلالة ) كان يدري ما يقول ، وكان يدري معنى ما يقول ، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة .
وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة ـ كما النصح ، والإرادة ، وكمال البيان والفصاحة وكمال العلم والمعرفة ـ دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة ، أو إلى أقسام خمسة ؟ أبدا هذا لا يصح ، وما ادعاه بعض العلماء من أن هناك بدعة حسنة . فلا تخلو من حالين :
1) أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة .
2) أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادعي أنه بدعة حسن فالجواب عنه بهذا . وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، ( كل بدعة ضلالة ).(/2)
إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة إنه لم يصنع في مصانع مضطربة لكنه صنع في مصانع النبوة وصاغه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول إنها حسنة ورسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يقول ( كل بدعة ضلالة ).
وكأني أحس أن في نفوسكم دبيبا يقول ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب حينما أمر أبي ابن كعب وتميما الداري أن يقوما بالناس في رمضان فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال ( نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ).
فالجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بأي كلام لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها ، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها،ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ـ النور ، قال الإمام أحمد رحمه الله (أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ).
الوجه الثاني : إننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لكلام الله تعالى ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وكان مشهورا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان واقفا عند كلام الله تعالى . وما قصة المرأة التي عارضته ـ إن صحت القصة ـ في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا )ـ النساء ، فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور . لكن هذه القصة في صحتها نظر . لكن المراد بيان أن عمر كان واقفا عند حدود الله تعالى لا يتعداها ، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وأن يقول عن بدعة ( نعمت البدعة ) . وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله ، صلى اللهعليه وسلم ، بقوله ( كل بدعة ضلالة ) بل لا بد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر إنها ( نعمت البدعة ) على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( كل بدعة ضلالة ) فعمر رضي الله عنه يشير بقوله ( نعمت البدعة هذه ) إلى جمع الناس على إما م واحد بعد أن كانوا متفرقين وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال ( إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ) رواه الشيخان ، فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه ويقوم الرجل ومعه الرجل والرجل ومعه الرجلان والرهط والنفر في المسجد فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة فهي بدعة اعتبارية إضافية وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه وبهذا التقعيد لا يمكن أبدا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذا لما استحسنوه من بدعهم .
وقد يقول قائل : هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كالمدارس وتصنيف الكتب وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعا عليه بين المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) .(/3)
فالجواب : أن نقول هذا في الواقع ليس ببدعة بل هذا وسيلة إلى مشروع والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد فوسائل المشروع مشروعة ووسائل غير المشروع غير مشروعة بل وسائل المحرم حرام . والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرا ممنوعا واستمع إلى الله عز وجل يقول ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام . وسب آلهة المشركين ليس عدوا بل حق وفي محله لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم ، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سببا مفضيا إلى سب الله كان محرما ممنوعا ، سقت هذا دليلا على أن الوسائل لها أحكام المقاصد فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصدا بل هو وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد . ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم محرم كان البناء حراما ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعا .
فإن قال قائل : كيف تجيب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وسن بمعنى ( شرع ) .
فالجواب : أن من قال ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) هو القائل ( كل بدعة ضلالة ) ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولا آخر ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبدا ، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدا ، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله ، صلى الله عليه وسلم متناقض فليعد النظر ، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه ،وإما عن تقصير . ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض أبدا.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث ( كل بدعة ضلالة)لحديث ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من سن في الإسلام ) والبدع ليست من الإسلام ، ويقول ( حسنة ) والبدعة ليست بحسنة ، وفرق بين السن والتبديع
للخلق لا يتلفظ إلا بشيء يقصد معناه . إذا فالنبي ، صلى الله عليه وسلم، حينما قال ( كل بدعة ضلالة ) كان يدري ما يقول ، وكان يدري معنى ما يقول ، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة .
وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة ـ كما النصح ، والإرادة ، وكمال البيان والفصاحة وكمال العلم والمعرفة ـ دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة ، أو إلى أقسام خمسة ؟ أبدا هذا لا يصح ، وما ادعاه بعض العلماء من أن هناك بدعة حسنة . فلا تخلو من حالين :
1) أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة .
2) أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادعي أنه بدعة حسن فالجواب عنه بهذا . وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، ( كل بدعة ضلالة ).
إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة إنه لم يصنع في مصانع مضطربة لكنه صنع في مصانع النبوة وصاغه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول إنها حسنة ورسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يقول ( كل بدعة ضلالة ).
وكأني أحس أن في نفوسكم دبيبا يقول ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب حينما أمر أبي ابن كعب وتميما الداري أن يقوما بالناس في رمضان فخرج والناس على إمامهم مجتمعون فقال ( نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ).
فالجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يعارض كلام الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بأي كلام لا بكلام أبي بكر الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها ، ولا بكلام عمر الذي هو ثاني هذه الأمة بعد نبيها،ولا بكلام عثمان الذي هو ثالث هذه الأمة بعد نبيها ولا بكلام علي الذي هو رابع هذه الأمة بعد نبيها ولا بكلام أحد غيرهم لأن الله تعالى يقول ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ـ النور ، قال الإمام أحمد رحمه الله (أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ،صلى الله عليه وسلم ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ).(/4)
الوجه الثاني : إننا نعلم علم اليقين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه من أشد الناس تعظيما لكلام الله تعالى ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، وكان مشهورا بالوقوف على حدود الله تعالى حتى كان يوصف بأنه كان واقفا عند كلام الله تعالى . وما قصة المرأة التي عارضته ـ إن صحت القصة ـ في تحديد المهور بمجهولة عند الكثير حيث عارضته بقوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا )ـ النساء ، فانتهى عمر عما أراد من تحديد المهور . لكن هذه القصة في صحتها نظر . لكن المراد بيان أن عمر كان واقفا عند حدود الله تعالى لا يتعداها ، فلا يليق بعمر رضي الله عنه وهو من هو أن يخالف كلام سيد البشر محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وأن يقول عن بدعة ( نعمت البدعة ) . وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله ، صلى اللهعليه وسلم ، بقوله ( كل بدعة ضلالة ) بل لا بد أن تنزل البدعة التي قال عنها عمر إنها ( نعمت البدعة ) على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( كل بدعة ضلالة ) فعمر رضي الله عنه يشير بقوله ( نعمت البدعة هذه ) إلى جمع الناس على إما م واحد بعد أن كانوا متفرقين وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال ( إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ) رواه الشيخان ، فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وسماها عمر رضي الله عنه بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه ويقوم الرجل ومعه الرجل والرجل ومعه الرجلان والرهط والنفر في المسجد فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة فهي بدعة اعتبارية إضافية وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر رضي الله عنه لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر رضي الله عنه وبهذا التقعيد لا يمكن أبدا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذا لما استحسنوه من بدعهم .
وقد يقول قائل : هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كالمدارس وتصنيف الكتب وما أشبه ذلك وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعا عليه بين المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) .
فالجواب : أن نقول هذا في الواقع ليس ببدعة بل هذا وسيلة إلى مشروع والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد فوسائل المشروع مشروعة ووسائل غير المشروع غير مشروعة بل وسائل المحرم حرام . والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرا ممنوعا واستمع إلى الله عز وجل يقول ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام . وسب آلهة المشركين ليس عدوا بل حق وفي محله لكن سب رب العالمين عدو وفي غير محله وعدوان وظلم ، ولهذا لما كان سب آلهة المشركين المحمود سببا مفضيا إلى سب الله كان محرما ممنوعا ، سقت هذا دليلا على أن الوسائل لها أحكام المقاصد فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، على هذا الوجه إلا أنه ليس مقصدا بل هو وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد . ولهذا لو بنى شخص مدرسة لتعليم محرم كان البناء حراما ولو بنى مدرسة لتعليم علم شرعي كان البناء مشروعا .
فإن قال قائل : كيف تجيب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وسن بمعنى ( شرع ) .
فالجواب : أن من قال ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) هو القائل ( كل بدعة ضلالة ) ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولا آخر ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبدا ، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدا ، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله ، صلى الله عليه وسلم متناقض فليعد النظر ، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه ،وإما عن تقصير . ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض أبدا.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث ( كل بدعة ضلالة)لحديث ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من سن في الإسلام ) والبدع ليست من الإسلام ، ويقول ( حسنة ) والبدعة ليست بحسنة ، وفرق بين السن والتبديع .(/5)
الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان
تناول الدرس هذه الدعوة الخبيثة إلى الزندقة والإلحاد وهي الخلط بين الأديان من خلال الإجابة على هذه الأسئلة: ما الباعث لها؟ وما الغاية التي ترمي إليها؟ وما مدى مصداقية شعاراتها؟ وعن حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من أجاب فيها، وحكم من دعا إليها، ومهد السبيل لتسليكها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم، ونثر من أجلها وسائل التغريب، وأسباب التهويد، والتنصير في صفوف المسلمين؟
الحمد لله الذي هدانا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فأكمله سبحانه لنا وأتمه، وأتم به علينا النعمة، ورضيه لنا ديناً، وجعلنا من أهله وجعله خاتماً لكل الدين وناسخاً لجميع الشرائع قبله، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره:
}أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[83] {'سورة آل عمران' . وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، أما بعدُ،،،
ففي الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الجهادية من علماء المسلمين في شتى فجاج أرض الله، بالدعوة إلى الله، والتبصير في الدين، ومواجهة موجات الإلحاد والزندقة، ورد دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة: القومية، البعثية، الماركسية، العلمنة، الحداثة ... وصد عاديات التغريب والانحراف، والغزو بجميع أنواعه وضروبه، وأشكاله؛ بدت محنة أخرى في ظاهرة هي أبشع الظواهر المعادية للإسلام والمسلمين؛ لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردةٍ شاملة.
وكل ذلك يجري على سنن الصراع والتقابل والتدافع، كما قال الله تعالى:}وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا[217] {'سورة البقرة' وقوله سبحانه:}وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[89] {'سورة النساء' وذلك فيما جهرت به اليهود والنصارى، من الدعوة الجادة إلى:
'نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما هم عليه من دين محرف منسوخ' وزرع خلاياهم في أعماق الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد: فلا ولاء، ولا براء، ولا تقسيم للملأ إلى مسلم وكافر أبداً، ولا لتعبدات الخلائق إلى حق وباطل.
ونصبوا لذلك مجموعة من الشعارات، وعقدوا له المؤتمرات، والندوات، والجمعيات، والجماعات، إلى آخر ما هنالك من مخططات.. وهم في الوقت نفسه في جد ودأب في نشر التنصير، وتوسيع دائرته، والدعوة إليه، واستغلال مناطق الفقر، والحاجة، والجهل، وبعث النشرات عبر صناديق البريد.
من هنا اشتد السؤال من أهل الإسلام عن هذه ' النظرية ' التي حلت بهم: ما الباعث لها؟ وما الغاية التي ترمي إليها؟ وما مدى مصداقية شعاراتها؟ وعن حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من أجاب فيها، وحكم من دعا إليها، ومهد السبيل لتسليكها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم، ونثر من أجلها وسائل التغريب، وأسباب التهويد، والتنصير في صفوف المسلمين؟ .
حتى بلغت الحال ببعضهم إلى فكرة : ' طبع القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل في غلاف واحد ؟
وحتى بلغ الخلط والدمج مبلغه ببناء: ' مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، في: ' رحاب الجامعات ' و ' المطارات ' و ' الساحات العامة ' ؟ فما جوابكم يا علماء الإسلام ؟؟
آثار هذه النظرية على الإسلام والمسلمين :
اقتحام العقبة، وكسر حاجز الهيبة من المسلمين من وجه، وكسر حاجز النفرة من الكافرين من وجه آخر .
قدم ' البابا ' نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل رسالة : ' السلام العالمي ' للبشرية .
أن ' البابا ' اعتبر يوم: 27 / 10 أكتوبر عام 1986 م عيداً لكل الأديان، وأول يوم من شهر يناير، هو: ' يوم التآخي ' .
اتخاذ نشيد، يردده الجميع، أسموه: ' نشيد الإله الواحد: رب، وأب ' .
انتشر في العالم عقد المؤتمرات لهذه النظرية، وانعقاد الجمعيات، وتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان، وإقامة الأندية، والندوات .
أنه فضلاً عن مشاركة بعض من المنتسبين إلى الإسلام في هذه اللقاءات - على أراضي الدول الكافرة - في المؤتمرات، والندوات، والجمعيات وإقامة الصلوات المشتركة، فإنه ما كادت شعارات هذه النظرية تلوح في الأفق، وتصل إلى الأسماع، إلا وقد تسربت إلى ديار الإسلام؛ فطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلى الدعوة بها سدة المؤتمرات الدولية، والنوادي الرسمية والأهلية . وكان منها:(/1)
في: ' مؤتمر شرم الشيخ بمصر ' في شهر شوال عام 1416، تركيز كلمات بعض أصحاب الفخامة !!!! من المسلمين !!!! على الصفة الجامعة بين المؤتمرين، وهي:' الإبراهيمية ' وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين، واليهود، والنصارى، والشيوعيين .
ومنها أنه بتاريخ: 1416 / 10 / 10 . أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه: القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' .
وفي بعض الآفاق صدر قرار رسمي بجواز تسمية مواليد المسلمين، بأسماء اليهود المختصة بهم؛ وذلك إثر تسمية مواليد المسلمين باسم: ' رابين ' .
وهكذا ينتشر عقد التهويد، والتنصير، بنثر شعاراتهم بين المسلمين، ومشاركة المسلمين لهم في أفراحهم، وأعيادهم، وإعلان صداقتهم، والحفاوة بهم، وتتبع خطواتهم وتقليدهم، وكسر حاجز النفرة منهم بذلك، وبتطبيع العلاقات معهم .. وهكذا في سلسلة يجر بعضها بعضاً في الحياة المعاصرة .
هذه خلاصة ما جهرت به اليهود، والنصارى، في مجال نظرية توحيد ديانتهم مع دين الإسلام، وهي بهذا الوصف، من مستجدات عصرنا؛ باختراع شعاراتها، وتبني اليهود، والنصارى لها على مستوى الكنائس، والمعابد، وإدخالها ساحة السياسة على ألسنة الحكام، والتتابع الحثيث بعقد المؤتمرات، والجمعيات، والجماعات، والندوات ؛ لبلورتها، وإدخالها الحياة العملية فعلاً .
وتلصصهم ديار المسلمين لها، من منظور: ' النظام الدولي الجديد ' . مستهدفين- قبل هيمنة ديانتهم- إيجاد ردة شاملة عند المسلمين عن الإسلام .
وكان منشور الجهر بها، وإعلانها، على لسان النصراني المتلصص إلى الإسلام: روجيه جارودي، فعقد لهذه الدعوة : ' المؤتمر الإبراهيمي ' ثم توالت الأحداث كما أسلفت في صدر هذه المقدمة .
ولا يعزب عن البال، وجود مبادرات نشطة جداً من اليهود والنصارى، في الدعوة إلى : ' الحوار بين أهل الديان ' وباسم ' تبادل الحضارات والثقافات ' و ' بناء حضارة إنسانية موحدة ' و ' وبناء مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، وبخاصة في رحاب الجامعات وفي المطارات .
وكان من مداخل السوء المبطنة لتمهيد السبيل إلى هذه النظرية، وإفساد الديانة: إجراء الدراسات المقارنة في الشرعيات، بين الأديان الثلاثة، ومن هنا يتبارى كل في محاولة إظهار دينه على الدين كله، فتذوب وحدة الدين الإسلامي، وتميزه، وتسمن الشبه، وتستسلم لها القلوب الضعيفة.
حكم الدعوة إلى توحيد الأديان:
إن الدعوة إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر كل منهما بين النسخ والتحريف؛ هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة: ' بغض الإسلام والمسلمين ' .
فهي في حكم الإسلام: دعوة بدعية، ضالة كفرية، خطة مأثم لهم، ودعوة لهم إلى ردة شاملة عن الإسلام؛ لأنها:
تصطدم مع بدهيات الاعتقاد.
وتنتهك حرمة الرسل والرسالات.
وتبطل صدق القرآن، ونسخه ما قبله من الكتب.
وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع.
وتبطل ختم نبوة محمد والرسالة المحمدية - عليه الصلاة والسلام - .
فهي نظرية مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسنة، وإجماع، وما ينطوي تحت ذلك من دليل، وبرهان .
لهذا: فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، الاستجابة لها، ولا الدخول في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعاتها، وجمعياتها، ولا الانتماء إلى محافلها، بل يجب نبذها، ومنابذتها، والحذر منها، والتحذير من عواقبها، واحتساب الطعن فيها، والتنفير منها، وإظهار الرفض لها، وطردها عن ديار المسلمين، وعزلها عن شعورهم ومشاعرهم، والقضاء عليها، ونفيها، وتغريبها إلى غربها، وحجرها في صدر قائلها، ويجب على الوالي المسلم إقامة حد الردة على أصحابها، بعد وجود أسبابها، وانتفاء موانعها، حماية للدين، وردعاً للعابثين، وطاعة لله، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإقامة للشرع المطهر . وأن هذه الفكرة إن حظيت بقبول من يهود، ونصارى، فهم جديرون بذلك؛ لأنهم لا يستندون إلى شرع منزل مؤبد، بل دينهم: إما باطل محرف، وإما حق منسوخ بالإسلام. أما المسلمون: فلا والله، لا يجوز لهم بحال الانتماء إلى هذه الفكرة؛ لانتمائهم إلى شرع منزل مؤبد، كله حق، وصدق، وعدل، ورحمة .
وليعلم كل مسلم عن حقيقة هذه الدعوة: أنها فلسفية النزعة، سياسية النشأة، إلحادية الغاية، تبرز في لباس جديد؛ لأخذ ثأرهم من المسلمين: عقيدة، وأرضاً، وملكاً، فهي تستهدف الإسلام والمسلمين في:
1- إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، والبلبلة في المسلمين، وشحنهم بسيل من الشبهات، والشهوات؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة، ونفس حاضرة .
2- قصر المد الإسلامي، واحتوائه .
3- تأتي على الإسلام من القواعد، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام واندراسه، ووهن المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم، وَوَأدِه .(/2)
4- حل الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه؛ لإحلال الأخوة البلدية اللعينة: ' أخوة اليهود والنصارى ' .
5- كف أقلام المسلمين، وألسنتهم عن تكفير اليهود والنصارى وغيرهم، ممن كفرهم الله، وكفرهم رسوله صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا بهذا الإسلام، ويتركوا ما سواه من الأديان- .
6- وتستهدف إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمن بهذا الإسلام، ويترك ما سواه من الأديان .
7- وتستهدف كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام: الجهاد في سبيل الله، ومنه: جهاد الكتابيين، ومقاتلتهم على الإسلام، وفرض الجزية عليهم إن لم يسلموا . والله سبحانه وتعالى يقول:} قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[29]{ 'سورة التوبة'.
وكم في مجاهدة الكافرين، أعداء الله، ورسوله، والمؤمنين، من ' إرهاب ' لهم، وإدخال للرعب في قلوبهم، فينتصر به الإسلام، ويذل به أعداؤه، ويشف الله به صدور قوم مؤمنين، والله تعالى يقول:} وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[60]{ 'سورة الأنفال'.
فوا عجباً من تفريط المسلمين، بهذه القوة الشرعية ؛ لظهور تفريطهم في مواقفهم المتهالكة: موقف: اغتيال الجهاد، ووأده . وموقف: تأويل الجهاد للدفاع، لا للاستسلام على كلمة الإسلام، أو الجزية- إن لم يسلموا- . موقف: تلقيب الجهاد باسم: ' الإرهاب ' للتنفير منه؛ حتى بلغت الحال بالمسلمين إلى تآكل موقفهم في فرض الجزية على الكافرين في تاريخهم اللاحق !!!
8- وتستهدف هدم قاعدة الإسلام، وأصله: ' الولاء والبراء ' و ' الحب والبغض في الله '، فترمي هذه النظرية الماكرة إلى كسر حاجز براءة المسلمين من الكافرين، ومفاصلتهم، والتدين بإعلان بغضهم وعداوتهم، والبعد عن موالاتهم، وتوليهم، وموادتهم، وصداقتهم .
9- وتستهدف صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب وحدة الأديان، وتفسيخ العالم الإسلامي من ديانته، وعزل شريعته في القرآن والسنة عن الحياة، حينئذ يسهل تسريحه في مجاهل الفكر، والأخلاقيات الهدامة، مفرغاً من كل مقوماته، فلا يترشح لقيادة أو سيادة، وجعل المسلم في محطة التلقي لِمَا عليه أعداؤه، وأعداء دينه، وحينئذٍ يصلون إلى خسة الغاية: القفز إلى السلطة العالمية بلا مقاوم .
10- وتستهدف إسقاط جوهر الإسلام، واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل دين الإسلام المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى .
11- وترمي إلى تمهيد السبيل: ' للتبشير بالتنصير ' والتقديم لذلك بكسر الحواجز لدى المسلمين، وإخماد توقعات المقاومة من المسلمين؛ لسبق تعبئتهم بالاسترخاء، والتبلد .
12- ثم غاية الغايات: بسط جناح الكفرة من اليهود، والنصارى، والشيوعيين، وغيرهم على العالم بأسره، والتهامه، وعلى العالم الإسلامي بخاصة، وعلى الشرق الأوسط بوجه خاص، وعلى قلب العالم الإسلامي، وعاصمته: ' الجزيرة العربية ' بوجه أخص، في أقوى مخطط تتكالب فيه أمم الكفر وتتحرك من خلاله؛ لغزو شامل ضد الإسلام والمسلمين بشتى أنواع النفوذ: الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، وإقامة سوق مشترك، لا تحكمه دولة الإسلام، ولا سمع فيه، ولا طاعة لخلق فاضل ولا فضيلة، ولا كسب حلال، فيفشو الربا، وتنتشر المفسدات، وتدجن الضمائر، والعقول، وتشتد القوى الخبيثة ضد أي فطرة سليمة، وشريعة مستقيمة . وما ' مؤتمر السكان والتنمية ' المعقود بالقاهرة في : 29 / 3 / 1415 و ' المؤتمر العالمي للمرأة ' المعقود في بكين عام 1416 . إلا طروحات لإنفاذ هذه الغايات البهيمية .
هذا بعض ما تستهدفه هذه النظيرة الآثمة، وإن من شدة الابتلاء، أن يستقبل نزر من المسلمين، ولفيف من المنتسبين إلى الإسلام هذه ' النظرية ' ويركضوا وراءها إلى ما يُعقد لها من مؤتمرات، ونحوها، وتعلو أصواتهم بها، مسابقين هؤلاء الكفرة إلى دعوتهم الفاجرة، وخطتهم الماكرة، حتى فاه بعض المنتسبين إلى الإسلام بفكرته الآثمة:' إصدار كتاب يجمع بين دفتيه:' القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' .
إن هذه الدعوة بجذورها، وشعاراتها، ومفرداتها، هي من أشد ما ابتلي به المسلمون في عصرنا هذا، وهي أكفر آحاد:' نظرية الخلط بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والمعروف والمنكر، والسنة والبدعة، والطاعة والمعصية ' .(/3)
وهذه الدعوة الآثمة، والمكيدة المهولة، قد اجتمعت فيها بلايا التحريف، والانتحال، وفاسد التأويل، وإن أمة الإسلام، لن تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها - بحمد الله - طائفة ظاهرة على الحق، حتى تقوم الساعة، من أهل العلم والقرآن، تنفي عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وصد العاديات عن دين الإسلام . ومن حذر فقد بشر .
هذا جواب على سبيل الإجمال يطوّق هذه النظرية الخطرة ويكشف مخططاتها القريبة، والبعيدة في الهدم، والتدمير، وقفزهم إلى السلطة بلا مقاوم .
وخلاصته: ' أن دعوة المسلم إلى توحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام: ردة ظاهرة، وكفر صريح ؛ لما تعلنه من نقض جريء للإسلام أصلاً، وفرعاً، واعتقاداً، وعملاً، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام ' . وإنها دخول معركة جديدة مع عباد الصليب، ومع أشد الناس عدواة للذين آمنوا . فالأمر جد وما هو بالهزل .
من رسالة:' الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان' للشيخ/ بكر أبوزي(/4)
الإتمام و القضاء للمسبوق في صلاة الجماعة
السؤال :
أريد توضيحا لمسألة الإتمام و القضاء للمسبوق في الصلاة ، و هل القضاء ثابت في السنة أم الإتمام فقط ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إذا كان المقصود هو السؤال عن قضاء الصلوات الفوائت ، فلنا في ذلك فتوى مستقلّة بوسع الأخ السائل مراجعتها على موقع صيد الفوائد الرائد .
أما إذا كان المقصود بسؤاله هو ما يفوت المأموم المسبوق من أفعال الصلاة ، فأقول جواباً على ذلك :
من أحرَم بالصلاة مؤتمّاً ، و قد فاتته ركعةٌ فأكثر فهو المأموم المسبوق ، و عليه أن يتمّ ما فاته من ركعات بعد خروج الإمام من الصلاة بالتسليم ، لمارواه الشيخان و أصحاب السنن إلا النسائي و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ ، وَ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَ مَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » .
و في روايةٍ أخرجها أبو داود و النسائي و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَ مَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا » .
و لاختلاف روايات هذا الحديث الذي هو عمدة الباب اختلف العلماء على قولين في اعتبار ما أدركه المسبوق مع إمامه :
فذهب الجمهور ( الحنفيّة و الحنابلة و المالكية في أحد قوليهم ) إلى أنّ ما أدركه المسبوق مع الإمام هو آخر صلاته ، فإذا أدرك المأموم مع الإمام الركعة الثانية فهي ثانيةٌ بالنسبة للإمام و المأموم على حدٍّ سواء ، و هم سواء أيضاً فيما بعدها ، حتى إذا انقضت الصلاة بتسليم الإمام قام المأموم فأدى الركعة التي فاتته باعتبارها الركعة الأولى في حقّه ، و يلزم من ذلك أنّه يُصلّيها قضاءً لا أداءً ، لرواية « و ما فاتكم فاقضوا » .
و ذهب الشافعيّة و المالكيّة في أحد القولين إلى أنّ ما يدركه المسبوق مع إمامه هو أوّل صلاته ، فإذا أدرك المأموم مع الإمام الركعة الثانية فهي ثانيةٌ بالنسبة للإمام ، و لكنها أولى بالنسبة للمأموم ، و التي بعدها تكون ثالثة للإمام ثانيةً للمأموم بهذا الاعتبار ، و هكذا دواليك ، فإذا انقضت الصلاة بتسليم الإمام قام المأموم فأدى ما فاته من ركعات بناء على ما سبق و تتميماً له بنفس الترتيب ، و يلزم من ذلك أنّه يصليها أداءً لا قضاءً ؛ لرواية « و ما فاتكم فأتمّوا » .
و قد أحسن الإمام النووي رحمه الله عرض الخلاف في هذه المسألة في قوله : مذهبنا – أي مذهب الشافعيّة - أن ما أدركه المسبوق أول صلاته ، و ما يتداركه آخرها ، و به قال سعيد بن المسيب و الحسن البصري و عطاء و عمر بن عبد العزيز و مكحول و الزهري و الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز و إسحاق حكاه عنهم ابن المنذر ، قال : و به أقول ، قال : و روي عن عمر و علي و أبي الدرداء و لا يثبت عنهم ، وهو رواية عن مالك و به قال داود و قال أبو حنيفة و مالك و الثوري و أحمد ما أدركه آخر صلاته و ما يتداركه أول صلاته و حكاه ابن المنذر عن ابن عمر و مجاهد و ابن سيرين ، و احتج لهم بقوله صلى الله عليه و سلم : « ما أدركتم فصلوا و ما فاتكم فاقضوا » ، و احتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه و سلم : « ما أدركتم فصلوا و ما فاتكم فأتموا » رواه البخاري و مسلم من طرق كثيرة قال البيهقي : الذين رووا « فأتموا » أكثر و أحفظ و ألزم لأبي هريرة الذي هو راوي الحديث ، فهو أولى ، قال الشيخ أبو حامد و الماوردي و إتمام الشيء لا يكون إلا بعد تقدم أوله و بقية آخره ، و روي مثل مذهبنا عن عمر بن الخطاب و علي و أبي الدرداء و ابن المسيب و الحسن و عطاء و ابن سيرين و أبي قلابة رضي الله عنهم قال أصحابنا : و لأنه لو أدرك ركعة من المغرب فقام للتدارك يصلي ركعة ثم يجلس و يتشهد ، ثم يقوم إلى الثالثة و هذا متفق عليه عندنا وعند الحنفية وممن نقل الاتفاق عليه الشيخ أبو حامد و البغوي ، وهو دليل ظاهر لنا لأنه لو كان الذي فاته أول صلاته لم يجلس عقب ركعة قال أصحابنا : فأما رواية « فاقضوا » فجوابها من وجهين : أحدهما : أن رواة « فأتموا » أكثر و أحفظ ، و الثاني : أن القضاء محمول على الفعل لا القضاء المعروف في الاصطلاح ، لأن هذا اصطلاح متأخري الفقهاء ، و العرب تطلق القضاء بمعنى الفعل قال الله تعالى : « فإذا قضيتم مناسككم فإذا قضيت الصلاة » قال الشيخ أبو حامد : و المراد و ما فاتكم من صلاتكم أنتم لا من صلاة الإمام و الذي فات المأموم من صلاة نفسه إنما هو آخرها ، و الله أعلم ) [ المجوع : 4 / 192 ] .
قلتُ : و الذي يظهر لي في هذه المسألة رُجحان مذهب الشافعية رحمهم الله ، و انتصار الإمام النووي له واضحٌ بيّن ، فإذا أضيف إليه ما قرّره جهابذة النقّاد من إعلال رواية « فاقضوا » بالشذوذ ، كان الراجح في المسألة ، و الله أعلم .(/1)
الإثم ظاهره وباطنه
بقلم الشيخ عبد الكريم الحمداوي/الشبيبة الإسلامية المغربية
alhamdaoui@hotmail.com
قال الله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) الأنعام 120
هذه الآية الكريمة تحوي أمرا بتجنب الإثم، ووعدا ووعيدا لمن لم يمتثل، بالجزاء والعذاب في الآخرة.
والأمر فيها للوجوب موجه لسائر المكلفين إنسا وجنا، وهو لصرامته شديد الإيجاز، محرم لكل ما يستقبح، وحاض بمفهوم المخالفة على جميع مكارم الأخلاق، ومؤلف من أربعة ألفاظ لا يحتاج إلى الشرح اللغوي منها إلا لفظا " ذروا " و " إثم".
ففعل الأمر " ذروا " بمعنى دعوا واتركوا، من: وذر يذر، وقد أماتت العرب منه صيغ الماضي والمصدر واسم الفاعل، فلا يقال: وذر وذرا فهو واذر، وإنما يقال ترك تركا فهو تارك، وإنما تستعمل العرب منه صيغتي المضارع والأمر، قال تعالى:
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )البقرة278.
- (مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأعراف 186.
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) الجمعة 9.
- (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) المزمل 11، أي: كلهم إلي ولا تشغل قلبك بهم.
أما لفظ" إثم " فحروفه الثلاثة الهمزة والثاء والميم تدل على أصل واحد هو البطء والتأخر، والإثم مشتق منه، لأن الآثم بطيء عن الخير متأخر عليه.
يقال: أثم الرجل إثما ومأثما فهو آثم وأثيم وأثوم، إذا أذنب، أما قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) الفرقان 68، فمعنى " الأثام" هنا: جزاء الإثم.
والتأثم هو التحرج من الذنب والكف عنه والتوبة منه.
والإثم لغة هو الذنب، ومن فسره بالعدوان جانبه الصواب، لأن العدوان من الإثم، والإثم أعم منه، والعرب تسمي الخمر إثما، وبه فسر قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ) الأعراف 33.
ونظرا للسياق الذي وردت فيه هذه الآية من لوم للمشركين على امتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه قبلها (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) الأنعام 119، ونهيهم عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بعدها (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )الأنعام 121، ولما جرت به عادة العرب من تسمية الخمر إثما، فقد ذهب المفسرون في شرح الإثم مذاهب شتى، وخصصوا معناه تخصيصات لا دليل عليها:
ذهب بعضهم إلى أن الإثم الظاهر والباطن خاص بأكل الميتة والذبائح وشرب الخمر والنبيذ، وآخرون إلى أن ظاهر الإثم هو الزنا المعلن بذوات الرايات ( المحترفات)، وباطنه هو الزنا الخفي واتخاذ الأخدان، كما فسر بشرب الخمر علانية وتسترا.
وعند بعضهم الظاهر منه هو الطواف بالبيت عراة والباطن هو الاستسرار بالزنا، وعند آخرين الظاهر منه ما ورد في الآية 23 من سورة النساء ( حرمت عليكم أمهاتكم...) والباطن هو الزنا، أو أعمال الجوارح الظاهرة والنوايا وأعمال القلوب المستترة.
لكن الصواب هو أن تخصيص الآية بصورة معينة من غير دليل لا يجوز، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيكون التحريم عاما في جميع الآثام والفواحش، ولذلك عقب تعالى على هذا الأمر بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) الأنعام 120، أي أن مرتكب الإثم ظاهرا أو خفيا سيجازي بالعذاب الدائم يوم القيامة إن كان مستحلا له، فإن لم يكن مستحلا له ولم يتب ولم يعف الله عنه عذب على قدر ذنبه؛ وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال: ( الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) صحيح مسلم والمستدرك على الصحيحين؛ ولا يحيك في صدر المؤمن ويخشى الفضيحة فيه إلا ما خالف الشريعة وعارض الفطرة السوية وأخل بالمروءة.
إن الإثم العام غير المخصص الذي تحرمه هذه الآية الكريمة، منه ما هو متعلق بالمعتقد، ومنه ما هو متعلق بالنية والقصد والإرادة، أو بأمراض القلوب وخطرات النفس، أو بأعمال الجوارح الظاهرة والمستترة.
1 – إثم المعتقد:(/1)
أشد الآثام وأخطرها الشرك بالله تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف 110، وهو إنكار ألوهيته عز وجل أو ربوبيته أو أسمائه وصفاته، أو إشراك غيره معه فيها، سواء كان ذلك في المعتقد أو في العبادة؛ إلا أن أخف الشرك ما اجتمع فيه الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم مع أعمال جعل فيها لغير الله نصيب مهما كان قليلا، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه قال:
- ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء ) مسلم وابن ماجه وأحمد.
- ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة، قالوا : يا رسول الله كيف ننجو منه؟ قال: " قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ) ابن حبان في صحيحه.
2 – إثم النية والقصد والإرادة:
ولا نعني بالنية ما يميز به المرء العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر أو صيام الفرض عن صيام التطوع مثلا، ولكننا نعني بها قصد العامل بعمله، وهل هو لله أم لغير الله، للخير أم للشر؟، وهو ما شرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) البخاري ومسلم.
فأي عمل يقوم به المرء ينقلب إثما إذا لم يرد به نفع نفسه أو نفع عباد الله أو كف أذى أو جلب مصلحة ولم يقصد بذلك وجه الله تعالى؛ وكأي من عمل يبدو ظاهره خيرا والقصد منه قبيح، والطعم الذي يوضع في الصنارة بحسب ظاهره إطعام وإحسان وما يقصد به إلا اصطياد سمكة، ومثل النية السيئة أعمال البر التي تغطي مقاصد السوء.
3 – إثم أمراض القلوب وخطرات النفس:
أمراض القلوب وخطرات النفس كثيرة، على رأسها النفاق والحسد والحقد والعجب والكبرياء والرياء والنجوى والوساوس وسوء التأويل لأقوال المسلمين وأعمالهم والأماني الضالة، وحب الرئاسة والميل للإضرار بالخلق، وإيثار الدنيا على الآخرة، وهي كلها هم وغم حزن وضائقة نفس في الدنيا، ومحاسبة في الآخرة، سواء ظهرت آثارها في تصرفات المرء وأقواله وأفعاله أم لم تظهر. قال صلى الله عليه وسلم:( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) البخاري ومسلم
وقال تعالى:
- (لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة 225.
- (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه) البقرة 284.
ولئن استدل بعضهم على نسخ المحاسبة فإن مذهبهم ضعيف، لأن في الآية وعد ووعيد وذلك لا يحتمل النسخ الذي يعد هنا خلفا وبداء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إلا أن من نفى النسخ اشترط للمحاسبة أن تكون خطرات النفس مصحوبة بالاعتقاد والعزم، وبغير هذا تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:( إن ربكم رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عشر إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت واحدة أو يمحوها، ولا يهلك على الله إلا هالك ) سنن الترمذي وسنن الدارمي والمعجم الكبير.
ومع ذلك فإن من يشغل قلبه بأمراضه ونجواه، وإن لم يصاحب ذلك عزم واعتقاد يكون قد ضيع مكسبين، أولهما أجر شغل النفس بالخير والفضيلة، وثانيهما راحة البال والسكينة اللتان تملآن القلب المطمئن إلى ربه الخالي من الأمراض.
قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي الناس أفضل؟ : ( كل مخموم القلب صدوق اللسان ) قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: ( التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ) ابن ماجه بإسناد صحيح.
كما حذر من أمراض القلوب قائلا:
- ( دب فيكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) البزاز بإسناد صحيح والبيهقي.
- ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ...) البخاري ومسلم.
4 – إثم الجوارح ظاهرا وباطنا:
الجوارح مفردها جارحة، من جرح واجترح بمعنى اكتسب وعمل، مجاز من معناه الأصلي الذي هو جرح السيف ونحوه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) الأنعام 60، وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الجاثية 21.(/2)
ومنه لفظ " الجوارح " بمعنى السباع والطير التي تستعمل للصيد، لأنها تجرح لصاحبها، أي تكسب له، واحدتها جارحة؛ ومن المجاز أيضا الجوارح بمعنى أعضاء الإنسان وعوامله، لأن بها يكسب الخير والشر؛ وهي السمع والبصر والفم واللسان واليد والرجل والفرج. فإن استعملت في العبادة والخيرات والمباحات كانت السلامة والأجر الحسن، وإن استعملت في المحرمات والمكروهات ومخلات المروءة كان الإثم والندم؛ واستعمالها في الإثم عادة يبدأ صغيرا ومتخفيا مادام المرء محتفظا ببعض حيائه، ثم تنفرج زاوية الجراءة على الله تعالى بالتدريج، وتنسلخ من القلب فطرة استقباح المحرمات والمعاصي والذنوب، فتصير له عادة وسجية، ويرفع عنه الحياء من الله ومن الناس، فيقع في التهتك والمجاهرة إلى حد يفتخر فيه بارتكابها ويحدث الناس بها؛ قال صلى الله عليه وسلم:( كل أمتي معافى إلا المجاهرين. قيل يا رسول الله ومن المجاهرون؟ قال:الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، فيكشف ستر الله عنه ) المعجم الصغير1/378.
إن حماية الجوارح من الآثام خير سبل النجاة بين يدي الله تعالى يوم القيامة، وخير ما يحفظ به المرء سلامة جسده ويوفر به لنفسه الراحة والطمأنينة والسعادة في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم:
- ( من يضمن ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) البخاري ومسلم.
- ( اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم ) أحمد وابن حبان في صحيحه.(/3)
الإجازة الصيفية وتعطيل سنن الله في الكون !
الشيخ / د. صالح بن حميد
إن قوة الأمة وتقدمها وحسن تدينها مقيس بإيمانها وجودة عملها ودقة تنظيمها ومقدار إنتاجها وحسن تدبيرها.
مع هبوب رياح الصيف وحلول مواسم الإجازات لكثير من البقاع والديار وارتباط الإجازة عند بعض الناس بالتعطيل والبطالة وإضاعة الوقت وقتله فيحسن الوقوف والتأمل بالعمل والإنتاج وساعات العمل والوقت وضبط ساعات العمر وأوقات الراحة. إن قدرة المجتمعات على الإنتاج والعطاء وضبط ساعات العمل وكسب المعاش وأوقات الراحة من أول الدلائل على القوة وحسن الإيمان والعمل الصالح وإدراك معنى الإصلاح.
إن كثيرا من الناس ينقلب بهم الحال فيجعلون ليلهم معاشا وكثير منهم يقضونه في اللهو والعبث ويجعلون نهارهم سباتا وهذا كله فوضى واضطراب وإثارة على الأحياء والحياة ولها نتائج خطيرة على الإنتاج والصلاة والإصلاح وعلى الحياة الصحية والبيئية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
إننا نرى أسرا بأكملها أو مدناً بكل أهلها صغارها وكبارها رجالها ونسائها قد قلبوا حياتهم وانقلبوا في معاشهم يسهرون ليلهم وفي نهارهم غير قادرين على العمل والعطاء سواء كانوا طلاباً أو موظفين أو كانوا في أعمال عامة أو خاصة فهم ضعفاء في الإنتاج ضعفاء في المشاركة مقصرين في الأداء مفرطين في المسؤولية.
إن ظاهرة عكس السنن وتحويل وظائف النهار إلى الليل لهي دليل على التسيب والفوضى وضياع الضابط في الناس. وربما تكون دلالة من دلالات الترهل المهلك والاتكالية المدمرة وكأنه لا هم لهم إلا تلبية أهوائهم ومشتهياتهم منصرفين عن حقيقة وجودهم وطبيعة رسالتهم وعظيم مسؤوليتهم.
إن من أهم آليات الإصلاح التي ينادي بها المصلحون النظر الجاد لهذه القضية وإعادة ترتيب ساعات العمل وحمل الناس على ذلك حتى يتحول المجتمع إلى مجتمع منضبط وعامل ومنتج يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهلاته وكفاءاته في كل طبقاته رجالاً ونساء وشباباً وكهولاً ويجب أن يكون المجتمع نهارياً لا ليلياً مؤكداً أنه لا عمل في الليل إلا في حدود ضيقة في بعض الأعمال الخاصة من حراسة ومناوبة وغيرها.
إن أول ما يمكن أن تتطلع إليه الأمة أن تكون أمة بكور يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بعد صلاة العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لأمتي في بكورها). إن اليوم الإسلامي مرتبط بصلاة الصبح وفيها قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا) يستقبل المسلم بها يومه ويستفتح بها نهاره وعمله دعاه داعي الفلاح فالصلاة خير من النوم. إن أهل البكور وجوههم مسفرة ونواصيهم مشرقة وأوقاتهم مباركة وأهل جد وعمل وسعي يأخذون بالأسباب مفوضين أمرهم إلى ربهم متوكلين عليه فهم أكثر عملاً وأعظم رضى وأشد قناعة وأكثر إيماناً. وحين يترك الناس البكور تصبح أوقاتهم ضيقة وصدورهم حرجة وأعمالهم مضطربة. وديننا ونهجنا وإرشادات نبينا تدعو إلى البكور فلماذا يسبقنا الآخرون.(/1)
الإجازة الصيفيّة ..ودورها الإيجابي في حياة الأسرة؟
وفاء سعداوي 29/6/1427
25/07/2006
تبدأ الإجازة الصيفية، ويبدأ معها الفراغ والحيرة، ويتسرّب الملل والكآبة أحياناً أخرى إلى نفوس أبنائنا؛ فاليوم طويل .. فما العمل؟! وكيف أقضي وقت فراغي؟!
وهل يكون الحل هو السفر إلى الخارج مع ما فيه من مخاطر؟!
لا شك أن تلك التساؤلات تدور في أذهان الكثيرين، خاصة الشباب والفتيات، فلكل إنسان نظرة خاصة في الإجازة؛ فقد يعدّها بعض الناس فرصة للراحة والسفر، وبعضهم يمارس أنشطة لا يجد لها وقتاً في غير الإجازة.
الإجازة ضرورة لصحة الفرد
يؤكد الدكتور عبد العزيز الشخص أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس بأن الإجازات ضرورية لصحة الفرد وكيانه، فهناك إنزيمات معينة تتكون في المخ نتيجة العمل لفترة طويلة تؤثر على التركيز فتقل الطاقة للعمل نتيجة الإجهاد الذهني والنفسي والبدني، ويترتب على ذلك عدم الالتزام بواجباته الأسرية والاجتماعية إلى جانب الضغوط النفسية التي تسبب التوتر والقلق نتيجة مسؤولية العمل وعلاقاته، فالإنسان يحتاج إلى فرصة لينسى هذه التوترات، هذا بالنسبة للإنسان بشكل عام.
أما عند الصغار فالأمر جد خطير، الآن الواجب أن يحترم الصغير وقت الإجازة، ويخطط له، فإذا تعوّد على احترام وقت الفراغ منذ الصغر، فسيحترم وقت العمل عندما يكبر.
ويجب أيضاً أن تكون الإجازة فرصة لملاحظة الأولاد ومعرفة مشاكلهم وتوطيد العلاقة بهم، واللعب معهم والتزاور مع الأهل والأقارب والأصدقاء. كل هذه واجبات اجتماعية لها فائدة صحية، وفيها تجديد للنشاط.
وأحب أن أحذر من الإفراط في مشاهدة التلفاز والفيديو والإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة خلال العطلة الصيفية، فبالإضافة إلى أضرارها الأخلاقية فلها أضرار صحية؛ فقد أثبتت الدراسات أن هناك أنواعاً من الصّرَع مرتبطة بمشاهدة الأجهزة الحديثة، فيجب أن ننتبه إلى أن الإجازة ليست لمشاهدة وسائل الإعلام بدون حساب.
الإجازة ليست استرخاءً تاماً
ويرى د. أحمد عبد الرحمن أستاذ علم الأخلاق بالجامعات الإسلامية أن الإجازة ليس استرخاءً تاماً، وإنما هي تغيير من نوع النشاط وبداية لغرس قيم جديدة، والسفر تختلف أهميته من شخص لآخر؛ فهناك مَن يسافر ليضيع وقته في الفساد وزيارة الأماكن المشبوهة وممارسة أنشطة منافية للحياء ومخلة بالآداب العامة، وهناك من يسافر للترفيه البريء والسياحة، وقد تكون النية من السفر إلى جانب الترفيه، اكتساب ثقافات جديدة، أو جمع مادة علمية أو حضور مؤتمرات، أو زيارة المتاحف والآثار، فالهدف من السفر يختلف من شخص لآخر، وبالتالي الحكم على السفر للخارج لا يمكن تعميمه، وإنما المهم أن يقوم على مبدأ المصلحة، وقد يسافر الشخص للدعوة إلى الإسلام، وإلقاء محاضرات أو المشاهدة والكتابة والنقد.
ذكّروا أولادكم بالإسلام
ويعلق الداعية الدكتور عمر عبد الكافي على مسألة شغل الفراغ في الإجازة بالسفر إلى الخارج فيؤكد على أن الإسلام ليس ضد الترويح عن النفس، ولكنه ضد التهريج وتضييع الوقت، فالوقت هو رأس مال المسلم، والمسلم الواعي يستغل هذا الوقت في صالحه، أما أن يضيعه في شيء تافه فهو إنسان لا عقل له، والإنسان التافه هو الذي يتسلى بالتافه، والأمم الفارغة تتسلى بالفارغ، ويشعر بالراحة والدعة كل من يعيش ليأكل، ويتمتع، وينسى دائماً أنه مخلوق لحكمة وهدف (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). [الذريات:56].
ويجب أن نُدرّب الصغار على هذه المعاني، ويجب أن يشعر المسلم نحو الإسلام كما يشعر نحو ابنه، فإذا مرض ابنه خلال الإجازة ماذا سيفعل؟!
لا شك أنه سينسى كل شيء، ويظل بجانبه يمرضه، ويرعاه، وهكذا يجب أن يحمل المسلم هموم الأمة، وما يحدث في لبنان وفلسطين، ويحمل أخلاق الإسلام في كل وقت، ويسعى إلى عزة الإسلام.
والشيطان يدخل للإنسان من مداخل شتى ليثبط عزيمته نحو حمل فكر الإسلام وأخلاقه، ويبطّئ خطاه نحو الله، لكن لو ترسّمنا خُطا الصحابة الغر الميامين لوجدناهم حملوا همّه، وكان لهم كل شيء الأب والابن والأهل، فإذا نحن فعلنا ذلك فلن نجد وقتاً للهو، ولن نفرّق بين وقت العمل ووقت الإجازة، وسوف نحفظ وقت صغارنا ووقتنا من وسائل القتل والتدمير.(/1)
الإجابة المختصرة
في التنبيه
على حفظ المتون المختصرة
تأليف فضيلة الشيخ
سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان
حفظه الله ونفع به المسلمين
[ الطَّبعة الثَّانية وهي مَزيدة ومُنَقَّحة ]
اعتنى به الطالب
بن سالم
[ كل مابين المعكوفات فهو من زياداتي ؛ وهي إما توثيق أو زيادة مراجع ]
[ بعد الصَّلاةِ والسَّلام على نَبيِّنا محمد وآلِهِ وصَحبه أجمعين ؛ أَقول : أحمدُ الله العلي العظيم المنَّان الكريمِ على أنْ يَسَّرَ لي إعادة النَّظَر في هذه الوُرَيقات النَّفيسَة ، وتَصحيحُ كلّ ما نَدَّ به القَلم وزَلَّ به اللسان من الأَخطاء المطبعيّة ، وأعانني على إضافةِ ما يُقارِبُ خُمس الأَصلِ من التَّعليقات الفَوائد ، مع زِيادةٍ في التَّنسيق والتَّوضيح .
هذا … وقد كُنتُ أَتمنَّى من الإِخوان الأَفاضِل الذين اقتَنوا هذا المؤلَّف أَن يُرْسِلُوا لي بتَصحيحاتِهِم وآرائِهم مُدَعَّمة بالأَدلّة ؛ ولكنْ ! مع الأَسَف غَضّوا الطَرفَ وسَكتوا ؛ مع أنَّ العِلْمَ رَحِمٌ بَينَ أَهْلِهِ ، ولا يَجوزُ كِتمانه . هذا أوّلاً .
وثانياً : أُهيب بطُلاَّب العِلم الذين يَجدونَ في أَنفُسِهِم الذّكاء والفِطنة وحُبّ العلم ، أن يُدْلوا بِدَلوِهِم فيه بِأَقَلِّ بِضاعَةٍ ، والمَجالُ في ذلك واسِعٌ ، بل هو أوسَعُ وهم على مَقاعد الدِّراسة ؛ فَيستطيع الواحد منهم أَن يُرتِّب ويُهَذّب (1) المنهج الدِّراسي لِمادّةٍ ما على شَكل سؤالٍ وجوابٍ مَثلاً ، أو أبوابٍ وفُصولٍ ومَباحثَ أيضاً (2) ، ويَنشرها لِطلاَّب العلم ليستفيد منها الجاهل قبل العالم ، ولا مانع أن يَشتركَ أربعة أو أكثر في هذا المشروع . فيَستفيد أموراً كثيرةً ؛ منها : شُغل النَّفسِ بِذكر الله ألا وإنَّ العلمَ من ذِكر الله ، ومنها : مُذاكره العلم وحُفظه وإعلاء ذكره بِمذاكرته ، ومنها : إعانة مَن لا يَستطيع الفهم إما لِكَثرة تَعقيدات المادَّة ، أو صُعوبة تعبيراتها ، أو تَشتّتِ مَسائِلها ومَن كان في عونِ أخيه كان الله في عَونِه أفلا تُريد عونَ الله ؟ ! .
فاتَّق الله يا طالب العلم وإيّاك واحتِقار النَّفس فإنَّ مَن يَهاب صُعود الجِبال يَظَلّ أبدَ الدَّهر بَينَ الحُفَرِ ، فاستغلَّ ما أنعَم الله به عليك في طاعته ؛ فالبِدار البِدار .
? ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) ? (سُورَة الطلاق )
قاله بن سالم ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فهذه الرسالة المختصرة جواب سؤال كتبه بعض طلبة العلم يقول فيه : ( ما هي المتون في شتى الفنون التي تنصح طالب العلم أن يحفظها ويتقنها ؟ وأرجو ذكر المتون بالتدرج الذي يتناسب مع الطالب المبتدئ ويفيد الطالب المنتهي ) .
ولما كان هذا السؤال مهماً ونافعاً والإجابة عليه مفيدة ولها أثرها على الفكره والكتاب ، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الفوضوية في العلم وتوجهت همم المبتدئين للتصنيف والنقد وتزبزبوا قبل أن يتحصرموا وتصدروا للتدريس والفتوى قبل أن يصدروا وقد قال أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بالفالي (3) :
تَصَدَّرَ للتَّدريسِ كُلّ مَهوس
فَحُقَّ لأهلِ العِلمِ أنْ يَتَمَثَّلُوا
لَقَدْ هَزُلَتْ حتى بَدا مِنْ هَزْلِها ... بَليدٌ تَسَمَّى بِالفَقيهِ الْمُدَرِّسِ
بِبَيْتٍ قَديمٍ شاعَ في كُلِّ مَجْلِسٍ
كِلاها وحتى سامَها كُلّ مُفْلِسِ
فلهذه وغيره رَسَمتُ في هذه الإجابةِ التَّنبيه والنُّصح لِطائِفَتَينِ :
الطَّائِفَةُ الأُولى : طريقةُ الطَّلَبِ للعَودِ بالفَوضَويّين الْمُتعالمين إِلى اليقظةِ العِلميّةِ الصَّحيحةِ ، والأخذُ بِحُجَزِهِم عن الوقوعِ في عَتَبَةِ القَوْل على الله بلا عِلِمٍ .
الطَّائِفَةُ الثَّانِية : طريقةُ الطَّلَبِ لثلةٍ تطمحُ في الرُّقيِّ ، وأخذِ العِلمِ من مَظانِّهِ ، والبدءُ بالتَّدرّجِ في أساسياتِ العلمِ ؛ وعلى أيدي العلماءِ العاملينَ والفقهاءِ المجتهدينَ المعنيين بِضَبطِ قواعد الحلال والحرام .
__________
(1) التَّهذيب : هو بِخلاف الاختِصار ، فالتَّهذيب يُراد به التَّرتيبُ وجمع المُفتَرق وتَيسير العِبارة ؛ حتَّى لو زاد أي : هذا التَّهذيب على الأَصل .
(2) وما أَكثرُ المواد المُحتاجة إلى ذَلك ؛ فمادَّة الأُصول (رَوضَة النَّاظر) ، والفِقه (الرَّوض المُربِع) ، والحديثُ (سُبلُ السَّلام) … وغيرها كثير . فهي بِحاجة إلى التَّيسير والتَّهذيب .
(3) الكامل في التاريخ لابن الأثير (8/335) .(/1)
فالعلم لا يُؤخذ عن الكتب دون التلقي عن هؤلاء ، وقد حُرِمَ العلمَ من دخل فيه بلا عالم يُرشِدُهُ ، وقد قيل : ( مَنْ دَخَلَ في العِلمِ وَحْدَهُ خَرَجَ وَحْدَهُ ) ، وهذا حقٌّ ؛ فمن خاض في بحار العلم بلا أستاذ عالم وفقيه خِرِّيت (1) ؛ خرجَ منه بلا علم ولا تحصيل ، بل اكتسب التَّعالم وقلة الأدبِ ، والتَّطاول على الأئمة .
فإيَّاك أن تكون من هؤلاء المتضلعين بالجهل ؛ فتُهلِك الحرث والنسل ، وتبيح الفروج المحرمة وتحرم الفروج المباحة .
وخذ بنفسك للعلم النَّافع والعمل الصالح ، فلا سعادة للعبد إلا بهما ، واعلم أنَّ العلم لا يُنال إلا بالحفظِ والفهم ، فابذل الوسع في ذلك ( فَخَيْرُ العِلمِ ما ضُبِطَ أَصْلُهُ ، وَاُسْتُذْكِرَ فَرْعُهُ ، وقاد إلى الله تعالى ودل على ما يرضاه ) (2) .
وقد ذكرت في هذه الإجابة جملة من المحفوظات في مختلف العلوم وجهدت ألا أذكر شيئاً يقف عقبة وحاجزاً عن نيل العلم وتحصيله وضبطه وحفظه والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين .
حفظ القرآن
فأقول ومن الله استمد العون والصواب : الأولى في حق طالب العلم تقديم تعلم القرآن وحفظه ، فإن ذلك أفضلُ ما أُتي العبدُ ، فالقرآنُ شفيعٌ يومَ القيامةِ ، ودليلٌ إلى الجنةِ ، وأهلُهُ هُم أهلُ الله - عز وجل - وخاصته .
وقد جاءتِ الأخبارُ الصحاح في فضل قارئِ القرآنِ ومُعَلِّمِهِ ، ففي صحيح البخاري من طريق : أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أنَّهُ قَالَ : « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ » (3) .
وفي صحيح الإمام مسلم من طريق : عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ : مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي . فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى . قَالَ : وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى . قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا . قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى . قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ . قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ » (4) .
وجاء عند أبي داود (5) والترمذي (6) بِسَنَدٍ حَسَنٍ من طريقِ : سُفْيَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ زِرٍّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّJقَالَ : « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا » .
وعلى طالب العلم : أنْ يحرصَ كلَّ الحرص على قراءة القرآن بالتَّدبّرِ والتَّفهّم لمعانيه ، فالعلمُ كله في القرآن . وحفظُ القليل من القرآن مع التدبر والتفكر والعمل به ؛ خيرٌ من حفظ الكثير بغير تدبر ولا تفهم ولا عمل . وقوله - صلى الله عليه وسلم - - فيما تقدم - : « إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ » هذا إذا عَمِلَ بِمُحكَمِهِ وآمَنَ بِمُتَشابِهِهِ (7) ، وأحل حلاله وحرم حرامه (8)
__________
(1) الخِرِّيتُ : هو الماهرُ الحاذق الذي يهتدي لِطرُقِ المَفاوز الخفيّة ومَضايقها . راجع : لسان العرب لابن منظور ، مادَّة (خرت) 2/235 ] .
(2) التمهيد (14/131) .
(3) البخاري [ 5037 والترمذي 2907 وأبو داود 1452 وابن ماجة 211 ] .
(4) مسلم [ 817 وابن ماجة 218 والدّارِمي 3365 ] .
(5) 1464) .
(6) 2914) [ وقال (حَسنٌ صحيح) ] .
(7) قال - عز وجل - : ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (7) ? ( Sآل عمران : 7 ) ] .
(8) قال - عز وجل - : ? قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (29) ? ( التوبة : 29 ) .
وقال - عز وجل - : ? وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) ? (Sالنحل : 116 ) ] .(/2)
، أما إذا ضَيَّعَ أَوامره وارْتَكَبَ نواهيه ؛ فليس له حظ مما دل عليه الحديث .
وقد روى ابن حبان (1) بسند حسن من طريق : الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « القرآنُ شافعٌ مُشَفَّعٌ ، وماحِلٌ مُصَدَّقٌ ، مَن جعلهُ إِمامَهُ قادَهُ إِلى الجنةِ ، ومَن جعلَهُ خلفَ ظهرِهِ ساقَهُ إِلى النَّارِ » .
فإن حفظ القرآن كله فقد نال أفضل الأعمال وأسنى المقامات ، فإن عسر عليه حِفظُ القرآن كله فليحفظ ما يقدر عليه بعد حفظ الواجب ، وليحرص كل الحرص على حفظ ما يمكن حفظه .
وليكن اعتناؤه بالسور التي جاءت فيها فضائل كسُورَتَي : البقرة وآل عمران ، وقد جاء فيهما خبر عظيم ، ففي صحيح الإمام مسلم (2) من طريق : مُعَاوِيَةُ بْنَ سَلاَّمٍ ، عَنْ زَيْدٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلامٍ يَقُولُ : حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ » قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ ) (3) .
بينَ حفظ القرآن وطلبِ العلمِ
وحفظ ما يجب من القرآن - والواجب الفاتحة ، واختلف فيما زاد - مُقَدَّمٌ على طلبِ العلم ، وطلبُ علم ما يجب على المسلم عيناً مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن .
وقد سئل أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ : أيهما طلب القرآن أو العلم أفضل ؟ .
فأجاب : ( أما العلمُ الذي يجبُ على الإنسانِ عيناً كعلم ما أمرَ الله بهِ وما نهى الله عنهُ فهو مقدمٌ على حفظِ ما لا يجبُ من القرآنِ ، فإنَّ طلبَ العلمِ الأول واجبٌ ، وطلبَ الثَّاني مستحبٌ ، والواجبُ مُقدمٌ على المستحبِّ .
وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً ، وهو إما باطلٌ أو قليلُ النَّفعِ ، وهو أيضاً مُقدَّمٌ في التَّعلمِ في حقِّ من يريدُ أن يتعلمَ علم الدينِ من الأصولِ والفروعِ ، فإنَّ المشروعَ في حقِّ مثل هذا في هذه الأوقات أنْ يبدأ بحفظِ القرآنِ ؛ فإنه أصلُ علومِ الدِّين ، بخلاف ما يفعله كثير من أهلِ البدعِ من الأعاجم وغيرُهم ؛ حيث يشتغلُ أحدهم بشيءٍ من : فُضول العلمِ من الكلام ، أو الجدال والخلاف ، أو الفروع النَّادرة (4) ، أو التَّقليد الذي لا يُحتاج إليه ، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا يُنتفع بها ، أو كثيرٌ من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة ، ويتركَ حفظ القرآن الذي هو أهمُّ من ذلك كله . فلا بد في مثل هذه المسألة من التَّفصيل . واعلم بأنَّ المطلوبَ من القرآنِ هو : فَهْمُ معانيه ، والعمل به . فإن لم تكن هذه هِمَّةُ حافظِهِ ؛ لم يكن من أهل العلم والدين ، والله سبحانه أعلم ) ه (5) .
فإذا فرغ من حفظ القرآن أو حفظ ما تيسَّر ؛ فليشتغل بالعلوم الشرعية (6) مبتدئاً بالأهم فالأهم ، فالعِلْمُ كَثيرٌ والعُمُرُ قَصيرٌ ، فليأخذ المسلم من العلم أنفعه ، وقد قال بعضهم :
ما أكثر العلمَ وما أوسعُهُ !
إنْ كُنتَ لا بُدَّ له طالباً ... مَنْ ذا الذي يَقْدِرُ أنْ يَجْمَعَهُ
__________
(1) 1/331 [ رقم 124 ] .
(2) مسلم [ 804 ] .
(3) سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما . (فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان) قال أهل اللغة : الغمامة والغياية , كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما . قال العلماء : المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين . (أو كأنما فرقان من طير صواف) . وفي الرواية الأخرى : (كأنهما حزقان من طير صاف) الفرقان بكسر الفاء وإسكان الراء , والحزقان بكسر الحاء المهملة وإسكان الزاي ومعناهما واحد , وهما قطيعان وجماعتان , يقال في الواحد : فرق وحزق وحزيقة أي جماعة . قالهَ النووي في شَرحِ مُسلم ] .
(4) وهي والله التي أوردت طلاّب العلم الموارد ؛ خاصّة تِلكم التي لا دليل عليها سِوى الاستحسانات والقِياسات ] .
(5) الفتاوى (23/54-55) .
(6) ولا مانع من الاشتغال بِحفظ القرآن وحفظ متن أو متنين في آن واحد ، فالنَّاس يتفاوتون في قُوَّةِ الحافظة والذاكرة . فمن الناس : من تَخْتَلِطُ عليه المعلومات إذا شرع في حفظ متنين جميعاً فضلاً عما زاد .
ومن النَّاس : من لا يؤثرُ عليه ذلك ؛ فليجتهد كل امرئ على قدر طاقته ولا يضيع وقته .(/3)
مُحاوِلاً فَالتَمِسْ أَنْفَعَهُ (1)
... وقال ابن معطي في مقدمة ألفيته :
وبَعدُ فالعلمُ جليلُ القدْرِ
فابدأ بما هو الأَهمُ فالأهم
فإنَّ مَنْ يُتقن بعضَ الفنِ ... وفي قليلهِ نفاذُ العُمْرِ
فالحازمُ البادي فيما يُستتم
يُضْطَرُ للباقي ولا يَستغْني
? ويُقدَّمُ ( أُصولُ المسائلِ ) التي يَحتاج إليها العبدُ في عباداته ، وتتكرر على غيرها ؛ مما لا يتكرر ولا يحتاج إلى أدائه .
العَقيدة
? فيشرع بحفظ كتاب (الأصول الثلاثة) لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (2) . فقد بَيَّنَ فيه : ما يجب تعلمه على كل مسلم ومسلمة ؛ من أصول العلم ومهمات المسائل . فلا يَسَعُ مسلماً جَهْلُ ما في هذا الكتاب .
? ثم يشرع بحفظ كتاب (التوحيد) لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب . ففيه : بيانٌ لجميعِ أنواعِ التَّوحيد ، وأكثر أبوابه في توحيد الإلهية ؛ لأنه الأصلُ الذي أُرسلت به الرُّسل وأُنزِلت من أجله الكتب .
ويطالع بعض شروحه ؛ ک(تيسير العزيز الحميد) للشيخ العلامة سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وكتاب (فتح المجيد) للشيخ العلامة عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (3) .
? ويحفظ (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ . ففيها : بيانٌ لمعتقدِ أهلِ السنة والجماعة في : باب الأسماء والصفات ، والإيمان باليوم الآخر ، وما يتعلق به من المسائل ، وبعد ذلك : الإيمان بالقدر وما يتعلق به . ثم بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ : حقيقة الإيمان ، وحكم أصحاب الكبائر ، ومعتقد أهل السنة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بين بعد ذلك : معتقد أهل السنة في كرامات الأولياء ، ثم ختم العقيدة : في بعض صفات أهل السنة والجماعة . فلا ينبغي لطالبِ عِلْمٍ إهمالُ حفظها عن ظَهْرِ قلبٍ .
ولهذه العقيدة شرحٌ مفيدٌ اسمه (التنبيهات السنية) (4) للشيخ عبد العزيز الرشيد ، فيَحسُنُ النَّظر فيه للاستفادة منه .
كتب المُتقدمين من السَّلف في العقيدة
? وعلى طالب العلمِ أنْ يَجعَلَ لنفسه حظاً من دارسة كتب أئمة الإسلام في العقيدة : ككتاب (الرد على الجهمية) للدارمي (5) ، و(السنة) لعبد الله ابن الإمام أحمد ، و(شرح أصول إعتقاد أهل السنة) للالكائي ، و(الإبانة) لابن بطة ، وكتاب (التوحيد وإِثبات صفات الرب - عز وجل -) لابن خزيمة (6) ، و(الشريعة) للآجري (7) ، و(رسالة السجزي إلى أهل زبيد) ، و(الحجة في بيان المحجة) للإمام أبي القاسم الأصبهاني (8) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله للإمامِ ابن عبدِ البرِّ 1/437 .
(2) ومِثل (شَرحِ العَلاَّمة ابن عثيمين ) و(الفوزان حَفِظَهُ اللهُ) . ومن الحواشي النَّفيسة والهامّة : حاشية العلامة ابن قاسم حَفِظَهُ اللهُ . واحفظ منظومة الأُصول للعلامة سعود الشّريم حَفِظَهُ اللهُ (إسراج الخيول) ] .
(3) وشَرح الشَّيخ العلاَّمة محمد بن صالح العُثيمين (القَولُ المُفيد) وإن حَصَلَ لك طَّبعة دار العاصمة في ثلاث مجلّدات فَخُذها ولا تتردَّد ، أو الطَّبعة الأُولَى من دار ابن الجوزي في ثلاث مجلدات أيضاً أما طبعتهم الثّانية والتي في مجلدين فقد حَذَفوا جميعَ تعليقات الشّيخين المُشيقح وأبا الخيل ] .
(4) وهناك شروح أخرى : ک(الكواشف الجلية) للشيخِ السلمان رَحِمَهُ اللهُ ، وشرح محمد خليل هراس رَحِمَهُ اللهُ [ بِتحقيقِ عَلوي السَّقَّافِ السَّلفي ] ، وشرح زيد بن فياض [ (الرّوضة الندية) وهو أكبر الشروح ، وشرح الشيخ محمد العثيمين وهو أَوضَحُ الشُّروحِ وأَسهلها ، وحاشيتي الشَّيخين ابن مانع وابن باز عليه (ط : أضواء السَّلف) ، وشرح الشيخ خالد المصلح ] وغيرها كثير .
(5) وله طبعة جيّدة بتحقيق الشيخ منصور السّماري ( ط : أضواء السَّلف ) ] .
(6) بتحقيق الشيخ عبد العزيز الشَّهوان ( ط : الرّشد) ] .
(7) وله طبعتان قيّمتان : 1? بتحقيق الوليد النَّاصر (3 مجلدات) 2? وبتحقيق الشيخ الدّميجي (6 مجلدات) (واحرص على طبعة دار الوطن الثَّانية ففيها زيادات) ] .
(8) واحرص على الطَّبعة الثَّانية من الكتاب بنحقيق المدخلي ورفيقه ] .(/4)
و(كتب شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم) (1) ففيهما فوائد عِذاب مع الوضوح وحسن السياق في كلامهما ، فرحمهما الله رحمة واسعة . وهذا في علم التوحيد والعقيدة (2) .
التفسير
وأما في علم التفسير : فيحفظ أولاً (مقدمة أصول التفسير) لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ (3) ، ويطالع في (دقائق التفسير) لشيخ الإسلام (4) .
? وعلى طالبِ العلم أنْ يُكثِرَ من القراءة والنَّظر في (تفسير ابن جرير) (5) ، و(تفسير ابن كثير) (6) ، و(تفسير البغوي) (7) ، و(معاني القرآن الكريم) للإمام أبي جعفر النحاس ، و(أضواء البيان) لعلاَّمة الشنقيطي (8) ، وغيرها من تفاسير أهل السنة (9) .
وهذه التفاسير لا تخلو من بيان : علم القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وأسباب النُّزول ، وما يحتاج إليه المفسر من اللغة والنحو والتصريف ، وهذه علوم لا يستغني عنها المفسر ، فلا ينبغي لطالب علم أن يهملها ويدع تعلمها .
الحديث ومصطلحه
? وأما في الحديث ؛ فيبدأ ب(الأربعين النووية) وتتمتها للحافظ ابن رجب الحنبلي (10) .
__________
(1) فلا يفوتك فَهارس (مجموع الفتاوى) للشيخ ابن قاسم و(التّقريب لعلوم ابن القيم) للشيخ بكر أبو زيد ] .
(2) تتميمٌ : واحرص على الكتاب العَظيم القدر والذي لا يَستطيع اللسان وصفه (أَعلامُ السّنَّة المَنْشُورَة لاعْتِقادِ الطَّائِفَةِ النَّاجِيَة المَنصورَة) للعلامة الفقيه حافظ الحكمي oوجعل الجَنَّة مثوانا ومَثواه وجميع المُسلمين . فهذا الكتاب قَلَّ العارفين به والدّارسين له ، وهو الكِتاب الذي لا أعلم له نظير في سُهولةِ ألفاظه واجمعهِ لُكُلِّ مَسائلِ العقيدة بلا استِثناء وترتيبه العجيب ، ووَفرة أدلته وصِحَّتها . فأقول : من أرد معرفة عقيدة السَّلف فعليه بهذا الكتاب ، وأجود تحقيقاته التي بِتحقيقِ الشيخ أحمد بن علي علوش (ط : الرشد) .
? ومن أراد التَّوسّع فعليه بِكتابه الآخر (معارج القُبولِ بِشَرحِ سُلَّمِ الوُصولِ إلى عِلمِ الأُصولِ في التَّوحيدِ) في ثَلاثة مُجلّدات بتحقيق الشيخ عُمر محمود أبو عُمر (ط : دار ابن القيم 1418) مع الفَهارس العلميّة . وهناك طبعة أُخرى مُتأخرة بتحقيق الشيخ صُبحي بن حسن حلاق (ط : ابن الجوزي) وقد اسَتفاد من الطبعة السّابقة بلا جِدالا وهي في التَّرتيب والتّنسيق أجود ؛ ولكنّها بلا فَهارسَ علمية ويا للأَسَفِ .
وللمعارجِ مُختَصَرٌ في غاية الجمال للشيخِ هِشام آل عقدة (ط : دار طيبة الخَضراء) .
? ولا نَنسَى : كتاب العقيدة الطَّحاوية وشَرحها العظيم لابنِ أبي العز الحَنَفي ، وأجود طبعاته على الإطلاقِ التي حَقَّقها وعلَّق عليها عبد الله التركي وشُعيب الأرنؤوط ( ط : الرسالة) .
ولهذا الشّرح تَهذيبٌ في غاية النَّفاسة والاتقان : (تقريب وترتيب شَرح القيدة الطَّحاوية) للشيخ خالد فوزي حَفِظَهُ اللهُ (ط : مكتبة الضّياء) وصدرت له طبعة أُخرى جديدة ] .
(3) أجود تحقيقاته التي بتحقيق فوّاز زَمَرلي (ط : دار ابن حزم) ، وله شرح نفيس لعلامة ابن عُثيمين (ط : دار الوطن) وللعلامة عبد الرحمن بن قاسم (مُقدّمة التَّفسير) وله حاشية نفيسة جداً عليه فلا تَنخدع عنها . وللشيخ الفاضل مُساعد الطّيار كتاب جليل بِعنوان (فُصول في أصول التَّفسير) (ط : ابن الجوزي) وقد طَبَّق تِلك الأُصول في تَفسيره لجزء عمَّ (ط : ابن الجوزي) وهذا التَّفسير لهذا الجزء من أنبل التَّفاسير العمليّة في تجلية القواعد التّفسيريّة فجزاه الله خيراً ] .
(4) ويُطالع كتاب (بدائع التَّفسير الجامع لتفسير ابن القيم) للشيخ يُسري السيّد (ط : ابن الجوزي) ].
(5) وله مختصرٌ مُفيد جداً (تقريب وتهذيب تفسير ابن جرير الطبري) للشيخ صَلاح الخالدي (ط : دار القلم) وخرَّج أحاديثه الشيخ إبراهيم العلي ] .
(6) أجود الطبعات هي التي بتحقيق الشيخ سامي السّلامة ( ط (2) : دار طيبة ) ( 5 مجلدات ) ومعها الفهارس . وله طبعة قيِّمة بتحقيق الشيخ عبد الرزاق المهدي حكم على الأحاديث وبعض الآثار بما تستحق .
وإن لم يُستطع قراءة الأَصل فعليه بمختصره (المِصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير) (ط : دار السّلام) ] .
(7) أجود طبعاته التي بتحقيق الشيخ عبد الرزاق المهدي ( 5 مجلدات ) ] .
(8) واحرص على كَشَّافه (كَشَّاف المسائل الفقهية والعقديّة في تَفسير أضواء البيان) لعبد الرحمن القشيري (ط : دار المسلم) . وللشيخ عبد الرحمن السديس (المسائل الأُصولية في أضواء البيان) ] .
(9) واحرِص على تَفسير الإِمام السِّعدي فهو في غاية النَّفاسة (ط : اللويحق حَفِظَهُ اللهُ) في مجلد ، أو طبعة ابن الجوزي في أربع مُجلّدات ؛ وتمتا بوجود فهرس للفوائد مرتبٌ حسب العلوم ] .
(10) وأجود طبعاته هي التي بِتحقيقِ الشيخ طارق عوض الله حَفِظَهُ اللهُ (ط : ابن الجوزي) الثَّانية لأَنَّها تمتاز بالفهارس للأَحاديثِ ] .(/5)
? ثم يحفظ (عمدة الأحكام) للإمام عبدالغني المقدسي ، مع مطالعة كتاب (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) لابن دقيق العيد (1) ، و(تيسير العلام) للشيخ البسام .
? ويحفظ (بلوغ المرام من أدلة الأَحكام) للحافظ ابن حجر (2) ، فإنه كتاب نافع ، وفائدته لطالب العلم كبيرة ، ويقرأ شرحه (سبل السلام) (3) ففيه فوائد فقهية مفيدة ، ومؤلفه الصنعاني على منهج أهل الحديث في اتباع الدليل ، وهذا هُو الواجبُ على جميع الخلق .
وأهل الحديث : هم أولياء بالله وحزبه ، وأنصار دينه ، وأهل طاعته ، وهم الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة ، وقد دعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنضارة فقال : « نَضَّرَ اللهُ امرأً سَمَعَ مِنَّا شَيئاً فَبَلَّغَهُ كما سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلّغٍ أَوعَى مِن سامِعٍ » رواه الترمذي من طريق : شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عبدالرحمن بن عبدالله ابن مسعود ، يحدث عن أبيه ، به (4) وسنده حسن .
قال الإمام الشافعي : ( إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث ؛ فكأنما رأيت رجلاً من أصحاب رسول اللهJجزاهم الله خيراً حفظوا لنا الأصل فلهم علينا الفضل ) .
كلُ العلومِ سوى القُرآنِ مشغلةُُُُ
العلمُ ما كان فيه قال حدَّثنا ... إلا الحديثَ وعلمَ الفقهِ في الدينِ
وما سوى ذاك وَسْوَاسُ الشياطينِ (5)
... وإذا مَنّ الله - عز وجل - على عبده بموهبة الحفظ والفهم ؛ فلا تقف همته على حفظ ودراسة ما تقدم ، فأقبح شيء في طالب العلم قدرته على بلوغ أسنى المقامات وأكمل الحالات ؛ فيتخلَّف عن ذلك .
قال المتنبي :
عجبتُ لمن له قدُُّ وحَدُُّ
ومَن يجدُ الطريقَ إلى المعالي
ولم أَرَ في عُيوبِ الناس شيئاً ... وينبو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
فلا يَذرُ المطيَّ بِلاَ سَنَامِ
كنقصِ القَادرينَ على التَمامِ (6)
? فأرى بعد حفظ الكتب المتقدمة البدءُ بحفظ (الصحيحين) و(السنن الأربعة) بأسانيدها ؛ إلا أن يعسر ذلك عليه فيجردها من الأسانيد (7) ، فإن شق عليه حفظها كلها فيحفظ بعضها ؛ مقدماً الأهم فالأهم ، فالبخاري أولى من مسلم ، ومسلم أولى من كتب السنن والمسانيد .
ولا يقتصر الطالب على (علم الرواية) دون (الدراية) (8) ، فالتَّفقّه في معاني الحديث نصف العلم ؛ كما قاله علي بن المديني فيما رواه عنه الخطيب (9) .
علم مصطلح الحديث
? وعليه بالحرص التَّام في معرفة الصحيح من الضعيف والتمييز بينهما ، وهذا يحتاج إلى طول زمن وملازمة أهل المعرفة والتحقيق من العلماء .
__________
(1) واحرص على الطَّبعة التي بِحاشيتها كتاب (العدة على إحكام الإحكام) للعلامة الصَّنعاني (بتحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض) . وأكبر شروحه هو شرح العلامة ابن الملقن (الإعلام بِفوائد عُمدة الأَحكام) (10 مجلدات) تحقيق عبد العزيز المشيقح حَفِظَهُ اللهُ ] .
(2) وأجود طبعاته هي التي بِتحقيق سمير الزهيري (ط : دار أطلس) في مجلّد واحد ، ولكن والحقّ يُقال لا يُسَلَّم لِكثير من أحكامه على الأَحاديث وكُلُّنا ذّوو خطأ فَضلاً عن ترجيحاته الفِقهيّة { سَتعرفُ أَغلبها عند قراءة شَرح شَيخنا العلوان على البلوغِ ومُقارنتها بهذا الكتاب } . وأجود التَّخريجات لِكتابِ البلوغ والتي هي في غاية النَّفاسة كتاب (التّبيان في تخريج وتبويب أحاديث بلوغ المرام وبيان ما ورد في البابِ) للشيخ الفاضل خالد الشَّلاحي حَفِظَهُ اللهُ (ط : الرسالة) ] .
(3) وأجود طَبعاته هي التي بِتحقيق صُبحي حَسن حلاَّق حَفِظَهُ اللهُ (ط : ابن الجوزي / الثَّانية) فقد أتعب فيها نفسه نفع الله به . وهناك طبعة للشيخ طارق عوض الله (ط : دار العاصمة) من حيثُ ضَبط النَّصّ وتنبّه لِذلك هي الأَجود ، والتي فيها فهارس علميّة تَقع في مجلّد كبير ] .
[ ومن شُروح البلوغِ القيّمة : شَرح الشيخ عبد الله البَسَّام حَفِظَهُ اللهُ ( توضيحُ الأَحكام ) ] .
(4) أخرجه الترمذي 2656 وأبو داود 3660 وابن ماجة 230،4105 والدّارِمي 229 ] .
(5) الديوان (88) .
(6) ديوان المتنبي بشرح البرقوقي (4/275) .
(7) أعظم الكتب المؤلَّفة في الجمع بين الصّحيحين هو كتاب العلامة أبي محمد عبد الحقّ الأشبيلي رَحِمَهُ اللهُ ، وهو مطبوع بحمد الله - عز وجل - (ط : مكتبة الرشد) وله طبعة أُخرى أجود بتقديم الشيخ بشار عواد ] .
(8) علم الدراية هو : فهم معنى الحديث واستنباط المعاني منه .
(9) الجامع (2/211) .(/6)
والأولى قبل ذلك أن يحفظ الطالب أحد [ كُتب المُصطَلحِ ] المختصرة كي تعينه على فهم قواعد المحدثين . وأحسن المتون في هذا الباب (نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر ، فمع اختصاره ففيه فوائد (1) ، ولا غنى لطالب العلم عن دراسة (الكفاية في علم الرواية) للخطيب البغدادي ، [ و(مقدمة ابن الصلاح) ] و(معرفة علوم الحديث) للحاكم ، و(اختصار علوم الحديث) للحافظ ابن كثير ، و(الموقظة) للذهبي ، و(النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر ؛ رحم الله الجميع (2) .
الفقه
وأما في علم الفقه (3): فيحفظ (الدرر البهية في المسائل الفقهية) (4) ، وهو متن فقهي للعلامة الشوكاني صاحب نيل الأوطار . ويطالع شرح هذا المتن لكل من الشّوكاني (5) ، وابنه ، وصديق خان في كتابه المفيد (الروضة الندية) (6) .
وإن قوي على حفظ (آداب المشي) لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، فلا بأس .
ولا بأس أيضاً بحفظ (زاد المستقنع) (7) أو (عمدة الفقه) (8) في الفقه الحنبلي (9) ، أو (متن أبي شجاع) في الفقه الشافعي (10) ، أو أحد المتون الفقهية في المذاهب الأخرى ؛ إذا خَلا الطالبُ من التَّعصّب المذهبي وتجَرَّدَ مِن رِقِّهِ ، إنما قصده حفظُ أصول المسائل ، والتَّفريع عليها ، وتصوّرها في الذهن ، وما وافق الدليل قبله وما خالفه رده .
__________
(1) وللشيخ على النّخبة وشرحه نَظرات واستدراكات ، إن سهّل الله - عز وجل - سأجمعها ] .
(2) مُقدمة ابن الصّلاح (ط : دار الفكر) بتحقيق نور الدين عتر . و(اختصار علوم الحديث) (ط : دار العاصمة) وعليها شَرح العلامة أحمد شاكرT بتحقيق علي الحلبي ] .
(3) وحقيقة الفقه : هو حفظُ النَّصِّ وفَهمُهُ ، وتقديمُهُ على الرأي ، والقدرةُ على إِلحاقِ النَّظير بِنظيره ، وفهمُ مقاصدِ الشَّريعةِ ، وتَنْزيلها على الوقائعِ . وأما التَّقليدُ والجمودُ على كتبِ الآراء فليسَ من الفقهِ بشيءٍ .
(4) له طبعة قيَّمة بتحقيق الشيخ عبد الله العبيد جزاه الله خيراً (ط : العاصمة) ففيه تَعليقاتٌ نَفيسة ] .
(5) أجود طبعاته التي بتحقيق الشيخ صُبحي حسن حلاَّق جزاه الله خيراً ( مجلدان ) ] .
(6) أجود طبعاته التي بتحقيق الشيخ صُبحي حسن حلاَّق جزاه الله خيراً ( مجلدان ) ] .
(7) وفي هذا الكتاب مسائل كثيرة تخالف الصحيح من المذهب الحنبلي ، والراجح من الدليل ، فراجع حين قراءته حاشية شيخنا الفقيه صالح البليهي في كتابه المشهور (السلسبيل في معرفة الدليل) فقد اعتنى بذكر الدليل والتعليل ، ونقل مذاهب الأئمة المشهورين ، وترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم رحمهم الله تعالى . [ وكتاب (السلسبيل) بِحاجة لتحقيق ودراسة تعتني به وتُبرز علومه لِينتَبه له الغافلين ، وقد خُرِّجت أحاديثه في طبعة الباز في خمس مجلدات ، ويحتوي هذا الكتاب من الأَحاديثِ على صِغَر حجمهِ على (2729) حديثاً فَتَفَكَّر ] .
[ ومن شروح الزَّاد القيّمة : ( الرّوض المربع ) للإِمام البهوتي والتي بِذيلها حاشيتها القيمة للعلامة ابن قاسم حَفِظَهُ اللهُ . ولا يَفتك الوقوف على شَرح العلامة العُثيمين ( الشَّرح الممتع ) والتي طُبع منه فقط ( 8 مجلدات ) (ط : المشيقح وأبا الخيل) ويا للأَسَفِ ولكنّ الشّرح كامل وموجود في الأَشرطة والمُذكَّرات . وخرجت طبعة أخرى لِكتاب الطهارة منه في مجلدين (ط : العبيكان) وتمتاز بالحكم على الأَحاديث وضَبط النَّص .
ومن الشّروح القيَّمة والنَّادرة : شَرح العلامة محمد بن محمد الشّنقيطي حَفِظَهُ اللهُ ، وهو في أشرطة ( فوق المِئتَينِ ) وبعضها في مذكّرات . وكان الشّيخ الشنقيطي حَفِظَهُ اللهُ يَنصح بِشروح أَصل الزّاد (ألا وهو : الْمُقنع) ک(الشّرح الكبير) و(الإِنصاف) ، وكان يُكثر النّصح بِكتاب (المبدع بِشرح المقنع) لابن مفلح . وأقول : ومن الشّروح النفيسه على المُقنع والنَّادرة : ( الممتع بِشرح المُقنع ) للعلامة زين الدين التَّنّوخي ، وهو من تلاميذِ الإمام ابنِ مالك (صاحب الأَلفية) مطبوع في ( 6 مجلدات) بتحقيق الشيخ عبد الملك بن دهيش ] .
(8) وأجود تحقيقاته التي بِتحقيق العلامة المُعلِّمي وعبد الله البَسَّام ] .
(9) وأجود شُروحة المتوسطة بين الطّول والقِصَر شَرح بهاء الدين عبد الرحمن المقدسي (العدّة في شَرح العمدة) وله طبعة قيّمة بتحقيق الشيخ عبد الله التركي [ ط : الرسالة ] ( مجلدان ) . وله شَرح مُوَسَّع للإمام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ ولكنَّه غير كامل ، بل الموجود منه : كتاب الطهارة ، وجزء صغير من الصَّلاة ، والحج ، والصَّوم ] .
(10) وعليه شروح وحواشي كثيرة وأجود شروحه (الإِقناع) للإمامِ الشّربيني (ط : دار الكتب العلمية) . ثم شرح ابن دقيق العيد (طبع أخيراً في مُجلّد) ] .(/7)
وأما إذا كانت هِمَّةُ الطَّالب حفظ المتون الفقهية المجرَّدةِ عن الدَّليل للتَّمذهبِ ومعرفةِ قيل وقال والعمل بذلك ؛ فلا نرى ذلك ، وننهى من يفعله ؛ لأنَّ الله - عز وجل - لم يتعبدنا بقيل وقال ولا أقوال الرجال ، إنما تعبدنا بالكتاب والسنة فهما مصدر التشريع ، فمن جاءنا بقول يوافقهما قُبِل قوله ولزم العمل به ، ومن جاءنا يخالف كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - رد عليه قوله وإن كان القائل معظماً في نفوسنا ، فلم يكتب الله العصمة لأحد من البشر غير أنبيائه ورسله (1) .
الفرائض
وأما في الفرائض : فتُحفظ (الرحبية) وهو نظمٌ مفيدٌ سهل الفهمِ كثير الفائدة ، وناظمه أبو عبدالله بن محمد بن علي الرحبي . ويطالع حاشية ابن قاسم على الرحبية ، وينظر في شرح سبط المارديني على الرحبية ، وحاشية البقري على شرح المارديني .
وإن شاء حفظ (المنظومة البرهانية) في عِلم الفرائض وهي منظومة مفيدة أيضاً ، ولها شرح مفيد اسمه (وسيلة الراغبين وبغية المستفيدين) للشيخ محمد ابن علي بن سلوم (2) .
أُصول الفقه
وأما في علمِ أصول الفقه ؛ وهو : علم مهم لا يستغني عنه المجتهد ولا يحتاج إليه المقلد .
فعليه أنْ يحفظ (متن الورقات) لعبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني ، المعروف بإمام الحرمين ، وهذا المتنُ مع صغر حجمه إلا أن مؤلفه قد أَلَمَّ بمعظم مهمات أبواب أصول الفقه ، فقد ذكر أقسام الكلام والأمر والنهي ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والأفعال والنسخ ، والإجماع والقياس وغير ذلك من الفصول المفيدة التي يحتاج إليها طالب العلم (3) .
ومالم يذكره المؤلف يمكن طلبه في حفظ بعض أبيات (مراقي السعود) وهو نظمٌ في أصول الفقه فيه فوائد جليلة (4) ، ولكن ناظمه أدخل فيه بعض المسائل الكلامية ، فيحسن حذفها ، وحفظ ما فيه فائدة من هذا النظم ، وقد انتقيت من هذا النَّظم أبياتاً فليراجع هذا المنتقى ففيه المهمات (5) .
ويحسن النَّظر في كِتابِ (الكوكب المنير) (6) ، ثم في شرحه المسمى (شرح الكوكب المنير) . ومطالعة (المذكرة) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (7) صاحب أضواء البيان (8)
__________
(1) ومن المتون المختصرة والمرتبطة بالدّليل : كتب العلامة السّعدي رَحِمَهُ اللهُ : (مَنهج السّالكين وتوضيح الفقه في الدين) ب(تحقيق الشيخ محمد الخضيري) ولهذا الكتاب شَرح للعلامة ابن جبرين حَفِظَهُ اللهُ بعنوان (إبهاج المؤمنين) (ط : دار الوطن) . أو(الإرشاد لنيلِ الفقه بأقرب الطرق وأيسرِ الأسبابِ) للشيخ السّعدي ، وهو على طريقة السؤال والجواب (ط : أضواء السلف) .
? ومن كتب الفقه القيّمة : (فقه السنّة) للشيخ سيد سابق رَحِمَهُ اللهُ (ط : الفتح) و(الملّخص الفِقهي) للشيخ صالح الفوزان (ط : العاصمة) ، و(اللباب في فِقه السنة والكتاب) للشيخ محمد بن صبحي حلاق (ط : مكتبة الصحابة) ] .
(2) طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي ، ونقل في ترجمته لابن سلوم عن الشيخ عمر بن الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ أنه قال : ( إن هذا الكتاب نافع في بابه وهو فن الفرائض وإلا فمصنفه ممن عُرِفَ بمصادمة هذه الدعوة الإسلامية وعدم قبولها ، بل انحاز إلى أعدائها ، ولكن هذا لا يقتضي رفض كل ما في كتبه وعدم قبول ما فيها مما يُنتفع به ، مع أنا لا ندري خاتمة هذا الرجل والله أعلم بحاله ، وقد أفضى إلى علام الغيوب الذي يجزي كل نفس بما كسبت .. ) .
(3) وللشيخ عبد الله الفوزان شَرحٌ مختصرٌ مُفيد عليها ، وللوَرقاتِ مَنظومة قيّمة للشّيخ العمريطي رَحِمَهُ اللهُ ، وللشيخ العلامة محمد العثيمين شَرح قيّم على هذه المنظومة ] .
(4) وللعلامة الشنقيطي (صاحب أضواء البيان) شَرح نفيس عليه بِعنوان (نَثر الورود على مراقي السّعود) وأكمله تلميذه محمد ولد سيدي الشنقيطي حَفِظَهُ اللهُ (ط : دار المنارة) ] .
(5) وقد طبع والحمد لله ] .
(6) وللشيخ ابن عثيمين ؛ شَرح عليه في عِشرين شَريط تقريباً ] .
(7) وعليك بطبعةِ الشيخ سامي العربي (ط : دار اليقين) فهي مضبوطة ومُخرّجة الأَحاديث مع الحكم عليها ، ومُفهرسة ومقابلة على كتب الأُصول ] .
(8) وعليك بكتاب (تيسير الوصول إلى قواعدِ الأُصول) قواعد الأُصول للإِمام عبد المؤمن البغدادي الحنبلي ، والشرح للشيخ الفاضل عبد الله الفوزان حَفِظَهُ اللهُ (ط : دار الفضيلة) .
? ومن الكتب الجامعة بين السهولة والجمعِ كتاب الشيخ محمد الأَشقر حَفِظَهُ اللهُ (الواضح في أُصول الفقه) (ط : دار النفائس 1417 ه ) .
? ومن الكتب السّهلة (رِسالة العلامة السعدي في أُصول الفقه) واحرص على الشَّرح القيم للشيخ عبد السّلام بن محمد والمسمى (المرتَقَى الذّلول إلى نفائس الأُصول) .
? ويوجد كتاب مُفيد في فِكرته بِعنوان (معالم في أُصول الفِقه عند أهل السنة والجماعة) للشيخ محمد الجيزاني ( ط : دار ابن الجوزي ) ولكنه غير مُستوعب للفكرة ذاتِها ، والأمر ليسَ بالأمر الهيّن ، بل يسبقها مرحلة معرفة علماء أهل السنة والجماعة ، ثم المعتني منهم بالأُصول ، ثم الترتيب الأُصولي مع بيان ردودهم على المنهج المشهور الخَلَفي … .
ولو جُمعت أَقوال ابن تيمية وابن القيم الأُصولية مُفردة لَكان في غاية التحقيق والفائدة ] .(/8)
.
[ القواعد الفقهية ](1)
النحو
وأما في النحو : وهو علم مهم معين على فهم القرآن والسنة فلا يسع طالب علم جهله . وقد كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن (2). وقال الشعبيT: ( النَّحوُ في العِلْمِ كالْمِلْحِ في الطَّعامِ [ لا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ] ) (3) .
فأحسن ما يبدأ بحفظه (متن الآجرومية) فإنه أسهل المتون النحوية المختصرة مع مطالعة (شرح الشيخ الكفراوي) (4) و(حاشية الشيخ عبد الرحمن بن القاسم) (5) .
فإذا أتقن متن الآجرومية فالأولى التَّدرج منه إلى حفظ : (قطر الندى وبل الصدى) للإمام أبي محمد بن هشام الأنصاري رحمه الله (6) ، أو (المقدمة الأزهرية) للشيخ خالد الأزهري .
فإذا حفظ هذين المتنين أو أحدهما ، فالأولى الشروع في حفظ (ألفية ابن مالك) رحمه الله ، فإنها مُغنِيةٌ عن كثير من المتون النثرية والنظمية .
وهناك شروحات كثيرة للألفية منها :
(شرح المكودي) ، و(شرح البهجة المرضية) للسيوطي ، ومؤلفا هذين الكتابين قد اعتنيا بشرح ألفاظ الألفية وبيان محتواها بشكل موجز .
وهناك شروحات أضافت معلومات جديدة على ما تحتويه الألفية :
ک(شرح ابن عقيل) وهو شرح متوسط ليس بالطويل ولا بالقصير (7) .
وهناك حاشية عليه مفيدة للخضري .
وهناك شروح موسعة على الألفية : ک(شرح الأشموني) ، وعليه (حاشية الصبان) .
ومن الشروح (شرح المرادي) .
[ كتب السيرة (8) ]
? ? ?
خاتمة
وهذا آخرُ جوابِ السَّائل في بيانِ المتون التي نَنْصَحُ طالب العلم بحفظها وإتقانها والاعتناء بها ، ولا يحسن في حق طالب العلم الاشتغال عن حفظ وضبط المتون بالمطوّلات ، وقد قيل : ( من لم يتقن الأصول حُرِمَ الوصول ) .
• ونوصي طالب العلم :
__________
(1) وعليك أخي الغالي بارك الله فيك بمنظومة العلامة السعدي ؛ وشَرحها للشيخ الأَسمري .
أو منظومة الشيخ العثيمين وهي أوسع وأسهل وله عليها شروح ، فإذا تأهّلت فعليك ب(الوجيز) للشيخ محمد البورنو ، ثم (مختصر القواعد الفقهية لابن رجب) للسعدي بتحقيق الشيخ المشيقح ، ثم الأصل لابن رجب بتحقيق الشيخ مشهور حسن سلمان . وطالع : (القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين) للشيخ عبد المجيد الجزائري . وتقديم العلامة بكر أبو زيد (ط : دار ابن عفان) . و(القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها من مجموع فتاوى شَيخ الإِسلام) للشيخ إسماعيل علوان (ط : دار ابن الجوزي) ] .
(2) انظر جامع بيان العلم وفضله 2/186 .
(3) أخرجه الخطيب في الجامعِ لأَخلاقِ الراوي 2/28 (رَقم : 1080) (ط : الطحان) ] .
(4) وله طبعة جيّدة وقيّمة لِمازن بن سالم باوزير ] .
(5) ولا يَفوتَنَّك شَرح العلاَّمة مُحي الدين عبد الحميد فهو نَفيسٌ جداً ] .
(6) وللشيخ عبد الله الفوزان شَرح عليه باسم (تَعجيل الندى بِشَرحِ قطر النَّدى) ( ط : الرشد ) ] .
(7) ولا تَنسَى أنَّ من العلماء مَن نَثَرَهُ وشَرحه كالإمام جمال الدين ابن هِشام في كتابه (أَوضَح المسالك إِلى ألفيّة ابن مالك) (ط : محي الدين) ، وعليه حاشية (ِضياء السَّالك) (ط : الرسالة) ، وعليه أيضاً : حاشية نَفيسة للشّيخِ خالد الأزهري ( 905 ه ) باسم (التَّصريح بِمَضمون التَّوضيح) . ولا تَنسَى شرح الشيخ عبد الله الفوزان حفظه الله باسم (دليل السَّالك إلى ألفيّة ابن مالك) (ط : دار المُسلم) ( 3 مجلدات ) ] .
(8) وزِيادة للفائدة أَذكر أهم الكتب على طريقة الشّيخ ، فأقول :
على طالب العلم أنْ يَبْدأ بِكتابِ (الفصولِ بِسيرة الرّسولِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) للعلامة الإمام ابن كثير، وله طَبعتان جيّدتان ؛ إحداها : بتحقيق الشيخ سيد الجليمي . والأُخرى : بتحقيق باسم الجوابرة وعلي الحلبي . ومن أهم وأجود كتب السيرة هو ما كتبه الإمام ابن كثير في مقدمة تاريخه (البداية والنهاية) وقد طُبعَ مُفرداً في أربع مجلدات بِعنوانش (السيرة النَّبويّة) .
ومن الكتب الجيّدة (السّيرة البوية) للشيخ محمد بن عبد الوهاب . ومن الكتب المعاصرة (السيرة الذّهبية الصّحيحة) للشيخ الطرهوني ( خرج مجلدان فقط ) و(صَحيح السيرة النبوية) للشيخ إبراهيم العلي ( قدَّم له الشيخ عمر الأشقر ) (ط2) ] .
? من كتب السيرة المعتمدة (السيرة النبوية) لابن هِشام (وعليك بتحقيق علي معوّض وعادل عبد الموجود) (ط : العبيكان) ] .(/9)
بالجدِّ والاجتهادِ في طلبِ العلمِ والصَّبرِ والمثابرةِ عليه ، وتعهّد المحفوظات بالمراجعةِ ، فمن تعهّدها أمسكها ، وفي إمساكها العلمُ الكثيرُ ، وفي إهمالِ وتركِ مراجعتها إهمالٌ لأصلٍ عظيمٍ من أسبابِ حفظِ العلمِ ، وقد قال الإمام ابن عبد البرTفي التمهيد (1) على قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ » (2) قال : « وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي من كان ، لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير ، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد ؛ فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة ، وخير العلوم ما ضُبِطَ أصله واستُذكِرَ فرعه ، وقاد إلى الله - عز وجل - ، ودل على ما يرضاه » .
ونوصي طالب العلم بالجد في تفهم المعاني ، والحرص على الحفظ ، وعدم الملل والسآمة من ذلك ، فإنَّ الحفظ رأس المال ، وقد قال بعضهم : ( حرفٌ في فؤادي ولا ألف في كتابي ) ، وقال آخر : ( ليس العلم ما حواه القمطر إنما العلم ما حواه الصدر ) (3) .
وقال آخر شعراً :
العلم ويحك ما في الصدر تجمعه ... حفظاً وفهماً وإتقاناً فداك أبي
... وقد أحسن بعضهم حيث يقول :
اصبر ولا تضجر من مطلب
أما ترى الحبل بتكراره ... فآفة الطالب أن يضجرا
في الصخرة الصماء قد أثرا
... وعلى طالب العلم ملازمة العلماء العاملين ، والاستفادة من علومهم ، والصبر على ما يبدر منهم إن بدر . وقد أحسن الإمام الشافعي حيث يقول :
اصبر على مر الجفا من معلم
ومن لم يذق مر التعلم ساعة
ومن فاته التعليم وقت شبابه
وذات الفتى والله بالعلم والتقى ... فإن رسوب العلم في نفراته
تجرع ذل الجهل طول حياته
فكبر عليه أربعاً لوفاته
إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
وعلى طالب العلم : أن يحرص كل الحرص على العمل بالعلم ، فعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر ، وقد وصف الله اليهود بالمغضوب عليهم ؛ لأنَّ معهم علماً لم يعملوا به ، فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ، وقد قال سفيان بن عيينةT: « من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى » (4) .
وليحذر طالب العلم الداء الدفين الذي وقع فيه كثير من أبناء هذا الزمن من طلب العلم للدنيا وحطامها ، فقد جاء الخبر عن سيد البشر : ( « مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » يَعْنِي رِيحَهَا ) رواه أبو داود (5) وابن ماجة (6) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وفي سنده (فليح بن سليمان) مختلف فيه ، ورجح الدار قطني إرساله (7) .
وله شاهد عند الترمذي (8) من حديث ابن عمر بلفظ : « مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ » وفيه نظر .
وفي صحيح البخاري (9) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ » .
__________
(1) الجامع في الحديث الحث على حفظ العلم (صَفْحَة60) [ التَّمهيد 14/133-134 ] .
(2) أخرجه مالك 473 ؛ وعنه : البُخاري 5031 ومُسلم 789 والنسائي 942 ] .
(3) جامع بيان العلم وفضله 1/91.
(4) ذَكره ابن كثير في تَفسيره (Sالتّوبة V : 33) ] .
(5) 3/321) رقم (3664) .
(6) رقم (252) .
(7) العلل رقم (11/9) .
(8) 5/32) رقم (2655) [ وابن ماجة 253،258 وقال الترمذيُّ : (حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) ] .
(9) أخرجه البخاري 2887 والترمذي 2375 وابن ماجة 4136 ] .(/10)
قال العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ : ( كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها ، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه ؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشهوات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً ، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق ولا سيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ، ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق ، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته ، وقال لي مخرج بالتوبة .
وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى : ? فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) ? ( سُورَةمريم ) .
وقال تعالى فيهم أيضاً : ? فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) ? ( سُورَةالأعراف ) (1) ) اِنْتَهَىَ .
وطريق النجاة والسلامة من ذلك إخلاص العمل لله في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، قال تعالى : ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلآَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) ? (سُورَة يوسف) .
وقال تعالى : ? وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ? (سُورَة الأنبياء ) .
والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لله - عز وجل - وأريدَ به وجهه كما في صحيح الإمام مسلم من طريق العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ » (2) .
وفي صحيح مسلم أيضاً من طريق : سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ : أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِJيَقُولُ : « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا . قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا . قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا . قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا . قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ . قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ » (3) .
[ هذا وصَلَّى الله على نَبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آلِهِ وصَحبهِ وسَلِّم تسليماً كثيراً ]
فصل
__________
(1) انظر الفوائد (صَفْحَة131) وله بقية فراجعه ، فقد كشف علماء الدنيا وذكر صفاتهم فكن منهم على حذر فمنهم تظهر الفتنة وإليهم تعود .
(2) مسلم رقم (2985) [ وابن ماجة 4202 ] .
(3) صحيح مُسلم رقم (1905) [ والترمذي 2382 والنسائي 3137 ] .(/11)
لما كان بعض الناس قد يجهل كتب أهل العلم ولا يميز بين الضار والنافع كتب إليّ بعض طلبة العلم وذلك قرب حضور معرض الكتاب ، يسأل عن الكتب النافعة التي يستفيد منها أهل العلم ويحثون عليها لكثرة فوائدها وغزارة علمها ، فأجبته عن سؤاله لمسيس الحاجة . وهذا نص السؤال والجواب ، وقد سبق أن طبعا ونشرا في الوقت المناسب .
فضيلة الشيخ : سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله ونفع به وبعلمه المسلمين وأجزل له المثوبة والعطاء أرجو من فضيلتكم توضيح بعض الكتب التي تحثون طلبة العلم على قراءتها والاعتناء بها ، وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :
فكتب أئمة الإسلام في التفسير والحديث والعقيدة والفقه واللغة كثيرةُ ُ جداً ، ولكن لنذكر منها في كل باب بعض الكتب المهمة .
ففي كتب التفسير :
تفسير ابن جرير ، تفسير البغوي ، تفسير ابن أبي حاتم ، تفسير القرآن لعبدالرازق ، تفسير ابن كثير ، تفسير السعدي ، أضواء البيان للشنقيطي ، شرح معاني القرآن للفراء .
وفي القراءات :
النشر في القراءات العشر ، الكشف عن وجوه القراءات السبع ، الشاطبية مع شروحها .
وفي الحديث :
صحيح البخاري ، وفتح الباري للحافظين ابن رجب وابن حجر ، صحيح مسلم ، وشرح النووي ، عون العبود شرح سنن أبي داود ، تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ، سنن النسائي ، سنن ابن ماجة ، موطأ مالك ، التمهيد شرح الموطأ لابن عبدالبر ، صحيح ابن خزيمة ، صحيح ابن حبان ، سنن الدارمي ، السنن الكبرى للبيهقي ، المعجم الكبير للطبراني ، شعب الإيمان للبيهقي ، مسند الإمام أحمد مع شرحه الفتح الرباني ، سنن سعيد بن منصور ، المنتقى لابن الجارود ، شرح السنة للبغوي ، مستدرك الحاكم ، نيل الأوطار للشوكاني ، سبل السلام للصنعاني ، مسند أبي يعلى الموصلي ( طبعة محققة ) ، المرقاة شرح المشكاة ، المصنف لعبدالرازق ، المصنف لابن أبي شيبة ، رياض الصالحين ، طرح التثريب للعراقي .
وفي كتب التخريج :
تحفة المحتاج لابن الملقن ، التلخيص الحبير لابن حجر ، نصب الراية للزيلعي ، نتائج الأفكار لابن حجر ، تحفة الطالب لابن كثير ، الموضوعات لابن الجوزي ، العلل المتناهية لابن الجوزي ، المقاصد الحسنة للسخاوي ، البدر المنير لابن الملقن ، إرواء الغليل للألباني ، الجامع الصغير للسيوطي ، مع شرحه فيضِالقدير للمناوي .
وفي كتب الرجال :
الضعفاء للعقيلي .
الكامل في الضعفاء ، لابن عدي .
التاريخ الكبير للبخاري .
التاريخ الأوسط للبخاري .
العلل (1-2) أحمد بن حنبل .
تاريخ أبي زرعة الدمشقي .
تهذيب الكمال ، للمزي (1-35) .
وتهذيب التهذيب ، لابن حجر .
سير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال ، للذهبي .
تاريخ يحيى بن معين .
الضعفاء ، للنسائي .
الضعفاء ، للدارقطني .
الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم .
كتاب المجروحين ، لابن حبان .
وفي كتب العلل :
العلل ، لابن أبي حاتم .
التمييز للإمام مسلم .
الإلزامات والتتبع ، للدار قطني .
العلل ، للدار قطني .
شرح علل الترمذي ، لابن رجب .
وفي كتب المصطلح :
اختصار علوم الحديث ، لابن كثير .
نخبة الفكر ، لابن حجر .
البيقونية مع شروحها .
ألفية العراقي مع شرحها فتح المغيث ، للسخاوي .
النكت على كتاب ابن الصلاح ، ابن حجر .
تدريب الراوي ، للسيوطي .
الكفاية ، للخطيب .
كتاب معرفة علوم الحديث ، للحاكم .
التقييد والإيضاح ، للعراقي .
المقنع في علوم الحديث ، لابن الملقن .
وفي كتب العقيدة :
كتاب السنة ، لعبدالله ابن الإمام أحمد .
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للألكائي.
الرد على الجهمية ، للدارمي .
الإبانة ، لابن بطة .
نقض الدارمي ، على المريسي .
جميع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية .
جميع كتب تلميذة العلامة ابن القيم .
الشريعة ، للآجري .
الرؤية ، للدار قطني .
كتاب السنة ، لابن أبي عاصم .
رسالة السجزي إلى أهل زبيد .
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري ، للشيخ عبدالله الغنيمان .
كتب أئمة الدعوة النجدية . ولا سيما الدرر السنية .
معارج القبول ، للحكمي .
وفي كتب الفقه :
الأوسط ، لابن المنذر .
الاستذكار ، لابن عبدالبر.
المغني ، لابن قدامة .
المجموع ، للنووي .
السيل الجرار ، للشوكاني .
الروضة الندية ، صديق خان .
المحلى ، لابن حزم .
فقه السنة ، للسيد سابق .
تمام المنة ، للألباني .
حاشية الروض المربع ، لابن قاسم .
السلسبيل في معرفة الدليل ، لشيخنا صالح البليهي رحمه الله .
تيسير الفقه لابن تيمية ، تأليف أحمد موافي .
وفي أصول الفقه :
الورقات شرح الجطيلي ، المحلي ، الفوزان .
البحر المحيط ، للزركشي .
شرح الكوكب المنير .
المذكرة ، للشنقيطي .
شرح مراقي السعود ، نشر البنود .
إرشاد الفحول ، للشوكاني .
الإحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم .
وفي كتب القواعد الفقهية :
كتاب القواعد ، لأبي بكر الحصني .
الفروق للقرافي المالكي .(/12)
القواعد في الفقه الإسلامي . للحافظ ابن رجب .
رسالة في القواعد الفقهية . للشيخ السعدي .
شرح القواعد الفقهية . للشيخ أحمد بن محمد الزرقاء .
وفي كتب الفرائض :
عمدة الفارض .
حاشية البقري على شرح سبط المارديني على الرحبية .
حاشية ابن قاسم على الرحبية .
عدة الباحث ، للرشيد .
الفوائد الجلية في المباحث الفرضية للشيخ عبدالعزيز بن باز .
تسهيل الفرائض ، لابن عثيمين .
وفي التاريخ :
السيرة النبوية ، للإمام ابن هشام .
المعرفة والتاريخ ، للإمام الفسوي .
تاريخ الإسلام ، للذهبي .
البداية والنهاية ، لابن كثير .
شذرات الذهب ، لابن العماد .
تاريخ الأمم ، لابن جرير .
وفيات الأعيان ، لابن خلكان .
الوافي بالوفيات ، للصفدي .
العقود الدرية في مناقب ابن تيمية ، لابن عبدالهادي .
الدرر الكامنة ، لابن حجر .
البدر الطالع ، للشوكاني .
علماء نجد خلال ثمانية قرون – للشيخ البسام
وفي النحو :
الكواكب الدرية شرح متن الآجرومية للأهدل .
شرح الكفراوي على الآجرومية .
حاشية ابن القاسم على الآجرومية .
شرح ابن عقيل على الألفية .
شرح الأشموني مع حاشية الصبان
شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام .
وفي اللغة :
لسان العرب
تهذيب اللغة للأزهري
المصباح المنير
القاموس المحيط
مختار الصحاح
معجم مقاييس اللغة لابن فارس
وفي الأدب :
المعارف لابن قتيبة
أدب الكاتب لابن قتيبة
معجم الأدباء للحموي
عيون ، الأخبار لابن قتيبة
الكامل للمبرد
البيان والتبيين للجاحظ
تم الفراغ من كتابة هذه الرسالة في مدينة بريدة على يد الفقير إلى الله :
سليمان بن ناصر بن عبدالله العلوان
في شهر جمادى الأولى من عام ألف وأربعمائة وخمسة عشر .(/13)
الإجهاض
دراسة مختصرة مقدمة لليوم العلمي حول الإجهاض وتنظيم النسل وطفل الأنابيب في الشريعة والطب
المنعقد في جامعة النجاح الوطنية في 15/11/1999
أعدها
الدكتور حسام الدين عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
• ... مقدمة
• ... إجهاض الجنين المشوه
• ... مصادر الدراسة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى له وصحبه وسلم .
وبعد …
ففي بداية كلمتي هذه أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لدار الفتوى والبحوث الإسلامية في نابلس وكذلك أشكر مركز رزان التخصصي لعلاج العقم وأطفال الأنابيب لتنظيم هذا اليوم العلمي حول الإجهاض وأطفال الأنابيب في الشريعة والطب ، كما وأشكرهم على دعوتي للمشاركة في هذه الدراسة العلمية الطبية الشرعية . ولا شك أن أمثال هذه الدراسات لها أهمية كبيرة في ربط حياة الناس في مختلف شؤون حياتهم بهذا الإسلام العظيم كما أن فيه بياناً لموقف الإسلام من العلم والطب الحديث وإتاحة الفرصة ليقول أهل العلم الشرعي كلمتهم في القضايا المستجدة بناء على الأصول الشرعية المعتمدة .
أيها الأخوة الكرام
موضوع الإجهاض موضوع واسع يحتاج إلى دراسات متعمقة وأوقات كثيرة ، وإن حديثنا اليوم هو عن الإجهاض القسري وبالذات عن إجهاض الجنين المشوه ولكن قبل ذلك لا بد من الحديث بشكل موجز عن بعض القضايا المهمة والتي تمهد للموضوع .
أولاً : الإجهاض في وقتنا الحاضر مشكلة منتشرة بشكل رهيب في العالم أجمع وحتى في مجتمعنا الفلسطيني ولكن بسبب عدم وجود إحصائيات ومعلومات دقيقة فإنها غير ظاهرة للعيان لأن كثيراً من حالات الإجهاض تتم بشكل سري .
والإحصائيات التي نشرت في العالم الغربي مخيفة فعلى سبيل المثال :
1. تقدر حالات الإجهاض بأكثر من خمسين مليون حالة في العالم ، وقد نتج عنها أكثر من مئتي ألف حالة لوفاة الأمهات .
2. في الولايات المتحدة الأمريكية تجري حالة إجهاض واحدة مقابل كل ثلاث ولادات طبيعية ، وبلغ عدد حالات الإجهاض في الولايات المتحدة مليون وستمئة ألف حالة سنة 1973 .
3. 89% من حالات الإجهاض كانت بسبب حمل غير شرعي .
4. في البرتغال وإسبانيا مليون حالة إجهاض كل سنة .
5. في مدينة مانيلا عاصمة الفلبين مئة ألف حالة إجهاض سنوياً .
6. وفي العالم العربي والإسلامي الإجهاض موجود ومنتشر ولكن لم أطلع على أية إحصائيات .
ثانياً : الإجهاض من العوامل المساعدة على انتشار الزنا بشكل كبير على الرغم من انتشار وسائل منع الحمل المختلفة تتم هذه الأعداد الكبيرة من عمليات الإجهاض .
ففي الولايات المتحدة ثلث طالبات المدارس الثانوية يحملن من زنا ويوجد عيادات لمنع الحمل في المدارس ويتم تدريس وسائل منع الحمل للفتيات ومع ذلك فالإجهاض في ارتفاع مستمر .
ثالثاً : من الأمور البدهية أن الإسلام اعتبر النفس البشرية معصومة وحافظ عليها بل حفظ النفس إحدى الضرورات الخمس ، قال الله تعالى :( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) .
والجنين داخل في ذلك ومن المعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على المرأة التي جاءت معترفة بالزنا لأنها حامل وأخر إقامة الحد إلى أن وضعت حملها وأرضعته ثم فطمته .
ومن المعلوم عند العلماء أن للجنين أهلية وجوب وإن كانت ناقصة تثبت له بعض الحقوق المعروفة عند الفقهاء .
وإن الشريعة الإسلامية أوجبت العقوبة المالية على من أسقط الجنين كما ورد في الحديث الصحيح أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو أمة ويقدر ذلك بِ 5% من الدية وأوجب جماعة من الفقهاء الكفارة على من تسبب في إسقاط الجنين
رابعاً : موقف الفقهاء من الإجهاض :
اتفق الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين أي بعد انقضاء أربعة أشهر على الحمل ( 120 ) يوماً كما هو مذهب أكثر العلماء في أن الروح تنفخ في البدن بعد هذه المدة وعلى هذا يدل حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثلَ ذلك ثم يكون في ذلك مضغةً مثلَ ذلك ثم يُرسَلُ الملَك فينفُخ فيه الروح ويُؤمَرُ بأربع كلمات بكتبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له .
ومعظم الفقهاء يمنعون الإجهاض في هذه الحالة مطلقاً ، واستثنى بعضهم حالة واحدة من هذا المنع وهي إذا تأكد وثبت أن استمرار الحمل يشكل خطراً أكيداً على حياة الأم فأجازوا إجهاض الحمل مهما كان عمر الجنين .(/1)
والحقيقة أن هذا الاستثناء وجيه ، لأنه عند الموازنة بين حياة الأم وحياة الجنين تقدم حياة الأم لأنها أصله وهو فرع لها والفرع لا يكون سبباً في إعدام الأصل .
فالإجهاض في هذه المرحلة يُعد جريمةً محرمةً ولا يُستباح هذا الحرام إلا في حالة الضرورة فقط .
أما الإجهاض قبل الأربعة أشهر فهو محل خلاف بين أهل العلم والمسألة محل اجتهاد لأنه لا يوجد نصوص شرعية صريحة في المسألة لذا تعددت أقوال العلماء فيها :
فمنهم من رأى أنه يجوز الإجهاض خلال هذه المدة بشرط موافقة الزوجين .
ومنهم من يرى جوازه مع الكراهة .
ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى وكرهه بعدها .
ومنهم من أجازه قبل الأربعين يوماً الأولى وحرّمه بعدها .
ومنهم من حرّمه مطلقاً أي بمجرد وقوع المني في الرحم وثبوت العلوق .
وهذا هو القول المعتمد عند المالكية وهو قول الإمام الغزالي ومن تابعه من الشافعية وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الحنابلة وجماعة آخرين من أهل العلم من الظاهرية والشيعة وغيرهم .
وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من العلماء المعاصرين كالشيخ محمود شلتوت والشيخ القرضاوي والشيخ وهبه الزحيلي واختاره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة وعليه عدد كبير من العلماء المعاصرين .
وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة .
إذن لا يجوز الإجهاض قبل 120 يوماً ، إلا لعذر شرعي مقبول ومن تلك الأعذار تشوه الجنين تشوهاً خطيراً أكيداً سأذكره فيما بعد .
وعلى كل حال فإن الإجهاض قبل الأربعة أشهر الأولى أخف منه بعدها لأن المسألة هنا محل اختلاف بين العلماء بخلاف الأخرى فهي متفق عليها .
وكما قال أبو حامد الغزالي :[ وليس هذا - أي العزل - كالإجهاض والوأد ، لأن ذلك جناية على موجود حاصل ، وله مراتب : وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة ، وإفساد ذلك جناية ، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش ، وإن نفخ الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً ، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال ) إحياء علوم الدين 2/53 .
كما أنه من الصعوبة بمكان أن نسوي بين الجنين في الحالتين أي قبل الأربعة أشهر وبعدها .
إجهاض الجنين المشوه :
إن معرفة تشوهات الجنين من القضايا المستجدة في الطب ، وعلم الطب تقدم تقدماً ملحوظاً في معرفة أسباب التشوهات لدى الجنين كالفحص بالموجات فوق الصوتية وبالمنظار وإجراء فحوصات الدم للمرأة الحامل وللجنين أيضاً وغير ذلك من الوسائل .
فما هو الحكم الشرعي في إسقاط الجنين المشوه ؟
أولاً : لا بد أن نقول وعلى قاعدة درهم وقاية خير من قنطار علاج إن الإسلام يحث على الوقاية من الأسباب التي تؤدي إلى تشوه الجنين وينبغي الأخذ بهذه الأسباب كامتناع الحامل عن التعرض للأشعة والامتناع عن استخدام الأدوية والعقاقير التي قد ينتج عنها تشوه الجنين .
كما أن الإسلام قد حثَّ على حفظ الصحة والبعد عن الزنا وشرب الخمر وتناول المخدرات والتدخين وغير ذلك من الأمور التي قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بصحة الأم والجنين .
كما أن حسن اختيار الزوجة له دور في ذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام :( تخيروا لنطفكم ) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
وكذلك تغريب النكاح على رأي جماعة من العلماء والأطباء له دور في ذلك .
وكذلك فإن إجراء فحص للخاطبين قبل الزواج قد يفيد في ذلك .
إن اتباع هدي الإسلام هو الطريق الأمثل في الوقاية من التشوهات وغيرها من الأمراض .
فخطوة الوقاية خطوة هامةً جداً لمنع التشوهات .
ولكن إذا قدّر الله سبحانه وتعالى تشوه الجنين لسبب أو لآخر فما هو الموقف الشرعي من ذلك ؟
أولاً : يقول الأطباء هنالك نسبةٌ معينةٌ من التشوهات يمكن للجنين أن يعيش معها بعد الولادة وبعض هذه التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة مثل تشوهات المعدة والأمعاء .
وهنالك تشوهاتٌ خطيرةٌ لا يُرجى معها للجنين حياة بعد الولادة فهو سيموت قطعاً عند الولادة أو بعيدها مباشرة .
هذا كلام الأطباء ولا بد من ملاحظة أنه لا زالت إلى يومنا هذا وعلى الرغم من تقدم العلم والطب مشكلةٌ في دقة تشخيص التشوهات بشكل موثوق تماماً .
وبناءً على هذا التقسيم للتشوهات يمكن أن نقول إنه إذا كانت نسبة احتمال حصول تشوه الجنين عالية وكان الجنين لا يمكن أن يعيش فإنه يجوز إسقاطه ما دام الحمل ضمن الأربعة أشهر الأولى أي قبل 120 يوماً بمعنى آخر قبل نفخ الروح .
أما إذا أظهرت الفحوصات التشخيصية أن هنالك تشوهات في الجنين من الأنواع التي لا تؤثر على حياة الجنين أو كانت التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة أو يمكن للجنين أن يعيش مع وجود تلك التشوهات فلا يجوز إسقاط الجنين ضمن المئة والعشرين يوماً أي أربعة أشهر.(/2)
وهذا القول عليه كثير من علماء العصر وأخذ به مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة فقد جاء في قرار المجمع المذكور ما نصه :[ قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات وبناءً على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية أن الجنين مشوه تشويهاً خطيراً غير قابل للعلاج وأنه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلاماً عليه وعلى أهله فعندئذٍ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين .
والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر ] قرارات مجمع الفقه الإسلامي ص 123 .
وينبغي التنبيه على أنه يجب أن تقرر حقيقة التشوهات - قبل القيام بإسقاط الجنين - لجنة طبية مختصة لا يقل عدد أعضاءها عن ثلاثة ولا يكفي قول طبيب واحد مهما بلغ من العلم .
وخاصة أنه قد ثبت في حالات عديدة خطأ الطبيب في التشخيص - تذكر بعض الحالات -.
والله الهادي إلى سواء السبيل
مصادر الدراسة
1. " أبحاث فقهية في قضايا معاصرة " د.محمد نعيم ياسين .
2. " أحكام الجنين في الفقه الإسلامي " أ .عمر محمد غانم [ رسالة ماجستير ] .
3. " الجنين المشوه والأمراض الوراثية " د. محمد علي البار .
4. " الطبيب ، أدبه وفقهه " ، د.زهير السباعي ود. محمد علي البار .
5. " قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية " جمعية العلوم الطبية الإسلامية ونقابة الأطباء الأردنية .
6. " الموسوعة الفقهية الكويتية " .
7. " موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل " أ. الزين يعقوب الزبير [ رسالة ماجستير ] .(/3)
الإحسان إلى الجار / ماهر السيد
الجار قبل الدار.. مقولة شائعة بين الناس، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار، والجار الصالح من السعادة.
فضل الإحسان إلى الجار في الإسلام :
لقد عظَّم الإسلام حق الجار، وظل جبريل عليه السلام يوصي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظنَّ النبي أن الشرع سيأتي بتوريث الجار: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سَيُورِّثه". وقد أوصى القرآن بالإحسان إلى الجار: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء:36].
وانظر كيف حض النبي صلى الله عليه وسلم على الإحسان إلى الجار وإكرامه: "...ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره". وعند مسلم: "فليحسن إلى جاره".
بل وصل الأمر إلى درجة جعل فيها الشرع محبة الخير للجيران من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه".
والذي يحسن إلى جاره هو خير الناس عند الله: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره".
من هو الجار؟
الجار هو مَن جاورك، سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا، وأما حد الجوار فقد تعددت أقوال أهل العلم في بيان ذلك الحد، ولعل الأقرب – والعلم عند الله – أن ما تعارف عليه الناس أنه يدخل في حدود الجوار فهو الجار. والجيران يتفاوتون من حيث مراتبهم،فهناك الجار المسلم ذو الرحم ، وهناك الجار المسلم ، والجار الكافر ذو الرحم ،والجار الكافر الذي ليس برحم ،وهؤلاء جميعا يشتركون في كثير من الحقوق ويختص بعضهم بمزيد منها بحسب حاله ورتبته.
من صور الجوار:
يظن بعض الناس أن الجار هو فقط من جاوره في السكن، ولا ريب أن هذه الصورة هي واحدة من أعظم صور الجوار، لكن لا شك أن هناك صورًا أخرى تدخل في مفهوم الجوار، فهناك الجار في العمل، والسوق، والمزرعة، ومقعد الدراسة،... وغير ذلك من صور الجوار.
من حقوق الجار:
لا شك أن الجار له حقوق كثيرة نشير إلى بعضها، فمن أهم هذه الحقوق:
1- رد السلام وإجابة الدعوة:
وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة.
2- كف الأذى عنه:
نعم فهذا الحق من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير وتنوعت أساليبه في ذلك، واقرأ معي هذه الأحاديث التي خرجت من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم:
· "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه".
· ولما قيل له: يا رسول الله! إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها. قال: "لا خير فيها، هي في النار".
"لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه".
· وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أذى جاره. فقال: "اطرح متاعك في الطريق". ففعل؛ وجعل الناس يمرون به ويسألونه. فإذا علموا بأذى جاره له لعنوا ذلك الجار. فجاء هذا الجار السيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو أن الناس يلعنونه. فقال صلى الله عليه وسلم: "فقد لعنك الله قبل الناس".
3- تحمل أذى الجار:
وإنها والله لواحدة من شيم الكرام ذوي المروءات والهمم العالية، إذ يستطيع كثير من الناس أن يكف أذاه عن الآخرين، لكن أن يتحمل أذاهم صابرًا محتسبًا فهذه درجة عالية: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[المؤمنون:96]. ويقول الله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[الشورى:43]. وقد ورد عن الحسن – رحمه الله – قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى.
4- تفقده وقضاء حوائجه:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم". وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا".
5- ستره وصيانة عرضه:(/1)
وإن هذه لمن أوكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية
يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي.. ... ..حتى يواري جارتي مأواها
وأما في الإسلام فيقول أحدهم:
ما ضر جاري إذ أجاوره ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
وأخيرًا فإننا نؤكد على أن سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة بين أبنائه لا تتم إلا بالقيام بهذه الحقوق وغيرها مما جاءت به الشريعة، وإن واقع كثير من الناس ليشهد بقصور شديد في هذا الجانب حتى إن الجار قد لا يعرف اسم جاره الملاصق له في السكن، وحتى إن بعضهم ليغصب حق جاره، وإن بعضهم ليخون جاره ويعبث بعرضه وحريمه، وهذا والله من أكبر الكبائر. سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ ". عدَّ من الذنوب العظام: "أن تزاني حليلة جارك".
نسأل الله أن يعيننا والمسلمين على القيام بحقوق الجوار.. وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
الإحسان حقيقته - فضله - طرقه
رئيسي :تزكية :السبت 5 رجب 1425هـ - 21 أغسطس 2004
الإحسان في اللغة:ضد الإساءة, وهو مصدر أحسن إذا أتى بما هو حسن.
وفي الاصطلاح: الإتيان بالمطلوب شرعًا على وجه حسن.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل عليه السلام المشهور حين سأله عن الإسلام و الإيمان، فأجابه عن كل منهما, وكان جوابه عند ما سأله عن الإحسان أن قال: [أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ]رواه البخاري ومسلم. فقد بيّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى الإحسان: وهو أن يفعل الإنسان ما تعبّده الله به كأنه واقف بين يدي الله, وذلك يستلزم تمام الخشية والإنابة إليه سبحانه, ويستلزم الإتيان بالعبادة على وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ضمّن صلى الله عليه وسلم جوابه عن الإحسان بيان السبب الحافز على الإحسان لمن لم يبلغ هذه الدرجة العالية, والمنزلة الرفيعة, ألا وهو: تذكير فاعل العبادة بأن الله مطلع عليه, لا يخفى عليه شيء من أفعاله, وسيجازيه على ذلك, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر, ولا شك أن العاقل إذا تذكر أن الله رقيب عليه أحسن عمله, رغبة فيما عند الله من الثواب للمحسنين, و خوفًا من العقاب الذي أعده للمسيئين :{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[37]}[سورة ق].
فضل الإحسان:
ولمزيد عناية الإسلام بالإحسان وعظيم منزلته؛ نوه سبحانه بفضله, و أخبر في كتابه العزيز أنه يحب المحسنين, وأنه معهم, وكفى بذلك فضلًا وشرفًا, فقال سبحانه:{...وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[195]}[سورة البقرة]. وقال:{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[148]}[سورة آل عمران]. وقال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]}[سورة النحل]. وقال: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت].
جزاء المحسنين:
ومن رحمة الله وفضله أن جعل الجزاء من جنس العمل, ومن ذلك أنه جعل ثواب الإحسان إحسانًا كما قال:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[60]}[سورة الرحمن]. فمن أحسن عمله؛ أحسن الله جزاءه, وقد أوضح الله سبحانه في كتابه العزيز جزاء المحسنين, وأنه أعظم جزاء و أكمله, فقال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ...[26]}[سورة يونس]. وهذه الآية فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه بأن الحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل.
ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك العمل الذي هو الإحسان من المناسبة؛ فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عيانًا في الآخرة, وعلى العكس من ذلك الكفار الذين طبعوا على قلوبهم فلم تكن محلًا لخشيته و مراقبته في الدنيا, فعاقبهم الله على ذلك بأن حجبهم عن رؤيته في الآخرة كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[15]}[سورة المطففين].
وكما أنّ جزاء الذين أحسنوا الحسنى؛ فإن عاقبة الذين أساءوا السوأى كما قال تعالى:{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ[10]}[سورة الروم].
وما ذكره الله في جزاء المحسنين قوله: {...وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ[58]}[سورة البقرة]. وقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا[30]أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا[31]}[سورة الكهف]. وقوله:{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ[30]جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ[31]}[سورة النحل].(/1)
وقوله:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[31]}[سورة النجم]. وقوله:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[100]}[سورة التوبة]. وقوله:{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[112]}[سورة البقرة]. وقوله:{...إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[56]}[سورة الأعراف]. إلى غير ذلك من الآيات .
طرق الإحسان:
والإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات، فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له، وموافقتها لشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم, وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة, فإن عليه أن يحسن إلى غيره, ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو, ذلك بسلوك طرق الإحسان التي نتعرض لبعضها فيما يلي على سبيل الاختصار:
1- الإحسان بالنفع البدني: وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد, فيمنع الظالم من الظلم, و يميط الأذى عن الطريق- مثلًا-, وهذه الطريق هي التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه: [كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ].
2- الإحسان بالمال: ومن وسّع الله عليه الرزق, وآتاه المال؛ فإنّ عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها, فيقضي الحاجة, ويواسي المنكوب, ويفك الأسير, ويقري الضيف, ويطعم الجائع؛ تحقيقًا لقوله سبحانه:{...وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ...[77]}[سورة القصص].
3- الإحسان بالجاه: وإذا لم يتمكّن المؤمن من قضاء حاجة أخيه وإيصال النفع إليه, فعليه أن يكون عوناً له في سبيل تحصيلها, وذلك بالسعي معه لدى من يستطيع ذلك؛ إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, وامتثالًا لأمره, فقد شفع صلى الله عليه وسلم لمغيث لدى زوجته بريرة رضي الله عنها, وأمر أصحابه بالشفاعة فقال: [اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا...]رواه البخاري ومسلم.
4- الإحسان بالعلم: وهذه الطريق مع التي تليها أعظم الطرق و أتمها نفعًا؛ لأن هذا الإحسان يؤدي إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة, وبه يعبد الله على بصيرة, فمن يسر الله له أسباب تحصيل العلم وظفر بشيء منه؛ كانت مسئوليته عظيمة, ولزمه القيام بما يجب للعلم من تعليم الجاهل، وإرشاد الحيران, وإفتاء السائل, وغير ذلك من المنافع التي تتعدى إلى الغير .
5- الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: ولم تكن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس إلا بسلوكها تلك الطريق, كما أنّ بني إسرائيل لم يلعن من لعن منهم على لسان أنبيائهم إلا لتخليهم عن ذلك الواجب من عدم اكتراثهم بارتكاب المنكرات, قال الله تعالى في حق هذه الأمة:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]}[سورة آل عمران].
وقال في حق بني إسرائيل:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...}, ثم بيّن سبب اللعن بقوله: {... ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79]}[سورة المائدة].
ولا يحصل المطلوب، ويتم النفع إلا إذا كان الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر مؤتمرًا بما يأمر به, ومنتهيًا عما ينهى عنه, وإلا كان أمره ونهيه وبالاً عليه لقول الله تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف].(/2)
والإحسان إلى الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر لا بد أن يكون عن علم؛ لأن الجاهل قد يأمر بما هو منكر, وقد ينهى عما هو معروف, ولا بد أن يجمع إلى العلم الحكمة, ويصبر على ما أصابه, و من الأدلة على هذه الأمور الثلاثة قوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...[108]}[سورة يوسف]. وقوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...[125]}[سورة النحل]. وقوله: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[17]}[سورة لقمان].
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إنكار المنكر على ثلاث مراتب إن لم تحصل المرتبتان الأوليتان، فلا أقل من الثالثة التي هي أضعف الإيمان, كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم: [ يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ].
من:' الإحسان: حقيقته - فضله – طرقه' للشيخ/ عبد المحسن العباد(/3)
الإحسان سبب لصيانة الإنسان 29/8/1425
أ.د ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: مازالت الدروس من سورة يوسف مستمرة، ولعل من أبرز الدروس التي يقدمها يوسف _عليه السلام_ درس في الأخلاق والعفة.
إن ما حدث ليوسف _عليه السلام_ مع امرأة العزيز لم يكن باختياره. لم يأت هو إليها، لم يطرق الباب عليها، والذي يتابع القصة يدرك هذه الحقيقة.
ولما وقعت الفتنة ووقع البلاء حصن نفسه، وقال: إني أخاف الله. وهذا موقف، نحتاج إلى أن نربي أنفسنا عليه، لا بتكرار العبارة: إني أخاف الله، ولكن بترجمتها إلى واقعي عملي يصدق قائلها كما فعل يوسف _عليه السلام_، ولن يتحقق هذا إلا بتحقيق ما ورد في الحديث الصحيح: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك". يوسف _عليه السلام_ حفظ الله فحفظه الله "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" (يوسف: من الآية24). وفي قراءة المخلِصين بخفض اللام، فصرف عنه الله السوء والفحشاء؛ لأنه كان مخلصاً وصادقاً ومحسناً، وبذلك _حماه الله جل وعلا_.
والذي يتأمل سورة يوسف _عليه السلام_ يجد أنه كان محسناً، بل الإحسان صفة مطردة له، صفة لازمة، فأين الإحسان في هذه القضية؟
لقد أحسن إلى نفسه، وأحسن إلى امرأة العزيز، وأحسن إلى العزيز فجمع الإحسان من أطرافه.
أحسن إلى نفسه عندما لم يقع في هذا البلاء، وقد وجدنا أن بعضهم حتى بعد أن من الله عليه بالتوبة، يعاني من مرارة هذا البلاء الذي قارفه. أما يوسف _عليه السلام_ فصفحته بيضاء ونفسه راضية.
كما أنه أحسن إلى امرأة العزيز إذ لم يستجب لها، وهذا إحسان عظيم؛ لأنها في قوة الشهوة لم تفكر بمآلات الأمور.
وكذلك إحسان إلى العزيز إحسان ظاهر فقد حفظ له عرضه.
قول يوسف _عليه السلام_: "معاذ الله"، كلمة تدل على قضية إيمانية قامة بالنفس فدفعته لقولها، وهي معنى الإحسان في حديث جبريل. لما سأل عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. يوسف _عليه السلام_ بلغ قمة الإحسان في المعنى الإيماني، بالإضافة إلى المعاني الأخرى للإحسان، فلجأ إلى الله ولم ينسه في تلك اللحظة، بل كان معتصماً به فقال: معاذ الله، وهذا هو الإحسان. أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قوله: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" (يوسف: من الآية23). اختلف المفسرون في مراد يوسف _عليه السلام_؛ فهل الضمير يعود إلى الله _جل وعلا_، أم يعود إلى سيده؟ وهما قولان مشهوران.
ولكن الذي ترجح لدي أنه هنا يقصد سيده؛ لأن سيده قال لامرأته: "وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ" (يوسف: من الآية21)، وهنا أعاد الصيغة، إنه ربي أي سيدي، أحسن مثواي فلا يليق بي أن أخونه في أهله، لا يمكن أن يحسن إلي، فيعاملني معاملة السيد لا معاملة العبيد والخدم، فأسيء إليه بهذا الظلم العظيم "إنه لا يفلح الظالمون" وما دعت إليه ولاشك ظلم عظيم، فالوقوع في الفاحشة ظلم للنفس، وظلم للأهل، وانتهاك لحرمات الله _جل وعلا_، وحرم من أكرمه ففيه تجتمع أطراف الظلم، كما اجتمعت أطراف الإحسان في العفة.
وهذا التفسير لا يتنافى مع من قال: إن المراد في قوله: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" (يوسف: من الآية23) الله _جل وعلا_، فنعم هو ربه _سبحانه وتعالى_، وهو الذي أحسن مثواه، حيث سخر قلب العزيز لإكرامه، ولقول هذه الكلمة، فلا شك أنه فضل الله من قبل ومن بعد، ولكنه يتنافى مع من أخرج بذلك عزيز مصر من مراده يوسف _عليه السلام_.
ثم انظروا إلى أثر الإحسان. انظروا إلى حسن معاملة الخدم وغيرهم ومن يعمل تحت إمرتك، إذا أحسنت إليه سيحفظ ودك، هذا هو الأصل ودعونا ممن شذّ، فالشاذ لا حكم له.
يوسف _عليه السلام_ لم يضيع هذا الوفاء وهذا التوجيه. كثير من المشكلات التي تقع في البيوت حتى تصل أحياناً إلى قتل رب المنزل، أو أحد أولاده، أو أحد عائلته، كما نقرأ في الصحف، وما يصدر من المحاكم تجد أن سببه إساءة المعاملة لهذا المستضعف.
أما عزيز مصر، فأول قرار اتخذه قال فيه لامرأته: أكرمي مثواه، فأكرمته هذا الإكرام بناء على أمر سيدها، فحفظ الود وحفظ هذه المنزلة _عليه السلام_، وأيم الله مهما قدم العزيز من إحسان إلى يوسف، ومن إكرام لمثواه، فلا يعادل هذا الموقف الذي وقفه يوسف من حفظه لعرض العزيز وصيانته لأهله.
إنه موقف يدعونا إلى أن نحفظ حق من علمنا، أن نحفظ حق من ربانا، نحفظ حق الوالدين، نحفظ حق الأساتذة، نحفظ حق العلماء، نحفظ حق الموجهين.
وكم مر بك في حياتك إنسان أحسن إليك؟ فهل فعلاً حفظت له الود؟ كما حفظه يوسف _عليه السلام_ أم أنك نفعي تأخذ ولا تعطي؟(/1)
تأمل كم من الناس له فضل عليك ممن عاصرت فضلاً عمن سبقك، وأعظم فضل هو فضل الله _جل وعلا_ ثم تأمل في حياتك ما مقدار برك لوالديك؟ ما مقدار صلتك لأساتذتك ومن أحسن إليك في أمر دين أو دنيا؟
إن يوسف _عليه السلام_، يرسم لنا منهجا في التعامل وفي الوفاء وفي الخلق وفي الكرم.
فأقول: إن علينا أن نحسن التعامل مع من معنا، ومع تلاميذنا، وأبنائنا وخدمنا وأجرائنا، وعلينا أيضاً أن نحسن التعامل والوفاء مع من أحسن إلينا في القديم والحديث، في الحاضر والغائب.
نسأل الله أن يحسن إلى من أحسن إلينا، وأن يقينا شرور النفس وسيئات العمل،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين(/2)
الإحياء السّلفي في خطر
جمال سلطان 11/11/1425
23/12/2004
( 1 )
تتجمع في الأفق معالم موجة عاتية من الهجوم على التيار السلفي، بمرجعياته ومناهجه ورجاله وفكره ورموزه وأتباعه ومؤسساته وكل ما يتصل به. الهجمة الجديدة ليست ككل هجمة سابقة؛ وذلك لأنها الأوسع على الإطلاق، وأن مساحة التآمر فيها تشمل مساحات هائلة من مجتمعات العرب والمسلمين وحتى العالم الغربي، وأيضاً بالنظر إلى ضلوع دول كبرى في هذه الهجمة، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وما يدور في فلكهما من دول ومراكز ومؤسسات، وأيضاً بالنظر إلى أن هذه الهجمة مخططة بشكل جيد ومتكامل وتسير بخطا حثيثة أكثر إصراراً على تحقيق " نتائج "، وكل ذلك يجعلني أؤكد على أنها الهجمة الأخطر على الوجود السلفي في عالم اليوم، وما لم تتضافر الجهود، وتنشط الأفكار، وتستشرف المستقبل وتتحسب للخطوات، فإن كارثة حقيقية سوف تحيق ـ لا قدر الله ـ بالإحياء السلفي في عالم اليوم وربما لعقود طويلة قادمة.
( 2 )
الوهابية كانت كلمة السر في هذه الهجمة ، عندما تصاعدت روح الجهاد في " الشيشان " وأوجعت الدب الروسي، أحيا الرئيس (بوتن) شعار " الخطر الوهابي" ، لكي يصرف النظر عن الجرائم التي تقترفها قواته في الشيشان وحرب الإبادة والإرهاب التي مورست ضد الشعب الفقير البائس، فلما نشطت حركة المقاومة هناك حاول أن يستعدي عليها العالم الغربي فأطلق تحذيراته من مخاطر " الوهابية "، بالنظر إلى أن قياداتها ورجالها من المتمسكين بالسنة هدياًَ ومنهجاً، لم يكن الغرب مهتماً بالمسألة حينذاك، بل كانت الولايات المتحدة تتعامل مع القضية الشيشانية كقضية حرب تحرير ومقاومة، وكانت هذه إحدى نقاط الخلاف الكبيرة للروس معهم، حتى وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت نقطة التحول في الموقف الأمريكي، حيث بدأت الدوائر الخبيثة في الإعلام ومراكز البحث الأمريكي في توجيه النظر إلى أن (بن لادن) والأشخاص المتهمين بالأحداث هم في غالبتهم من السعودية، وبالتالي فهم من أتباع المذهب " الوهابي "، وحتى الآخرون مثل الظواهري فهو " سلفي" من أتباع نفس المذهب، وبالتالي بدأت هذه الدوائر توجه الأجهزة المختصة هناك إلى " مخاطر الوهابية " وأن هذا التيار هو العدو الأول لأمريكا والغرب، وبالتالي شرعوا في وضع مخططات قصيرة الأمد وطويلة الأمد لرصد منابع التيار السلفي ومدارسه ورموزه واتجاهاته، ومن ثم مواجهته وحصاره، ثم محاولة اقتلاعه تماماً ـ إن قدروا ـ من الساحة الإسلامية عقائد وأفكار وفقهاً ومنهجاً، لم يكن في الأمر أسرار، وإنما تصريحات ودلالات وشواهد على النحو الذي سنشير إليه.
( 3 )
خلال العامين الماضيين حدثني أكثر من شخص التقيته من بلدان عربية مختلفة، أن الاستدعاءات الأمنية كانت تتوجه ـ للمرة الأولى ـ نحو الشخصيات السلفية وأتباعها، حتى هؤلاء الأكثر بعداً عن السياسة، وفي تفاصيل التحقيقات والأسئلة كان البحث دقيقاً عن " نوعية " الاتجاه السلفي، والمنهج والعقائد والشيوخ، وأيضاً الموقف من " الوهابية " هذا كان جديداً تماماً على التوجهات الأمنية المحلية في العواصم العربية، وقد تم بالفعل اعتقال الآلاف من هؤلاء الأبرياء في عواصم عربية عديدة بدون إبداء أي أسباب أو اتهامات تذكر.
في الوقت ذاته بدأت تنشط موجة من الكتابات والندوات والأفكار ـ بدعم وتوسعة رسمية خفية ـ تهاجم السنة النبوية وتنتقص من قدرها وقيمتها، وكان مدهشاً أن هذه الأفكار تُرَوّج في القاهرة واسطنبول والمغرب وغيرها في وقت واحد، وبنفس المداخل تقريباً، ولقد كان الأمر في القاهرة أكثر وضوحاً؛ حيث كان أحد المراكز المقرّبة من الإدارة الأمريكية هو صاحب الرعاية لمثل هذه التوجهات، وتم عقد عدة ندوات تدور كلّها حول الانتقاص من السنة والادّعاء بأنها غير ثابتة مثل نص القرآن، وأنها السبب الذي يجعل المسلمين غير قادرين على الاندماج في ثقافة العصر، ونحو ذلك من أفكار، والمطالبة بالاكتفاء بالقرآن وحده، وبدأت صحف رسمية وقنوات فضائية تنشر حوارات وكتابات مع رموز من يسمون " بالقرآنيين " وهم الذين يدعون إلى الاكتفاء بالقرآن وحده كمرجعية دون السنة، ويهاجمون السنة وعلماءها ودعاتها هجوماً مريراً، وقد نال الإمام ابن تيمية ثم الإمام محمد بن عبد الوهاب القدر الأكبر من الهجوم، رغم أن المتصدرين لهذه الموجة المنتسبة زوراً وجهلاً بالقرآن، لا ينتسبون إلى علوم الشريعة أصلاً، ومعارفهم شديدة الضّحالة وهم من أجهل الناس حتى بعلوم القرآن.
( 4 )(/1)
وقد لُوحظ في العامين الأخيرين بروز شخصيات دينية في عواصم عربية ممن لها عداء صريح مع التيار السلفي، وكان لافتاً للنظر أن هذه الشخصيات أُوكل إليها ـ بقرارات مباشرة ـ قيادة مراكز ومؤسسات دينية رسمية كبيرة ومؤثرة ونافذة في بلادها، بما يعني أن الرسالة الجديدة للمؤسسة الدينية الرسمية هي إضعاف ما يعتبرونه " نفوذاً سلفياً " وأيضاً الترويج للأفكار والفتاوى والمناهج وحتى العقائد التي يرون أنها مغايرة لما عليه الإحياء السلفي.
أيضاً لوحظ نشاط دولي طارئ ومكثف لتشكيل مرجعيات علمية وفقهية إسلامية، تعالج ما يسمى " قضايا الشأن العام " جُمِع لها العشرات من العلماء والفقهاء من أنحاء عدة من العالم العربي ومن المهجر، وكل ذلك في ظل تهميش واضح للشخصيات العلمية السلفية التي تم استبعادها تقريباً بالكامل، مع أن مثل هذه المجامع احتفت وأصرت على مشاركة رموز علمية تنتمي إلى مذاهب متعددة من خارج أهل السنة أصلاً، بما يعني أن التقارب المستقبلي ممكن مع هذه المذاهب، ولكنه غير مطروح مع التيار السلفي ومدارسه، وفي هذه النقطة ينبغي أن نوضح أن التحفظات لا تتصل بالمشاركين في هذه المراجع فمنهم بعض ذوي الفضل والعلم، ولكنهم ـ في النهاية ـ ضيوف على عمل مؤسسي جديد رتب له آخرون، وأعدّوا له صيغته وقانونه وهيكله بصورة معينة وبما يخدم توجهات معينة، وهذا هو الذي نلفت الانتباه إليه ونتوقف عنده بالكثير من علامات الاستفهام.
في الوقت نفسه ـ أيضاً ـ لوحظت الحملة الدولية الواسعة النطاق ضد المؤسسات الخيرية الإسلامية، وكان الغريب أن التركيز هو على المؤسسات الخيرية التي تتسم بالمنهج السلفي في دعوتها ومنهجها ورموزها، بينما لم يقترب أحد من مؤسسات أخرى، أو كان المساس بها هيناً، بالمقارنة بمؤسسات خيرية إسلامية سلفية عُوملت بقسوة مفرطة وبإصرار كامل على إلغاء وجودها من أساسه وليس مجرد إصلاحها.
( 5 )
والذي يتابع مواقف الأطراف المتعددة في المنطقة العربية، وفي منطقة الخليج تحديداً، من الملف العراقي وتحولاته ومستقبله، ويتأمل في التحالفات الفكرية والسياسية التي تتم الآن، وتتبلور معالمها في مقالات صحفية وتحليلات وحوارات فضائية، يندهش غاية الاندهاش من التوافق العجيب في الرؤى والتصورات والأهداف بين حداثيين وعلمانيين خليجيين ينتسبون إلى السنة، وطائفيين متطرفين من المنتسبين للشيعة في العراق وخارجه، ومحلّلين وكتاب أمريكيين وصهاينة، تتفق رؤاهم جميعاً ـ في هذا التحالف الجديد ـ في وصف أطراف النزاع وفي تصور المستقبل المطروح للعراق، وتحديد أين الخطر في نظر هؤلاء جميعاً، وحصره ـ في البداية ـ في " المقاومة السنية " ثم تحديد التحدي بوضوح، وهو الوجود السني السلفي، وهي توافقات لا أظن أنها عفوية أبداً، كما أنها تنبئك بما سوف تكون عليه تحالفات المستقبل، العقدية والفكرية والسياسية، في المنطقة .(/2)
الإحياء السّني
د. محمد العبدة 17/9/1426
20/10/2005
تمهيد:
عندما قضى السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي على معظم قلاع ومراكز الحشاشين الباطنية، والتي تمركزت في إقليم فارس وحول بحر قزوين، عندما قضى عليهم علّق المؤرخ الجويني بقوله: "لقد استراح المسلمون، بل استراح العالم". فهذا المؤرخ يعتبر أن العالم كله -بمن فيهم الكفار- قد استراحوا من هذه الفئة التي اتخذت الاغتيالات وسيلتها وسبيلها. قال الشيخ رشيد رضا متحدثاً عن القرامطة : "عاثوا في الأرض فساداً وهدموا المساجد، ولم يكن في الحروب الصليبية على طولها في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة مثلما كان على عهد القرامطة"(1). ويؤيد كلمة الجويني -وأن ما يفعله هؤلاء شيء لا يفعله الكفار الأصليون- ما ذكره القاضي عياض عن الدولة العبيدية والتي تُسمّى بـ الفاطمية قال: "وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة في الاهتضام والتستر، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم نصبوا حسيناً الأعمى السباب – لعنه الله- في الأسواق لسبّ الصحابة توصلاً إلى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تكلم من علماء السنة قتل، كما فعل عبيد الله سنة (309) هـ بقتل الفقيه حسن بن مفرج؛ لأنه بلغه أنه يفضل بعض الصحابة على علي"(2).
إن من بدع هذا العصر أن يُروّج مصطلح ما ويستسلم الناس له، ويغدو مألوفاً وكأنه حقيقة لا تقبل المجادلة أو الردّ. والإعلام الموجه أو السطحي يرسخ هذا المفهوم. فقد روّجت الصهيونية مصطلح (السامية)، وأصبح كل من ينتقد تصرفات اليهود أو الصهيونية فهو معاد للسامية، وتحول هذا إلى تهمة وسيف مسلط على كل من يتكلم -ولو بحق- عن أي سلوك لأي شخصية يهودية في العالم(3)، وشبيه بهذا مصطلح (الطائفية)؛ إذ يُمارس الإرهاب الفكري، وبمجرد أن تذكر السنة وأهل السنة حتى تُتّهم بأنك طائفي، وهذا تمييع للأمور حتى تلتبس على الناس المناهج، وحتى يصبح من العيب أن تذكر (أهل السنة) مع أنهم هم جمهور الأمة الإسلامية، وهم أبعد الناس عن الطائفية بمعناها الضيق، وهم بناة الحضارة الإسلامية؛ لأن الفرق الأخرى بسبب غلوّها وعيشها ضمن دائرة مغلقة في الفكر لا تستطيع إنتاج حضارة، فهي تعيش تحت وقع اللامعقول والأحزان الدائمة والكره للآخرين، والحضارة تقوم على التسامح والحوار وليس على الحقد، ولذلك نقول: نعم يجب أن نتكلم عن الإحياء السني؛ لأنه يمثل العدل والرحمة والإنصاف، وهو خير لكل المسلمين وللبشرية، كما يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس: "نهضتنا بُنيت على الدين فكانت سلاماً على البشرية، لا يخشاها –والله- النصراني لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوس لمجوسيته، ولكن يجب أن يخشاها الظالم لظلمه، والدجّال لدجله والخائن لخيانته.."(4). وأهل السنة هم الذين دافعوا عن الإسلام طوال العصور، دافعوا الصليبيين والتتار، ودافعوا الاستعمار الغربي الحديث في المغرب العربي والشام ومصر وداغستان.. وإذا كان الحديث ضرورياً عن الإحياء السني من الناحية العقدية والفكرية والتجربة التاريخية، وبخاصة عندما تزداد المحن، وتتوالى الأزمات، ويرجع الناس إلى ما يوحّدهم ويبرز هويتهم فإننا سنتحدث عن تجربة هي مثال من تجارب كثيرة تعطينا الضوء على نجاح باهر تحقّق عندما عادت الأمة إلى وحدتها وهويتها، وكانت رجوعاً للحق وزهوقاً للباطل.
الإحياء السني وتجربة صلاح الدين:
عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام عام 491هـ كانت بلاد الشام ومصر في حالة مزرية من الضعف والانقسام، وكذلك كانت الخلافة العباسية في بغداد، ليس لها من الخلافة إلا الاسم والرمز.(/1)
وجدت الحملة الصليبية مدناً خالية من التحصينات لا يربط بينها نظام دفاعي، وإن وقع دفاع فهو من قبل المتطوعين، وليس من الجيوش الرسمية، وإذا استطاعت مدينة مثل أنطاكية أن تواجه الغزاة وحدها وتصمد مدة تسعة أشهر، ولكن لا أحد من المدن المجاورة هب لنجدتها. كان الحكام موزعي الأهواء والولاءات، شغل كل واحد منهم الحفاظ على مدينته أو إقطاعه، لقد فقدوا الإحساس بالمسؤولية الدينية والخلقية وبعضهم تآمر مع الأعداء ففي عام 492هـ وقع أول هجوم صليبي على مدينة عسقلان بعد احتلال القدس، وقد استغرب الوزير الفاطمي (الأفضل) هذا الهجوم، فقد كانت له اتصالات بالصليبيين في المراحل الأولى في حملتهم، بلغت حد تحريضهم والتحالف معهم على تقاسيم الشام، الجنوب للفاطميين والشمال للغزاة(5) وفي عام 523هـ قام أحد دعاة الباطنية من فرقة الحشاشين بمراسلة الفرنجة ليسلم إليهم دمشق ويسلموا له مدينة صور واتفقوا على ذلك، فبلغ الخبر متولي دمشق (بوري بن طغتكن) فاستدعى رئيس هذه الطائفة وقتله، ونادى في البلد بقتل الباطنية. وكفى الله المسلمين شرهم(6). وفي عام 569هـ اجتمع جماعة من دعاة الفاطميين وبعض العوام، وتآمروا فيما بينهم خفية، وأجمعوا على أن يقيموا خليفة ووزيراً، وقرروا أن يكاتبوا الفرنج، وأدخلوا معهم في هذا الأمر بعض النصارى واليهود، وراسلوا ملك صقلية النورماندي، واتفقوا مع رشيد الدين سنان شيخ الجبل الإسماعيلي في (مصياف)(7) لاستغلال خناجر مريديه لاغتيال صلاح الدين، وقالوا له: الدعوة واحدة والكلمة جامعة..."(8) وقد تعرض فعلاً صلاح الدين إلى عدة محاولات لاغتياله من قبل هؤلاء الحشاشين، ولكن الله نجاه منهم. ولم يسلم منهم في العصر الحديث أيضاً؛ إذ تعرض لحملة تشويه من قبل حسن عبد المحسن الأمين، حيث وصف صلاح الدين بكلمات سوقية بأنه (مخادع) (استسلامي) وأنه (مجرم) يستحق القتل!! ووصف المؤرخين السنة بأوصاف لا تصدر إلا عن سفه وحقد دفين فقال عن أبي شامة: إنه (بذيء) وابن كثير (سفيه) ومحمد كرد علي (صاحب الأباطيل)(9).
ونعود إلى الدولة العبيدية التي انتهت على يد صلاح الدين، فقد وُصفت قصور هذه الدولة بأنها مملوءة بالمنكرات والبدع، وبها عسكر من الأرمن، باقون على النصرانية، وكانت لهم شوكة هذا الوضع الفاسد الذي وصفناه في الأسطر السابقة، تغير عندما بدأت مرحلة الجهاد واسترجاع المدن الإسلامية من أيدي الفرنجة، بدأ هذا عماد الدين زنكي، ثم ابنه نور الدين محمود، وتوحدت بلاد الشام تحت قيادة نور الدين، وكان من خيار الملوك حزماً وعزماً وعدلاً، وجاءت فرصة لإعادة مصر إلى السنة وإنهاء الدولة الباطنية فيها، وذلك عندما استنجد وزيرهم (شاور) بنور الدين، وكانت الدولة العبيدية تستنصر بالصليبيين تارة وبالدولة في الشام تارة أخرى، فكانت فرصة للقضاء على هذا التذبذب، ولتوحيد الجبهة الإسلامية أمام خطر الفرنجة، والذي قام بهذه الخطوة هو صلاح الدين، وبطلب وإلحاح من نور الدين في دمشق، وكان صلاح الدين قد أعد لهذا الأمر عدته، ومهّد له، يساعده في ذلك ويؤازره بفكره وقلمه ومعرفته بمصر وقصور الفاطميين الكاتب والإداري والوزير عبد الرحيم البيساني العسقلاني الملقب بـ (القاضي الفاضل).
أعاد صلاح الدين مصر إلى السنة، وبدأ بفتح المدارس ونشر العلم وأعاد فريضة الزكاة التي كانت الدولة الفاطمية قد ألغتها، وكان هذا إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة، وجعل الزكاة هي البديل عن المكوس والرسوم غير الشرعية. وزُفّت البشائر إلى الخلافة العباسية في بغداد، ويكتب القاضي الفاضل الرسائل يظهر فيها حقيقة هؤلاء الباطنية، كما تظهر هذه الرسائل وعي هذا الوزير ووعي العلماء لخطورة هذه الدولة، وما تفرغ عنها من فرق يقول في رسالة: "أكتب إليكم وعلم الجهاد مرفوع، وسبب الفساد مقطوع، وقد توالت الفتوح غرباً ويمناً وشاماً، وأضحى الدين واحداً بعدما كان أدياناً، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صماً وعمياناً، والبدعة خاشعة والجمعة جامعة..." ويكتب أيضاً شارحاً أوضاع الدولة العبيدية ومبلغ تحريفهم للدين" ذلك بأنهم سموا أعداء الله أصفياء، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة من دون الله، هذا إلى استباحة ظاهرة للمحارم، وتحريف للشريعة بالتأويل، وكفر سُمّي بغير اسمه، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وقد فرقوا أمر الأمة، وليس السيف عمّن سواهم من كفار الفرنج بصائم ولا الليل عن سير إليهم بنائم.." (10) .
جهود ساهمت في الإحياء السني:(/2)
لم ينتصر صلاح الدين على الصليبيين ويحرر القدس والمسجد الأقصى إلا بعد أن قام بهذا الإحياء، وقضى على الباطنية، وأعاد توحيد الشام ومصر وإقليم الجزيرة، وكان للعلماء دور كبير وللإداريين أيضاً مثل: القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصفهاني بل إن مأثرة القاضي الفاضل تكمن في تصوره الإستراتيجي الذي يقوم على أساس توحيد العالم الإسلامي، ومن خلال راية واحدة والحد من سلطة المذاهب الرديئة وإعادة الهيمنة السنية.
1- العلماء: كان أول المتصدّين للاجتياح الفرنجي الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي (431-500) الذي اتخذ من جامع دمشق مركزاً لبثّ آرائه، وكان رحمه الله يدرك أبعاد الحملة الصليبية، وأنها حرب شاملة على الإسلام، وأنها تجمع من القوى الغربية، وتقاطر العلماء من الحنابلة والمالكية إلى القدس ودمشق والإسكندرية رغبة في إزالة الظل الفاطمي، وعاشت في الإسكندرية جالية مغربية هاجرت من الأندلس ومن صقلية، وبنوا المدارس وبثوا تعاليم السنة وروح الجهاد، ومنهم الفقيه المالكي أبو بكر الطرطوشي الذي اعتذر عن إقامته بالإسكندرية رغم عدم إقامة الجمعات بقوله: "إن سألني الله عن المقام في الإسكندرية أقول له: وجدت قوماً ضلالاً فكنت سبب هدايتهم"(11) ومن علماء الشافعية في الإسكندرية المحدث الكبير أبو طاهر السلفي، وقد بنى له الوزير السني ابن السلا مدرسة سنة 544هـ، ومن العلماء الذين كان الأثر الواضح الواعظ زين الدين علي بن نجا الحنبلي والفقيه عيسى الهكاري الشافعي والقاضي ابن شداد الذي كتب سيرة صلاح الدين.
2- المساجد: ظل جامع عمرو بن العاص في الفسطاط(12) مركزاً علمياً سنياً ذا شأن منذ بنائه، وكان بعض العلماء الوافدين على مصر من الأندلس أو من المشرق يدرسون في هذا الجامع، وظل الناس يجتمعون حول (رموز) مثل: أبي عمرو بن مرزوق والواعظ ابن نجا، ولعل الأخير قدم من دمشق بإشارة من نور الدين للمساهمة في الإحياء السني ولتهيئة الرأي الشعبي، وعندما قدم أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين) إلى مصر بتكليف من نور الدين استغل فرصة وجوده، وذهب إلى الفسطاط، وزار بعض علماء السنة.
3- المدارس: أسس صلاح الدين عدداً من المدارس في القاهرة وعلى المذاهب الأربعة، وكانت هذه المدارس استمراراً لما بدأه الوزير نظام الملك في الدولة السلجوقية، وما قام به نور الدين في الشام، وهذه المدارس بداية حركة بنائية سنية، ساهم فيها كثير من الأيوبيين خلال حكم صلاح الدين، وقد بنى القاضي الفاضل مدرسة كبيرة في القاهرة، ووقف عليها مكتبته.
4- الاهتمام بجمهور الأمة: لقد دل الوعي الشعبي الذي رافق حصار الإسكندرية من قبل التحالف الصليبي الفاطمي بقيادة وزير الفاطميين (شاور السعدي) دل على عمق الصلة بين علماء السنة وأهالي الإسكندرية، هذه الصلة التي رعاها أمثال الطرطوشي وأبو طاهر السلفي، وكان صلاح الدين مع أهالي الإسكندرية في هذا الحصار، يشد من أزرهم ويرفع من معنوياتهم، وأثناء الحصار طلب شاور من أهالي الإسكندرية تسليم صلاح الدين ويضع عنهم المكوس (الضرائب)، ويعطيهم الأخماس، فأجابوه "معاذ الله أن نسلم المسلمين إلى الفرنج والإسماعيلية"(13).
إن اهتمام صلاح الدين بعامة المسلمين كان بإلحاح من وزيره القاضي الفاضل الذي يقول له في إحدى رسائله: "فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى، وانفِ عن مواردهم الكدر والقذى" فهذا الوزير كان يخطط لوحدة الأمة أمام الغزو الفرنجي الذي ذاق مرارته في وطنه فلسطين وفي بلده عسقلان.
وبعد:
فإن هذه الجهود، وهذه العودة لم تكن لتثمر وتأتي بهذه النتائج العظيمة وهذه الانتصارات الباهرة لو لم يكن وراءها إخلاص عميق لله، وإخلاص للمبدأ، وإنكار للذات، وبعد عن شهوات النفوس.
يصف القاضي ابن شداد صلاح الدين، وقد كان لصيقاً به في السنوات العشر الأخيرة من حياته، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً يقول: "لقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد، قد استولى حبه على قلبه، ولقد هجر في محبته أهله وأولاده ووطنه وسكنه، وقنع من الدنيا بالسكون في خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة، وقد تكالبت عليه الأمراض، حتى لم يكن يستطيع الركوب ولا الجلوس على الطعام، ومع ذلك فإنه يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر وهو صابر على شدة الألم ويقول: "إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل" ويقول عنه ابن الأثير: "كان رحمه الله كريماً حليماً متواضعاً صبوراً على ما يكره" وقد توفي، ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً، ومن الذهب إلا جرم واحد صوري، وقد وصفه وزيره القاضي الفاضل بأنه "قليل اللذات، كثير الحسنات، متقللاً في مطعمه ولباسه، وله معروف في السر والعلانية، يهتم بأصحاب الفضائل، ويؤثر أرباب البيوت وذوي النباهة، محباً للغرباء، مكرماً للأصدقاء..".(/3)
إن من حسن الحظ أن دروس الحياة لا تنقطع، وأن ما كان بالأمس قد يحدث اليوم أو غداً، وحوادث التاريخ تتكرر، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها مع اختلاف الذين يتعاملون معها من خلق بعد خلق "لقد استنشق صلاح الدين ومن حوله رياح التاريخ حين هبت، فشرعوا لها القلوع والقلوب، وأدركوا أن النصر لا يمكن أن يكون إلا هنا، طريق الإسلام، وهو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى"(14).
________________________________________
(1) تفسير المنار (1/432).
(2) المدارك (3/318).
(3) تشجع بعض الكتاب الأوروبيين – وهم قلة نادرة- في السنوات الأخيرة وانتقدوا تصرفات اليهود في فلسطين المحتلة.
(4) محمد الميلي: ابن باديس وعروبة الجزائر 65.
(5) انظر: شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه 15 ط دار القلم. دمشق.
(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/250 .
(7) بلدة في سورية: غربي حمص.
(8) شاكر مصطفى: صلاح الدين 132 .
(9) شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه.
(10) هادية دجاني: القاضي الفاضل 152 .
(11) المصدر السابق 70 .
(12) كان الملوك الفاطميون يعيشون في القاهرة وقصورها محاطة بأسوار ولا يختلطون بالشعب المصري.
(13) هادية دجاني / القاضي الفاضل 94 .
(14) المصدر السابق 158 .(/4)
الإحياء السّني
د. محمد العبدة 17/9/1426
20/10/2005
تمهيد:
عندما قضى السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي على معظم قلاع ومراكز الحشاشين الباطنية، والتي تمركزت في إقليم فارس وحول بحر قزوين، عندما قضى عليهم علّق المؤرخ الجويني بقوله: "لقد استراح المسلمون، بل استراح العالم". فهذا المؤرخ يعتبر أن العالم كله -بمن فيهم الكفار- قد استراحوا من هذه الفئة التي اتخذت الاغتيالات وسيلتها وسبيلها. قال الشيخ رشيد رضا متحدثاً عن القرامطة : "عاثوا في الأرض فساداً وهدموا المساجد، ولم يكن في الحروب الصليبية على طولها في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة مثلما كان على عهد القرامطة"(1). ويؤيد كلمة الجويني -وأن ما يفعله هؤلاء شيء لا يفعله الكفار الأصليون- ما ذكره القاضي عياض عن الدولة العبيدية والتي تُسمّى بـ الفاطمية قال: "وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة في الاهتضام والتستر، ولما أظهر بنو عبيد أمرهم نصبوا حسيناً الأعمى السباب – لعنه الله- في الأسواق لسبّ الصحابة توصلاً إلى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تكلم من علماء السنة قتل، كما فعل عبيد الله سنة (309) هـ بقتل الفقيه حسن بن مفرج؛ لأنه بلغه أنه يفضل بعض الصحابة على علي"(2).
إن من بدع هذا العصر أن يُروّج مصطلح ما ويستسلم الناس له، ويغدو مألوفاً وكأنه حقيقة لا تقبل المجادلة أو الردّ. والإعلام الموجه أو السطحي يرسخ هذا المفهوم. فقد روّجت الصهيونية مصطلح (السامية)، وأصبح كل من ينتقد تصرفات اليهود أو الصهيونية فهو معاد للسامية، وتحول هذا إلى تهمة وسيف مسلط على كل من يتكلم -ولو بحق- عن أي سلوك لأي شخصية يهودية في العالم(3)، وشبيه بهذا مصطلح (الطائفية)؛ إذ يُمارس الإرهاب الفكري، وبمجرد أن تذكر السنة وأهل السنة حتى تُتّهم بأنك طائفي، وهذا تمييع للأمور حتى تلتبس على الناس المناهج، وحتى يصبح من العيب أن تذكر (أهل السنة) مع أنهم هم جمهور الأمة الإسلامية، وهم أبعد الناس عن الطائفية بمعناها الضيق، وهم بناة الحضارة الإسلامية؛ لأن الفرق الأخرى بسبب غلوّها وعيشها ضمن دائرة مغلقة في الفكر لا تستطيع إنتاج حضارة، فهي تعيش تحت وقع اللامعقول والأحزان الدائمة والكره للآخرين، والحضارة تقوم على التسامح والحوار وليس على الحقد، ولذلك نقول: نعم يجب أن نتكلم عن الإحياء السني؛ لأنه يمثل العدل والرحمة والإنصاف، وهو خير لكل المسلمين وللبشرية، كما يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس: "نهضتنا بُنيت على الدين فكانت سلاماً على البشرية، لا يخشاها –والله- النصراني لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوس لمجوسيته، ولكن يجب أن يخشاها الظالم لظلمه، والدجّال لدجله والخائن لخيانته.."(4). وأهل السنة هم الذين دافعوا عن الإسلام طوال العصور، دافعوا الصليبيين والتتار، ودافعوا الاستعمار الغربي الحديث في المغرب العربي والشام ومصر وداغستان.. وإذا كان الحديث ضرورياً عن الإحياء السني من الناحية العقدية والفكرية والتجربة التاريخية، وبخاصة عندما تزداد المحن، وتتوالى الأزمات، ويرجع الناس إلى ما يوحّدهم ويبرز هويتهم فإننا سنتحدث عن تجربة هي مثال من تجارب كثيرة تعطينا الضوء على نجاح باهر تحقّق عندما عادت الأمة إلى وحدتها وهويتها، وكانت رجوعاً للحق وزهوقاً للباطل.
الإحياء السني وتجربة صلاح الدين:
عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام عام 491هـ كانت بلاد الشام ومصر في حالة مزرية من الضعف والانقسام، وكذلك كانت الخلافة العباسية في بغداد، ليس لها من الخلافة إلا الاسم والرمز.(/1)
وجدت الحملة الصليبية مدناً خالية من التحصينات لا يربط بينها نظام دفاعي، وإن وقع دفاع فهو من قبل المتطوعين، وليس من الجيوش الرسمية، وإذا استطاعت مدينة مثل أنطاكية أن تواجه الغزاة وحدها وتصمد مدة تسعة أشهر، ولكن لا أحد من المدن المجاورة هب لنجدتها. كان الحكام موزعي الأهواء والولاءات، شغل كل واحد منهم الحفاظ على مدينته أو إقطاعه، لقد فقدوا الإحساس بالمسؤولية الدينية والخلقية وبعضهم تآمر مع الأعداء ففي عام 492هـ وقع أول هجوم صليبي على مدينة عسقلان بعد احتلال القدس، وقد استغرب الوزير الفاطمي (الأفضل) هذا الهجوم، فقد كانت له اتصالات بالصليبيين في المراحل الأولى في حملتهم، بلغت حد تحريضهم والتحالف معهم على تقاسيم الشام، الجنوب للفاطميين والشمال للغزاة(5) وفي عام 523هـ قام أحد دعاة الباطنية من فرقة الحشاشين بمراسلة الفرنجة ليسلم إليهم دمشق ويسلموا له مدينة صور واتفقوا على ذلك، فبلغ الخبر متولي دمشق (بوري بن طغتكن) فاستدعى رئيس هذه الطائفة وقتله، ونادى في البلد بقتل الباطنية. وكفى الله المسلمين شرهم(6). وفي عام 569هـ اجتمع جماعة من دعاة الفاطميين وبعض العوام، وتآمروا فيما بينهم خفية، وأجمعوا على أن يقيموا خليفة ووزيراً، وقرروا أن يكاتبوا الفرنج، وأدخلوا معهم في هذا الأمر بعض النصارى واليهود، وراسلوا ملك صقلية النورماندي، واتفقوا مع رشيد الدين سنان شيخ الجبل الإسماعيلي في (مصياف)(7) لاستغلال خناجر مريديه لاغتيال صلاح الدين، وقالوا له: الدعوة واحدة والكلمة جامعة..."(8) وقد تعرض فعلاً صلاح الدين إلى عدة محاولات لاغتياله من قبل هؤلاء الحشاشين، ولكن الله نجاه منهم. ولم يسلم منهم في العصر الحديث أيضاً؛ إذ تعرض لحملة تشويه من قبل حسن عبد المحسن الأمين، حيث وصف صلاح الدين بكلمات سوقية بأنه (مخادع) (استسلامي) وأنه (مجرم) يستحق القتل!! ووصف المؤرخين السنة بأوصاف لا تصدر إلا عن سفه وحقد دفين فقال عن أبي شامة: إنه (بذيء) وابن كثير (سفيه) ومحمد كرد علي (صاحب الأباطيل)(9).
ونعود إلى الدولة العبيدية التي انتهت على يد صلاح الدين، فقد وُصفت قصور هذه الدولة بأنها مملوءة بالمنكرات والبدع، وبها عسكر من الأرمن، باقون على النصرانية، وكانت لهم شوكة هذا الوضع الفاسد الذي وصفناه في الأسطر السابقة، تغير عندما بدأت مرحلة الجهاد واسترجاع المدن الإسلامية من أيدي الفرنجة، بدأ هذا عماد الدين زنكي، ثم ابنه نور الدين محمود، وتوحدت بلاد الشام تحت قيادة نور الدين، وكان من خيار الملوك حزماً وعزماً وعدلاً، وجاءت فرصة لإعادة مصر إلى السنة وإنهاء الدولة الباطنية فيها، وذلك عندما استنجد وزيرهم (شاور) بنور الدين، وكانت الدولة العبيدية تستنصر بالصليبيين تارة وبالدولة في الشام تارة أخرى، فكانت فرصة للقضاء على هذا التذبذب، ولتوحيد الجبهة الإسلامية أمام خطر الفرنجة، والذي قام بهذه الخطوة هو صلاح الدين، وبطلب وإلحاح من نور الدين في دمشق، وكان صلاح الدين قد أعد لهذا الأمر عدته، ومهّد له، يساعده في ذلك ويؤازره بفكره وقلمه ومعرفته بمصر وقصور الفاطميين الكاتب والإداري والوزير عبد الرحيم البيساني العسقلاني الملقب بـ (القاضي الفاضل).
أعاد صلاح الدين مصر إلى السنة، وبدأ بفتح المدارس ونشر العلم وأعاد فريضة الزكاة التي كانت الدولة الفاطمية قد ألغتها، وكان هذا إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة، وجعل الزكاة هي البديل عن المكوس والرسوم غير الشرعية. وزُفّت البشائر إلى الخلافة العباسية في بغداد، ويكتب القاضي الفاضل الرسائل يظهر فيها حقيقة هؤلاء الباطنية، كما تظهر هذه الرسائل وعي هذا الوزير ووعي العلماء لخطورة هذه الدولة، وما تفرغ عنها من فرق يقول في رسالة: "أكتب إليكم وعلم الجهاد مرفوع، وسبب الفساد مقطوع، وقد توالت الفتوح غرباً ويمناً وشاماً، وأضحى الدين واحداً بعدما كان أدياناً، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها إلا صماً وعمياناً، والبدعة خاشعة والجمعة جامعة..." ويكتب أيضاً شارحاً أوضاع الدولة العبيدية ومبلغ تحريفهم للدين" ذلك بأنهم سموا أعداء الله أصفياء، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة من دون الله، هذا إلى استباحة ظاهرة للمحارم، وتحريف للشريعة بالتأويل، وكفر سُمّي بغير اسمه، وأحكام الشريعة وإن كانت مسماة فإنها متحاماة، وقد فرقوا أمر الأمة، وليس السيف عمّن سواهم من كفار الفرنج بصائم ولا الليل عن سير إليهم بنائم.." (10) .
جهود ساهمت في الإحياء السني:(/2)
لم ينتصر صلاح الدين على الصليبيين ويحرر القدس والمسجد الأقصى إلا بعد أن قام بهذا الإحياء، وقضى على الباطنية، وأعاد توحيد الشام ومصر وإقليم الجزيرة، وكان للعلماء دور كبير وللإداريين أيضاً مثل: القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصفهاني بل إن مأثرة القاضي الفاضل تكمن في تصوره الإستراتيجي الذي يقوم على أساس توحيد العالم الإسلامي، ومن خلال راية واحدة والحد من سلطة المذاهب الرديئة وإعادة الهيمنة السنية.
1- العلماء: كان أول المتصدّين للاجتياح الفرنجي الفقيه الشافعي علي بن طاهر السلمي (431-500) الذي اتخذ من جامع دمشق مركزاً لبثّ آرائه، وكان رحمه الله يدرك أبعاد الحملة الصليبية، وأنها حرب شاملة على الإسلام، وأنها تجمع من القوى الغربية، وتقاطر العلماء من الحنابلة والمالكية إلى القدس ودمشق والإسكندرية رغبة في إزالة الظل الفاطمي، وعاشت في الإسكندرية جالية مغربية هاجرت من الأندلس ومن صقلية، وبنوا المدارس وبثوا تعاليم السنة وروح الجهاد، ومنهم الفقيه المالكي أبو بكر الطرطوشي الذي اعتذر عن إقامته بالإسكندرية رغم عدم إقامة الجمعات بقوله: "إن سألني الله عن المقام في الإسكندرية أقول له: وجدت قوماً ضلالاً فكنت سبب هدايتهم"(11) ومن علماء الشافعية في الإسكندرية المحدث الكبير أبو طاهر السلفي، وقد بنى له الوزير السني ابن السلا مدرسة سنة 544هـ، ومن العلماء الذين كان الأثر الواضح الواعظ زين الدين علي بن نجا الحنبلي والفقيه عيسى الهكاري الشافعي والقاضي ابن شداد الذي كتب سيرة صلاح الدين.
2- المساجد: ظل جامع عمرو بن العاص في الفسطاط(12) مركزاً علمياً سنياً ذا شأن منذ بنائه، وكان بعض العلماء الوافدين على مصر من الأندلس أو من المشرق يدرسون في هذا الجامع، وظل الناس يجتمعون حول (رموز) مثل: أبي عمرو بن مرزوق والواعظ ابن نجا، ولعل الأخير قدم من دمشق بإشارة من نور الدين للمساهمة في الإحياء السني ولتهيئة الرأي الشعبي، وعندما قدم أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين) إلى مصر بتكليف من نور الدين استغل فرصة وجوده، وذهب إلى الفسطاط، وزار بعض علماء السنة.
3- المدارس: أسس صلاح الدين عدداً من المدارس في القاهرة وعلى المذاهب الأربعة، وكانت هذه المدارس استمراراً لما بدأه الوزير نظام الملك في الدولة السلجوقية، وما قام به نور الدين في الشام، وهذه المدارس بداية حركة بنائية سنية، ساهم فيها كثير من الأيوبيين خلال حكم صلاح الدين، وقد بنى القاضي الفاضل مدرسة كبيرة في القاهرة، ووقف عليها مكتبته.
4- الاهتمام بجمهور الأمة: لقد دل الوعي الشعبي الذي رافق حصار الإسكندرية من قبل التحالف الصليبي الفاطمي بقيادة وزير الفاطميين (شاور السعدي) دل على عمق الصلة بين علماء السنة وأهالي الإسكندرية، هذه الصلة التي رعاها أمثال الطرطوشي وأبو طاهر السلفي، وكان صلاح الدين مع أهالي الإسكندرية في هذا الحصار، يشد من أزرهم ويرفع من معنوياتهم، وأثناء الحصار طلب شاور من أهالي الإسكندرية تسليم صلاح الدين ويضع عنهم المكوس (الضرائب)، ويعطيهم الأخماس، فأجابوه "معاذ الله أن نسلم المسلمين إلى الفرنج والإسماعيلية"(13).
إن اهتمام صلاح الدين بعامة المسلمين كان بإلحاح من وزيره القاضي الفاضل الذي يقول له في إحدى رسائله: "فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى، وانفِ عن مواردهم الكدر والقذى" فهذا الوزير كان يخطط لوحدة الأمة أمام الغزو الفرنجي الذي ذاق مرارته في وطنه فلسطين وفي بلده عسقلان.
وبعد:
فإن هذه الجهود، وهذه العودة لم تكن لتثمر وتأتي بهذه النتائج العظيمة وهذه الانتصارات الباهرة لو لم يكن وراءها إخلاص عميق لله، وإخلاص للمبدأ، وإنكار للذات، وبعد عن شهوات النفوس.
يصف القاضي ابن شداد صلاح الدين، وقد كان لصيقاً به في السنوات العشر الأخيرة من حياته، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً يقول: "لقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد، قد استولى حبه على قلبه، ولقد هجر في محبته أهله وأولاده ووطنه وسكنه، وقنع من الدنيا بالسكون في خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة، وقد تكالبت عليه الأمراض، حتى لم يكن يستطيع الركوب ولا الجلوس على الطعام، ومع ذلك فإنه يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر وهو صابر على شدة الألم ويقول: "إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل" ويقول عنه ابن الأثير: "كان رحمه الله كريماً حليماً متواضعاً صبوراً على ما يكره" وقد توفي، ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً، ومن الذهب إلا جرم واحد صوري، وقد وصفه وزيره القاضي الفاضل بأنه "قليل اللذات، كثير الحسنات، متقللاً في مطعمه ولباسه، وله معروف في السر والعلانية، يهتم بأصحاب الفضائل، ويؤثر أرباب البيوت وذوي النباهة، محباً للغرباء، مكرماً للأصدقاء..".(/3)
إن من حسن الحظ أن دروس الحياة لا تنقطع، وأن ما كان بالأمس قد يحدث اليوم أو غداً، وحوادث التاريخ تتكرر، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها مع اختلاف الذين يتعاملون معها من خلق بعد خلق "لقد استنشق صلاح الدين ومن حوله رياح التاريخ حين هبت، فشرعوا لها القلوع والقلوب، وأدركوا أن النصر لا يمكن أن يكون إلا هنا، طريق الإسلام، وهو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد القوى"(14).
________________________________________
(1) تفسير المنار (1/432).
(2) المدارك (3/318).
(3) تشجع بعض الكتاب الأوروبيين – وهم قلة نادرة- في السنوات الأخيرة وانتقدوا تصرفات اليهود في فلسطين المحتلة.
(4) محمد الميلي: ابن باديس وعروبة الجزائر 65.
(5) انظر: شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه 15 ط دار القلم. دمشق.
(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/250 .
(7) بلدة في سورية: غربي حمص.
(8) شاكر مصطفى: صلاح الدين 132 .
(9) شاكر مصطفى: صلاح الدين الفارس المجاهد المفترى عليه.
(10) هادية دجاني: القاضي الفاضل 152 .
(11) المصدر السابق 70 .
(12) كان الملوك الفاطميون يعيشون في القاهرة وقصورها محاطة بأسوار ولا يختلطون بالشعب المصري.
(13) هادية دجاني / القاضي الفاضل 94 .
(14) المصدر السابق 158 .
الإحياء السني (2)
د. محمد العبدة 25/3/1427
23/04/2006
كيف تكون الحياة الإنسانية عندما يصل التعصب العاطفي إلى درجة يتحوّل فيها إلى أفظع القوى المدمرة للذات، وأقواها شراً، وحين تزيل ضوابط هذه القوى الفكر النيّر وتجرّد الإنسان من نزعته الإنسانية، إنها أفظع من القنبلة الذرية، إنها نيران كامنة من السهل أن تشتعل بدافع الحقد والإيحاء، وبدافع التعصب الأعمى الذي يغرسه الزعماء والمتبوعون في نفوس أتباعهم استبقاءً لدوام هيمنتهم وحفاظاً على منافعهم الخاصة. هذا التعصب الحاقد يمكّن أفراداً قلائل من المخادعين لتسخير المجموع والخضوع لإرادتهم، وإن الأساليب التي يستخدمونها مثل الاغتيال والتقتيل، والتي درج عليها الشعوبيون الباطنيون ليست وسائل تُقام عليها دولة، ويُبنى بها دين، ويُستصلح عليها بشر، "لقد غاب عن هؤلاء القوم الجانب السويّ من الحياة، وحضر منهم الجانب الشرير، وعاشوا وصدورهم ملأى بالحقد، وعقولهم منغلقة، يتلذّذون بإبادة البشر ورؤية الدماء"(1). وقد قال سلفهم القرمطي الحسين بن بهرام:
زعمت رجالُ الغربِ أني هبتُها ... ...
فدمي إذن ما بينهم مطلولُ
يامصرُ، إن لم أسقِ أرضَك من دم ... ...
يروي ثراكِ فلا سقاني النيلُ
هذه هي قصة الصفويين الذين دمّروا بغداد، وقتلوا أهلها زمن الشاه إسماعيل، والشاه عباس في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، والذين شيّعوا أهل إيران بالقوة، ومن لم يقبل فمصيره القتل، ولكنهم خرجوا من بغداد، واندحروا في معركة (جالدران).
من هم الصفويون؟(/4)
في اواخر القرن السابع الهجري التفّ جمع من المريدين وغالبهم من التركمان، حول رجل اسمه صفي الدين إسحاق من دراويش (أردبيل) في منطقة أذربيجان، والذين تغلب عليهم النزعة الباطنية، ويقولون بحلول الجزء الإلهي في أشياخهم، وادّعى أحفاد الشيخ أنهم من نسل موسى الكاظم، وهذه طريقة كل من يريد الترؤس على الناس والتلاعب بعواطفهم، واشتهرت هذه الفرقة بسبب عقيدتها المتطرفة، مما جعل تيمورلنك التتاري يوقف بلدة أردبيل على أحفاد الشيخ صفي الدين، وهذا مما أطمع هذه الفرقة بأن تكون قوة سياسية عسكرية، وعندما وصل الشيخ جنيد إلى رئاسة هذه الفرقة، حاول الاستيلاء على مناطق مجاورة، ولكنه قُتِل في إحدى المعارك مع حاكم إقليم (شروان)، وسيكون حفيده (إسماعيل) هو المؤسس لهذه الطائفة دولة في إيران، ويعد نفسه نائباً للإمام الغائب في المذهب الشيعي، وتسمى أتباعه بـ (القزلباش) أي أصحاب القبعات الحمراء، وفي كل قبعة اثنتاعشرة ذؤابة نسبة للأئمة الاثني عشر، (اللباس الأحمر هو لباس زرادششتي) . استطاع إسماعيل التوسع، فوصل شرقاً إلى حدود دولة الأوزبك وغرباً إلى العراق، وجعل عاصمته تبريز، وفرض العقيدة الشيعية على أكثر السكان، وأعمل القتل في كل من يرفض اعتناق مذهبه"، وقد اتخذ من سبّ الخلفاء الثلاثة وسيلة لامتحان الإيرانيين، وإذا امتنع السامع من السبّ قُطعت رقبته حالاً، وقد أمر أن يُعلن السبّ في الشوارع والأسواق وعلى المنابر"(2). لم يكتفِ الشاه إسماعيل بما فعله في الداخل، بل راح يتحرّش بالدولة العثمانية التي كانت مشغولة بالفتوحات في أوروبا، وأرسل سفيراً إلى إمارة البندقية يعرض عليهم تحالفاً ضد السلطان بايزيد الثاني، وبدأ بإرسال دعاة ينشرون المذهب الشيعي في الأناضول، وكان من دعاته رجل اسمه نور خليفة، ولقّب نفسه (شاه قولي) أي عبد الشاه، والعثمانيون يقولون عنه (عبد الشيطان)، فكان يدعو للبيعة للشاه إسماعيل، ولما كثر أتباعه بدأ بمهاجمة القرى والقوافل في الأناضول، ووصل إلى مشارف مدينة (بورصة) واشتبك مع الدولة العثمانية في معارك كثيرة، وانتصرت الدولة عليه، ولكن بعد أن استنزف في هذه الفتنة دماء المسلمين وأموالهم، كل هذه الأحداث جعلت الأمير سليم بن بايزيد يستشعر هذا الخطر، وصمم على حسم هذا الداء، يقول في خطاب له: "إن العالم المسيحي يتربص بنا، متحيناً الفرصة للقضاء علينا، ومن المؤسف أن فريقاً من الناس يذهبون إلى هذا الذي أراق دم أهل السنة (الشاه إسماعيل) وكأنهم ذاهبون إلى مكة، ووصل بهم الأمر إلى درجة السجود كلما ذُكر اسمه"(3). تسلّم السلطان سليم مقاليد الحكم بعد أن اعتزل والده، ثم تجهّز للقاء شاه الصفويين، وفي منطقة (جالدران) شرقي الأناضول وشمال تبريز، التقى الجيشان في شهر رجب من عام 920هـ.
وكانت هزيمة ساحقة للجيش الصفويّ، وفر الشاه إسماعيل، ودخل الجيش العثماني عاصمته تبريز، واستُقبل من أهلها استقبال الفاتحين؛ إذ كانت غالبيتهم من السنة الأحناف الذين تظاهروا بالتشيع خوفاً من القتل و إرهاب الشاه إسماعيل، وأقاموا صلاة الجمعة لأول مرة، وبعد هذه الهزيمة حاول الشاه إسماعيل الاستعانة بملك إسبانيا (شارل الخامس)، ولكن الرسالة وصلت متأخرة، ثم إن الشاه هلك عام 930هـ، وجاء بعده ابنه طهماسب الذي استمر على سياسة أبيه.
في عهد السلطان سليمان بن سليم انتقلت الدولة العثمانية من نصر إلى نصر في داخل أوروبا، وتم فتح (بلغراد)، وانتصر السلطان على أوروبا مجتمعة في معركة (موهاج) الشهيرة، وتقدم بعدها الجيش العثماني نحو (فينا) وضرب الحصار حولها، فقامت قيامة أوروبا لهذه الانتصارات، وكتب السفير النمساوي في استامبول (إن الإيرانيين وحدهم يقفون بيننا وبين الدمار). ويقول المؤرخ: (هارولد لامب) : إن الرسل الموفدين من مدينة البندقية ذهبوا إلى الشاه في إيران ليحثوه على ضرب الدولة العثمانية مما يخفف الضغط على فيينا (4) .
استمر السلطان سليمان في حصار فيينا، ولكن الأنباء جاءت من الشرق بأخبار الفتن الباطنية الخطيرة مما جعله يتراجع ويعود إلى العاصمة، وقد كانت هذه الفتنة بقيادة الشيخ البكتاشي الباطني اسكندر جلبي، وقد التفّ حوله ما يزيد على الثلاثين الفاً من الباطنيين أعملوا السلب والنهب في أرجاء الأناضول، ولم تستطع الدولة التغلب عليهم إلا في عام 935هـ . وعندئذ قرر السلطان الالتفاف إلى المشرق واستعادة بغداد من الصفويين، وبمجرد أن سمع الشاه طهماسب باستعداد العثمانيين حتى اتصل بملك هنغاريا ليعاونه على العدو المشترك(5).(/5)
استطاع الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم إعادة بغداد بعد حصار طويل، وأصبح للعثمانيين قاعدة بحرية في مدينة البصرة مما مكنهم من توجيه ضربات موجعة إلى الأسطول البرتغالي الذي يعيث فساداً في الخليج العربي والبحر الأحمر، واضطر الشاه طهماسب لتوقيع معاهدة هدنة مع العثمانيين، ولكن هل يفي الصفويون بالعهود؟ فعندما وصل إلى الحكم الشاه عباس بدأ اتصالاته مع الجبهة الصليبية لعله يجد حليفاً ضد العثمانيين، فقدم عروضاً للإسبان عن طريق دولة البندقية، وأرسل وفداً في عام 1001هـ برئاسة البريطاني (أنطون شيرلي) إلى كل من بابا روما وملكة بريطانيا وملوك فرنسا وبولونيا، ولم تكن هذه التحركات بخافية على السلطان العثماني الذي كتب إليه: "علمنا بتصرفات لا تصدر عن عاقل قط، فلم يعد خافياً علينا أمر سفاراتك إلى الكفرة، إنك مع الكفرة على اتفاق، ومع المسلمين الموحّدين في نفاق" (6) .
لم ينتظر الشاه عباس حتى تؤتي هذه السفارات أكلها؛ فقد واتته الفرصة بانشغال العثمانيين بالحرب النمساوية، وتمرد الولاة في بغداد، فسارع للاستيلاء على بغداد، كان ذلك في عام 1033هـ وأعقبها بالاستيلاء على كركوك والموصل "وقد فعل عباس بأهل بغداد مافعله إسماعيل قبله، وربما زاد عليه، فقد هدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبد القادر الجيلاني، ثم وزّع دفاتر لتسجيل أسماء أهل السنة من سكان بغداد بقصد القضاء عليهم جميعاً، وقد قتل أكثر من أربعين ألفاً ..."(7) ، هذه الأفعال الشنيعة جعلت السلطان مراد الرابع يخرج بنفسه وعلى رأس جيش كبير، فتوجّه إلى حلب والموصل، وحاصر بغداد، وطلب الصفويون الصلح وبعد مفاوضات، خرج الصفويون ورسمت الحدود النهائية ن بين العراق وإيران، والخلاصة التي تظهر من تسلسل هذه الأحداث أنه كلما اقترب العثمانيون من نصر في أوروبا كان الصفويون بالمرصاد لإفشال هذه الفتوحات، والغرب يعلم مدى الحقد الصفوي، فيطلب منهم في كل مرة التحرك لضرب العثمانيين.
يقول المؤرخ هنري لورنس: "بناء على مطلب فعلي وحاجة حقيقية عند الأقليات غير السنية في المشرق دخلت أوروبا، وأنشأت هيكلية لهذه الجماعات في محاولة لجعل هذه المنطقة رديفاً للمجتمع الغربي"(8).
ويقول الكاتب السياسي ومستشار الأمن القومي في أمريكا سابقاً برجنسكي: "من المرجح أن يأتي التحدي السياسي الأكثر ديمومة من البلدان الإسلامية ذات الأغلبية السنية .." (9).
ويقول الأمير شكيب أرسلان: "ولكني لا أشك في أمر واحد، وهو أن القومية الفارسية لم تندثر بالديانة الإسلامية(10).
________________________________________
1-انظر: محمد بهجة الأثري: ذرائع العصبيات العنصرية في إثارة الحروب /32
2-علي الوردي: لمحات اجتماعية في تاريخ العراق 1/58
3-محمد عبد اللطيف هريدي: الحروب العثمانية الفارسية /52
4-علي الوردي: لمحات اجتماعية في تاريخ العراق 1/52
5-المصدر السابق 1/53
6-3- محمد عبد اللطيف هريدي: الحروب العثمانية الفارسية/72
7-علي الوردي: لمحات في تاريخ العراق1/70 ،وانظر:سيار الجميل: تكوين العرب الحديث/167
8-جريدة الحياة 11/2/1994
9-الاختيار /68
10-حاضر العالم الإسلامي 1/166(/6)
الإخلاص دِراسةٌ اصطلاحيّةٌ للأُسس والثمرات
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فإنَّ الإخلاصَ أساسُ الأعمالِ وسبيلُ النجاحِ في الدنيا والفلاحِ في الآخرة؛ فلا تُقبَل الأعمالُ، ولا تُصلَح الأحوالُ؛ إلا بالإخلاصِ للهِ ربِّ العالمين. ولكنْ ما هو الإخلاص؟
[1] إنَّ الإخلاصَ كلمةُ التوحيد التي تتفرَّعُ منها فروعُ الخيرِ كلُّها، كما قال الله عزَّ وجل: (ألم ترَ كيف ضربَ اللهُ مثلاً كلمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تُُُُُُُُُؤتي أُكلَها كلَّ حِينٍ بإذن ربِّها).[1] قال القرطبي: "قال ابن عباس: الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة: المؤمن... فيجوز أن يكون المعنى: أصلُ الكلمة في قلبِ المؤمن وهو الإيمانُ شبَّهَهُ بالنخلةِ في المَنبَت، وشبَّهَ ارتفاعَ عَملِه في السماء بارتفاعِ فُروعِ النخلةِ، وثوابَ الله له بالثمر".[2]
[2] ولعل الدلالة اللغوية للإخلاص تتفقُ مع المعاني الاصطلاحية التي ذكرها العلماءُ عليهم رحمة الله في تعريف الإخلاص؛ إذْ إنَّ لفظَ (الإخلاص) يدور في اللغةِ على (التنقية) و(التهذيب)، كما قال ابنُ فارس: "الخاءُ واللامُ والصادُ أصلٌ واحدٌ مُطَّرِدٌ، وهو تنقيةُ الشيءِ وتهذيبُه".[3] وفي الاصطلاحِ تدورُ غالِبُ عِباراتِ العلماءِ كذلك مع اختلافِ الألفاظِ على أنَّ الإخلاصَ توحيدُ اللهِ تعالى، وتنقيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس. فقد جمعَ تعريفُ الإخلاصِ أساساً عَقَدِيّاً ونَفسيّاً واجتِماعيّاً.
[3] فأما كونُ الإخلاصِ توحيداً لله تعالى: فقد قال القشيري رحمه الله: "الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعتِه التقرُّبَ إلى الله سبحانه دون شيءٍ آخر: من تصنُّعٍ لمخلوقٍ، أو اكتساب صفةٍ حميدةٍ عند الناس، أو محبة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرُّب إلى الله تعالى... وقال أبو عثمان الحِيري: الإخلاصُ نسيانُ رُؤيةِ الخَلْقِ بدوامِ النَّظرِ إلى الخالِق، وقيل: الإخلاصُ ما أُريد به الحقُّ سبحانه وقُصِد به الصِّدقُ".[4] فهذا ما يتعلقُ بالتوحيد.
[4] وأما تصفيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، فالمرادُ منه أن لا يكونَ للنفسِ نصيبٌ في الأعمال؛ بحيث يتخلَّصُ مِن كلِّ شائبةٍ، كما قال "أبو عثمان النهدي: الإخلاصُ ما لا يكون للنفسِ فيه حَظٌّ بحالٍ، وهذا إخلاصُ العوام، وأما إخلاصُ الخواص فهو ما يجري عليهم لا بهم؛ فتبدو منهم الطاعاتُ وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤيةٌ ولا بها اعتدادٌ، فذلك إخلاصُ الخواص. وقال أبو بكر الدقاق: نقصانُ كل مُخْلِصٍ في إخلاصِه رؤيةُ إخلاصِه؛ فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه سقط عن إخلاصِه رؤيتُه لإخلاصِه؛ فيكون مُخلَصاً لا مُخلِصاً... وقال ذو النون المصري: ثلاثٌ من علامات الإخلاص: استواءُ المدحِ والذم، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيانُ اقتضاءِ ثوابِ العملِ في الآخرة، قال سهل بن عبد الله: لا يعرف الرياءَ إلا مُخلِصٌ... وقال حذيفة المرعشي: الإخلاصُ أن تستويَ أفعالُ العبد في الظاهر والباطن... وقيل: الإغماضُ عن رؤيةِ الأعمال... وقال الجنيد: الإخلاصُ سرٌّ بين اللهِ والعبدِ، ولا يعلمه ملَكٌ فيكتبه، ولا شيطانٌ فيُفسده، ولا هوى فيُميله. وقال رويم: الإخلاصُ من العمل هو الذي لا يريد صاحبه عليه عِوَضاً في الدارين ولا حظّاً من الملَكين. وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيءٍ أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب".[5] وهذا ظاهرٌ في التخلُّص من حظوظِ النفسِ.
[5] وأما تنقيةُ العملِ من مُلاحظةِ الناس: فالمرادُ به أن لا يكون الغرضُ إرضاءَ الناسِ وكسبَ مدحِهم وإعجابِهم، كما قال القشيري: "يصحُّ أن يُقال: الإخلاصُ تصفيةُ الفعلِ عن مُلاحظةِ المَخلوقين... سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الإخلاصُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ الخلقِ، والصِّدقُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ النفس؛ فالمخلصُ: لا رياءَ له، والصادقُ: لا إعجابَ له... وقال ذو النون المصري: الإخلاصُ ما حُفِظَ مِن العدوِّ أن يُفسِدَه، يقول السَّرِي السقطي: مَن تزيَّنَ للناسِ بما ليس فيه؛ سقطَ من عَينِ الله تعالى... وسئل بعضُهم عن الإخلاص فقال: أن لا تُشهِدَ على عملِك غيرَ الله عزَّ وجلَّ".[6] وهذا القسمُ الثالثُ هو المعنى المشهورُ المُتبادرُ من معاني الإخلاص.
[6] ولكنْ لا يخفى أنه لا يمكن الفصلُ بين هذه الأُسُسِ الاصطلاحية الثلاثة التي يقوم عليها الإخلاصُ؛ باعتبارِه توحيداً للهِ تعالى، وتنقيةً للقلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس؛ إذ لا يمكنُ فصلُ البُعدِ الاعتقادي في ديننا عن البعد النفسي والاجتماعي إلا من الناحية النظرية.(/1)
[7] ومن هنا نرى أنَّ بعضَ العلماء قد جمعَ في تعريفِه للإخلاصِ بين مُراعاةِ هذه الأُسُسِ؛ فأحسنَ أيَّما إحسان، وتلقَّى العلماءُ تعريفَه بالقبول والاستحسان، وهو قولُ الفضيل بن عياض رحمه الله: "تركُ العملِ من أجلِ الناسِ رِياءٌ، والعملُ مِن أجلِ الناسِ شِرْكٌ، والإخلاصُ أن يُعافيَك اللهُ منهما".[7] فأشار بذكر الرِّياء إلى تنقيةِ النفس، وبالشِّرك إلى تنقية التوحيد، وبأداءِ العمل وتركِه من أجل الناس إلى تنقيةِ العمل. فما أجمعَ هذا التعريفَ وأروعَه!
[8] ولعلَّ استحضارَ هذه الأُسُس يفتح لنا باباً واسِعاً من إدراكِ معاني الإخلاص إدراكاً صحيحاً؛ فإنَّ (الإخلاصَ) للهِ ربِّ العالمين مدرسةٌ تربويةٌ شامِلة، ومَوسوعةٌ أخلاقيةٌ مُتكامِلة؛ تتضمَّنُ طائفةً مِن شُعب الإيمانِ وجملةً من الخِصال الكريمة والآداب العظيمة.
[9] فـ(الإخلاص) هو المعيارُ الصحيحُ الذي تُوزَن به القِيَمُ وتُقاسُ به الأعمالُ، كما قال صاحبُ الظلال؛ مُبَيِّناً أثرَ غيابِ الإخلاصِ في حُصولِ الفسادِ واختلالِ المَوازين في تفسير قولِ الله تعالى: (ألا إنهم هم المفسِدُون ولكنْ لا يشعرون)[8]: "الذين يُفسِدون أشنعَ الفساد، ويقولون: إنهم مُصلِحون كثيرون جدّاً في كل زمانٍ؛ يقولونها لأن الموازين مُختلةٌ في أيديهم. ومتى اختلَّ ميزانُ الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائرُ الموازين والقيم؛ والذين لا يُخلصون سريرتَهم لله يتعذرُ أن يشعروا بفسادِ أعمالِهم؛ لأن ميزانَ الخيرِ والشرِّ والصلاحِ والفسادِ في نفوسِهم يتأرجحُ مع الأهواء الذاتية ولا يثُوب إلى قاعدةٍ ربّانية".[9]
[10] والإخلاصُ بهذا الفهم الواسِعِ يُنمِّي الإيمانَ ويُنقِّي العقيدة ويُزكِّي الوِجدان، ويُهذِّب الملكاتِ الفكرية والنفسية والعلاقات الاجتماعية. وهذا مِن معاني قولِ الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إنَّ صلاتِي ونُسُكي ومَحياي ومماتي لله ربَِّ العالمين لا شريك له).[10] "إنه التجرُّدُ الكاملُ لله، بكلِّ خالجةٍ في القلب وبكلِّ حركةٍ في الحياة: بالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه؛ إنها تسبيحةُ (التوحيد) المطلق والعبودية الكاملة، تجمع الصلاةَ والاعتكافَ والمحيا والممات، وتُخلِصها لله (ربِّ العالمين) القوَّام المهيمن المتصرِّف المربِّي الموجِّه الحاكم للعالمين.. في (إسلامٍ) كاملٍ لا يستبقي في النفسِ ولا في الحياةِ بقيَّةً لا يُعبِّدُها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضميرِ ولا في الواقع".[11]
[11] فليس الإخلاصُ فرعاً من الفُروع، يتفقَّدُه المسلم في صلاتِه هل خَلُصَتْ من الرياء أم لا؟ بل هو أحدُ الأصلَيْن العظيمَيْن اللَّذَيْن قام عليهما صَرْحُ هذا الدِّين، كما قال أهلُ العلم: "لا يكون العبدُ متحقِّقاً بـ(إياك نعبد) إلا بأصلَيْن عظيمين: أحدهما: متابعة النبيr والثاني: الإخلاصُ للمعبود"؛[12]
[12] فقد ذكر العلامة ابنُ القيم رحمه الله أنَّ المُخلِصين "أعمالُهم كلُّها لله، وأقوالُهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعُهم لله، وحبُّهم لله، وبُغضُهم لله؛ فمعاملتُهم ظاهراً وباطناً لوجهِ الله وحدَه لا يريدون بذلك من الناسِ جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاءَ الجاهِ عندَهم، ولا طلبَ المحمدةِ والمنزلة في قلوبِهم، ولا هرباً من ذمِّهم. بل قد عَدُّوا الناسَ بمنزلةِ أصحابِ القبورِ؛ لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً. فالعملُ لأجلِ الناسِ وابتغاء الجاهِ والمنزلة عندهم ورجائهم للضرِّ والنفعِ منهم لا يكون من عارِفٍ بهم البتة؛ بل من جاهلٍ بشأنِهم وجاهلٍ بربِّه؛ فمن عرفَ الناسَ أنزلَهم مَنازلَهم، ومن عَرفَ اللهَ أخلصَ له أعمالَه وأقوالَه وعطاءَه ومنعَه وحُبَّه وبُغضَه".[13]
[13] ولما كان(الإخلاص) بهذا المعنى مَوسُوعةً أخلاقيةً؛ فإنَّ الصدقَ والوفاءَ والبِرَّ والأمانةَ تنبع كلُّها من الإخلاصِ. بل إنَّ سائرَ مكارمِ الأخلاق تتصل بالإخلاص اتصالاً وثيقاً، وترتبط به ارتباطاً عميقاً. وقد ظهر ذلك في حديث هرقل وهو يسأل أبا سفيان بعد الحديبية عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليختبر حقيقةَ رسالتِه وصدقَ دعوتِه؛ فبَيَّن أنَّ للإخلاص ثمراتٍ عظيمةً.
[14] منها: أنَّ صاحبَ الإخلاصِ ليس إمَّعةً يسمع الناسَ يقولون قولاً فيقول مثلَه، كما قال هرقل: (سألتُك: هل قال أحدٌ منكم هذا القولَ؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القولَ قبلَه؛ لقلتُ رجلٌ يأتسي بقولٍ قِيلَ قبلَه). [14] بل له عقلٌ مستقِلٌّ يهتدي بنورِ الله عز وجل.(/2)
[15] ومنها: أنَّ المخلصَ رجلٌ لا يُعاني من حُبِّ الرئاسة وطلبِ المُلْك؛ فليس له همومٌ شخصيّةً في السياسةِ. وقلَّما يَسْلَم طالبُ المُلكِ من أغراضِ النفسِ وغوائلِ السلطان ومَكامنِ الشيطان، وهذا من إشاراتِ قول هرقل: (وسألتُك: هل كان مِن آبائه من ملِك؟ فذكرتَ أن لا؛ قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلتُ: رجلٌ يطلُب مُلكَ أبيه). لاسيما وقد أتبع ذلك بسؤالٍ عن الكذب، فقال: (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا؛ فقد أعرفُ أنه لم يكنْ ليذرَ الكذبَ على الناس ويكذبَ على الله)؛ ويؤكِّدُ ذلك قولُ أبي سفيان لما سأله هرقل: (قال: فهل يغدر؟) فكان جوابُ أبي سفيان: (قلتُ: لا، ونحنُ منه في مُدةٍ لا ندري ما هو فاعلٌ فيها. قال: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخِلُ فيها شيئاً غيرُ هذه الكلمة)؛ ففي هذا دلالةٌ على أنه قلَّما ينجو أهلُ السياسةِ من الوُقوعِ في الكذب؛ سواءً في إخلالِهم بالوُعود أو إخلافِهم للعهود أو تضييعِهم للأمانات. وهذا مُشاهَدٌ اليومَ في بلادِ المسلمين. والله المستعان.
[16] ومن الثمرات كذلك: البُعدُ عن الأطماعِ والسلامة من الفتن والثباتُ على الدين، كما قال: (وسألتك: أشرافُ الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أنَّ ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخلَ فيه؟ فذكرتَ أن لا؛ وكذلك الإيمان حين تُخالِطُ بشاشتُه القلوب).
[17] ومن ثمراتِ الإخلاصِ كذلك: البرُّ والوفاء وحسنُ الصحبة وطِيبُ العِشْرَة ولينُ الجانب، وكل ذلك من إشاراتِ قولِ هرقل في الحديثِ: (وسألتُك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا؛ وكذلك الرسل لا تغدر). ولعمري إنَّ المخلِصَ للهِ لا يغدرُ؛ ولذلك جاء الغدرُ في صفاتِ المنافقين.
[18] ومن الثمرات الجليلة للإخلاصِ: صدقُ التوحيد، والبُعدُ عن الشرك، والمحافظة على العبادات لاسيما الصلوات، والتخلق بالصدق والعفاف وتوابع ذلك من النواحي الاجتماعية، وكل ذلك مأخوذٌ من قوله: (وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمرُكم أن تعبدوا الله ولا تُشرِِكوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف).
[19] ومن الثمرات العظيمة: أنَّ إخلاصَ النيةِ يُبارك العلمَ؛ ويخلِّصه من الشوائب، ويجعله نافعاً مبارَكاً، كما قال عون بن عمارة: "سمعتُ هشاماً الدستوائي يقول: واللهِ ما أستطيعُ أن أقولَ: إني ذهبتُ يوماً قط أطلبُ الحديثَ أُريد به وجهَ الله عز وجل". قال الإمام الذهبي رحمه الله مُعلِّقاً على قول هشام الدستوائي: "واللهِ ولا أنا؛ فقد كان السلف يطلبون العلمَ لله؛ فنبلوا وصاروا أئمةً يُقتدى بهم، وطلبَه قومٌ منهم أولاً لا للهِ وحصَّلوه ثم استفاقوا وحاسَبوا أنفسَهم؛ فجرَّهم العلمُ إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبْنا هذا العلمَ وما لنا فيه كبيرُ نيةٍ ثم رزقَ اللهُ النيةَ بعدُ، وبعضُهم يقول: طلبْنا هذا العلمَ لغير الله فأبى أن يكونَ إلا لله. فهذا أيضاً حسنٌ، ثم نشروه بنيةٍ صالحة. وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنَى عليهم؛ فلهم ما نوَوا، قال عليه السلام: (مَن غزا ينوي عقالاً؛ فله ما نوى) [رواه أحمد والدارمي والنسائي]. وترى هذا الضربَ لم يستضيئوا بنور العلمِ ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمِهم كبيرُ نتيجةٍ من العمل؛ وإنما العالمُ مَن يخشى اللهَ تعالى، وقومٌ نالوا العلمَ ووَلُوا به المناصب؛ فظلموا وتركوا التقيُّدَ بالعلم وركبوا الكبائرَ والفواحشَ؛ فتباًّ لهم فما هؤلاء بعلماء! وبعضُهم لم يتقِ الله في علمِه، بل ركبَ الحِيَلَ وأفتى بالرُّخَص وروى الشاذَّ من الأخبار، وبعضُهم اجترأ على الله ووضعَ الأحاديثَ فهتكه الله وذهبَ علمُه وصار زادَه إلى النار. وهؤلاء الأقسامُ كلُّهم رَوَوا مِن العلم شيئاً كبيراً، وتضلَّعوا منه في الجملة، فخلفَ من بعدِهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قومٌ انتمَوا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ؛ أوهموا به أنهم عُلماء فُضلاء، ولم يَدُرْ في أذهانِهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم؛ فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما؛ فيُصحِّف ما يُورده ولا يُقرِّره؛ فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، كما قال بعضُهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيتُ عالماً. وقال رجلٌ لابن الجوزي رحمه الله: ما نمتُ البارحةَ مِن شوقي إلى المجلس؛ قال: لأنك تريد الفُرجة؛ وإنما ينبغي الليلةَ أن لا تنام".[15](/3)
[20] وأخيراً فإنَّ الإخلاصَ يؤدِّي إلى حُسنِ الخاتمة، كما أنه يحفظ صاحبَه في الدنيا من الفتنة؛ فهو بهذا المعنى يَقِي الإنسانَ من فِتنة المحيا والممات! ورحم الله أبا زرعة الرازيَّ؛ فقد سُئل في مرضِ مَوتِه عن حديثِ (من كان آخرُ كلامِه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة)، فذكر أبو زرعة الحديث؛ حتى إذا بلغ (لا إله إلا الله) فاضتْ روحُه![16] فمن عاشَ على الإخلاصِ؛ يمنُّ الله عليه بأن يُميتَه عليه. ولله درُّ الذهبي حيث قال: "فأخْلِصْ تُفلحْ؛ وتمنَّ دائماً وأبداً صَفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: لو صَفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا... واعلمْ أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل؛ فاصدُق النيةَ مع الله تعالى؛ فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءها؛ وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق"![17]
--------------------------
[1] إبراهيم24-25.
[2] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي9/359.
[3] معجم مقاييس اللغة لابن فارس2/208. دار الكتب العلمية بيروت.
[4] الرسالة للقشيري ص207-208.
[5] المرجع السابق ص208-209.
[6] الرسالة للقشيري ص207-210.
[7] المرجع السابق ص209.
[8] البقرة 12.
[9] في ظلال القرآن 1/44.
[10] الأنعام 162.
[11] في ظلال القرآن 8/1240-1241.
[12] مدارج السالكين لابن القيم 1/83.
[13] المرجع السابق.
[14] رواه البخاري في آخر كتاب (بدء الوحي).
[15] سير أعلام النبلاء، للذهبي: ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي، وقد استفدتُ العبارةَ تامَّةً من مقال الشيخ محمد توم (الإخلاص ثمرةُ المعرفة).
[16] ذكره القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 35-36. دار الريّان القاهرة. ط2. 1407هـ.
[17] ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي من (سير أعلام النبلاء).(/4)
الإخلاص سلاحنا الغائب ...
محمد فهمي / إسلام أون لاين ...
في زمن نحن أحوج فيه إلى القوة؛ يغيب عن أذهاننا سلاح هام، يحتاج إلى ضبط للنوايا، ورفع للهمم، وقصد لوجه الله تعالى في كل أمورنا، فبيده النصر، وهو القادر على العون والمدد.
فسلاح المؤمن هو الإخلاص، وهو سلاح واقٍ، يحميه من الهم والحزن واليأس والضياع والضعف والخيبة، ويجلب له السعادة وصلاح البال، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 18).
لقد علم الله ما في قلوبهم من الإخلاص، وصدق النية والوفاء، {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}، والسكينة هي الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم، وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له.
يُثمر الإخلاص السكينة
وقد ضرب الله مثلاً لحال الموحدين المخلصين، وبين سبحانه كيف يُثمر الإخلاص في نفوسهم اطمئناناً وسكينة وراحة، فلو أن هناك عبدين، الأول له سيد واحد، عرف ما يرضيه وما يسخطه، فجعل هذا العبد كل همّه في إرضاء سيده واتباع ما يحبه، والآخر عبد يملكه شركاء غير متفقين، كل واحد يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، وكل واحد يطلب منه غير ما يطلبه الآخر، فهو في حيرة أيرضي هذا أم يرضي ذاك.
فهل يستوي هذان العبدان في راحة النفس والبدن وسكينة القلب، لا يستويان؛ لأن الأول له سيد واحد لا يستمع لغيره ولا يسعى إلا في رضاه، والذي له سادة متعددون سيشقى في محاولة إرضائهم، ويتشتت قلبه وتهلك قوته في طاعة أوامرهم المتضادة.
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29).
وكلما قل الإخلاص في القلب قلت السكينة وضاعت الطمأنينة، حتى تجد أكثر القلوب ضياعاً وأشدها ظلاماً قلوب المهرولين وراء الدنيا والمرائين والمنافقين والمشركين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: 'تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش'.
مفرطون في حب الدنيا
فالذين يفرطون في محبة زينة الدنيا من مال وغيره لدرجة يصيرون لها كالعبيد، فلا يتحركون إلا من أجلها، حتى على حساب دينهم، فصار يرضى عن ربه بوجودها، ويسخط بعدمها، إن أُعْطِيَ من الدنيا رضي ولم يشكر، وإن لم يُعْطَ سخط ولم يصبر، وترك ما يأمره به دينه، هؤلاء واقعون في تعس الحياة، ولا ينالون إلا الشقاء في الدنيا حتى إن كانوا من أهل الثروات والأموال'.
قال ابن القيم: 'الإخلاص والتوحيد شجرة في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طِيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.
والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب؛ ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم'.
مفتاح الفرج
ومن ثمرات الإخلاص في الدنيا نزول الفرج والنجاة من الكرب والشدة، بحسب مشيئة الله تعالى وقدره، وقد تعجب لو قلت لك إن الله يفرّج بالإخلاص عن المشرك لو أخلص لله قليلاً، مع أنه مشرك، فما ظنك بالمؤمن الذي ينبغي أن تكون حياته كلها مبنية على الإخلاص، وأن يجتهد في تحقيق الإخلاص في كل عمل.
فإذا كان الله يفرج عن المشرك لو أخلص قليلاً فإنه سبحانه لا شك يفرج عن المؤمن الذي يتحرى الإخلاص في عمله، وينجيه مما ينزل به من شدائد، وكل بحسب قدر إخلاصه وتوكّله، قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32).
ومن ثمرات الإخلاص قوة الهمة، فلا مثيل للإخلاص في رفع همة الإنسان فيما يريد تحقيقه من أعمال، حين يتحطم عزمه أمام العقبات، وقد تنفع معه وسيلة أو أخرى لرفع همته، لكن لن تجد دواء لإصلاح العزم، ورفع الهمة كالإخلاص لله تعالى في العمل.
فالذي يطلب رضا الله؛ لن تقف به همته عند هدف دنيوي من مال وشهرة ومكانة، ولن تعوقه عقبات؛ لأنه ينظر إلى أبعد من الدنيا، فهو يرجو رضا الله تعالى عنه، ويطمع في الثواب الدائم الذي لا ينقطع في الآخرة، وربط آمال نفسه برضا الله ونعيمه المقيم، فالإخلاص هو الذي يرتفع بالهمم دون حدود، ويشحذها إذا فترت.
ضمان الوحدة(/1)
والإخلاص في أعمالنا وجهودنا هو الضمان الوحيد لتحقيق الوحدة، وهو الأساس الذي ينبغي لنا أن تكون أخوتنا وعلاقتنا وصداقتنا مبنيّة عليه، بدءاً من مستوى الدول حتى مستوى العلاقة بين فئات الأمة من علماء ودعاة وقادة.
وتخيّل لو أن المسلمين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم أخلصوا لله تعالى في العمل على الوحدة والترابط، ولم يكن من وراء أعمالهم وجهودهم إلا تحقيق مراد الله وطلب رضاه؛ كيف ستكون الوحدة أسهل تحقيقاً، وأقوى رابطة، وأشد آصرة، وأنجح في إذابة الخلافات وتطهير القلوب من الشحناء.
ألست معي أن الإخلاص يتخلّف عن قلوبنا، وإن ادعيناه، في كثير من علاقاتنا وجدالنا ومواقفنا، ليحل محله خفية مصالح شخصية أو مآرب دنيوية، وغيرها من الأغراض التي تحركنا بعيداً عن معنى الإخلاص!
لا يقدر أحد أن يرى الإخلاص؛ لأنه من عمل القلب، لكن حين نكون على أرض الواقع فنقوم بعبادة، أو ندخل في معاملة، أو نتحمل أمانة، أو نقف أمام تقاطع طرق في مصالحنا؛ حينها يمكن أحياناً مشاهدة أمارات الإخلاص، ومعرفته بعلاماته، والتفريق بينه وبين الأنانية وحب الذات والرياء والنفاق، وحين ينزوي الإخلاص جانباً يتسع المجال لفساد الذمم، وظهور الكذب والنفاق والرياء، وفساد ذات البين، وخيانة الأمانة.
والضمان الأول للفوز بتأييد الله تعالى لنا في تحقيق النصر هو الإخلاص، وإلا فسيكون مصيرنا في معاركنا مع أعدائنا مرهوناً بمعايير القوة الطبيعية وحدها، ونحرم أنفسنا من الفوز بمعونة الله تعالى ومعيّته.
انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف فتح الله لهم البلاد، حتى بلغوا في سنوات قليلة حدود الصين شرقاً والأندلس غرباً، والقسطنطينية شمالاً، مع أنهم لم يكن لهم من عدة الحروب وعتادها ما كان للفرس والروم، ولم تكن القوة بينهم وبين عدوهم متكافئة، فعدوهم كان يملك أضعاف ما يملكون من قوة بشرية وحربية؛ ولكن لأنهم أسسوا حركتهم في نشر الإسلام على الإخلاص، وأقاموها على فقه في الإعداد والتوكل، تحقق على أيديهم النصر المنشود.
بالإخلاص يفتح الله لك أبواب الهداية في كل شيء: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، فحددت الآية أولاً طريق الجهاد والمجاهدة: {جَاهَدُوا فِينَا'، ثم بينت الآية نتيجة هذا الطريق المبني على الإخلاص: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
نجاح الدنيا والآخرة
والمخلص موعود بالنجاحين، النجاح في الدنيا والنجاح في الآخرة، وليس هناك من طريق يجمع النجاح في الدنيا والآخرة غير طريق الإخلاص، فقد ينال غير المخلص مراده وينجح في تحقيق هدفه الدنيوي، لكنه لن يحصل على نجاح الآخرة وثوابها: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء: 134).
وبالإخلاص ينجو المسلم من النار، ولو جاء رجل مشرك إلى الله تعالى بالدنيا وما فيها وقدّمه لله؛ لينجيه من النار لن ينفعه، لأنه لم يكن موحداً مخلصاً، قال عليه الصلاة والسلام: 'يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى: لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ -أَحْسَبُهُ قَالَ- وَلاَ أُدْخِلَكَ النَّارَ فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ' صحيح مسلم.
وفي رواية أحمد: أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: 'يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: لَقَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} مسند أحمد. ...(/2)
الإخلاص
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد
حديثنا عن موضوع الإخلاص وهذا الحديث سيكون متضمناً لإحدى عشرة نقطة وهى:
أولًا: معنى الإخلاص وحقيقته .
ثانيًا: الفرق بينه وبين النصح والصدق .
ثالثًا: منزلة الإخلاص من الدين وأهميته .
رابعًا: ذكر الإخلاص في الكتاب والسنة .
خامسًا: مراتب الإخلاص .
سادسًا: صعوبة الإخلاص .
سابعًا: ثمراته وآثاره السلوكية .
ثامنًا: الآثار العكسية للمقاصد السيئة .
تاسعًا: كيف ننمى الإخلاص في قلوبنا .
عاشرًا: أمور تنافي الإخلاص .
الحادي عشر: السلف رضوان الله تعالى عليهم والإخلاص .
أولًا : ما يتعلق بمعنى الإخلاص وحقيقته:
· الإخلاص مأخوذ من الخلاص، وتقول: خلص، فهو خالص إذا صفى وزال عنه ما يشوبه، يقول ابن فارس رحمة الله:' الخاء واللام والصاد أصل واحد مضطرد، وهو تنقية الشيء وتهذيبه ' [المقاييس في اللغة 2/208] . فإذا أخلص الدين لله: أي قصد وجهه وترك الرياء، بمعنى أمحض الدين لله ونقاه، والمُخلِص هو الذي وحد الله خالصاً، والمُخلَص هو الذي اختصه الله أي: جعله مختاراً من الدنس.
وكلمة الإخلاص هي كلمة التوحيد، والإخلاص في العبادة والطاعة، وترك الرياء، هذا معنى هذه اللفظة في كلام العرب، تدور حول تنقية الشيء مما يشوبه من الشوائب، وتخليصه من الأكدار ومما يداخله.
· وأما الإخلاص في معناه الشرعي: فعبارات العلماء فيه متقاربة، كقولهم:' هو إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة'. وكقول بعضهم:' أن يكون العمل لله سبحانه لا نصيب لغير الله فيه' ، أو هو:' نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق يعني بالقصد' ، أو هو:' استواء عمل الظاهر والباطن' .. وعلى كل حال يمكن أن نقول بأن:
الإخلاص هو: تصفية العمل من كل شائبة، بحيث لا يمازج هذا العمل شيء من الشوائب في الإدارات، وأعنى بذلك إرادات النفس، إما بطلب التزين في قلوب الخلق، وإما بطلب مدحهم، والهرب من ذمهم، أو بطلب تعظيمهم، أو بطلب أموالهم، أو خدمتهم، أو محبتهم، أو أن يقضوا له حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب والإرادات السيئة التي تجتمع على شيء واحد، وهو: إرادة ما سوى الله عز وجل بهذا العمل، وعليه: فالإخلاص هو توحيد الإرادة والقصد، أن تفرد الله عز وجل بقصدك وإرادتك فلا تلتفت إلى شيء مع الله تبارك وتعالى. [انظر:مدارج السالكين 2/92].
ثانياً : ما الفرق بين الإخلاص وبين الصدق والنصح ؟
· بعض أهل العلم يقولون: إن الفرق بين الإخلاص والصدق: أن الصدق هو الأصل، والإخلاص متفرع عنه.[انظر:التعريفات للجرجاني] .
· وبعضهم يقول: بأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل، وأما الصدق فيكون بالنية قبل الدخول فيه.
· وابن القيم رحمة الله يذكر فرقاً آخر [المدارج 2/91-92] وهو: أن الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وأما الصدق فهو التنقي من مطالعة النفس، فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له، ثم يذكر أن هذه الأمور بينها تلازم ولا انفكاك لأحدها عن الآخر .[المدارج 2/91-92].
· ويمكن أن نعبر عن الفرق بينهما بعبارة واضحة وهو أن يقال: إن الإخلاص هو أن تفرد الله عز وجل بقصدك، وأما الصدق: فهو الموافقة بين الظاهر والباطن هذا في الأعمال وفي الأحوال.
في الأعمال: بحيث أن الإنسان لا يُظهر أعمالاً صالحة وقلبه ينطوي على غير ذلك.
وفي الأحوال: بحيث إن الإنسان لا يُظهر خشوعاً، أو صلاحاً، وقلبه ينطوي على خلاف ذلك، فهذا غير صادق وكذلك في الأقوال: الصدق فيها بموافقة القول لما في القلب، فمن قال قولاً، ولو كان مطابقاً للواقع، ولكنه يخالف ما في مكنونه؛ فإنه يعتبر كاذباً بذلك، فلو سئل عن فلان أين هو؟ فقال: فلان مسافر، وهو يعتقد أنه موجود ولكن صادف أن قوله وقع على الحقيقة بحيث أن فلاناً قد سافر فعلاً وهو لم يعلم، فقال: إنه مسافر، وهو يظن أنه موجود؛ فإنه يكون بذلك كاذباً مع أن قوله طابق الواقع.
وكذلك أيضاً إذا خالف ما في الواقع، وإن لم يقصد ذلك كما هو استعمال السلف كثيراً، وهو استعمال عربي معروف لكلمة:' كذب' التي تقابل الصدق، فإذا قال مثلاً فلان مسافر وهو يعتقد أنه مسافر، فتطابق قوله مع ما في مكنونه ولكنه أخطأ ذلك وتبين أن فلاناً لم يسافر، فالسلف كانوا يقولون عن ذلك بأنه كذب، ويعدونه من الكذب لا الكذب المذموم الذي يعاقب عليه صاحبه، وإنما يطلقون ذلك على كل ما خالف الواقع والحقيقة، ولهذا تجد في أقوال الصحابة رضى الله تعالى عنهم:'كذب فلان' من الصحابة، عائشة رضي الله عنها تقول:'كذب فلان' ماذا تقصد بذلك؟ لا تقصد التهمة، إنما تقصد معنى آخر وهو أنه أخطأ.
· إذًا الحصيلة من هذا: أن الصدق يكون بموافقة الظاهر للباطن في الأقوال والأحوال، ويكون أيضا عند المتقدمين بموافقة القول للواقع.. هذا هو الصدق.وخلافه الكذب، وهو قسمان:(/1)
كذب يؤاخذ عليه الإنسان ويلحقه الذنب: إن قصد أن يقول شيئاً يخالف به الحقيقة والواقع، فهذا يؤاخذ عليه ويكون مذموماً آثماً.
وأما الصنف الثاني: وهو ما لا يؤاخذ عليه: فيما لو وقع منه ذلك على سبيل الغلط، فيسمى ذلك بالكذب، ولكن صاحبه لا يلحقه ذنب .
هذا الفرق بين الإخلاص والصدق،، وقد يعبر بالصدق، ويراد به الإخلاص، فيقال: فلان يعامل ربه بصدق يعني: بإخلاص.
· وأما الفرق بين الإخلاص والنصح: فيمكن أن يقال في عبارة مختصرة: إن الإخلاص- كما سبق- إفراد الله عز وجل بالقصد، أما النصح: فهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد في أداء العمل [انظر:الفوائد لابن القيم ص186]، فتقول: فلان ناصح في عمله، فلان ناصح لتلامذته، فلان ناصح في صحبته، فلان ناصح لفلان، وليس المراد أن يقدم له نصائح إنما المراد أن يستفرغ جهده في إيصال النفع له بكل وجه مستطاع.
· ولربما عُبر بالإخلاص عن النصح، فقيل: فلان يعمل بإخلاص في كذا وكذا، أي: أنه يعمل بنصح، وإن كان المراد أنه يعمل يريد وجه الله فقط، فيكون ذلك من باب توحيد القصد والإرادة، يعمل بإخلاص أي: يريد وجه الله لا يريد شيئاً آخر. ويمكن أن نقول: فلان يعمل بإخلاص أي: أنه يبذل طاقته ووسعه وجهده ولا يتوانى في القيام بالمهمة التي وُكلت إليه، وبهذا نعرف الفرق بين الإخلاص والنصح وبينه وبين الصدق .
ثالثًا: منزلة الإخلاص من الدين وأهميته : وهذا يتبين من وجوه مختلفة:
أولًا: أن الإخلاص هو روح العمل: فعمل لا إخلاص فيه كجسد لا روح فيه، فهو بمنزلة الروح من الجسد، يقول ابن القيم رحمه الله:'ومِلاَك ذلك كله: الإخلاص والصدق، فلا يتعب الصادق المخلص، فقد أُقيم على الصراط المستقيم فيُسَار به وهو راقد، ولا يتعب من حُرم الصدق والإخلاص فقد قُطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بُعداً، وبالجملة: فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة' [الروح ص227] .
وما أجمل وما أحلى عبارة ابن الجوزي رحمه الله، حيث قال في كتاب له لطيف اسمه:'اللطف في الوعظ':' الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسكِ القلب – أي: أنه محفوظ في هذا الوعاء الذي هو القلب – ينُبئ ريحه على حامله، العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل – في الحج – لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف' .
وهو بهذا يريد أن يقول: إن منزلة الإخلاص من الأعمال كمنزلة الوقوف بعرفة من أعمال الحج، ولو أن الإنسان ذهب إلى منى، ومزدلفة، وطاف بالبيت الحرام، وما إلى ذلك من الأعمال التي يعملها الحجاج، ولم يقف بعرفة، هل يكون ذلك الإنسان حاجاً؟ الجواب: لا، يقول : لو قَطَعتَ سائر المنازل لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف . وصدق رحمه الله، وتأمل قوله قبله:'الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسك القلب يُنبيء ريحهُ على حامله' فالإخلاص لا يحتاج منك إلى إظهار، ولا يحتاج منك إلى إعلام للناس أنك مخلص، وإنما يظهر ذلك في حركات الإنسان، وسكناته، وتظهر آثاره على العبد . وأما الذي يتصنع للناس، ويسعى لإعلامهم بعمله، وصلاح قلبه، وما إلى ذلك، فالواقع أنه يُحطم الإخلاص في قلبه، ولا يزيده ذلك إلا شَيناً في قلوب الخلق، والله المستعان.
فبهذا نعلم: أن الإخلاص هو عمود العمل، وهو سنامه؛ لأن العامل بدون إخلاص كادح متعب نفسه، لا أجر له، فالله عز وجل يقول:} وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23] {[سورة الفرقان] . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المشهور: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] رواه البخاري ومسلم. والله يقول جل جلاله:}...لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7] {[سورة هود]. ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملًا، فليست العبرة بالكثرة إنما العبرة بالصواب مع حسن القصد:
· قال الفضيل بن عياض رحمه الله - تعليقاً على هذه الآية في بيان معنى:} أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {قال:' أخلصه وأصوبه' قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال:' إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، ثم قرأ:} فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110] {[سورة الكهف] '.
· ويقول ابن القيم رحمه الله:' العمل بغير إخلاص ولا إقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه' . فهو ليس له من هذا الجراب وهذا الحمل إلا التعب، فمن حمل التراب على ظهره، فإن ذلك لا ينفعه؛ لأنه لا نفع فيه.
· ويقول ابن حزم- مبيناً هذا المعنى- :'النية: سر العبودية، وهى من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه؛ إذ هو بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، وهو جسد خراب'.(/2)
· وهذا الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى يقول في حكمة بليغة:' رأس الأدب آلة المنطق، لا خير في قول بلا فعل، ولا في منظر بلا مخبر، ولا في مال بلا جود، ولا في صديق بلا وفاء، ولا في فقه بلا ورع، ولا في صدقة بلا نية'. وإن شئت فقل: ولا عمل بلا نية .
ثانيًا: أنه لا سبيل إلى الخلاص والانفكاك من التبعات إلا بالإخلاص: فالإنسان يحاسَب على أعماله، ويحاسَب على نياته وإراداته، وإذا نُصبت الموازين، ووضعت الصحف؛ أبصر العبد بعد ذلك عمله، وعرف حاله ومنزلته عند الله عز وجل، يقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله:' ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ وكَيْفَ ؟؟ أي: لم فعلت، وكيف فعلت ؟
فالأول: سؤال عن علة الفعل، وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا من حب المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل ؟! أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه ؟! ومحل هذا السؤال أنه: هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك ؟
والثاني:سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد: أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟
فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما، وطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع، فهذه حقيقة سلامة القلب التي ضمنت له النجاة والسعادة'[إغاثة اللهفان 1/8].
ولهذا كان معروف الكرخي رحمه الله يحث نفسه دائما، ويردد عليها:' يا نفس أخلصي تتخلصي.. يا نفس أخلصي تتخلصي' .
ثالثًا: من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص، وعظيم منزلته: أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام: كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية رحمه الله، فقال:' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا...[29] {[سورة الزمر] . يقول: فمن لم يستسلم لله؛ فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره؛ فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر' [مجموع الفتاوى 10/14].
رابعًا: مما يدل على أهميته أنه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وبه قوام الأمة[انظر:درء التعارض8/374 ]: فالله ما فطر الناس على الرياء، وعلى المقاصد السيئة، وعلى الشرك بالله عز وجل، إنما فطرهم على التوحيد، ولا شك أن الإخلاص هو التوحيد، مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاذ بن جبل فسأله:' ما قوام هذه الأمة؟' فقل معاذ:' ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص: وهو الفطرة } فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...[30] {[سورة الروم]. والصلاة: وهى الملة. والطاعة: وهى العصمة' فقال عمر رضى الله عنه:' صدقت' .
ومن هنا نعلم شأن الإرادات والمقاصد والنيات، وخطرها، وعظيم أثرها وشأنها، ولهذا قال يحي أن أبي كثير رحمه الله تعالى:' تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل' . وذلك لأنها تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه عمله- كما سيأتي إن شاء الله-ويقول ابن أبي جمرة- وهو أحد شراح الصحيح- :' وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد في تدريس أعمال النيات ليس إلا؛ فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك'.
رابعًا: الإخلاص في الكتاب والسنة:
· الإخلاص يذكر في كتاب الله عز وجل كثيراً:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:} فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[65]{ [سورة غافر].
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[5] { [سورة البينة].
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ[40]أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ[41]فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ[42]فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ[43] { [سورة الصافات].
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[40] {[سورة الحجر] . بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين، ويستهويهم بوساوسه وخواطره، وإضلاله وتزيينه.
· وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:(/3)
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ – يعني يريد الأجر من الله عز وجل، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد – مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ] رواه النسائي، وهو حديث حسن الإسناد .
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] رواه مسلم . فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله، ويريد ما عند المخلوقين؛ هذه الله غني عنها، ولا يعبأ بها، ولا يقيم لها وزنًا.
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد، وهو محل الإخلاص، والقصد والنية، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ]رواه مسلم.
وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] رواه البخاري ومسلم. شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص، ومنزلته، وعظيم أثره؛ لما كفى لاستيعابها هذا المجلس بل ولا مجالس، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق .
خامسا: مراتب الإخلاص : يمكن أن نقول بأن العمل الذي يكون خالصاً مقبولاً على مرتبتين إحداهما أعلى من الأخرى:
المرتبة الأولى: أن يتمحض القصد لإرادة وجه الله عز وجل، وما عنده من الثواب والجزاء، ولا يلتفت العبد إلى شيء آخر- وإن كان مباحاً-:
· فهو يجاهد يريد ما عند الله فقط لا يريد غنيمة، فضلاً عن المقاصد السيئة كالرياء والسمعة.
· وهو يصوم يريد ما عند الله عز وجل، ولا يلتفت لأمر يجوز الالتفات إليه كتخفيف الوزن، أو تحسين صحة البدن، أو الحمية، أو ما إلى ذلك.
· وكالذي يمشي إلى المسجد ليكثر الخطى التي يتقرب بها إلى مولاه لا يلتفت لمعنى آخر، وهو أن ينشط بدنه، ويتقوى هذا البدن، وإنما يلتفت إلى المعنى الأول فقط فهذا أعلى المراتب.
المرتبة الثانية :العمل يكون مقبولاً إلا أنه دون الأول، وهو أن يقصد العبد وجه الله عز وجل بالعمل، ولكنه يلتفت إلى معنى يجوز الالتفات إليه:
· كالذي يحج يريد وجه الله عز وجل، ويريد أيضاً التجارة، فهذا لا مانع منه، والله عز وجل يقول:} لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ...[198] {[سورة البقرة]. والمعنى: أن تبتغوا فضلاً من ربكم أي بالتجارة في مواسم الحج .
· وكالذي يحج لأنه يحمل معه جموعاً من الحجاج يأخذ منهم أجرة على ذلك، فهذا يريد وجه الله عز وجل، ويريد هذا المغنم العاجل، فحجه صحيح، ولكن مرتبته دون الأول، دون الذي ذهب إلى الحج لا يريد إلا ما عند الله .
· وكالذي يصوم لله عز وجل، وهو يستحضر في نفسه معنى آخر، وهو أن يصح بدنه.
· وكالذي يحضر لصلاة الجماعة تلبيةً لأمر الله عز وجل، وطاعة وعبودية له، ويلتفت لأمر آخر يجوز الالتفات إليه أن تثبت عدالته، وأن تقبل شهادته؛ لأن الذي لا يحضر مع الجماعة لا تثبت له عدالة، ولا تقبل له شهادة، ولا شك أن المسلم مطالب بتحصيل الأمور التي تثبت بها عدالته، وهذا غير الرياء والسمعة، هذا أمر يجوز الالتفات إليه، ولكن من نظر إلى هذا المعنى فهو دون الأول.
إذًا هما مرتبتان: أن يتمحض القصد لله عز وجل، الثانية: أن يريد وجه الله، ويلتفت إلى معنى آخر يجوز الالتفات إليه، هذه مراتب ودرجات المخلصين، الذين يقبل الله عز وجل أعمالهم، ولا تتكدر بشيء من الإشراك .
سادسًا: صعوبة الإخلاص: الإخلاص أمر عسير شاق على النفس، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل- كما سيأتي- يقول أويس القرني رحمه الله:'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .(/4)
أويس القرني هذا هو الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يطلب منه أن يدعو له، وأخبره أنه يأتي في أمداد اليمن، وذكر له صفته، فكان عمر يترقب ويتحرى حتى عثر عليه، فكلمه وسأله حتى استيقن أنه هو، وطلب منه أن يدعو له، ثم بعدها اختفى أويس فلم يعرف له أثر بعد ذلك، اختفى لشدة إخلاصه لما انكشف أمره خشي أن يتعلق الناس به، وأن يثنوا عليه ويطروه، وأن يتتبعوا آثاره يطلبون منه الدعاء، أو يطلبون منه أن يستغفر لهم، وما إلى ذلك، فاختفى في أجناد المسلمين، وخرج غازياً في سبيل الله عز وجل، ولم يوقف عليه بعدها، ومع ذلك يقول:'لن تعالج شيئاً أشد عليك منها' أي: النية .
ويقول يوسف ابن أسباط رحمه الله:' تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد' . قد يستطيع العبد أن يجاهد سنوات متواصلة، ولكنه قد يعجز كثيراً، أو يتعب كثيراً بمراقبة خطراته، وما يرد عليه من المقاصد والنيات، والواردات التي تقع في هذا القلب. قد يستطيع الإنسان أن يركع ويسجد ليلاً طويلاً، وأن يصوم النهار، ولكنه يصعب عليه أن يضبط قصده، وأن يتمحض هذا القصد لوجه الله عز وجل، وقد يسأل بعضكم لماذا كانت هذه الصعوبة؟ ولماذا كانت هذه المشقة في إكسير العبادة، وفي سر القبول، وهو الإخلاص؟ لماذا كان بهذه المشقة؟
ولماذا احتاج إلى هذه المجاهدة الكبيرة الطويلة حتى آخر اللحظات حينما يفارق الإنسان هذه الحياة ؟!!
أقول ذلك لأمور:
أولها: أن الإخلاص لا نصيب للنفس فيه، كثير من الأمور التي للنفس فيها حظ عاجل قد لا تضطرب على الإنسان فيه نيته، وإنما يُحصل بغيته بمجرد تعاطيها من ألوان اللذات، أما الإخلاص فالإنسان يجرد نفسه، ويجرد قصده من كل إرادة والتفات، فلا يلتفت إلى حظ عاجل يرجع إلى هذه النفس، ولا يريد من الناس أن يُقربوه، أو يُكرموه، أو يُعظموه، أو يسمعوا عن عمله الصالح، فيطروه على هذا العمل، هو لا يريد هذا،، فلاحظ للنفس فيه، وبالتالي كان ذلك عسيراً عليها.
أمر ثان سَبَّب صعوبة الإخلاص: وهو أن الخواطر التي ترد على القلب لا تتوقف، وكما ذكرت- سابقًا- : أن القلب يقال له: الفؤاد لكثرة تفؤده، أي لكثرة توقده بالواردات، وكذلك قيل له: القلب لكثرة تقلبه فهو كثير التقلب على صاحبه، فَأَمرٌ بهذه المثابة؛ يصعب على العبد أن يلاحقه، وأن يضبطه في كل لحظة من لحظاته، وفي كل حركة من حركاته، ولهذا يقول الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله تعالى- وهُوَ مَنْ هُوَ في العبادة والإخلاص يقول- :'ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي إنها تقلب علي' . ويقول يوسف بن الحسين رحمه الله:'كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر' . يقول: أجاهدها من هذه الناحية، وأسد هذا الباب، فينبت لي من ناحية أخرى، فقد يثني عليه بعض الناس ثم يقول من أنا ؟! ما مني شيء ؟! وليس لي شيء ! أنا المُكَدَّى وابن المُكَدَّى، ثم يقوم يتكلم وهو يحتقر النفس، وينقدح في قلبه إبراز جانب التواضع والإخبات، وعدم الالتفات للنفس، وأنه ليس من أهل العجب.
قد يتكلم العبد ويقول: البارحة في ساعة متأخرة من السحر سمعت كذا وكذا، ثم يقول: لكنى لم أكن في قيام، وإنما قمت لحاجة، هذا يطرد الرياء كما قال الصحابي لما قال: من رأى منكم الكوكب البارحة فقال: أنا، أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، هذا قالها خالصاً من قلبه، ولكن الإنسان قد يقولها خالصاً فينقدح له وهو يقولها معنى، وهو أنه يريد أن يظهر نزاهته عن الرياء ليقول للناس: لست من المرائين، فأمرٌ بهذه المثابة كيف نستطيع أن نضبطه في كل لحظة من لحظاتنا، وفي كل حركة من حركاتنا ؟
فالإنسان قد يذكر أشياء من جهود طيبة، ومشاريع خيرة والمقام قد يفهم منه السامع أنه هو الذي قام بها، ثم يستدرك ويقول:عِلماً بأن هذه الأمور ليس لي منها شيء، ولم أصنع منها شيئاً . هذا كلام جيد ليدفع عن النفس الرياء، لكن قد ينقدح في نفسه وهو يقول هذا الكلام أمرٌ آخر يفسد عليه، وهو أنه يبرهن على صحة قصده، ولا أعني بذلك إطلاقاً أن من قال ذلك، أنه متهم، لكني أريد أن أقول: إن شأن الإخلاص شأن كبير يحتاج إلى معاناة طويلة مدتها العمر بكامله، وهذه المجاهدة لا ينفك عنها العبد بحال من الأحوال، فيحتاج إلى بصر نافذ في خطراته وحركاته وسكناته.
سابعاً : ثمرات الإخلاص وآثاره السلوكية : هذه الآثار على قسمين:
آثار تحصل للعبد عن قريب، فتعجل له في دنياه.
وآثارٌ تؤجل فيجد ذلك في آخرته.
الآثار المعجلة للإخلاص: وهي كثيرة جداً منها:(/5)
· أولاً: وهو أَجَلّها وأعظمها: أن الإخلاص إكسير الأعمال الذي إذا وُضع على أي عمل- ولو كان من المباحات والعادات- حوله إلى عبادة وقربة، فإذا قام العبد بشيء من الأمور المباحة: كالنوم، أو الأكل، أو الشرب، أو المشي، أو غير ذلك، يريد به التقرب إلى الله عز وجل كأن يقوي بدنه ليجاهد في سبيل الله، وكأن ينام في النهار من أجل أن يقوم الليل، وكأن يأكل ليتقوى على الطاعة، فكل ذلك يكون عبادة في حقه؛ ولهذا كان السلف كما قال زبيد اليامي رحمه الله:'إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب' .
· ثانيًا: من ثمرات الإخلاص العاجلة: أن العمل به يكثر ويتعاظم: ولو كان العمل بالجوارح قليلاً إذا وُجد معه الإخلاص؛ فإن العمل يعظم، ويكون رابحاً؛ لأن الله عز وجل ينميه للعبد، ويجازى عبده المخلص بتكثير فعله حتى إنه ليجد ذلك العمل يوم القيامة فوق ما يحتسب، ويبارك في هذا العمل، تجد بعض الناس له أعمال محدودة ومشاريع لربما كانت صغيرة في عين أصحاب الهمم العالية، ثم إذا نظرت بعد حين تجد أن الله عز وجل أوقع فيه ألوان البركات بسبب هذه الأعمال القليلة التي يعملها بحركة بطيئة، عمل قليل لكن وُجد فيه النية، فنفع الله عز وجل به، وصار له من الآثار الحميدة مالا يقدر قدره، ولهذا يقول ابن المبارك رحمة الله: ' رُبَّ عمل صغير تكثره النية، وَرُبَّ عمل كثير تصغره النية '.
لربما قام الإنسان بمشروع صغير بنية صحيحة، فينفع الله عز وجل به، ولربما قام آخر بمشروع كبير، وصرف عليه أموالاً طائلة، ولكن الله عز وجل لم يبارك فيه لم يكد أحدٌ ينتفع بهذا العمل، ولهذا كان بعض السلف يوصي إخوانه بهذا الإخلاص وتصحيح النيات، يقول أحدهم لصاحبه: ' أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل '.
والله عز وجل قد أخبرنا عن المجاهدين الصادقين قال:} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ...[120] {[سورة التوبة] . فأعمال المجاهدين لا يكتب منها ما زاولوه عند مواجهة العدو فقط، وإنما يكتب لهم كل عمل عملوه بمجرد الخروج من بيوتهم بل يكتب للمجاهد إعداده لطعامه وشرابه، ويكتب له نومه، ويكتب له مشيه، ويكتب له كل شيء زاولهُ وعمله، ولو لم يلق عدواً، ولو لم يشهر سلاحاً في وجه عدو، كل ذلك يكتب له عند الله عز وجل، جوعهم يكتب لهم، وعطشهم يكتب لهم، وجراحهم تكتب لهم، ونفقاتهم في الطريق وفي غير الطريق تكتب لهم، كل ذلك يسجل في رصيد حسناتهم، وهكذا من خرج في طاعة لله عز وجل، ومن خرج حاجاً أو معتمراً، فكل نفقة أنفقها منذ أن خرج، وكل خطوة خطاها تكتب له في ميزان أعماله، وهكذا من سار في الدعوة إلى الله عز وجل ليقيم درساً، توجه ليعلم الناس العلم الشرعي الصحيح المبنيَ على الكتاب والسنة بعيداً عن البدع والأهواء، توجه ليدعو إلى التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا توجه إلى مسجده، أو إلى مدرسته، أو إلي أي مكان للدعوة إلى الله عز وجل؛ فإنه يؤجر على ذلك، ويكتب له ممشاه، تكتب له خطواته، ونفقاته التي أنفقها.
ويبين ذلك – وهو أمرٌ إذا استشعره العبد؛ هان عليه الكثير من الأتعاب، وهانّ عليه كثير من النفقات التي ينفقها – قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة: [مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه البخاري . هذا الفرس إذا ارتوى، وإذا شبع، وإذا أخرج روثاً، وإذا بال، بل حتى الخطوات التي يخطوها الفرس وهو يجول؛ تكتب لصاحبه وهو في بلده؛ لأنه قصد في هذا الفرس ليس المباهاة، وليس العبث، وإنما قصد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولهذا قال داود الطائي رحمه الله:' رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن القصد، وكفاك به خيراً وإن لم تصنعه' .(/6)
· ثالثاً: من ثمرات الإخلاص العاجلة: أنه الطريق إلى محبة الله عز وجل ونصره ورعايته: فالله عز وجل يقول عن أهل بيعة الرضوان:} لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18] {[سورة الفتح] . قال:} فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ { فرتب على علمه بما في القلوب: وهو الإخلاص والصدق، وصدق العزيمة والإرادة، وصحة القصد، علم ذلك؛ فرتب على هذا العلم قال: } فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ{ ومعلوم أن الحكم المرتب على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فكلما زاد إخلاص العبد؛ كلما ازدادت هذه الأمور التي تتنزل عليه من نصر الله عز وجل، وطمأنينة القلب وسكينة النفس، وكل ذلك يكون بحسب قصده وإخلاصه:} فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ { والتعقيب بالفاء بعد قوله:} فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ { حيث قال:} فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا { يدل على أن سبب نزول السكينة عليهم، وسبب إثابتهم لهذا الفتح القريب هو علمه ما في قلوبهم من إخلاص، دل ذلك على أن الإخلاص سبب للانتصار، وأن الإخلاص سبب لنزول السكينة في قلوب المؤمنين في القتال، وعند مواجهة الأعداء، وعندما يرجف بهم الناس من كل جانب، ويخوفون بالذين من دون الله عز وجل فيثبتون .
كل ذلك بسبب الإخلاص، ولهذا ينبغي للمجاهدين أن يخبتوا لله عز وجل، وأن يراقبوا مقاصدهم ولا يصدر منهم قولٌ ولا فعل يخالف ذلك؛ لأنهم قد يهزمون بسبب هذه المقاصد والإرادات السيئة، فإياك أن يشتد بأسك على العدو، أو يشتد وعيدك وتهديدك من أجل معنى فاسد في نفسك، إياك أن تهرول في وجه العدو وتعرض نفسك للموت وأنت تريد معنىً فاسد .
· رابعاً:من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة: أن صاحبه يُسدد وتنبع الحكمة في قلبه، وتصدر على لسانه: كما قال أحد علماء التابعين رحمة الله تعالى:'ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه' . وقد قال سفيان بن عيينة رحمه الله نحواً من هذا، وزاد عليه:'وبصَّره عيوبَ الدنيا: داءَها ودواءَها' .
فإذا صدق العبد مع الله عز وجل؛ فإن الله يسدده، ويوفقه، ويرشده إلى كل خير، وإذا نزلت الفتن واختلط الحق بالباطل، والتبس ذلك على كثير من الناس؛ فإن أهل الصدق يهدديهم ربهم بإيمانهم، ويوفقهم للصواب ،ويظهره على أبيديهم، وتنطق به ألسنتهم، وإذا كان العبد سيئ القصد؛ فإنه يخذل أحوج ما يكون إلى النصرة، فإذا وقعت الفتن- نسأل الله العافية- تخبط في موضع الفتن، وتمرغ فيه، وانغمس في ألوان من الضلالات، وصدر عنه أمور عجيبة مع سعة علمه، وفرط ذكائه إلا أن الذكاء وحده لا ينفع إن لم يكن معه إخلاص، والعلم وحده لا ينقذ إن لم يكن معه إخلاص، إن لم يكن القلب عامراً بتقوى الله عز وجل وإرادته دون إرادة الدنيا، ولذلك تجد كثيراً من الناس إذا وقعت الفتن، واشتبكت الأحوال وكثر الخلاف بين الناس فهذا يقول كذا، وآخر يرى أن ذلك من أعظم الإفساد في الأرض، تجد أهل الإخلاص يتبينون الحق ولا يبقى ملتبساً عليهم، فالله عز وجل يسددهم، ويهديهم، ويرشدهم، نسأل الله عز وجل أن يسددنا وإياكم .
· خامساً: من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة:أن صاحب الإخلاص يكفيه الله عز وجل من وجوه عدة: ومن هذه الكفايات التي تحصل للمخلصين:
أولها: أن الله عز وجل يكفى هذا العبد المخلص شأن الناس، ما بينه وبين الخلق، فلا يصله شيء يكرهه من جهتهم، وبالتالى لا يعيش تُؤَرَّقه الهموم؛ لأن هؤلاء يقعون في عرضه، ويظلمونه، ويعتدون عليه، فالله عز وجل يكفيه ذلك كما قال الله عز وجل:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ... [36] {[سورة الزمر] .
'عَبْدَ' مفرد أضيف إلى معرفة وهو الضمير:'الهاء' :} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{ والمفرد إذا أضيف إلى معرفة أكسبه العموم، والمعنى: أليس الله بكاف عباده، وهي قراءة أخرى متواترة في الآية: :} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عِبْادَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ... [36] {[سورة الزمر] . الله يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار بإخلاصهم. والمعنى الثاني:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{ أي: نبيه صلى الله عليه وسلم.(/7)
والمقصود: أن الله عز وجل عبر بالعبودية هنا التي أضافها إلى نفسه، ما قال: أليس الله بكافٍ خلقه، أليس الله بكافٍ محمداً، وإنما قال:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{ ليدل ذلك على أن سر الكفاية هو تحقيق العبودية، وهل يمكن أن تتحقق العبودية بغير الإخلاص؟ لا يمكن ذلك؛ لأنه سرها، ولهذا فإن الله عز وجل يكفى العبد كما أخبره، ويجعل له ألوان الكفاية بقدر ما عنده من تحقيق العبودية؛ لأن الحكم – وهو الكفاية هنا – المرتب على وصف – وهو: العبودية: } عَبْدَهُ{ -، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فكلما ازدادت عبودية العبد لله؛ كلما ازدادت كفاية الله عز وجل له، فازدد عبودية يزدك الله عز وجل كفاية وحفظاً .
يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ' من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ' . يقول ابن القيم معلقاً عليه في كتابه البديع 'إعلام الموقعين':'هذا شقيق كلام النبوة' . يقول: هذا نظير لكلام النبوة، يشبه كلام النبوة، 'وهو جدير بأن يَخرُج من مِشكَاةِ المُحَدَّث المُلهَم' عمر من المُحَدَّثين من المُلهمين للصواب، يقول ابن القيم:'وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومَن أَحسَن الإنفاق منهما؛ نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع، فأما الكلمة الأولى، وهى قوله:'من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس'
يقول ابن القيم:'فهى منبع الخير وأصله' والثانية: وهي قوله:'من تزين بما ليس فيه شانه الله' يقول:' والثانية أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى، وكان قصده وهمه، وعمله لوجهه سبحانه؛ كان الله معه، فإنه سبحانه:} مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128] {[سورة النحل] . ورأس التقوى والإحسان: خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه، فمن ذا الذي يغلبه، أو يناله بسوء، فإن كان الله مع العبد، فمن يخاف وإن لم يكن معه، فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده . فإذا قام العبد بالحق على غيره، وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله ولله؛ لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال؛ لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجاً ومخرجاَ.
وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل؛ لم يُنصر، وإن نُصر نصراً عارضاً، فلا عاقبة له، فينصر مؤقتاً فترة زمنية ثم لا تكن له العاقبة، ينهزم بعد ذلك وينكسر، يقوم وهو مهزوم مخذول. وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة فإن الله ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه فإنه ليس من المتقين، ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقاً؛ كان منصوراً له العاقبة ' ا.هـ [إعلام الموقعين 2/178] .
ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: 'إنما الله يريد منك نيتك وإرادتك، ومن أصلح ما بينه وبين الله؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسّر أحد سريرة إلاّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص ' . فالناس لا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تتجمل لهم بعملك الصالح، الله يكفيك شأن الناس:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{ إنما عليك أن تصلح ما بينك وبين الله جل جلاله .
من سلسلة:'أعمال القلوب' للشيخ / خالد بن عثمان السبت(/8)
الإخلاصُ ثمرةُ المعرفة
محمد توم حامد علي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد فإن الإخلاص في اللغة: النجاة، يُقال: خلص الشيء: إذا نجا وسلم من كل نَشَبٍ، والمخلص الذي وحَّد الله تعالى خالصاً؛ ولذلك قيل لسورة (قل هو الله أحد): سورة الإخلاص؛ لأن المتحقق بها قد أخلصَ التوحيدَ لله عز وجل.
كما يأتي الإخلاصُ بمعنى الاختصاص، فيُقال: استخلص الشيء لنفسِه: أي اختصَّ نفسَه به، فكذلك إخلاص العمل لله: أن تخصَّ به اللهَ دون غيره.
أما في الاصطلاح، فقد ذكر العلماءُ معانيَ كثيرةً للإخلاص، لكنَّ أكثرَها شمولاً هو قولُ أبي محمد سهل بن عبد الله التستري: "نظَرَ الأكياسُ، فلم يجدوا غيرَ هذا: أن تكون حركاتُه وسكناتُه في سرِّه وعلانيتِه لله تعالى وحدَه لا يُمازجه شيءٌ: لا هوى ولا نفسٌ ولا دنيا".
فالإخلاصُ من أعظم الصفات التي يتصف بها المسلم، قال تعالى: (ومن أحسنُ قولاً ممن أسلمَ وجهَه لله وهو مُحسنٌ) [النساء 125]. فإسلام الوجه: إخلاصُ القصد والعمل لله، والإحسانُ فيه: متابعةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنته، قال تعالى: (الذي خلق الموتَ والحياةَ ليبلوَكم أيكم أحسنُ عملاً) [الملك 2]، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: هو أخلصُه وأصوبُه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصُه وأصوبُه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكنْ صواباً لم يُقبَلْ؛ حتى يكون خالصاً صواباً، والخالصُ أن يكون لله، والصوابُ: أن يكون على السنة. قال الله عز وجل: (فمن كان يرجو لقاءَ ربِّه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشركْ بعبادةِ ربِّه أحداً) [الكهف 110]، وقال تعالى: (قل إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرْتُ وأنا أولُ المسلمين) [الأنعام 162-163].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمة المسلمين، ولزومُ جماعتِهم؛ فإنَّ دعوتَهم تُحيط مَن وراءهم) [رواه الترمذي وأحمد]. والمعنى أنَّ القلبَ لا يحمل الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاث؛ فإنها تنفي الغِل والغش وفساد القلب وسخائمه. فإخلاصُ المسلم يمنع غلَّ قلبِه، ويُخرجه ويُزيله جملةً؛ لأنه قد انصرفتْ دواعي قلبِه وإرادته إلى مرضاةِ ربِّه؛ فلم يبقَ فيه موضعٌ للغل والغش. فينبغي لكل مسلمٍِ أن يخلصَ عملَه لله عز وجل، وأن يسأل الله أن يمنَّ عليه بهذه الصفة الحميدة وهذه الخصلة العظيمة؛ فقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: تركُ العملِ لأجلِ الناسِ رياءٌ، والعمل لأجل الناسِ شرك.
قال الحافظ ابنُ حجر: المرء يؤجر بنيتِه كما يؤجر العامل؛ فسَلِ اللهَ الإخلاص وتجنب الرياء، قال علي بن الحسين: إني لأستحيي من الله أن أرى الأخَ من إخواني؛ فأسأل الله له الجنةَ وأبخل عليه بالدنيا؛ فإذا كان غدا قيل لي: لو كانت الدنيا بيدك كنتَ بها أبخلَ وأبخل. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسِّن في لوائحِ العيون علانيتي، وتُقبِّح في خفياتِ العيون سريرتي؛ اللهم كما أسأتُ فأحسنتَ إليَّ؛ فإذا عدتُ فعدْ عليَّ.(/1)
فإخلاصُ النيةِ واجِبٌ من الواجباتِ، قال عون بن عمارة: "سمعتُ هشاماً الدستوائي يقول: واللهِ ما أستطيعُ أن أقولَ: إني ذهبتُ يوماً قط أطلبُ الحديثَ أُريد به وجهَ الله عز وجل". قال الإمام الذهبي رحمه الله معلقاً على قول هشام الدستوائي: "واللهِ ولا أنا؛ فقد كان السلف يطلبون العلمَ لله؛ فنبلوا وصاروا أئمةً يُقتدى بهم، وطلبَه قومٌ منهم أولاً لا لله وحصَّلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسَهم؛ فجرَّهم العلمُ إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبْنا هذا العلمَ وما لنا فيه كبيرُ نيةٍ ثم رزقَ اللهُ النيةَ بعدُ، وبعضُهم يقول: طلبْنا هذا العلمَ لغير الله فأبى أن يكونَ إلا لله. فهذا أيضاً حسنٌ، ثم نشروه بنيةٍ صالحة. وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنَى عليهم؛ فلهم ما نوَوا، قال عليه السلام: ((مَن غزا ينوي عقالاً؛ فله ما نوى)) [رواه أحمد والدارمي والنسائي]. وترى هذا الضربَ لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمهم كبيرُ نتيجةٍ من العمل؛ وإنما العالمُ مَن يخشى اللهَ تعالى، وقومٌ نالوا العلمَ وولوا به المناصب؛ فظلموا وتركوا التقيُّدَ بالعلم وركبوا الكبائرَ والفواحشَ؛ فتباًّ لهم فما هؤلاء بعلماء! وبعضُهم لم يتقِ الله في علمِه، بل ركبَ الحِيَلَ وأفتى بالرُّخَص وروى الشاذَّ من الأخبار، وبعضُهم اجترأ على الله ووضعَ الأحاديثَ فهتكه الله وذهبَ علمُه وصار زادَه إلى النار. وهؤلاء الأقسامُ كلُّهم رَوَوا مِن العلم شيئاً كبيراً، وتضلَّعوا منه في الجملة، فخلفَ من بعدِهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قومٌ انتمَوا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ؛ أوهموا به أنهم عُلماء فُضلاء، ولم يَدُرْ في أذهانِهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم؛ فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما؛ فيُصحِّف ما يُورده ولا يُقرِّره؛ فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، كما قال بعضُهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيتُ عالماً. وقال رجلٌ لابن الجوزي رحمه الله: ما نمتُ البارحةَ مِن شوقي إلى المجلس؛ قال: لأنك تريد الفُرجة؛ وإنما ينبغي الليلةَ أن لا تنام. فأخلصْ تُفلحْ وتمنَّ دائماً وأبداً صفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: لو صفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا. روى أحمد بن زهير عن يحيى قال: إذا رأيتَ إنساناً يقع في عكرمة وحماد بن سلمة؛ فاتهمْه على الإسلام، وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: رُبَّ عملٍ صغير تُكثِّره النية، ورُبَّ عملٍ كثير تصغِّره النية! وقال: مَن استخفَّ بالعلماء ذهبتْ آخرتُه، ومن استخفَّ بالأمراء ذهبتْ دنياه، ومن استخفَّ بالإخوانِ ذهبتْ مروءتُه. واعلمْ أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل؛ فاصدُق النيةَ مع الله تعالى؛ فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءها؛ وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال" لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق"!
ولا يخفى أنَّ ما ذكره الذهبي رحمه الله من حالِ علماء السوء قد عمت به البلوى في هذا الزمان، وأدهى من ذلك وأمر أن يُفتيَ أحدُهم بالفتوى مُخالِفاً لنصوصِ القرآن والسنة وإجماعِ سلفِ الأمة؛ فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، قال أُويس القرني رحمه الله: وإذا قمتَ فادعُ اللهَ أن يُصلحَ لك قلبَك ونيتَك؛ فلن تُعالجَ شيئاً أشدَّ عليك منهما. فمن خلصتْ نيتُه في الحق ولو على نفسِه كفاه الله ما بينَه وبين الناس. وقال محمد بن واسع رحمه الله: إن الرجل ليبكي عشرين سنةً وامرأتُه لا تعلم!
فلله در المخلصين؛ فإخلاصُهم سرٌّ مصونٌ في مسكِ القلبِ ينبِّه ريحُه على حالِه. وحتى تلحق بقوافل المخلصين اعلمْ أنه لا ينفع قولٌ إلا بعملٍ، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ إلا بنيةٍ، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ ولا نيةٌ إلا بما وافقَ السنة.
وحتى تلحقَ بقوافلِ المخلصين عِشْ سالمَ الصدرِ طاهرَ القلبِ عن الغش والغل وسائرِ أمراضِ النفوس، ولا تحضرْ مواطنَ الغِيبة ولا تُشاركْ المغتابين، ولا تحتقرْ أحداً من عبادِ الله صالحاً أو طالحاً؛ لأن أفعالَهم تجري على ما سبقَ به القضاء وكتب القلم.
اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ والقصد، وارزقنا الإخلاصَ في السر والعلن، اللهم أحيِنا مُخلِصين وتوفَّنا مُخلِصين واحشرْنا مع المخلِصين يا ربَّ العالمين. آمين.(/2)
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
الإخوان.... والبرلمان !!
إن الأحداث العالمية أصبحت تترابط الآن وتنذر أن الأمة الإسلامية في خطر عظيم, وأن الواجب الذي غفلت عنه الأمة الإسلامية الآن هو التناصح بما يفيد هذه الأمة, واللجؤ إلى الله تعالى بإخلاص مع متابعة المنهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فبالنسبة لأمر النصح لهذه الأمة ليحتم على كل من يستطيع ولو بشيء من التذكير أن يقوم بهذا الواجب, ولقد كان الكلام عن الأمة ليشمل الجو المحيط أو البيئة التي يعيش فيها الداعية أو طالب العلم - المسجد وما حوله- ولكننا في عصر أصبح الكلام فيه كلاماً عن الواقع العالمي كله وعن الأمة الإسلامية كلها شئت ذلك أم أبيت.
ومن هنا فإن طابع الحديث عن المرحلة المعاصرة للأمة، سيكون طابعاً شمولياً لا يتحدث عن بيئة معينة، ولا عن وضع بذاته.
فالذي يتابع الأحداث في العالم الإسلامي يرى أن الفتن تصب كالقطر من السماء, فهذه المرحلة التي نعيشها وتعيشها الأمة هي أخطر مرحلة مرت بها في التاريخ الحديث.
فإنك ترى الحيرة والتخبط هو القاسم المشترك بين أكثر الدعاة إلى الله من أبناء هذه الصحوة, فقد اتسعت دائرة الخلاف بصورة تدعو إلى الدهش من تفرق واجتماع ! فلا يدري من تفرق على ما تفرق! ولا من اجتمع على ما اجتمع! فقد عظمت الأهواء وربما يقع الخلاف على أوهى الأسباب وربما ترى الترابط والاجتماع بين بعض الفئات رغم اختلاف الوجهات العقائدية والمنهجية ولكنه يقوم على فكرة التكتل مع غض الطرف عن باقي المسلمات, ولا يعني هذا أن ننكر المحاسن!!! بل إن العالم الآن يقف مشدوها أمام هذا الدين الذي قام أبناؤه بعد نوم طويل وثبات عميق, ولكن هذا الانتشار والتشرذم وعدم تحديد المنهج؛ أوقع وهنا وضعفا بين أبناء هذا الدين .
ولعل من أبرز الجماعات التي ظهرت بشكل واضح على الساحة الآن وهي تدعوا إلى الإصلاح والتغيير هي جماعة الإخوان المسلمين وهي من أوسع الجماعات الإسلامية انتشارا ومن أكثرها ترابطا رغم الإختلاف المتباين بين أعضاء جماعتهم في العقائد والمنهج؛ فمنهم المحب للسلفية ومنهم الخلفي المنكر لمنهج السلف, ومنهم الصوفي من أرباب القبور, ومنهم الجهمي المتخبط في الأسماء والصفات, ومنهم الملتزم ومنهم المفرط, وقد نراهم يشددون في أمر الجماعة والتكتيل, ويتهاونون في أعظم الأمور كالعقيدة والمنهج تحت قاعدتهم المشهورة "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه", وهذا فيما يتعلق بجماعتهم فقط !!فربما لا يعذرون المخالف ولا يلتفتون لرأيه, مع التسلسل الزمني في المكانة والإمارة عندهم؛ وبهذا تكون الدائرة متسعة ونسبة الترابط بينهم في ظاهر الأمر قوية بالنسبة للجماعة.
وربما يسير على نهجهم بعض الجماعات المنتسبة إلى السلفية القائمة على التكتيل والتجميع الغير قائم على "التصفية والتربية" فربما يكون الاتفاق على الفكرة العامة وهي المنهج السلفي؛ دون اعتبار بتزكية الداخل معهم من إزالة لما هو علية من آفات وبلايا؛ حتى ربما يكون ضرره أشد من ضرر غيره, مع التهاون في حق العلم والعلماء, فأي شخص يقرأ كتابا أو يسمع درسا قد يأتي في الحلقة القادمة ويكون هو المعلم وهو المدرس, مما جرأ بعض الشباب على غيرهم من أهل العلم والفضل من إظهار عيوبهم الخاصة التي قد تكون نسجا من الخيال أو بتأويل فاسد منهم .
فيكون الأصل هو القاعدة الإخوانية "من غض الطرف عن أخطاء الموافق ويسعون في هتك أستار المخالف" فولد من هذه الفئة فئة قريبة من دعوة الإخوان بل ربما يتم التلاقي عند توافق الأهواء كما وقع من مشاركات لبعضهم في الهتافات والتظاهرات الأخيرة للإنتخابات وغيرها من صور التقارب, بل كثيرا ما يشيدون في مجالسهم بالتنظيم القوي الذي عليه جماعة الإخوان.
وقد يختلفون عن جماعة الإخوان أن نسبة الرجوع فيهم كبيرة في غير العاملين في المجال التنظيمي أو ممن حماه الله بتزكية أو علم على يد بعض المشايخ أو طلبة العلم, وذلك لعدم خروجهم عن الإطار العام للسلفية.
وجماعة الإخوان المسلمين ترى التغيير من الرأس ولذلك لها صولات وجولات مع حكام المسلمين منذ نشأتها, وقد لاقت عناءً واضطهادا عظيما منذ نشأتها حتى أن المتتبع لسيرتهم يقشعر بدنه, ويقف شعره وهو يسمع عن أعظم صور التعذيب التي وقعت على بعضهم, ورغم ذلك لم يتم لهم التمكين المنشود ولم تقم لهم الدولة التي يسعون إليها؛ بل هم في تنازلات مستمرة!!(/1)
ولعل من أهم أحداث الساعة في مصر هو ترشيح الإخوان ونزولهم بصورة تنظيمية لمجلس الشعب مع الإعلان ولأول مرة عن هويتهم في الترشيح! ومن إظهار وتلميح بالقوة! ومن إظهار لمفاسد وعيوب النظام! وما لاقوه من نجاح ملحوظ مما أدى إلى ذهول العالم وتعجبه رغم المضايقات التي وقعت في الجولات الأخيرة! وقد يكون هناك أسباب يختلف فيها كثير من أهل العلم في هذا الباب منها حب الناس المستمر للتغيير أو كراهية الأوضاع القائمة .... الخ, ولكن ترى هل هذا باب من أبواب التمكين؟! وهل الإخوان الآن بدأوا أول سلم الوصول أم أنها بداية المحن المتكررة لهذه الجماعة؛ وربما لغيرها من الجماعات التي على نفس الطريق, نعم إن هذه الجماعة بها فضلاء وأقوام لهم مكانة بين نفوس العامة, ولكن كما هو معلوم أن السمع والطاعة ملزم عندهم وأن الرأي في الأول والأخير للأغلبية كما هو معلوم عند أصحاب الجماعات والتنظيمات!!!!!!! .
ولا أريد أن أدخل في تفاصيل, ولكن الذي أجده لزاما علي هو النصح لنفسي وإخواني وغيرهم من عامة المسلمين بعد أن رأيت أن الغالب بات يحلم بالدولة التي تقيم شرع الله عز وجل, وهذا ما يتمناه كل مسلم على ظهر الأرض, ولكن يخشى أن تتعاظم الأحلام وتتعدى الواقع الذي هو سنن الله الكونية والشرعية .
فالتمكين ثمرة من ثمار الدعوة إلى الله عز وجل والدعوة إلى الله تبارك وتعالى لابد أن تكون قائمة على بصيرة وعلم وأن تنطلق من الإخلاص لله رب العالمين والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وهي من أفضل ما وَرِثَهُ الدعاة إلى الله بحق عن أنبياء الله ورسله الكرام ، الهداة الناصحين وقدوة الدعاة إلى الله الصادقين الذين لا غرض لهم من وراء دعوتهم إلا مرضاة ربهم وهداية عباده وإرشادهم إلى تحقيق الغاية الكبرى التي خلقهم الله تعالى من أجلها وسخر لهم ما في السموات والأرض عوناً لهم على القيام بهذه المهمة العظمى وحقوقها ومستلزماتها .
فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه, وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له كما بعث الله بذلك رسله وأنزل به كتبه قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ الشورى : 13 ] وقال تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [ الزخرف : 45 ] وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ….) [ النحل: 36 ] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ].
وللنصيحة مكانة عظيمة في الإسلام . النصيحة للمسلمين في عقيدتهم وعبادتهم في الدرجة الأولى . وفي دنياهم ومصالحهم وأمور معاشهم وفي كل شأن من شؤونهم . ذلك هو منهج الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم . وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضاً وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع . فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ) [ رواه مسلم 1844 ] .
هذه هي دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نهاية النصح والأمانة : الدلالة الكاملة على كل خير وفي مقدمته التوحيد والتحذير من كل شر وفي مقدمة ذلك الشرك . لقد أخبر الله جل وعلا عن المسؤولية المشتركة في عملهم الدعوي أنها الدعوة إلى التوحيد وهو ضد الشرك فقال : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) { النحل 36 } . فلما كذبهم من كذبهم وضللهم من ضللهم وسفههم من سفههم من أممهم قال أولهم نوح عليه الصلاة والسلام (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) { سورة الأعراف: 61-62 } وقال هود ( يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) { سورة الأعراف 68} وقال صالح بعد أن أهلك الله قومه المكذبين ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) { سورة الأعراف : 79 } وأخبر الله عن عدد من رسله في سورة الشعراء أن كل واحدٍ منهم قال لقومه (إني لكم رسول أمين).{ سورة الشعراء : 178،162،143،125،107 } .(/2)
فتبليغ رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجهها بدءاً بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك يجب أن يكون سمة بارزة ودعامة مكينة وقاعدة صلبة للدعاة إلي الله جماعات أو أفراد وذلك هو مقتضى النصيحة والأمانة وبرهان الوراثة الصحيحة وصحة المنهج الذي يسيرون عليه.
وأبرز مجالات النصيحة والأمانة أمران هما :
1- الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله كافة :
التوحيد الذي يحاربه الشيطان أشد الحرب في كل الأحقاب و الأجيال من عهد نوح عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة . ذلكم التوحيد العظيم الذي يبذل الشيطان وجنوده كل جهودهم ومكايدهم لصرف بني آدم عنه .
عن عياض بن حمار المجاشعي_ رضي الله عنه_ إن النبي صلى الله عليه و سلم خطب ذات يوم فقال في خطبته :[إن ربي عز وجل أمرني إن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم ان يشركوا بي مالم انزل به سلطانا] ]أخرجه مسلم في كتاب الجنة حديث 63)[.
إن الدعوة إلى هذا التوحيد وإلى هدم ضده وهو الشرك بالله الذي لا يغفره الله، لهما موضع الصراع بين الأنبياء وأممهم وبين خاتم الرسل صلى الله عليه و سلم وأعداء الله المشركين وبين المصلحين من أئمة الإسلام وأهل البدع من القبوريين من شتى الطوائف الرافضية والصوفية الذين امتلأت كثير من بقاع العالم الإسلامي بمظاهر شركهم. من قبور وأعياد و احتفالات بل كثير من مساجد الله تضج من هذه القبور وما يدور حولها من فظائع الشرك بالله من هتافات واستغاثات، وذل وخضوع، وذبائح ونذور على مرأى ومسمع ورضى وتقرير من كثير من جماعات سياسية وصوفية تنتحل الدعوة إلى الله وتدعي هداية البشر إلى صراط الله.
قال تعالى:[ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين] [ النحل : 36 ] . وقال تعالى:[وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون] [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى:[ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ] [ الزمر : 65)
ومع هذا الشمول والسعة فإن الترتيب والبدء الأهم فالأهم واضح كل الوضوح في الرسالات جميعاً، وفي دعوة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ومما يؤكد قصد الترتيب توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله : [ إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـــ ووفي رواية إلى أن يوحدوا الله ــ وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب[ [ أخرجه البخاري في المغازي؛ حديث ( 4347) ومسلم في الإيمان ؛ حديث ( 29 ، 30 ) .
وحديث بريدة بن الحصيب والنعمان بن مقرن رضي الله تعالى عنهما قالا : [ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا بعث أميراً علي سرية أو جيش أوصاه بتقوي الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً ...] [ أخرجه مسلم في الجهاد ؛ حديث ( 1731 ) ، وفيه أمره بدعوتهم إلى ثلاث خصال ومنها دعوتهم إلى الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوا فالقتال . فالترتيب واضح وقاعدة مستمرة في سيرته ووصاياه للدعاة وأمراء الجيوش والسرايا .
فالواجب على وراثة الأنبياء حقاً التزام هذا المنهج ، ولا يجوز لهم مخالفته شرعاً ولا عقلاً للأمور الآتية :
أولاً : أنه هو المنهج الذي ارتضاه الله لجميع الأنبياء فساروا عليه في دعوات أممهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم . فالخروج عنه منابذة لأمر شرعه الله ونفذه رسله وفيه استدراك على الله وعلى رسله وكتبه وطعن في علم الله وحكمته من حيث لا يشعرون .
ثانياً : أن الأنبياء التزموه وطبقوه مما يدل دلالة واضحة أنه ليس من ميادين الاجتهاد .
ثالثاً: أن الله قد أوجب على رسولنا الكريم الذي فُرِضَ علينا اتباعه أن يقتدي بهم ، ويسلك منهجهم فقال بعد أن ذكر ثمانية عشر رسولاً . ( أولئك الذين هدي الله فبهداهم اقتده ) [ سورة الأنعام : 90 ] وقد اقتدى صلى الله عليه وسلم بهم في البدء بالتوحيد وأكد ذلك حق التاكيد وباهتمام شديد .(/3)
رابعاً: ولما كانت دعوتهم في أكمل صورها تتجلى في دعوة خليل الله إبراهيم أبي الأنبياء وقدوتهم زاد الله الأمر تأكيداً فأمر نبينا محمداً صلي الله عليه وسلم باتباع منهجه فقال : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) [ سورة النحل : 123 ] . والأمر باتباعه يشمل الأخذ بملته التي هي التوحيد ومحاربة الشرك ، ويشمل سلوك منهجه في البدء بالدعوة إلى التوحيد .
2-الدعوة إلى اجتماع الأمة على أساس عقيدة التوحيد ، وعلى أساس الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح من هذه الأمة ، والنهي عن الفرقة والتفرق ، والتكاتف بين الدعاة للقضاء على أسبابه :
وأما الدعوة إلى اجتماع الأمة وائتلافها على الأساس الذي ذكرناه والنهي عن الاختلاف والتفرق والتحزب, فالإسلام دين توحيد واجتماع دعا إلى ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأدرك ذلك بعمق صحابته الكرام عليهم الرحمة والرضوان ومن تابعهم بإحسان من أئمة الإصلاح والهدي والنصح للأمة . قال الله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) ]آل عمران:103[ و قال تعالى (و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ]الأنعام:153[ و قال تعالى(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) ]الأعراف:3[ و أمر الله في آيات كثيرة بطاعته و طاعة رسوله و اتباع كتابه و اتخاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة لتأتلف على ذلك القلوب و النفوس و المشاعر.بعد رجاء الله و اليوم الآخر و الظفر بما عند الله من النعيم المقيم . و أمر باتباع سبيل المؤمنين و هو إجماعهم و اجتماعهم على الحق و توعد من يحيد عن ذلك . فقال جل شأنه (و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيراً) ]النساء :115[ وأخبر تعالى بواقع المؤمنين الذي يجب أن يكون ويجب أن يحققوه عملياً أنه الأخوة قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) ]الحجرات : 10[ . وأمر الله ببر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار وذوي القربى وغير ذلك من وجوه البر والإحسان التي توثق أواصر المودة والمحبة وتحقق هذا الاجتماع المشروع والتماسك المطلوب على الوجه الذي يرضي الله وعلى الأساس الذي شرع الاجتماع لتحقيقه .
وأتت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ـــ مؤكدة هذا الأمر العظيم . فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالاعتصام بالكتاب والسنة ونهي عن التفرق .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ،و إياكم و محدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) ]أبو داود في السنة حديث (4607)،و أحمد (4/126)،و الترمذي في العلم حديث (2676) [و قوله صلى الله عليه و سلم :(إن الله يرضى لكم ثلاثا و يسخط لكم ثلاث يرضى لكم أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا ،و أن تعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا، و أن تناصحوا من ولاه الله أمركم،و يكره لكم قيل و قال و كثرة السؤال) ]مسلم الأقضية حديث(1715)،و أحمد (2/367)،و مالك في الموطأ 2/990[ و ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال(خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطاً ثم قال :هذا سبيل الله ،ثم خط خطوطاً عن يمينه و عن شماله و قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه و قرأ (( وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)) ]أخرجه أحمد في المسند حديث(4142)، و الحاكم في المستدرك (2/318)،و الآية من سورة الأنعام رقم 153[ و قوله صلى الله عليه و سلم(ذروني ما تركتكم ،فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيئ فاجتنبوه و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ]البخاري في الاعتصام حديث (7288)،و مسلم في الحج حديث (1337) [
إن مفهوم الخلاف انطمس عند أكثر المنتسبين لهذه الدعوة وأصبح قاصرا على تفرق الأبدان بينما نرى في الجماعة الواحدة من الخلاف العقائدي والمنهجي كما بين المشرق والمغرب .(/4)
نعم لقد وجد هذا الأمر الخطير من قبل، واستمر وتمادى فيه أهله قروناً و استمرؤوه و ركنوا إليه و لم تبذل الجهود الجادة لإنهائه و تخليص الأمة منه و لم يلتفت قادة الفتن و الفرقة إلى قوله الله تعالى:(فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا) ]النساء :59[ .لم تبذل الجهود للقضاء عليه إلا من أئمة أهل السنة الطائفة الناجية المنصورة . و كل المحاولات من غير هذه الجهة لم تكن موفقة في تلك المحاولات وما كانت تعرف ولا تهتدي إلى طرق العلاج الصحيح بل ما يأتي علاجها إلا من باب "وداوني بالتي هي الداء" ،بل وما تزيد الطين إلا بلة ، بل تجدها تهون من شأن الخلاف العقائدي والمنهجي وخطورته وترى أنه أمر ضروري يجب التسليم به بل أضحت المحاولات لإنهائه أو تضيق نطاقه أمراً مستنكراً يفرق الأمة . لا سيما في هذا العصر الذي استهانت فيه الدعوات السياسية الحزبية بقضية الخلاف حتى في العمق العقائدي ونشطت للتقريب بين جميع الفرق والطوائف بغض النظر عن المنهج أو العقيدة .
نعم لهذا الفكر تؤلف اليوم المؤلفات لترسيخ هذه الاختلافات تحت شعار (( جواز التعدد السياسي )) وتحت شعار (( نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)) . دون التفات إلى مقررات القرآن والسنة ومنهج علماء الأمة في خطورة الخلاف العقائدي والمنهجي وشره وضرره .
وفي وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة والقضاء على الخلاف والفرقة أو تضييق نطاقه حسب المستطاع . لقد اشتد البلاء على العقلاء من أهل الحق الذين تسؤهم هذه الإنحرافات ويقض مضاجعهم تفرق هذه الأمة إلى شيع وأحزاب [كل حزب بما لديهم فرحون]المؤمنون: 53 ، الروم 32.ويرون أن من النصح لهؤلاء السعي الجاد في تبصيرهم وإرشادهم إلى الخروج مما هم فيه من واقع مرير في هذه الدنيا . وأشد منه ما يخشى عليهم من العقاب والعذاب في الآخرة.
لهذا يجب على كل من أدرك قيمة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي جمعت القلوب والنفوس على الحق الخالص ورسخت فيها معاني الخير ، ووفرت أسباب الود والإخاء في الله ولله وقضت على أسباب الفرقة والاختلاف وجعلت من أفراد الأمة لبنات صالحة ثم قلعة حصينة يشد بعضها بعضاً.
أما الدعوات إلى مجرد التجميع واللملمة على الدخل والدخن ، والجمع بين المتناقضات من العقائد والمناهج ، والمتنافرات من القلوب والمشاعر ؛ فإن ذلك لا يحقق شيئاً يرضي الله ولايرفع سخطه عمن خالفوا ما رضيه وشرعه من الدين عقائد وأحكام.
وإني أنصح إخواني بعد العاجلة في قطف الثمرة فلن يتحقق للدعوات السياسية المستعجلة ما تتخيله من قيام دولة قوية تواجه الأعداء من اليهود والنصارى والغزاة والمستعمرين وتقف في وجه الهزات والأعاصير إلا ببناء الأساس كما شيده النبي صلى الله عليه وسلم ولعل من ثمار العجالة ما وقع بالفعل من تجارب سابقة في السودان والجزائر وغيرهما من البلاد, ثم في الوقت نفسه تكون هذه الجهود والمحاولات بعيدة كل البعد عن القيام بواجب النصيحة للأمة في دينها وعقائدها وعباداتها التي بلغت مبلغاً خطيراً من الفساد والحيدة عن صراط الله الحق . فكيف يرضى ربنا عن تجمعات صورية جوفاء. على البدع والضلالات والخرافات وكيف يرضى عن دولة تقوم على المتنافر من العقائد والمسالك والمناهج وعلى الغرائب والعجائب من المتناقضات.
إن العقل والفطرة ليرفضان ذلك أشد الرفض فضلاً عن الشرع الذي لا يرضى ولا يقبل من أعمال العباد إلا ما كان خالصاً لله وإلا ما كان ملتزماً لما جاء به وحيه وأرسل به رسله وأنزل به كتبه [ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً] الكهف : 110
فالخالص ما كان لله وأريد به وجهه والتجمعات السياسية على البدع والباطل في الغالب ما تقوم إلا على الأهواء والطموحات الشخصية إلى الكراسي والمناصب.
بقول الله تعالى: [ ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله]القصص: 50 وقوله تعالى: [ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله] ص: 26
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: [ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية [ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب] قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم]حديث متفق عليه في البخاري التفسير الحديث ( 4547) ، ومسلم في العلم الحديث (2665) .
وحديث أبي هريرة – رضى الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا أباؤكم فإياكم وإياهم] مسلم في المقدمة حديث (6) ، وشرح السنة ( 1/232) .(/5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله ، والمعاداة لله والعبادة لله ، والاستعانة بالله ، والخوف من الله ، والرجاء لله ، والإعطاء لله ، والمنع لله ، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله ، الذي أمره أمر الله ، ونهيه نهي الله ، ومعاداته معاداة الله ، وطاعته طاعة الله ، ومعصيته معصية الله.
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ، بل ولا يرضى لرضى الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله ، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، ويكون مع ذلك معه شبهة دين : أن الذي يرضى له ويغضب له هو السنة ، وهو الحق ، وهو الدين ، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الاسلام ، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ، ليعظم هو ويثنى عليه ، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً ، أو لغرض من الدنيا – لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله ، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره ، معه حق وباطل ، وسنة وبدعة ، ومع خصمة حق و باطل وسنة وبدعة؟.
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ، وكفر بعضهم بعضاً ، وفسق بعضهم بعضاً ، ولهذا قال تعالى فيهم : [ وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا بعدما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة] البينة (4-5).
وقال تعالى : [ كان الناس أمة واحدة]البقرة: 213. يعني فاختلفوا ، كما في سورة يونس ، وكذلك في قراءة بعض الصحابة ، وعن ابن عباس أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
وقد قال في سورة يونس [ وما كان الناس إلا أمة واحدة فا ختلفوا]يونس: 19. فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد .
والاختلاف في كتاب الله على وجهين : أحدهما أن يكون كله مذموماً ، كقوله: [ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد]البقرة:176.
والثاني : أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل ، كقوله [ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد] البقرة : 253 لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم ،كقوله تعالى: [ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم] هود: 118- 119. وقول النبي صلى الله عليه وسلم :[ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ] ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء: في اختلافهم وجهان : أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض ، والثاني تبديل ما بدلوا وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل ، فيكفر بالحق الذي مع الآخر ، ويصدق بالباطل الذي معه ، وهو تبديل ما بدل] مجموع الفتاوي ( 15/225-2558).
الطائفة المنصورة
ومن أجل ذلك كان من سار على نهج السلف رضي الله عنهم واتبع سبيلهم كان أهل هذه الطائفة الحقة هم الذين قام فيهم الإسلام واضحًا جليًا من حيث الإتباع ، والالتزام ، والحفظ ، والتعهد فهم أهل السنة الذين يعملون بها ، ويدعون إليها ، وهم علماء الحديث ، والأثر المتقدمين ومن نحا نحوهم ، وجميع فقهاء أهل الإسلام المشهورين ، وأئمة الدين المتبوعين ، وسادة المسلمين من الصحابة والتابعين .
وشأن هذه الطائفة الاجتماع على كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونبذ الفرقة والخلاف , ولذلك كانوا بحمد الله هم سواد أهل الإسلام وعامة المسلمين , وأما غيرهم ففرق ، وشراذم ، وأهل ضلالات يظهر بعضها ، ويختفي بعضها على مدى العصور ، وتنتشر ضلالتهم حينًا ؛ ثم تختفي ، وتبور أحيانًا أخرى , فهم دخلاء سرعان ما يخرجون كما بدأوا يعودون .
وأهل السنة ، والجماعة هم الأمة الحقيقية للإسلام ، والسواد الأعظم ، والقرون الإسلامية المتصلة جيلًا بعد جيل ، والطائفة الظاهرة المنصورة القائمة باقية قولًا وعملًا على مدار السنين ، والتي حافظت على أصول الإسلام المعصومة ، وعملت بمقتضاها في الجملة .(/6)
وهذه الأصول هي : الكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة إذ هم الذين نزل عليهم القرآن وفهموه وعملوا به , ولأن الله سبحانه وتعالى شهد لهم بالإيمان والفضل ، وأثنى عليهم في كتابه ، كما قال سبحانه وتعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [سورة البقرة : 285 ] ، وشهد لهم بالفضل ، كما قال تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) } [ سورة الفتح : 29 ]وشهد سبحانه أنه رضي عنهم كما قال جل وعلا : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [سورة الفتح: 18]
وأخبر أنه سبحانه قد تاب عليهم , كما قال جل وعلا: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [ سورة التوبة : 117 ]
ووعدهم الله عز وجل بالنصر ، والتمكين ، ووفى لهم ، كما قال جل وعلا :{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)} [سورة النور : 55] وقد فعل سبحانه.
نعم قد كان فيهم منافقون , بين الله أخبارهم وهتك أستارهم ، ولكنهم كانوا قلة معلومة محصورة .
وأما عامة الصحابة ، وسوادهم فكانوا من المؤمنين المخلصين المتقين ، ولذلك قال لهم الله سبحانه وتعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران : 110]
فإذا أطلق اسم الجماعة ، كما جاء الحديث: [ عليكم بالجماعة ] ، كان أول من يدخل في مسمى الجماعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كما جاء في الحديث عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ , وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ..... . قَالَ أَبُو عِيسَى : وَتَفْسِيرُ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ , هُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ , قَالَ : وسَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَنْ الْجَمَاعَةُ ؟ فَقَالَ : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , قِيلَ لَهُ : قَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , قَالَ : فُلَانٌ وَفُلَانٌ , قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ , فَقَالَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ جَمَاعَةٌ , قَالَ أَبُو عِيسَى : وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ , وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا , وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ عِنْدَنَا .(1 )
فكل عالم في زمانه هو الجماعة , وهو السواد الأعظم , لأن الناس جميعا تبع له , ولذلك قيل عن ابن المبارك ذلك .
فعن أسود بن سالم قال : كان ابن المبارك إمامًا يقتدى به , وكان من أثبت الناس في السنة , فإذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام .( 2)
والفضل لكل جيل يرجع لمن قبله ؛ ممن كان على الطريق , وسار على ما سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .(/7)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ , فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ؛ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ , حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ , وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ .( 3)
ومن أجل ذلك فإن أهل السنة والجماعة، يجعلون إجماع الصحابة على أمر ما حجة قاطعة في الدين ، ويقدمون فقههم واجتهادهم على كل فقه واجتهاد ، ويفسرون القرآن ويفهمون السنة على النحو الذي طبقوه ، فهم - أعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - هم قدوة أهل السنة والجماعة في فهم الإسلام والعمل به.
ومن أجل هذا كانت البدعة هي ما خالف القرآن ، والسنة ، وإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك فإن الطريق لايكون إلا من البدية من قوله تعالى : [ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً] النساء: 65.
ومن قوله تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً }النساء69
وليحذر مخالفة الصحابة ومن سار على نهجهم ونحا نحوهم كما قال تعالى : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }النساء115
ونسأل الله أن يبصر الأمة بدينها وأن يعصمنا من الزلل والفتن - اللهم آمين
________________________________________
(1 ) أخرجه الترمذي رقم (2167) والحاكم (1/116) صحيح الجامع (1848)
(2 ) تاريخ بغداد (168)
(3 ) رواه أحمد (3589) ...(/8)
الإدارة المنزلية
الأسرة تلك المؤسسة المهمة، وعلى الرغم من صغرها فهي ما زالت أهم المؤسسات في المجتمع، واعتبار الأسرة مؤسسة لا بد من وجود كيان إداري له أهداف وخطط يدير ذلك الصرح الصغير وهذا من الأمور الجيدة.
ومن أهم الإدارات الداخلية تلك المؤسسة هي الإدارة المالية، والإدارة المالية للأسرة مهمة جدًا إذ إن المال هو عصب الحياة وبه تكون النفقة واستمرارية الحياة.
ونظرًا للظروف التي تمر بالناس جميعًا فغالبًا أن الدخل لا يكفي لتمويل ذلك الصرح لتحقيق أهدافه وطموحاته ومن ثم كان لازمًا من وضع تصور لإدارة المال في الأسر عمومًا.
غالبا ما تتداخل مجموعة من المؤثرات في كيفية توزيع الدخل عند وضع ميزانية ما لأي أسرة على أبواب الصرف المختلفة، مثل مقدار الدخل، عدد أفراد الأسرة، طبيعة عمل الزوج، عمل الزوجة، مكان سكن الأسرة، ما يتمتع به أفراد الأسرة من مواهب وما لهم من قدرات، فلكها عوامل تتفاعل وتتداخل لتحدد أبواب الصرف وأهمية كل باب.
ـ ومن المهم جدًا عند وضع خطط الميزانية الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال وخصوصًا من يجيد التخطيط في الإدارة المنزلية وممن يكبرنا في السن.
وعند وضع أي خطة منزلية لا بد من مشاركة جميع أفراد الأسرة أو معظمهم على الأقل؟ وذلك لأن المشاركة في التخطيط غالباً ما تساعد على إنجاح أي خطة؟ وتضع الجمع في موضع المسئولية، وتقع كذلك المبررات لمعظم التصرفات، وفي حالة الأزمات يكون هناك نوع من التراضي والتفاهم فيما يكن الاستغناء عنه لمواجهة الأزمة.
ـ ونرفع اللوم عن أي طرف من الأطراف، وأيضا هي مناخ جيد لصياغة تربوية جيدة للزوجة والأولاد فيها نوع من المشاركة في تحمل المسئولية والإيجابية وعدم السلبية وكذلك ملكة وموهبة التخطيط في الحياة عمومًا.
ـ الخطط الناجحة بعد المعايرة: أي لكي ينجح أي خطة لا بد من تجربتها لمدة عام على الأقل ورصد الإيجابيات والسلبيات فيها ومن ثم محاولة تعديلها ومن ثم التقييم للوصول إلى خطة أكثر واقعية وأكثر نجاحًا.
وهنا قد تبرز مشكلة مهمة وسؤال مهم هل الاتفاق على الأسرة يحتاج كل هذا التعقيد؟ معظم الأسر تسير والحمد لله، فهذه مشكلة المسلمين عمومًا، حيث إن الوقت المبذول في التخطيط وكذلك الجهد، أهون بكثير من أزمة مالية طاحنة تعصف بالأسرة، وتخيم جو الكآبة والحزن على جميع أفراد الأسرة، كان يمكن تلافيها ببذل بعض الوقت في التخطيط.
والسؤال المهم الآن كيف أضع خطة لإدارة الأموال في أسرتي؟
والجواب على هذا الأمر لكل أسرة مع خصوصية في وضع خطة تناسبها, ولكن هناك ثوابت يمكن الانطلاق لكل أسرة والتفاصيل يمكن أن يرصد شهريًا لمواجهة هذه التكاليف عند حلول موعدها.
المصروفات الثابتة ÷ 12 = المصروف الثابت كل شهر.
ثانيًا: تدوين الدخل المالي، ويكون بحساب كل النقود المتوقع الحصول عليها خلال العام، سواء مرتبات أو أرباح مشاريع أو غيره.
ويكون بالنسبة للموظفين بالضبط قدر الإمكان بالنسبة لغيرهم يحسب المتوسط في خلال السنوات الخمسة الأخيرة.
ثالثا: حساب الدخل الصافي وهو بعد طرح المصروفات الثابتة من إجمالي الدخل وصافي الدخل هذا هو الذي يخطط لكيفية إنفاقه.
رابعًا: بعد تحديد صافي الدخل المتبقي للإنفاق اليومي، تبدأ مرحلة أخرى من التخطيط، بحيث تحدد نسبته للادخار ولتكن مثلاً 10 ـ 20% من الدخل الصافي ويمكن أن يزيد مع زيادة الدخل وفي بداية الزواج قبل أن تكثر الأعباء الزوجية.
وبعد ذلك يتم تقسيم الدخل، فتحدد نسبة الطعام ونسبة أخرى للمواصلات، والمصروفات الشخصية، ومصاريف الترفيه وهكذا.
أهمية الادخار:
والادخار هو صمام الأمان لكل أسرة، والادخار له عدة فوائد مهمة وجوهرية، منها أنه العاصم بعد الله عز وجل في كثير من الأزمات, والثاني أن تلبية أي طلب جديد أو تجديد أي من الأثاث أو المنزل أو السيارة أو الأجهزة لني يكون إلا عبر هذا المال المدخر، وأمر آخر مهم جدًا ، وهو رفع مستوى دخل الأسرة المادي لن يتم إلا من خلال الادخار ومحاولة استثمار هذا المال المدخر بصورة ما، مما يتيح للأسرة فرصة تنمية مواردها ورفع مستواها، والادخار مهم في بداية الحياة الزوجية حيث تقل النفقات نظرًا لقلة عدد أفراد الأسرة وكذلك لأن معظم أثاث المنزل جديد وكذلك الأجهزة.
وأيضًا يكون الادخار مهمًا في حالة الفرص غير العادية أو غير المتوقعة، كسفر ونحوه، فيجب استثمار هذه الفرص لتنمية المدخرات.
ـ ويجب أن يكون هناك اهتمام بتوزيع مصادر الدخل، وكذلك التنمية البشرية للأفراد المنتجين داخل الأسرة، مما يتيح فرصًا أكبر لزيادة الدخل، وذلك من خلال الاهتمام بالدورات المختلفة في مجال العمل، أو غيره وكذلك الدراسات العليا، أو القراءات الدائمة في مجال العمل وغيره، مما يتيح فرصًا أكبر لزيادة الدخل والترقي وتحسين المستوى في وظائف أخرى ذات دخل أقل.(/1)
الإدارة بين الدعوة الإسلامية والحياة العامة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
إنَّ من أخطر عيوب المسلمين اليوم يبرز في الواقع الإداري. اختلطت الإدارة في واقع المسلمين بالأهواء الفردية المتصارعة، والمصالح المتضاربة والعصبيات الجاهلية، حتى لم يعد هناك رقيب ذاتي نابع من الإيمان الصادق والعلم الصادق بمنهاج الله، وحتى لم يعد هنالك حوافز إيمانية تدفع المسلم إلى الوفاء بعهده مع الله، العهد الذي طوته القرون فغاب عن وعي المسلمين، وغاب عن نهج الدعوة، ونهج التربية والبناء، وغاب عن ميدان الممارسة الإيمانية.
اختلطت الإدارة بكثير من أمراض المسلمين، واختلطت بالمفاهيم الغربية التي احتلت مكانة عالية في أذهان الكثيرين. وأخطر ما في هذه المفاهيم الانفصال الكامل في حياة الإنسان بين الفكر والممارسة في الواقع من ناحية وبين التصور للآخرة من ناحية أخرى. لم يعد لتصوّر الدار الآخرة من أثر في كثير من نواحي الفكر والممارسة، حتى حين يحمل الفكر والممارسة شعار الإسلام أحياناً. لقد أصبح الفكر " ماديّاً " مرتبطاً بوقائع الحياة الدنيا وحدها معزولاً عن الآخرة، وتبعته الممارسة في معظم ميادينها، وانحصر شعار الآخرة في ظاهرة المساجد والمحاضرات والكتب أو بعضها، إلا لدى القليل ممن رحمهم الله. إنَّ التصور الإيماني الصادق يقضي بأن ينبع الفكر كلّه وتنبع الممارسة كلها من حقيقة الإيمان كما يعرضه منهاج الله، ومن قواعد منهاج الله، حيث ترتبط الدنيا كلها وميادينها وأنشطتها كلها بالدار الآخرة، سواء أكانت القضية أدباً ( شعراً أو نثراً أو قصةً أو غير ذلك)، أم خُلُقاً أم تشريعاً أم سياسةً أم اقتصاداً أم غير ذلك.
وبغير هذا الوعي والتصور لا يمكن أن يستقيم أمر المسلمين، ولا يمكن أن يصدق فكر ولا ممارسة، ولا أن ينهض اقتصاد ولا سياسة ولا إدارة.
إنَّ هذا الانفصال في واقع المسلمين بين شؤون الحياة الدنيا وبين الآخرة ولَّد اضطراباً خطيراً في شخصية المسلم الذي يصلّي ويصوم ويؤدي الشعائر كلّها أو بعضها، على صورة مستمرّة أو متقطعة.
ترى، في ظاهر الأمر كما يبدو لنا، أن من المسلمين من يدخل المسجد فيصلي، وإذا جاء رمضان صام، وإذا استطاع الحج أدّى الفريضة، وهكذا حتى إذا خرج إلى الحياة الدنيا فمارس التجارة انقطعت ممارسته عن قواعد الإيمان وخشية الله والدار الآخرة، خشية واعية صادقة ملتزمة بعلمٍ حقٍّ من منهاج الله. وإذا مارس الأدب أصبح حداثياً غربياً ماديّاً، وإذا مارس الاقتصاد أصبح رأسمالياً أو اشتراكياً يُحلّ الربا ويسوّغ أفكار الغرب والشرق، وإذا مارس السياسة كان غادراً مخادعاً يرى الغاية تسوّغ الوسيلة مهما كانت غارقة في الفساد والإجرام، وإذا عمل في الإدارة حرّكته مصالحه وأهواؤه ووجّهته مخاوفه الدنيوية وعصبياتها الجاهلية.
لم يعد بعض المسلمين اليوم يرون الحياة في جميع ميادينها نهجاً واحداً ممتداً يرتبط بالآخرة ارتباط إيمان ويقين، على قواعد منهاج ربّاني متكامل. أصبح من المتعذّر على بعض المسلمين أن يتصوروا أن هنالك نظاماً إدارياً أو نظريات إدارية غير ما أتانا من الغرب والشرق مما يحلّ النظرة المادية. لم يعد هؤلاء يستطيعون أن يتصوروا أن الإسلام قادر على تقديم نظريات إدارية وقواعد إدارية ونظام إداري متميّز عما لدى الغرب، واسترخت العزائم وشُلّت القوى عن التفكير بذلك واستسلمت في تبعيّة ذليلة.
هذا الانفصال في أعماق بعض المسلمين اليوم بين ميادين النشاط في الحياة الدنيا وبين الآخرة هزَّ شخصيّة المسلم وولّد في داخله صراعاً خفيّاً ينكشف على صورة ردود فعل آنيّة وحركات ارتجالية، ومواقف متضاربة، وآراء متناقضة.
هذا الانفصال نراه السبب الأول في اضطراب الإدارة في حياة المسلمين، وفي ضعفها، وفي ما ينتج عن ذلك من ضياع كبير للجهود والأوقات والأموال والمواهب والقدرات.
والسبب الثاني لاضطراب الإدارة وضعْفها ناتج عن السبب الأول. ولكن نبرزه كسبب ثانٍ لأهميته وخطورته. هذا السبب هو عدم احترام الوقت في حياة المسلم اليوم، حيث يضيع وقت كبير جداً بين سوء التقدير وسوء التدبير، إلا إذا كان الوقت مرتبطاً بالمال وكسبه والدنيا وزينتها. ولم يعد الوقت مرتبطاً بمعنى العبادة.
لقد أعطى الإسلام أهمية كبيرة للوقت، سواء في ناحية التقدير والاهتمام وناحية التدبير والتنظيم. إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل عليه تكاليف في الحياة الدنيا، وقدرها له تقديراً ابتلاءً منه سبحانه وتعالى، لتكون هذه التكاليف هي محور العبادة التي خُلِقَ الإنسان لها ومحور الأمانة التي حَمَلها، ومحور الخلافة التي جُعلتْ له، وأساس العمارة التي أُمرَ بها. عبادة وأمانة وخلافة وعمارة تصور مسؤولية الإنسان في الحياة الدنيا من جميع جوانبها:
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدّر الوقت للإنسان في الحياة الدنيا:
( … والله يُقدِّر الليل والنَّهار …… )
[ المزمل : 20 ](/1)
وقضاء الله حق، وقدره حق :
( والله يقضي بالحقِّ والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيءٍ إن الله هو السميع البصير )
[ غافر : 20 ]
فالوقت الذي قدره الله وقضى به لعباده وقت عادل للوفاء بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة، وقت كاف للوفاء بالعهد الذي أخذه الله من بني آدم كلّهم في عالم الذرّ، والذي أخذه من الأنبياء كلّهم ومن شعوبهم، والابتلاء هو محور الوفاء بذلك كلّه وأساسه.
إنَّ الإنسان مبتلى ليوازن بين جميع التكاليف التي وضعها الله في عنقه والوقت الذي قدّره الله وقضى به لذلك. إنها الموازنة الأمينة العادلة التي تقوم على أساس الإيمان الصادق والعلم بمنهاج الله ووعي الواقع من خلال منهاج الله.
والإدارة في الإسلام هي التي توجّه الجهد البشري وتُنظّمه ليؤدّي أعلى إنتاج في سبيل الله، طاعة لله وعبادة لله، في أقصر وقت، وعلى أعلى درجة من الإتقان. وهي التي تُحدّد المسؤوليات والصلاحيات ليعرف المسلم حدوده فيقف عندها، ويعرف مسؤوليّاته فيبادر إليها بحوافزه الإيمانية، دون أن تُعطّل الحوافز الإيمانية حقّه المشروع في الأجر والمكافأة والتعويض وغير ذلك مما يحتاجه في حياته من تأمين ورعاية.
عندما يقع الانفصال الذي عرضناه، ويُهدر الوقت كما نراه، لا يمكن للإدارة الإيمانية أن تتحقّق في واقع الحياة حين يعاني المسلم من الصراع الداخلي الخفيّ كما ذكرنا قبل قليل.
ونضرب مثلاً على نتيجة هذا الصراع النفسي الخفيّ الداخلي. فحين يعمل المسلم مع شركة أجنبية لها نظامها وإدارتها الحازمة، نجده ينضبط كلَّ الانضباط. يستيقظ باكراً ويحضر إلى عمله الساعة الثامنة مثلاً إذا كان هذا هو الوقت الرسمي لبدء العمل، وربّما يحضر قبل ذلك. ولو فرضنا أن نفس هذا المسلم كُلِّف بعمل رسمي في ميدان المسلمين، أو في إدارة غير حازمة، بعمل له نظامه ووقت بدء العمل وغير ذلك، فإنك تجده يتأخر ساعة أو ساعتين. ولو سألته عن سبب التأخر لوجد لك ألف عذر يسوّغ به إهماله وتقصيره.
ليس هذا المثل ضرباً من الخيال. إنه الواقع المتكرر في حياة المسلمين بشكل متكرر، حتى بدا أن حوافز الدنيا هي التي تُحرّك معظم المسلمين اليوم معزولة عن الحوافز الإيمانية، إلا من رحم ربّك.
شاب مسلم يصلي ويصوم ويحج يؤدي الشعائر كما تراه. كُلِّف بعمل بين المسلمين، فكان لا يستيقظ إلا بعد العاشرة صباحاً حتى إذا عوتب في ذاك قال لا أستطيع أبداً. النوم سلطان لا أقوى على مقاومته. وشاء الله له أن يعمل في شركة أجنبية، فإذا هو من السابعة والنصف على رأس عمله أو قبل ذلك. هذا واقع لا خيال فيه.
ومثل آخر متكرر. رجل يعمل زمناً طويلاً في دائرة من الدوائر يبدأ عملها مبكراً، فيلتزم ما دامت الإدارة حازمة، حتى إذا ترك هذا العمل إلى عمل آخر بين المسلمين، يثقون به وبدينه وتركوه لذلك، تغيّر حاله وبدأ عهد الاسترخاء والتفلّت. وكان يلتزم التعليمات الصادرة له في عمله الأول لا يجرؤ على مخالفتها إلا بالحيلة إذا شاء. ولكنّه في عمله الثاني لم يعد يرى نفسه ملزماً بتنفيذ التعليمات، وربما رأى أنه هو الذي يجب أن يُصدر التعليمات فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. وإذا نُبّه إلى ذلك تدفّقت المسوّغات والأعذار والإصرار على الهوى.
ورجل آخر يلتزم الوقت والتعليمات في عمله ووظيفته، حتى لو كانت التعليمات فاسدة مخالفة للإسلام. ولكنه اعتاد نوم الظهيرة أو بعد الظهيرة حتى قبيل المغرب. وإذا نُبّه وجد من الأعذار ما يخدع به نفسه من أنه إذا لم ينم بعد الغداء هذا الوقت الطويل تتعب صحته ولا يحسن بعد ذلك عملاً. فلما ابتلاه الله بعمل تجاري ومقاولات طار النوم وخفَّ إلى السعي في الهاجرة وشدّة اللظى، وقلَّ نومه في الليل والنهار، واختفت الأعذار والمسوِّغات التي كان يطلقها للتفلّت من تكاليف ربَّانيّة التزم بها بعهده مع الله.
أصبح المسلم يظنُّ أن الإدارة والنظام واجبان عليه عند العمل مع غير المسلمين، أو إذا خضع لقوة قاهرة له. أما في دعوة الله، في دين الله، فإنه غير ملزم بذلك، كأن الإدارة والنظام ليسا من الإسلام ولا من الإيمان. وكأن الدعوة الإسلامية ميدان يستباح بالفوضى والهوى.
أصبح كثير من المسلمين يرون أن العمل بين المسلمين ميدان الأهواء لا ميدان الانضباط، وميدان التفلّت لا ميدان الالتزام، إلا بما يوافق الهوى والرغبة وأشكال المتعة واللهو.
يُروى أن أحد المسؤولين في إحدى البلاد العربية، كان يمرُّ في أحد الشوارع بعد الاستقلال. فرأى رجلاً يؤذي الشارع بقاذوراته وسلوكه. فنهاه وزجره فقال له : نحن نلنا استقلالنا ألا ننال حرّيّتنا ؟! هكذا أصبحت الحريّة تعني التفلّت والقذارة، وتحكّم الهوى والرغبات.(/2)
لذلك نرى إن الإدارة والنظام ميدان أساسي من ميادين الدعوة الإسلامية، لتدخل الإدارة والنظام في كلّ نشاط أو عمل : في الدعوة إلى الله ورسوله، في التربية والبناء، وفي سائر الميادين، وفي جميع حياة المسلمين. وتتحمل الدعوة الإسلامية مسؤولية التدريب على الإدارة.
والإدارة والنظام أساس للنهج والتخطيط أو جزء منهما. لذلك جعلنا الإدارة والنظام عنصراً من عناصر التنفيذ في " النظرية العامة للدعوة الإسلامية ".
إنها مسؤولية الدعوة والدعاة أن يبنوا الجيل المؤمن الصادق، وأن يبنوا معه الإدارة والنظام ليكونا جزءً من إيمان وتوحيد وعلم صادق بمنهاج الله، وسجيّة وخُلقاً، ووفاءً بأمانة وعهد. وليتعلّم ما قيمة الوقت وما معناه في الإسلام، والفرق الكبير بين قيمة الوقت في الإسلام وقيمته في الحضارة المادية. ففي الإسلام تنبع قيمة الوقت ومعناه من العبادة والأمانة والوفاء الحقِّ بالعهد. وفي الحضارة المادية تتحدّد قيمة الوقت من المثل السائر بينهم : " الوقت المال Time is Money ".
حين نظّم الإسلام حياة المسلم اليومية، نظّمها ليعينه على تحقيق العبادة التي خُلِقَ لها والوفاء بالأمانة التي حملها. أمره أن يستيقظ باكراً ليشهد صلاة الفجر، ثمَّ ينطلق يسعى بعد الصلاة والذكر والدعاء، فعن أبي هريرة رضي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
( بورك لأمتي في بكورها )(1) وآيات وأحاديث أخرى تؤكد هذه المعاني وتفصّلها.
فما بال بعض المسلمين، إذا ترك الوظيفة أو أُحيل إلى التقاعد، يرى أنه آن الأوان لكي يسترخي ويتفلّت من النظام، فينام كما يشاء، ويلهو كما يشاء، لا تضبطه قواعد ولا إدارة ولا نظام.
المسلم الداعية الصادق يظلّ في إطار عملي منهجي، وخطة تطبيقية، وإدارة لها نظامها وقواعدها مهما تبدَّل وضعه. بل على العكس يجب أن يكون أشدَّ حرصاً على الوقت والنظام والإدارة حين يعمل بين المسلمين، لأنه يحمل رسالة الله إلى الناس. فأي مهمّة في الحياة الدنيا أعظم من هذه المهمة ؟! من أجلها يجب أن يستيقظ باكراً، وينطلق باكراً، وينضبط بإدارة ونظام.
هذه قاعدة أساسية هامة في " الإدارة " في التصوّر الإسلامي، تختلف فيها عن التصور المادّي للإدارة.
ولا يرفض الإسلام الاستفادة من التجربة الإنسانية، من تجارب الشعوب المختلفة في ميادين الحياة التطبيقية، سواء أكان ذلك في الإدارة أو غيرها، على أن تكون هذه الاستفادة خاضعة لشروط أهمها ما يلي:
1- أن لا نأخذ عن الحضارة المادية أيّ تصوّر للكون والحياة والموت، وأيّ فلسفة أو فكر أو أدب يرتبط بذلك. نحن المسلمين نحمل التصور الحقّ عن هذا كلّه، ونحن المكلّفون أن ننقله للشعوب كلها لتؤمن به، ولتنطلق منه تصوراتها كلّها في مختلف الميادين.
2- نأخذ تجاربهم وخبرتهم في ميادين الصناعة والعلوم التطبيقية وما يشبه ذلك، بعد أن نعيد صياغتها ليرتبط كله بالإيمان والتوحيد، ولنأخذ " من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين "، بدلاً من أن نأخذ الفرث والدم في تبعية عمياء ذليلة.
3- إن أساس التعارف، والتعاون والاستفادة يخضع للآية الكريمة:
( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير )
فقد جعلت الآية الكريمة التقوى أساس التعارف والتعاون ومنطلق الاستفادة من تجارب الشعوب وخبراتها.
وهذا هو الفرق الرئيس بين التصور الإيماني للإدارة وبين التصور في الحضارة المادية. فالإدارة الإيمانية أساسها التقوى والإيمان والتوحيد. ولكن هذا لا يتحقق في الواقع بالشعارات والعواطف، ولكنّه يتحقّق عندما يحمله المؤمنون الصادقون الذين يحوّلون الشعارات إلى ممارسة إيمانية صادقة في واقع الحياة، يراها الناس فيشهدون على صدقها، ويراها الله سبحانه وتعالى فهو العليم الخبير.
من هنا تتضح مسؤولية البيت والمدرسة والمؤسسات الإسلامية والدعوة الإسلامية في بناء الجيل المؤمن القادر على تحقيق معاني الإسلام ومبادئه وشعاراته إلى حقائق ملموسة في واقع الحياة البشرية، حقائق مشرفة يُقبل الناس عليها برغبة وقوة.
ومن هنا تتضح مسؤولية الدعوة الإسلامية في بناء النظام الإداري الإيماني لتبرز تميّزه عن النظم الماديّة مهما حملت من زخرف وزينة، ولتبرز عظمة النظرة الإيمانية المتميّزة في ميدان تعارف الشعوب وتعاملها، دون أن يكون المسلمون أتباعاً مقلِّدين، ولكن أمّة مبدعة، تبدع وتعطي وتعلّم البشرية رسالة الإسلام وعظمتها، وتُعلّم البشريّة عبقريّة الإدارة الإيمانية، والاقتصاد الإيماني في ميدان النظرية والتطبيق، والسياسة الإيمانية، وغير ذلك من المبادئ العظيمة التي تحتاجها البشرية.
فهل المسلمون قادرون على الوفاء بهذه الأمانة، وهل الدعوة الإسلامية قادرة على تحقيق الأهداف الربانية الثابتة في واقع الإنسان ؟!(/3)
اللهم إنَّا نسألك الهداية والتثبيت والقوة، لنصدق العهد والأمانة، فتفتح لنا أبوب الصلاح والخير والإبداع في مختلف ميادين الحياة معلِّمين للبشريّة ومنقذين، لا مقلِّدين هالكين ومهلكين.
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته. (ج3 ) حديث رقم ( 3838)، ويراجع كتاب : " واقع المسلمين أمراض وعلاج ـ الباب الأول، الفصل السادس ـ، وكتاب : " منهج المؤمن بين العلم والتطبيق " ـ الباب الثالث، الفصل الخامس ـ، وكتاب : النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء ـ الباب الأول، الفصل الأول ـ، من أجل تفصيلات أو سع عن أهمية الوقت.
...
...(/4)
الإرجاء والتكفير
هاني بن عبد الله الجبير 30/5/1427
26/06/2006
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أمّا بعد :
فلا شك (أن معرفة أصول الأشياء ومبادئها) واستطلاع العوامل المؤدية إلى نشأتها وظهورها (وأصل ما تولد فيها من أعظم العلوم نفعًا ، إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء يبقى في قلبه حسكة) (1).
وذلك أن استطلاع هذه العوامل أساس علاجها ولذا كان (النظر في سبب المرض ينبغي أن يقع أولاً ثم في المرض ثانيًا ثم في الدواء ثالثًا) (2).
كما أن معرفتها طريق قطع مادتها لمنع تكررُّها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) (3).
وإن الناظر في هذين الفكرين المتضادين –فكر الإرجاء وفكر التكفير المعاصرين– والباحث في عوامل نشأتهما وظهورهما لابد أن يعيدهما جميعًا إلى سببين أصليين ذكرهما الشاطبي فقال: (..الاختلاف الحاصل بين الأمة له سببان .. أحدهما لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى سابق القدر ، والآخر هو الكسبي، وهو المقصود بالكلام) (4).
فأما القدر فإن الله تعالى أراد – لحكمة عظيمة – أن لا يكون الناس كلهم أمة واحدة ، بل منهم الشقي والسعيد ؛ كما قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" [سورة هود: 118 ، 119]. فأتباع الرسول الأمين هم المرحومون وهم الفرقة الناجية، ومن سواهم فهو من أهل الوعيد على اختلاف درجاتهم(5).
أما الأسباب الكسبيّة فهي التي ستكون موضع تناولنا في هذه الأكتوبة الموجزة بعد إيضاح مقدمتين:
المقدمة الأولى: الأفكار لا تموت!.
إن أية فكرة تطرأ على المجتمع فإنها تبقى مهما شاخت وأصابها الهرم ، وهذا مما لا ينكر، فإن الناظر في التاريخ الإسلامي ومذاهبه يجد أن التيارات الفكريّة ، تقوى حينًا وتستفحل، وتخبو حينًا وتضعف، ولكن لا تموت بل تبقى ضعيفة حتى تجد من يثيرها، وهكذا فإن أي مذهب وجد في تاريخ الأمة فإنه لا يستغرب أن يظهر إذا وجد من يتبناه، سواء كان ظهورًا تامًا أو ناقصًا، وسواء ظهر بصورته الأولى أو بصورةٍ مختلفة.
والاتجاه التكفيري والإخراج من الإيمان بفعل الكبائر اتجاه له وجود في التاريخ الإسلامي في مذهبي الخوارج والمعتزلة، وهو اتجاه بقي وإن كان على ضعف إلى هذا العَصْر(6).
كما أن مذهب الشيعة يعتمد على التكفير الغالي ممثلاً في تكفير الصحابة -رضي الله عنهم-(7)، وهذا الفكر موجود في الأمة بقوّة في أماكن مختلفة يمثله طوائف متعددة.
وكما أن التكفير موجود، فالإرجاء أمره أظهر وأبين فإنه انتشر في الأمة في العصور المتأخرة انتشارًا قويًا، وحسبك أن تعلم أن الأشاعرة والماتريديّة يتبنون هذا الفكر(8)، لتعلم بعد ذلك كم من المعاهد الإسلامية الكبرى قد تبنَّت هذا الاتجاه.
المقدمة الثانية: تغيير الظاهر لا يغير الباطن.
فإن من المعول عليه أن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها، وليس بصورها ومبانيها، ولذا كان مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيشرب ناسٌ من أمته الخمر يسمونها بغير اسمها(9).
وهذا العصر شهد ظهورًا للتكفير والإرجاء وقد ألبس ثياب منهج السلف؛ فنسب إليه واستدل بأقوالهم على إثباته، وادعى بأنه هو اعتقاد الفرقة الناجية وربما ترك من الاتجاه أفكارًا معينة لتبرأ ساحة معتقده إذ لا يوافقهم في هاتيك الأفكار.
مع أنه لا يلزم عند نسبة طائفة إلى اتجاه عقدي أن تتلاقى جميع الأفكار بينهما بل العبرة في الاتفاق في أساس الاتجاه، ولذا لما عدد العلماء الفرق المبتدعة ردوها إلى فرقٍ أمات لها مع التفاوت بينها في الآراء.
ولما ذكر أبو الحسن الأشعري المرجئة ذكر اختلافهم في الإيمان على اثنتي عشرة فرقة(10). وكذلك لما شرع في مقالات الخوارج ذكر جماع رأيهم ثم اختلافهم بعد ذلك وتكفير بعضهم لبعض(11)!
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-: (... لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهميّة ونحوهم من أهل البدع، فيبقى الظاهر قول السلف، والباطن قول الجمهيّة الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان) (12).
عوامل النشأة والظهور :
أوّلاً: عدم التلقي عن أهل العلم الأثبات :
فبسبب انتشار التعليم وفشو الكتابة في هذا الزمن كثر التلقي والأخذ من كتب العلم مباشرة دون مشافهة العلماء وترتب على ذلك خطأ كثير . كعدم فهم المصطلحات الشرعية على الوجه المطلوب وعدم تحرير مسائل النزاع ، وعدم التنبه لما في بعض الآراء من غلط .(/1)
وهذه المفاسد وغيرها جعلت السلف يمنعون من تلقي العلم ممن كانت وسيلته التي استفاد بها العلم هي التلقي من الكتب، كما قال أبو زرعة: (لا يفتي الناس صُحُفي) (13) ولعلي أشير إلى مسألتين أجعلهما مثالاً لما يترتب على الأخذ عن الكتب من سوء الفهم، المسألة الأولى: عدم فهم الفرق بين تولي الكافر الذي هو ناقض من نواقض الإسلام، وبين موالاة الكافر الذي هو معصية فقط.
والذي ترتب عليه التكفير بعموم حصول المخالفة مع احتمال أن يكون الفعل الظاهر هو المعصية وليس الكفر. ومثال ذلك فعل حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله عنه- لما كاتب قريشًا بأمر مسير النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إليهم لفتح مكة، فهذا من موالاة الكفار ، ويحتمل أن يكون موالاة لغرض من أغراض الدنيا (وهو حفظ أهله وماله بمكة) كما يحتمل أن يكون مواليًا لهم في دينهم ولذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن فعله فقال : ( إني كنت امرءًا من قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدًا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرًا) (14). وبذلك عرف أن فعله معصية ليست كفرًا ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه (إنه شهد بدرًا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) . ولو كان كفرًا لحبط عمله، وما نفعه حضوره بدرًا(15)كما قال تعالى: "لإن أشركت ليحبطن عملك" [سورة الزمر : 65].
فلما غفل من قرأ كلام أهل العلم عن التفريق بين ما يكون كفرًا ومالا يكون كذلك وقع الغلط في هذا الباب.
المسألة الثانية: عدم معرفة المراد بأهل السنة والجماعة، فإنّ هذا المصطلح يطلق بإزاء اعتقاد سلف هذه الأمة الأشاعرة والماتريدية على عقيدتهم ، كما أنهم يطلقون على مذهبهم مذهب السلف. فمثلاً في شرح القاري على منظومة بدء الأمالي - وهي في اعتقاد الأشاعرة - قال: (ليست العبادات المفروضة محسوبة من الإيمان ولا داخلة في أجزائه .. وهذا ما عليه أكابر العلماء كأبي حنيفة وأصحابه وجمهور الأشاعرة ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي وهو المنقول عن السلف وكثير من المتكلمين ونقله في شرح المقاصد عن جميع المحدثين .. ولا ينتفي الإيمان بانتفائها) (16).
وقال ابن حجر في تعريفه للإيمان : ( فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان وأراد بذلك أن الأعمال شرطٌ في كماله .. والمعتزلة قالوا : هو العمل والنطق والاعتقاد . والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته والسلف جعلوها شرطًا في كماله) (17).
وفي كل ما سبق عدم تحرير لمسائل الاعتقاد على نهج السلف، بل هو على طريقة المرجئة من تأخير العمل عن الإيمان، ومع ذلك فقد نسب للسلف.
وهو إما عدم فهم لمرادهم ، أو استعمال لهذا المصطلح في معنى آخر. وهو على كُلٍّ مثال لما في الأخذ من الكتب من إشكاليّة سببّت الخلط في باب الإيمان.
قال الشاطبي: ( وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ للخاصيّة التي جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويردها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المتعلِّم فهمها بغتة..
الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين وهو أيضًا نافع بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما تيم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال : كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال. والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم، فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين..) (18).
ثانيًا: المواقف المضادّة:
فإن لردود الأفعال دورًا واضحًا في ظهور الفكر الغالي، والتكفير، والإرجاء في هذا العصر.
فأما فكر التكفير فإنه (يكاد معظم الذين حللوا ظاهرة الغلو لدى هذه الجماعات، يتفقون على أن من أهم الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى اتخاذ هذا الموقف المتطرف: الحرب التي تعرّض لها أتباع هذه الجماعات، وما نتج عنها من ردود فعل تجاه المجتمع حكامًا ومحكومين فإن من شباب الجماعات الإسلامية ، الذين كانوا يمثلون خيرة الشباب في المجتمع المصري، بدلا من أن يجدوا العون لتحقيق آمالهم في حياة إسلامية كريمة لفقت ضدهم التهم زورًا وبهتانًا . ووجدوا أنفسهم في غياهب المعتقلات وأصبحوا نهبًا لوساط الجلادين وآلات التعذيب، في الوقت الذي أطلقت فيه أيادي أعداء الإسلام يعملون بكل حرية لهدم قيم الإسلام وتعاليمه) (19).
بل ربما أخذت النساء رهائن ووضعن في السجون وعذبن حتى يعود الرجال الهاربون(20).(/2)
ونتيجة لما سبق فقد شعر هؤلاء بأن من قام بهذا العمل البشع ، زيادة على تقصيره في تطبيق الشريعة، وغيرها من أنواع المخالفات؛ لا يمكن أن يكون مسلمًا وبذلك برز فكر التكفير قويًا لدى بعض الفئات.
ولما وجد هذا الفكر تصدى له أهل العلم بالبيان، إلا أن المواقف الانفعالية والمناقشات العقلية والمعارك الكلامية، ولدت ردّة فعل مقابلة، نتج عنها التوسع في استخدام شرط الاستحلال للتكفير، حتى اشترطوا في أعمال الكفر الصريحة كإهانة المصحف وسب الرسول وإلغاء شريعة الله، فقالوا لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلاً بقلبه، وكل هذا بغرض التثبت في إطلاق الكفر! (21)
وحصروا الكفر بناء على ذلك في الجحود والاستحلال(22).
وقد صرح من يعتقد ذلك بأنه فعله (ردًا على الوالفين في تكفير المسلمين، من الذين جعلوا مسألة تكفير الحكام من أصول مسائلهم الكبرى وفتنتهم العظمى)، و(أن الحركيين الإسلاميين بالغوا في تكفير العصاة والمخالفين وبخاصّة حكام المسلمين) (23).
وهكذا كان لردود الأفعال دور في ظهور الغلو في كلا الجانبين المعقابلين.
ثالثًا: عدم القدرة على التعامل مع الوضع الراهن:
فإن في هذا المعصر من المشكلات ما لم يمدَّ على الأمّة مثله، من هجر التحاكم لكتاب الله، والإيغال في إيذاء الناصحين، وتكالب الأمم، والتصريح بعداوة الدين من بعض من ينتمي إليه، وبأنه غير صالح للتطبيق، كل ذلك على نحو غالب، ولهذا يفارق ما مضى على الأمة، فإنها وإن وجد فيها النقص والخطأ فإنه لم تشهده بشكل غالب إلا في العصر المتأخر.
وقد ترتب على ذلك احتياج الأمة إلى فقيه النفس القادر على التعامل مع هذه المشكلات وإبداء الحل الشرعي، الذي لا يحاول تسويغ الواقع على حساب الدين ، ولا يغيّب نفسه عن تأمل ودراسة واقع الأمة والمجتمع.
وبدلاً من أن يخرج الفقيه المتمكن من الاجتهاد في نوازل العصر، فقد شهد القرنان الماضيان وما قبلهما سدًا لباب الاجتهاد ، ومنعًا منه ، بل صار القول بالاجتهاد من الكبائر، بل ربما وصل حد الكفر، ولقد كان من التهم الموجهة من خصوم الدعوة السلفية إلى علمائها دعوى الاجتهاد! (24)وفي محاولة التعامل مع الواقع –في ظل غياب الفقهاء المتمكنين– برز الاتجاهان، اتجاه لم يستطع التعامل مع الأخطاء فدعا إلى عزلة الناس ومفاصلة المجتمع الجاهلي بمؤسساته ونظمه، وحكم على المجتمعات بالكفر لرضاهما به وعدم قيامهما (بالحد الأدنى من الإسلام) (25).
واتجاه آخر سوغ الواقع بكل أشكاله وقرر أن من تكلم بالشهادتين فهو من أهل الإسلام، ولو فعل ما فعل من ضروب الكفر والشرك، حتى نعلم أنّه في قلبه جاحدًا أو مستحلا.
والحقيقة أن من أيقن بالإسلام وصدق به عالمٌ لا محالة أنه بقواعده العامة، وكلياته حالٌ لكل وضع، شاف لكل عيي ، ومن أتقن أصوله وفهم مقاصده لن يعجزه أن يجد لكل نازلة من النوازل من الشرع حكمًا وحلاً إذا صدق النية ورزق التوفيق.
رابعًا: المقاصد السقيمة لأدعياء العلم:
ومن أبرز هذه المقاصد والتي دفعت إلى ظهور هذين الاتجاهين، التعصب للمشايخ، ومحاولة تسويغ الواقع ، وعدم الرجوع للحق بعد تبينه . والجامع لكل ذلك أنه اتباعٌ للهوى.
واتباع الهوى اعتقادٌ يتبعه استدلال ويتلوه تحريف لكل دليل مخالف، بعكس أهل الحق الذين يتبعون الأدلة ثم ينقادون لها، فيعتقدون بعدما يستدلون.
قال ابن تيمية: (إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفريق والاختلاف شيعًا، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن واحتجوا به، وما خالفها تأولوه .. والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا وخطؤهم أخف وصوابهم أكثر كما قَدّمناه) (26).
وقد يزيد من قوة تأثير هذا السبب أن يعرض العلماء (الربانيون) عن إيضاح الحق وبيان الموقف الصحيح لأي عذر.
خامسًا : عدم رد المتشابه للمحكم :
فقد أخبر الله تعالى أن آياته المتشابه ومنه المحكم وبيّن سبيل مرضى القلوب من أبتاع المتشابه وعدم رده للمحكم وفي المقابل يكون سبيل الراسخين في العلم رد المتشابه إلى المحكم.
والمتشابه هو غير واضح الدلالة مما له تصريف وتأويل فيمكن حمله على المعنى الفاسد من حيث لفظه وتركيبه(27). قال تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخرُ متشابهات فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" [سورة آل عمران:7].
والواقع في من يتبنى مناهج مخالفة لهدي السلف أنّه يعمد إلى نص فيجعله عمدته وكأنه لا معارض له، كيف وقد عَارَضَهُ ما هو أرجح منه، أو يجعل ما ورد في مسألة مخصوصة هو القاعدة العامَّة دون العكس.
** ** **(/3)
وبعد ! فما سبق وقفات يسيرة في هذا الموضوع الذي يستحق أن يتوسع فيه أكثر والله الموفق لا إله إلا هو .
________________________________________
(1) ما بين القوسين تضمين من مجموع الفتاوى [10/368] . والحسكة : الشوكة .
(2) تضمين من زاد المعاد ( 4/8 ) .
(3) صحيح البخاري ( 6133 ) ؛ صحيح مسلم ( 2998 ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(4) الاعتصام ( 2/164 ) .
(5) انظر: تفصيل هذا المعنى في تفسير ابن كثير (2/466)؛ مجموع الفتاوى (4/236)؛ الاعتصام (2/170).
(6) انظر: بحثًا مستفيضًا عن حركة الإباضية وأماكن انتشارها في العالم الإسلامي وشيئًا من أبرز آرائها في كتاب دراسة عن الفرق وتاريخ المسلمين. د. أحمد محمد جلي ص 90 وما بعدها .
(7) نقل إحسان إلهي ظهير في كتابه السنة والشيعة ص 49 عن الكشي في كتابه رجال الشيعة ص 12 ، 13 أن كل الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد بن الأسود، أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
(8) فعند جمهور الأشاعرة أن الإيمان هو التصديق فقط ، وقيل ومعه إقرار اللسان وعليه الماتريدية ولهم تفصيل. انظر: شرح الطحاوية لعبد الغني الميداني ص 98؛ نظم الفرائد في المسائل الخلافية بين الماتريدية والأشاعرة لشيخ زاده ص 225.
(9) سنن ابن ماجة (3385)؛ مسند أحمد (5/318) عن عبادة بن الصامت؛ سنن ابن ماجة (3384) عن أبي أمامة؛ صحيح ابن حبان (15/160)؛ سنن أبي داود (3688)؛ مسند أحمد (5/432) عن أبي مالك الأشعري وله طرق.
(10) مقالات الإسلاميين ( 1/213 ) .
(11) المصدر السابق ( 1/167 ) .
(12) مجموع الفتاوى ( 7/143 ) .
(13) الفقيه والمتفقه ( 2/97 ) . والصحفي الذي أخذ علمه عن الصُحُف ( وهي الكتب ) .
(14) صحيح البخاري (4890)؛ صحيح مسلم (161).
(15) في كتاب ضوابط التكفير ص (294) مزيد تفصيل.
(16) ص (54) . دار إحياء الكتب العربية عام 1345هـ.
(17) فتح الباري (1/61).
(18) الموافقات (1/145).
(19) تضمين من كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ص (108) بتصرف.
(20) انظر: التكفير جذوره أسبابه مبرراته ، د. نعمان السامرائي ص (44) .
(21) انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ص (391) .
(22) صيحة نذير ص (39) .
(23) الملحق ب لكتاب حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها ص 161. وهو المتضمن لنص توبة أحد المقصودين بفتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم 20212 في 7/2/1419هـ .
(24) انظر : مزيدًا من البحث في هذه المسألة في كتاب الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر لعلي بن بخيت الزهراني (2/89 فما بعدها ) .
(25) البيّنة. جمال سلطان ص(50)؛ (والحد الأدنى) مبدأ لدى (جماعة المسلمين) المعروفة بالتكفير والهجرة. بين المراد به في المرجع السابق وانظر: ضوابط التكفير، د.عبد الله القرني ص (105وما بعدها).
(26) مجموع الفتاوى (13/58).
(27) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 3/7 ، 9 ) . دار عالم الكتب .(/4)
الإرهاب الأمريكي البداية والنهاية
المهندس/ حسني إبراهيم الحايك 25/1/1424
28/03/2003
1- المقدمة:
إن المضحك والمبكي في عالمنا الحاضر، عالم ما يسمى بالقطب الواحد، الذي تتحكم به طغمة مهووسة من اليمين الأمريكي المتصهين،والذي يخضع كلياً لمفاهيم توراتية خرافية فرضت عليه إعلان الحرب على الإسلام، تحت مسميات جديدة منها الإرهاب. مع أن الولايات المتحدة تمارس الإرهاب بكافة أشكاله بموجب مسوغات تشوبها الاستخفاف بعقول البشر، وما يسمى بالحضارة الإنسانية.
أمريكا تعلنها حربا على الإرهاب. مع أن ظاهرة الإرهاب تعد من أقدم الظواهر التي هددت أمن البشرية على مدار تاريخها، ولعب اليهود دوراً بارزاً في ذلك ، من خلال إثارة النعرات وإشعال الفتن والحروب. كما أن الاندفاع نحو اتهام العرب والمسلمين بالإرهاب ومطاردتهم في عقر دارهم، إنما يعود ذلك إلى حقد عنصري مشحون بعداء صهيوني عقائدي متجذر في مجموعة كبيرة من المجتمع الأمريكي.
إن ظاهرة الإرهاب من الظواهر التي يجب محاربتها وخصوصا الإرهاب الصهيوني المتمثل بشقيه الصهيوني اليهودي والصهيوني المسيحي، مع التمييز بين أعمال الإرهاب الذي لا يعتمد على أسس إنسانية أو أخلاقية، وأعمال المقاومة المشروعة لتحرير الأرض والإنسان، أو الدفاع عن الحقوق الوطنية أو القومية لأي شعب. وهو نضال مشروع في القانون الدولي، بعكس الإرهاب الذي يهدف إلى بث الرعب في نفوس الآخرين، و الذي يؤدي إلى استخدام أعمال العنف ووسائل القتل والبطش والإبادة من دون تمييز ، بهدف ترويع المجتمعات والدول.ويكون لها غالباً دوافع آنية مرضية تخص مصالح المجموعة أو الدول التي تمارسها. كما هو حال الولايات المتحدة وإسرائيل .فالعوامل الذاتية لا الموضوعية هي التي تتحكم في ضبط مفهوم الإرهاب في هذا العالم أحادي القطبية الظالم.
2- منطق الإرهاب الأمريكي:
إن أغلب الأدبيات الغربية الصحفية والأكاديمية لا تميز بين حركات التحرر والأعمال الإرهابية، بين إرهاب الدولة كحالة إسرائيل والولايات المتحدة، وبين كفاح الشعوب المستضعفة ودفاعها عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وما يؤكد ذلك المفهوم الغربي الخاطئ، ما كتبه (روبرت كوبر) مستشار رئيس الوزراء البريطاني للشؤون الخارجية تحت عنوان "إعادة تنظيم العالم " مبرراً إرهاب الدولة بقوله: " أن التحديات التي تواجه الدول ما بعد المتقدمة تجعلها تستعمل فكرة ازدواجية المعايير، وتتعامل تلك الدول فيما بينها وفق نظم القوانين الأمنية لكن عندما يتم التعامل مع أكثر الدول تأخراً خارج دائرة الدول فوق المتقدمة، تكون الحاجة إلى التحول إلى الوسائل القاسية للعصور الأولى عبر القوة والهجوم المباغت والخداع، وبكل ما هو ضروري للتعامل مع أولئك الذين يعيشون في عالم القرن التاسع عشر… إننا فيما بيننا نتمسك بالقانون، لكن عندما نعمل في غابة يجب علينا استعمال قوانين الغاب."
وهذا هو منطق الإرهاب الأمريكي التي تقوده الآن إدارة بوش ضد العالم تحت شعارات مختلفة وبإلهامات شيطانية متعددة، ومنظريها دائماً الصهاينة ومرجعهم دائماً ما يسمى بالتوراة. فهذا الصهيوني (صموئيل هنتغتون) الذي أطلق نظريته "صراع الحضارات" والتي تنطلق من نفس المفهوم، والتي تستعدي صانعي القرار في الغرب ضد الحضارة الإسلامية . و نظرية أخرى لفوكوياما " نهاية التاريخ" والتي تمجد الحضارة الغربية وتعتبرها أفضل الحضارات، وأحق الثقافات بالبقاء. وبما أن الثقافة اليهودية انتشرت في أوروبا بعد أن كانت حكراً على بعض الحاخامات، على يد الحركة الإصلاحية التي نادى بها مارتن لوثر، وسادت بعد أن كثر أتباع هذا المذهب، فهذا يعني حسب رأي فوكوياما أن السيادة على العالم ستكون للصهيونية. ونظرية أخرى هي نظرية نهاية عصر الأيديولوجيات التي تبشر بسيادة واحدة، هي سيادة الأيديولوجية الأمريكية على سائر الأيديولوجيات.
3- الإرهاب على الإسلام:(/1)
إنه لا شك إرهاب آخر بلباس عقائدي، فكري، أيديولوجي وثقافي، هدفه القضاء على كل المعتقدات وخصوصاً على الدين الإسلامي . حرب إرهابية عالمية مجرمة (هرمجدون) يقودها بوش على العالم الإسلامي. وكشفت عن ذلك مجلة " موثر جونز" في شهر حزيران 2002 حيث ذكرت: "أن العديد من الدوائر الثقافية الأمريكية المؤثرة، اعتمدت فكرة إشاعة التشكيك في القرآن الكريم من جانب المثقفين الغربيين" ، وانتقدت هذه المجلة عدم قيام العالم المسيحي، والإعلام الغربي عقب 11 سبتمبر، بالتشكيك في صحة القرآن الكريم، كحل لإنهاء ما يسمى بالتعصب الإسلامي وإيجاد بدائل له. وقد نجحت هذه الحملة في دفع العديد من الصحف والمجلات الأمريكية والغربية، والعديد من القساوسة المتصهينين للهجوم على الدين الإسلامي، واعتباره (منبع الشر)، الذي يغترف منه (الإرهابيون)، كما عادت القنوات التلفزيونية الأمريكية والمجلات والجرائد لنصب محاكمات للقرآن الكريم والهجوم عليه. والهجوم المجنون على الرسول صلى الله عليه وسلم، والمطالبة بتدمير الكعبة المشرفة. فقد ذكرت مجلة (Israel Insider) :" أن الأمريكيين مثل الإسرائيليين يتميزون من بين الأمم، باحترامهم للحياة البشرية البريئة، وهم لا يستهدفون المدنيين عن قصد وإصرار! وإذا تضرر المدنيون عن غير قصد بسبب العمليات العسكرية تأسفوا على ذلك عن صدق…! ففي مكة يوجد برجان طويلان، في شكل (منارتين شامختين) تحيطان (بعلبة سوداء عريضة)، يعبدها المسلمون، ويتجهون إليها في حجهم المقدس، وإلى هذا الشيء الرمزي يتجه كل المسلمين في صلواتهم ، فلا بد من إقناع المسلمين بشكل لا لبس فيه أنهم لن يجدوا أي قبلة يتجهون إليها حينما يحنون ظهورهم لعبادة (إله الخراب) الذي يعبدونه"
وفي 6/1/2002 ظهر الشيطان الإرهابي الصهيوني (جيري فالويل)، (المعروف عنه إنه كاذب وانتهازي وعائد من أساطير وميثيولوجيات العهد القديم، والذي خدع الشعب الأمريكي حين قال لهم " "أن اليهودي هو بؤبؤ عيني الله ، ومن يؤذي اليهودي كأنه يضع إصبعه في عين الله" والذي قال لهم أيضا: " لا أعتقد أن في وسع أمريكا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقى في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهود.") ليقول:"أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً وأنه كان رجل عنف ورجل حروب". وأساء زعيم آخر للمسيحية الصهيونية وهو (بات روبرتسون) للرسول صلى الله عليه وسلم حين تحدث في برنامج (هانتي وكولمز) الذي تبثه قناة (فوكس نيوز) حيث اتهم الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه لص وقاطع طريق). وفي الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية في مدينة (سانت لويس) في ولاية (ميسوري) الأمريكية تحدث قطب آخر من أقطاب المسيحية الصهيونية وهو (جيري فاينر) بافتراءات آثمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وخدمة لنفس المخطط الشيطاني تحدث القس فرانكلين جراهام واتهم الإسلام بأنه"ديانة شر" حيث قال في 10/11/2002 :" ينبغي علينا الوقوف بوجه هذا الدين الذي يقوم على العنف… إن إله الإسلام ليس إلهنا، والإسلام دين شرير وحقير".
أستغفر الله العلي القدير، أنني ذكرت عبارات كتبها شياطين الصهاينة الملحدين، وذلك لكشف خططهم الجهنمية الإرهابية وما يخططون له ضد الإسلام والمسلمين وفضح إرهابهم الدموي المهووس. أنهم فئة من الناس اتخذت من الشيطان إلها فعبدته بأسماء مختلفة حسب كتابهم المسمى بالتوراة أو العهد القديم، فهو تارة يسمونه يهوه وتارة يسمونه إله إسرائيل، وتارة يسمونه رب الجنود، وتارة يظهرونه ضعيفاً متردداً غير واثق من نفسه يسير حسب أهوائهم الشريرة، ويقوم بأفعال شريرة ،وتارة يشركون معه آلهة أخرى كما ورد في كتابهم :" الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة، لأنه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم". وتارة يصورونه لاجئاً يسكن خيمة يسير بها أمام شعب إسرائيل كما ورد في كتابهم:" وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلاً اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب. أأنت تبني لي بيتاً لسكناي. لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن". وتارة جاهل لا يعلم بما يعمل، ويتراجع ويندم عما فعل مثل "رأى الرب فندم على الشر".(/2)
عن أي إله يتحدثون أنه الشيطان الرجيم الذي حرك غرائزهم المجنونة، فمجدوا الرذيلة، ولعنوا الفضيلة ، وقلبوا موازين الأخلاق، حتى غدا التزوير والتدليس والكذب الصفات الملائمة للسياسة العالمية، التي تقودها الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي. ومن ضمن هذا التزوير مصطلح مكافحة الإرهاب. والحقيقة أن القائمين على فكرة مكافحة الإرهاب، هم أنفسهم من زرع كياناتهم الإرهابية على صدور أهلها المسالمين، ولعل أباده الهنود الحمر في أمريكا، وإبادة الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه لأصدق دليل على ذلك. أصبح النعت بالإرهاب من أسلحة العصر الحديث يستخدمها الصهاينة في مخططهم العالمي لمحاربة الإسلام، هذا نفسه منطق الإرهاب الأمريكي الذي تقوده الصهيونية المسيحية.
4- العهد القديم هو سبب الإرهاب العالمي:
المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع شعوب العالم الأخرى، بل مع الشعب الأمريكي نفسه، فلذلك سنسلط الضوء على الأسباب والخلفيات والدوافع لهذا الإرهاب الأمريكي بشقيه الداخلي والخارجي. ومن أين أتى هذا الحقد على الله ورسله وأنبيائه؟ ومن أين أتت هذه العنصرية والتعصب الصهيوني الأعمى؟ ومن أين أتى هذا الإرهاب على الإسلام والمسلمين؟
يعتقد معظم الباحثين أن ما يسمى التوراة أو العهد القديم هو عصب العنصرية والتعصب والإرهاب الصهيوني بشقيه اليهودي والمسيحي. فالعهد القديم يذخر بأيديولوجية الحرب والإبادة والسحق والإرهاب، والحرب لا تذكر في العهد القديم كحالة دفاعية بل هي النموذج الواضح للإرهاب الحقيقي، من خلال الدعوة لسحق الشعوب وامتلاك أراضي الغير، والسيطرة على مقدرتها، والتحكم بها. والتي تدفع اليهود بالإيمان أنهم شعب الله المختار، والآخرين هم مخلوقات خلقهم الله على هيئة بشر ليليق بهم خدمة بني إسرائيل. إن العهد القديم مليء بالنصوص العنصرية التي تصف اليهود بذلك، ومن عداهم هم الأغيار. وفكرة الاختيارية غير المشروطة تتناقض مع السنة الإلهية كما وردت في القرآن الكريم، حين وصف رب العزة الأمة الإسلامية بالخيرية وجعلها مشروطة بقوله تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". أما فكرة الاختيارية التوراتية فقد تحولت إلى مزاعم عنصرية عقيدية تقوم على الاصطفاء والاستثناء والاستعلاء والعداء وادعاء القداسة، وهذه المزاعم لا يمكن أن تصدر عن رب عادل حكيم. وهذا ما يؤكد أن الاختيارية عند أتباع العهد القديم ما هي إلا الهامات وآيات شيطانية كتبها الحاخامات والفريسيون من اليهود، فمثلا ورد في (أشعيا 61/5):" أما أنتم فتدعون كهنة الرب… تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون." وورد في (يوشع 23/12):" إذا رجعتم ولصقتكم ببقية هؤلاء الشعوب… فاعلموا يقينا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونوا لكم فخاً وشركاً…حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم الرب إلهكم" كما ورد في (العدد 33/55):" إن لم تطردوا أهل الأرض من وجهكم كان من تبقونه منهم كإبرة في عيونكم وكحربة في جنوبكم،ويضايقونكم في الأرض التي أنتم تقيمون بها". وأمام هذه العنصرية الواضحة، والتي تكرسه الصهيونية . (ألا يكفينا مراهنة على اتفاقيات السلام مع هؤلاء القتلة الإرهابيين الذين تحثهم توراتهم بأن يأخذوا الأرض كلها) ، ويشردوا ويبيدوا الفلسطينيين، كما أباد الأمريكان الهنود الحمر . ولكي نعلم أن في كلا الحالتين كان العهد القديم هو الدافع. ففي منتصف القرن السابع عشر ترسخ لدى المستوطنين الأمريكيين نموذج روحي لما يسمى العهد القديم العبري، فقد أطلق المستعمرون الأوائل لأمريكا على أنفسهم " أطفال إسرائيل" وهم في طريقهم إلى الأرض الموعودة ، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم ، وادعت طائفة ( المورمونية) وهي من طوائف البروتستانت أنها تاهت في صحراء أمريكا العظيمة، مثلما تاه اليهود في صحراء سيناء، واستقرت أخيراً في الأرض الموعودة في ولاية يوتاه، وغيرت أسم نهر كولورا إلى نهر باشان المذكور في التوراة.(/3)
ويؤكد الكاتب حسن الباش ذلك في مقالته (الأنجلوسكسونية عقدة المحورية وفلسفة التفوق) حين يقول: " كانت مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي مشابهة لما جاءت به التوراة في مطاردة العبريين القدماء للكنعانيين في فلسطين حسب ادعائهم . وقد أوجد التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجدانا متشابهاً ومشتركاً بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث. " وهنا أود أن أنوه بأن قراءة النصوص القديمة لجميع شعوب المنطقة تكشف لنا أن تلك الشعوب الوثنية ومن ضمنها العبرانيون، صنعت آلهة لنفسها، وتلقت وعوداً شبيهة من ما يسمى بآلهتها، شرعت لهم احتلال أراضي الغير (حسب دراسة السيدة فرانسواز سميت أكدها الفيلسوف روجيه جارودي) كما أن هذا يؤكد أن إيمان اليهود وغيرهم من بعض الطوائف المتهودة بالعهد القديم المسمى التوراة، وهو كتاب وثنيّ بسبب إشراك من كتبوه وادعوا بوجود آلهة،أعطوا بعضهم من صفات الخالق ما لا يليق أن تذكر إلا لرب العالمين. و هو ليس الكتاب الذي أنزل على سيدنا موسى عليه السلام، فيكون اليهود بذلك ومعهم المؤمنون بالعهد القديم وثنيون. فكفى مكابرة من بعض علماء الإسلام، الذين يتحاورون تحت شعار حوار الديانات.
كما أسلفنا أن ثقافة التوراة هي ثقافة عنصرية إرهابية تدعوا إلى رفع اليهود فوق القانون البشري، حيث يطبق القانون البشري على جميع الشعوب، لكنه لا يطبق على اليهود. فلذلك نجد في عالم القطب الواحد إن قرارات الأمم المتحدة تطبق على كل بقاع الأرض لكنها لا تطبق على الكيان الصهيوني! فلذلك يقول التلمود (وهو كتاب مؤلف يجمع أقوال حاخامات اليهود الشريرة، ووصايا قادتهم القتلة، وموجهيهم أشباه الشياطين، وهو بشري المصدر إلا أنه له قداسة التوراة في نفوس أتباعه): "من العدل أن يقتل اليهودي كل من ليس يهودياً، لأن من يسفك دم الغرباء يقدم قرباناً لله" وهذا ما حدث مثلاً وليس على سبيل الحصر، في جريمة العصر لبشاعتها والتي وردت تفاصيلها على لسان اليهودي موسى أبو العافية أحد المجرمين المشتركين في جريمة ذبح الأب توما الكبوشي في حي اليهود في دمشق سنة 1840، والذي ذبح وبعد ذلك قطع إرباً ليرمى في المجاري، بعد أن سحب دمه لاستخدامه في عجين فطير الفصح عند اليهود، حيث اعترف بجريمته وقال: "الدم يوضع في الفطير، ولا يعطي هذا الفطير إلا للأتقياء من اليهود" هذه الجريمة الإرهابية التي هزت مشاعر العالم الإسلامي والمسيحي، وكتب حولها العديد من الكتب كشفت عن الخلفية الإجرامية لليهود والتي كان سببها الخلفية التوراتية الإرهابية لدى الحاخامات المجرمين الذين أمروا بذلك.كما أن تلمود برانايتس (ص 112) يحث اليهود على قتل المسيحيين فيقول: " على اليهود أن لا يفعلوا مع الأغيار لا خيراً ولا شراً وأما مع النصارى فيسفكوا دمهم ويطهروا الأرض منهم … كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام فيجب على اليهود تخريبها" . وهذا ما فعلوه بكنائس بعض طوائف المسيحييه في الولايات المتحدة بأمثال جيري فالويل وبات روبرتسون، وجيري فاينر وفرانكلين جراهام.
أن التربية الإرهابية عند أتباع العهد القديم تقوم على أن مواجهة أعدائهم تستلزم افتراسهم وشرب دمهم، وعلى هذه المفاهيم تقوم التنشئة العسكرية عندهم، ولها سند من كتابهم حيث ورد في سفر العدد 23/24" هو ذا شعب كلبوه يقوم وكشبل ينهض لا يربض حتى يأكل الفريسة ويشرب دم الصرعى" ، كما ورد في العهد القديم: " حين سمع الشعب صوت البوق هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه وصعد ( الشعب) إلى المدينة وذبحوا كل ما في المدينة من رجل وامرأة ومن طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف". وورد في سفر حزقيال في وصيته لبني إسرائيل:" لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا حتى الهلاك." .وورد في سفر التكوين "اضرب أهل تلك المدينة بحد السيف بجميع ما فيها حتى بهائمها".(/4)
إن هذه النصوص من التوراة والتلمود هي قليل من كثير لا يتسع المجال لذكرها لكنها تعبر عن الأساس العقدي والمنظومة الفكرية الذي تأسس عليها الفكر الإرهابي بشقيه الصهيوني اليهودي، والصهيوني المسيحي . وهي التي تحاول دائماً بدفع هذه التهمة الفعلية عنها وإلصاقها بالإسلام. الذي هو دين رحمة وخير ومحبة وعدل ومساواة للبشرية جمعاء، حيث لا فضل لعربي على أعجمي إلابالتقوى. وهذه الحقائق لم يثبتها ويؤكدها كتاب الإسلام فقط،بل أكدها مؤرخو الغرب ومفكروه وباحثوه من خلال تفاعلات المسلمين مع الشعوب الأخرى، ولعل انتشار الدين الإسلامي في أوروبا وأمريكا لأسطع دليل على ذلك ، ويكفي أن نذكر في هذا المضمار الحديث النبوي الشريف، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً…) وأوصى سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسامة بن زيد، فقال: " لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله".
كان لا بد من كشف الحقائق لفضح التدليس الذي يمارسه اليهود ومن يؤمن بالعهد القديم على العالم، من خلال إيحائهم للناس أن دينهم الذي يمارسونه المنبثق من توراتهم الحالية هو ما إنزل على سيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور في سيناء. لكن الحقيقة أصبحت واضحة، بعد اختفاء التوراة الحقيقية مع نهاية حكم سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام. وما يسمى كتاب التوراة هو الذي كتبه اليهود بعد مئات السنين من وفاة سيدنا موسى، و هذا هو الكتاب الذي بين أيديهم ما هو إلا رسالة شيطانية أوحى بها الشيطان لأشراره من اليهود بكتابتها، فجاء بدين عجيب، حيث أن إلههم فيه إله عجيب، إله جاهل حيناً (حسب كتابهم) وضعيف حيناً آخر، إله يفضل سكن البيوت بين شعبه، إله إرهابي متعطش للإرهاب وسفك الدماء، وحرق شحوم ضحاياهم.لأنه يحب رائحة الشحوم المحروقة التي تبعث في نفسه السرور والبهجة. وأمام هذه المعطيات فلنتلمس طريقنا لفهم الإرهاب.
5- ما هو الإرهاب؟
الإرهاب كلمة مشتقة من الفعل أرهب، يقال أرهب أي خوف وفزع، ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يذكر مصطلح الإرهاب بهذه الصيغة ، إنما ذكر صيغ مختلفة تدل على الخوف والرهبة والتعبد لله رب العالمين وتخويف وترهيب أعداء الله من الكفرة والمشركين، فورد في سورة البقرة: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيايّ فارهبون" (آية ـ40)وفي سورة الأنفال ورد :" ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم" (آية 60) وفي سورة الأعراف ورد " واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" (آية 116). فلذلك الإسلام واضح في موضوع الإرهاب من خلال القرآن الكريم. أما بالنسبة للإرهاب بالثقافة الغربية، فيرجع استخدام كلمة إرهاب تاريخياً للدلالة على نوع الحكم الذي لجأت إليه الثورة الفرنسية إبان الجمهورية الجاكوبية في عاميّ (1793 -1794) ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين المناهضين للثورة الفرنسية. وقد نتج عن إرهاب هذه المرحلة التي يطلق عليها (Reign of Terror) اعتقال ما يزيد على 300 ألف مشتبه وإعدام 17 ألف فرنسي بالإضافة إلى موت الآلاف في السجون بلا محاكمة . (والمتتبع لهذه المرحلة يعلم دور اليهود والماسونية في هذا الإرهاب).ولعل قبل ذلك كانت محاكم التفتيش في أسبانيا ضد الأقليات الدينية من أهم المحطات الإرهابية في تاريخ الثقافة الغربية. ولعل الحروب الصليبية هي صورة متكاملة لإرهاب الممالك والإمارات الغربية ضد المسلمين ، وهذا ما يتغنى به الآن الرئيس الأمريكي جورج بوش حين أعلنها حرباً صليبية للقضاء على ما يسمى (بمحور الشر) والذي أثبتنا في مقدمة بحثناً من هو محور الشر. وقد تبنت قبله بعض الدول الإرهاب كجزء من خطة سياسية للدولة، مثل الكيان الصهيوني، ودولة هتلر النازية في ألمانيا، وحكم موسوليني في إيطاليا، ومعظم الدكتاتوريات المدعومة من أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم ممارسة إرهاب الدولة المنظم تحت غطاء أيديولوجي لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية وثقافية.
الإرهاب الدولي والعنف السياسي: يعرف الإرهاب الدولي بأنه نوع من العنف غير المبرر، وغير المشروع بالمقياسين الأخلاقي والقانوني الذي يتخطى الحدود السياسية. ويختلف الإرهاب عن ممارسة العنف السياسي الداخلي التي قد تنتهجها بعض القوى الرافضة لبعض المظالم الاجتماعية أو السياسية أو العرقية أو الأيديولوجية داخل الدولة الواحدة للنيل من السلطة الشرعية أو السلطة المستبدة المفروضة من قوى الهيمنة الخارجية كما يختلف عن نضال الشعوب لنيل حرياتها أو لتحرير أرضها من عدو مغتصب.(/5)
إن منطق الاستعمار دفع أعظم دولة في العالم لتمارس الإرهاب الدولي لتحقيق مآرب سياسية وسيطرة دولية تحقيقا لما يسمى نبوءات توراتية، وبث الرعب والفوضى في العالم. وعندما نصف ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم بالإرهاب فإننا لا نقول ذلك جزافاً بل نستند على التعريف الأمريكي ذاته للإرهاب، بحيث يعرف على أنه: "الاستعمال المحسوب للعنف أو التهديد بالعنف للوصول إلى أهداف ذات طابع سياسي أو ديني أو أيديولوجي (أليس هذا ما يحصل الآن مع العراق). إن إدخال العالم في متاهات ما يسمى بحرب الإرهاب المبهم، قد جرت العالم إلى تحديات كبرى وحروب وأزمات لا يمكن التنبؤ بنتائجها.وأدت إلى بروز الكثير من الملفات العالقة والقضايا الساخنة والخلافات المستعصية ليتم حسمها حسماً أحادي الجانب في ظل ما يسمى الحرب على الإرهاب، خدمة لإسرائيل وللمشروع التوراتي العالمي. كما أججت الحملة الأمريكية الإعلامية والعسكرية إلى زيادة العداء بين الشعوب والدول تحت مفهوم من معنا ومن ضدنا الذي أطلقه بوش، وأوجدت مناخاً مناسباً لنمو الأجنحة القومية المتطرفة في العالم. وراحت الولايات المتحدة بقيادة اليمين المسيحي المتصهين تتصرف بغرور وتيه ضاربه بعرض الحائط بمعاناة وجوع شعوب العالم الثالث. فرفضت مؤخراً محكمة دولية لجرائم الحرب، ورفضت اتفاقاً يحظر استخدام الأسلحة الجرثومية، وانسحبت من معاهدة كيوتو، ومن مؤتمر دوربان، وسعت إلى تفكيك معاهدة الصواريخ البالستية، وأعطت الغطاء والدعم للإرهاب الصهيوني الشاروني ضد الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه في الضفة الغربية وقطاع غزة .وتمحورت الأجندة السياسية للتيار اليميني الديني ، داخل الإدارة الأمريكية حول أربعة مبادئ أساسية، على رأسها ، رفض العمل الجماعي، وأن يكون العمل الدولي تحت قيادة أمريكية، أو بمبادئ أمريكية و إلا أصبح مرفوضاً، ولعل هذا المبدأ يفسر لنا بوضوح أسباب تحلل إدارة بوش من أغلب الاتفاقات الدولية، التي انضمت إليها الولايات المتحدة سواء بالتوقيع أو بالتصديق أو الموافقة.
أما المبدأ الثاني يتجسد بإعلاء فكرة الهيمنة الأمريكية ورفض بزوغ أية قوة مضادة ورفض فكرة التعددية القطبية أو التنوع بتوزيع القوة.
أما المبدأ الثالث فهو تعظيم استخدام القوة العسكرية وتقديمها على مختلف الأدوات الأخرى في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية وهذا ما حصل في أفغانستان وهذا ما ينتظر حصوله في العراق، فليس غريباً أن نلحظ الآن مثلاً إصرار الإدارة الأمريكية على استخدام القوة العسكرية ضد شعب العراق.
أما المبدأ الرابع فهو أن تفرض الولايات المتحدة هيمنتها الفكرية والثقافية على العالم ، من خلال التبشير بالقيم الأمريكية ، وهو ما يفسر أسباب مطالبتها بعض الدول العربية بتغيير المناهج الدينية وتغيير منظومة القيم داخل هذه المجتمعات بحيث تتواءم مع المنظومة الثقافية الأمريكية.
6- الإرهاب الأمريكي ضد العراق:
وأمام هذا التحدي المصيري الذي يواجه أمتنا الإسلامية والعربية انشغل حكامنا ومفكرونا ومثقفونا بكيفية دعم الولايات المتحدة في حربها ضد ما يسمى بالإرهاب، لأنه وللأسف انتشر عند بعضهم ثقافة تسمى بثقافة الهمبرغر، وأعجب هؤلاء بالنمط الأمريكي المتصهين أو هادنه البعض خوفاً من جبروته ، أو طمعاً عند الآخرين ببعض الامتيازات التي يمكن أن يحصلوا عليها . وأخذوا كغيرهم من التوراتيين يمهدون لإقامة مملكة إسرائيل الكبرى، هذا الحلم الذي أخذ بالإنهيار تحت ضربات شباب الانتفاضة الفلسطينية.وصمت الجميع عن الإرهاب الأمريكي الفاضح ضد شعوبنا الإسلامية ، فقرى كاملة دمرت بأحدث أسلحة الإرهاب الأمريكي وعشرات الآلاف من العائلات شردت بلا مأوى، والآلاف يموتون كل يوم تحت تأثير الحصار والقصف والتجويع في العالم الإسلامي. وهذا هو حال شعب العراق الذي يرهب كل يوم، ويهدد بأسلحة الدمار الشامل، ولا ذنب له سوى أن كتبة التاريخ تناسوا كل الفاتحين والغزاة الذين قدموا إلى أرض فلسطين ولم يذكروا فقط سوى تدمير مملكتا إسرائيل ويهودا في عامي 720 ق.م و586 ق.م. (مع العلم أن هذا التاريخ يتحدث عن تجمع اليهود فقط على جزء يسير من أرض فلسطين يمتد بين صحراء النقب ومرتفعات الجليل في مناطق محدودة، ولم تعمر طويلاً، وتعاقب على حكمها ثلاثة ملوك فقط هم شاؤول، وداود، وسليمان، ثم ما لبثت هذه المملكة الصغيرة أن انقسمت إلى مملكتين أصغر في الشمال وعاصمتها السامرة وهي قرية سبطية الآن، ومملكة يهوذا في الجنوب عاصمتها أورشليم ، والتي كانت أيضا قرية صغيرة).(/6)
فأرادت الصهيونية المسيحية أن تنتقم من الآشوريين والكلدانيين الذين دمروا مملكتا إسرائيل ويهودا، وكان من قدر العراق أن الآشوريين والكلدانيين خرجوا منه. ولأن كل صهيوني مسيحي حتى الرئيس جورج بوش يقرأ في صلاته دائماً:"… يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم". إنه إرهاب من نوع جديد تحاكم به الأجيال بعد آلاف السنين على أمر قد فعل قبل آلاف السنين. أكدت ذلك وزيره الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت لمراسلة (سي بي أس) في 11/5/1996 حين سألت سمعنا أن نصف مليون طفل عراقي توفوا حتى الآن، وهذا العدد يفوق بكثير عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما وأنت تعلمين بذلك ، فهل يستحقون ذلك ؟ فأجابت أولبرايت:" أنا أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكن هل يستحقون ذلك أم لا، نعم أنا أعتقد أنهم يستحقون ذلك". (عن ماذا يتحدثون إنه بكل بساطة عن قتل نصف مليون طفل عراقي! أليس هذا إرهاباً دموياً).
7- هدف الإرهاب الأمريكي:
تغلغل اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية في جميع مناهج وأساليب حياتها ومعتقداتها، حتى غدا العهد القديم المسمى بالتوراة أساس المعتقد للمسيحيين الإنجيليين، ويطلق على أتباع هذا المعتقد (المولودون من جديد) وهو معتقد يؤمن به أكثر من نصف المجتمع الأمريكي، وهو ذات صبغة عسكرية سياسية أساسه تعاليم التوراة، ويهدف هذا المعتقد على تجميع اليهود في فلسطين، وبناء الهيكل فوق أنقاض المسجد الأقصى وإشعال حرب كونيه تسمى هرمجدون بين ما يسمى بقوى الخير وما يسمى بقوى الشر، تمهيداً لنزول المسيح ليقيم حسب معتقداتهم الألفية السعيدة. ولعل هذا المخطط الإرهابي الصهيوني والشيطاني أصبح، مكشوفاً، بعد أن تنبه لهذا الخطر الكثير من الكتاب والباحثين في العالم. فتحت عنوان (أي مستقبل لإسرائيل ) كتب الوزير اللبناني السابق ميشال اده في صحيفة النهار اللبنانية في 26/1/2003: أن الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية تتعرض الآن لحملات شرسة من جانب اللوبي الصهيوني على كل الصعد. وهي تعاني الأمرين اليوم في الولايات المتحدة من هذه الظاهرة (المسيحانية) ومن تفشي حضورها وبروزه المتفاقم مع مراكز القرار السياسي والإعلامي والاجتماعي الأمريكي. وهي تقاوم بكل ما تملك من إمكانيات هذه المغامرة المدمرة التي يحاول الصهاينة و"المسيحانيون" المندرجون تحت معطفها أن يزجوا بالولايات المتحدة والمسيحيين الأمريكيين والشعب الأمريكي في غمارها، وفي لجة أخطارها الكارثية على العالم".
وصدر كتاب (الأخوة الزائفة) لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي (جاك تيني) الذي أعده على أثر تكليف حكومة كاليفورنيا له لقيادة فريق عمل للتحري عن قوة خفية تسيطر على اقتصاد الولاية. وفي مقدمة كتابه صرخة تقول:" إن هذا الكتاب ليس إلا صرخة لأبناء الولايات المتحدة والغرب والعالم أجمع يحذرهم من الصهيونية التي تسعى للسيطرة على البلاد وتغيير معالمها وتدمير الأمم والقضاء على كافة الأديان… إنها القوى الصهيونية الخفية التي ورطت أمريكا في الحروب العالمية والحروب الفرعية الأخرى… والقوى الصهيونية هي التي ستكون السبب في حرب عالمية ثالثة لإخضاع الدول العربية لإسرائيل وجعلها دويلات قزمه تدور في فلكها … ولا شك أن هذه المعادلة ستدفع العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي في مواجهة دينية، وستضرب الكيانات العربية القوية اقتصادياً أو مالياً، وسيعم الفقر كل المنطقة المحيطة بإسرائيل، هذا بالإضافة لموت أعداد كبيرة من العرب والمسلمين، وفي نفس الوقت تصبح أمريكا منهكة مما يساعد بيوت المال اليهودية من إحكام القبضة عليها وعلى الدول الأوروبية. وبذلك يتوفر لإسرائيل القوة التي تستخدمها في الوقت المناسب، حيث يضعف العالم كله، ويمكن عندئذ أن تنصب ملكاً يهودياً على العالم (من كارثة الخليج .. إلى المذبحة إلى الحرب العالمية الثالثة .. إلى المجهول .. الأستاذ عادل رمضان) تأكيداً لما ورد في الكتاب المقدس (مزمور .. 149): " ليبتهج بنو صهيون بملكهم … ليصنعوا نقمة في الأمم وتأديبات في الشعوب لأسر ملوكهم بقيود، وشرفائهم بكبول من حديد، ليجروا بهم الحكم المكتوب".
وورد في المحضر الخامس من بروتوكولات حكماء صهيون:"… سوف نقود المسيحيين إلى الفوضى العارمة التي تدفعهم إلى مطالبتنا بحكمهم دوليا…" نعم إنه ليس إرهابا فقط بل مجزرة عالمية ضد الإسلام والمسيحية تقودها الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية.
8. أمريكا لا يمكن أن تكون مصدراً للقيم في العالم:(/7)
نحن المسلمين والعرب كتب علينا أن لا نموت، ولا تخرب ديارنا، ولا يقتل لنا قتيل إلا بالسلاح الأمريكي، وعجبي ممن يهتف تحيا أمريكا! نجوع لتشبع أمريكا، والمثال الأعلى لمعظمنا الديمقراطية الأمريكية، وحقوق الإنسان الأمريكي والليبرالية الأمريكية . مع أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع هش معنوياً وأدبياً وأمنياً، ومن الممكن أن يتعرض للانهيار العام في أية لحظة (وتجربة لوس أنجلوس) شاهد على ذلك. واعتقد أننا لا يمكن أن نفهم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مستشار الأمن القومي الأمريكي زينو برجينسكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي ذكر في كتابه "الفوضى" عن مدى التناقض الذي يميز نظرة العالم للولايات المتحدة ونظرة الأمريكيين أنفسهم لها حيث قال : "إن العالم قد أصيب بعدوى القيم والصور التي يفرضها الإعلام الأمريكي عليه وهو ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، فهل حقاً تستحق الولايات المتحدة أن تكون مصدرا للقيم في العالم حتى وإن حازت على مفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية… إن مستوى التعليم في أمريكا متدن جدا بالمقارنة بالدول الأوروبية وحتى تلك في جنوب شرق آسيا… هناك 23 مليون أمريكي يعيشون في جهل تام. وإن أحياء الفقراء تتميز بانعدام وجود بنية تحتية تصلح للعيش الآدمي، وقد تشكلت ملامح ثقافة جديدة تسمى "ثقافة المخدرات" على اعتبار أن هذه السموم قد أصبحت نمط الهروب النفسي من المشاكل التي يعانيها الأمريكيون… والعائلة انهارت كمركز للمجتمع الأمريكي لاستفحال الإباحة الجنسية والشذوذ الذي أدى إلى استشراء "الإيدز"، فضلا عن الدعاية الهائلة للفساد الأخلاقي من خلال الإعلام المرئي". كما علق المؤرخ الأمريكي تيد هاير على تورط الرئيس كلينتون في فضيحة مونيكا ليوينسكي، واستمرار تأييد الرأي العام الأمريكي له على الرغم من ذلك قائلا : " إن أمة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوأ قيادة هذا العالم".
9- أمريكا بلد قام على الإرهاب:
إن المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها الأمريكيون مع شعوب العالم، إذ سرعان ما يكتشف المرء أن لا فرق بين نظرة اليهود إلى الأمميين ونظرة الإنجلوسكسون إليهم. والسبب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكلت بعد اكتشافها من عناصر انكلوسكسونية كان الغالب عليها العرق البريطاني الأبيض الذي يشمل الإنجليز واليهود الغربيين، ورافقت حملات الإرهاب والإبادة ضد الهنود الحمر حملات الإسترقاق من أفريقيا، والتي كان أهم تجارها من البروتستانت واليهود، وجميع الوثائق التاريخية تشير إلى ذلك دون مواربة أو تعصب أو اتهام. وراحت الولايات تتشكل حتى جرت أحداث الحرب الأهلية الأمريكية بين الجنوب والشمال، وانجلت عن تشكل ما يسمى الولايات المتحدة الأمريكية. ومع مطلع القرن السابع عشر كان عدد الهنود الحمر في عموم القارتين الأمريكتين أقل من ثماني ملايين، بعد أن كان أكثر من خمسين مليونا، لنرى حجم الإرهاب الأمريكي ضد الشعوب الأصلية التي سكنت تلك الأرض. لنثبت حجم الإرهاب اللا إنساني الذي قام به المستعمرون الأمريكان لتلك الارض.و يكفينا أن نذكر أنه في عام 1730 أصدرت الجمعية التشريعية ( البرلمان) الأمريكي لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً تبيح عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قرارا بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيها مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر،و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه و50 جنيه مقابل فروة رأس إمرأه أو فروة رأس طفل (هذه هي الحضارة الأمريكية التي يتشدق بها بعض المفكرين).(/8)
وفي عام 1763 أمر القائد الأمريكي (البريطاني الأصل) جفري أهرست برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين من الهنود، ونتج عن ذلك شبه أفناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، ونشر مرض الجدري من أسلحة الحرب الجرثومية وكان أخطر ما فيه أنه لم يكن لهذا المرض أي وجود في القارتين الأمريكتين، يعني ذلك أن هذا المرض لم يكن مستوطنا هناك، ويعني هذا أيضا أن السكان الأصليين ليس لديهم أية مناعة ضد هذا الوباء الجرثومي. والمجرمون الذين استخدموا هذه الأسلحة الجرثومية يعلمون بأنه سيفتك إلى حد الإبادة بالهنود الحمر ورغم ذلك استخدموه فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل بشكلها الشامل ضد الهنود الحمر، حتى أن القنابل النووية التي أطلقت بعد ذلك بما يزيد عن قرن ونيف على هيروشيما وناكازاكي لم تكن أكثر فتكاً من جرثومة الجدري المستخدمة ضد الهنود، حيث قتل من اليابانيين 5% من عدد ضحايا الهنود في تلك المجزرة. حتى في موضوع استخدامات أسلحة الدمار الشامل لا يسعنا إلا أن نذكرأن أمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل في العالم. فهي استخدمت الأسلحة الجرثومية بشكلها الواسع وقتل أكثر من سبعه مليون هندي أحمر. وأمريكا أكثر من استخدم الأسلحة الكيميائية في الحرب الفيتنامية وقتل مئات آلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة الهايدروجينية وأمريكا أول من صنع الأسلحة النيوترونية. وبعد شبه فراغ القارة الأمريكية من الهنود الحمر، اضطر الغزاة الإرهابيون إلى البحث عن قرابين بشرية جديدة يكلفونها بتعمير القارة التي أبادوا سكانها. وبعد أن فشلت حملاتهم على شمال أفريقيا، ودفنت أحلامهم وقتل ملوكهم في معارك وادي المخازن بالمغرب، بعد كل ذلك اتجهوا إلى أفريقيا السوداء وبدأت ثاني أفظع جريمة إبادة وتهجير في التاريخ، وهي تجارة الرقيق الأسود بعد اصطيادهم وأسرهم من السواحل الأفريقية في عمليات إجرام خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي أدت بدورها إلى مآسي طالت خمسين مليون أفريقي أسود تم شحنهم من أنحاء القارة الأفريقية وقد هلك معظمهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد، مما لقوا من العذاب والجوع والقهر ، حيث تم قتل الكثيرين منهم لمجرد نشوة القتل والتسلي بهم، هل هناك إرهاب أفظع من ذلك؟ والعجيب في الأمر أن أمريكا هي التي أحبطت في مؤتمر دوربان عام 2001 مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار. ولعل الدافع وراء ذلك المفاهيم التوراتية فحسب ايالكوت سيموني (245c.n.772) :" كل من سفك دم شخص غير يهودي عمله مقبول عند الله، كمن يقدم قرباناً إليه" لذلك يعتقدون أنهم بهذا الإرهاب والقتل والبطش والتشريد والذبح إنما يقدمون قرابين إلى إلههم الذي يدعوهم لفعل ذلك، فكيف يعتذرون عن ذلك.
وفي الحرب العالمية الثانية في معركة واحدة دمرت الطائرات الأمريكية بالقذائف والنابالم الحارق في طلعة جوية واحدة 61 ميلاً مربعاً، وقتلت 100 ألف شخصاً في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و46 مدينة يابانية أخرى، وكانت نتائجها أفظع من نتائج استخدام الأسلحة النووية، وقبل أن تستخدم أسلحتها النووية فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، التي حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح ، بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل. مع أن الكثير من الباحثين أثبت أن اليابان كانت قد وافقت على شروط الاستسلام، قبل استخدام أمريكا للأسلحة النووية ضد الشعب الياباني، ورغم ذلك أصر الإرهابيون المتعطشون لدماء الشعوب على ممارسة هذه الإبادات البشرية الجماعية.
وفي كوريا تدخل الأمريكان لعزل الحكومة الشعبية فيها وأغرقوا البلاد في حروب طاحنة سقط خلالها فوق 100ألف قتيل.
و في فيتنام أدى التدخل الأمريكي إلى قتل أكثر من مليون شخص، وتؤكد مجلة نيويورك تايمز في مقالة نشرت في 8/10/1997 إن العدد الحقيقي للضحايا الفيتناميين بلغ 3.6 مليون قتيل، وفي بعض التقارير تم إثبات أنه بين عامي 1952-1973، قتل الأمريكيون زهاء عشرة ملايين صينيي وكوري وفيتنامي وروسي وكمبودي, وفي غواتيمالا قتل الجيش الأمريكي أكثر من 150 ألف مزارع في الفترة ما بين 1966و 1986.(/9)
وبتواطؤ أمريكا قتل الملايين في مجازر عديدة في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن وإندونيسيا ونيكاراغوا والسلفادور وهندوراس بالأسلحة الأمريكية الفتاكة، والتي منها أسلحة لم تدخل مخازن الجيش الأمريكي، بل صنعت وصدرت إلى بعض الأنظمة المتآمرة والمتعاملة مع الولايات المتحدة لإستعمالها ضد شعوبها. والنصيب الأكبر وجه إلى الكيان الصهيوني الذي يمارس كافة أشكال الإرهاب والقتل والتنكيل والتشريد ضد الشعب الفلسطيني، ولم نسمع أن أمريكا مناصرة الحرية والديمقراطية في العالم قد طالبت بالإرهابيين الدمويين الصهاينة إلى المحاكم الدولية من أمثال ابن جوريون، وأشكول، وجولدامئير ، وموشي دايان ،واسحق رابين، وشيمون بيريز، ونتيناهو، وباراك وشارون، وموفاز وغيرهم الكثيرين في هذا الكيان الإرهابي! كما أنها لم تطالب بمحاكمة (سوموزا) في نيكاراغوا و (بينوشيه) في تشيلي و(ماركوس) في الفليبين و(باتيستا) في كوبا و(دييم) في فيتنام و(دوفاليه) في هايتي و (سوهارتو) في أندونيسيا و(فرانكو) في أسبانيا.
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة في حرب الخليج الثانية ضد العراق، ويمكن أن نكتفي بما ذكرته صحيفة التايمز البريطانية بعد إعلان وقف إطلاق النار، لتوضيح مدى المجازر والإرهاب الذي ارتكب في العراق حيث جاء فيها:" كانت الحرب نووية بكل معنى الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية، لقد أحدثت الأسلحة المتطورة دماراً يشبه الدمار النووي، واستخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري المسماة (BLU – 82)وهو سلاح زنته 1500 رطل وقادر على أحداث انفجارات ذات دمار نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ مئات الياردات. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب بأربعين طناً، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60ـ80 ألف قنبلة قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقد سئل كولن باول حينذاك والذي كان رئيساً لأركان الجيش الأمريكي عن عدد القتلى العراقيين فقال: "لست مهتماً به إطلاقاً" لم يكن مهماً عند كولن باول أن مائتي ألف عراقي قتلوا في هذه الحرب. هذه الحرب التي أطلق عليها الأمريكان الحرب النظيفة لأنها تقوم على استراتيجية التصويب العسكري الدقيق باستخدام أجهزة التسلح الإلكتروني! (ما انظف من هذه الأسلحة إلا من يطلقون على أنفسهم الأطهار وأياديهم من إرهابهم ملطخة بدماء الملايين من شعوب العالم!)
والجديد بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بحروبها الإرهابية ضد العالم بل هي التي تدرس الإرهاب في معاهد ومدارس لتخرج الإرهابيين ليتفننوا بتعذيب الناس وقتلهم.
10- أمريكا تصدر الإرهاب إلى العالم:
فقد ذكر الكاتب البريطاني " جورج مونبيوت" في جريدة الجارديان البريطانية في عددها الصادر في 30/10/2001 " أنه يوجد في مدينة "فورت بينينج" بولاية جورجيا معهد خاص لتدريب الإرهابيين يطلق عليه " ويسترن هميسفير للتعاون الأمني (WHISK) وتموله حكومة الرئيس بوش، مشيراً أن ضحايا هذا المعهد يفوق قتلى انفجارات 11 سبتمبر وتفجير السفارتين الأمريكيتين في أفريقيا، وكان يطلق على هذا المعهد مدرسة الأمريكيين (SOA) ومن عام 1946 حتى عام 2000 قام هذا المعهد بتدريب أكثر من 60 ألف جندي وشرطي من أمريكا الجنوبية متهمين بأعمال التعذيب والإرهاب في بلادهم ، ومن بين هؤلاء الخرجين الكولونيل " بيرون ليما استرادا" المتهم بقتل الأسقف "جوان جيرادي" في جواتيمالا" لأنه كتب تقريراً حول المذابح التي ارتكبتها المخابرات العسكرية برئاسة "استرادا" وبمساعدة اثنين من خريجي هذا المعهد والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء.
وفي عام 1993 أعلنت الأمم المتحدة أسماء ضباط الجيش الذين ارتكبوا أكثر مذابح الحرب الأهلية فظاعة في سلفادور، فكان ثلثي هؤلاء الضباط تدربوا في مدرسة (SOA)
وأوضح الكاتب البريطاني أن هذا المعهد قام بتدريب أخطر الضباط الذين ارتكبوا جرائم وحشية ما بين قتل وخطف ومذابح جماعية في دول أمريكا اللاتينية، مثل تشيلي وكولومبيا وهندوراس وبيرو. ويكفي هنا الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد حذر أي حكومة تؤوي الإرهابيين وتساعدهم في أعقاب انفجارات 11 سبتمبر، مما قاله آنذاك " أن أي عمل كهذا هو مشاركة لهم في الإرهاب!"
بعد كل هذه الحقائق التي وردت، هل نتجنى على الأمريكيين عندما نذكرهم ببعض ماضيهم المعبر عن حضارتهم وعن ثقافتهم وعن جرائمهم وعن إرهابهم، وعن قتلاهم في أفغانستان، وعشرات الآلاف المرشحين للقتل في العراق وعن مئات الآلاف الذين سيقتلون في حروب أمريكا القادمة في حربها التوراتية على الإسلام في ما يسمى بحرب الألفية السعيدة!(/10)
إن الله يمهل ولا يهمل فهذا الإرهاب الأمريكي المنظم والمدعوم بالعقيدة التوراتية التي تتسلح بها الصهيونية المسيحية ارتدت على الولايات المتحدة الأمريكية بالويلات الداخلية، فإذا الإرهاب الأمريكي الداخلي، أصبح حالة ميئوس منها لايمكن السيطرة عليها ،وأصبحت تنذر بتفكيك الولايات المتحدة الأمريكية من الداخل،ولتأكيد ذلك فلنق نظرة عليها من خلال كتابهم ومفكريهم لكي لا نتجنى إن قلنا أن أمريكا بلد الإرهاب.
11- الإرهاب الأمريكي الداخلي:
في دراسة للباحث الإجتماعي الأمريكي " لويل فاكنت" يقول: " وواقع الأمر أن الولايات المتحدة قد اختارت أن تبني لفقرائها بيوت اعتقال وعقاب بدل المستوصفات ودور الحضانة والمدارس. هكذا ومنذ عام 1994 تخطت الموازنة السنوية لدائرة السجون في كاليفورنيا (المسؤولة عن مراكز الإعتقال للمحكومين الذين تتجاوز عقوبتهم السنة الواحدة) الموازنة المخصصة لمختلف فروع جامعة الولاية فقد تقدم الحاكم (بيت ويلسون) عام 1995 بمشروع موازنة يلحظ فيه إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تحويلها إلى ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة . والسبب واضح فمثلاً في 22/8/1999 أعلنت وزارة العدل الأمريكية " أن عدد البالغين المسجونين أو الذين خارج القضبان بكفالة بلغ عام 1998 خمسة ملايين و900 ألف شخص. وتعني هذه الأرقام أن 3 من الأمريكيين مع نهاية عام 1998 إما يكونوا داخل السجن وإما خارج القضبان بكفالة.
إن ثقافة الجريمة والسجون انتقلت بداعي الثقافة التوراتية الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى المدارس حيث شاعت ظاهرة إطلاق النار على المدرسين والمدرسات وعلى التلامذة بشكل لافت لم يشهد له العالم مثيلاً. فقد تناقلت وسائل الإعلام في مارس 1998 المعلومات التالية: " لاحظ الخبير في علم دراسة الجرائم( رونالد واينر )من الجامعة الأمريكية أن وتيرة العنف لدى الشباب زادت إلى درجة كبيرة بسبب ثقافة الأسلحة النارية. وغلبة العقلية المستوحاة من قانون الشارع أو (التعاليم التوراتية)على الأخلاق والمبادئ الإنسانية. وأظهرت دراسة كشف عنها البيت الأبيض، أن واحدة من كل عشر مدارس رسمية أمريكية شهدت أعمال عنف خطرة عام 1997.
وكتب أحد كبار صحافي نيويورك متعجباً: " هناك حرب حقيقية في شوارع الولايات المتحدة. ويسقط قتلى بالرصاص ما يقارب 45 ألف شخص كل تسعة عشر شهراً، وهو العدد نفسه الذي سقط خلال تسعة أعوام من حرب فيتنام " هذا يكشف أمراض المجتمع الأمريكي المستعصية، و العنصرية المتفشية في داخله، والتباينات الإجتماعية الواضحة، إن دل هذا على شيء فيدل على تفجر اللحمة الأسرية، وإفلاس النظام التربوي، واستشراء المخدرات، وعن عدم فاعلية النظام القضائي، وعن قوة اللوبيات المدمرة داخل المجتمعات الأمريكية، وخصوصا اللوبي الصهيوني و هذا يدل أيضا على الإرهاب الدموي الذي يطال مختلف الشرائح والطبقات. فمثلا في سنة 1991 قتل الإرهاب الداخلي الأمريكي 38317 شخص وجرح 175 ألف شخص، هذا يعني حصول 105 قتيلا في اليوم الواحد ، ولترجمة هذه الأرقام على الواقع لنفهم نتائج هذا الإرهاب، يكفي أن نقارن طبيعة القتلى بالسلاح بين أمريكا وبعض الدول الأوروبية. ففي سنة 1990 بلغ عدد حالات القتل بأسلحة اليد في الولايات المتحدة فقط إلى 10567 حالة بينما بلغ في بريطانيا 22 حالة وفي السويد 13حالة، وفي استراليا10 حالات وفي كندا 68 حالة وفي اليابان 87 حالة .وهذا ما دفع الكثير من المحللين الأمريكيين من إطلاق وصفا لهذه الحالة الإرهابية بأنها "حرب حقيقية في كل بيت" أو " الإرهاب على الذات". لذلك صرح بصوت عال (كولمان يونغ) عمده مدينة شيكاغو الأسود البشرة، الذي رفض بإصرار تجريد مواطنيه من أسلحتهم حيث قال:" قد أكون مجنونا إذا صادرت الأسلحة، في الحين الذي نحن فيه محاصرون بإناس عدوانيين".مما جعل لجنة أمن منتجات الاستهلاك، التي باشرت عملية إحصاء لحوادث إطلاق النار الى التوصل إلى نتيجة مفادها أن في الولايات المتحدة وفق التقديرات المختلفة حوالي 200 ألف شخص يصابون بالرصاص سنويا. بالطبع لا يتضمن هذا الإحصاء عدد الضحايا المجهولة الذين يعالجون بعد إصابتهم بعيدا عن أعين الحكومة الفيدرالية. كما ينتشر في الولايات المتحدة 211 مليون قطعة من الأسلحة النارية، بينها 67 مليون مسدس مختلف الأنواع.(/11)
أن السبب المهم للإرهاب الداخلي الأمريكي وحسب الكاتب "جيل ديلافون" الذي أصدر كتاب (violente) العنف في Ameique أمريكا: " ففي نهاية 1994حطم النظام القضائي الأمريكي المتعثر رقماً قياسياً مرعباً بوجود أكثر من مليون شخص من الأمريكيين يتعفنون وراء قضبان السجون، وهو أعلى معدل اعتقالات على سطح هذا الكوكب. مع الإشارة إلى أن ثلاث أرباع المتهمين لا يعتقلون ولا يضعون داخل السجون لأسباب قانونية معينة.والأسوأ من النظام القضائي هو نظام السجون الذي يصنع (مجرمين محترفين) حقيقيين محكومين نهائياً بالعودة إلى الأجرام. فأكثر من 60% من المعتقلين نفذوا بالسابق حكما بالسجن، وبناء على دراسة أجريت على مستوى الولايات كلها. هناك 108 ألف مجرم تم إيقافهم حوالي 109 مليون مرة. هذا يعني أن أمريكا تقبع تحت مسلسل الإرهاب والجريمة الداخلية والمسؤول عنها الشعب الأمريكي بامتياز. وأمريكا متخلفة أكثر من أية دولة عربية أو أية دولة من دول العالم الثالث المتهم بالتخلف. ويكفينا تحاليل وتنظيرات من المتأمّركين المتصهينين الذين يستهزئون بشعوبهم ويريدون إقناعها بالتجربة الأمريكية الرائعة ،وهذه الأرقام أكبر دليل على روعة التجربة الأمريكية.
إذن الإرهاب الداخلي مستفحل في جذور المجتمع الأمريكي وفي كل آليات حركته، بل كان ركيزة نشأة هذا البلد كما أسلفنا سابقاً، سواء من خلال الصراعات بين الغزاة البيض فيما بينهم أو صراعهم مع أصحاب الأرض الحقيقيون من الهنود الحمر. إن الغازي الأمريكي أصبح مواطناً أمريكياً بمقدار ما وسع أرضه وقتل أصحابها الحقيقيين، أو من خلال الإضطهاد الشرس ضد الأفارقة والتي ما زالت تغذيه المعتقدات التوراتية والقوانين الأمريكية التي تعتمد على العهد القديم في تشريعاتها. وحسب تقرير رسمي صدر عام 1989 بعنوان (ضحايا العنف في القوانين الأمريكية) تحدث أحد كاتبي التقرير (ليونارد جيفري) عن أن في أمريكا 5500 عصابة مسلحة معروفة تنتشر اليوم ،وبعضها منظم وله أفرع في كل الولايات المتحدة. وتقوم هذه العصابات أو الميليشيات بـ 25 ألف عملية قتل في السنة، والقتلى معظمهم من السود، وأخذت هذه الميليشيات تبني دولها و قوانينها الخاصة بها داخل الولايات المتحدة .وهي محمية بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة ،و أكد كثير من المطلعين أنهم يملكون كميات وافرة من أسلحة الدمار الشامل تفوق الخيال. ولعل استخدام الجمرة الخبيثة بعد أحداث 11 سبتمبر داخل الولايات المتحدة الأمريكية والإرباك الذي أصاب المؤسسات الحكومية والاجتماعية من جرائه لدليل ساطع على ذلك. و تم إثبات أن هذه الجمرة الخبيثة المستخدمة هي أمريكية داخلية بحتة صنعت على يد الإرهابيين الأمريكيين. كما لهذه الميليشيات نفوذها الانتخابي والاجتماعي، و هي تمارس العنف الهستيري، وتطمع إلى تجهيز جيشاً من الإرهابيين للزحف على البيت الأبيض وتدمير الحكومة الفيدرالية فيه واحتلال البلاد.
ألم يكن أجدى بحكومة بوش أن تواجه هذا الإرهاب الأمريكي الداخلي ومنظمات الإرهاب الأمريكية المدمرة للاستقرار الداخلي، من أن توجه تهمة الإرهاب للمنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تدافع عن حقوقها الوطنية وتريد تحرير أرضها وشعوبها من الاحتلال الإرهاب الصهيوني البغيض. أليس من الواجب الوطني والقومي أن تقوم الحكومة الأمريكية بتنظيف البيت الأمريكي من الإرهاب الداخلي ومن منظمات الإرهاب الأمريكية . وخصوصاً أن الصهيونية المسيحية أفرزت أكثر من ألف ومائتي حركة دينية متطرفة يؤمن أعضائها بنبوءة نهاية العالم أو بما يسمى "معركة هرمجدون". وهذه الحركات تنتج أفلاماً سياسية على أنها أفلام دينية ، تخدم فكرة دعم إسرائيل بوصفها ساحة المواجهة الأخيرة قبل نزول المسيح عليه السلام. مثل فيلم "إسرائيل مفتاح أمريكا إلى النجاة" وفيلم " القدس .د.س" الذي أجمع كل من شاهده على أنه يبعث رسالة واضحة مفادها: " اشكروا الله أرسلوا الذخيرة!"(/12)
ولعل فكرة نزول المسيح وارتباطها بنشوب معركة هرمجدون هي التي دفعت بعض هذه الحركات إلى القيام بانتحارات جماعية بهدف التعجيل بعودة المسيح وقيام القيامة كما يعتقدون، ومن هذه المجموعات جماعة كوكلس كلان العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقوا الرؤوس، وجماعة دان كورش الشهيرة التي قاد زعيمها (كورش) أتباعه لانتحار جماعي قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) في ولاية (تكساس) من أجل الإسراع بنهاية العالم. وكذلك (القس جونز) الذي قاد انتحاراً جماعياً لاتباعه أيضا في (جواينا) لنفس السبب.وكان تيموثي مكفاي الذي فجر المبنى الفيدرالي في مدينة (أوكلاهوما) في 19/4/1995 هو أحد اتباع هذه المنظمة. فكيف تريد أمريكا أن تقنع العالم بصدق نواياها في محاربة ما يسمى بالإرهاب، وبطونها مملوءة بمنظمات الإرهاب الأمريكية. ولئن فاقد الشيء لا يعطيه، ولئن الكذب والتدليس هو عنوان السياسة الأمريكية ،ولئن الصهيونية المسيحية تقود العالم إلى الدمار، لذلك وجهت الولايات المتحدة جيوشها وأساطيلها إلى منطقتنا و كانت هذه الحرب المجرمة على الإسلام.
12ـ منظمات الإرهاب الأمريكي
أما بالنسبة إلى منظمات الإرهاب الأمريكي. فلها أيديولوجيتها السياسة الخاصة بها، فهي تعتبر أن الحكومة الأمريكية فاسدة وتتألف من مجموعة من اللصوص، مجموعة خائنة باعت نفسها للصهيونية . مجموعة خانت أهداف الثورة الأمريكية ،ورهنت الولايات المتحدة للبنوك العالمية،لذلك ينبغي على أفرادها أن يبقوا متأهبين، ومحتفظين بأسلحتهم وأن يطوروا في مختبراتهم أسلحة الدمار الشامل. فأعضاء هذه الميليشيات مقتنعون بوجود مؤامرة كبيرة مدبرة في واشنطن ومن اليهود خاصة ، تهدف إلى جلب جحافل من الأمم إلى الأرض الأمريكية ليعملوا أجراء لدى رؤوس أموال اليهودية. وهذا ما يؤدي بدوره إلى اضطهاد اليد العاملة الأمريكية الأصلية ، ومنهم من يدعي أنهم المدافعون الأواخر عن العنصر الأبيض، ومنهم من يؤمن بعودة المسيح المنتظر، بل منهم من آمن بأنه قد نزل فعلاً. صدر تقرير في (USA ToDay) في 30/1/1995 يدعي أن في عام 1994 ظهرت ميليشيات في أكثر من 24 ولاية اجتذبت 50 ألف عضو، ومصدر هذا التقرير المكون من عشر صفحات هو (مكتب الباتف) ويحذر هذا التقرير من هذه الميليشيات (العسكرية المحترفة) والتي تناهض الحكومة الفيدرالية العداء، وتفسر الدستور الأمريكي بالمعنى الحرفي. وتأخذ الوكالات الحكومية المختلفة هذا التحذير على محمل الجد. ويؤكد تقرير صدر عام 1998 عن مركز (ساوترن بوفرتي لوسانتر) المتخصص في مراقبة التحركات المعادية للحكومة الفيدرالية، أن المجموعات التي تحرض على الحقد هي (المنظمات الصهيونية، ومنظمة فروة الرأس، والمدافعون عن تفوق العرق الأبيض، ومنظمة الهوية المسيحية) وارتفعت نسبة الميليشيات ما بين 1996و 1997 إلى 20% .لم يكن خطر هذه الميليشيات خافياً على الخبراء والمختصين ووسائل الإعلام الأمريكية فأصدرت مجلة التايمز ملفاً كاملاً عن هذه الميليشيات المسلحة في أمريكا، وأوردت أسماء أخطر عشرين منظمة تنتشر في أنحاء الولايات المتحدة.ويقول ميتشيل هاميرز أحد خبراء الجامعة الأمريكية في واشنطن: " إن الإرهاب الداخلي يشكل تهديداً متزايداً وهو أكثر تنظيماً في أوساط الميليشيات… أنهم لا يستعملون فقط قنابل بسيطة كتلك التي استخدمت في أوكلاهوما سيتي، ولكن مخازنهم تتضمن أسلحة دمار أكثر تطوراً من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية المعروفة. وفي جلسة خاصة للكونجرس الأمريكي في مايو من عام 1995 حذر ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين من تعاظم خطر الإرهاب المحلي مشيرين إلى أن الرعايا الأمريكان أصبحوا يواجهون خطر الإرهاب المحلي أكثر من الإرهاب الخارجي المدعوم خارجياً.
فالميليشيات تفتك بأمريكا بضراوة السرطان مثل بلوووس وكريبس اللتان أنشئتا منذ أكثر من ثلاثين سنة في كاليفورنيا، ولهما اليوم وكلاء في 32 ولاية و113 مدينة. ففي عام 1985 في قطاع( لوس أنجلس) وحدة كان يوجد 400 منظمة إرهابية، وأصبح العدد في عام 1990 ما يقرب 800 منظمة إرهابية تضم 90 ألف عضو. وتوسعت هذه المنظمات الإرهابية انطلاقاً من شيكاغو باتجاه (مينابوليس) وامتدت هذه الميليشيات حتى إلى المدن الصغيرة في أواسط الغرب، فمثلا بين 1990ـ 1993 في مدينة (ويشيتا) من ولاية (كانساس) التي يقطنها 300 ألف نسمة أحصيها 90 منظمة إرهابية ، وأصبح شعار (أطلق النار عشوائياً من السيارة ) أمراً شائعا . وامتدت هذه الميليشيات إلى قلب أمريكا بعد أن كانت محصورة ولمدة طويلة في المدن الكبرى، فوصلت إلى مدن( أوماها ) و(اوكلاهوماسيتي) و (كانساس سيتي).(/13)
وما يثير العجب عند هذه الميليشيات أن الندم معدوم لدى إرهابييها وخصوصاً القتلة من الشباب والطلاب وحسب تقرير لمؤسسة (يو أس نيوز أند وارد ريبورت) الصادر في 8/11/1993ورد الاتي: " أن في كل يوم دراسة يندس في محفظات الكتب 270 ألف مسدس. وفي الصفوف العالية من بين كل خمسة تلامذ، هناك تلميذ يحمل سلاحاً. لقد كانت المدرسة لفترة طويلة الملجأ الأخير للسلام تجاه العنف والإرهاب الداخلي، وتجاه عنف الأسرة، ولكنها لم تعد بمنأى عنه، وفي كل سنة يقترف ما يقرب من ثلاثة ملايين عمل إجرامي من كل الأنواع من السرقة إلى الإغتصاب إلى القتل." كما ينشر إعلانات في صحافة أمريكا الكبرى والمحلية على حد سواء يرد فيها عبارات:" يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا… يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى… نحن الثوريون الأمريكيون" ثم يردف الإعلان بالطريقة الأمريكية النمطية :" تعالوا مع أسلحتكم". وهذه الميليشيات تنتشر في شتى بقاع الولايات المتحدة الأميركية ولها أنصارها الذين يشكلون فكرهم الغريب والمختلف، ولكل ميليشيا منطقة نفوذ. وتحترم الميليشيات فيما بينها مناطق نفوذها. ورغم أنه لا توجد مؤشرات تدل على نوع من الوحدة في الهدف أو الرؤية بين هذه الميليشيات، فإن من المؤكد أن ثمة خلفيات مشتركة أدت إلى تكون مثل هذه البؤر الفكرية المسلحة بالعداء على النمط الأمريكي في إدارة شؤونه. وتعكس قيم هذه التنظيمات مزيجاً غريباً من الدين المسيحي( لبعض المذاهب)، وتقديس الحرية الفردية للمواطن, والقيم العسكرية، وخاصة حرية اقتناء وحيازة الأسلحة النارية، والخوف من السلطة المركزية. لذلك فإن الطابع العقائدي الغالب على هذه التنظيمات هو الطابع اليميني، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى الشوفينية، والعنصرية، والحقد على كل ما هو غير أبيض أو غير مسيحي. ويوجد بين أعضاء هذه الميليشيات مجموعة من العلماء وأساتذة الجامعات ومثقفين بارزين ومحاميين وأطباء، بالإضافة إلى ضباط متقاعدين من ذوي الأوسمة الرفيعة في القوات المسلحة الأمريكية. ويعتبر بعض أعضاء هذه الميليشيات أنفسهم في حالة حرب مع السلطة الاتحادية، وهم يرفضون دفع الضرائب. أما المتطرفون منهم فيؤمنون بوجود مؤامرة تشارك فيها الحكومة الاتحادية، والمصارف اليهودية العالمية والأمم المتحدة، وغيرها من القوى المعادية للمسيحية،تهدف لإقامة حكومة عالمية أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ويدعي هؤلاء أنهم يملكون معلومات ووثائق تثبت صحة ما يدعون.
ومن أهم الميليشيات الأمريكية:
أ . ميليشيا ولاية أريزونا واسمها الرسمي (منظمة أبناء الحرية)، ومن أهداف هذه الميليشيا فصل ولاية أريزونا عن الولايات المتحدة.
ب . ميليشيا ولاية كولورادو اسمها الرسمي (حراس الحريات الأمريكية) ولهذه الميليشيا جريدة ودار نشر من مطبوعاتها "النظام العالمي الجديد" وترسل هذه الميليشيا مستشارين عسكريين لمساعدة الميليشيات في الولايات الأخرى ،وتحمل هذه الميليشيا اليهود مسؤولية فساد النظام البنكي العالمي.
ت . ميليشيا ولاية فلوريدا تتكون هذه الميليشيا من 6 ميليشيات فرعية ولها جنود في كل مقاطعة ومدينة في ولاية فلوريدا، ولها جيش وجهاز حكومي وجهاز قضائي على رأسه المحكمة الدستورية التي أرسلت أخيراً أوامر إلى المسؤولين في المقاطعة لإطاعة قوانينها.
ث . ميليشيا ولاية ايداهو الذي من قادتها الكابتن(صمويل شيرود) الذي يقول:"ستشهد أمريكا الحرب الأهلية مرة أخرى. ونحن هنا في ولاية ايداهو سنبدأ بالهجوم على مبنى برلمان الولاية ونقتل كل النواب رميا بالرصاص"
ج . ميليشيا ولاية انديانا، ترأس هذه الميليشيا جنراله سابقة بالجيش الأميركي تدعى (ليندا طومسون)، وعندها مكتب محاماة في( انديانابوليس) عاصمة الولاية، وهي تدعو للهجوم على الكونغرس واعتقال أعضاء الكونغرس وتدميرهم.
ح . ميليشيا ولاية ميتشيجان، اشتهرت هذه الميليشيا بسبب أن منفذي الهجوم على المبنى الفيدرالي عام 1995 في أوكلاهوما هم من أعضائها، وهي من أقوى الميليشيات وأكثرها عدداً من أقوال زعيمها (القس نورمان) :" سيذهب الآلاف من جنودنا بملابسهم العسكرية، وكامل أسلحتهم لتقديم إنذار إلى الرئيس الأمريكي وهذه ستكون بداية الثورة الأمريكية الثانية".
خ . ميليشيا ولاية ميسوري: لهذه الميليشيا فروع في خمس مقاطعات وهي ترشح أعضائها في الانتخابات المحلية لعُمُدْ المدن واللجان التعليمية.
د . ميليشيا ولاية مونتانا، وهي واحدة من أكبر الميليشيات الأمريكية، وتملك هذه الميليشيا دبابات وعربات مصفحة، ومدافع مضادة للدبابات، وتتدرب على حرب العصابات، وتطالب هذه الميليشيا بفصل الولاية عن باقي الولايات، وتصدر هذه الميليشيا مجلات وجرائد تتحدث عن عظمة الجنس الآري.(/14)
ذ . ميليشيا ولاية نيوهاميشير، تعتمد هذه الميليشيا على الأسلحة الفردية، واستراتيجيتها العسكرية تقوم على حرب العصابات، وتدعوا إلى المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية. ويوجد كذلك ميليشيات صغيرة لا يتسع المجال لذكرها لكنها تشكل حالة ضاغطة على النظام الفيدرالي الأمريكي، وتهدد بتفجير الوحدة الداخلية وتفكيك الولايات المتحدة.
13- الإرهاب الأمريكي بداية نهاية الولايات المتحدة:
قبل أن انهي بحثي هذا الذي تم فيه إثبات مدى جبروت الإرهاب الأمريكي الدموي ضد العالم وخلفيتهم الإرهابية، يجب أن نؤكد أن العالم لن يكون كما تريده الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي، وأن العالم دائماً ينبذ الأشرار. وكثيرين من الاستبداديين لفظوا إلى مزابل التاريخ، فأمريكا لن تكون القطب الأوحد، والصهيونية لن تحقق أهدافها وزوال جبروتها وظلمها وإرهابها قادم بإذن الله، وانهيار أمريكا قادم ومن داخلها. ويكفي أن اذكر ما كتبه مستشار الأمن القومي الأمريكي (زيغنو بريجنسكي) في كتابه (الفوضى) وهو أحد أركان اليمين الأمريكي، كما لا يمكن لأحد أن يتهمه بأنه إرهابي إسلامي يخطط لتدمير الولايات المتحدة الأمريكية حيث يؤكد أن هناك عوامل كثيرة تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق حلمها في الهيمنة على قرار العالم وهي:
أ . المديونية التي جلبت ديناً قومياً تراكمياً يتجاوز 4 تريليون دولار (وحسب إحصاءات مؤسسة فيجي الأمريكية تجاوزت هذه المديونية 13 تريليون دولار. وقيمة الفوائد على هذه الديون تفوق الدخل القومي الأمريكي). وهذا لوحده يكفي ليهدد أمريكا بالانهيار في أي لحظة.
ب . العجز التجاري الذي يرغم أمريكا، وهي الدائنة الأولى في العالم على استقراض المال مما يهدد قطاعات الإنتاج والعمل الرئيسية بالانهيار ويساهم في البطالة.
ت . وضع العناية الصحية سيئ جداً وهي غير متكافئة في الولايات والمناطق المختلفة، فهناك الملايين من الأمريكيين لا يحظون بالعناية الصحية.
ث . التعليم الثانوي متدني جداً حيث يعاني الشباب الأمريكي من سوء التعليم بالمقارنة مع معظم الشباب الأوروبي أو الياباني، وهذا يؤدي إلى جهل 23 مليون أمريكي.
ج . تدهور البنية التحتية الاجتماعية، وتعفن الريف الذي ينطبق على غالبية المدن الأمريكية الرئيسية، ذات الأحياء الفقيرة من الطراز الموجود في أفقر بلدان العالم الثالث.
ح . كثرة الإباحة الجنسية التي تهدد الحياة الأمريكية ومركزية العائلة من خلال استفحال ما يعرف بعائلة الأب الواحد. وهذا بطبيعته يؤدي إلى إضعاف اللحمة الاجتماعية وتفكك الأسرة.
خ . انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة التي هي بحالة تصاعدية كل سنة.
د . الدعاية الهائلة للإفساد الأخلاقي، وتشريع القوانين لحماية الشاذين أخلاقياً من خلال الإعلام المرئي والمكتوب.
ذ . كثرة الميليشيات التي تحارب الحكومة الفدرالية، والتي تطالب بالانفصال عن الولايات المتحدة.
ر . توريط الولايات المتحدة في حروب خارجية حيث لا تستطيع الموازنة الأمريكية ولا الشعب الأمريكي تحمل نفقاتها.
وإذا أضفنا إلى ما ذكرناه سالفاً ما يخطط له المهووسين في الإدارة الأمريكية والمدعومين من الصهاينة بشقيها. من حروب ضد الإسلام والعالم، نجد أنفسنا أمام دولة تجلس على فوهة بركان ممكن أن ينفجر في أية لحظة، هذا يدفع العالم للتوحد ضد هؤلاء المجرمين الذي أعلنوها حرباً لتدمير البشرية تحت اسم هرمجدون، أو حرب ما يسمى بقوى الخير ضد قوى الشر. زيادة على ذلك انتشار ثقافة الجريمة وثقافة المخدرات وكثرة عبدة الشيطان وثقافة الشواذ. والمجتمعات التي تحتوي على مثل هذه الثقافات لا يمكن أن تستمر كما لا يمكن أن تسود العالم ومصيرها إلى الهاوية. وبناءاً على ذلك لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطياً أو مصرفة لشؤون العالم، كما لا يمكن لها أخلاقياً وأدبياً وثقافياً ودينياً أن تتهم أحداً أو منظمة أو دولة بالإرهاب لأنها بلد الإرهاب الأعظم، ومصدر الإرهاب العالمي، وداعمة أكبر دولة إرهابية في العالم إسرائيل.
المراجع: الكتب :
دار النفائس / النشاط السري اليهودي غازي محمد فريج 1990
دار النفائس / انتحار شمشون مهندس حسني الحايك 1993
دار النفائس / ويلات العولمة دكتور أسعد السحمراني 2002
المكتب الإسلامي / جذور البلاء عبد الله التل 1988
دار النفائس / الاستغلال الديني في الصراع السياسي محمد السماك 2000
مؤسسة الرسالة / إسرائيل الخطر والمخادعة د. نعمان عبد الرازق السامرئي 1998
دار الرشيد / من يحكم أمريكا فعلا الدكتور يحي العريض 1991
المقالات :
إسلام اون لاين / الإرهاب صناعة أمريكية 9/12/2001.
الوطن / أمثال بن لادن أمريكيون 8/6/2002.
آفاق عربية / انهيار أمريكا 7/11/2002.
المقاومة نت . جذور المرتكزات الفكرية للإرهاب الصهيوني طلال الخالدي.
الجارديان / الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين / جورج مونبيوت 30/10/2001.(/15)
الأهرام / أحداث سبتمبر الأمريكية / أحمد نافع.
مجلة أقلام الثقافية / إسرائيل الكبرى / عادل رمضان.
المركز الفلسطيني للإعلام / أمريكا وإسرائيل وحرب الإرهاب / لواء صلاح الدين سليم محمد.
الصبار / قانون الإرهاب يضرب حقوق الإنسان الأمريكي عدد 146.
qudsway.com الإنجلوساكسونية ـ عقدة المحورية وفلسفة التفوق حسن الباش
البيان / ضحايا أسطورة " كواتز كواتل / أعداد الحسن المختار.
www.un.org / العنصرية والسكان الأصوليون / ريغو بيرتا مينشوتوم ( المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز وكره الأجانب / دربان).
شبكة الإنترنت للإعلام العربية / إرهاب الإمبراطورية الأمريكية 20/6/2002 .
شبكة المعلومات العربية محيط / الصهيونية المسيحية ترسم السياسة الأمريكية / عمرو سليم.
www.moqawama.tv / التوراة الميثولوجيا المؤسسة للعنف / عبد الغني عماد.(/16)
الإرهاب الصهيوني عبر التاريخ
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
وصف الله اليهود ـ وهم أعداء البشرية الألداء ـ وصفهم بالغلظة وقساوة القلوب .. هذه طبيعتهم التي لا تنفك عنهم، وهذا حالهم الذي لا يفارقهم كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: ? فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.. ?[ المائدة:13] لا ينفذ إليها خير ولا هدى، لا تفقه مراد الله ولا تمتثله كبراً وعناداً كما قال الله عز وجل عن أسلاف اليهود الذين رأوا الآيات العظيمة البينة الدالة على قدرة الله وعظمته فلم تزدهم تلك الآيات إلا إعراضاً وتكذيباً قال سبحانه:
?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ?[البقرة:74].
هذه القلوب التي يحملها يهود بين جوانحهم مليئة بالجفاف والقسوة والجدب .. فهي الحجارة الصلدة التي لا تلين، فمع كل الآيات التي رأوها وعاشوها مع نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لم تلن قلوبهم أو تتعظ، فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً ورأوا كيف أهلك الله فرعون وقومه وكيف نجا من الهلاك المحقق.
ورأوا كيف أحيا الله القتيل فأخبر بالذي قتله ومع كل ذلك لم تلن قلوبهم أو تتعظ نفوسهم.
فتاريخ اليهود حافل بالكفر والتكذيب، والالتواء والكيد والدس، والقسوة والإجرام والتمرد والفسوق، لم يعرف التاريخ أقسى قلوباً من اليهود ومن آثار قسوة قلوبهم .. أنهم قتلوا أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الداعين إلى الله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر قال تعالى: ? فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ?[النساء:155] وقال سبحانه: ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?[آل عمران:21].
ولقد جاءهم نبي الله عيسى عليه السلام بشريعة تهذب أخلاقهم وتصقل طباعهم المليئة بالرعونة والكبر، وكان مما جاء به عيسى عليه السلام محاربة جشعهم وحبهم للمال وعبادة الذهب فأنكر عليهم ذلك وخاطبهم بقوله: "ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله، مرور الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت الله."
لكن يهود لم يأبهوا بنصحه وينقادوا لأمره وهم غلاظ الأكباد وإنما زاد حقدهم على نبي الله عيسى حين دخل عليهم الهيكل المخصص للعبادة فوجدهم يحيلونه إلى بورصة للتجارة ووكر للفساد والدعارة، فأخرجهم منه وقلب موائد الصيارفة، فأخذ اليهود في الكيد لنبي الله وحاولوا قتله وتأليب السلطان ، ولكن الله نجى نبيه عيسى عليه السلام من مكرهم وألقى شبهه على أحدهم ممن خان فصلبوه ونكلوا به وارتكبوا أفضع الجرائم ظانين بأنه عيسى عليه السلام وليس هو كما قال تعالى: ?... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ... ?[ النساء: 157] وإنما قاموا به من إجرام ينم عن قسوة قلوبهم وغلاظة نفوسهم.(/1)
جرائم اليهود في التاريخ كثيرة وكبيرة كل ما تمكنوا أو وصلوا إلى القيادة والتسلط ومن أكبر جرائمهم التي تمت ضد المسيحيين قبل مجيء الإسلام، مذبحة الأخدود التي اقترفها اليهود ضد النصارى، وقضى فيها ذو نواس على عشرات الألوف منهم حرقاً سنة 524م وقد ذكر القرآن الكريم أحداث هذه الواقعة ولعن فاعليها فقال تعالى: ? قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ?[البروج:4-5]
ثم تجلت حقيقة اليهود الإجرامية الطافحة بالإجرام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلك وعاهدهم وكتب بذلك وثيقة بينه وبين سكانهم وتظاهر اليهود بقبول هذا العهد وتلك الموادعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنهم حينما رأوا المسلمين يكثرون والإسلام ينتشر، أيقن اليهود أن لا سبيل للمحافظة على مكانتهم وكبريائهم وسيطرتهم على مقدرات البلاد المادية والمعنوية إلا بالقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه واجتثاث آثار الدين من أساسه ، فأخذوا يكيدون للإسلام والمسلمين، بكل الوسائل ونقضوا العهود والمواثيق، وألبوا أهل الشرك وجمعوا الأحزاب للقضاء على الرسول والإسلام ولم يتوانوا عن السعي في دين الله معاجزين لكي يفتنوا الناس عن دينهم ويدمروا أخلاقهم ودينهم بطرح الشبه الزائفة والأباطيل المختلفة .. ولكن الله سلط عليهم رسوله والمؤمنين وأخزى أعداءه وكبتوا وأظهر الله دينه وأعلى كلمته .. وأنزل بأسه باليهود الناقضين للعهود والمواثيق قساة القلوب والأكباد.
لقد ظن أعداء الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون موقفه منهم كموقف عيسى عليه السلام ، بيد أن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالسيف وحزبه وكان أول احتكاك بين المسلمين واليهود ، ما وقع من بني قينقاع في المدينة، يوم نقضوا العهد وذلك بتعرضهم لامرأة مسلمة كانت تمر بالسوق سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ تبتاع فعمد إلى ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله. وتجمع اليهود على المسلم فقتلوه، وكانت الشرارة التي حملت الرسول صلى الله عليه وسلم على محاصرتهم خمس عشرة ليلة. وحين استسلموا وقدموا للقتل، شفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول .. واكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بإجلائهم عن المدينة تاركين بيوتهم وأموالهم.
ومن جرائم اليهود الدالة على خبثهم وقسوتهم أن يهودياً قتل جارية على أوضاع لها فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي، فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين الحجرين كما فعل بالجارية جزاءاً وفاقاً. وهكذا تتابع الإجرام من أولاد الأفاعي اليهود طوال التاريخ.
الخطبة الثانية:
ما بالنا أيها الأخوة نذهب بعيداً ونحن نرى جرائم اليهود صباح مساء فمنذ قدومهم إلى فلسطين، وهم يرتكبون المجازر، فمجزرة قرية دير ياسين يحكي شاهد عيان ما جرى ، فيقول: كانت هذه القرية العربية في قطاع اليهود مطمئنة إلى وعودهم وعهودهم ، عزلاً من كل سلاح، قام اليهود وهم مدججون بالسلاح بجمع السكان صفاً واحداً، رجالاً ونساءاً شيوخاً وأطفالاً، ثم رموهم بنار بنادقهم وآلياتهم وأمعنوا في تعذيبهم والتنكيل بهم، فبقروا بطون الحبالى وأخرجوا الأطفال وذبحوهم، وقطعوا أوصال الضحايا وشوهوا الجثث ليصعب التعرف عليها. ثم جمعوا الجثث وجردوها من ثيابها وألقوا بها في بئر القرية وحين جاء مندوب من الصليب الأحمر ليرى الحادثة لم يقو على الوقوف، بل أغمي عليه من شدة بشاعة الجريمة وكانت هذه الحادثة في 9 أبريل 1948م وقد تلت هذه المجزرة مجازر ومجازر .. الحرم الإبراهيمي ، ويافا وغيرها.
لما ذكر الله صفات اليهود وبين لنا قساوة قلوبهم وفساد حالهم، حذرنا سلوكهم واتباع طريقتهم ودعانا سبحانه إلى الإيمان به والمسارعة إلى طاعته وامتثال أمره والتزود من الخير والتقوى فقال سبحانه: ? أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ...?[ الحديد:16] وهو عتاب لطيف من الرحمن الرحيم.. ألم يأت الوقت الذي به تلين القلوب وتخشع لذكر الله، الذي هو هذا القرآن، وتنقاد لأوامره وزواجره وتتعظ بمواعظه، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا حث وترغيب للمؤمنين بأن يجتهدوا في العناية بقلوبهم حتى ترق وتخشع لله رب العالمين. وفي طيات هذا العتاب تحذير من عاقبة الغفلة والنسيان فإن القلب البشري سريع التقلب سريع النسيان والإنسان كثير الغفلة.. وهذه الغفلة وهذا النسيان تورث القلب قسوة وجفافاً، وتبلداً وظلاماً بل إن القلب يموت وتخلوا منه الحياة، حين يعرض عن ربه فلا يذكره ولا يشكره ولا يدعوه ويرجوه ولئلا يحصل ذلك.(/2)
قال تعالى: ? أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ?[ الحديد:16]
أيها المؤمنون اعلموا أن الاشتغال بالشهوات والملذات والانغماس في الحياة الدنيا والاغترار بزينتها والتكاثر منها والانغماس في اللهو واللعب كل ذلك يؤدي إلى كارثة حقيقية تتمثل في موت القلب وقسوته وبعده عن الله عز وجل والإعراض عن ذكره وعبادته ونسيان الله والدار الآخرة. وإذا نسى العبد ربه فقد فسق وخرج عن طاعة الله وخسر خسراناً مبيناً.. وحتى لا يصل المؤمن إلى هذه الحالة السيئة لابد أن يكون متيقظاً باستمرار مشمراً إلى ربه متزوداً بالإيمان والتقوى والعمل الصالح ممهداً لنفسه بين يدي ربه . ولقد أمر الله عباده المؤمنين بقوله ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?[الحشر:18-19].
لنحارب الغفلة التي تسيطر على حياتنا بوسائل عملية وليكن من تلك الوسائل:
- محاسبة النفس المستمرة ومجاهدتها لتستقيم على أمر الله وترويضها على فعل الخير ومنعها عن الشر حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
- مجالسة الصالحين ولا سيما من الفقراء والمساكين الذين يذكرون الله ويدعونه ويذكرون به، والإحسان إليهم فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالجلوس والصبر مع هؤلاء قال تعالى: ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ... ?[الكهف:28].
- تذكر الموت والاستعداد له والإكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات فإن الموت إذا ذكر .. بدد الغفلة وطارد الغرور والنسيان من النفس الإنسانية .. الموت حقيقة يصعب على الإنسان إنكارها وتجاهلها أو الهروب منها . ثم إن الموت ليس هو النهاية إنما هو نقلة من عالم إلى عالم ? قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ?[السجدة:11].
- زوروا المقابر وتأملوا في حال سكانها وخذوا العبرة فإنكم ستجاورونهم وتساكنونهم عن قريب تاركين الدور والقصور
ومما يزيد الإيمان ويرقق القلب ويدفع بالإنسان إلى مزيد من العمل الصالح.. التأمل الواعي والنظر في خلق الله عز وجل وملكوته في السماوات والأرض وفي النفس ، في الرطب واليابس في المتحرك والساكن، في الناطق والساكت في الإنسان والحيوان، في الماء والنبات، في الحي والميت في كل شيء.
فكل ذلك يشهد ببارئه وخالقه هذه السياحة الإيمانية الواعية تثمر ذكر الله وتعظيمه وإجلاله.
? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?[ آل عمران:190-191].(/3)
الإرهاب صناعة أوروأمريكية
تكاد الاجتماعات الدورية للقيادات العليا بشرم الشيخ تأخذ صيغة " المؤسسة الدولية " أو " العربية " على المستوى العالمي ، ومن الملاحظ أنها في أهم اجتماعاتها تقتصر – وما تزال - على القيام بدور القمع ، فهي تصدر قرارات التحريم والمنع ، ولا تكاد تصدر قرارات العطاء والمنح والتنمية
لقد أصدرت هذه القمم في أهم اجتماعاتها قرارين بالغي الأهمية : أولهما الذي صدر منذ سنوات ضد الإرهاب ، والثاني الذي صدر منذ أيام ضد التحريض ، وكلاهما ينتسب إلى مجموعة القمع والتحريم : لكن أين ما نحلم به من قرارات البناء والتنمية –تلك التي تحتاج إلى دعم إقليمي أو دولي بحيث تستحق أن تصدر عن هذا النوع من الاجتماعات ؟ نقول ذلك من منطلق أن عدم اهتمام هذه القمم بهذه القررات البنائية يهدر مصداقيتها وأثرها بالنسبة لما تصدره من قرارات التحريم إن صح التعبير .
هذه واحدة
وأخرى – وهي الأهم - : فإنه من الملاحظ أن هذه القمم لا تهتم بتكييف قراراتها القمعية مع الثقافة الحاكمة في هذه البيئة ، وهذا ما يجعلها مهددة بالفشل والتخبط أثناء التنفيذ .
وبعبارة أخرى : ما المقصود بالإرهاب الذي حرمته القمة ؟ وكيف يمكن تمريره ضد أمر صادر من الجهة الأعلى في قوله تعالى " ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " ؟
ومما زادنا حيرة - هكذا قال محدثي - : أن الأمر الذي جاءنا من الله والرسول من قبل جاءنا: بتكليف هو في حدود المستطاع لنا " فهما "، والمستطاع لنا " فعلا" ، لأنه سبحانه " لا يكلف نفسا إلا وسعها "
وأما الأمر الذي جاءنا من شرم الشيخ – والكلام لا يزال لمحدثي الحائر - فهو قد جاءنا بصيغة " المطلق " ، وهي صيغة تنطوي على التجهيل والتعجيز ، إذ من في قدرته أن يفهم ؟ ألا يرهب المرء عدوه ؟ أليس إرهابه للعدو – وهو مصطلح الردع المعاصر – خيرا من وقوع الحرب بالفعل ؟ ألا يرهب المرء اللص ليكفه عن السرقة ؟ ألا يرهب من يعتدي على شرفه ؟ ألا يرهب من يعتدي على دينه ؟ ألا يرهب من يعتدي على أرضه ؟ ألا يرهبه بامتلاك السلاح لكي لا يستعمل ضده السلاح ؟ .
لماذا تركوا لنا " تعريف الإرهاب معلقا في فضاء المطلق والحيرة ولا يزالون ؟
هل يكون السبب في ذلك أن الأمر قد جاء من العلمانية الدولية التي لا تتحسس أمرها في التحريم : أن يكون مصادما أو غير مصادم للأمر الأعلى في القرآن ؟ ولا يعنيها بعد ذلك أن تفسر ما تريد أو تحدد ما تقصد ، وهي لم تحدد حتى اليوم المقصود بالإرهاب ؟ وما الذي يلجئها إلى ذلك ما دامت " جوانتا نامو " قائمة في أركان الأرض كلها تفتح ذراعيها " الرهيبتين " لكل من يعصى لأنه غبي ، أو يعصى لأنه يتغابى ، فإذا أراد أن يحققوا معه انتظروا به إلى أن ينتقل من هناك مباشرة إلى الحياة الأخرى .
إن جهة التحريم الدولية تلك التي استمرأت إصدار "التحريم " بين فترة وأخرى لا يعنيها – لأنها وهي قمة السلطة في عالم هذه الدنيا لا يعنيها أن تكيل بمكيالين : فتعتبر الشيء الواحد إرهابا من هذا وليس إرهابا من ذاك . ولذا فإن بعض أرباب القمة هؤلاء يعلمون أنهم يمارسون الإرهاب ضد الإسلام ولا يزالون ، وهو الإرهاب الذي يحرمون .
يكشف ناعوم تشومسكي – في كتابه " السيطرة على الإعلام " الصادر مترجما إلى العربية عن مكتبة الشروق الدولية – في عام 2003 – يكشف عن أن المسئولين الأمريكيين يتعمدون تجاهل التعريف " الجاهز " في القانون الأمريكي للإرهاب ، لأن التعامل مع هذا التعريف يكشف أنهم " الإرهابيون ".(/1)
يقول ناعوم تشومسكي ( هناك بالفعل تعريف رسمي ورد في قانون الجيش الأمريكي وأماكن أخرى فهو معرف بشكل مختصر ، الإرهاب تم تعريفه – نقلا من ذلك القانون – بأنه " الاستخدام المحسوب للعنف ، أو التهديد باستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية في الأساس من خلال التخويف وإدخال الذعر والإجبار " ) ويستمر ناعوم تشومسكي قائلا ( دائما ما نقرأ أن مشكلة تعريف الإرهاب هي مشكلة معقدة ، .. لماذا ؟ ذلك أن هذا التعريف الرسمي هو كم مهمل غير مستخدم وهو كذلك لأنه تعريف ينطبق على سياسة الحكومة الرسمية – يعني الحكومة الأمريكية - ) ثم يعلق ساخرا : ( وفي الحقيقة فإنه عندما يكون " الإرهاب " بالفعل سياسة الحكومة يطلق عليه صراع أو هجوم مضاد للإرهاب ، ومن المصادفة أنه ليست الولايات المتحدة فحسب هي التي تسللك هذا المسلك ذلك أن هذه الممارسة تكاد تكون عالمية ) ثم يضرب أمثلة ناطقة بهذا الإرهاب في الإعلانات الحربية التي جاءت على لسان بعض المسئولين الإنجليز والأمريكان في الحرب ضد أفغانستان : مثل الذي جاء على لسان سير مايكل بويس رئيس هيئة الأركان البريطاني ونشر في أحد موضوعات الصفحة الأولى لجريدة النيويورك تايمز في 28 أكتوبر 2001 والتي أعلم فيها الناس في أفغانستان " بأن الولايات المتحدة وبريطانيا ستواصلان هجماتهما ضدهم حتى يقوموا بتغيير قيادتهم !! " ثم يقول تشومسكي ( إذا فكرت بالأمر فستجد أن هذا مثال رائع ) – أي للإرهاب – ثم يذكر مثالا آخر بقوله : ( أسبوعان قبل هذا التاريخ أخبر جورج بوش الأفغان بأن الهجمات ستستمر حتى يسلموا المتهمين ) يقول : تشومسكي : ( وقد طلب نظام طالبان دليلا ما ولكن الولايات المتحدة عاملت الطلب باحتقار ورفضته ) لماذا لا تقدم الولايات المتحدة الأدلة المطلوبة ؟ يجيب على ذلك تشومسكي : ( هناك مصطلح يصف هذه الحالة في أدبيات العلاقات الدولية والديبلوماسية ويطلق عليه " تأسيس المصداقية " والمصطلح الآخر – الذي يقترحه تشومسكي - هو أن نعلن " أننا دولة إرهابية " )
ولأن تشومسكي كتب كتابه هذا قبيل الحرب على العراق فقد فاته أن يجد السيناريو نفسه يتكرر في إجراءات هذه الحرب ، وكان من الممكن أن يسجل أن " تأسيس المصداقية" المشار إليه انقلب إلى ما يمكن تسميته " تأسيس المكذابية " إن صح هذا التعبير .
و يرجع تشومسكي في هذه النقطة من كتابه إلى الوراء قليلا ليبين أن : ( الحرب على الإرهاب لم تعلن يوم 11- سبتمبر - - وإنما تم " الإعلان " عنها في ذلك اليوم واستخدم ذات الحديث الذي استخدم منذ عشرين عاما ، فالرئيس ريجان جاء إلى السلطة معلنا أن " الحرب على الإرهاب " ستكون جوهر السياسة الخارجية الأمريكية ، وندد بما أسماه " وباء الإرهاب الشرير " وكان التركيز على الإرهاب العالمي الذي ترعاه الدول في العالم الإسلامي ، وكذلك في أمريكا الوسطى ، و قد وصف الإرهاب بأنه وباء ينشره " خصوم الحضارة الفاسدون " وذلك لنرتد للهمجية في العصر الحديث .. وكان ذلك في العام 1985) اهـ تشومسكي ، وهي نفس العبارات التي استخدمت ، فيما بعد في الحرب على الإرهاب الذي أسندت أسبابه إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، مما يبين أن تأسيس المصداقية انقلب إلى " تأسيس المكذابية " فعلا .
ثم يقول تشومسكي ( بالإضافة لذلك هناك استمرارية مدهشة فذات الأشخاص مازالوا في المناصب الرئيسية ) ويذكر منهم دونالد رامسفيلد ، وجون نيجرو بونتي .
وفي تقديرنا أن الأمر لا يحتاج إلى هذه المحاكمة القانونية اللفظية ، التي أطلقها تشومسكي في كتابه - بالرغم من أهميتها - لأن البحث يصل بنا إلى حقيقة أن الإرهاب صناعة أوروأمريكية ، بطبيعة قمة التطور الذي أبدعوه في وسائل القتال
ولقد أدرك ذلك بعض فلاسفة الغرب منذ بدايات القرن العشرين من أمثال شفايتزر وهنري برجسون ودي برولي وتشارلز فرانكل وروجيه جارودي وغيرهم
وذلك ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير هنري برجسون تعبيرا رائعا – على حد قول الفيزيائي الشهير لويس دي برولي الحائز على جائزة نوبل عام 1929 في كتابه " الفيزياء والميكروفيزياء " : ( بقوله " يتطلب جسدنا المتوسع زيادة في الروح " ثم يقول : هل سنستطيع الحصول على هذه الزيادة بنفس سرعة تقدم العلم ؟ لاشك أن مصير البشرية متوقف على ذلك )(/2)
ومن الواضح أن عشرات السنين التي مرت منذ ذلك اليوم دلت على أن النسبة معكوسة بينهما بشكل مطرد ، فكلما توسعت الحضارة اليوم جسدا ضمرت روحا وأخلاقا ، وهذا هو مصدر الخطر ، أو يجعل الخطر مضاعفا . وينقل عن هنري برجسون قوله : ( إن الآلات التي تتحرك بالبترول أو الفحم أو القوة المائية الكهربية والتي تحول الطاقات الكامنة التي تراكمت أثناء ملايين السنين إلى حرة .. قد وفرت لكياننا امتدادا هائلا وقوة ضخمة لا تتناسب مع أبعاده ومتانته ، لم يحسب لها حساب دون شك في خطة بناء الجنس البشري ) ولكي يجعلنا – كما يقول دي برولي - نقدر النقطة الأساسية والناحية المقلقة في المشكلة أضاف (والآن في هذا الجسد الذي اتسع أكثر مما ينبغي بقيت الروح كما كانت أضال اليوم من أن تملأه وأضعف من أن ترشده .. دعنا نضيف أن هذا الجسد المتخم ينتظر إضافة في النفس ، وأن الآلة تتطلب تصوفا .. لأن الإنسانية تئن ، تكاد تسحقها أثقال التقدم الذي صنعته ، وهي لا تعلم حق العلم أن مستقبلها يتوقف عليه نفسها ، وأنه منوط بها قبل كل شيء أن تحزم أمرها إذا كانت تريد أن تواصل الحياة )
ثم يقول لويس دي برولي : ( ينبغي أن نذكر بكل أسف أن الإنسان قد استخدم هذا الاكتشاف الرائع الأساسي للفيزياء الحديثة – يقصد الطاقة النووية – لأول مرة لكي ينتج آلة دمار وهلاك جهنمية ، وهذه الحقيقة نفسها تبعث على القلق )
ثم يقول : ( طالما كانت الوسائل التي يملكها الإنسان للتأثير فيما حوله محدودة كانت نتائج شروره ذاتها محدودة ، والخسائر التي تنتج عنها للمجتمعات الإنسانية مما يمكن إصلاحه سريعا . وعلى قدر ما تتزايد الوسائل التي أودعها العلم والتقدم الصناعي تحت أيدينا للعمل وبالتالي للتدمير ، فإن الخراب الذي نستطيعه قد يصبح مداه أكثر اتساعا والجراح التي تتولد بهذا الشكل لأنه أعمق لا تشفى سريعا ، إن تطور الحروب في الأزمنة الحديثة يقدم لنا مثالا محزنا لهذا . لقد تناولت هذه الحروب بقاعا من العالم أكثر اتساعا ، ملقية في جحيم المعركة أعدادا متزايدة من المقاتلين ، ومعرضة كل يوم لنفس الأخطار المدنيين مثل تعريضها للجنود ، وباستخدام الطاقة الذرية قد تبلغ حروب الغد طابعا جهنميا ، يصعب تخيل ما فيه من رعب وفزع ، وليست الحروب وحدها هي التي قد تكون وخيمة العواقب مستقبلا ، فنحن نستطيع أن نتخيل بسهولة كوارث أخرى توضح بطريقة أفضل طبيعة الخطر ، فمنذ خمسين عاما مضت– - هكذا يقول دي برولي – ألقى بعض الأشخاص من ذوي العقول المشتعلة - والذين سميناهم الفوضويين - القنابل في أماكن عامة مختلفة ، في القهاوي والكنائس - بل وحتى في مجلس النواب ، وقد تسبب عن هذه المحاولات موت عدد من الأشخاص مما أثار بحق الاشمئزاز والسخط العامين ، مع ذلك كان عدد من الضحايا ومدى التدمير المادي محدودا .
كم يكون ذلك ضخما لو نجح غدا فوضويون جدد في استخدام قنابل ذرية في محاولاتهم الإجرامية القادرة على تدمير مدن بأسرها
إننا نمسك هنا بتلابيب المأساة الحقيقية .. إن إرادة رجل واحد فقط تكفي لأن تفك من إسارها ظاهرة ذات قوة هائلة ، وتزداد مسئولية الإنسان نتيجة لهذه الزيادة الهائلة في قوته ، بنسبة واحدة ، ويمكن أن تصبح نتائج سقطة واحدة مما يفوق الحصر ، وعلى ذلك يصبح للمشكلة الأخلاقية مغزى أعظم مما كان لها في الماضي . إن كل زيادة في قوة التأثير تزيد حتما القدرة على الإضرار ، وكلما زادت قدرتنا على الغوث والإعانة زادت قدرتنا على الإساءة ونشر الدمار )
إن المشكلة ترجع إلى سياق التطور الحضاري للغرب : تقدم هائل في تكنولوجيا الدمار مع تخلف هائل يتزايد بنفس النسبة في القيم ولخلاق ، هنا نمسك بتلابيب المأساة كما يقول دي برولي .
تتضح المأساة القضية عندما نرصد الإرهاب الغربي الذي أنتجته وسائل القتال الحديث ، عبر تطور قيمي وحضاري وتكنولوجي امتد لعشرات القرون ، انتقلت فيه الإنسانية من حضارة إلى أخرى ، واصطحبت معها تغيرا في الثقافة المساندة بررت ما كان إرهابا لحساب أساليب الحرب الجديدة .(/3)
إن الحرب الحديثة لم تعد أسلحتها تعتمد على الطابع الأخلاقي أصلا ، كالشجاعة والشرف والمواجهة والمروءة والرجولة والمهارات الجسدية والإنفاق الشخصي ، تلك الأسلحة التي كانت تتطابق مع تقنية ميدان المعركة نفسها ومنها تقسيم الجيش إلى صفوف تتواجه خارج التجمعات السكانية ، وإنما هي تعتمد اليوم على المستوى الأعلى من التقدم العلمي التكنولوجي ، في الاقتصاد والاتصالات والتنظيم والإدارة والخبرة والتجسس ، والهندسة ، والجندي المدرب على الآلة ، المعبأ نفسيا ضد عدو لا يعرفه ، والذي يضرب مالا يراه ولا يحس به ، كما تعتمد على الصواريخ التي يساوي واحد منها دخل مدينة ، و الطائرات التي تساوي واحدة منها دخل إمارة ، والقنابل التي تساوي واحدة منها دخل دولة ، وميزانيات الدولة للحروب التي تبلغ – في الولايات المتحدة – هذا العام أكثر من أربعمائة مليار دولار ، تم دعمها بمثلها ، كما تعتمد أساسا على أسلحة الدمار الشامل وتدمير المدن ومراكز الطاقة والمصانع والجسور وخطوط الاتصال والمواصلات والإنتاج والتوزيع والبورصة والنقد ، وتجميد الأموال لعشرات السنين ، – أو سرقتها على الأصح – ومصادرة أموال الجمعيات الخيرية ، وبث الذعر في صفوف الجماهير إلى حد يمكن فيه تحويلهم إلى أداة تعمل في صالح العدو نفسه ، والقانون الدولي الذي يصبح قانونا لمجرد وقوع السابقة الدولية !! وهي أوضاع تختلف جذريا عما كانت عليه قبل التقدم العلمي الحديث ، بحيث أصبح التقيد المطلق بأخلاقيات الحرب القديمة يعنى التحالف مع الهزيمة ابتداء .
لقد تطورت الحرب الحديثة تحت لواء التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزته الدول الكبرى ومن يليها إلى حرب ليست لا تبالي فقط بضرب الأبرياء من المدنيين بل هي تجعلهم هدفها الأول والرئيس ، تحت ستار ما أصبح يسمى - من باب التزييف أو النفاق - تدمير البنية التحتية للعدو في المواصلات والمياه والكهرباء والإعلام ووسائل المعيشة ، والروح المعنوية للشعب ، وقد بدأ هذا التطور منذ الحرب العالمية الأولى واستشرى بعد ذلك وما يزال يستشري ، وهي نتيجة حتمية لتطور وسائل القتال الحديثة ، ولقد ذهب – ربما إلى غير رجعة - أسلوب القتال في العصور القديمة والعصور الوسطى " المتخلفة " الذي كان يعتمد على المواجهة بين صفوف القتال في أرض المعركة ، فإذا انهزم الجيش انتهت الحرب ، أما في التطور الحديث فقد انقلب الترتيب وأصبحت المعركة تبدأ أو تتطور إلى ضرب المدنيين أصلا فإذا تحطمت المدينة انتهت الحرب .
ونحن ما نزال نذكر عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية الذي بلغ أربعين مليونا – فهل كان هؤلاء من العسكريين ،؟ كما يزال كثير منا يذكر المعارك المؤثرة في مجريات الحرب العالمية الثانية بتدمير المدن الرئيسية الكبرى مثل لندن وبرلين وغيرها ، وما نزال نذكر كيف أن الضربة الحاسمة في انتصار الغرب " الديموقراطي " في الحرب العالمية الثانية كانت بتدمير مدينتين كبيرتين في اليابان هما هيروشيما ونجازاكي ، واليوم يَضرب العدو المسلمين مدنيا في كل مكان علهم يركعون في الشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفو ، وأفغانستان وفلسطين والعراق إلخ ، أو ( يتبعون ملة العدو ).
هذه الغارات تسمي ليست غير مجرد عمليات تدمير من بعيد في الغالب وبالدرجة الاساسية وهذا ما وصفه الاستاذ محمد حسنين هيكل في جريدة السفير في 1/7/2003 حين قال عن الحروب الامريكية الحديثة: ان الحروب اصبحت ومضات واشارات علي الشاشات، تضيء وتبرق دون ان تظهر للعيان مأساة الحياة والموت. وبذلك فان الطابع البشري للحرب شحب وغاب لان قيادات الجيوش راحت تمارس القتل من بعد مئات الاميال وآلافها .
إننا نظلم المسلمين إذا وقفنا هنا لنتحدث عن إرهاب الجماعات التي تمارس الإرهاب الذي يقع على المدنيين الأبرياء ، ، دون أن نلتفت إلى ما يمارسه أعداؤهم – في واقع الساحة الدولية بعامة – من نكسة حضارية بتدمير المدن ، وقتل مئات الآلاف من غير المحاربين في طلقة نووية واحدة ، تقتلهم عند الإطلاق ، كما تقتلهم بعد الإطلاق بعشرات السنين ، وضربهم باليورانيوم : في مخادعهم التي عليها ينامون ، وقتلهم بهوائهم الذي يتنفسون ، وتسميمهم بمائهم الذي يشربون ، ونشر الإشعاع القاتل في بيئتهم حتى خارج حدود إقليم الحرب ، أو دون أن نلتفت إلى ما يجري من جيش إسرائيل المسلح بأحدث الأسلحة الأمريكية ضد أطفال الانتفاضة الفلسطينيين وشبانهم الذين لا يملكون من الأسلحة غير الاستشهاد ، وما يقوم به العدو من حصار تجويعي ، واغتيالات للأفراد ، وتصفية دماء الجرحى ، والحيلولة بينهم وبين العلاج حتى الموت ، وضرب سيارات الإسعاف ، وقتل أطبائها وسائقيها ، وقتل متعمد للأطفال ، والنساء والشيوخ في مخادعهم ، والمرضى في أسرتهم ، وإغلاق المدارس ، وهدم المستشفيات ، وتجريف المزارع ، وتدمير البيوت والطرق ، وتخريب مصادر الماء والطاقة والإنتاج ..(/4)
هذه الحقيقة بكل بشاعتها وسطوتها وديمومتها يجب أن توضع على مائدة البحث ونحن ندرس قضية الإرهاب بكل تعقيداتها وخباياها .
ولا يعني هذا أن أحكام الشريعة الإسلامية أصبحت مغلولة اليد عن مواجهة الموقف الحديث والتشريع له وفقا لأصولها وثوابتها ، وإنما يعني أن الحكم المطلوب يجب أن ينظر في ضوء هذه التطورات الجذرية .
ولست هنا في مقام إصدار فتوى ، أتطاول بها في مقام الأئمة ، ومع ذلك فإنه لمن المؤكد أن الباحث في المسالة يجد فيها خلافا واسعا بين الفقهاء لا يصح إهماله ، وبخاصة عند ما نجد استناد كل منهم إلى القرآن الكريم والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومصدر الخلاف بينهم يرجع إما إلى تضعيف كثير من الأحاديث المعارضة كما هو الحال عند ابن حزم ، أو إلى ما بين هذه الأدلة من عموم وخصوص ومجمل ومقيد : أيهما يرجع للآخر ؟ ، وهو خلاف لا يصح التغطية عليه بانتقاء ما يعتقد البعض أنه الأقرب إلى "روح العصر" أو ما يسمى "حقوق الإنسان " أو ما يسمى " الحداثة" ! ، غافلين عن أن " روح العصر" – على العكس مما يتوهمون – أصبحت تتمثل في تطور حضاري – وهذا ما قصدت إليه بالذات – لم يعد يحفل في أعماقه بضرب المدنيين في حروبه وإنما الأمر على العكس من ذلك أصبحت الحرب شديدة التقدم – كمنتج حتمي من منتجات هذه الحضارة – هي تلك التي تبدأ أو تتطور سريعا إلى ضرب المدنيين ، مع قليل من تجمل العجوز ، من أجل عيون – أو رغم أنف – ما يسمى عندهم حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف وما أشبه ، الأمر الذي يسوغ وصف ما يسمى الإرهاب المعاصر بأنه صناعة أوروأمريكية معاصرة .
إن علينا أن نبين أن لمشكلة المدنيين في حروب اليوم – وبخاصة ما يواجه المسلمين منها – جانبا أشد تعقيدا مما نتصور وأكثر خطرا مما يساق إلينا من منابر الدعاية ، أو منابر الفتوى ، وهو في تعقيداته الراهنة مجرد ثمرة من ثمرات التدهور الإنساني في معطيات الحضارة المعاصرة ، ولست أبالغ إذا قلت إن جوهر أية حضارة إنما يظهر في غضبتها وهي تمارس الحرب كما هو الشأن في الفرد عند الغضب .
وأخيرا ألا يدل ذلك على أن البشرية ما زالت بحاجة إلى قرار جديد من قيادات العالم في شرم الشيخ لينقذها من حيرة مصطلح " الإرهاب " ومن تخبطه في ازدواج المعايير ، ومن انتسابه العضوي إلى بنية الحضارة المعاصرة ، ومن ورطة تضاربه مع الثقافات ؟
قلت : الله أعلم(/5)
الإرهاب في الإسلام هوالردع حَصراً..
والحرابة ليست إرهاباً ، في المفهوم الإسلامي!
عبد الله القحطاني
ا ـ قال تعالى، في كتابه العزيز ، بشأن اِلحرابة :
" إنّماجزاءُ الذين يحاربون الله ورسولَه ، ويسعَون في الأرض فساداً ، أنْ يقتّلوا أويصلّبوا، أو تقَطّعَ أيديهِم وأرجلُهم مِن خِلافٍ ، أو يُنفَوا من الأرضِ . ذلك لهمْ خِزيٌ في الدنيا ، ولهمْ في الآخرةِ عذابٌ عَظيم ". المائدة /33
هذا هو جزاء الحِرابة : عِقاب وخِزي في الدنيا . وعَذاب أليم في الآخرة.
ب- وقال عزّوجلّ ، في كتابه العزيز ، بشأن الإرهاب :
" وأعِدّوا لهمْ ما استطعتم مِن قوّة، ومِن رِباطِ الخَيلِ ، تُرهِبونَ بِه عَدوّ الله وعَدوّكم ، وآخرينَ مِن دونِهم ، لا تَعلمونهم، الله يَعلمهُم . وما تُنفِقوا مِن شَيء في سبيلِ الله، يُوفّ إليكمْ وأنتمْ لا تُظلَمون ". الأنفال/60
ولنتأملْ مضمونَ الآية جيّداً :
- أمَرتْ بإعداد القوّة، ولمْ تأمرْ باستعماِلها . فلمْ تقلْ – الآية الكريمة - مَثلاً : اهجُموا .. أو أغِيروا ..أو اقتَحِموا .. بلْ :" أعِدّوا " .
_ ومِن رِباط الخَيل :( أي: مرابطتها في الثغور) . ولم تقل الآية مثلاً: مِن إغارةِ الخيلِ ، أو هُجومِها ..
-تُرهِبون به عدوّ الله وعدوّكم : والإرهاب هنا، هو التَخويف حَصْراً . أي: إدخالُ الخوف في نفوس الأعداء ، كيلا يهاجِموا المسلمين ، أو يَعتدوا عليهم ..
وواضح أنّ في هذا الردع ، حَقناً لدماء المسلمين ، ودماءِ أعدائهم، في الوقت ذاته . ولو وجَد الأعداء لدَى المسلمين ضَعفا،ً أو غفلة ، فهاجَموهم ،لأريقت دماء كثيرة من الفريقين ، بصَرف النظر عن كثرة القتلى وقلّتهم ، هنا وهناك. ولقد قالت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة( مارغريت تاتشر) عن سياسة الردع: " إنّ سياسة الردع ، وقَتْ أوروبّا من الحروب أربعين سنة ، وهي التي لمْ تَخلُ سَنة واحدة في تاريخها من الحروب ".
ج- لقد ضَمّن الإعلام الغربيّ المعاصر ، ( الإرهابَ ) مَعنى (الحَرابة)، وفرَضَه على العالم كلّه ، حتّى على المسلمين ، بل حتّى على كبارِ علماءِ المسلمين..! فصاروا يشنّعون على الإرهابِ والارهابيّين، ويعلِنون أنّ الإسلام بَريء من الإرهاب ..! ويُقيمون الحجّةَ على أنفسِهم وعلى دينِهم، الذي يَنصّ في كتاب الله ، على وجوب إرهابِ العدوّ ( تَخويفِه) دَرءاً لِعدوانِه . فلم يقنِعوا أحداً مِن غيرالمسلمين، الذين يَرون كلمةَ الإرهاب في القرآن نفسه . ولو بيّنوا معنَى الإرهاب في الإسلام بدايةً ، ونَشروه في العالم، لدَفعوا الحرجَ ، عن أنفسهم، وعن أمّتهم !
د- أمّا المصطلحات الأخرى التي تتضمّن العنفَ ، فلَها في الإسلام مَعانٍ شتّى ، متباينَة :
* فالعدوان : -مثلاً- مَنهيّ عنه، بشكل صارم ، في آيات كثيرة من كتاب الله . وحتّى في تَناجي الناسِ فيما بينَهم : " ياأيّها الذين أمَنوا إذا تناجيتم فلا تَتناجَوا بالإثم والعدوان .." / المجادلة /آية9 . وحتى في العلاقات الأسريّة( وإذا طلّقتم النساءَ فبلَغنَ أجلَهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو سَرّحوهنّ بمعروفٍ ولا تُمسكوهنّ ضِراراً لتعتَدوا ومَن يفعلْ ذلكَ فقدْ ظلَم نفسَه..). البقرة / 231/.
إلاّ ما كان ردّاً لعدوانِ الآخرين : " فمَن اعتدَى علَيكم فاعتَدوا عليه بِمثل ما اعتَدى عليكم" ./البقرة/194
* والقتال : له شروطه وأحكامه وآدابه ، التي بيّنتها آيات القرآن الكريم ، وأحاديث النبيّ " ص" . وحتّى في القتال ، نَهْي عن العدوان : " وقاتِلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تَعتدوا .." البقرة / 190
لقد بيّن الله حجّته البالغةَ ، وأقامَها على المسلمين قبلَ غيرهِم . فَهلاّ بيّنَها علماءُ المسلمين ودعاتُهم للناس ، وأقاموها عليهم ، كما وَردت في كتابِ الله وسنّة نَبيّه ؟ وهلاّ نقلوها إلى لغات الآخرين ، ليفهموها ، أو ليفهَمها مَن كان منهم حريصاً على الفهم والإنصاف ، ليكون نصيراً للمسلمين عند قومه، أوـ في أقل تقديرـ لتعرف شعوب العالم التي تنظر إلى المسلمين بريبة وحذر، كيف يفكّر هؤلاء المسلمون ، وما الضوابط الدينية والخلقية التي تمنعهم من إيذاء الناس ، أو العدوان عليهم ..!
ونعتقد أن كل مسلم مقيم في بلاد غير إسلامية ، قادرٍعلى نقل هذه المعاني إلى لغات الآخرين ، مندوبٌ لأن يؤدّي هذه المهمّة ، إن لم يكن إحساساً منه بواجب شرعي ، فدفاعاً عن وجوده ، ووجود أبناء ملّته الذين يقيمون معه بين أناس يناصبونهم العداء ، بسبب فهم خاطئ لأفكارهم ومعتقداتهم(/1)
الإساءة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين طاغوت الأمم المتحدة وأكذوبة حوار الحضارات!!
تباينت ردود أفعال المسلمين من الإساءة للنبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أنحاء العالم، وكانت هذه الردود مختلفة: منهم من دعا إلى مقاطعة البضائع، ومنهم من دعا إلى التظاهرات والمسيرات، وآخرون دعوا إلى طرد السفراء الغربيين، ومنهم من دعا إلى الصلاة والسلام على الرسول وإلى الذكر، والدعاء على المسيئين حتى يتم الاعتذار من الحكومات التي أساءت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما دعت الأنظمة الحاكمة على لسان بعض رؤسائها ووزراء خارجيتها ومنظمة المؤتمر الإسلامي إلى إصدار قرار من (الأمم المتحدة) يدين الإساءات...
إن دعوة الأمم المتحدة لنصرة المسلمين ورسول الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوة تضليل، فهيئة الأمم المتحدة نشأت أساساً على فكرة "رابطة الصليبيين المحاربين"، وقد وجدت هذه الرابطة عندما كانت الفتوحات الإسلامية من قبل دولة الخلافة العثمانية، وكانت المسألة الشرقية (وحدة المسلمين والجهاد من قبل دولة الخلافة العثمانية) تقض مضاجع الكفار الغربيين، فأوجدوا هذه الرابطة، ثم حولها وزير خارجية بريطانيا (إدوارد غري) إلى فكرة (عصبة الأمم) وتبناها بشكل كبير الرئيس الأميركي (وودرو ويلسون) الذي أراد أن يرى معاهدة فرساي تتضمن نصاً يدعو إلى إنشاء (المؤسسة الأممية) وتم بالفعل إدراج نص التأسيس في 25/1/1919م في الجزء الأول من المعاهدة.
ثم عقدت عصبة الأمم اجتماعات لها ولكنها عجزت عن حل النزاعات الثانوية، وكذلك وقفت عاجزة في الكوارث الطبيعية، ولم يكن لها قوات مسلحة، وعدم وجود أميركا والاتحاد السوفيتي أعضاء دائمين فيها، وانسحاب إيطاليا واليابان منها، وخروج ألمانيا أيضاً منها، وعدم الاكتراث بباقي دول العالم، أي أنها لم تكن تعمل بالشكل المطلوب للغرض الذي قامت من أجله. وفي فترة الحرب العالمية الثانية تم التفكير جدياً بتحويلها من (عصبة الأمم) إلى (هيئة الأمم المتحدة) وعقدت المؤتمرات في عام 1943م، وكان الذي سماها (هيئة الأمم المتحدة) الرئيس الأميركي (روزفلت) في 1/1/1942م، وأصبح اسماً للحلفاء في الحرب العالمية.
وفي 25/4/1945م عقد مؤتمر الأمم المتحدة لصياغة دستورها، وعقدت قبل ذلك مؤتمرات لتحديد أهدافها وأعضائها وميثاقها والعضوية فيها، وبعد أن صاغ الغربيون كل ذلك، ظهرت (الأمم المتحدة) إلى الوجود في 26/10/1945م، بعد تصديق الأعضاء الدائمين على دستورها وهم (الصين، فرنسا، بريطانيا، الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة)، ثم صادق مجلس الشيوخ الأميركي في 28/7/1945م على ميثاقها، وحدد مقرها في نيويورك مع فروع لها في أوروبا ومكاتب في بلدان أخرى.
إن الأمم المتحدة هي منظمة أنشأتها الدولة الكافرة وميثاقها مخالف للإسلام، ولم يكن في ميثاقها أيّ فكر من أفكار الإسلام، فالتحاكم إليها وإلى ميثاقها هو تحاكم إلى الطاغوت، ودعوة إلى تحكيم شريعة الكفر في الأرض، فالطاغوت هو (كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع)، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله).
قال المحقق ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين): «فهذه طواغيت الأرض إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى رسوله إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته... وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحبة ومن تبعهم، ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد».
فلا عدل في ميثاق الأمم المتحدة، والعدل في شرع الله، ولهذا أمرنا أن نحكم بشرعه، قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ?[النساء 58].
ولا يمكن تحقيق العدل إلا إذا حكم المسلمون بما أنزل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ?وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ?[المائدة 49].(/1)
وبصفتنا مسلمين يجب أن نرفض التحاكم إلى شرعة الكفر هذه، وليس لنا خيار إلا النزول عند أحكام الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ?[النساء 65].
كما ويجب أن ننبذ كل ما ليس من شرع الله، ونحكم بما أنزل الله في نفس اللحظة، فننبذ التحاكم إلى الديمقراطية والرأسمالية وميثاق الأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات والأنظمة والمفاهيم المنبثقة عنها، قال تعالى: ?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?[البقرة 256].
والتبرؤ من موالاة ومناصرة القائمين عليها من الدول الكافرة، وأن لا نتخذهم أولياء، قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ?[المائدة 51].
إن الإسلام هو الدين الحق، وهو المنهج القويم، وهو صراط الله المستقيم، وإن الله الذي خلق الكون والحياة والإنسان هو الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده، وما يضره وما ينفعه، ولهذا لا بد من وضع حد لهذه المنظمة الصليبية، التي وجدت ضد المسلمين وكانت قراراتها ضد المسلمين سواء فلسطين والعراق وأفغانستان وسوريا ولبنان وإيران أم في كشمير ودارفور وفي البوسنة وغيرها.
أما صراع الحضارات، فقد وجدت حملة كبيرة ضد صراع الحضارات، وقالوا لابد من (حوار الحضارات وحوار الأديان)، وأثبتت هذه الإساءات للمسلمين (تدنيس القرآن الكريم والإساءة للنبي العظيم) أن حقدهم على الإسلام والمسلمين كبير، وأن ما قالوه عن (حوار الحضارات) إنما هو هراء، لأن هناك اختلاف بين الحضارات، وهو أمر واقع لا سبيل إلى إنكاره، ولو لم يوجد الاختلاف بين الحضارات لما وجدت الأمم المختلفة في أفكارها وعقائدها ومفاهيمها وأخلاقها، ولما وجدت سنة التدافع للقضاء على الفساد والمفسدين، وهم يقولون بحوار الحضارات المبني على ثلاثة أمور:
1- المساواة بين أديان وحضارات المتحاورين دون استعلاء ولا تفضيل دين على آخر أو حضارة على أخرى.
2- حد الحوار مقصور على مجرد معرفة ما عند الغير دون التعرض لنقضه أو إبطاله.
3- تكوين بديل حضاري عن طريق الوصول إلى القواسم المشتركة بين الدينين والحضارتين.
إن محاولة التقريب بين الأديان أو مساواتها هو مفهوم كفر، إذ لا مساواة بين الحق والباطل، وبين الإسلام والكفر، وبين الخير والشر، وبين الضلالة والهدى، وبين ما وضعه العقل وما أنزله الله عز وجل، قال تعالى: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ?[الأنبياء 18]. وقال تعالى: ?فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ?[يونس 32].
وعجباً لمن يدعي حوار الحضارات، ويسوي بين الإسلام والكفر، وبين الإلحاد والتثليث والتوحيد، وبين الإباحي ومن يحرم الفواحش، وبين عبادة الله وعبادة مخلوقاته، وبين السفاح والنكاح، وبين الخنزير وغيره، وأعجب منه، من يسكت عن التفضيل، فلا يفضل التوحيد على الشرك، ولا الحلال على الحرام، ولا الشرع على الطاغوت، ولا المؤمن على الكافر، ولا الديمقراطية على الشورى!!
فالتبعية مرفوضة، والمساواة مرفوضة، والسكوت عن تفضيل الإسلام وحضارته على سائر الأديان والحضارات مرفوض.
إن الصراع بين الإسلام وغيره من الحضارات قديم، وإن الإسلام سيظل في صراع مع الأديان والحضارات الكافرة حتى يسلموا أو يخضعوا لأحكامه، وقد صرح لنا القرآن والسنة بالكثير من الأمثلة على هذا الصراع، وظل المسلمون في صراع مع عقائد الكفر حتى جاءتنا بدعة (حوار الحضارات) بالرغم من أنها أكذوبة كبرى، فقد صارعنا الغرب بمفاهيمه كثيراً، ويحاول أن يسيطر على وسائل الإعلام ومناهج التعليم، ويغذي المفكرين والمثقفين بأفكاره، وينفق على الدورات والدراسات، وينشئ المؤسسات والمنتديات ومراكز الأبحاث، ويحارب أحكام الإسلام سواء ما يتعلق بالجهاد، أم المرأة، أم أحكام أهل الذمة، أم أحكام المعاملات والعقوبات في الإسلام، ويقوم بالتنصير، فأي حور فكري هذا؟!(/2)
أما الصراع الاقتصادي، فسيطرته على المواد الخام وجعل الدولار هو المتحكم وبديلاً عن الذهب، وجعل دول العالم الإسلامي مجرد أسواق استهلاكية لمنتجاته، وإغراق البلدان بالقروض الربوية، واستيعاب الخبرات والعقول من تلك البلدان، ووضع سياسات اقتصادية لتكبيل البلدان، واشتعال الحروب، وانعدام الأمن في الكثير من البلدان، وسيطرته على المصالح الاقتصادية، وتعيين جيوش له من العملاء الاقتصاديين، وفرض الحصار الاقتصادي، فهل بعد هذا كله نقول لا يوجد صراع اقتصادي؟!
أما من الناحية السياسية فبعد هدم دولة الخلافة الإسلامية سنة 1342هـ، وإقامة دولة يهود في فلسطين وتمزيق الخلافة إلى دويلات كرتونية هزيلة، ووضع لكل دولة (مستقلة) من بلاد المسلمين –عضو في الأمم المتحدة- حدوداً وأعلاماً وجنسيات وجوازات وتأشيرات دخول، وتطبيق نظامه السياسي على شكل دساتير وقوانين، ومقاومة جميع الحركات المخلصة والتي تعمل على إعادة الإسلام إلى الحياة كدولة ونظام حكم ومحاربتها، وإنشاء الأمم المتحدة كرابطة صليبية لتحقيق أهدافه، فهل بعد هذا نقول لا يوجد صراع سياسي وحضاري؟!
أما الناحية العسكرية فقد احتل الغربيون بلاد المسلمين، ووضعوا قواعدهم وجيوشهم، ويجوبون البحار والمحيطات الإسلامية، ويفرضون سياستهم بقوة الحديد والنار، ومع هذا الواقع الأليم الذي يصارعنا به الغرب نجد من أبناء المسلمين من يقول بأنه لابد من (حوار حضارات)!!
لقد كشفت تلك الرسوم المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن القضية هي صراع بين الأديان والحضارات وليست حوار حضارات، وكشفت للمسلمين الوجه الحقيقي القبيح للغرب الكافر (اليهود والنصارى) وهذه الدعوات إلى الحوار إنما تدل على سذاجة –بعض المسلمين- الذين اتبعوا الغرب فيما ينعق به!!
ناصر عبده اللهبي(/3)
الإستراتيجيات الدعوية
محمد أبو بكرالرحمنو*
أي جهة تعمل في مجال الدعوة لا بد لها من أن تسخر مواردها البشرية و المادية بتوجه واضح متسق مع الأهداف التي تعمل من أجلها , هذا التوجه يمثل الرباط الفكري لمجموع الجهود التي تبذل و النشاطات التي تؤدى من أجل تحقيق الأهداف ضمن ما يطلق عليه إصطلاحا كلمة ( إستراتيجية ).
و ينبغي أن يكون معلوما أن التأثير الفكري يتطلب تركيزاً على الجانب الذي يؤدي إلى إحداث الإستجابة المطلوبة , و وفقا لذلك يمكن تقسيم التوجهات الدعوية ( الإستراتيجيات ) إلى ثلاثة أنواع رئيسية :
1- التوجه الجماهيري ( الكمي ) :
و هو توجه يمثل إستراتيجية ذات مرمى واسع جدا , و يرغب من خلاله مخاطبة أكبر عدد من الأفراد , و مثل هذه الإستراتيجية / التوجه تتطلب إمكانات ضخمة للنشر و الإعلان و خطاب دعوي في حد الإتفاق الأدنى مثل المعلوم من الدين بالضرورة و مسلّمات العقيدة و السلوك و غيرها مما هو محل إتفاق عام بين علماء المسلمين , كما يمكن طرح القضايا التعبوية من خلاله التي توحد الأمة الإسلامية مثل قضية فلسطين و الأقليات المسلمة و الإستعمار الأمريكي الجديد , كما يصلح كذلك لبث الوعي الفكري و إرشاد السلوك الإجتماعي .
2- التوجه الإنتخابي ( النوعي ) :
و هو توجه يتم من خلاله تركيز الجهود و الموارد على تحقيق نوعية مميزة من الإستجابة للخطاب الدعوي , مثل الغرس التربوي و التزكية العميقة و التعليم المنهجي و البحث العلمي .. و بصورة عامة يهدف إلى إخراج أفراد متميزين في إستجابتهم للخطاب الدعوي , و يصلح هذا التوجه للجهات التي تعمل على إعداد الدعاة و طلبة العلم و الحفظة لبث العلم الشرعي المنهجي بين الناس و غيرها من مجالات العمل المشابهة .
3- التوجه التركيزي :
و هو توجه يعمل على التركيز على نطاق جزئي معين سواء كان جغرافيا أو إجتماعيا (شباب, أطفال , عمال , موظفين , ربات بيوت ...) أو في مجال محدد ( تحفيظ قرآن , حديث , عبادات , معاملات , ....) . إن هذا التوجه هو نفسه أحد التوجهين السابقين , و لكن في مرمى ضيق , و عليه ينتج منه توجهين فرعيين : أ- توجه تركيزي جماهيري : و يستهدف نفس أغراض التوجه الجماهيري و لكنه يكون مركزا في رقعة جغرافية محددة ( العاصمة , المنطقة الوسطى , .....) أو مركزا على موضوع واحد ( القضية الفلسطينية , الحجاب , الولاء و البراء , ....) .
ب- توجه تركيزي إنتخابي : و يستهدف نفس أغراض التوجه الإنتخابي النوعي , و كذلك على رقعة جغرافية محددة أو موضوع واحد ( تحفيظ متون , فقه , أصول , عقيدة , حديث , .....) .
إن الحصول على الميزة التي تضمن التفوق على المدارس الفكرية المضلة و التيارات العقائدية المنحرفة تحتاج إلى إستخدام واحد من هذه الإستراتيجيات , و أكرر واحد فقط , حتى تحصل المؤسسة الدعوية على ميزة التفوق في مجالها و المحافظة على خط سيرها و أداء رسالتها بجدارة , و تحقيق أهدافها بكفاءة و إستثمار جهودها و مواردها بفعالية .
إن التحولات الدعوية تنحصر في هذه الثلاث , و يؤدي إستعمال عدة توجهات في نفس الوقت إلى إهدار الجهود و الموارد و الإنشغال بالمشاكل و الطوارىء و فقدان موجهات العمل و الأداء , فتفقد المؤسسة الدعوية التنسيق بين اطرافها و الرباط بين أفكار أفرادها و التفوق على منافسيها .(/1)
الإستعانه بالجن
تمهيد
كانت النظرة - لبعض الطوائف المنحرفة - للجن قائمة على تصورات فاسدة، فمن قائل : إن الجن شركاء لله في الخلق والتدبير0 ومن قائل: إن إبليس مع جنده يمثلون الشر في جهة، ويحاربون الله وملائكته في جهة أخرى. وكان الاعتقاد السائد أن الجن يعلمون الغيب، وذلك بما كانوا يلقونه إلى الكهان عندما كانوا يسترقون أخبار السماء، فيزيد الكهان على الكلمة من الحق مائة كذبة كما ورد في الحديث، فيصدق الناس ذلك0
وكانوا يتصورون أن للجن سلطانا في الأرض، إلى غير ذلك من هذه التصورات المنحرفة الجائرة0هذه التصورات المختلفة عن الجن كان لها تأثير على تفكير وسلوك هؤلاء الناس وأعمالهم وإرادتهم كما أخبرنا القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )، ( سورة الجن - الآية 6 ) 0
ومن خلال أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية، يتضح أنه كان للجن تأثير على سلوك مشركي العرب، حيث كان أحدهم يعوذ بالجن عند المخاوف والأفزاع، وأثر ذلك على عقائدهم من حيث التوجه إلى عبادة الجن والذبح لهم، محاولين استرضائهم بأي شكل من الأشكال، ولا يخفى أن التوجه بالعبادة والتعظيم لغير الله من سائر الخلق فساد أي فساد في السلوك ! ناشئ عن فساد التصور والاعتقاد الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه لإنقاذ البشرية من مغبته، بتصحيح تصوراتهم وتقويم سلوكهم، بما بينوه من أن الله هو خالق الجن والإنس وسائر الموجودات، وأنهم يستوون جميعا في عدم قدرتهم على تغيير سنة من سنن الله سبحانه وتعالى التي وضعها في هذا الكون، وأنهم جميعا واقعون تحت سلطان الله وقهره، وأن التوجه لغيره سبحانه بعبادة أو تعظيم شرك كبير، يستحق فاعله الخلود في النار.
ونتيجة لتلك العلاقة القائمة بين الإنس والجن منذ أمد بعيد، كانت الاستعانة. والمتأمل للكلام السابق يرى أن العلاقة التي تقوم بين الطرفين بمجملها لا تأتي بخير؛ وذلك لقيام هذه العلاقة بين عالم محسوس وآخر غيبي لا نعرف كنهه ولا طبيعته إلا ما أخبر به الحق جل وعلا في محكم كتابه أو قررته السنة المطهرة، فالإسلام حدد السلوك والعلاقة والتصور الكامل بين هاذين العالمين 0
وقد تكلم الكثير من عامة الناس وخاصتهم عن موضوع الاستعانة، فمنهم من أباحها، ومنهم من توقف عنها، ومنهم من لم يبحها وحذر منها وبين خطورتها 0 ولأهمية ذلك 000 كان لا بد من وقفة جادة نستعرض فيها التصور الكامل المبني على النصوص القرآنية والحديثية ومنهج السلف الصالح وأقوال أهل العلم قديما وحديثا، دون تحكيم عقل أو منطق، أو تحقيقا لأهواء أو نزوات أو شهوات، وبحث هذه المسألة ضمن الأطر الشرعية، ببصيرة وبينة، لكي يتسنى الوقوف على الحقيقة والطريق السوي المستقيم 0
وأبدأ بعرض بعض الآيات التي ذكرت علاقة الإنس بالجن وحقيقة هذه العلاقة بالمفهوم الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكره الصحابة والتابعون والسلف وعلماء الأمة وأئمتها - رضوان الله عليهم - أجمعين :-
علاقة الإنس بالجن كما بينها الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه :- …
1)- يقول تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقًا ) 0( سورة الجن - الآية 6 ) 0
* أقوال أهل العلم في تفسير الآية الكريمة :-
أ - قال الطبري :( قال حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ ) قال : كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي، فيقول الجنيون : تتعوذون بنا ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ! ) 0 ( جامع البيان في تأويل القرآن - 12 / 263 ) 0(/1)
ب= قال ابن كثير :( أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس، لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة ( فزادوهم رهقا : أي إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم (فزادوهم رهقا) : أي ازدادت الجن عليهم جراءة 0 وقال السدي : كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا أو مالي أو ولدي أو ماشيتي 0 قال قتادة : فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك 0 وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي حدثنا الزبير بن حرب عن عكرمة قال : كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا الوادي 0 فقال الجن : نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون فذلك قول الله عز وجل : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) أي إثما : وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم ( رهقا ) أي خوفا 0 وقال العوفي عن ابن عباس ( فزادوهم رهقا ) أي إثما وكذا قال قتادة، وقال مجاهد زاد الكفار طغيانا0
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا فروة بن المغراء الكندي حدثنا القاسم بن مالك - يعني المزني - عن عبد الرحمن ابن اسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم - بمكة فأوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي، فقال : يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يقول : يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) قال وروى عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه0 وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه، ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله تعالى أعلم) ( تفسير القرآن العظيم – 4 / 429 – 430 ) 0
ج - قال القرطبي مثل ذلك
د- وذكر مثل ذلك الشوكاني في كتابه ( فتح القدير ) 0
هـ - قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في تفسير هذه الآية : ( كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي، والأودية مظان الجن، فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعالي الأرض، فكان الإنسي يقول : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيهم 0 وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم، فإنه يقسم عليه بأسماء من يعظمونه، فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطونهم بعض سؤلهم، لا سيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرا، فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم، كانت بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته) ( إيضاح الدلالة في عموم الرسالة - 2 / 120 ) 0
2)- يقول تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) 0( سورة الأنعام - الآية 128 ) 0
* أقوال أهل العلم في تفسير الآية الكريمة :-
أ - قال الطبري :( ما قاله الإمام البغوي وزاد عليه :( وأما استمتاع الجن بالإنس، فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم، فيقولون : ( قد سدنا الجن والإنس) 0 ( تفسير الطبري - جامع البيان في تأويل القرآن - 5 / 343 ) 0(/2)
ب - قال البغوي :( قال الكلبي : استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر وخاف على نفسه من الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في جوارهم0 وأما استمتاع الجن بالإنس : هو أنهم قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن، حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم، وهذا كقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) وقيل : استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها، وتسهيل سبيلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي. قال محمد بن كعب: هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم لبعض)
( تفسير البغوي - معالم التنزيل - 3 / 188 ) 0
ج - قال ابن كثير :( يقول تعالى : واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به ( ويوم يحشرهم جميعا ) يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ 000 ) أي يقول : يا معشر الجن وسياق الكلام يدل على المحذوف ومعنى قوله : ( قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ 000 ) أي من اغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَابَنِىءادَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ( سورة يس – الآية 60 – 62 ) 0
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ ) يعني أضللتم منهم كثيرا 0 قال مجاهد والحسن وقتادة : ( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن الحسن في هذه الآية قال : استكثرتم أهل النار يوم القيامة 0 فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض، قال الحسن وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس 0 وقال محمد بن كعب في قوله : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ 000 ) قال : الصحابة في الدنيا 0 وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي 0 فذلك استمتاعهم، فاعتذروا به يوم القيامة – وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم فيقولون : قد سدنا الإنس والجن } وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا 000 ) قال السدي : يعني الموت ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ 000 ) أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي ماكثين فيها مكثا مخلدا إلا ما شاء الله 0 قال بعضهم : يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ، وقال بعضهم هذا رد إلى مدة الدنيا، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن صالح كاتب الليث حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : ( قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلإ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا ) 0( تفسير القرآن العظيم - 2 / 167 - 168 ) 0
د - قال القرطبي : (الجامع لأحكام القرآن - 7 / 84 ): " قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ ) أي من الاستمتاع بالإنس، فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر، يدل على ذلك قوله : ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) هذا يرد قول من قال : أن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس، لأن الإنس قبلوا منهم 0 والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضا، فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم"(/3)
هـ- قال الشوكاني : ( أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها، فذلك هو استمتاعهم بالجن، وقيل : استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال : أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) وقيل : استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب وينالون بذلك شيئا من حظوظ الدنيا كالكهان) 0 ( فتح القدير - 2 / 234 ) 0
و - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير الآية :-
أنواع الاستمتاع :-
1)- الاستمتاع الجنسي : " الاستمتاع بالشيء " هو أن يتمتع به فينال به ما يطلبه ويريده ويهواه، ويدخل في ذلك استمتاع الرجال بالنساء بعضهم ببعض كما قال: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) 0 ( سورة النساء - الآية 24 ) 0
2)- الاستمتاع بالاستخدام : ويدخل بالاستخدام أئمة الرئاسة كما يتمتع الملوك والسادة بجنودهم ومماليكهم، ويدخل في ذلك الاستمتاع بالأموال كاللباس ومنه قوله: ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) ( سورة البقرة - الآية 236 ) 0
وكان من السلف من يمتع المرأة بخادم فهي تستمتع بخدمته، ومنهم من يمتع بكسوة أو نفقة، ولهذا قال الفقهاء : أعلى المتعة خادم وأدناه كسوة تجزي فيها الصلاة 0
3)- الاستمتاع بالأمور الغيبية : قال شيخ الإسلام ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الأخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان، فإن في الإنس من له غرض في هذا لما يحصل به من الرئاسة والمال وغير ذلك ) 0( مجموع الفتاوى – 13 / 81 ) 0
الجن يعتبر بالنسبة للناس غيبا، فكيف يعرف الإنسان أنه يتعامل مع جن مسلم أو جن صالح، وقد يكذب الجن على الإنسان، فمن باب سد الذرائع ألا يتعامل المسلم مع الجن، وأن يعيش واقعه، وأن يأخذ بالأسباب مع الاستعانة بالله تعالى. وقد خلق الله تعالى الإنس عالما، والجن عالما آخر، وإن كان الناس يستعينون بالجن فيما غاب عن بعض الناس، ويعرفه غيرهم، فما الداعي للالتجاء إلى الجن للمعرفة؟! ولماذا لا يستعين الجن بالإنس أيضا فيما يخصهم من أمور؟
إن في إحداث علاقة بين الإنس والجن بنوع من التعامل فيما بين الفريقين خرق لسنة الكون،وهو أمر لم يألفه السلف، وما أقره الخلف، ومن الخير تركه. كما أنه هروب من الواقع، والإغراق في الغيب بغير حق وترك الأخذ بقانون السببية، وهو مما بني عليه كثير من الأمور في حياة الناس، كما قضت سنة الله في الكون.
* الاستعانة بالجن
ان مسألة الإستعانة بالجن هي من المسائل الخلافية بين أهل العلم والتي أجازها بعض العلماء بشروط ومنعها آخرون.
ففي مجموع الفتاوى الجزء الحادي عشر يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمقصود هنا ان الجن مع الإنس على أحوال؛
فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به رسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل اولياء الله تعالى وهو فى ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس فى أمور مباحة له وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم فى مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك. وهذا إذا قدر انه من اولياء الله تعالى فغايته أن يكون فى عموم اولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم او فى العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وانسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر.
وان استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق.(/4)
وان لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن انه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعى أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به.وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن بل قد سمع أن اولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية فيمكرون به بحسب اعتقاده فان كان مشركا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه انه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك آو نبي أو شيخ صالح فيظن انه صالح وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان قال الله تعالى "ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك آنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون"
ويقول في الجزء الأول من مجموع الفتاوى :
وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين وقد تخاطبهم بكلام وقد تحمل أحدهم في الهواء وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة وقد تأتيه بنفقة أو طعام أو كسوة أو غير ذلك كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب، وهذا كثير موجود فى هذا الزمان وغير هذا الزمان للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة إما بعبادة غير الله، وإما بعبادة لم يشرعها الله، وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالا شيطانيا أو محالا بهتانيا، فخواصهم تقترن بهم الشياطين كما يقع لبعض العقلاء منهم وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة إما كفر وإما فسق وإما جهل بالشرع فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته فإن قدر على أن يجعلهم كفارا جعلهم كفارا وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقا أو عصاة وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم.
ولهذا قال الأئمة لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشى على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهى، ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هي التي تحمله لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين ومن هؤلاء من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه فإنه يستتاب فإن تاب والا قتل لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لا بد فيه من الإحرام والوقوف بعرفة ولابد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة فإنه ركن لا يتم الحج إلا به بل عليه أن يقف بمزدلفة ويرمى الجمار ويطوف للوداع وعليه اجتناب المحظورات والإحرام من الميقات إلى غير ذلك من واجبات الحج، وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم فى الهواء يحمل أحدهم بثيابه فيقف بعرفة ويرجع من تلك اللية حتى يرى فى اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة فيراه من يعرفه واقفا فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة فإذا قال له ذلك الشيخ أنا لم أذهب العام إلى عرفة ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ وإنما هو شيطان تمثل على صورته ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرا وهى أحوال شيطانية.
وفي مجموع الفتاوى " ج13/ص89 " يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
قد قال تعالى عن قول الجن :" منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وقالوا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا".
ففيهم الكفار والفساق والعصاة وفيهم من فيه عبادة ودين بنوع من قلة العلم كما فى الإنس وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس فاليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمسلمون مع المسلمين والفساق مع الفساق وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع، واستخدام الانس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء.
منهم من يستخدمهم فى المحرمات من الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين وإنما هو من أفعال الشياطين. ومنهم من يستخدمهم فى أمور مباحة اما احضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الانس بعضهم ببعض فى ذلك
والنوع الثالث أن يستعملهم فى طاعة الله ورسوله كما يستعمل الانس فى مثل ذلك فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الانس وينهاهم وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الانس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الانس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله.(/5)
إذ كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثا بذلك إلى الثقلين الانس والجن وقد قال الله له قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وقال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وعمر رضى الله عنه لما نادى يا سارية الجبل قال إن لله جنودا يبلغون صوتي وجنود الله هم من الملائكة ومن صالحي الجن فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر والا نفس صوت عمر لا يصل نفسه فى هذه المسافة البعيدة وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه فيقول يا فلان فيعان على ذلك فيقول الواسطة بينهما يا فلان وقد يقول لمن هو بعيد عنه يا فلان احبس الماء تعال إلينا وهو لا يسمع صوته فيناديه الواسطة بمثل ذلك يا فلان احبس الماء أرسل الماء إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته والا فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه، وهذه حكاية كان عمر مرة قد أرسل جيشا فجاء شخص وأخبر أهل المدينة بانتصار الجيش وشاع الخبر فقال عمر من أين لكم هذا قالوا شخص صفته كيت وكيت فأخبرنا فقال عمر ذاك أبو الهيثم بريد الجن وسيجيء بريد الانس بعد ذلك بأيام.
وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان لكن أعطى ملكا لا ينبغى لأحد بعده وسخرت له الانس والجن وهذا لم يحصل لغيره والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذعته حتى سال لعابه على يدى وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ثم ذكرت دعوة أخى سليمان فأرسلته فلم يستخدم الجن أصلا لكن دعاهم إلى الإيمان بالله وقرأ عليهم القرآن وبلغهم الرسالة وبايعهم كما فعل بالإنس والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم أعظم مما أوتيه سليمان فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا لغرض يرجع اليه الا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء.أ.هـ
وفي نفس المرجع في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان يقول : وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول، مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي الله، وان ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيرا من هؤلاء، عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا، أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله، بل قد اتفق أولياء الله، على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يعتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.....أ.هـ
*وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله تعالى: ما حكم خدمة الجن للإنس؟
فأجاب بذكر كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى
ثم قال: "وقد اتخذ بعض الرقات كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى متكأ على مشروعية الاستعانة بالجن المسلم فى العلاج بأنه من الأمور المباحة ولا أري في كلام شيخ الإسلام ما يسوغ لهم ذلك، فإذا كان من البديهيات المسلم بها ان الجن من عالم الغيب يرانا ولا نراه الغالب عليه الكذب،معتد ظلوم غشوم لا يعرف العذر بالجهل،مجهولة عدالته، لذا روايته للحديث ضعيفة، فما هو المقياس الذى نحكم به على أن هذا الجنى مسلم وهذا منافق أو كافر وهذا صالح وذاك طالح، لذا الاستعانة بالجن المسلم (كما يدعى البعض) فى العلاج لا تجوز، قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورقى له وأمر أصحابه بالرقية فأجتمع بذلك فعله وأمره وإقراره صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الاستعانة بالجن المسلم كما يدعى البعض فضيلة ما ادخرها الله عن رسوله يوم سحرته يهود صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضوان الله عليهم وهم خير الخلق وأفضلهم بعد أنبيائه.
*وهذا سؤال طرح على مركز الفتوى حول الاستعانة بالجن." فتوى رقم 7369"(/6)
ما حكم من يتعامل مع شخص يتعامل مع الجن في الخير فقط في علاج بعض الأمراض وفك السحر.ولا يستخدم الجن إلا في عمل الخير وعرف عن هذا الشخص التقوى والورع. وهل هناك أشخاص يتمتعون بكرامات من الله عز وجل. وهل يكون تسخير الجن للشخص في عمل الخير كرامة له من عند الله سبحانه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا بأسرع وقت ممكن.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا يجوز الاستعانة بالجن ولو كان في أمور يظهر أنها من أعمال الخير، لأن الاستعانة بهم تؤدي إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم من الأمور الغيبية التي يصعب على الإنسان فيها الحكم عليهم بالإسلام، أو الكفر، أو الصلاح، أو النفاق، لأن الحكم بذلك يكون بناء على معرفة تامة بخلقهم ودينهم والتزامهم وتقواهم، وهذا لا يمكن الاستيثاق منه لانعدام مقاييس تحديد الصادقين والكاذبين منهم بالنسبة إلينا.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفائه الراشدين، ولا الصحابة ولا التابعين، أنهم فعلوا ذلك، أو استعانوا بهم، أو لجؤوا إليهم في حاجاتهم. ومع انتشار الجهل في عصرنا وقلة العلم قد يقع الإنسان في الشعوذة والسحر، بحجة الاستعانة بالجن في أعمال الخير، وقد يقع في مكرهم وخداعهم وهو لا يشعر، إلى ما في ذلك من فتنة لعامة الناس، مما قد يجعلهم ينحرفون وراء السحرة والمشعوذين بحجة الاستعانة بالجن في أعمال الخير.
وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه من أن استخدامهم في المباح والخير جائز كاستخدام الإنس في ذلك، فإنه في آخر كلامه ذكر أن من لم يكن لديه علم تام بالشريعة قد يغتر بهم ويمكرون به.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية:" قال أحمد في رواية البرزاطي في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم، أو يزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم، ومنهم من يخدمه. قال: ما أحب لأحد أن يفعله، تركه أحب إلي"
وأما من يدعي أن تسخير الجن له من باب الكرامة فدعواه ليست صحيحة، لأن الكرامة لا تأتي لإنسان يريدها، وإنما هي تفضل من الله على أوليائه، قد يطلبونها فتحصل، وقد يطلبونها فتتخلف، وعلينا أن ننظر إلى حال الشخص للحكم عليه لا إلى كراماته.
قال الشيخ خالد بن علي المشيقح:
الاستعانة بالجن قسمها بعض العلماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : أن يستعين بهم في أمور محرمة، فإن هذا محرم، كما لو استعان بهم على إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ونحو ذلك.
القسم الثاني: أن يستعين بهم في أمور مشروعة، فإن هذا مشروع ولا حرج فيه، كما لو استعان بهم في ما يتعلق بالدعوة إلى الله عز وجل ونحو ذلك.
القسم الثالث : أن يستعين بهم في أمور مباحة، كفقدان ضالة والبحث عنها فإنه مباح، وقد استدلوا على ذلك بأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لما فقدوا عمر رضي الله تعالى عنه، كانت هناك امرأة لها رئيٌّ من الجن، فذهبوا إليها وأمروها أن تسأل هذا الجن عن مكان عمر، فأرشد إلى أنه يسم إبل الصدقة، هذا ذكره بعض العلماء رحمهم الله، كشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، لكن لا يستحب أن يقوم الناس بهذه الأمور؛ لأن غلبة الجهل وقلة العلم، جعلت الناس تتوسع في هذه الأمور حتى خرجوا عن الحدود الشرعية؛ لذا فلا بد عند الاستعانة بالجن الرجوع إلى أهل العلم، واستشارتهم في الاستعانة وكيفيتها وبم تكون ونحو ذلك،حتى لا يقع فيما حرَّم الله تعالى من الشرك وغيره.
وفى مجلة الدعوه عدد رقم 2479 يقول الكاتب وقد ظهر فى الاونه الاخيره بعض القراء يقرئون على برميل ماء كبير وينفث فيه وبعد ذلك يملأ المرضى او قل إن شأت الضحايا
أوعيتهم، ناهيك عن القراءة المركزه وفى هذه الطريقه يقوم القارئ بالقراءة على الماء والزيت عدة مرات وهذه القراءة لها اجر خاص ومرتفع جدا وبعضهم يقرأ على العلب وهى مغلقه وذلك لكسب الوقت والجهد والمال الحرام، يقول الدكتور عبد الله السبيعى لا نستغرب إذا ظهر لنا من يقرأ على البحر لنسبح فبه فيذهب عنا كل العلل، وقد استخدم بعضهم جهاز الكمبيوتر فى عيادته وذلك ليواكب عصر التطور والتكنولوجيا.
وبكل جراه أعلن أحدهم بالصحف الاعلانيه بالكويت انه على استعداد لقراءة الرقى الشرعية
وكذلك فى الإنترنت وأي جرأة بعد هذا حتى اختلط الأمر لدى المرضى فاصبحوا لا يميزون الذى يرقى بالقرآن من الذى يرقى بالطلاسم والخرافات فوقعوا فريسة للمشعوذين والسحرة يا قوم اتقوا الله بمرضى المسلمين.
*سئل الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن الاستعانة بالجن وقولهم : خذوه، انفروا به الخ، فقال في مجموع فتاويه : وهذه كلمات لا تجوز من ثلاثة أوجه مأخوذة من ظاهر هذه الألفاظ :-
( إحداها ) محبة ضرر هذا المسلم المطلوب أخذه وشرب دمه 0
( الثاني ) إنه طلب من الجن فيدخل في سؤال الغائبين الذي يشبه سؤال الأموات، وفيه رائحة من روائح الشرك 0(/7)
( الثالث ) تخويف الحاضر المقول في حقه ذلك، ولولا تغلب جانب التخويف مضافا إلى أنه قد لا يحب إصابة هذا الحاضر معه لألحق بالشركيات الحقيقية ) 0( فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -1 / 114، 115 - ( 51، 52 ) 0
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز عن حكم استخدام الجن من المسلمين في العلاج إذا لزم الأمر ؟
فأجاب – رحمه الله – : ( لا ينبغي للمريض استخدام الجن في العلاج ولا يسألهم، بل يسأل الأطباء المعروفين، وأما اللجوء إلى الجن فلا ؛ لأنه وسيلة إلى عبادتهم وتصديقهم، لأن في الجن من هو كافر ومن هو مسلم ومن هو مبتدع، ولا تعرف أحوالهم فلا ينبغي الاعتماد عليهم ولا يسألون، ولو تمثلوا لك، بل عليك أن تسأل أهل العلم والطب من الإنس. وقد ذم الله المشركين بقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )، ( سورة الجن - الآية 6 ) 0
ولأنه وسيلة للاعتقاد فيهم والشرك، وهو وسيلة لطلب النفع منهم والاستعانة بهم، وذلك كله من الشرك ) 0 ( مجلة الدعوة - العدد 1602 ربيع الأول 1418 هـ – ص 34 ) 0
*ويرى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - عدم جواز ذلك، وقد بين أن هذا من الأمور المغيبة عن الإنسان ولا نستطيع أن نحكم على هؤلاء بالإسلام أو الكفر، فإن كانوا مسلمين لا نستطيع أن نحكم عليهم بالصلاح أو النفاق، وقد استشهد - حفظه الله - بالآية الكريمة من سورة الجن : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )، ( سورة الجن – الآية 6 ) 0
* سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين عن الحكم الشرعي للاستعانة بالجن في الكشف عن الجرائم والسرقات الخطيرة ونحو ذلك ؟
فأجاب – حفظه الله – : ( لا شك أن في الجن مسلمون وصالحون، ولا شك أنهم جميعا يروننا ونحن لا نراهم، وأنهم يتكلمون وقد نسمع كلامهم وقد لا نسمعه، فعلى هذا لا ينكر أنهم يخبرون بعض البشر بأشياء لا يعلمها الإنس؛ لأنهم لخفتهم يقطعون المسافات الطويلة في زمن قصير، وقد حكى الله عنهم قولهم : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ 000 )، ( سورة الجن – جزء من الآية 8 – 9 ) 0
ففي الإمكان أن يعلموا عن السارق ومكان الضالة ومجتمع أهل الإجرام ومكائد الأعداء وموضع ذخائرهم ونوعها، ولكنهم لا يعلمون الغيب ( 000 وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا 000 )، ( سورة لقمان - جزء من الآية 34)0 فأما الاستعانة بهم فأرى أنه لا يجوز؛ لأن في ذلك استخدام لهم وقد لا يخدمون إلا بتقرب إليهم واستضعاف لهم، فأما إن تلبس أحدهم بإنسان وسألناه عن بعض ما لا نعلمه فلا مانع من اعتبار خبره، مع أنه قد يظن ظنا، وقد يتعمد الكذب أما إن تحقق من بعض الصالحين منهم خبر بواسطة بعض الصالحين من البشر فلا مانع من قبوله دون طلب ذلك من أحدهم وقد تواتر عن بعض الصالحين من الناس أن هناك من يوقظهم للصلاة آخر الليل ولا يرون أحدا وإنما هم من صالحي الجن والله أعلم ) 0 ( فتوى مكتوبة بتاريخ 24 شعبان سنة 1418 هـ ) 0
وقال أيضا : ( لا أرى ذلك فإن المعتاد أن الجن إنما تخدم الإنس إذا أطاعوها ولا بد أن تكون الطاعة مشتملة على فعل محرم أو اقتراف ذنب فإن الجن غالبا لا يتعرضون للإنس إلا إذا تعرضوا لهم أو كانوا من الشياطين)0( الفتاوى الذهبية - جزء من فتوى – ص 198 )(/8)
*وقد سئل فضيلته السؤال التالي : ( جاء إلينا شاب مريض يقول إن عليه جني وعندما أحضرنا له أخ ليقرأ عليه وحضر الجن وعلمنا أن عليه واحد قسيس وابنته وابنه، وقد نطق الجميع، واستمر الأخ مع هذا المريض من قبل صلاة المغرب إلى الساعة الواحدة مساء، فلم يقدر له الله أن يخرج هؤلاء الجن، وفي اليوم الثاني أحضرنا أخ آخر لهذا الرجل ولقد فوجئنا جميعاً أن الأخ بمجرد دخوله على المريض لم يقرأ قرآنا نسمعه ولكنه أخذ يتمتم في أذن المريض بكلام لا نسمعه، ثم أخذ يضغط على أسنانه بشده لدرجة أنه أحدث صوتاً عالياً، ثم قال : هيا يا عبد الله هات هذا الكلب، وهنا أخذ المريض ينتفخ جسمه وتبرز عروقه، ثم وضع عند رقبته وقام بذبح الأول، ثم قال : هيا يا عبدالرحمن وحدث كما حدث في المرة الأولى تماما، ثم أحضر كوب ماء وقرأ عليه دون أن نسمع صوته أيضاً، ثم قام بنفخ الماء في وجهه حتى أفاق، وقال : خلاص لقد ذبحتهم جميعاً، وعندما قلنا له أن ما فعلت حرام، قال : ليس حرام وأنا معي فتوى من السعودية تجيز لي هذا العمل، وأن هؤلاء من الجن المسلم وهم معي منذ عشر سنوات، ويصلون معي ويقيمون الليل أيضاً، ولا شيء في الاستعانة بهم ما داموا مسلمين، وما دمت لا أقوم بطاعتهم في أمور معينة لإحضارهم، وهنا اختلف الإخوة بين معجب لهذا الأمر مقراً به، وبين مخالف منكر هذا الأمر، لذلك رأينا عرض الأمر بالتفصيل على فضيلتكم وإفتاؤنا بهذا العمل وجزاكم الله خيراً ونفع بكم المسلمين ؟ 0
فأجاب – حفظه الله - : (وبعد نختار عدم الاستعانة بالجن المسلمين أو غيرهم، وذلك أنه قد يحتاج استخدامهم إلى شيء من التقرب إليهم أو تعظيمهم أو نحو ذلك، فالأصل علاجهم بالرقية الشرعية، وتنفع بإذن الله لأهل الطاعة والإيمان، فإذا كان القارئ من أهل الصلاح والعلم والزهد والخير، وأخلص في قراءته وعرف الآيات والأدعية والأحاديث التي تؤثر في العلاج، وكان المريض من أهل الخير والصلاح والاستقامة والإيمان الصحيح نفع ذلك بإذن الله وتوفيقه، وقد يستعمل القراء بعض الأعمال كالخنق والضرب والكي ودخان النار ونحو ذلك ولهم تجربة وأعمال يحسنون السير عليها دون الحاجة إلى استخدام الأرواح الخبيثة، والله أعلم )
*قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في كتابه " السحر والشعوذة ": ( لا يستعان بالجان، لا المسلم منهم ولا الذي يقول أنه مسلم، لأنه قد يقول مسلم وهو كذاب من أجل أن يتدخل مع الإنس فيسد هذا الباب من أصله، ولا يجوز الاستعانة بالجن ولو قالوا أنهم مسلمون؛ لأن هذا يفتح الباب والاستعانة بالغائب لا تجوز سواء كان جنيا أو غير جني وسواء كان مسلما أو غير مسلم إنما يستعان بالحاضر الذي يقدر على الإعانة كما قال تعالى عن موسى : ( 000 فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ 000 ) ( سورة القصص - الآية 15 ) 0 هذا حاضر ويقدر على الإغاثة فلا مانع من هذا في الأمور العادية0( السحر والشعوذة – ص 86 - 87 ) 0
*قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ : ( والاستعانة بالجن الأصل فيها المنع، وقد أجاز بعض العلماء أنه إذا عرض الجني أحيانا وهذه نادرة للمسلم في إبداء إعانة له فإن له أن يفعل ذلك وهذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، وقد أدت الاستعانة بمن زعموا أنهم من مسلمي الجن من قبل بعض الراقين إلى فتن وشحناء ومشكلات بين الناس فيقول الراقي إن الجن يقول إن الحاسد أو العائن هو الزوجة الثانية أو السحر من قبل أهل الزوجة أو من فلان من الأقرباء وهكذا، مما يؤدي إلى القطيعة والشحناء والشرور 00 وهنا أمر نلفت إليه وهو أن عدالة الجن لا تعلم حتى لو كان قرينا للإنسان وهل الجن فيما يخبر به عدل أو غير عدل، ولهذا ذكر علماء الحديث في كتب المصطلح أن رواية مسلمي الجن ضعيفة لأن الرواية في صحتها موقوفة على معرفة العدالة والثقة في الراوي وهذا لا سبيل للوصول إليه بالنسبة للجن فكيف يقبل من يقولون بأنهم مسلمي الجن إما فلان مسحور على يد فلان أو أنه محسود بعين فلان ) 0 ( مجلة الدعوة ـ صفحة ـ 23 ـ باختصار ـ العدد 1683 من ذي القعدة 1419 هـ ).(/9)
* قال الدكتور أحمد بن ناصر بن محمد الحمد :( إن المؤمنين من الجن كالمؤمنين من الإنس من حيث أنهم مأمونو الجانب، فلا يدعون إلى غير عبادة الله تعالى، ولا يكونون عونا على الظلم والعدوان، وحصول الخير منهم غير مستنكر، بل هو مأمول، وعونهم لإخوانهم من الإنس ممكن، وقد يحصل من غير أن يراهم الإنس، أو يشعروا بمساعدتهم حسيا بحسب قدرتهم، كما يعين الإنس بعضهم بعضا، وكثيرا ما يعدم التعاون بين الإنس مع اتحاد جنسهم ! فعدمه حال اختلاف الجنس أقرب وأحرى، لكن أن تحصل السيطرة والتسخير من الإنسي للجني فهذا أمر ليس ممكنا للاختلاف في الخلقة، من حيث أن الإنسي لا يرى الجن، ومن ثم لا يستطيع السيطرة والتحكم، وهذا الأمر ليس من متطلبات النفوس، فلا أحد تميل نفسه إلى أن يسخر ويكون عبدا إلا بالقوة والقهر، وعليه 00 فلن يرضى هذا الأمر أحد رغبة له ويحصل من الشياطين نتيجة سيطرة بعضهم على بعض فيكون المسخر للإنسي من الجن مستذلا من قبل أمثاله من ذوي السيطرة من الشياطين، وذلك مقابل تحقيق الإنسي لذلك المسيطر من الشياطين ما يريد منه، من الكفر والفسوق والعصيان، والخروج على تعليمات الدين، فيكون المستعبد في الحقيقة الإنسي للشيطان ) 0 ( كتاب السحر بين الحقيقة والخيال – ص 211 ) 0
*قال عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني : ( وليس ببعيد أن يوجد في الجن كذابون، وقد أثبت الله أن منهم العصاة والكافرين 0 ومن جهة ثانية فإنه لا يصح الثقة بشيء من أخبارهم، لانعدام مقاييس تحديد الصادقين والكاذبين فيهم بالنسبة الينا ) 0 ( العقيدة الإسلامية وأسسها – 290) 0
ومن زعم أنه يستخدم الجن بالقرآن فقط - دون سواه - فهو كاذب مدلس مخادع(/10)
الإسراء والمعراج الواقعة والآفاق
د. غازي التوبة 4/8/1427
28/08/2006
جاءت واقعة الإسراء والمعراج في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تتويجاً لمرحلة سابقة هي المرحلة المكية، وترسيخاً لبعض القيم والمبادئ المهمة في حياة الأمة ومستقبلها، وقد تحدّث القرآن عن تلك الواقعة فقال صلى الله عليه وسلم: (سُبْحانَ الذي أسرى بعَبْدِهِ ليلاً مِنَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصَى الذي بارَكْنا حولَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنه هو السميعُ البصيرُ) [الإسراء:1]، فما معالم واقعة الإسراء والمعراج؟ ولم كانت تتويجاً للمرحلة المكية؟ وكيف كانت ترسيخاً لبعض القيم والمبادئ وتنبيهاً على الأمور المستقبلية؟
ذكرت كتب الحديث والسيرة أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وأنه كان في نهاية شهر رجب الفرد، وأنه كان يقظة لا مناماً، من مكة إلى بيت المقدس بواسطة البراق، فلما انتهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى باب المسجد ( المسجد الأقصى) ربط الدابة عند الباب ودخله، فصلّى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم عرج إلى السماء، فصعد إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه في كل سماء مقربوها، وسلّم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما حتى انتهى إلى سدرة المنتهى حيث رأى جبريل على صورته الملائكية، كما رأى البيت المعمور، ورأى في رحلته هذه الجنة والنار، ثم كلّم الله عز وجل، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده. وقد تحدّث القرآن عن رحلة المعراج وعن وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤيته لجبريل عليه السلام فقال عز وجل: (والنجمِ إذا هَوَى. ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى وما ينطقُ عن الهَوَى إنْ هو إلا وحيٌ يوحَى. علَّمَه شديدُ القُوَى. ذو مِرَّةٍ فاسْتَوَى وهو بالأُفُقِ الأعلى ثم دَنَى فتَدَلَّى فكان قابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى فأوْحَى إلى عبدِهِ ما أَوْحَى ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأَى أَفَتُمارونَهُ على ما يَرَى ولقد رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى عندها جنَّةُ المَأْوَى إذ يغْشَى السِّدْرَةَ ما يغْشَى ما زاغَ البصرُ وما طَغَى لقد رآى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرَى). [النجم:1-18]. وصلّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد الأقصى إماماً بالأنبياء وذلك بإشارة من جبريل عليه السلام، وفي ذلك إظهار لشرفه وفضله عليهم جميعاً، وقد قُدِّم إليه صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة إناءان فيهما: الخمر واللبن، فاختار اللبن، فقيل له: هُديت إلى الفطرة. والآن لم كانت رحلة الإسراء والمعراج تتويجاً للمرحلة المكية؟
بدأت المرحلة المكية من غار حراء حيث تنزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمره الله أن يدعو إلى وحدانيته عز ةجل، وأمره أن ينذر قومه بأنّ هناك بعثة وحساباً، وجنة وناراً، وأمره أن يدعو إلى قيم جديدة تقوم على أخوة الإيمان، وليس على أخوة القبلية، وأنّ المال لله، وأنّ البشر مستخلفون فيه، وأنّ فيه حقاً للسائل والمحروم، دعاهم إلى كل هذا وإلى غيره من القيم والحقائق الجديدة التي جاء بها الإسلام، لكن المجتمع المكي لم يتقبل دعوة الرسول الكريم، بل بدأ ينافح عن قيمه وأفكاره في وجه القيم الجديدة، وشرع في اتهام الرسول مرة بأنه ساحر ومرة بأنه كاهن ومرة بأنه يتلقى أقواله من الأعاجم . . . ثم انتقل إلى إيذاء الضعفاء من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- مما حدا به صلى الله عليه وسلم إلى أمرهم بالهجرة إلى الحبشة مرتين، ثم جاءت وفاة أبي طالب عمّ الرسول وخديجة زوجه مما أفقده سندين في عام واحد، الأول: كان يدفع عنه إيذاء قريش خارج بيته، والثاني: كان يخفف عنه آلام المواجهة مع قريش داخل بيته، ولذلك سمي هذا العام عام الحزن. وفي هذه اللحظة الحاسمة التي اشتد فيها الإيذاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وزادت الأحزان عليه، جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتكون تكريماً له على صدقه في الدعوة، وتقديراً له على صبره في تحمل الأمانة، وتثبيتاً له على إحسانه في تمثل حقائق الإسلام، وتثميناً لحسن أخلاقه وشمائله، وجاءت رحلة الإسراء والمعراج أيضاً لتكون له زاداً في المرحلة القادمة من خلال إراءته رؤى جديدة في عالم السماء: رؤية الجنة والنار، ورؤية جبريل عليه السلام، وتكليمه لله عز وجل الخ . . . لقد أشرنا في بداية المقال إلى أنّ رحلة الإسراء والمعراج كانت ترسيخاً لبعض القيم والمبادئ وتنبيهاً إلى أمور مستقبلية، فما القيم والمبادئ التي رسختها؟ وما الأمور المستقبلية التي نبهت عليها؟(/1)
لقد نسخ الإسلام الديانات السابقة لذلك قال عز وجل: (إنّ الدينَ عند اللهِ الإسلامُ) [آل عمران:19]، (ومَن يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقْبَلَ منهُ وهو في الآخرةِ مِنَ الخاسرينَ) [آل عمران:85]، وقد ادعى كل من النصارى واليهود والمشركين أحقيته بإبراهيم عليه السلام، ولكن ردّ القرآن عليهم جميعاً بأنّ محمّداً وأتباعه هم أولى الناس بإبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أَوْلَى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذينَ اتَّبَعوهُ وهذا النبِيُّ والذينَ آمَنوا). [آل عمران،68]، وذلك لأنّ إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولكن كان حنيفاً مسلماً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حَنيفاً مسلماً وما كان مِنَ المشركينَ) [آل عمران،67]، وقد جاءت بعض وقائع الإسراء والمعراج لتترجم هذه الوراثة عملياً وذلك من خلال صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء جميعهم في القدس، واقتضت هذه الوراثة الربط بين المسجد الحرام وأبرز المقدسات الأخرى وهو المسجد الأقصى، فكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد اقتضت هذه الوراثة تنبيه المسلمين إلى أهمية أرض النبوات، فجاء الحديث عن علو بني إسرائيل وإفسادهم وسيطرتهم على المسجد الأقصى مرتين ثم انتزاعه منهم، فقال عز جل: (وقَضَيْنا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابِ لتُفْسِدُنَّ في الأرضِ مرّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً. فإذا جاءَ وعدُ أُولاهُما بَعَثْنا عليكم عِباداً لنا أُولي بَأْسٍ شديدٍ فجاسوا خِلالَ الدِّبارِ وكان وعداً مفعولاً. ثُمَّ رَدَدْنا لكم الكَرَّةَ عليهِم وأَمْدَدْناكُم بأموالٍ وبَنينَ وجعلناكم أكثرَ نفيراً. إنْ أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنْفُسِكم وإنْ أَسَأْتُم فلها فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ ليَسوؤوا وُجوهَكُم ولِيَدْخُلوا المسجدَ كما دخلوهُ أوَّلَ مرّةٍ ولِيُتَبِّروا ما عَلَوْ تَتْبيراً). [الإسراء:1-7]. والسؤال الآن: متى حدثت هاتان الواقعتان؟ معظم المفسرين أو كلهم على أنّ تلكما الواقعتين حدثتا في الماضي قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن الأرجح أنّ أولى الواقعتين هو ما شاهدناه من دخول اليهود إلى المسجد الأقصى عام 1967م، وهذا ما سنوضحه في السطور التالية.(/2)
ذكر الطبري في تفسيره عدة روايات عن إفساد بني إسرائيل وعن المسلَّطين عليهم، فقال في رواية أن أول الفسادين: قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك النبط ويُدعى صحابين، وقال في رواية أخرى: كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكاً من ملوك فارس لقتلهم زكريا عليه السلام، وسلّط عليهم بختنصّر لقتلهم يحيى عليه السلام ، وقال في رواية ثالثة: إنّ إفسادهم الأول كان قتل أشعيا نبي الله؛ لأنّ زكريا مات موتاً ولم يُقتل، أما إفسادهم الثاني فلا خلاف عليه، فقد كان قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقال في رواية رابعة: كان الذي سلّط عليهم في المرة الأولى جالوت وهو من أهل الجزيرة، حتى بعث الله طالوت ومعه داوود فقتله داوود عليه السلام، وقال في رواية خامسة: بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى وقيل إنها الموصل. وقد ذكر القرطبي وابن كثير في تفسيريهما عن إفساد بني إسرائيل قريباً مما ذكره الطبري مع تفصيل أقل في الحديث عن الإفسادين وعن المسلّطين عليهم ، لكننا حتى ندرك بُعدْ المفسرين القدماء عن الصواب نقارنه بما ورد في سورة الإسراء فنجد أن القرآن الكريم قد وصف بني إسرائيل بصفتين متلازمتين هما: الإفساد والعلوّ، وهو ما لم يحدث في كل الوقائع التي أشار إليها المفسرون القدماء ، فهم قد تحدثوا عن إفساد ولم يتحدثوا عن علوّ، وهذه أولى المفارقات ، أما المفارقة الثانية فإن القرآن قد وصف الناس الذي سيدخلون المسجد وسيدمرون ما بناه بنو إسرائيل بأنهم "عباد لنا"، والأرجح أنهم عباد مؤمنون خالصون لله، وهو مالم يتحقق في جالوت أو سنحاريب أو بختنصّر الخ...، إنّ عدم تطابق المواصفات التي طرحها المفسرون القدماء لدخول بني إسرائيل المسجد الأقصى مع المواصفات التي طرحها القرآن الكريم تجعلنا نرجّح أنّ المرة الأولى تنطبق على احتلالهم الحالي للأقصى الذي وقع في حرب حزيران عام 1967م وذلك لأنّ العلو اليهودي الذي قالت عنه الآية "ولتعلنّ علوّاً كبيراً" فأكدته بالمفعول المطلق "علوّاً" ثم وصفته بالصفة "كبيراً" نجد مصداقيته في العصر الحالي، فدولة بني إسرائيل كلمتها عالية، وأوامرها مستجابة، ووُدّها مطلوب، وجانبها مهاب، وانتصاراتها متتالية، وقوّتها أكبر من حجمها فهي الدولة النووية السادسة في العالم الخ . . . وقد ميّز القرآن العلوّ الثاني بأنّ بني إسرائيل سيصبحون فيه أكثر نفيراً، أي أكثر "عدداً" وهو لم يتحقق في كل مرات الإفساد الثاني التي تحدث عنها المفسرون، فهم لم يصبحوا أكثر عدداً من الأقوام التي قاتلوها، وإنما سيتحقق في العلو الثاني الذي سيأتي في قادم الأيام بعد أن يدخل المؤمنون المسجد الأقصى، ويستعيدوه من أيدي بني إسرائيل، وينهوا إفسادهم الأول المتلازم مع علوّهم والذي وقع في إثر نكسة حزيران حسب اعتقادنا.
والسؤال الآن: لماذا تحدث القرآن الكريم عما كتبه على بني إسرائيل في معرض واقعة الإسراء والمعراج وفي سورة الإسراء؟ الحكمة من ذلك تنبيه حاملي ميراث النبوات إلى أهمية أرض النبوات في حياتهم القادمة، لذلك كانت الحروب مع إسرائيل في الحاضر وكانت الحروب الصليبية في الماضي أخطر ما واجه الأمة الإسلامية في حاضرها وماضيها وكان مدار الحربين المسجد الأقصى في الحاضر أو الأرض المقدسة المحيطة بالمسجد الأقصى في الماضي(/3)
الإسراء والمعراج
كرامات الأمة الإسلامية
بشارة للمسلمين
محطات العهد المكي
الوجود الإسرائيلي في القدس
الإسراء والمعراج
المسجد الأقصى ملك لجميع المسلمين
المعراج الروحي للمسلم
الأمة الإسلامية
بسم الله والحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من سيئات أعمالنا ومن شرور أنفسنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. أيها الأخوة المسلمون، نحن أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، قد أكرمنا الله عز وجل بكرامات عدة، أكرمنا بهذه الرسالة العظيمة التي ختم الله بها الرسالات، رسالة الإسلام، الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت أباد الزمن وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة، شؤون الفرد والجماعة، شؤون الجسم والروح، وصدق الله العظيم إذ يقول: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ويقول في ختام سورة يوسف وقصة يوسف: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي يديك وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)، خصنا الله بهذه الرسالة، وبحفظ مصادر هذه الرسالة، مصدرها الأول هو القرآن، كتاب الله عز وجل فتكفل الله بحفظ هذا الكتاب، لم يكل حفظه إلى الأمة، كما وكل حفظ التوراة إلى أصحابها، كما قال تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله)، أي بما طلب إليهم حفظه، الله هو الذي تولى حفظ هذا الكتاب حينما قال ووعد وعداً مؤكداً، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، فهيأ الله الوسائل والأسباب لحفظ هذا الكتاب وتواتر عبر أجيال الأمة، من جيل الصحابه إلى جيل التابعين إلى أتباع التابعين، إلى اليوم، يحفظه الآلاف وعشرات الآلاف، من أبناء هذه الأمة، وكما قرر المحققون من العلماء أن السنة مبينة للقرآن، وضمان الله تعالى لحفظ القرآن يستلزم حفظ السنة، لأن حفظ المبين يستلزم حفظ بيانه، ومن هنا هيأ الله الأسباب لحفظ السنة، حينما دفع العلماء وهيأهم لينخلوا الأحاديث و يردوا ضعيفها ومكذوبها ويحفظوا صحيحها، وحسنها، فهذا مما أكرم الله به هذه الأمة، أن حفظ لها مصادر هذا الدين، لا توجد أمة حفظ كتابها كما حفظ كتاب هذه الأمة، ثم أكرمنا الله بشيء ثالث أنه وضع لنا نموذجاً بشرياً تتمثل فيه الأسوة الحسنة ويتجسد فيه الكمال البشري، أقصى الكمال البشري الذي يمكن أن يرتقي إليه بشر، هذا النموذج هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً)، كان الناس في حاجة إلى نموذج تتجسد فيه الكمالات البشرية، الناس ليسوا فلاسفة، إنما الناس العادييون يحتاجون إلى شيء مرئي محس مجسم فكان هذا هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، الذي جسد فيه تعاليم وأخلاق القرآن كما قالت زوجه وألصق الناس به، عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن أخلاقه، فقالت كان خلقه القرآن، القرآن مفسراً ومجسماً في حياته صلى الله عليه وسلم، الله سبحانه وتعالى أعطى لنا هذا النموذج وهذه الأسوة (قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، في معاملته للحق تبارك وتعالى، في معاملة الحق له، في معاملته للخلق، في معاملة الخلق له، في كل شؤون الحياة نجد هذه الأسوة، هي أسوة جامعة شاملة، لا يتسع المجال للحديث عن مجالات هذه الأسوة، لعل لنا حديثاً آخر عن هذا، إنما نقول أن سيرته (صلى الله عليه وسلم) هي ينبوع دافق، تتجلى فيه هذه الأسوة، كيف دعى إلى الله عز وجل، وكيف صبر على متاعب الدعوة وكيف ذاق الأمرين، ذاق الصاب والعلقم وهو يدعو الناس إلى الله يأخذ بأيديهم إلى صراط الله، يزيح من عقولهم أباطيل الوثنية، وينشر في هذه الرؤوس نور الله، ماذا قاس وماذا لقي، نأخذ ذلك من سيرته (صلى الله عليه وسلم)، التي حفظت أيضاً، لم تحفظ سيرة نبي ولا سيرة زعيم من الزعماء كما حفظت سيرة محمد( صلى الله عليه وسلم)، روت هذه السيرة لنا بحذافيرها بقضها وقضيضها، الخاص فيها والعام، ليس فيها شؤون شخصية نقول أبعدوا هذه لا تروى للناس، ليس هناك دائرة حمراء نقول هذه خاصة اتركوها، كما يقال عن الزعماء اتركوا حياتهم الخاصة، محمد (صلى الله عليه وسلم) حياته الخاصة ملك للأمة، لأنهم يجدون فيها القدوة والتشريع تروي ذلك عنه تسع نسوة، مات عنهن (صلى الله عليه وسلم) إذا نسيت واحدة ذكرت الأخرى، لأننا نجد في هذه الحياة الخاصة أسوة لنا، وقدوة نهتدي بهداها ونقتبس من سناها، من سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) ما حدث له في مكة في العهد المكي في ثلاثة عشرة سنة ظل يدعوا فيها إلى الله عز وجل، ظل يربي الجيل الأول الذي سيحمل رسالة الإسلام وعبء الدعوة إلى الإسلام، يربيه في تلك الدار، دار الأرقم بن الأرقم، ظل محمد (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة عشرة عاماً في مكة يغرس العقيدة، يربي الناس على التوحيد والإيمان بالله والآخرة، على الإيمان بأصول الفضائل والأخلاق، على أن الله سبحانه ناصر(/1)
دعوته وحام عبده، ومظهر دينه على الدين كله.
إلى أعلى
محطات العهد المكي
ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) ثلاثة عشرة عاماً في مكة، في العهد المكي محطات نعرفها، بعد أن بعث الله محمداً (صلى الله عليه وسلم) محطة الوحي الأول وموقف خديجة رضي الله عنها، موقف ورقة بن نوفل، (وأنذر عشيرتك الأقربين) ودعوته على الصفا، موقف الإيذاء من قريش وتصعيد الإيذاء يوماً بعد يوم، موقف الهجرة إلى الحبشة مرتين، موقف المقاطعة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأقاربه من بني هاشم وبني المطلب، والحصار الاقتصادي والمقاطعة الاجتماعية ثلاث سنوات، موقف عام الحزن، موت خديجة رضي الله عنها، وأبي طالب، خديجة التي كانت مؤنسه في الداخل، وأبو طالب مسنده في الخارج، موقف ذهابه إلى الطائف ورد أهل الطائف له أسوأ رد، موقف دعائه وتضرعه (صلى الله عليه وسلم) بعد الطائف حينما لقي ما لقي ودعائه لربه، (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك)، هكذا كان الموقف، ثم الإسراء والمعراج هذه المحطة المهمة في حياته في مكة، وعن هذا الإسراء والمعراج حديثنا هذا اليوم،
إلى أعلى
الإسراء والمعراج(/2)
الإسراء والمعراج، الإسراء هو الرحلة الأرضية التي هيأها الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى القدس، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة أرضية ليلية، والمعراج رحلة من الأرض إلى السماء، من القدس إلى السموات العلا، إلى مستو لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث يعلم الله عز وجل، هاتان الرحلتان كانتا محطة مهمة في حياته (صلى الله عليه وسلم) وفي مسيرة دعوته في مكة، بعد أن قاسى ما قاسى وعانى ما عانى، من قريش ثم قال علي أن أجد أرضاً أخصب من هذه الأرض عند ثقيف، عند أهل الطائف، فوجد منهم ما لا تحمد عقباه، ردوه أسوأ رد، سلطوا عليه عبيدهم وسفهائهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه (صلى الله عليه وسلم)، ومولاه زيد بن حارثة يدافع عنه ويحاول أن يتلقى عنه هذه الحجارة حتى شج عدة شجاج في رأسه، خرج عليه الصلاة والسلام دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه، ولهذا ناجى ربه هذه المناجاة وبعث إليه ملك الجبال يقول إن شئت أن أطبق عليهم الجبلين، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) أبى ذلك، وقال إني لأرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون، ثم هيأ الله تعالى لرسوله هذه الرحلة، الإسراء والمعراج، ليكون ذلك تسرية وتسلية له عما قاسى، تعويضاً عما أصابه ليعلمه الله عز وجل أنه إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء، إذا كان هؤلاء الناس قد صدوك فإن الله يرحب بك وإن الأنبياء يقتدون بك، ويتخذونك إماماً لهم، كان هذا تعويضاً وتكريماً للرسول (صلى الله عليه وسلم) منه عز وجل، وتهيئة له للمرحلة القادمة، فإنه بعد سنوات قيل أنها ثلاث سنوات وقيل ثمانية عشر شهراً (لا يعلم بالضبط الوقت الذي أسري فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم) إنما كان قبل الهجرة يقيناً، كان ذلك إعداداً لما بعد الهجرة، ما بعد الهجرة حياة جهاد ونضال مسلح، سيواجه (صلى الله عليه وسلم) العرب جميعاً، سيرميه العرب عن قوس واحدة، ستقف الجبهات المتعددة ضد دعوته العالمية، الجبهة الوثنية في جزيرة العرب، والجبهة الوثنية المجوسية من عباد النار والجبهة اليهودية المحرفة لما أنزل الله والغادرة والتي لا ترقب في مؤمن ذمة، والجبهة النصرانية التي حرفت الإنجيل والتي خلطت التوحيد بالوثنية، والتي تتمثل في دولة الروم البيزنطية، كان لابد أن يتهيأ (صلى الله عليه وسلم) لهذه المرحلة الضخمة المقبلة ومواجهة كل هذه الجبهات، بهذا العدد القليل وهذه العدة الضئيلة، فأراد الله أن يريه من آياته في الأرض وآياته في السماء، قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا)حتى يرى آيات الله في هذا الكون وفي السماء أيضاً كما قال الله تعالى في سورة النجم التي أشار فيها إلى المعراج، (لقد رأى من آيات ربه الكبرى مازاغ البصر وما طغى) أراد الله أن يريه هذه الآيات من هذه الآيات الكبرى حتى يقوى قلبه ويصلب عوده، وتشتد إرادته في مواجهة الكفر بأنواعه وضلالاته، كما فعل الله تعالى مع موسى عليه السلام، حينما أراد أن يبعثه إلى فرعون، هذا الطاغية الجبار المتأله في الأرض الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى، ما علمت لكم من إله غيري، عندما أراد الله أن يبعث موسى إلى فرعون، أراه من آياته بعد ما يقوي قلبه، فلا يخاف فرعون ولا يتزلزل أمامه، حينما ناجى الله عز وجل، قال ما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى، قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف، سنعيدها سيرتها الأولى، واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، هذا هو السر، لنريك من آياتنا الكبرى، فإذا علمت أنك تركن إلى ركن ركين، وتعتصم بحصن حصين، وتتمسك بحبل متين، فلا تخاف عدواً هكذا فعل الله مع موسى، وهكذا فعل الله مع محمد ( صلى الله عليه وسلم)،أراه من آياته في الأرض ومن آياته في السماء، الآيات الكبرى ليستعد للمرحلة القادمة، كان الإسراء والمعراج تهيئة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان تكريماً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) عما أصابه من قومة في مكة وفي الطائف، وكان كذلك لشيء مهم جديد في حياة المسلمين وله أثره في حياتهم المستقبلية، هو فرض الصلاة، فرض الله في هذه الليلة الصلاة، عادة الدول حينما يكون هناك أمر مهم تستدعي سفراءها، لا تكتفي بأن ترسل إليهم رسالة إنما تستدعيهم ليمثلوا عندها شخصياً وتتشاور معهم، وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يستدعي سفيره إلى الخلق، محمد (صلى الله عليه وسلم) ليسري به من المسجد الأقصى ثم يعرج به إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى، ليفرض عليه(/3)
الصلاة، إيذاناً بأهمية هذه الفريضة في حياة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم، هذه الفريضة التي تجعل المرء على موعد مع ربه أبداً، هذه الفريضة فرضت أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم مازال النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل ربه التخفيف بإشارة أخيه موسى حتى خفف الله عنهم هذه الصلوات إلى خمس وقال هي في العمل خمس وفي الأجر خمسون، فهي من بقايا تلك الليلة المباركة.
إلى أعلى
المعراج الروحي للمسلم
هي معراج لكل مسلم، إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد عرج به إلى السموات العلى، فلديك يا أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به ما شاء الله عز وجل، بواسطة الصلاة التي يقول الله تبارك تعالى فيها في الحديث القدسي، قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال عبدي الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم، قال تعالى أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجّدني عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر الفاتحة، قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) المسلم وهو يصلي يستطيع أن يرتقي حتى يكاد أن يسمع هذه الكلمات من الله تبارك وتعالى، الصلاة هي معراج المسلم إلى الله تبارك وتعالى، ثم لابد أن ننظر لماذا كان هذا الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لماذا لم يعرج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلى؟ هذا يدلنا على أن المرور بهذه المحطة القدسية، المرور ببيت المقدس، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، المرور بالمسجد الأقصى كان مقصوداً، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بيت المقدس، وأنه أمهم، هذا له معناه ودلالته، أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمراً لابد منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى، وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإسحاق وموسى وعيسى إيذان بانتقال القيادة، القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة، ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، المسجد الذي ابتدأ منه الإسراء، والمسجد الذي انتهى إليه الإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أراد الله عز وجل لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، وصف الله هذا المسجد بالبركة، وهذا قبل أن يوجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأن المسجد النبوي لم ينشأ إلا بعد الهجرة، في المدينة فأراد الله أن يوطد هذا المعنى ويثبته في عقول الأمة وقلوبها، حتى لا يفرطوا في أحد المسجدين، من فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام، المسجد الذي ارتبط بالإسراء والمعراج، والذي صلى إليه المسلمون مدة طويلة من الزمن، حينما فرضت الصلاة، كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، كان بيت المقدس قبلتهم، ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهراً في المدينة، صلوا إلى هذا المسجد إلى بيت المقدس، كان قبلة المسلمين الأولى، فهو القبلة الأولى، وهو أرض الإسراء والمعراج، وهو المسجد الذي لا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، أحد المساجد الثلاثة، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة.
إلى أعلى
بشارة للمسلمين(/4)
هكذا ينبغي أن يعي المسلمين أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرص المسلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسجد بأيديهم، حينما احتل الصليبيون المسجد الأقصى، حينما جاءوا إلى فلسطين بقضهم وقضيضهم وثالوثهم وصليبهم، جاءوا من أوروبا، حروب الفرنجة أو كما يسمونها الحروب الصليبية، جاء هؤلاء وأقاموا لهم ممالك وإمارات، في فلسطين واحتلوا المسجد الأقصى، هيأ الله من أبناء الإسلام، ومن قادة المسلمين من نذروا حياتهم لتحرير هذا المسجد وكان هؤلاء القادة من غير العرب، بدأ ذلك بعماد الدين زنكي القائد التركي، وبابنه الشهيد نور الدين محمود، الذي يلقب بالشهيد مع أنه لم يستشهد، ولكنه عاش حياته تائقاً للشهادة في سبيل الله، وكان يشبه بالخلفاء الراشدين بعدله وزهده وحسن سياسته، وتلميذ نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي،البطل الكردي الذي حقق الله على يديه النصر، في معركة حطّين ومعركة فتح بيت المقدس، فتح بيت المقدس ولم يرق فيها من الدماء إلا بقدر الضرورة، على حين حينما دخلها الصليبيون غاص الناس في الدماء إلى الركب، قتلت الآلاف وعشرات الآلاف،ولكن هذا هو الإسلام، إن المسجد الأقصى حينما كان الإسراء لم يكن هناك مسجد مشيد، كان هناك مكاناً للمسجد، كما قال تعالى (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) فقوله إلى المسجد الأقصى بشارة بأن المكان سيتحول إلى مسجد وهو أقصى بالنسبة إلى أهل الحجاز، ومعنى هذا أن الإسلام سيمتد وسيأخذ هذا المكان الذي تسيطر عليه الإمبراطورية الرومية، كان هذا بشارة للمسلمين أن دينهم سيظهر وأن دولتهم ستتسع، وأن ملكهم سيمتد وسيكون هناك مسجداً أقصى، وقد كان، دخل المسلمون القدس في عهد عمر ببن الخطاب (رضي الله عنه)، أبى بطريق القدس سيفرنيوس أن يسلم مفتاح المدينة إلا لخليفة المسلمين، أبى أن يسلمها للقادة العسكريين، قال أريد الخليفة بنفسه، وجاء عمر في رحلة تاريخية شهيرة مثيرة وتسلم مفتاح المدينة وكتب عهداً الذي يسمى العهدة العمرية، عهداً لهؤلاء أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ومعابدهم وشعائرهم وكل ما يحرص الناس عليه وشرط اشترطوه ألا يساكنهم فيها أحد من اليهود.
إلى أعلى
الوجود الإسرائيلي في القدس(/5)
وحينما دخل المسلمون إلى القدس لم يكن فيها يهودي واحد فقد أزال الرومان من سنة 135 ميلادية الوجود اليهودي تماماً ولذلك المسلمون لم يأخذوا القدس من اليهود أو من الإسرائيليين إنما أخذوها من الرومان، الرومان أزالوهم تماماً، قبل ذلك زالت الدولة اليهودية على يد البابليين، وبعد ذلك زال الوجود اليهودي نفسه على يد الرومان وزالت الدولة اليهودية منذ أكثر من 25 قرناً، سنة 486 قبل الميلاد، والآن يرد اليهود أن يقولوا نحن أصحاب القدس، وهم لم يعيشوا فيها إلا أقل من 500عام، 400 وكذا وثلاثين ونحو ذلك، أكثر ما قامت دولتهم في هذه الأرض، بعضها بعد داود وسليمان انقسمت دولتهم قسمين، دولة يهوذا ودولة إسرائيل، دولة في القدس (أورشليم)، ودولة في نابلس، إحدى الدولتين انقرضت قبل ثلاثة قرون والأخرى بقيت 4 قرون وعدة سنوات،ثم انتهى وجد السلطة الإسرائيلية، والدولة الإسرائيلية تماماً، ثم يأتي هؤلاء الآن ويقولون لنا حق تاريخي، أين هذا الحق، نحن أصحاب هذا الحق، القدس سكنها العرب، من القديم، اليبوسيون والكنعانيون قبل الميلاد بثلاثين قرناً، ثم أخذها المسلمون من أربعة عشر قرناً، أو تزيد فأين حقكم وأين ما تدعون، إنه لا حق لهؤلاء، ولكنه حق الحديد والنار، تكلم السيف فاسكت أيها القلم، منطق القوة وليس قوة المنطق، نحن نرفض هذا المنطق ونتمسك بحقنا، نتمسك بالمسجد الأقصى ولا نفرط فيه،إذا فرطنا فيه فقد فرطنا في قبلتنا الأولى، فرطنا في أرض الإسراء والمعراج، فرطنا في ثالث المسجدين المعظمين فرطنا في ديننا ودنيانا، وكرامتنا وحقوقنا ولن نفرط في ذلك أبداً، سنظل نقاوم ونجاهد إسرائيل تريد أن ترغمنا على الأمر الواقع، هي في كل يوم تفعل شيئاً تقيم مستوطنان تزيل بيوتاً، تهدد الناس في القدس، تخرجهم ولا تسمح لهم بالعودة، لا تسمح لأحد أن يبني بيتاً هكذا كل يوم، مستوطنة أبو غنيم، اس العمود، ..) ذلك لترغمنا أن نرضى بالأمر الواقع، وهم يقولون الآن خذوا حجارة المسجد الأقصى، سنرقمها لكم، انقلوها إلى المملكة السعودية، وابنوا ما شئتم من مسجد هناك، ومستعدون أن ندفع لكم النفقات، كأن الحجارة هي المقدسة، المكان هو الذي قدسه الله، وليس الحجارة، يمكن أن نأتي بأي حجارة إنما القدسية لهذا المكان الذي بارك الله حوله، في هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، لن نقبل أن يضيع المسجد الأقصى، هم يحفرون تحت هذا المسجد، حفريات متصلة ولا ندري متى ينهار هذا المسجد، والآن أن هناك بقرة حمراء يزعمون أنها بشارة إلى بناء معبد سليمان أو هيكل سليمان ولا يبنى هيكل سليمان إلا على أنقاض المسجد الأقصى، ويزعمون أن البقرة إذا بلغت ثلاث سنوات فقد آن الأوان لبناء المسجد، هكذا ينشرون وهكذا يزعمون، ربما ليهددونا ليفزعونا أو يخيفونا، لنستسلم أكثر مما نستسلم، ولكنا لن نستسلم أبدا، ليعيشوا بأبقارهم وعجولهم، التي عبدوها من قديم كما عبدوا عجل السامري، لن يزعزعنا هذا لن يزحزحنا عن موقفنا، لن نقبل أبداً ضياع المسجد الأقصى.
إلى أعلى
المسجد الأقصى ملك لجميع المسلمين
كل مسلم عليه واجب نحو هذا المسجد الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، كل المسلمين مسؤولون عن القدس وعن المسجد الأقصى، أنا قلت لبعض الأخوة الفلسطينيين لو أنكم تقاعستم وتخاذلتم واستسلمتم وهزمتم نفسياً وسلمتم المسجد الأقصى، لوجب علينا أن نقاتلكم كما نقاتل اليهود، دفاعاً عن حرماتنا وعن مقدساتنا، وعن قدسنا وعن مسجدنا الأقصى، المسجد الأقصى ليس ملكاً للفلسطينيين حتى يقول بعض الناس هل أنتم ملكيون أكثر من الملك، هل أنتم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين؟ نعم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وقدسيون أكثر من القدسيين، وأقصويون أكثر من الأقصويين، هذا مسجدنا، هذه حرماتنا، هذه كرامة أمتنا، هذه عقيدتنا سنظل نوعي المسلمين، ونقف ضد هذا التهويد للأقصى ومقدساته، وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب ويحتفل بها المسلمون في كل مكان كلما ذكرتنا بهذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة، لا يمكن أيها الأخوة أن نفرط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يستسلم هذا الاستسلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسير في ركابه منهزمين، يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله وأن ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لايضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).(/6)
الإسراء ومفهوم "الحَوْْل "
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) . ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة -- أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته -- وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:
الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق , بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي , وعليه تعتمد رسالته "إن هو إلا وحي يوحي".
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن "رحلة" أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.
وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق "غاية" شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه "لعبده" , فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.
وكانت رحلة عرفانية : رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة "كاشفة" نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر .
لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي "الذي باركنا حوله" , فما معني "البركة" ? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن": "البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة" ص54.
وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في "روح المعاني": "وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال" 15/16. وجاء في الأثر أن "البركة" تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات
* * *
فهناك إجماع إذن علي تفسير "حوله" بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض "باركها" الله , أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.
ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير "حوله" بالمفهوم "القيمي" , والحول - في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.
واستصحاب الواقع التاريخي , واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن "منطقة المسري" -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في "حَوٍل" من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها - فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.
كلمة التاريخ
وصور "الحول" الذي باركه الله في منطقة المسري أكثر من أن تحصي, نكتفي منها - في مقامنا هذا- بصورتين: الأولي في القديم, والثانية في الحديث.(/1)
وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ-1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين - تحت راية الإسلام - مصر والشام والعراق والجزيرة. كانت قوات الصليبيين لا تقل عن خمسين ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد علي نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة ثلاثين ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل "الملك غي", والأمير "رينو دي شاتيون" . قال ابن الأثير: "وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يري القتلي منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يري الأسري منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد", وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلي التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, واسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقري.
إنه العدد الأقل الذي "بارك الله حوله" فغلب - بل سحق- العدد الأكبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249].
* * *
وفي وقتنا الآني الذي نعيشه نري كيف بارك الله حول انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا علي اليهود من الرصاص, وقد رأينا علي شاشة التلفاز كيف يهرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام "قذائف الحجارة" من أيدي أطفال الأقصي, محاولين التماس "سواتر" تحميهم من زخات هذه الحجارة, ورأينا ما لا يقل عن عشرة جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم "مذراة" القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له "مواسير" متعددة, وصدق تعالي إذ قال: "ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة" وإذ قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي" . ومن صور "الحول" الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس "محمود هنود" الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم. والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى . وما تحررت غزة أخيرا إلا بجهاد المقاومة الإسلامية التي بارك الله فيها .
إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها "حول" المؤمنين وجهادهم علي مدي العصور ما ثبتوا علي إيمانهم "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين". وهذا التفسير - ولا شك- يدفع المؤمنين إلي مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلي تحقيق النصر المؤزر المبين.
وأخيرًا: نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية: 1- أن الأقصي في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصي والمقيمين في فلسطين من المؤمنين , وهذا ما يسمي في البلاغة "مجاز مرسل علاقته المحلية" , كما تري في قوله تعالي: "فاسأل القرية التي كنا فيها" والمقصود أهل القرية.
2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد , فالبركة متجذرة في الماضي , وممتدة إلي الحاضر والمستقبل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه أي التفسير القيمي لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين على وجه التقريب .
* * *
انتخاب الصحفيين ومنطق الافتراء
حاضرنا يقول إننا نعيش عصر "اختلال المعايير", أي عصر تسمية الأشياء بغير أسمائها, حتي لو ناقض الاسم المسمي, كأن نطلق علي المفرط الذليل الهين المهين لقب "بطل السلام والصمود", وأن نطلق وصف "عهد الحرية والديمقراطية" وهو في حقيقته "عهد تحلل وظلم واضطهاد".
وأجعل نظرتي أكثر تركيزًا, فأحصر كلامي في مصطلح "الأغلبية" فمن البدهيات التي يعرفها حتي العوام من الناس أن الأغلبية في مفهومها التلقائي المباشر تعني "التفوق العددي" فإذا قلنا: إن الذكٍران يمثلون الغالبية أو الأغلبية في هذه الأسرة فهذا يعني أن الذكور يزيد عددهم علي عدد الإناث ولو بفرد واحد.
ولنترك هذه البدهية في صورتها التجريدية لننظر إلي توظيف المصطلح "سياسيًا" خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة: وأذكر أنني رأيت السادات -غفر الله له½ علي الشاشة التلفازية يقول "إحنا شعب صاحب حضارة عمرها سبعة آلاف عام... وأنا -يا همت, بصفتي زعيم الأغلبية- رحت زرت إبراهيم شكري- في بيته في شربين- بصفته زعيم المعارضة..".(/2)
ولم أملك نفسي من الضحك, وأنا أري السادات في جلبابه البلدي, وعباءته الفاخرة, يوجه هذه العبارة لهمت مصطفي -غفر الله لها- في واحد من اللقاءات السنوية التي كانت تعقد كل عام بمناسبة ذكري ميلاد السادات في بيته بقريته "ميت أبي الكوم", وكنت أسأل نفسي: من الذي أعطي هذا الرجل الحق في أن يخلع علي نفسه هذا الوصف? إنه "التوهم" الذي تحول إلي "وهم" ضرب في أعماقه, فجعله يحلق في عالم من "الضباب الأزرق الحالم" ويزين له أن ينسي واقعه وحقيقة ذاته, فيسرف في القول, فيقول لهمت مصطفي -في واحد من هذه اللقاءات "أنا لما عملت ثورة 52 أنا والمرحوم جمال عبد الناصر...", ومرة أخري يقول "أنا لما عملت الإخوان المسلمين أنا والمرحوم البنا.. شوفوا بقي التلمساني ده كان فين?!" وأكد هذا في خطاب عام فقال مهددًا.. متوعدًا "..وقد أضطر -إذا ما تأدبوش- أني أعمل لهم ثورة 52 من تاني!!" وعلق مواطن ظريف علي عبارة السادات بقوله "الله!! هو السادات فتح مصنع ثورات واللا إيه?!!".
وبعد مصرع السادات ظل كبار رجال الحزب الوطني وقادته يعيشون نهٍب "حالة نفسية" مشكلة من حلقات ثلاث متتابعة هي "التوهم والوهم والإيهام": فهم توهموا أنهم قادة لحزب يمثل أغلبية الشعب اسمه "الحزب الوطني", وفي جو من "الضباب الأزرق الحالم" تحول التوهم إلي "وهم" تركز في أعماقهم كأنه حقيقة لا تقبل الجدل, ثم تولد من الوهم "إيهام", وهو عملية غيرية ناشطة - أي محاولة إقناع الآخرين بأن "المدعو الحزب الوطني" هو حزب الأغلبية, وأن قادته هم زعماء الأغلبية.
ونسأل: إذا كان هذا صحيحًا فأين مكانهم في النقابات المهنية كالأطباء والمحامين والصيادلة, والمهندسين, وأندية أعضاء هيئات التدريس الجامعية? وللإخوان فيها الوجود الأظهر والأقوي والأوفي. بل أين مكانهم في الشارع المصري?
فإن كذبوني فالجنائز بيننا
سَلُوها فصوتُ الموت ما كان يكذبُ
فلا عجب إذن - إصرارًا من هؤلاء علي لقب الأغلبية- أن يلجئوا إلي تزوير الانتخابات تزويرًا لا مثيل له في أي مكان في العالم, ولا في التاريخ الإنساني كله!!
ومن سنوات رأينا الكاتب "الفحل" إبراهيم سعده يصر علي أن التيار الإسلامي- أي الإخواني- إنما هم في النقابات "قلة ناشطة.. ناطقة" أما رجال الحزب الوطني, وأنصار الحكومة, فهم أغلبية حقيقية, ولكنها أغلبية "صامتة" يعوزها التنظيم والتكتل. وتكرر هذا الصوت "الدعيّ" المضحك بعد ظهور نتيجة انتخابات نقابة الصحفيين, بعد أن غرق مرشحو الحكومة, واحترقت ورقة "الملايين الموعودة".
ولهؤلاء أقول: حتي لو صح زعمكم, فلماذا نعرّف الأغلبية "تعريف العوام" أي التعريف العددي? لماذا لا نعرفها تعريفًا قيميًّا? فالأغلبية العددية الصامتة المفرطة المفككة لا قيمة لها لأن وجودها كعدمه. وهنا أذكركم بواقعة تاريخية خلاصتها: أن أحد المسلمين لما رأي جيش الروم لا يقل عن عشرة أمثال جيش المسلمين عددًا, صرخ مفزوعًا "ما أكثر الروم, وأقل المسلمين!!" فصاح خالد بن الوليد بقوة قائلاً: "لا بل قل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم, فإن الناس يكثرون بالنصر, ويقلون بالهزيمة" نعم يا خالد بشرط أن يكون النصر نصرًا حقيقيًا.. بلا ادعاء ولا توهم, ولا وهم, ولا إيهام.. ولا تز(/3)
الإسراء ومفهوم الحَوْْل
أ.د/جابر قميحة
komeha@menanet.net
تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) . ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة -- أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته -- وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:
الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق , بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي , وعليه تعتمد رسالته "إن هو إلا وحي يوحي".
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن "رحلة" أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.
وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق "غاية" شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه "لعبده" , فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.
وكانت رحلة عرفانية : رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة "كاشفة" نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر .
لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي "الذي باركنا حوله" , فما معني "البركة" ? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن": "البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة" ص54.
وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في "روح المعاني": "وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال" 15/16. وجاء في الأثر أن "البركة" تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات
*******
فهناك إجماع إذن علي تفسير "حوله" بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض "باركها" الله , أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.
ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير "حوله" بالمفهوم "القيمي" , والحول - في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.
واستصحاب الواقع التاريخي , واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن "منطقة المسري" -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في "حَوٍل" من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها - فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.
كلمة التاريخ
وصور "الحول" الذي باركه الله في منطقة المسري وامتداداتها أكثر من أن تحصي, نكتفي منها - في مقامنا هذا- بصور منها في القديم, وفي الحديث.(/1)
وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ-1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين - تحت راية الإسلام - مصر والشام والعراق والجزيرة. كانت قوات الصليبيين لا تقل عن خمسين ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد علي نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة ثلاثين ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل "الملك غي", والأمير "رينو دي شاتيون" . قال ابن الأثير: "وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يري القتلي منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يري الأسري منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد", وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلي التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, واسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقري.
إنه العدد الأقل الذي "بارك الله حوله" فغلب - بل سحق- العدد الأكبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249].
*** *****
وفي وقتنا الآني الذي نعيشه نري كيف بارك الله حول انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا علي اليهود من الرصاص, وقد رأينا علي شاشة التلفاز كيف يهرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام "قذائف الحجارة" من أيدي أطفال الأقصي, محاولين التماس "سواتر" تحميهم من زخات هذه الحجارة, ورأينا ما لا يقل عن عشرة جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم "مذراة" القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له "مواسير" متعددة, وصدق تعالي إذ قال: "ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة" وإذ قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي" . ومن صور "الحول" الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس "محمود هنود" الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم. ورأينا "حماس " ,
وقد ازدادت قوة وحولا في الجانبين العسكري والسياسي حتى آل إليها قيادة الشعب الفلسطيني بإرادة هذا الشعب . ورأينا ما سجله ويسجله حزب الله من انتصارات باهرة على الجيش الإسرائيلي , وتحطيمه أسطورة " الجيش الذي لايقهر " ,وكيف استطاع هؤلاء المجاهدون أن يزرعوا الرعب في قلوب الصهاينة , ويدخلوهم الجحور والمخابئ لأول مرة في التاريخ . والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى . وما زالت المقاومة الإسلامية - وقد بارك الله فيها - صامدة تذيق العدو الأمرين ليل نهار .
إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها "حول" المؤمنين وجهادهم علي مدي العصور ما ثبتوا علي إيمانهم "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين". وهذا التفسير - ولا شك- يدفع المؤمنين إلي مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلي تحقيق النصر المؤزر المبين.
وأخيرًا: نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية: 1- أن الأقصي في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصي والمقيمين في فلسطين وما حولها من المؤمنين , وهذا ما يسمي في البلاغة "مجاز مرسل علاقته المحلية" , كما تري في قوله تعالي: "فاسأل القرية التي كنا فيها" والمقصود أهل القرية.
2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد , فالبركة متجذرة في الماضي , وممتدة إلي الحاضر والمستقبل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه أي التفسير القيمي لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين على وجه التقريب(/2)
الإسراء ومفهوم "الحَوْْل"
أ.د/جابر قميحة
komeha@menanet.net
تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) . ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة -- أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته -- وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:
الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق , بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي , وعليه تعتمد رسالته "إن هو إلا وحي يوحي".
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن "رحلة" أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.
وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق "غاية" شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه "لعبده" , فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.
وكانت رحلة عرفانية : رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة "كاشفة" نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر .
لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي "الذي باركنا حوله" , فما معني "البركة" ? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن": "البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة" ص54.
وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في "روح المعاني": "وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال" 15/16. وجاء في الأثر أن "البركة" تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات
*******
فهناك إجماع إذن علي تفسير "حوله" بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض "باركها" الله , أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.
ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير "حوله" بالمفهوم "القيمي" , والحول - في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.
واستصحاب الواقع التاريخي , واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن "منطقة المسري" -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في "حَوٍل" من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها - فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.
كلمة التاريخ
وصور "الحول" الذي باركه الله في منطقة المسري وامتداداتها أكثر من أن تحصي, نكتفي منها - في مقامنا هذا- بصور منها في القديم, وفي الحديث.(/1)
وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ-1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين - تحت راية الإسلام - مصر والشام والعراق والجزيرة. كانت قوات الصليبيين لا تقل عن خمسين ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد علي نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة ثلاثين ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل "الملك غي", والأمير "رينو دي شاتيون" . قال ابن الأثير: "وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يري القتلي منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يري الأسري منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد", وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلي التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, واسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقري.
إنه العدد الأقل الذي "بارك الله حوله" فغلب - بل سحق- العدد الأكبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249].
*** *****
وفي وقتنا الآني الذي نعيشه نري كيف بارك الله حول انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا علي اليهود من الرصاص, وقد رأينا علي شاشة التلفاز كيف يهرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام "قذائف الحجارة" من أيدي أطفال الأقصي, محاولين التماس "سواتر" تحميهم من زخات هذه الحجارة, ورأينا ما لا يقل عن عشرة جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم "مذراة" القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له "مواسير" متعددة, وصدق تعالي إذ قال: "ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة" وإذ قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي" . ومن صور "الحول" الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس "محمود هنود" الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم. ورأينا "حماس " ,
وقد ازدادت قوة وحولا في الجانبين العسكري والسياسي حتى آل إليها قيادة الشعب الفلسطيني بإرادة هذا الشعب . ورأينا ما سجله ويسجله حزب الله من انتصارات باهرة على الجيش الإسرائيلي , وتحطيمه أسطورة " الجيش الذي لايقهر " ,وكيف استطاع هؤلاء المجاهدون أن يزرعوا الرعب في قلوب الصهاينة , ويدخلوهم الجحور والمخابئ لأول مرة في التاريخ . والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى . وما زالت المقاومة الإسلامية - وقد بارك الله فيها - صامدة تذيق العدو الأمرين ليل نهار .
إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها "حول" المؤمنين وجهادهم علي مدي العصور ما ثبتوا علي إيمانهم "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين". وهذا التفسير - ولا شك- يدفع المؤمنين إلي مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلي تحقيق النصر المؤزر المبين.
وأخيرًا: نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية: 1- أن الأقصي في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصي والمقيمين في فلسطين وما حولها من المؤمنين , وهذا ما يسمي في البلاغة "مجاز مرسل علاقته المحلية" , كما تري في قوله تعالي: "فاسأل القرية التي كنا فيها" والمقصود أهل القرية.
2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد , فالبركة متجذرة في الماضي , وممتدة إلي الحاضر والمستقبل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه أي التفسير القيمي لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين على وجه التقريب(/2)
الإسراف
يتناول الدرس معنى الإسراف والأسباب التي تدعو إليه، وما هي آثاره على المسرف نفسه، وآثاره على العمل الإسلامي، ومظاهر الإسراف، ثم ما هو العلاج لهذا المرض .
معنى الإسراف:
لغة : ما أنفق من غير طاعة..أو التبذير، ومجاوزة الحد .
اصطلاحا : هو مجاوزة حد الاعتدال في الطعام، والشراب، واللباس، والسكنى، ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية.
أسباب الإسراف:
1- النشأة الأولى : فقد ينشأ المسلم في أسرة حالها الإسراف والبذخ، فما يكون منه سوى الاقتداء والتأسي، إلا من رحم الله، على حد قول القائل:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه
ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة اتصاف الزوجين، والتزامهما بشرع الله وهديه:
قال تعالى: }وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [32]{ [سورة النور].} وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[221]{ [سورة البقرة] .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.
2- السعة بعد الضيق: ذلك أن كثيراً من الناس قد يعيشون في ضيق، أو حرمان، أو شدة، أو عسر، فإذا هم صابرون محتسبون، بل وماضون في طريقهم إلى ربهم، وقد يحدث أن تتغير الموازين، وأن تتبدل الأحوال، فتكون السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال؛ فينقلب على النقيض تماماً، فيكون الإسراف أو التبذير.
ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا، وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر:
يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ”رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
3- صحبة المسرفين: فالإنسان غالباً ما يتخلق بأخلاق صاحبه، لاسيما إذا طالت هذه الصحبة، وكان هذا الصاحب قوي الشخصية، شديد التأثير . وبذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام، وتشديده على ضرورة انتقاء الصاحب أو الخليل .
4- الغفلة عن زاد الطريق: ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة، ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين، بل بالأشواك والدموع، والعرق والدماء والجماجم؟ وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف، والنعومة، والاسترخاء، وإنما بالرجولة والشدة، ذلك هو زاد الطريق، والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم العامل في الإسراف. ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق:
}أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]{ [سورة البقرة]. } أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[142]{ [سورة آل عمران] إلى غير ذلك من الآيات.
5- الزوجة والولد : فقد يبتلى المسلم العامل بزوج وولد، دأبهم وديدنهم الإسراف، وقد لا يكون حازماً معهم، فيؤثرون عليه، وبمرور الأيام، وطول المعاشرة، ينقلب مسرفاً مع المسرفين.
ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة، وعلى ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة:(/1)
قال تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]{ [سورة التحريم]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا...]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وأحمد.
6- الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون: فالدنيا لا تثبت ولا تستقر على حال واحدة، بل هي متقلبة متغيرة، تكون لك اليوم وعليك غداً، والواجب يقتضي أن نكون منها على وجل وحذر: نضع النعمة في موضعها، وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال، وصحة، ووقت إلى الغد أو بعبارة أخرى: ندخر من يوم إقبالها ليوم إدبارها.
7- التهاون مع النفس : فالنفس البشرية تنقاد وتخضع، ويسلس قيادها بالشدة والحزم، وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات، وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين، وعليه: فإن المسلم العامل إذا تهاون مع نفسه، ولبى كل مطالبها؛ أوقعته لا محالة في الإسراف.ولعلنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولاً وقبل كل شيء:
:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [11]{ [سورة الرعد]. }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ [سورة الشمس].
8- الغفلة عن شدائد وأهوال يوم القيامة: فيوم القيامة فيه من الشدائد والأهوال، ما ينعقد اللسان، وتعجز الكلمات عن الوصف والتصوير، وحسبنا ما جاء في كتاب الله - عز وجل -وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم. ومن ظل متذكراً ذلك، متدبراً فيه؛ قضى حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا، أما من غفل عن ذلك، فإنّه يصاب بالإسراف والترف، بل ربما ما هو أبعد من ذلك .
9- نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما، والمسلمون على وجه الخصوص: فالبشرية اليوم تقف على حافة الهاوية، والمسلمون قد صاروا إلى حال من الذل والهوان يرثى لها، ويتحسر عليها، ومن بقي مستحضراً هذا الواقع، وكان متبلد الحس، ميت العاطفة؛ فإنه يمكن أن يصاب بالترف والإسراف، والركون إلى زهرة الدنيا وزينتها.
10- الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف : فإن للإسراف آثاراً ضارة، وعواقب مهلكة،
ولقد عرف من طبيعة الإنسان أنه- غالبًا- ما يفعل الشيء أو يتركه، إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه، أما إذا غفل عن هذه الآثار؛ فإن سلوكه يختل، وأفعاله تضطرب، فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي، ويهمل أو يترك ما ينبغي. وعليه فإن المسلم العامل إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف، يكون عرضة للوقوع في الإسراف.ولعلنا بذلك نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات.
آثار الإسراف على العاملين:
1- علة البدن: فالبدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية، بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص؛ تطرقت إليه العلة، وحين تتطرق إليه العلة، فإنّه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات، والمسئوليات الملقاة على عاتقه، أو المنوطة به.
2- قسوة القلب: فإن القلب يرق ويلين بالجوع، أو بقلة الغذاء، ويقسو ويجمد بالشبع، أو بكثرة الغذاء، وحين يقسو القلب، أو يجمد؛ فإنّ صاحبه ينقطع عن البر والطاعات.وحتى لو جاهد المسلم نفسه، وقام بالبر والطاعات؛ فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة، بل لا يجني من ورائها سوى النصب والتعب [...وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ] رواه أحمد-واللفظ له- وابن ماجه والدارمي .
3- خمول الفكر : فنشاط الفكر وخموله مرتبط بعدة عوامل، البطنة أحدها، فإذا خلت البطنة؛ نشط الفكر، وإذا امتلأت؛ اعتراه الخمول، حتى قالوا قديما:'إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة'.
ويوم أن يصاب الفكر بالخمول؛ يحرم المسلم الفقه والحكمة، وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات .(/2)
4- تحريك دواعي الشر والإثم : فإن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمة، ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس، وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية- إلا من رحم الله- ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادراً على مؤن النكاح؛ إذ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.
5- الانهيار في ساعات المحن والشدائد : فالمسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف، فلم يألف المحن والشدائد، ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة؛ لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد، فيضعف وينهار، لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد، إلا من جاهد نفسه، وكان صادقاً مخلصاً في هذه المجاهدة:} لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18]{ [سورة الفتح].
6- عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين: فالإنسان لا يرعى الآخرين، ولا يهتم بهم - غالباً- إلا إذا أضناه التعب، وغصته الحاجة، كما أثر عن النبي يوسف صلى الله عليه وسلم:' أنه لما صار على خزائن الأرض، ما كان يشبع أبداً، فلما سئل عن ذلك؛ قال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع'
والمسرف مغمور بالنعمة من كل جانب، فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين!
7- المساءلة غداً بين يدي الله : كما قال سبحانه:} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[8]{ [سورة التكاثر].
8- الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام : ذلك أن المسرف قد تضيق به، أو تنتهي موارده؛ فيضطرّ تلبية وحفاظاً على حياة الترف والنعيم التي ألفها إلى الوقوع في الكسب الحرام، وقد جاء في الحديث: [كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ] رواه أبو نعيم في'حلية الأولياء' والطبراني .
9- أخوة الشياطين: كما قال سبحانه وتعالى: }إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا[27]{ “سورة الإسراء” وأخوة الشياطين تعني الصيرورة والانضمام إلى حزبهم، وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد.
10- الحرمان من محبة الله: كما قال سبحانه:} إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[31]{ [سورة الأعراف].
وماذا يصنع من حرم محبة الله؟! إنه يعيش في قلق واضطراب، وألم نفسي، وإن أحاطت به الدنيا من كل جانب .
آثار الإسراف على العمل الإسلامي:
سهولة القضاء عليه، أو على الأقل تأخيره إلى الوراء عشرات السنين: نظراً لأن السلاح الوحيد الذي يواجه به المسلمون أعداء الله، ألا وهو الإيمان، إنّما يتأثر أشد ما يكون التأثير بالإسراف، والترف، والراحة، والنعيم.
الطريق لعلاج الإسراف:
1- التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف :فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر، والتخلص من الإسراف، قبل فوات الأوان.
2- الحزم مع النفس :وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها، وحملها على الأخذ بكل شاق وصعب من قيام ليل، إلى صوم تطوع، إلى صدقة، إلى مشي على الأقدام، إلى حمل للأثقال... ونحو ذلك.(/3)
3- دوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته :فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف، بل وبمجاهدة النفس والأهل، والعيش على الخشونة والتقشف، إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه ومالك والدارمي وأحمد. وَ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد . وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ: [ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ] فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ: [ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا] رواه البخاري ومسلم . وإذ تقول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: [ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ] رواه البخاري ومسلم . بل كان من دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد. وإن المسلم العامل لدين الله حين يقف على ذلك، وعلى غيره، تتحرك مشاعره، وتتأجج عواطفه، فيترسم خطاه صلى الله عليه وسلم، ويسير على هديه؛ اقتداءً وتأسياً، وطمعاً في معيته في الجنة }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[69]ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا[70]{ [سورة النساء].
4- دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة، من الصحابة المجاهدين، والعلماء العاملين: فقد اقتدى هؤلاء به صلى الله عليه وسلم؛ فكان عيشهم كفافاً، ولا همّ لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصّل للآخرة، دخل عمر بن الخطاب على ابنه عبد الله رضي الله عنهما فرأى عنده لحما، فقال: [ ما هذا اللحم؟ قال: اشتهيته، قال: وكلما اشتهيت شيئا أكلته؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه] .وأتى سلمان الفارسي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه فقال: [ أوصني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إن الله فاتح عليكم الدنيا، فلا يأخذن منها أحد إلا بلاغاً] ...إلى غير ذلك من الأخبار المودعة في بطون الكتب، والمنثورة هنا وهناك. وإن المسلم العامل حين يقف على هذه الأخبار؛ يتحرك من داخله، فيتولد عنده حب السير على نفس المنهج، فتراه يطرح الترف والسّرف، ويعيش على الخشونة والتقشف، ليكون ناجياً مع الناجين.
5- الانقطاع عن صحبة المسرفين مع الارتماء في أحضان ذوي الهمم العالية والنفوس الكبيرة: الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم، وكرّسوا كل حياتهم من أجل استئناف حياة إسلامية كريمة، تصان فيها الدماء، والأموال، والأعراض، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض، غير مبالين بما أصابهم، ويصيبهم في ذات الله، فإن ذلك من شأنه أن يقضي على مظاهر السّرف والدّعة والراحة، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى، لنكون ضمن قافلة المجاهدين، وفي موكب السائرين.
6- الاهتمام ببناء شخصية الزوجة والولد : فإن ذلك من شأنه أن يقضي على كل مظاهر الترف، وأن يحول دون التورط فيها مرة أخرى، بل ويعين على سلوك طريق الجادة، حين تنقضي هذه الحياة بأشواكها، وآلامها، ونردّ إلى ربّنا، فنلقى حظنا هناك من الراحة والنعيم المقيم.
7- دوام التفكر في الواقع الذي تحياه البشرية عموما، والمسلمون ن على وجه الخصوص:
فإنّ ذلك يساعد في التخلص من كل مظاهر الإسراف، بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشيء من هذه الحياة، حتى يمكن لمنهج الله، وترفع الراية الإسلامية من جديد.
8- دوام التفكر في الموت، وما بعده من شدائد وأهوال: فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف والترف، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى، استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء.(/4)
9- تذكر طبيعة الطريق، وما فيها من متاعب وآلام: وأن زادها لا يكون بالإسراف، والاسترخاء، والترف، بل بالخشونة، والحزم، والتقشف، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف، ومجاهدة النفس، والقدرة على اجتياز وتخطي المعوقات والعقبات.
تمت
من كتاب:'آفات على الطريق' للدكتور/ السيد محمد نوح(/5)
الإسلام هو الحل
خالد أحمد الشنتوت *
abothaer_s@hotmail.com
كتب الأستاذ هاشم صالح في الشرق الأوسط موضوعاً يؤكد قناعاتنا ـ نحن الإسلاميين ـ التي عبر عنها المفكر سيد قطب يرحمه الله قبل خمسين سنة ، والتي تتلخص في إنهيار حضارة الرجل الأبيض ، وحاجة العالم إلى الإسلام .
كتب الأستاذ هاشم خلاصة للكتاب الذي نشره الكاتب السويسري ( جان زيجلر ) بعنوان [ الإقطاعيون الجدد ] وخلاصته أن المفكر السويسري يرى أننا نشهد اليوم ظاهرة ضخمة تهدف إلى إعادة العالم كله إلى العصر الإقطاعي الذي سبق الثورة الفرنسية ؛ فنعود مائتي سنة للوراء عندما كان ( النبلاء) يسيطرون على أوربا في حين يموت الشعب من الجوع والفقر والمرض .
فقد ظهرت اليوم طبقة إقطاعية جديدة أصبحت عالمية ، ولم تعد تملك ثروات فرنسافقط ، أو أوربا ، وإنما صارت تملك ثروات العالم كله ، والإقطاعيون الجدد اليوم لايركبون العربات التي تجرها الخيول كما كان أسلافهم ، وإنما يركبون الروز رويس والمرسيدس الفاخرة ، ويستخدمون الطائرات الخاصة كي لايختلطوا بعامة الشعب أمثالنا ، ولهم قصور في الجزر النائية التي لم ترها عين بشر ، ولم تطأها قدم إنسان قط ، قبلهم ، ولابعدهم ،لأنها صارت مخصصة لهم وحدهم ؛ كي لايزعجهم أحد ، يعيشون معزولين عن البشر ، بكل أنانية ، وكأنهم في قلاع محصنة . وأبراج عاجية بعيدة عن هموم البشر ، وقد سبقتهم ماري انطوانيت التي قالت للمتظاهرين الذين يهتفون ( نريد الخبز ) ، فقالت : قولوا لهم : يأكلوا بسكويت ريثما يتوفر لهم الخبز ... فالبسكويت عندها في قصر لويس السادس عشر يكفي أياماً وربما أسابيع ، ومن عزلتها وبعدها عن الشعب تظن أن الشعب يملك ماتملك من البسكويت .
الإقطاعيون الجدد :
هؤلاء هم رؤساء الشركات الكبرى العابرة للقارات الذين يجتمعون في دافوس كل عام ، ويصل عددهم إلى ألف تقريباً ، وقد يتجاوز راتب أحدهم عشرين مليون دولار شهرياً . وما بوش وشيراك وبلير وشرودر وأمثالهم سوى خدم عندهم ، ينفذون السياسة التي تتماشى مع مصالح شركاتهم .
أرقام مذهلة ولكنها حقيقية :
إن ( 500) أكبر شركة في العالم تمتلك (52 % ) من منتوج العالم ، وهي شركات عابرة للقارات ، (58 % ) منها أميركي ، وهذه ال (500) شركة تزيد ثروتها على ثروة (133) دولة مجتمعة من العالم الثالث ، علما أن دول العالم كلها (191) دولة .
وهذه الشركات لاتأخذ أرباحها بالعملة المحلية بل تجبر البنوك في هذه الدول إلى تحويل حصتها إلى العملة الصعبة ( الدولار غالباً) ، ثم تنقلها إلى بنوك أوربا وأميركا .
يقول (جان زيجلر ) : في عام (2003) قدمت دول الشمال الصناعية منحة قيمتها(54) مليار دولار إلى (122) دولة من دول الجنوب ، وبنفس العام تلقت البنوك الغربية (436) مليار دولار من هذه الدول الفقيرة بالذات فوائد الديون المترتبة عليها .
أكثر خطراً من أسلحة التدمير الشامل :
وهذه الديون المتراكمة أكثر خطراً من أسلحة التدمير الشامل ، فالبنك الدولي ، يثقل كاهل دول العالم الثالث ( دول الجنوب ) بالديون الباهظة من أجل التحكم فيها لاحقاً ، عندما لاتستطيع تسديد هذه الديون ، بل تعجز عن تسديد فوائد هذه الديون وخدماتها ، وهكذا يسيطر الغرب على العالم كله بمن فيهم روسيا ، والعرب والمسلمين .
في عام (2003) بلغت ديون دول أمريكا اللاتينية (790) مليار دولار وبلغت خدمات هذه الديون ( الفوائد الربوية ) (134) مليار دولار سنويا ً ، وفي العالم العربي بلغت ديون البنك الدولي (320) مليار دولار ، وخدماتها ( أي فوائدها الربوية )(42) مليار دولار سنوياً .
لذلك يدعو المؤلف إلى شطب هذه الديون ، كما يدعو إلى ثورة فرنسية جديدة ، بحجم العالم هذه المرة لتسقط رؤس الطغيان والاستكبار العالمي ، لأنها أصبحت خطراً على الإنسانية . ويقول المؤلف أنه لايريد ثورة على طريقة (القاعدة ) لأنها انتقال من استبداد إلى استبداد آخر ( كما يرى ) ، وإنما يدعو إلى ثورة قائمة على فلسفة إنسانية واسعة تشمل كل البشر ، وتتعاطف مع الأمم أينما كانت ، وقد بدت بواكير هذه الثورة في الحركات المناهضة للعولمة ... كما يرى المؤلف .(/1)
ونحن نتفق مع المؤلف ، فلانريدها ثورة على طريقة القاعدة ، وإنما نريدها كمايقول [ ثورة قائمة على فلسفة إنسانية واسعة تشمل كل البشر ] ، وهذه الثورة التي يعبر عنها الكاتب هي الإسلام ، ونحن المسلمين مقصرون جداً ؛ لأن العالم كله بحاجة لنا ، بحاجة إلى ديننا ، الذي يجب أن نطبقه في حياتنا أولاً ـ نحن المسلمين ـ كي يراه العالم كله واقعاً حياً معاصراً ؛ يلبي حاجات الإنسان أينما كان ، ويحترم الإنسان لأنه [ إنسان ] .. هل نذكر خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، يحمل الكيس على كتفه ، نيابة عن الشيخ اليهودي الذي وجده يتسول في شوارع المدينة ، ثم يأخذه إلى خازن بيت المال فيقول له : أنظر هذا وأمثاله فضع عنه الجزية ، وعين له ( راتباً ) في بيت المال ، والله ما أنصفناه أكلنا شبابه ونتخلى عنه في شيبه ...
هذه هي الفلسفة التي ينتظرها العالم اليوم ، تحترم الإنسان لأنه إنسان ، أبيض أو أسود أو أصفر ، من دول الشمال أو دول الجنوب ...
العالم اليوم بحاجة إلى أتباع محمد ليقولوا كما قال يوم حجة الوداع :
[ أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، بهذا الموقف أبداً . إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ـ أي مشطوب ومتنازل عنه ].
هذا هو المطلوب كما يقول ( جان زيجلر ) ، شطب الديون ، التي لم تكن لولا الربا ، وهذا هو العالم يصرخ ويستغيث يريد الإسلام ، وعدالته الاجتماعية . ولنا في المملكة العربية السعودية مثلاً طيباً ، حيث تقدم مساعدات قيمة ( نقدية وعينية ) للدول المسلمة الفقيرة ، ولغير المسلمين أيضاً ، تقدمها هبات وليست ديوناً تحت مظلة البنك الدولي . وكان على الدول الغنية أن تقلد المملكة في هذا الأمر فتقدم مساعدات ، بعيدة عن البنك الدولي ، المؤسسة الربوية العالمية التي يسيطر عليها اليهود ، ويسخرونها في مص دماء البشرية .
وعندما تقوم الأمة المسلمة ، وتتحرر من عملاء البنك الدولي الربوي ، وتتمكن من مساعدة الفقراء في العالم ـ أينما كانوا ، عندئذ يدخل البشر في دين الله أفواجاً ، ويحطمون أصنام البنك الدولي ومؤسساته مصاصة الدماء في العالم . وذلك اليوم آت لامحالة ، وكل آت قريب .
والحمد لله رب العالمين(/2)
الإسلام هو الحل
خالد أحمد الشنتوت
*
abothaer_s@hotmail.com
كتب الأستاذ هاشم صالح في الشرق الأوسط موضوعاً يؤكد قناعاتنا ـ نحن الإسلاميين ـ التي عبر عنها المفكر سيد قطب يرحمه الله قبل خمسين سنة ، والتي تتلخص في إنهيار حضارة الرجل الأبيض ، وحاجة العالم إلى الإسلام .
كتب الأستاذ هاشم خلاصة للكتاب الذي نشره الكاتب السويسري ( جان زيجلر ) بعنوان [ الإقطاعيون الجدد ] وخلاصته أن المفكر السويسري يرى أننا نشهد اليوم ظاهرة ضخمة تهدف إلى إعادة العالم كله إلى العصر الإقطاعي الذي سبق الثورة الفرنسية ؛ فنعود مائتي سنة للوراء عندما كان ( النبلاء) يسيطرون على أوربا في حين يموت الشعب من الجوع والفقر والمرض .
فقد ظهرت اليوم طبقة إقطاعية جديدة أصبحت عالمية ، ولم تعد تملك ثروات فرنسافقط ، أو أوربا ، وإنما صارت تملك ثروات العالم كله ، والإقطاعيون الجدد اليوم لايركبون العربات التي تجرها الخيول كما كان أسلافهم ، وإنما يركبون الروز رويس والمرسيدس الفاخرة ، ويستخدمون الطائرات الخاصة كي لايختلطوا بعامة الشعب أمثالنا ، ولهم قصور في الجزر النائية التي لم ترها عين بشر ، ولم تطأها قدم إنسان قط ، قبلهم ، ولابعدهم ،لأنها صارت مخصصة لهم وحدهم ؛ كي لايزعجهم أحد ، يعيشون معزولين عن البشر ، بكل أنانية ، وكأنهم في قلاع محصنة . وأبراج عاجية بعيدة عن هموم البشر ، وقد سبقتهم ماري انطوانيت التي قالت للمتظاهرين الذين يهتفون ( نريد الخبز ) ، فقالت : قولوا لهم : يأكلوا بسكويت ريثما يتوفر لهم الخبز ... فالبسكويت عندها في قصر لويس السادس عشر يكفي أياماً وربما أسابيع ، ومن عزلتها وبعدها عن الشعب تظن أن الشعب يملك ماتملك من البسكويت .
الإقطاعيون الجدد :
هؤلاء هم رؤساء الشركات الكبرى العابرة للقارات الذين يجتمعون في دافوس كل عام ، ويصل عددهم إلى ألف تقريباً ، وقد يتجاوز راتب أحدهم عشرين مليون دولار شهرياً . وما بوش وشيراك وبلير وشرودر وأمثالهم سوى خدم عندهم ، ينفذون السياسة التي تتماشى مع مصالح شركاتهم .
أرقام مذهلة ولكنها حقيقية :
إن ( 500) أكبر شركة في العالم تمتلك (52 % ) من منتوج العالم ، وهي شركات عابرة للقارات ، (58 % ) منها أميركي ، وهذه ال (500) شركة تزيد ثروتها على ثروة (133) دولة مجتمعة من العالم الثالث ، علما أن دول العالم كلها (191) دولة .
وهذه الشركات لاتأخذ أرباحها بالعملة المحلية بل تجبر البنوك في هذه الدول إلى تحويل حصتها إلى العملة الصعبة ( الدولار غالباً) ، ثم تنقلها إلى بنوك أوربا وأميركا .
يقول (جان زيجلر ) : في عام (2003) قدمت دول الشمال الصناعية منحة قيمتها(54) مليار دولار إلى (122) دولة من دول الجنوب ، وبنفس العام تلقت البنوك الغربية (436) مليار دولار من هذه الدول الفقيرة بالذات فوائد الديون المترتبة عليها .
أكثر خطراً من أسلحة التدمير الشامل :
وهذه الديون المتراكمة أكثر خطراً من أسلحة التدمير الشامل ، فالبنك الدولي ، يثقل كاهل دول العالم الثالث ( دول الجنوب ) بالديون الباهظة من أجل التحكم فيها لاحقاً ، عندما لاتستطيع تسديد هذه الديون ، بل تعجز عن تسديد فوائد هذه الديون وخدماتها ، وهكذا يسيطر الغرب على العالم كله بمن فيهم روسيا ، والعرب والمسلمين .
في عام (2003) بلغت ديون دول أمريكا اللاتينية (790) مليار دولار وبلغت خدمات هذه الديون ( الفوائد الربوية ) (134) مليار دولار سنويا ً ، وفي العالم العربي بلغت ديون البنك الدولي (320) مليار دولار ، وخدماتها ( أي فوائدها الربوية )(42) مليار دولار سنوياً .
لذلك يدعو المؤلف إلى شطب هذه الديون ، كما يدعو إلى ثورة فرنسية جديدة ، بحجم العالم هذه المرة لتسقط رؤس الطغيان والاستكبار العالمي ، لأنها أصبحت خطراً على الإنسانية . ويقول المؤلف أنه لايريد ثورة على طريقة (القاعدة ) لأنها انتقال من استبداد إلى استبداد آخر ( كما يرى ) ، وإنما يدعو إلى ثورة قائمة على فلسفة إنسانية واسعة تشمل كل البشر ، وتتعاطف مع الأمم أينما كانت ، وقد بدت بواكير هذه الثورة في الحركات المناهضة للعولمة ... كما يرى المؤلف .(/1)
ونحن نتفق مع المؤلف ، فلانريدها ثورة على طريقة القاعدة ، وإنما نريدها كمايقول [ ثورة قائمة على فلسفة إنسانية واسعة تشمل كل البشر ] ، وهذه الثورة التي يعبر عنها الكاتب هي الإسلام ، ونحن المسلمين مقصرون جداً ؛ لأن العالم كله بحاجة لنا ، بحاجة إلى ديننا ، الذي يجب أن نطبقه في حياتنا أولاً ـ نحن المسلمين ـ كي يراه العالم كله واقعاً حياً معاصراً ؛ يلبي حاجات الإنسان أينما كان ، ويحترم الإنسان لأنه [ إنسان ] .. هل نذكر خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، يحمل الكيس على كتفه ، نيابة عن الشيخ اليهودي الذي وجده يتسول في شوارع المدينة ، ثم يأخذه إلى خازن بيت المال فيقول له : أنظر هذا وأمثاله فضع عنه الجزية ، وعين له ( راتباً ) في بيت المال ، والله ما أنصفناه أكلنا شبابه ونتخلى عنه في شيبه ...
هذه هي الفلسفة التي ينتظرها العالم اليوم ، تحترم الإنسان لأنه إنسان ، أبيض أو أسود أو أصفر ، من دول الشمال أو دول الجنوب ...
العالم اليوم بحاجة إلى أتباع محمد r ليقولوا كما قال يوم حجة الوداع :
[ أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، بهذا الموقف أبداً . إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ـ أي مشطوب ومتنازل عنه ].
هذا هو المطلوب كما يقول ( جان زيجلر ) ، شطب الديون ، التي لم تكن لولا الربا ، وهذا هو العالم يصرخ ويستغيث يريد الإسلام ، وعدالته الاجتماعية . ولنا في المملكة العربية السعودية مثلاً طيباً ، حيث تقدم مساعدات قيمة ( نقدية وعينية ) للدول المسلمة الفقيرة ، ولغير المسلمين أيضاً ، تقدمها هبات وليست ديوناً تحت مظلة البنك الدولي . وكان على الدول الغنية أن تقلد المملكة في هذا الأمر فتقدم مساعدات ، بعيدة عن البنك الدولي ، المؤسسة الربوية العالمية التي يسيطر عليها اليهود ، ويسخرونها في مص دماء البشرية .
وعندما تقوم الأمة المسلمة ، وتتحرر من عملاء البنك الدولي الربوي ، وتتمكن من مساعدة الفقراء في العالم ـ أينما كانوا ، عندئذ يدخل البشر في دين الله أفواجاً ، ويحطمون أصنام البنك الدولي ومؤسساته مصاصة الدماء في العالم . وذلك اليوم آت لامحالة ، وكل آت قريب .
والحمد لله رب العالمين(/2)
الإسلام ...فضائيا
مروان هشام*
من المؤكد أن الإعلام الإسلامي قد حقق في السنوات الأخيرة طفرات هائلة على مستوى الشكل و المضمون , فقد كثرت الصحف و المجلات الإسلامية و غطت مساحات شاسعة في عالمنا الإسلامي و خارجه , و إمتلأت شبكة الإنترنت بالمواقع الإسلامية في شتى المجالات , ثم بدأ ( الغزو الفضائي ) الإسلامي عبر فضائيات ظهرت أخيرا و بدأت في التزايد و بدأت رقعة مشاهديها بالإتساع , كان آخرها قناة الرسالة التي يديرها الدكتور طارق السويدان .
إلا أن هذه المسيرة مواجهة بعدة إشكاليات أهمها : أنها ما زالت تراوح مكانها في دائرة الفعل و رد الفعل , فلولا القنوات الغنائية ( روتانا و أخواتها ) و قنوات الأفلام ما ظهرت إقرأ و المجد و الرسالة , و لولا حجم التأثير الذي أحدثته القنوات الفنية و الغنائية في نشر ثقافة الإنحلال في المجتمعات العربية و الإسلامية لما تحرك إعلاميونا لتصميم رسالة مقابلة تستطيع وقف التداعي الاخلاقي الذي بدأ يستشري في واقعنا المعاصر , و خاصة في أوساط الشباب .
إذا فالعملية على أهميتها و نبلها هي رد فعل , فهل سيزول رد الفعل القوي هذا الذي أنجب إقرأ و المجد و الرسالة إذا خفت الفعل أو قل تأثيره .
إن المسلم مكلف بتبليغ رسالته في أوقات الصلاح و الفساد و الشدة و الفرج , و ليس هذا إنتقاصا من هذه القنوات أو تبخيسا من حقها , فما أحدثته هذه القنوات من آثار حميدة في المجتمعات و ما إكتسبته من جماهير يشهد لها و للعاملين عليها بالحرص و الإتقان , لكننا لا نريد أن نكون نسخا من الآخرين , إنما نريد نماذج إسلامية قائمة بذاتها و متميزة يسعى الآخرون لتقليدها و لا تسعى هي لذلك , لأن المشاهد الآن يرى الكثير من البرامج التي تبث في القنوات الإسلامية نسخا تكاد تكون متطابقة لما يبث في غيرها مع بعض التعديلات و الرتوش .
و جودة الإنتاج و إتقانه اليوم هي مفتاح لقبول الكثيرين , إذ أن الكثير من القنوات الفضائية فقدت بريقها الإعلامي و تأثيرها رغم رصانة ما تحمله بسبب تأخرها التقني و عدم قدرتها على منافسة القنوات الأخرى تقنيا و فنيا .
إشكالية أخرى مهمة : و هي أن جمهور هذه القنوات رغم أنه يتزايد بإستمرار إلا أنه ما يزال يعني الحظر في بعض الأوساط لأسباب متعددة , و ما زالت شرائح واسعة خارج دائرة تأثير هذه القنوات كالأوساط ( المترفة ), لذا فإن على هذه القنوات مسئولية كبيرة في إختراق هذه الفئات و توصيل رسالتها الإعلامية لهم , و لعل تجربة الأستاذ عمرو خالد تعكس نجاحا في هذا المجال .
نأمل أن تكون هذه القنوات مرآة لشعوبنا العربية و الإسلامية بكافة شرائحها و إتجاهاتها , ملتصقة بهمومها معبرة عن نبضها بعد أن خذل الإعلام الرسمي - بإنحيازه للسلطة و تملقه - الشعوب ... و كان الله في عون الأخيار .(/1)
الإسلام الحكومي والصحوة
محمد العبد الكريم 16/5/1426
23/06/2005
توطئة:
موقف الصحوة من الجهاد:
الجهاد في فكر الصحوة ذروة سنام الإسلام، و"التربية الجهاديّة" مطلب وضرورة من ضرورات قيام الدين.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "انتدب الله -عز وجل- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل "(1)
ولا أحد من دعاة الصحوة وعلمائها يتخلى عن هذا المبدأ، وهم لا يستعيبون ذكره أو تربية الناشئة عليه، بل يفاخرون بالانتساب إليه ويتشرفون غاية الشرف بمذاكرة أحاديثه، ويتشوقون إلى طلبه والاستشهاد في ساحات المعارك.
لكنهم يفرقون بين الجهاد كمبدأ وقيمة، وما يجري باسم الجهاد على أرض الواقع في الجزائر أو مصر أو بلاد الحرمين على وجه الخصوص، تماماً كما يفرقون بين مصطلح السلفية كقيمة معرفية ومرجعية لأهل السنة، وبين تطبيقاتها العبثية التي جعلت من السلفية مسبة على أصحابها والمنتسبين إليها.
تهمة الصحوة:
بسبب إيمان دعاة الصحوة بقيمة الجهاد ومبدئيّته في الشريعة، صارت محلاً للتهمة؛ رغم وضوح مواقفها من الأحداث التي جرت على أرض الحرمين، ورغم بيان الجبهة الداخلية الذي سبق التفجيرات، ورغم حسم الموقف فكرياً وميدانياً، ومع كل ذلك تجري محاولات التوريط والاستعداء بأقوى ما يمكن.
فالصحوة اليوم متهمة بأنها تمثل الجناح السياسي لحركات العنف والجهاد المسلح، وقد اعتمد اتهامها على تفسيرات كثيرة لم تكن تخضع للبحث أو الدراسة والتتبع والربط والاستبيان والفهم السليم ...؛ بل كان عماد البحث عند أكثر جماعات "الإسلام الحكومي" والتيار الليبرالي بوجه عام: إما تجارب سابقة خاضها بعض "المتلبرلين" (2)، أو بعث لأقوال سيد قطب ومحمد قطب وأبو الحسن الندوي ...، أو مقاطع من رسالة العلمانية والإرجاء للشيخ سفر الحوالي، أو مكالمة له في قناة الجزيرة (3) ، أو شريط للشيخ سلمان في "رسالته لرجل الأمن" ، أو تخيّلات وأوهام بأن هناك مراحل وأقبية وسراديب ...، أو قياسات تُستدعى من واقع وتُستجلب لواقع مغاير، أو تحميل للعبارات أضعاف ما تحتمل ...الخ ، وكل تلك التصديات والمماحكات لم تصمد أمام أقل تمحيص علمي؛ بل كانت في كثير من الأحيان محل استهجان، وكشف عن تخلّف عقلي ونقص في المروءة وفجور في الخصومة.
فمحاولات الربط الدائمة بين تيار الصحوة والجهاديين" بصورتهم الحالية " لم تخلُ من تكلّف، ولم تنته إلى نتيجة يمكن قبولها حتى على المستوى الرسمي أو الشعبي.
وكل ما هنالك "شخبطة" صحفية، وحوارات متلفزة مدفوعة الأجر، ولقاءات فضائية حاولت ولم تنجح ولكنها ما زالت تحاول.
وإذا انتقلنا إلى أحداث العام الماضي والمواجهات الأمنية التي انتهت لصالح الدولة، سنجد أنه نشأ عن تلك الأزمة أزمة كبرى في تفسير الحدث نتج عنها خلط صارخ بين الأوراق آلَ إلى اعتبار تيار الصحوة بكل ميادينها وأنشطتها ومخيماتها وحلقاتها ودروسها ومحاضراتها وقنواتها الفضائية ... ستاراً عن مقاصدها الحقيقية، وعبّر عن ذلك في أدبيات الطرح الليبرالي بـ" الإسلام السياسي" أي: الذي يسعى من خلال التستر بالدين إلى مآرب سياسية. هذه بإيجاز تهمة الصحوة، والتي يسعى فيها تيار "الإسلام الحكومي" بدور التعبئة والاستعداء والتواطؤ.
وماذا بعد!
لقد أدلى الكثيرون بدلوهم، وكان من المجمع عليه بين التيارات الليبرالية والإسلامية "الحكومية" أن الصحوة بدعاتها ورموزها يشكلون عبئاً كبيراً يجب تصفيته والخلاص منه، وقد قُدّمت المقترحات بهذا الصدد؛ بل قُدّمت الأسماء التي يجب الأخذ برأيها في مراقبة التعليم وتقريبها إلى أماكن نفوذ القرار حتى تؤدي دورها في التجفيف والتصفية بقدر أكبر،
ولم يتورع رموز ودعاة الإسلام "الحكومي" عن إعلان تواطئهم مع كل من يقف في وجه الصحوة متوقعين أنهم قد أثبتوا -بما لا يدع مجالاً للشك- أن هناك مخططاً رهيباً يقوده سيد قطب من تحت قبره يأمر فيه أتباعه بتكوين قاعدة صلبة حتى تحين المرحلة الثانية لإقامة الخلافة الإسلامية.
أين الحقيقة؟
رغم بساطة الحقيقة ووضوحها إلا أن الاستعراض الذي قام به "تيار الإسلام الحكومي" أطال الوقت في اللجاجة والخصومة.
إن تلك التهمة التي اتهمت بها الصحوة تستدعي لوازم، وتطرح أسئلة كثيرة عن سبب خروج الخوارج في أطهر وأنقى قرن عرفه التاريخ، فهل كان لسيد قطب أثر في بروز تيار الخوارج؟!
ألا يمكن أن يكون فهم النص وطريقة التعامل معه بغض النظر عن التيارات والمذاهب والأشخاص دوراً في تشكيل إسلام متشدد وإسلام معتدل؟ أليس من الممكن استيعاب أزمة التكفير وحلها من خلال حلحلة المفاهيم الخاطئة؟(/1)
ألم يكن رجوع أكثر من ثلث الخوارج على يد ابن عباس –رضي الله عنه- بسبب تركيزه على تصحيح مشكلة ذهنية، وليس التعمق في شرح المذهب ومن أين أتى وما هي أهدافه؟
أليس رجوع بعض "الفئة الضالة" اليوم على يد بعض الإصلاحيين كان من خلال تصحيح فكرة خاطئة تعاملوا معها من دون ذكر خلفيات الفكرة؟!
________________________________________
1- صحيح البخاري 1/22 . كتاب الإيمان . باب الجهاد من الإيمان .رقم ( 36 )
2- يسمى كثير منهم بخبراء في الحركات الإسلامية.
3- أطلق بعضهم على الشيخ "إمام المفسدين" رداً على من دعا له بالشفاء من مرضه! اللهم قنا شر أنفسنا.(/2)
الإسلام السياسي
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الإسلام السياسي مصطلح متأخر النشأة حديث الرواج ، ظهر متزامناً مع تنامي الصحوة الإسلامية وعمق الوعي لدى العاملين للإسلام ، وتأكيدهم على شموليته ، ودعوتهم إلى استئناف الحياة الإسلامية في ظل حكم الشريعة ، ومطالبتهم باسترجاع دور القيادة للدين في حياة الأمة، وللأمة المسلمة بين سائر الأمم ولم يكن حملة هذا الطرح شيوخ العلم وخطباء المنابر فحسب بل كان منهم أطباء مشهورون ، ومهندسون بارعون ، واقتصاديون بارزون ، وأساتذة جامعات ، ولم يكن ذلك كله بعيداً عن دوائر الرأي في الشرق والغرب ، ومن ثم دقت نواقيس الخطر ، وانطلقت أبواق الدعاية الكاذبة ، وتحركت وسائل الإعلام المضللة ، وكان من نتاجها هذه المصطلحات " الإسلام السياسي " " والإسلام الثوري " " والأصولية الإسلامية " وأُلصقت بهذه المصطلحات مفردات العنف والإرهاب والدموية ونحو ذلك ، وتلقفتها كثير من وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وصارت ترددها كصدى للوسائل الأم الكبرى وحمل هذا الفكر المنحرف من دين الأمة وثوابتها، المخالف لهويتها ومصالحها ، أقوام من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وساروا في الركاب بل ربما فاق بعضهم أسيادهم وقدواتهم .
ومصطلح " الإسلام السياسي " يقصد به الإسلام الفاعل المؤثر الذي يهدف إلى أن يكون الحكم لله والسيادة للشرع وأن تنضوي الحياة تحت لواء الإسلام بكل ما فيها من سياسة واقتصاد واجتماع وقضاء وتقنية ،والمصطلح من جهة أخرى يتداوله غير المسلمين والعلمانيون على سبيل النقد والذم ، فهم يصورونه انحرافاً عن الإسلام الصحيح ، وتحريفاً له ، وضلالاً في فهمه ، واستغلالاً لعظمته ، وتشويهاً لصورته ، كما يصورون معتنقيه والداعين إليه بأنهم من ذوي المصالح والمطامع ، أو من ذوي الجهل والسذاجة ، وفي كل الأحوال فإنهم يمثلون حالة من الشذوذ غير المقبول .
وأحب أن أزيد توضيح المفهوم الذي يتداوله القوم بشأن " الإسلام السياسي " بما يتضمنه من الدعوة لتحكيم الشريعة وذلك من خلال أقوالهم .
1- الإسلام السياسي ،يقول المستشار محمد العشماوي : " إن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملاً من أعمال الفجار ، أو عملاً من أعمال الجهال غير المبصرين لأنه يضع للانتهازية عنواناً من الدين ، ويقدم للظلم تبريراً من الآيات ، ويعطي للجشع أسماء من الشريعة ويضفي على الانحراف هالة من الإيمان ، ويجعل سفك الدماء ظلماً وعدواناً عملاً من أعمال الجهاد ".ويقول فرج فوده في الحقيقة الغائبة : " هذا حديث دنيا وإن بدا لك في ظاهره حديث دين أمر سياسة وحكم وإن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان ، وحديث شعارات تنطلي على البسطاء ويصدقها الأنقياء ويعتنقها الأتقياء ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع وهم الأذكياء ، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء ، ويستهدفون الحكم لا الآخرة ، والسلطة لا الجنة ، والدنيا لا الدين ، ويتعسفون في كلام الله عن غرور في النفوس ، ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض في القلوب ، ويهيمون في كل واد ، إن كان تكفيراً فأهلاً ، وإن كان تدميراً فسهلاً " ( ص 11، 12 ) .
2- إنكار أن يكون للإسلام أي صلة بالسياسة ، أو أي إشارة إلى نظام للحكم أو شكل للدولة ، والعجيب أن القوم ينصبون أنفسهم أئمة ومفتين ويجزمون جزماً جريئاً بذلك فهذا المستشار العشماوي يقول : " القرآن الكريم لم يتضمن آية تتعلق بالحكم السياسي أو تحدد نظامه ، ولم تتضمن الأحاديث الشريفة أي حديث في هذا الصدد " ( ص 158) ثم يواصل الاطلاقات والتعميمات فيقول " وجمهرة الفقهاء الإسلاميين متفقون على أن نظام الحكم في الإسلام ليس من أصول الدين أو الشريعة " . والدكتور فرج فوده يقول بوضوح خطير : " إن الإسلام دين وليس دولة ، وإن الدولة الإسلامية على مدى التاريخ الإسلامي كله كانت عبئاً على الإسلام وانتقاصاً منه وليست له " ( تهافت العلمانية ص16 ) .(/1)
3- الالتباس أو التلبيس الخطير في مفهوم الدولة الإسلامية بأنها دولة دينية بمعنى أنها حكومة الله ، تجعل الحاكم لا يُسأل عما يفعل ، ولا يراجع فيما يأمر به ، ونحو ذلك فهي طريق للاستبداد المطلق " فالطاغية عندما يتمنطق بالدين أو يتمسح بالشريعة يجعل من نفسه وكيلاً عن الذات الإلهية ، ومتصرفاً باسم القوى الكونية ومتحدثاً بلسان الوحي ، ومتحكما ًفي تفسير النصوص ، ووصياً على عقول الناس ، ورقيباً على جميع الإرادات ، ومتسلطاً على رقاب العباد ، وفي مثل هذه الحالة تصبح المصالح الشخصية أهدافاً للدين وتصير الأغراض الخاصة غاية للشريعة " ( الإسلام السياسي ، ص 24 ) والدكتور فؤاد زكريا يعتبر ذلك الحكم هو الأخطر حيث يقول : " أقبح أنواع الخطأ هو الخطأ الذي ينبثق من تحت عباءة الحكم الديني ويرتكبه حكام يتصورون أن أهواءهم ومصالحهم الضيقة تجسيد للإرادة الإلهية ويوهمون الناس أن كل ما يفعلونه مستلهم من وحي الشرع الإلهي الذي يحكمون بمقتضاه " ( الوهم والحقيقة لفؤاد زكريا ، بتصرف من تهافت العلمانية ص 38 )
4- القول بأن أحكام الشريعة الإسلامية غير صالحة لحكم الحياة المعاصرة بما فيها من مستجدات ومتغيرات ، ففؤاد زكريا يقول : " يجب أن نكتب بوضوح مثلاً في صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان .. أي أن نقول أنه ليس هناك في أمور البشر قاعدة من هذا النوع " ، ومحمد نور فرحات يقول : " أحد المرتكزات الرئيسة للتأثير في الأغلبية الصامتة هو ضرب المرتكزات الأساسية التي تنطلق منها هذه الاتجاهات الدينية ، وأهم هذه المرتكزات قولهم : " إن هناك نصوصاً ثابتة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان " ( تهافت العلمانية ص 20 ) وهناك أمور أخرى منها نظرهم إلى التشريع الجنائي ونظام العقوبات على أنه قسوة لا تتناسب مع الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان ، وأخطر من ذلك دعواهم أن التاريخ الإسلامي كله ليس فيه مثل يُحتذى للدولة الإسلامية ويستثنون فترة حكم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نبي مسدد بالوحي ، وفترة عمر لأنه ملهم محدث ، وكثيراً ما يُثيرون البلبلة بأن دعوى الدولة الإسلامية لا تقبل لأنها ليس لها برامج علمية أو خطط محدودة قابلة للتطبيق والمناقشة .
وليس المجال مجال تفنيد لهذه الدعاوى فمثل هذا لا يتاح في كتابة صحفية ولكنني على ثقة أن الناظر إلى هذه الدعاوى يرى شططها الكبير ، ومبالغاتها غير الواقعية وبعدها العظيم عن أبسط حقائق الإسلام .
فكيف يُقال إن تحكيم الإسلام وتطبيق الشريعة سبب الظلم والفساد ، والإسلام يربي على التقوى ، ويقيم العدل ، ويحث على الخير ، وأين هذا من صفحات كثيرة مشرقة من تاريخ الإسلام ليست في فترة الخلفاء الراشدين فحسب ، ولا في خلافة عمر بن عبدالعزيز فقط بل في عهود كثيرة كحكم نور الدين زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي ،وغيرهم كثيرون .
وأي مغالطة تلك التي تدعي أن الإسلام ليس فيها آية ولا حديث تتعلق بالحكم ونظام الدولة وماذا نقول في كتب المتقدمين كـ " الأحكام السلطانية " لأبي يعلى الفراء والماوردي ،و" السياسة الشرعية " لابن تيمية ، و" الطرق الحكمية " لابن القيم ، و" الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام في تصرفات القاضي والإمام " للقرافي ، وأين نذهب بالدراسات الحديثة التي رسمت ملامح نظام إسلامي متكامل في الحكم والسياسة مع التوضيح والمقارنة من أنظمة الحكم وأشكال الدولة في العصر الحديث ، مثل كتاب " نظام الحكومة النبوية " للكتاني ، و" نظام الحكم والسياسة في الإسلام " للقاسمي ، و" الخلافة والإمامة العظمى " لمحمد رشيد رضا ، و" نظام الحكم الإسلامي مقارناً بالنظم المعاصرة " لمحمد حلمي ، و" الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي " لمنير البياتي ، وغيرها ..
فهل هؤلاء جهلاء أم متجاهلون عندما يقررون أن الإسلام لا صلة له بالسياسة ؟
وأود أن أُشير أن كل هذه الدعاوى والشبهات دحضت بالأدلة الشرعية والمقارنة الواقعية ، والوقائع التاريخية ، وذلك من خلال دراسات علمية مستفيضة ، بل ورسائل علمية جامعية أوضحت ما هو أبعد من مجرد نقد هذه الشبهات . لقد ظهرت دراسات تبرز جوانب أخرى كالمعارضة في الإسلام والاستفتاء الشعبي وأحكامه .
والحق أن هذا كله لا يحظى عند جمهور المسلمين بالقبول ، وواقع الحال يكشف أن كثيراً من المسلمين يعتقدون أن من صميم الإيمان تحكيم شرع الله وأن الإسلام شامل لكل جوانب الحياة ، والمسلمون يتوقون إلى أن تظللهم أحكام الشريعة لتحقق لهم السكينة والأمن ، وينعموا بالمساواة والعدل ، وتلك الشبهات أصبحت أثراً بعد عين ، وتجاوزتها المرحلة ، ودحضتها الدراسات الجادة الموضوعية .
وأما ما يلصق بهذا المصطلح من مفردات العنف والإرهاب فلم يعد يخفى على أحد المغالطات الدولية في هذا الشأن ، والكيل بمكيالين ، والكذب والتلاعب بالألفاظ على حد قول القائل :
قتل امرئ في غابة *** جريمة لا تُغتفر
وقتل شعب كامل *** مسألة فيها نظر(/2)
وماذا تسمى فظائع الصرب في البوسنة والهرسك ،وجرائمهم في كوسوفا ،وماذا يقال عن حرب الإبادة الروسية في الشيشان بل ماذا يقال قبل ذلك عن الممارسات الإرهابية الإجرامية لليهود في فلسطين ؟
وكيف يوصف أطفال الحجارة المدافعين عن وجودهم أنهم إرهابيون ؟ وكيف يمكن أن يسوغ أن يوصف عجائز الشيشان بأنهم إرهابيون ؟ وإن وجد من يمارس شيئاً من ذلك من المنتسبين إلى الإسلام فليس مسوغا لأن يلصق ذلك بالإسلام كدين ، وبالمسلين كأمة .
ولا ننسى أن إسرائيل دولة يهودية تقوم على أساس ديني ، وتتصرف في ضوء التوراة والتلمود ، والفاتيكان عاصمة دولة نصرانية ، وفي اليهود والنصارى طوائف توصف بالتطرف والأصولية فلماذا يتم تجاهل ذلك كله ويكون الهجوم الكاسح والانتقاد الشامل من حظ الإسلام ونصيب المسلمين ؟! .
وأخيراً فإن الشعوب المسلمة جربت حكم القومية ، وتسلط البعثية ، وسيادة الشيوعية فما جنت من ورائها إلا الرزايا والبلايا وفشل هؤلاء أن يقدموا نموذجاً للدولة المدنية التي يزعمونها وما رأت الشعوب إلا الظلم والعشوائية والبغي والبطش ، مقترناً بالفسق والإباحية والفجور ، مرتبطاً بالتخلف والتأخر والعشوائية ومنتهياً بالذل والتبعية والانهزامية ، وحق لشعوب الأمة المسلمة بعد كل هذا أن تحرص على الحياة الإسلامية الكاملة الحاكمة بالشريعة في سائر مناحي الحياة .(/3)
الإسلام بكامله دين الرحمة ، كما ورد في الكتاب والسنة
بقلم : الشيخ إبراهيم الدسوقي
وزير الأوقاف الأسبق
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه .
* الكلمات :
الرحمة : عاطفة شريفة وخليقة محمودة وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود، ومعنى "جعل" اخترع وأوجد ويُحَدَّث أن يكون بمعنى "قدر" في لغة العَرب .
ومائة جزء : المراد بالمائة التكثير لا الحقيقة إذ أن رحمة الله غير محصورة ولا تُحَدُّ بحد، وقيل إعداد الحقيقة وعليه فيحتمل أن تكون مناسبة لعدد درج الجنة، والجنة محل الرحمة، فكانت كل رحمة بإزاء درجة ، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، فمن نالَتْه منه رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة.
وقال الكرماني الرحمة لغة عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعلق غير متناه؛ ولكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلاً للفهم، وتقليلاً لما عند الخلق وتكثيرًا لما عند الله سبحانه .
* البيان :
الرحمة فضيلة محمودة وخُلُقٌ من الأخلاق الفاضلة وصفة من الصفات الكاملة التي وصف الله بها نفسه وتفضل بها على عباده وامتن بها على خلقه، والرحمة الشاملة الواسعة هي رحمة الله رب العالمين ، فقد شملت جميع الكائنات وعمت كل الموجودات، فما من كائن إلا وهو يتنبأ ظلالها وما من كائن إلا وهو يغرف من فيضها، قال – تعالى–: ?وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ? سورة الأعراف، آية:156.
فما هذه الأنهار المجراة، والأرض المدحوة، وما هذا الزرع النابت، والتمر اليافع، وما الليل الداجي، والنهار المتجلي إلا أثر من أثار رحمة الله – تعالى – قال سبحانه: ?وَمِنْ رَحْمَتِه جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوْا فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ? سورة القصص – آية: 73.
وسواء لديه سبحانه من أسرَّ القول ومن جهرَ به، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة – قال جل جلاله: ?هُوَ اللهُ الَّذِيْ لاَ اله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمانُ الرَّحِيْمُ? سورة الحشر- آية: 22
كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ?وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِه الرَّحْمَةَ أَنَّه مَنْ عَمِلَ منْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِه وَأَصْلَحَ فَأَنَّه غَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ? سورة الأنعام – آية: 54 .
كما تذكرنا أثار رحمته سبحانه باليوم الآخر والتزود له بما يقي الإنسان هو له، وحين ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابًا، قال – تعالى – : ?فَانْظُرْ إِلاى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إِنَّ ذالِكَ لَمُحِْيى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٍ? سورة الروم – آية: 50.
آفاق الرحمة
وكما وصف الله سبحانه نفسَه بالرحمة فقد كان من أعظم آثار رحمته سبحانه أن غير وجه الحياة الكالح وجوها المفعم بالفساد والشر والقسوة والغلظة إلى حياة ملؤها العزة والكرامة والرحمة والرفق والسعادة والأمل فأرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مختتمًا به رسالات السماء وبعثه رحمة للخلق كافة. قال – تعالى : ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِيْنَ? سورة الأنبياء – آية: 107.
وقال : ?لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوفٌ رَّحِيْمٌ? سورة التوبة – آية : 3 .
ومع بعثه صلى الله عليه وسلم أنزل كلامه المعجز وآيته الكبرى. إنه كلام الله – شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة – قال عز من قائل: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيءٍ وَّهُدًى وَّرَحْمَةً وَّبُشْراى لِلْمُسْلِمِيْنَ? سورة النمل – آية : 89 .
وبتلك الرحمة ولين الجانب وسعة الصدر ورقة الطبع استطاع صلى الله عليه وسلم أن ينقل العرب من ظلام الشرك إلى نور التوحيد، ومن ذلك الكفر إلى عزة الإسلام.
?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيْظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ? سورة آل عمران – آية: 159 .(/1)
وما كانت الرحمة وقفًا على طائفة دون أخرى بل كانت شاملة حتى عاش في كنفها أعداؤه وخصومه حتى إنهم كلما بالغوا في إيذائه بالغ في عفوه، وقابل ذلك بقوله: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" بل أن مجرد وجوده بينهم كان رحمة لهم كفت عنهم عذاب الاستئصال الذي نزل بالأمم قبلهم، قال – تعالى: ?وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيْهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُوْنَ?. سورة الأنفال – آية : 33 .
كما نهى عن تعذيب الأسرى وعن قتل النساء والعجزة من الأعداء الذين لايشاركون في القتال وعن الصبيان وعن المثلة بالموتى، كل ذلك سبق به الإسلام القوانين التي تنادى بها الدول حديثًا ، على حين نلهث للحاق بهذه الدول مَثَلنا في ذلك كما قال الشاعر:
اِسْتَرْشَدَ الْغَربُ بالماضي فأرشدَه ونحن كان لنا ماضٍ نسِينَاه
إنَّا مَشينا وراءَ الغَربِ نقتبس من ضيائِه فَأَصَابْتنا شظاياه
كما وصف سبحانه صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم يتراحمون فيما بينهم قال سبحانه: ?مُحَمَّدٌ رَّسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَه أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ? سورة الفتح – آية : 29 .
على أن خلق الرحمة واجب المسلم في تصرفه وعلاقاته وأن يكون بحاله في نفسه الصورة المثلى والأسوة الحسنة في أقواله وأفعاله وإلا كان النسمة تُضيء للناس وتحرق نفسها فواجبه أن لا يرى حيث نهاه ربه ولا يفقده ربه حيث أمره فهو السابق للخيرات التقي النقي الذي ينآى بنفسه عن المنكرات والموبقات .
وثم فإن أول أبواب الرحمة التي يطرقها تلك التي يقدمها لألصق الناس به . ورد الجميل لمن أسدى إليه الجميل باذلاً في سبيله الغالي والرخيص ولصاحب الحق عليه بعد ربه وهما الوالدان . بالعطف عليهما والإحسان إليهما وتقديم العون لهما.
ومن مظاهر هذه الرحمة تربية الأبناء ورعايتهم وتقديم الأسوة الطيبة لهم في محيط الأسرة قولاً وعملاً والعناية بهم صحيًا واجتماعيًا ودينيًا وتعليمهم المفيد في حياتهم وحياة أمتهم .
ومن أعظم القربات التي أولاها الإسلام بالغ رعايته صلة الرحم والرسول الكريم صلوات الله عليه يقول: من أراد أن ينسأ له في أجله ويبارك له في رزقه فليصل رحمه كما يقول سبحانه : ?وَاتَّقُوْا اللهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُوْنَ بِه وَالأَرْحَام? سورة النساء – آية:1 .
وقال سبحانه متوعدًا من يقطع رحمه : ?فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوْا فِيْ الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوْا أَرْحَامَكُمْ أُولائِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ? سورة محمد – آية: 22-23 .
وقال صلى الله عليه وسلم : لايدخل الجنة قاطع .. قال سفيان في روايته يعني قاطع رحم .. متفق عليه .
والأسرة ما لم تعطرها الرحمة انقلبت إلى جحيم يصلى ناره الزوجان كما ينعكس ذلك على الأولاد شقاء وضياعًا وحرمانًا فإن الله سبحانه أكد الحفاظ على العلاقة الزوجية أن تنفصم عراها أو يصيبها الضعف حين جعل الأساس لهذه العلاقة المودة والرحمة وحسن العشرة ودوام الألفة والمحبة وفي ذلك يقول سبحانه : ?وَعَاشِرُوْهُنَّ بِالْمَعْرُوْفِ? سورة النساء – آية : 19 .
كما يقول تعالى : ?وَمِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوْآ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَّرَحْمَةً? سورة الروم – آية : 21 .
كما أوصى صلوات الله عليه بحسن معاملة الأتباع والخدم ، وحذر من القسوة عليهم بل لقد جعل كفارة ذلك مع الرقيق تحريره من رق العبودية، فعن أبي مسعود البدري – رضي الله عنه – قال : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي يقول: "اعلم أبا مسعود" فلم أفهم الصوت من الغضب فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام . فقلت لا أضرب بعده مملوكاً أبدًا) ، وفي رواية فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم : (أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار) .(/2)
والرحمة خلق ينتظم المجتمع كله "يرحم الكبيرُ الصغيرَ ويعين القويُ الضعيفَ ويواسي الغنيُ الفقيرَ ويمتد نسيج الرحمة حتى يربط بين القريب والبعيد والعدو والصديق .. روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها الرحمة العامة) . ومنهم أولئك الذين أشارت إليهم الآية الكريمة ، قال – تعالى : ?وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِه شَيْئًا وَّ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَّ بِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِيْنِ وَالْجَارِ ذِيْ الْقُرْبى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيْلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوْرًا? سورة النساء – آية : 36 .
الرحمة بالحيوان والطير
وكما أوجب الله تعالى الرحمة على الإنسان مع أخيه الإنسان فإنه قد أوجبها على الإنسان للحيوان إذ هو كذلك محتاج إلى الرحمة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة" رواه أبوداوود بإسناد صحيح، وقال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له" . قالوا يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر" . متفق عليه، وعن أبي يعلى شداد بن أوس – رضي الله عنه – قال : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتله وإذا ذبحتم بأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرج ذبيحته .. وأخرج النسائي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله يوم القيامة ، ويقول يارب سل هذا لم قتلني عبثًا ولم يقتلني لمنفعة" .. قال صلى الله عليه وسلم : "دخلت النار امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" .
ليس من الإسلام
وإذا كانت الرحمة سمة الإسلام وخلق أهله فإن الفظاظة والغلظة والقسوة من الرذائل التي يمقتها الإسلام بما يصيب المجتمعات منها من التفكك والكراهية وإثارة روح العداء والبغضاء والحقد والشحناء وآثار ذلك في محيط الأسرة من التخريب والتدمير لكل القيم والأعراف المحمودة ، وثم فإن هؤلاء لا يستأهلون أن يرحمهم الرحمن وهو القائل : ?إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِيْنَ? سورة الأعراف – آية : 56 .
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: "من لايرحم الناس لايرحمه الله" الشيخان والترمذي .. كما يقول: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" أبوداوود والترمذي ويقول للأعرابي الذي قال إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم .. "وما أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك" .. البخاري .
وعليه فإن الرحمة لاتكون بالعطاء فحسب بل هي في الحنان المتدفق والبسمة الحانية والقول الكريم وتحمل الأذى والتجاوز عن الغير بل هي في كف الظالم عن ظلمه وبذل النصح للمخطيء والتواصي بالحق والصبر .
عطاء بلا حدود
ألا ما أعظم فضل الله على عباده أن كان هذا العطاء الواسع المدلول على ما تفضل الله به على عباده الضعفاء من هذا الجزء من رحمته الواسعة السابغة في هذه الدنيا، حيث أنها تشيع في الناس ما ينتظم به ميزان الحياة وتسمو أنماط السلوك في المجتمعات ويسود الود والتعاطف جميع العلاقات وتمضي المسيرة بهذا الإنسان إلى ما يوثق علاقته بربه رغبًا لا رهبًا ، وشكرًا لا كفرًا وعلاقته ببني جنسه مودة وقربًا وبالحياة من حوله في إطار من التعاون على البر والتقوى والمحبة والتعاطف ، ويتجلى ذلك الفضل أكثر وأكثر فيما يغمرهم به من فيض جوده وكرمه قال تعالى : ?يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيْهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ لِكُلِّ امْرئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأنٌ يُّغْنِيْهِ? سورة عبس آية : 34 – 37 .
ذلك الذي يتمثل فيما يستعين به عباده المؤمنين من هذه الرحمات التي يجزيء منها مضى سفين الحياة بأمواجها العاتية إلى شاطئ السلامة وبر النجاة .
جاء في فتح الباري أن الرحمة رحمتان رحمة من صفة الذات وهي لاتتعدد ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله جعل الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا" به يتراحم الخلائق .. الخ.
وفي رواية لمسلم أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض .. قال القرطبي والمعنى أن الله أظهر تقديره يوم أظهر تقدير السموات والأرض وقوله لكل رحمة طباق ما بين السماء والأرض المراد بها التكثير والتعظيم .(/3)
وقوله صلى الله عليه وسلم : وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا وفي رواية عطاء وأنزل منها رحمة واحدة لا بين الجن والإنس والبهائم .. وفي إطار هذه الرحمة يسر الله لكل وسيلة الحياة والحفاظ على النوع والجو الذي يلائمه والبيئة التي يعيش فيها في البر والبحر والجو وعلمه كيف يذود عن نفسه وزوده بالسلاح الذي يستخدمه حفاظاً على حياته وبقائه والغذاء الذي يقوته ويقوم بأوده إلى جانب ما فيه من منافع تُثري الحياة وتُضفي عليها ما يخلب الأنظار ويبعث على حبها والتعلق بها ، وشاء سبحانه أن يسوس هذه العوالم كلها بقانون لم يترك شيئًا من أمر للحياة إلا عالجه على عين من خالقه العليم بخلقه وأعلن أنها جميعًا مسخرة لهذا الإنسان الذي هو أضعفها ، قال – تعالى : ?وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِيْ السَّماوَاتِ وَمَا فِيْ الأَرْضِ جَمِيْعًا مِّنْهُ إِنَّ فِيْ ذالِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَّتَفَكّرُوْنَ? سورة الجاثية – آية: 13 .
كما قال سبحانه، مذكرًا ببعض نعمه التي تفضل بها على عباده . ?إنَّ فِيْ خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِيْ تَجْرِيْ فِيْ الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِه الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَّ تَصْرِيْفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَّعْقِلُوْنَ? سورة البقرة – آية:164.
وصدق الله العظيم المتفضل المنعم إذ يقول: ?وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوْهَا إِنَّ الله لَغَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ? سورة النمل – آية: 18.
الرحمة العامة
وقوله صلى الله عليه وسلم : "وأمسك عنده تسعة وتسعين" قال القرطبي مقتضى هذا الحديث أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين ، قال تعالى : ?وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَحِيْمًا) .
فان رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويُفْهَم من هذا أن الكفار لايبقى لهم حظ منالرحمة ، لامن جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا كمل ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين وإليه الإشارة بقوله – تعالى: ?وَرَحْمَتِيْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبَهَا لِلَّذِيْنَ يَتَّقُوْنَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَالَّذِيْنَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُوْنَ? . سورة الأعراف – آية : 156.
وقال ابن أبي جمرة ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وتسعين جزءًا فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءًا ويؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها ويؤيده قوله في الحديث القدسي : ?غَلَبَتْ رَحْمَتِيْ غَضَبِيْ? .
أما مناسبة خصوص العدد فيحتمل أن تكون مناسبة في هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة والجنة هي كل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة . وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن ناله منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة ، هذا والرحمة المراد بها متعلق الإرادة لا نفس الإرادة وأنها راجعة إلى المنافع والنعم.
وقوله : "فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه" .
وفي رواية عطاء: "فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها".
وفي رواية سلمان: "فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحشُ والطير بعضُها على بعض".
قال ابن أبي جمرة خص الفرس بالذكر لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل، ومع ذلك يتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها .
ينابيع الرحمة
وإنه لمما يُنْمِي خُلُق الرحمة في قلوب المؤمنين ما يتعبدون به الله سبحانه ، من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي بها ينخرط المرء في سلك الجماعة عضوًا نافعًا يشاركهم آلامهم وآمالهم، ويتعاون معهم في كل ما فيه خيرهم في دنياهم وآخرتهم .
أما الزكاة فإنها وقاية من الشح ، ورياضة على بسط الكف ، وتزكية للنفوس ، وطهرة لها من الأنانية والأثرة ، وغوث للفقراء والمساكين ، وسد لحاجة المحتاجين ، فضلاً عن أثر ذلك من إشاعة روح المودة والقضاء على ما قد يكون في بعض النفوس من الأحقاد التي يطفىء لهيبَها عطاءُ المحسنين .(/4)
ويأتي الصوم الذي هو جنة المؤمن من سلطان الهوى ونزعات الشيطان ، وتحرير له من رق العبودية لغير الله ، وإيقاظ لعاطفة الشفقة والرأفة نتيجة المعاناة في الصوم على البائسين والمحرومين من موسم لفيوضات الحق سبحانه على الصائمين. كل ذلك خير باعث على التواصل والتعاطف والإحسان والتراحم . ومن ثم يصير الجتمع بأبنائه كالجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أما الحج فإنه العلاج لأدواء المجتمع الكبير الذي ينضوى تحت لواء الإيمان بالله رب العالمين ؛ حيث الحجيج يفدون إلى أداء هذا النسك كل عام ذرافات ووحدانًا رجالاً وركبانًا من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويفيدون ويستفيدون مستجيبين لدعوة أبيهم إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام فقد ترك طفله وأمه في هذا المكان المقفر، حين خاف عليهم الضيعة فقد قام ضارعًا إلى ربه قائلاً :
?رَبَّنَا إِنِّيْ أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِيْ بِوَادٍ غَيْرِ ذِيْ زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّم رَبَّنَا لِيُقِيْمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُوْنَ? .
وقد شاء الحق سبحانه الاستجابة لخليله إبراهيم فكان الحج أحد أركان الإسلام فرضًا على القادرين، والملاذ الذي يوفر لهذا الوادي حاجاته ويجد فيه كل أمانيه ورغباته وأنه لدعوة صريحة إلى الاهتمام بأمر المسلمين وبذل الطاقات من القادرين لدفع البلاء والضر إذا نزل بهم أنى وجدوا بل وأكثر من ذلك فإنه يعلن أن من أهم ثمار الإيمان أن يَحْيَى القادرون حياتهم ويشاركونهم آمالهم وآلامهم وأنه من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
وبعد .. فما أجمل أن يعيش الإنسان في ظلال الإيمان تعلو في سماء حياته ألوية الرحمة التي بها تنتظم جميع علاقاته .(/5)
الإسلام دين الأخوة والوحدة
رئيسي :عقائد :السبت 8 شوال 1425هـ - 20 نوفمبر 2004 م
الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وشرفنا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[103]}[سورة آل عمران].
الأمة الإسلامية أمة: إلهها واحد، ورسولها واحد، ودينها واحد، { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[85]}[سورة آل عمران]. وكتابها القرآن دواء للإنسانية من أمراضها وأسقامها، وعللها وآفتها، أفرغ بآياته وشرائعه البينة الواضحة على أتباعه المؤمنين به، المستظلين بظله، صبغة الوحدة والجماعة والأخوة، منحيًا عنها عصبيات الجنسية والإقليمية، فلم يؤثر فردًا على فرد، ولا فئة على فئة، ولا جماعة على جماعة، فأزال العصبية القبلية بقوله تعالى:{...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...[13]}[سورة الحجرات].
وأزال العصبية الوطنية بقوله:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[152]}[سورة النساء].
سما بالإنسانية عن هذه الاعتبارات التي كثيرًا ما تدفع بأصحابها إلى التفرق والخصام، وتغرى بينهم بالعداوة والبغضاء، فتفصم عرى الإنسانية الفاضلة، وتقضي على روح التعاون والتراحم، وتطمس معالم السعادة والهناءة، ووجه الناس إلى الأخذ بيد الإنسانية الفاضلة، وشهادة الموحد لأبنائه، الوحدة في التوجه إلى ال،له والإخلاص له، وتلقي دعوته.
وأفرغ الإسلام علينا وحدة العقيدة ووحدة العبادة، ووحدة السلوك، ووحدة الأهداف، ووحدة الرحم: ونادانا في ذلك بنداءات إلهية كريمة، تركت في نفوسنا كل معاني الوحدة، وبواعثها مترابطة متعانقة قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...[1]}[سورة النساء]. { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[35]}[سورة الأعراف]. { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا...[27]}[سورة الأعراف]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102]}[سورة آل عمران].
فكشف الله لنا بهذه النداءات الغطاء عن المُعْتَصَمِ الذي يحب أن نتمسك به ولا نحيد عنه، وهو تقوى الله، والاتجاه إليه، والاستعانة به في تنفيذ أوامره، والعمل بما وضعه من سنن في سبيل الله إسعاد البشرية ورقيها.. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...[13]}[سورة الحجرات]. وبهذا التعارف والارتباط تتقارب المصالح، وتتحد المنافع، ويصبح المسلمون في أنحاء الأرض قوة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويرعى قويهم حق ضعيفهم، وغنيهم حق فقيرهم، وصحيحهم حق مريضهم، وبذلك ينتظم شملهم، وتقوى وحدتهم، وتعز بلادهم، وتسود أوطانهم، ويصبح جانبهم مرهوبًا، وحقهم محفوظًا؛ فتأتلف قلوبهم، وتتحد مشاعرهم، وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام، وألزم خلال المسلمين.
ولا ريب ولا عجب في أن توحيد الصفوف، واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها، والإسلام يكره للمسلم أن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة، وأن ينحصر في نطاق نفسه، وأن يستوحش في تفكيره، وإحساسه.
عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث: [ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ]رواه الترمذي وابن ماجة.(/1)
وإذا كانت كلمة التوحيد باب الإسلام؛ فإن توحيد الصفوف سر المحافظة عليه، والإبقاء على مقوماته: والضمان للقاء الله بوجه متهلل، وصفحة مشرقة، والإسلام قد جعل العمل الواحد في حقيقته وصورته مختلفًا في الأجر حين يؤديه الإنسان منفردًا وحين يؤديه مع آخرين، إن صلاة الفجر وصلاة العشاء هي هي لم تزد شيئًا حينما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها في عزلة، ومع ذلك فقد ضعّف الإسلام أجرها، وزاد في ثوابها بضعًا وعشرين درجة، أو يزيد عندما يقف المسلم مع غيره لأدائها بين يدي الله.
وتأمل معي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ[الفرد] بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً] رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا: حرص من النبي صلى الله عليه وسلم على الأخوة الإسلامية، والوقوف مع الجماعة، والانضواء تحت لوائها، ونبذ العزلة، ودفع للمسلم إلى الانسلاخ من وحدته والاندماج في أمته.
وانظر معي وتأمل فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
[وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ[أي: لا يحضرون الجماعة] فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ] رواه البخاري ومسلم. والعرق: العظم إذا كان عليه لحم.. والمرماة: ما بين ضلع الشاة من اللحم.
وفي هذا التهديد من رسول الإنسانية، ومعلم البشرية صلى الله عليه وسلم ما يدعو المسلم إلى الامتزاج بالمجتمع الذي يحيا ويعيش فيه، فشرع الله الجماعة للصلوات الخمس اليومية، ورغب في حضورها وتكثير الخطا إليها.
وشرع الله لأهل القرية، أو الحمى الآهل، أو المصر أن يلتقوا كل أسبوع مرة لصلاة الجمع، وفي كل عيد دعاهم إلى اجتماع أعظم يؤمهم إمام واحد يقوم فيقومون، ويركع فيركعون، ويسجد فيسجدون يتجهون إلى إله واحد.، وإلى قبلة واحدة.
والزكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم؛ لكي يشعروا جميعًا أنهم جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى] رواه مسلم.
والصيام يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعًا صفة الإنابة والرجوع إلى الله [كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويعفها عن الإيذاء والتجريح، ويسد عليهم منافذ الشر والتفكير فيه، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر بعباد الله، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة.
والحج الذي يضم أشتات المسلمين في المشرق والمغرب، في مكان معلوم هو مكة المكرمة، وزمان معلوم هو أشهر الحج، يطوفون حول بناء واحد وهو بيت الله الحرام، فيكون اللقاء بين أجناس المسلمين أمرًا محتومًا { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...[28]}[سورة الحج].
فديننا- والحمد لله- يدعو المسلمين في جميع تشريعاته التي شرعها الله لعباده، وتعبدهم بها يدعوهم إلى التعاون والتآزر، والتعاضد والمؤاخاة ليربط المسلمين جميعًا برباط واحد وثيق، لتكون أمتهم أمة واحدة قوية، تخشى صولتها الأمم، وتحسب حسابها الشعوب، تغضب الدنيا لها إذا غضبت، وتضحك الدنيا لها إذا رضيت، يرهب الأعداء بأسها، ويخطب الأصدقاء ودها.
وهكذا كانت أمة الإسلام من قبل: قوة جبارة وصولة باطشة، وسلطانًا قاهرًا، وقوة غالبة، وحصنًا منيعًا. وذلك طبيعي في أمة تجمعت أفرادها، واتحدت قواها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[92]}[سورة الأنبياء].
وقد حدثنا التاريخ أن المسلمين بوحدتهم، وتجمع صفوفهم استطاعوا أن يدكوا عروش القياصرة والأكاسرة، وأن يطوِّحوا بتيجان الجبابرة.
وإن الأوربيين ما سادوا وخضعت لهم الدنيا، ودان لهم العالم، وأسلمت الحياة قيادها لهم وأصبحوا يهددون أمن المسلمين وسلامتهم، مع خسة في العنصر، ولؤم في الطبع، وإفلاس في الدين، وزيغ في العقيدة، ما وصلوا إلى ذلك إلا بفضل تجمعهم واتحادهم.
فما سادوا بمعجزة علينا ولكن في صفوفهم انضمام(/2)
والإسلام حريص على سلامة أمته، وحفظ كيانها، وهو لذلك يطفئ بقوة الخلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق، ومصاير السوء .
هذا هو السياج الذي يحفظ على الأمة الإسلامية وحدتها، ويقيها شر العواصف والانهيار، ويمكنها من المحافظة على سلامتها وأمنها، فتتم النعمة، ويعود الشعار إلى أصله:' أمة واحدة، ورب واحد' {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[92]}[سورة الأنبياء].
والتاريخ الحديث خير شاهد على أن المسلمين والعرب إذا تمسكوا بدينهم، وعادوا إلى وحدتهم، وجمعوا صفوفهم؛ كان الله معهم، وتحقق النصر لهم...وفق الله العاملين للخير، وجمعهم على الخير إنه نعم المولى، ونعم النصير.
من:'الإسلام دين الأخوة والوحدة' للشيخ/ محمد عبد المقصود(/3)
الإسلام سيد الموقف محمد الحبر يوسف*
دللت الأحداث على مدار التاريخ أن سر بقاء هذه الأمة المسلمة كامن في دينها ، فالإسلام بقوته الذاتية قادر على الصمود في وجه كل التحديات التي تجابهه ، كما أنه وحده القادر على أن يبعث الحياة في جسد الأمة كلما خارت قواه ، وما تزال انتفاضات الأمة الإسلامية ومظاهر اليقظة والتجديد فيها تؤكد لنا هذه الحقيقة بجلاء .
صحيح أن صلة الأمة بدينها قد يعتريها الوهن في مرحلة من مراحل التاريخ ، وقد تسرى علل غليظة في كيان الأمة تعيقها عن السير ، وتبعدها عن منصب الريادة ، ولكن ذلك كله لا يمنع الأمة من قابلية النهضة ، وإمكانية الابتعاث من جديد لتؤدي دورها المنشود ، وقد أبى الله لهذه الأمة أن تنهض إلا تحت راية القرآن وفي ظلال الإيمان ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)
ومن هنا فإن أي محاولة للإصلاح والنهوض لا تتخذ من الإسلام مرجعا أصليا محاولة محكوم عليها بالفشل ، فالإسلام هو سيد الموقف والمحرك الباعث لأي مشروع إصلاحي ناجح في هذه الأمة ، وتاريخ الحركات الإصلاحية شاهد على ذلك ، وقد أدركت بعض الفصائل العلمانية في عالمنا الإسلامي جزءا من هذه الحقيقة ، بعد سلسلة من تجارب الفاشلة التي كادت أن تأتي على بنيانها من القواعد ، وبدأ مفكرو هذه الفصائل في بلاد المسلمين يعيدون النظر في موقفهم من معادة الدين ، ويبحثون –منذ أمة- عن صيغة جديدة للتعامل معه ، وانتقل كثير منهم طوعا أو كرها من دائرة الدعوة إلى إقصاء الدين ، إلى دائرة المجاملة له ومنافقته بكلمات قد تبدو باهتة ولكنها ذات دلالة عميقة للمتوسمين ! وعسى الله أن يفتح بصيرة المخلصين منهم ليدركوا الحق ، و يعلموا أن الحلول المستوردة التي راهنوا عليها كثيرا لا مكان لها في ديار الإسلام ، وإن فرضها الجنرالات بالحديد والنار.
إلا أن هناك فصائل أخرى من قبائل العلمانية في بلادنا أرادوا أن يمتضوا صهوة الجواد الأمريكي الذي يتهددنا بمشاريعه الإصلاحية!! التي لن تدع مجالا من مجالات الحياة إلا تمددت فيه ، وعلى هؤلاء وأولئك أن يدركوا أن الإسلام أثبت من أن تجتثه قوة ، وأن الأسلحة المتطورة والجيوش المدربة لا يمكن أن تحسم الموقف لصالح أمريكا أبدا ، بل إنها أعجز من أن تحمي أمريكا نفسها لأن القوة العسكرية لم تعد في عالم اليوم سيدة الموقف! ولأنها -أي القوة العسكرية- غدت عبئا يستنزف موارد الدول العظمى ويرهق كاهلها بالديون، ويبشر ببداية الانهيار لقوتها.
وإذا كانت القوة العسكرية عاجزة عن حسم الموقف لصالح المشروع الغربي ، فإن الميدان الآخر الذي يجب على الغرب أن يسلكه لمحاصرة الإسلام ، هو ما اصطلح عليه الناس بحرب الأفكار وصراع الحضارات ، والإسلام بحمد الله يملك رصيدا ضخما يؤهله لدخول هذا الميدان بثقة عامرة.
ومن شهد الوغى وعليه درع .....تلقاها بنفس مطمئنة
ولا شك أن المشروع الغربي نفسه سيكون رصيدا للمسلمين ، فهذه الحضارة الغربية التي كانت فيما مضى تمثل –لبعض الناس- في بلادنا نموذجا يحتذى لم يعد لها اليوم ذلك البريق الجاذب بعد أن افتضحت شعاراتها ، وبانت سوءاتها ، وأدركها الهرم ليس في بلاد الإسلام فحسب بل في كل بلد أطلت فيها برأسها.
فالغرب -وعلى رأسه الولايات المتحدة- استطاع بمواقفه السياسية الرعناء ومشكلاته الاجتماعية المتلاحقة أن يبرهن للعالم كله أنه غير جدير بالثقة ، وأن كل البهرج الذي أحاط به نفسه أو أحاطه به الناس بهرج زائف كاذب ، فقد تعاظم الشعور بل تواترت الأدلة على أن الغرب قد جنى على الإنسانية جناية لم ترتكبها أمة من قبل ، سواء في الحروب المدمرة التي أشعلها ، أو الفساد العريض الذي أحدثه في الأرض ابتداء من القيم والأخلاق وانتهاء بمشكلات التلوث البيئي والاحتباس الحراري ! كل هذا وأضعافه من المرارات والمشكلات سيؤكد للعالم كله حتمية البحث عن مخرج من هذا المأزق الحرج ، والمصير المشؤم ، والكارثة المرتقبة ، وقد تفطن لهذه النهاية الأليمة عدد من كبار مفكري الغرب من بينهم الصحفي المخضرم –T.D.Allman – الذي كتب كتابا بعنوان دولة الخداع : أمريكا في حرب مع العالم ، شن فيه هجوما عنيفا على الإدارة الأمريكية وحملها مسؤولية الكره التي أوجدتها في الدنيا اتجاه كل ما هو أمريكي ، والأهم من ذلك أنه ذكر أن الإدارة الأمريكية ستقود العالم إلى الخطر الماحق إن تركت تمضي في سبيلها ، ودعا ألمان الشعب الأمريكي أن يعمل ما يستطيع ليمنع بوش من إحداث التغيير السيئ في العالم.(/1)
ولكن الذي يبدو أن أمريكا أو بوش وعصابته على وجه التحديد ستمضي في طريقها المعادي لكل من يقف حجر عثرة أمام مشاريعها الاستعمارية (الإصلاحية) ، ولن تبالي في سبيل تحقيق هذه المصالح أن ترتكب أي حماقة من الحماقات ، في أي بلد من البلدان ، واختيار أمريكا لطريق المواجهة سيكلفها كثيرا من دنياها لأنها ستجد نفسها في مواجهة أمة يعلمها دينها كيف تصبر في ميدان الجهاد ، وكيف تبيع الدنيا لتشتري جنة عرضها السماوات والأرض ، وتجاربها في ميدان الكفاح خير شاهد على أنها قادرة-برغم تخاذل الزعماء - أن تضحي بكل شي ولا تعطي الدنية في دينها ، متى ما توفرت لها القيادة الصادقة والراية الواضحة ليعلم الناس أن الإسلام سيد الموقف في كل قضية تحتاج إلى صدق وصمود.(/2)
الإسلام شريعة الأمل العالمي
(1/2)
بقلم : الأستاذ إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي
تناولنا كيف جاء الإسلام بشريعة شَملت الوجود الإنساني كله ، ففيها المرونة والحكمة مايُسَاير الوجود الإنساني في كل زمان ومكان وإن لم يضع نظامًا للدولة ولم يأخذ بنظرية للحكم ، إلا أن الادارة التي قامت عليها الجماعة الإسلامية الأولى ، ثم ما جاءت به الشريعة من مبادئ السلوك وقواعد المعاملات والعلاقات الاجتماعية والشورى.. كل ذلك أدى إلى أن يكون الإسلام شريعة الوجود في كل زمان ومكان .
ولقد وضع الإسلام من القواعد ماتستقيم به الحياة على أي نمط سَوي لايبغي من ذلك غير خير الحياة وخير الإنسان ، وأول ما نستشفه من تلك القواعد صفاء جوهرها وصدقها وأنها تبقي توقير الحياة وإعلاء الكرامة الإنسانية وأنها أوفت لهما على الذروة من خلال الحق وتقديس الحياة(1). ثم إن الإسلام وضع قواعد لاتتصادم مع نواميس الكون ولا مع نظام الحياة ولامع نظرة الناس وهذا ماسنراه الآن من خلال هذا الفصل .
أولاً : حقوق الإنسان في الإسلام :
الإسلام ينظر إلى حقوق الإنسان على أنها ضرورات لاستمرار الجوهر النقي للإنسان ، وسبق الإسلام النظم الوضعية التي لم تدرك جوهر حقوق الإنسان إلا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948 بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(2).
وإذا كانت الحقوق الإنسانية في الإسلام ضرورة فهي ضرورة فطرية للإنسان من حيث هو إنسان وإسلامنا هو دين الفطرة التي فطرنا الله عليها فمن الطبيعي أن يكون الكافل لتحقيق هذه الحقوق(3).
بل أن الإسلام يُقَدس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي نراها الأساس الذي يستحيل قيام الدين بدون توفرها للإنسان ، فعليها يتوقف الإيمان ومن ثم التدين بالدين والتمسك بالإسلام .
ومن هذه الحقوق التي يقدسها الإسلام :
1- ضمان الحياة وكرامة البشر : فلقد أعلى الإسلام من شأن الحياة وكرامة البشر. وذلك بأن تقوم السياسة على أسس ثابتة عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهما أسس تَرقَى إلى درجة الالتزام، وإن لم يُشر الإسلام إلى نوع من التنظيم السياسي أو الإداري الذي تقوم عليه ، فلأنه لم يشأ أن يُلزم الناس بنظام ثابت لايجوز مخالفته حتى لايكون حجة من بعد(4)، فالنظم تتغير وفقًا للزمان والمكان ، أما الروح التي تحكم هذه النظم فهي الباقية وهي المُلزمة وهي الروح التي يقوم عليها الفلسفات السياسية في كل العصور على اختلاف تنظيماتها ، إذ لايختلف عليها إنسان لأنها تنشد خير الإنسان وصالح الجماعة الإنسانية .
وكرامة الإنسان في الإسلام من كرامة الإسلام ذاته فلا يمكن أن يحتقر إنسان مسلم ولا أن يُهَان ، فالكرامة كرامة إنسانية عامة(5).
2- حرية الارادة : الإسلام يعترف بحرية كل فرد وبالتالي يعتبره مسؤولاً شخصيًا عن أفعاله كما قال تعالى ?وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْراى?(6) ، فليس هناك إلا حرية واحدة تُهَيمن على حرياتنا وهي حرية الله المطلقة ، بيد أن الله قد نظم العالم طبقًا لقوانين ربانية قادرة على فهم الإنسان(7).
وتختلف الارادة الحُرة في الإسلام عنها في الفكر الغربي والشرقي ، فيذهب الفكر الإسلامي إلى تقرير المسؤولية تبعًا للارادة الحرة والإدراك الكامل لعلاقة الإنسان بالكون وهي علاقة أزلية غير خاضعة للزمان والمكان ، والإرادة الإنسانية حرة ، والإنسان مسيطر مطلق في نطاق وجوده المحدود(8). وقد زانه الله بالعقل ?بَلِ الإِنْسَانُ عَلى نَفْسِه بَصِيْرَةٌ وَّلَوْ أَلْقاى مَعَاذِيْرَه? القيامة آية 14، 15.
وخلاصة القول بأن الحرية في الإسلام هي "ضرورة إنسانية واجبة" وفريضة إلهية بغيرها لن تتحقق حياة الإنسان كإنسان وهي واجبة لتحقيق وصيانة الحياة التي هي واجبة . كما أنها فريضة إلهية وتكليف واجب على الإنسان يستلزم حريته واختياره(9).
3- المساواة والعدالة : لايقف الإسلام ضد التقدير الاجتماعي ، ولم يُعْرف عنه أنه اتخذ جانب السلطة ضد الفقراء والكادحين ؛ بل كان عونًا لهم على حقوقهم فأنصفهم قبل أن يَنْصفوا أنفسهم ومن القضاء من وقف في الحق لضعيف ضد الخليفة نفسه، وأنكر الإسلام الطبقية حين نبذ القبلية والعنصرية والتفاخر بالأنساب والأحساب والجاه وسعة الرزق ، والإسلام لم يُنْكر التفاوت في المآثر وفي التمييز العقلي والخلقي ؛ ولكنه سَوىَّ بين الناس جميعًا في إخوة إسلامية جامعة ، ونَبَذَ القبلية والشعوبية ونادى بالدولة العالمية التي تَسود فيها شريعة الحق وقوض تراكم رأس المال والملكية الخاصة بما قرره من أحكامها وسدد ضربة قاضية للرق ، فلم يكن من اليسير في عالم تغلغل الاسترقاق في كيانه تحرير الارقاء تحريرًا كاملاً ؛ ولكن الإسلام وضع السُنَنْ لتحرير الرقيق والقضاء على تلك العادة المرزولة(10).(/1)
وأيضًا جاء الإسلام وأعلن المساواة التامة بين البشر، وحرر الكادحين من ظلم المستغلين، وقضى على الفروق الطبقية والتمايز العنصري والديني، وجعل الناس سواء أمام القانون وأمام شريعته وعلى درجة عظيمة من المرونة والبساطة والقدرة على التطور تبعًا لتطور الحضارة وتقدمها .
وينظر الإسلام إلى وحدة الوجود الإنساني بصفتها مجتمعًا إنسانيًا واحدًا تسوده المساواة والعدالة ، كما تسوده وحدة الضمير ووحدة الأخلاق ولايكتمل هذا المعنى في أي رسالة وأيضًا جاء الإسلام وأعلن المساواة التامة بين البشر، وحرر الكادحين من ظلم المستغلين وقضى على الفروق الطبقية والتمايز العنصري والديني، وجعل الناس سواء أمام القانون وأمام شريعته وعلى درجة عظيمة من المرونة والبساطة والقدرة على التطور تبعًا لتطور الحضارة وتقدمها .
وينظر الإسلام إلى وحدة الوجود الإنساني بصفتها مجتمعًا إنسانيًا واحدًا تسوده المساواة والعدالة ، كما تسوده وحدة الضمير ووحدة الاخلاق، ولايكتمل هذا المعنى في أي رسالة سماوية كما اكتمل في الإسلام. ولدينا في التاريخ الإسلامي آلاف الآلاف من المواقف التي نبذ فيها أي إخلال بمبدأ المساواة والعدالة، فظلت أُسس راسخة من دعائم المجتمع الإسلامي بل أصبحت العدالة على أغلب الكتاب القيمة العليا في المجتمع الإسلامي التي تَخْرُج منها القيم الأخرى كافة(11).
ومما سبق يتضح أن الإسلام جَبَّ بمبدأ المساواة أي تمايزه يمكن أن يدعيه الإنسان على الإنسان إلا في التقوى ، أما الإخاء الإسلامي فهو أكثر إتصالاً بما تعنية وحدة الوجود الإنساني ، فالإخاء الإنساني لايقف بمدلولة ضد الحدود المألوفة للمعنى الدارج من حيث التكامل والتعاون بين الناس على السواء ؛ ولكنه يتخطاه إلى المعنى الرحب الفسيح في الإخوة البشرية على المستوى الإنساني العام(12).
والظُلم في الإسلام رزيلة اجتماعية كبيرة تفوق في آثارها الممتدة الكثيرَ من الفواحش ، كما أن حدود العدل الإسلامي لايقف بها الإسلام عند القانون وإنما هو شامل للحياة المادية والاجتماعية، والعدل كضرورة إنسانية واجبة على كل مسلم ، كما أن العدل الاجتماعي واجب وفريضة وليس مجرد حق من الحقوق(13).
4- التوازن بين المصلحة الخاصة والعامة : بعض النظم السياسية تعطي الفرد من الحريات ما يطغى به على مصلحة المجموع ، وبعضها يعطي المجموع مايطغى به على النشاط الفردي . ولكن الإسلام يعطي الفرد حقه والجماعة حقوقها، وينسق بينهما خير تنسيق. وهو بهذا يكفل جميع أنواع الحريات في تنظيم دقيق يشمل حرية المُلك والعقيدة والمسكن والنقل..(14) الخ.
كما أن الإسلام يخاطب الناس كافة ?يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ ، الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَاءً وَّأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ? (البقرة الآيات 21-22) وواضح حرص القرآن على مخاطبة الناس جميعًا ويذكرهم بنعمة الله الأساسية خصوصًا، وأن هذه النعم مشاع بين الناس جميعًا، فلا يجب أن يستأثر بها ويحتكرها أفراد لأنفسهم ويحرمون الآخرين فكيونون ظالمين طاغين مُبَدلين للأوضاع العادلة التي أرادها الله للناس جميعًا(15).
والإسلام يدعو للمواءمة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ، فالأصل المصلحة الخاصة بشرط الابتعاد عن ثلاثة ترمز للضرورة : الماء والكلأ والنار وهي مشاع بين جميع الناس ومثلها أي حاجات ضرورية . ومن هنا فإن المصلحة الخاصة التي لاتختلف مع المصلحة العامة ضرورة مقدسة للإنسان وحق من حقوقه بدون غبن المصلحة العامة أو إنتقاص حقوق الآخرين(16).
5- حقوق أخرى(17) باختصار شديد:
الشورى : وفيها الأمة وبهامصدر السلطات في الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران والشورى فلسفة الحكم الإسلامي ومنهج سياسة الرعية وطريق السلوك السوى للفرد والأسرة والمجتمع وهي فريضة الهية وضرورية شرعية .
القصاص: من قتل نفسًا فكمن قتل الأنفسَ جميعًا، وأصبح على الجماعة الإسلامية أن تقتص للقتيل، وتوقع العقاب على القاتل. وما من دم يذهب هدرًا في الإسلام والقصاص يؤدي إلى توفير الحياة البشرية وأصون للنظام الإجتماعي .
الحرية الدينية : لايُكْرَه أهل الديانات أو المشركون على الدخول في الإسلام فلا إكراه في الدين . وهذه حرية ليست مباحة أو متاحة في أي عقيدة أخرى .
الحرية الفكرية : دعا الإسلام إلى التفكير في كل شيء حتى في خلق السموات والأرض والإنسان. وذلك من منطلق أن العقل خاصة الإنسان وامتيازه وشرفه ولان التفكير فطرة الإنسان وعمل العقل ورسالته .
إلى غيرها من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان في ظل الإسلام .
ثانيًا : الاقتصاد الإسلامي :
أعطى الإسلام للإنسان جميع الحقوق الاقتصادية منها حق العمل وحق الكسب والسعي في الحياة وحق التملك وغيرها من الحقوق .(/2)
وينبع النظام الاقتصادي في الإسلام من ارتباطه الوثيق بالفلسفة الفكرية والاجتماعية الإسلامية ، وهي فلسفة – كما أسلفنا ، تقوم على أساس الاستجابة للفطرة الإنسانية ، مع تهذيبها والاتجاه بها إلى الاعتدال ، فبينما تقوم المجتمعات الرأسمالية على أساس أن الفرد كائن مقدس لايجوز للمجتمع أن يمس حريته ، ولهذا تُبَاح فيها الملكيات الفردية بلا حدود ، وبينما تقوم المجتمعات الشيوعية على أساس أن المجتمع هو الأصل ولاكيان للفرد وحده ولهذا تضع الملكية في يد الدولة ممثلة المجتمع وتحرم منها الأفراد(18)؛ ولكن الإسلام يرى الإنسان ذا صفتين في نفس الوقت ، صفة كفرد مستقل وكعضو في الجماعة والإسلام لايفصل بين الصفتين ولايجعلهما نقيضين وإنما يوازن بين النزعتين ، النزعة الفردية والنزعة الجماعية دون أن تَجور إحداهما على الأخرى ، كما يوازي بين مصالح كل فرد وغيره من الأفراد الذين يكونون المجتمع .
ومن ثم فان إقتصاديات الإسلام تمثل هذه النظرية المتوازنة المعتدلة التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية وتلتقي بأفضل مافي النظامين دون الوقوع في إنحرافاتها فهي تُبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ؛ ولكنها تضع لها الحدود التي يمتنع بها الضرر وتبيح للمجتمع أو ممثله أن يسترد هذه الملكية أو يُعَدلها أو يُحَددها كلما حقق ذلك مصلحة المجتمع(19).
ولهذا فإن الإسلام لايضيق بالملكية الفردية مادام يملك إلغاءها أو تعديلها في وقت الحاجة إلى ذلك ، ولهذا أيضًا فان وجود الملكية الفردية مع وجود حق الدولة في السيطرة عليها خير من إلغائها بتاتًا لأن الإلغاء يتصادم مع فطرة الإنسان. ومن ثم فاباحتها وإناطة تحديدها لحكم الظروف المحققة للمصلحة العامة لهو خير للفرد والمجتمع على سواء . ولهذا فان الملكية الفردية لايمكن أن تؤدي إلى الرأسمالية أو الإقطاع في الإسلام وهذا سر روعة النظام الاقتصادي الإسلامي(20).
ومما يمتاز به الاقتصاد الإسلامي أن الرؤية الإسلامية تنظر إلى النشاط العمراني في كل ميدان من الميادين على أنها وحدة ومنفعة للإنسانية في ميدان الزراعة وفلاحة الأرض والتصنيع والتجارة واستثمار الأموال ورسم المنهج السديد ليسير الناس عليه . وهو العمل الدائب في سائر مجالات الحياة ، فليس من هدي الإسلام أن يتواني الإنسان ويكسل ولايسعى ولايعمل وهو قادر على السعي والعمل ثم يَزْعُم أنه مُنْقَطع للعبادة(21) ولذلك فلا رهبانية في الإسلام لأن العمل والكدح هما في الإسلام عبادة لاتقل عما سواها من العبادات ، ولأن الإسلام دين الفطرة والطبيعة ، والاتجاه للرهبنة والتبتل يُعَطل مامنحه الله للإنسان من قوي التفكير والإرادة والعمل(22). كما يُبْقى ذلك أسرار الكون ومنافحه كامنة ، وقد سخرها الله جميعًا للإنسان وسلطه عليها ومهد له الطريق لإظهار عمارة الكون ?وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْلُه وَالْمُؤْمِنُوْنَ? التوبة آية 105، ?وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاَّ مَاسَعى? النجم 39.
كما أن الدنيا في التصور الإسلامي الصحيح مزرعة للآخرة ، فلا تصلح آخرة امرء إلا إذا صحت دنياه ، وسَنُحاسب في الآخرة على التفريط في إصلاح الدنيا . فالعمل الطيب في الدنيا وسيلة لصلاح حياة صاحبه في الآخرة كما هو وسيلة لصلاح دنياه(23).
كما اهتم الإسلام بالناحية المادية لدى المسلم كاهتمامه بالناحية الروحية ، فداعانا الإسلام إلى الاهتمام بزينتنا، ?يَابَنِيْ آدَمَ خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَّكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَتُسْرِفُوْا إِنَّه لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ، قلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِيْ أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? الاعراف 31-32. كما قال تعالى ?كُلُوْا مِنَ طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ? البقرة 57، وذلك ينبع من طبيعة الحياة الدنيا لأنها دار جمال وزينة ومتاع بكل طيب مع إمتزاج متاعها بشيء قليل من أسباب الألم والخوف والجوع لتكون في وضعها الذي أراده الله دارًا للابتلاء والاختبار وبهذا يجمع بين الأجسام والأرواح ، والدنيا والآخرة والماديات والمعنويات ، وبهذا يظل الإسلام أكمل دين يَصْلُح للإنسانية جمعاء ويواءم بين جميع الظروف والبيئات المختلفة ويساير طبيعة الإنسان(24).
كما طلب الإسلام من الناس ألا يقعوا تحت تأثير المال لأن المال مجرد وسيلة للحياة وليس هدف وغاية منها وإنه زينة للحياة الدنيا ويمكن أن يكون وسيلة لرفاهية المجتمع كله ، فصاحب رأس المال مُوكْل من قبل الحق عز وجل لادارة هذا المال ولذا عليه أن يقوم بسداد حاجة المجتمع من هذا المال عن طريق الزكاة كفريضة وغيرها من الصدقات .(/3)
ولقد نبع الموقف الاقتصادي للاسلام من أن القرآن قد قرر مايعرفه الله من طبيعة الانسان ومن تسلط الشهوات عليه ومن حبه للمال ومباهاته به وحرصه على جمعه وكرهاً للإنفاق منه . وأمر الإسلام بنظام كامل للمواريث حتى لاتُهْضَم حقوق جميع الأهل والعائلة والأسرة ، كما حرم الربا تحريمًا قاطعًا وهذا الحكم كاف لإقامة نظام إقتصادي قائم بذاته .
ورغم كل ذلك فان النظام الاقتصادي الإسلامي يشمل أُسس ثابتة راسخة نحو المجتمع المستقر والمتقدم دائمًا ، وهذه الأسس ثابتة ولكن هناك متغيرات كثيرة قابلة للتطور طبقًا لمتغيرات الإنسان في كل زمان ومكان في نطاق الأسس الاقتصادية الإسلامية .
* * *
الهوامش :
(1) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 95-96.
(2) راجع: محمد عبد الشافي اللبان : حقوق الإنسان المعاصر (القاهرة – هيئة الاستعلامات – بدون).
(3) د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان (الكويت – عالم المعرفة – العدد 89 ، مايو 85) ص 7 .
(4) د/ حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 99.
(5) ويرى د. عبد الله شحاته في كتابه علوم الدين الإسلامي "أن الإسلام جاء والكرامة الإنسانية وقف على طبقات معينة وعلى بيوت خاصة وعلى مقامات معروفة ، أما الجماهير فلا وزن لها ولاقيمة فقال الإسلام كلمته المدوية أن كرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته لأن أي عرض آخر كالجنس أو اللون أو الطبقة أو الثروة أو المنصب أوغيرها من تلك الأغراض الزائلة والحقوق الأصلية للإنسان مستمدة من تلك الإنسانية . ولقد كرم الله الإنسان فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وميزه بالعقل وبالفكر والارادة، والاختيار فقال تعالى ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً? الاسراء آية 70 ص 273-274.
(6) الانعام آية 164.
(7) د. محمد عزيز الجبالي : الشخصانية الإسلامية (القاهرة – دار المعارف – 83) ص 133.
(8) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 314-315.
(9) راجع في ذلك د. محمد عمارة: مرجع سابق ص 18-30.
(10) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 289-290.
(11) راجع د. حامد ربيع: نظرية القيم السياسية (نهضة الشرق – القاهرة – 73) ص 101 .
(12) د. حسين فوزي النجار: مرجع سباق ص 93-95 .
(13) رادع في ذلك د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان: مرجع سابق ص 55-68 .
(14) محمد الغزالي: مع الله : دراسات في الدعوة والدعاة: (القاهرة – دار الكتب الإسلامية – 85) ص 312.
(15) عبد المنعم خلاف : مرجع سابق ص 28 .
(16) راجع: العقاد: الإنسان في القرآن (القاهرة – دار الاسلام – 73) ص 119.
(17) راجع في ذلك : د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان (مرجع سابق).
أنور الجندي: أحاديث إلى الشباب في ضوء الإسلام (سلسلة دراسات في الاسلام – العدد 165-174)، ذكريا البري: حقوق الإنسان في الإسلام (بدون – القاهرة – المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية)، د. رؤوف شلبي دبلوماسية الدعوة الإسلامية (القاهرة – المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية – فبراير 86)، د. عبد الغني عبود: الإنسان ، وفي الإسلام والإنسان المعاصر (القاهرة – دار الفكر العربي – 78)
(18) راجع في ذلك : فتحي رضوان: الإسلام والمذاهب الحديثة (القاهرة – سلسلة اقرأ – العدد 415) .
(19) د/ النعمان عبد المجيد القاضي: الإسلام عقيدة وحياة (مرجع سابق ص 90-91).
(20) المرجع السابق ص 81-85.
(21) د. عبد الرحمن النجار: كلمات على طريق الإيمان : مرجع سابق ص 33-35.
(22) د. أحمد شلبي: الإسلام: مرجع سابق ص 138-139.
(23) لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع راجع: عبد المنعم خلاف: المادية الإسلامية: مرجع سابق ص 16-18، د. عبد الهادي النجار: الإسلام والاقتصاد – الكويت – سلسلة عالم المعرفة – عدد 63)، منى رضوان: الإسلام والمذاهب الحديثة – مرجع سابق .
(24) محمد الغزالي : مع الله : مرجع سابق ص 311.
* * *(/4)
الإسلام شريعة الأمل العالمي
(2/2)
بقلم : الأستاذ إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي
ثالثًا : الأخلاق الإسلامية :
جاء الإسلام بمجموعة من الأخلاقيات التي تُنَظم حياة المسلم وتعطي القدوة الطيبة والقيم الأصيلة التي تصنع مجتمعًا مستقرًا بالأخلاق الإسلامية جاء الإسلام بها من أجل سمو ارتقاء الحياة الانسانية ، وهي مما تتميز بها الحياة عن الدنايا والشرور ويستقيم عليها أدب النفس وأدب السلوك والقرآن حافل بما تتحلى به النفس من قيم الأخلاق وبما يجب أن يكون عليه سلوك البشر وبالنهي عما يجترح هذه القيم أو ينال منها أو يتطاول عليها أو يخدشها أو يكون سببًا من أسبابها أو يؤدي اليها، كما نهى عما يسيء إلى البدن حفاظاً على الصحة وعما يسيء إلى العقل حفاظاً على سلامة الإدراك. والحضارة الإسلامية لاتقوم على أسس سليمة إلا بهذه الاخلاق، فالرحمة والبر والتعاطف والحياء والتواضع والفضائل على أنواعها أقام لها الإسلام المعايير وقاس عليها سلوك الإنسان أمام الله وأمام الناس(25). كما أن الأخلاق الإسلامية مما يتواءم مع الحياة الدنيا ومما يقوم عليها مجتمع إنساني سليم فليس فيها إغراق أو تطرف يحملها إلى عالم التجريد وليس فيها ما يحمل الإنسان فوق طاقته، وإنما هي من واقع حياة المسلم مايستقيم معها حياته على الخير ويستقيم بها عقله على الإيمان، إذ جمع الإسلام بين المثالية الرفيعة والواقعية التي تتفق مع العقل ، فلا يغفل الطبيعة البشرية ولايسرح في تهويمات ضالة ملتوية بعيدًا عن الحقيقة والواقع، بل ينشد السمو بالإنسان إلى ذروة الكمال المطلق، ولكن إذا حقق ماينشد إذ حاول تحقيقه، يعلم تمامًا أن الإنسان قد ميل على النقص، فقال بمعاقبة المُسيء مثل ما عاقب به ثم رغب أشد الترغيب في العفو عن المسييء والإحسان إليه، ودرء السيئة بالحسنة في قوله تعالى ?وَإِنْ تَعْفُوْا وَتَصْفَحُوْا وَتَغْفِرُوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ?(26).
وإذا أردنا أن نلتمس عبارة جامعة للأخلاق الإسلامية التمسناها في قوله تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ?(27)، ولذلك تُلهمنا الأَخلاق الإسلامية عما يمكن أن نسميه ثقافة أخلاقية بصفتها أساسًا لأدب النفس والسلوك وأساسًا لحضارة إنسانية تقوم على التزاوج بين الروح والعقل، فحيث يسمو الخلق الإسلامي بمبادئه إلى أعلى ماينشده الإنسان من المثالية الروحية، نراه يوفق بين ماهو أبدى وماهو متغير.
فالأخلاق الإسلامية تقوم على المحبة ومبناها الأخوة العدل ومبناه المساواة والرحمة ومبناها الإحسان والتعاطف والصبر والأمر بالمعروف ومبناها حب الخير للآخرين والنهي عن المنكر ومنفاها كل مايسيء إلى النفس وإلى الآخرين(28)، قال تعالى ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ القُرْباى، ويَنْهى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ?(29).
وتَنْبُع الأخلاق الإسلامية من معنى الإسلام الذي يتمثل جوهرة في الصدق مع الله وصدق مع النفس وصدق مع جميع البشر وأنه دين سهل لا التواء في دعوته ولاتعقيد فهو دين الفطرة طبيعته اليسر والتسامح، جَمَعَ المؤمنين به على التعاون والتراحم والتكافل، كما دعا إلى التحرر والمساواة ونُصْرَة المظلوم ونادى بالمحافظة على النفس وحمايتها، كما نادى بالمحافظة على الأسرة وترابطها وحث على كل نواحي الخير للإنسان.
ومن الأخلاق الإسلامية التسامح، فلقد كان للتسامح الفضل الأول في انتشار الاسلام وسيكون لهذا التسامح الآن الفضل نفسه في عودته ليقوم برسالته التي هيأها الله تعالى حيث اختاره دينًا للبشرية(30).
ومن هذه الأخلاق الرحمة التي تعم ولا تخص، ومن قول الرسول عليه الصلاة والسلام "من لايرحم لايُرْحَم" ومن الرحمة بالمجتمع أن تقف غرائز الشر فلا تتجاوز عقالها إلى الإضرار بالنفس أو بالمجتمع، وليس أردع للشر من القصاص فإنه أصون للمجتمع وحقوقه ولحرية الفرد وواجباته.
كما كان الإسلام مراعيًا للفطرة البشرية ولحاجات المجتمع ولأخلاقه عندما خصص المرأة لوظيفتها الأولى التي خُلِقَتْ من أجلها وحمل الرجل أعباءها لتتفرغ دون قلق على عيشها بكل جهودها وطاقاتها لرعاية الإنتاج البشري وتنشئته على الأخلاق الفاضلة لأن البشر كنز ثمين، وأحاطها في هذه الوظيفة بأرفع سمات التكريم والتقدير فجعل الجنة تحت أقدامها وجعلها أولى الناس بحسن صحابة الأبناء وحقق لها المساواة الإنسانية في الكرامة البشرية واستقلالها الاقتصادي وحرية التعامل المباشر مع المجتمع وحق التعليم بل وجعله فريضة عليها ... كل ذلك مادامت تتمتع بالأخلاق التي أقرها الله للمرأة(31).(/1)
ثم بلغت الأخلاق الإسلامية أقصاها مع الأعداء والمعاملة التي فرضها الإسلام على المسلم في تعامله مع غير المسلمين، حيث حث الإسلام على معاملة غير المسلمين معاملة عادية فقال: تعالى ?لاَيَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِيْنَ لَمْ يُقَاتِلُوْكُمْ فِي الدِّيْنِ وَلَمْ يُخْرِجُوْكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبرُّوْهُمْ وَتُقْسِطُوْا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِيْنَ? (سورة الممتحنة – آية 8) كما أباح الإسلام للمسلمين أن يأكلوا طعام غير المسلمين وأن يصاهروهم قال تعالى ?وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? المائدة آية 5 .
كما نهى الإسلام عن قتل الأطفال والشيوخ وانتهاك حرمة صوامع الرهبان ومحاربة النساء ومحاربة القرى دون إنذار وحرق المزروعات وقطع الأشجار والنخيل ... الخ من هذه الأخلاق الفاضلة والتي يعطينا التاريخ الإسلامي آلاف النماذج منها في حروب الإسلام وهي حروب أخلاقية في المقام الأول(32).
رابعًا : العلم والعقل والتفكير في الإسلام :
إذا كان القرآن الكريم كان نصحًا وتشريعًا وقصصًا وتوجيهًا في صيغ من الأمر والنهي، فلقد جاء القرآن مصحوبًا بالدعوة إلى التعقل والتنويه بالفكر والإشادة بالتدبر والتقدير للعلم والعلماء. وتقريع الجهال ولسخرية ممن لايفكرون. والعلم الذي يشيد به القرآن ليس مقصورًا على نوع من العلم معين، وليس التفكير الذي يهب به القرآن محصورًا في نظام محدد من المعرفة، لأن العلم الذي ينوه به القرآن الكريم عام يشمل أنواع العلوم كلها، والتفكير الذي يدعو إليه القرآن الكريم فسيح يتسع لألوان التفكير كله لأن ثمن القرآن الكريم كله تقريبًا آيات متصلة بالعلوم عامة والبقية عقائد وعادات وتشريع وتاريخ وأخلاق .
ولاغرابة في اهتمام القرآن الكريم بالعلم والفكر والعناية به هذه العناية، لأن العقل هبة من الله ينميها التفكير يغذيها القلم ويرقيها استخدامها فيما خُلِقَتْ له لتهدي إلى الحق والخير ولتدفع إلى الإقرار بوحدانية الله وقدرته وحكمته ولتمكن للناس أن ينتفعوا بما خلق الله في الأرض والسماء ولتكفل لهم حياة أرقى وأسعد وأرغد(33).
فأول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم "إقرأ" وإذا تأملنا هذه الآيات يمكن أن نقول إذا كانت هذه الآية أول مانزل من القرآن وأول قطرة مباركة من غيث الرحمة الإلهية وكان موضوعها العلم وأدوات العلم من قلم ونحوه وأدبيات العلم فهو باسم ربك أي أنها تعني علمًا نافعًا مباركاً يستمد قدسيته من الله وليس باسم رئيس أو عظيم أو منفعة أو وطن أو جنس أو طبقة وهو علم لايتعالى ولايغشاه جنون العظمة. كما رشحت هذه الآيات القلم كأداة للعلم والمعرفة فأشارت بذلك إلى رسالة هذا العلم(34).
والإسلام لا ينكر العلم ، وفي الحديث "اطلبوا العلم ولو في الصين" مايعني المعاناة في طلب العلم، ولايعني العلم الديني فليس في الصين مايطلبه المسلمون للتفقه في الدين وانما يعني معنى العلم الطبيعي، والإسلام يعلوا بالعلوم لأنه يخص عليه ويدفع إلى النظر والتأمل والكشف على أسرار الكون، والعلاقات الاجتماعية بصورة لم يصل إليها العالم بعد .
ويقول سيد قطب في ظلال القرآن ص 66 أن القرآن هو الصورة الأخيرة لكتاب الله الواحد المتحد الأصل والوجهة، المساير لحاجات البشر حتى إذا كشف لنا ساعة الحقائق الكبرى التي تقوم عليها أسس الحياة، انقطع الوحي ليتصرف في العقل البشري في حدود تلك الحقائق الكبرى، بلا خوف من الزمن مادام يرعى تلك الحدود(35).
وتنبع فلسفة التجريب والعلم في القرآن، وكما يقول إقبال، أن القرآن يرى أن الموقف التجريبي هو طور ضروري من حياة الإنسان الروحية ولذلك فإنه يعلق نفس الأهمية على جميع ميادين التجربة الإنسانية كطرق لمعرفة الحق الذي يكشف عن وجوده بآيات خفية وظاهرة، حتى أن الله خلق الكون للإنسان وفرض عليه أن يعيد عمارته من جديد ?أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّافِي السَماواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً?(36) وهذا الموقف يدعو إلى التجريب والعلم بكل أسرار الكون(37).
ويرى الشيخ شعرَاوي(38) أن الإسلام جاء ليُنَظِّم حركة الحياة ويدعو للتفكير في كل شيء وفي الأخذ بأسباب العلم في كل شيء وبالفعل يمجد الإسلام العقل ويكبر العلماء ويدعو(39) للتأمل في ملكوت السماوات والأرض ثم هو صاحب اليد الطولى على الإنسانية جمعاء وحامل لواء المدنية الحديثة.(/2)
والإسلام بكل المقاييس يدعو إلى العلم ويدعو العلماء إلى التفكير الدائم ويرفعهم إلى مستوى أفضل من بقية البشر وهل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون؟ . إنها تساؤلات نطق بها القرآن وأجاب عنها كثيرًا وكثيرًا لأنه دعا إلى العلم بأوسع معانيه وبدرجة تصل إلى التفكير في خلق السموات والأرض وما بينهما، لاحدود لنهاية العلم المطلوب الوصول إليه ماعدا الروح التي هي من أمر الله وماعداها يجب التفكير فيه لأن التفكير فريضة إسلامية.
خامسًا : الأمل :
الإسلام دين الأمل، كما أنه دين البر والتيسير ولأنه دين العلم والعلماء ولأنه دين الأخلاق الرفيعة السامية في وقت السلم والحرب ولأنه دين الحقوق الكاملة للإنسان في كل زمان ومكان ولأنه دين الحقوق الاجتماعية والكفاية الاقتصادية لكل إنسان مسلم كان أو غيره ولذا كان الإسلام هو دين الأمل لإنقاذ البشرية مما تعانيه في القرن العشرين ومابعده من قرون. كيف ذلك.. هذا ما سنحاول تفاصيله وبيانه.
* * *
الهوامش :
(25) د. حسين فوزي النجار : الإسلام والسياسة: مرجع سابق ص 321-325 .
(26) التغابن آية 14.
(27) آل عمران آية 110.
(28) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 206.
(29) سورة النحل آية 90.
(30) عبد الحفيظ علي القرش: مرجع سابق ص 10 ، 45.
(31) لمزيد من التفاصيل: منصور الرفاعي عبد: المرأة (القاهرة – دراسات الإسلام – 178) النعماني القاضي – مرجع سابق ص 68 .
(32) د. أحمد شلبي: الإسلام مرجع سابق ص 170 ومابعدها.
(33) د. أحمد الحوفي: القرآن والتفكير (القاهرة – المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية دراسات في الإسلام – 1975) ص 9، 10.
(34) توفيق محمد سبع: مرجع سابق: ص 39-42 وراجع).
(35) د. أحمد شلبي: الإسلام (مرجع سابق) ص 112.
(36) سورة لقمان آية 20.
(37) Sir. M. Iqbal: The reconstruction of religious Bx x Wlh in Islam (Lahore, Ashraff 54) p.15,16.
(38) الشيخ محمد متولي الشعراوي: الله والكون: مرجع سابق ص64-96.
(39) الشيخ محمد الغزالي: مع الله (مرجع سابق ص 309).
* * *(/3)
الإسلام شريعة الأمل العالمي
(1/2)
بقلم : الأستاذ إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي
تناولنا كيف جاء الإسلام بشريعة شَملت الوجود الإنساني كله ، ففيها المرونة والحكمة مايُسَاير الوجود الإنساني في كل زمان ومكان وإن لم يضع نظامًا للدولة ولم يأخذ بنظرية للحكم ، إلا أن الادارة التي قامت عليها الجماعة الإسلامية الأولى ، ثم ما جاءت به الشريعة من مبادئ السلوك وقواعد المعاملات والعلاقات الاجتماعية والشورى.. كل ذلك أدى إلى أن يكون الإسلام شريعة الوجود في كل زمان ومكان .
ولقد وضع الإسلام من القواعد ماتستقيم به الحياة على أي نمط سَوي لايبغي من ذلك غير خير الحياة وخير الإنسان ، وأول ما نستشفه من تلك القواعد صفاء جوهرها وصدقها وأنها تبقي توقير الحياة وإعلاء الكرامة الإنسانية وأنها أوفت لهما على الذروة من خلال الحق وتقديس الحياة(1). ثم إن الإسلام وضع قواعد لاتتصادم مع نواميس الكون ولا مع نظام الحياة ولامع نظرة الناس وهذا ماسنراه الآن من خلال هذا الفصل .
أولاً : حقوق الإنسان في الإسلام :
الإسلام ينظر إلى حقوق الإنسان على أنها ضرورات لاستمرار الجوهر النقي للإنسان ، وسبق الإسلام النظم الوضعية التي لم تدرك جوهر حقوق الإنسان إلا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948 بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(2).
وإذا كانت الحقوق الإنسانية في الإسلام ضرورة فهي ضرورة فطرية للإنسان من حيث هو إنسان وإسلامنا هو دين الفطرة التي فطرنا الله عليها فمن الطبيعي أن يكون الكافل لتحقيق هذه الحقوق(3).
بل أن الإسلام يُقَدس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي نراها الأساس الذي يستحيل قيام الدين بدون توفرها للإنسان ، فعليها يتوقف الإيمان ومن ثم التدين بالدين والتمسك بالإسلام .
ومن هذه الحقوق التي يقدسها الإسلام :
1- ضمان الحياة وكرامة البشر : فلقد أعلى الإسلام من شأن الحياة وكرامة البشر. وذلك بأن تقوم السياسة على أسس ثابتة عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهما أسس تَرقَى إلى درجة الالتزام، وإن لم يُشر الإسلام إلى نوع من التنظيم السياسي أو الإداري الذي تقوم عليه ، فلأنه لم يشأ أن يُلزم الناس بنظام ثابت لايجوز مخالفته حتى لايكون حجة من بعد(4)، فالنظم تتغير وفقًا للزمان والمكان ، أما الروح التي تحكم هذه النظم فهي الباقية وهي المُلزمة وهي الروح التي يقوم عليها الفلسفات السياسية في كل العصور على اختلاف تنظيماتها ، إذ لايختلف عليها إنسان لأنها تنشد خير الإنسان وصالح الجماعة الإنسانية .
وكرامة الإنسان في الإسلام من كرامة الإسلام ذاته فلا يمكن أن يحتقر إنسان مسلم ولا أن يُهَان ، فالكرامة كرامة إنسانية عامة(5).
2- حرية الارادة : الإسلام يعترف بحرية كل فرد وبالتالي يعتبره مسؤولاً شخصيًا عن أفعاله كما قال تعالى ?وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْراى?(6) ، فليس هناك إلا حرية واحدة تُهَيمن على حرياتنا وهي حرية الله المطلقة ، بيد أن الله قد نظم العالم طبقًا لقوانين ربانية قادرة على فهم الإنسان(7).
وتختلف الارادة الحُرة في الإسلام عنها في الفكر الغربي والشرقي ، فيذهب الفكر الإسلامي إلى تقرير المسؤولية تبعًا للارادة الحرة والإدراك الكامل لعلاقة الإنسان بالكون وهي علاقة أزلية غير خاضعة للزمان والمكان ، والإرادة الإنسانية حرة ، والإنسان مسيطر مطلق في نطاق وجوده المحدود(8). وقد زانه الله بالعقل ?بَلِ الإِنْسَانُ عَلى نَفْسِه بَصِيْرَةٌ وَّلَوْ أَلْقاى مَعَاذِيْرَه? القيامة آية 14، 15.
وخلاصة القول بأن الحرية في الإسلام هي "ضرورة إنسانية واجبة" وفريضة إلهية بغيرها لن تتحقق حياة الإنسان كإنسان وهي واجبة لتحقيق وصيانة الحياة التي هي واجبة . كما أنها فريضة إلهية وتكليف واجب على الإنسان يستلزم حريته واختياره(9).
3- المساواة والعدالة : لايقف الإسلام ضد التقدير الاجتماعي ، ولم يُعْرف عنه أنه اتخذ جانب السلطة ضد الفقراء والكادحين ؛ بل كان عونًا لهم على حقوقهم فأنصفهم قبل أن يَنْصفوا أنفسهم ومن القضاء من وقف في الحق لضعيف ضد الخليفة نفسه، وأنكر الإسلام الطبقية حين نبذ القبلية والعنصرية والتفاخر بالأنساب والأحساب والجاه وسعة الرزق ، والإسلام لم يُنْكر التفاوت في المآثر وفي التمييز العقلي والخلقي ؛ ولكنه سَوىَّ بين الناس جميعًا في إخوة إسلامية جامعة ، ونَبَذَ القبلية والشعوبية ونادى بالدولة العالمية التي تَسود فيها شريعة الحق وقوض تراكم رأس المال والملكية الخاصة بما قرره من أحكامها وسدد ضربة قاضية للرق ، فلم يكن من اليسير في عالم تغلغل الاسترقاق في كيانه تحرير الارقاء تحريرًا كاملاً ؛ ولكن الإسلام وضع السُنَنْ لتحرير الرقيق والقضاء على تلك العادة المرزولة(10).(/1)
وأيضًا جاء الإسلام وأعلن المساواة التامة بين البشر، وحرر الكادحين من ظلم المستغلين، وقضى على الفروق الطبقية والتمايز العنصري والديني، وجعل الناس سواء أمام القانون وأمام شريعته وعلى درجة عظيمة من المرونة والبساطة والقدرة على التطور تبعًا لتطور الحضارة وتقدمها .
وينظر الإسلام إلى وحدة الوجود الإنساني بصفتها مجتمعًا إنسانيًا واحدًا تسوده المساواة والعدالة ، كما تسوده وحدة الضمير ووحدة الأخلاق ولايكتمل هذا المعنى في أي رسالة وأيضًا جاء الإسلام وأعلن المساواة التامة بين البشر، وحرر الكادحين من ظلم المستغلين وقضى على الفروق الطبقية والتمايز العنصري والديني، وجعل الناس سواء أمام القانون وأمام شريعته وعلى درجة عظيمة من المرونة والبساطة والقدرة على التطور تبعًا لتطور الحضارة وتقدمها .
وينظر الإسلام إلى وحدة الوجود الإنساني بصفتها مجتمعًا إنسانيًا واحدًا تسوده المساواة والعدالة ، كما تسوده وحدة الضمير ووحدة الاخلاق، ولايكتمل هذا المعنى في أي رسالة سماوية كما اكتمل في الإسلام. ولدينا في التاريخ الإسلامي آلاف الآلاف من المواقف التي نبذ فيها أي إخلال بمبدأ المساواة والعدالة، فظلت أُسس راسخة من دعائم المجتمع الإسلامي بل أصبحت العدالة على أغلب الكتاب القيمة العليا في المجتمع الإسلامي التي تَخْرُج منها القيم الأخرى كافة(11).
ومما سبق يتضح أن الإسلام جَبَّ بمبدأ المساواة أي تمايزه يمكن أن يدعيه الإنسان على الإنسان إلا في التقوى ، أما الإخاء الإسلامي فهو أكثر إتصالاً بما تعنية وحدة الوجود الإنساني ، فالإخاء الإنساني لايقف بمدلولة ضد الحدود المألوفة للمعنى الدارج من حيث التكامل والتعاون بين الناس على السواء ؛ ولكنه يتخطاه إلى المعنى الرحب الفسيح في الإخوة البشرية على المستوى الإنساني العام(12).
والظُلم في الإسلام رزيلة اجتماعية كبيرة تفوق في آثارها الممتدة الكثيرَ من الفواحش ، كما أن حدود العدل الإسلامي لايقف بها الإسلام عند القانون وإنما هو شامل للحياة المادية والاجتماعية، والعدل كضرورة إنسانية واجبة على كل مسلم ، كما أن العدل الاجتماعي واجب وفريضة وليس مجرد حق من الحقوق(13).
4- التوازن بين المصلحة الخاصة والعامة : بعض النظم السياسية تعطي الفرد من الحريات ما يطغى به على مصلحة المجموع ، وبعضها يعطي المجموع مايطغى به على النشاط الفردي . ولكن الإسلام يعطي الفرد حقه والجماعة حقوقها، وينسق بينهما خير تنسيق. وهو بهذا يكفل جميع أنواع الحريات في تنظيم دقيق يشمل حرية المُلك والعقيدة والمسكن والنقل..(14) الخ.
كما أن الإسلام يخاطب الناس كافة ?يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ ، الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَاءً وَّأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ? (البقرة الآيات 21-22) وواضح حرص القرآن على مخاطبة الناس جميعًا ويذكرهم بنعمة الله الأساسية خصوصًا، وأن هذه النعم مشاع بين الناس جميعًا، فلا يجب أن يستأثر بها ويحتكرها أفراد لأنفسهم ويحرمون الآخرين فكيونون ظالمين طاغين مُبَدلين للأوضاع العادلة التي أرادها الله للناس جميعًا(15).
والإسلام يدعو للمواءمة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ، فالأصل المصلحة الخاصة بشرط الابتعاد عن ثلاثة ترمز للضرورة : الماء والكلأ والنار وهي مشاع بين جميع الناس ومثلها أي حاجات ضرورية . ومن هنا فإن المصلحة الخاصة التي لاتختلف مع المصلحة العامة ضرورة مقدسة للإنسان وحق من حقوقه بدون غبن المصلحة العامة أو إنتقاص حقوق الآخرين(16).
5- حقوق أخرى(17) باختصار شديد:
الشورى : وفيها الأمة وبهامصدر السلطات في الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران والشورى فلسفة الحكم الإسلامي ومنهج سياسة الرعية وطريق السلوك السوى للفرد والأسرة والمجتمع وهي فريضة الهية وضرورية شرعية .
القصاص: من قتل نفسًا فكمن قتل الأنفسَ جميعًا، وأصبح على الجماعة الإسلامية أن تقتص للقتيل، وتوقع العقاب على القاتل. وما من دم يذهب هدرًا في الإسلام والقصاص يؤدي إلى توفير الحياة البشرية وأصون للنظام الإجتماعي .
الحرية الدينية : لايُكْرَه أهل الديانات أو المشركون على الدخول في الإسلام فلا إكراه في الدين . وهذه حرية ليست مباحة أو متاحة في أي عقيدة أخرى .
الحرية الفكرية : دعا الإسلام إلى التفكير في كل شيء حتى في خلق السموات والأرض والإنسان. وذلك من منطلق أن العقل خاصة الإنسان وامتيازه وشرفه ولان التفكير فطرة الإنسان وعمل العقل ورسالته .
إلى غيرها من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان في ظل الإسلام .
ثانيًا : الاقتصاد الإسلامي :
أعطى الإسلام للإنسان جميع الحقوق الاقتصادية منها حق العمل وحق الكسب والسعي في الحياة وحق التملك وغيرها من الحقوق .(/2)
وينبع النظام الاقتصادي في الإسلام من ارتباطه الوثيق بالفلسفة الفكرية والاجتماعية الإسلامية ، وهي فلسفة – كما أسلفنا ، تقوم على أساس الاستجابة للفطرة الإنسانية ، مع تهذيبها والاتجاه بها إلى الاعتدال ، فبينما تقوم المجتمعات الرأسمالية على أساس أن الفرد كائن مقدس لايجوز للمجتمع أن يمس حريته ، ولهذا تُبَاح فيها الملكيات الفردية بلا حدود ، وبينما تقوم المجتمعات الشيوعية على أساس أن المجتمع هو الأصل ولاكيان للفرد وحده ولهذا تضع الملكية في يد الدولة ممثلة المجتمع وتحرم منها الأفراد(18)؛ ولكن الإسلام يرى الإنسان ذا صفتين في نفس الوقت ، صفة كفرد مستقل وكعضو في الجماعة والإسلام لايفصل بين الصفتين ولايجعلهما نقيضين وإنما يوازن بين النزعتين ، النزعة الفردية والنزعة الجماعية دون أن تَجور إحداهما على الأخرى ، كما يوازي بين مصالح كل فرد وغيره من الأفراد الذين يكونون المجتمع .
ومن ثم فان إقتصاديات الإسلام تمثل هذه النظرية المتوازنة المعتدلة التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية وتلتقي بأفضل مافي النظامين دون الوقوع في إنحرافاتها فهي تُبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ؛ ولكنها تضع لها الحدود التي يمتنع بها الضرر وتبيح للمجتمع أو ممثله أن يسترد هذه الملكية أو يُعَدلها أو يُحَددها كلما حقق ذلك مصلحة المجتمع(19).
ولهذا فإن الإسلام لايضيق بالملكية الفردية مادام يملك إلغاءها أو تعديلها في وقت الحاجة إلى ذلك ، ولهذا أيضًا فان وجود الملكية الفردية مع وجود حق الدولة في السيطرة عليها خير من إلغائها بتاتًا لأن الإلغاء يتصادم مع فطرة الإنسان. ومن ثم فاباحتها وإناطة تحديدها لحكم الظروف المحققة للمصلحة العامة لهو خير للفرد والمجتمع على سواء . ولهذا فان الملكية الفردية لايمكن أن تؤدي إلى الرأسمالية أو الإقطاع في الإسلام وهذا سر روعة النظام الاقتصادي الإسلامي(20).
ومما يمتاز به الاقتصاد الإسلامي أن الرؤية الإسلامية تنظر إلى النشاط العمراني في كل ميدان من الميادين على أنها وحدة ومنفعة للإنسانية في ميدان الزراعة وفلاحة الأرض والتصنيع والتجارة واستثمار الأموال ورسم المنهج السديد ليسير الناس عليه . وهو العمل الدائب في سائر مجالات الحياة ، فليس من هدي الإسلام أن يتواني الإنسان ويكسل ولايسعى ولايعمل وهو قادر على السعي والعمل ثم يَزْعُم أنه مُنْقَطع للعبادة(21) ولذلك فلا رهبانية في الإسلام لأن العمل والكدح هما في الإسلام عبادة لاتقل عما سواها من العبادات ، ولأن الإسلام دين الفطرة والطبيعة ، والاتجاه للرهبنة والتبتل يُعَطل مامنحه الله للإنسان من قوي التفكير والإرادة والعمل(22). كما يُبْقى ذلك أسرار الكون ومنافحه كامنة ، وقد سخرها الله جميعًا للإنسان وسلطه عليها ومهد له الطريق لإظهار عمارة الكون ?وَقُلِ اعْمَلُوْا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوْلُه وَالْمُؤْمِنُوْنَ? التوبة آية 105، ?وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاَّ مَاسَعى? النجم 39.
كما أن الدنيا في التصور الإسلامي الصحيح مزرعة للآخرة ، فلا تصلح آخرة امرء إلا إذا صحت دنياه ، وسَنُحاسب في الآخرة على التفريط في إصلاح الدنيا . فالعمل الطيب في الدنيا وسيلة لصلاح حياة صاحبه في الآخرة كما هو وسيلة لصلاح دنياه(23).
كما اهتم الإسلام بالناحية المادية لدى المسلم كاهتمامه بالناحية الروحية ، فداعانا الإسلام إلى الاهتمام بزينتنا، ?يَابَنِيْ آدَمَ خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَّكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَتُسْرِفُوْا إِنَّه لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ، قلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِيْ أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? الاعراف 31-32. كما قال تعالى ?كُلُوْا مِنَ طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ? البقرة 57، وذلك ينبع من طبيعة الحياة الدنيا لأنها دار جمال وزينة ومتاع بكل طيب مع إمتزاج متاعها بشيء قليل من أسباب الألم والخوف والجوع لتكون في وضعها الذي أراده الله دارًا للابتلاء والاختبار وبهذا يجمع بين الأجسام والأرواح ، والدنيا والآخرة والماديات والمعنويات ، وبهذا يظل الإسلام أكمل دين يَصْلُح للإنسانية جمعاء ويواءم بين جميع الظروف والبيئات المختلفة ويساير طبيعة الإنسان(24).
كما طلب الإسلام من الناس ألا يقعوا تحت تأثير المال لأن المال مجرد وسيلة للحياة وليس هدف وغاية منها وإنه زينة للحياة الدنيا ويمكن أن يكون وسيلة لرفاهية المجتمع كله ، فصاحب رأس المال مُوكْل من قبل الحق عز وجل لادارة هذا المال ولذا عليه أن يقوم بسداد حاجة المجتمع من هذا المال عن طريق الزكاة كفريضة وغيرها من الصدقات .(/3)
ولقد نبع الموقف الاقتصادي للاسلام من أن القرآن قد قرر مايعرفه الله من طبيعة الانسان ومن تسلط الشهوات عليه ومن حبه للمال ومباهاته به وحرصه على جمعه وكرهاً للإنفاق منه . وأمر الإسلام بنظام كامل للمواريث حتى لاتُهْضَم حقوق جميع الأهل والعائلة والأسرة ، كما حرم الربا تحريمًا قاطعًا وهذا الحكم كاف لإقامة نظام إقتصادي قائم بذاته .
ورغم كل ذلك فان النظام الاقتصادي الإسلامي يشمل أُسس ثابتة راسخة نحو المجتمع المستقر والمتقدم دائمًا ، وهذه الأسس ثابتة ولكن هناك متغيرات كثيرة قابلة للتطور طبقًا لمتغيرات الإنسان في كل زمان ومكان في نطاق الأسس الاقتصادية الإسلامية .
* * *
الهوامش :
(1) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 95-96.
(2) راجع: محمد عبد الشافي اللبان : حقوق الإنسان المعاصر (القاهرة – هيئة الاستعلامات – بدون).
(3) د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان (الكويت – عالم المعرفة – العدد 89 ، مايو 85) ص 7 .
(4) د/ حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 99.
(5) ويرى د. عبد الله شحاته في كتابه علوم الدين الإسلامي "أن الإسلام جاء والكرامة الإنسانية وقف على طبقات معينة وعلى بيوت خاصة وعلى مقامات معروفة ، أما الجماهير فلا وزن لها ولاقيمة فقال الإسلام كلمته المدوية أن كرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته لأن أي عرض آخر كالجنس أو اللون أو الطبقة أو الثروة أو المنصب أوغيرها من تلك الأغراض الزائلة والحقوق الأصلية للإنسان مستمدة من تلك الإنسانية . ولقد كرم الله الإنسان فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وميزه بالعقل وبالفكر والارادة، والاختيار فقال تعالى ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيْ آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِيْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً? الاسراء آية 70 ص 273-274.
(6) الانعام آية 164.
(7) د. محمد عزيز الجبالي : الشخصانية الإسلامية (القاهرة – دار المعارف – 83) ص 133.
(8) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 314-315.
(9) راجع في ذلك د. محمد عمارة: مرجع سابق ص 18-30.
(10) د. حسين فوزي النجار: مرجع سابق ص 289-290.
(11) راجع د. حامد ربيع: نظرية القيم السياسية (نهضة الشرق – القاهرة – 73) ص 101 .
(12) د. حسين فوزي النجار: مرجع سباق ص 93-95 .
(13) رادع في ذلك د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان: مرجع سابق ص 55-68 .
(14) محمد الغزالي: مع الله : دراسات في الدعوة والدعاة: (القاهرة – دار الكتب الإسلامية – 85) ص 312.
(15) عبد المنعم خلاف : مرجع سابق ص 28 .
(16) راجع: العقاد: الإنسان في القرآن (القاهرة – دار الاسلام – 73) ص 119.
(17) راجع في ذلك : د. محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان (مرجع سابق).
أنور الجندي: أحاديث إلى الشباب في ضوء الإسلام (سلسلة دراسات في الاسلام – العدد 165-174)، ذكريا البري: حقوق الإنسان في الإسلام (بدون – القاهرة – المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية)، د. رؤوف شلبي دبلوماسية الدعوة الإسلامية (القاهرة – المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية – فبراير 86)، د. عبد الغني عبود: الإنسان ، وفي الإسلام والإنسان المعاصر (القاهرة – دار الفكر العربي – 78)
(18) راجع في ذلك : فتحي رضوان: الإسلام والمذاهب الحديثة (القاهرة – سلسلة اقرأ – العدد 415) .
(19) د/ النعمان عبد المجيد القاضي: الإسلام عقيدة وحياة (مرجع سابق ص 90-91).
(20) المرجع السابق ص 81-85.
(21) د. عبد الرحمن النجار: كلمات على طريق الإيمان : مرجع سابق ص 33-35.
(22) د. أحمد شلبي: الإسلام: مرجع سابق ص 138-139.
(23) لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع راجع: عبد المنعم خلاف: المادية الإسلامية: مرجع سابق ص 16-18، د. عبد الهادي النجار: الإسلام والاقتصاد – الكويت – سلسلة عالم المعرفة – عدد 63)، منى رضوان: الإسلام والمذاهب الحديثة – مرجع سابق .
(24) محمد الغزالي : مع الله : مرجع سابق ص 311.
* * *(/4)
الإسلام في الأندلس.. إشكالية التاريخ والحضارة
د. عدنان هاشم الموسوي
امتطى ابو عبدالله الصغير صهوة فرسه مولياً ظهره لقصر الحمراء الشهير في يوم بارد من ايام كانون الثاني 1492م. علت وجه أبي عبدالله سحابة كثيرة من الحزن وخيم على الركب الصغير صمت طويل ينبئ عما يكتنف قلوب هذا الركب من غم شديد. سار ابو عبدالله تتبعه امه وبعض من اهله وصحبه في ذلك الطريق الملتوي الطويل الذي يمر بين شعاب غرناطه وجبالها متجهاً إلى منفاه ليفارق غرناطة إلى الابد.
كانت الشمس قد آذنت بالغروب واخذت تعكس باشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء لتكسي حجارته بصبغة حمراء باهتة فتضفي عليه سحراً وجاذبية.
توقف أبو عبدالله قليلاً عند تلة صغيرة تُشرف على وادي غرناطة المكتظ ببيوته البيضاء ليلقي نظرة وداع اخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير.. تسارعت في ذهن أبي عبدالله ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة هذا القصر وفي حدائقه الفناء الواسعة كان ابو عبدالله يعرف ان تلك الوقفة سوف تكون الاخيرة وان تلك النظرة ستكون النهائية اذ ليس يأمل ابداً بأن يرى مدينته المحبوبة ثانية، تمنى ابو عبدالله لو تطول تلك الوقفة لعله يستطيع ان يملأ عينيه بتلك المناظر الساحرة التي تثير في نفسه ذكريات الصبا، إلاّ ان الحزن الذي يعتصر قلبه سرعان ما استحوذ على عينيه وإذا بهما تنهمران دمعاً ساخناً حاول جاهداً ان يخفيه عن نظرات امه الحادة التي عاجلته بلسانها الذرب.
إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
نسيت عائشة الام انها كانت سبباً هاماً لسقوط غرناطة اخر معقل للاسلام في الديار الأندلسية بسبب غيرتها وتسلطها على ولدها أبي عبدالله واحابيل مكرها التي كانت تنسج شباكه في غرف القصر وصالاته.
وهكذا غادر ابو عبدالله آخر سلاطين بني الاحمر غرناطة تاركاً اهلها المسلمين لرحمة الاسبان الذين لم تعرف الرحمة يوماً إلى قلوبهم سبيلاً، ولتبدأ مرحلة بائسة طويلة مليئة بالاحزان والدموع، متسربلة بالدماء.. وليسدل الستار اخيراً على الاسلام في الأندلس بعد بضعة قرون من السنين.
كان رحيل أبي عبدالله آخر ملوك بني الاحمر بداية النهاية للحكم الاسلامي في تلك البقاع كما سنرى.
فتح الأندلس
كانت شبه الجزيرة الايبرية (إسبانيا) تحت حكم الملوك القوط الذين هاجروا اليها من داخل اوروبا وقد عانى الاسبان كثيرا من ظلمهم وسوء ادارتهم وقد كانوا يتحينون الفرص للتخلص منهم.
حانت الفرصة عندما جاء ملك القوط لذريق إلى الحكم بعد ان اغتصب الحكم من الملك الشرعي واغتياله. فقد طلب بعض الاسبان النجدة من موسى بن نصير الذي أرسل قائداً شاباً مع جيش صغير من المسلمين. كان هذا القائد هو طارق بن زياد الذي وطأت اقدامه هو وجيشه ارض الأندلس في شهر رجب 92 هـ (711م) عند المضيق المسمى باسمه لهذا اليوم (جبل طارق).
استطاع المسلمون من هزيمة لذريق وقتله وتشتيت جيشه بصورة تامة وبهذا بدأ الفتح الاسلامي لهذه البلاد وبدأ حقبة جديدة في تاريخ إسبانيا. لقد قابل الاسبان دخول الجيش الاسلامي بارتياح وترحيب ظاهرين اذ هم لاقوا الامرين من ظلم وتعسف ملوك القوط السابقين.. ولم تمض فترة قصيرة إلاّ وكان المسلمون يسيطرون على معظم البلاد الاسبانية واخترقوا جبال البايرينز إلى جنوب فرنسا إلاّ انهم خسروا معركة بلاط الشهداء مع شارل مارتل ملك الافرنج وبهذا توقف الزحف الاسلامي إلى قلب اوروبا بسبب فتنة عمياء لاقتسام الغنائم بين العرب والبربر حيث قتل في تلك المعركة القائد المسلم عبدالرحمن الغافقي عندما اضطرب الجيش الاسلامي وتقهقر امام ضربات الافرنج الذين استعادوا الهجوم واستغلوا الفرصة احسن استغلال.
لم تكن سيطرة المسلمين على إسبانيا كاملة تماماً اذ بقيت جيوب صغيرة للاسبان في الشمال والشمال الغربي في المناطق الجبلية الوعرة كانوا ينفذون منها للهجوم والتخريب. لم يدر في خلد المسلمين الفاتحين ان هذه الجيوب الصغيرة سوف تكون نواة لممالك الاسبان مستقبلاً لينطلقوا منها في التهام ممالك الاسلام في إسبانيا الواحدة تلو الاخرى عندما ضعف المسلمون ولم يكن طموح الاسبان لينتهي إلاّ بطرد المسلمين بصورة نهائية كما سوف نرى.
على مرّ السنين دخل الكثير من الاسبان في الإسلام وكثر التزاوج بين الفاتحين والاسبان بحيث نشأ جيل كبير من المولودين الذين يحملون في عروقهم دماء اسبانية اضافة إلى الدماء العربية والبربرية وقد ارتقى الكثير منهم في مناصب الدولة العالية مثل ابن حزم الأندلسي الذي اعتنق جده الإسلام.(/1)
لقد نشأت تركيبة اجتماعية وعرقية خاصة في الأندلس كانت سبباً في نشوء الفتن والاضطرابات التي كانت تؤججها سوء الادارة احيانا. فكان هناك العرب والبربر والاسبان، والعرب انقسموا بدورهم إلى قيسية ويمانية مع ما رافقها من فتن كبيرة وكان هناك البربر والتنافس التقليدين بينهم وبين العرب وكان الاسبان بقسميهم المسلم والمسيحي اضافة إلى المهجنين.
كانت هذه التركيبة العرقية والاجتماعية نواة فيما بعد لممالك الطوائف المتناصرة والتي انتهت بفنائها جميعاً كما سنرى خلال البحث.
الحكم الأموي المباشر في الأندلس
دخلت الأندلس المرحلة الثانية من تاريخها السياسي عندما فوّضت اركان الخلافة على بني امية في دمشق حيث هزم اخر خلفائهم مروان بن محمد أمام جيوش العباسيين في معركة الزاب سنة132 هـ.
وولى هائماً على وجهه وكأن الارض لا تسع لهربه بما وسعت ليلقى حتفه على يد العباسيين ولتبدأ مرحلة دموية كان الامويون وقودها حيث أذاق بنو العباس الامويين حر الحديد وبأس السيف وجرعوهم مرارة الذل والهوان وشردوهم وراء كل حجر ومدر.. نجا من تلك المذابح شاب اموي اسمه عبدالرحمن استطاع عبور الفرات وهرب إلى شمال افريقيا، وبمساعدة اخواله البربر استطاع العبور إلى الأندلس. استطاع عبدالرحمن الملقب (الداخل) من تأليف القبائل اليمانية التي كانت ناقمة على هيمنة القبائل القيسية وبمساعدة البربر استطاع ان يخضع الأندلس لسيطرته وان يبايعوه أهل الأندلس اميراً عليها سنة 138 هـ (755م). حاول الخليفة ابو جعفر المنصور عبثاً اخضاع عبدالرحمن الداخل حيث استطاع عبدالرحمن هذا (الذي لقبه المنصور بلقب صقر قريش، ان يهزم جيش المنصور وأن يبرد برؤوس قادة الجيش إلى المنصور لتصله إلى مكة اثناء موسم الحج).
اتخذ عبدالرحمن قرطبة عاصمة له وبدأ ببناء وتوسعة مسجدها الشهير فدخلت قرطبة مرحلة مزدهرة اصبحت معها فيما بعد محط الانظار ومهد الحضارة.
استمرت السلالة الاموية في حكم الأندلس حيث بلغت اوج حكمها في زمن عبدالرحمن الثالث الذي دام حكمه لأكثر من خمسين عاماً وامتد سلطانه إلى شمال افريقيا وليقهر الاسبان وليجعل من إسبانيا قبلة الامصار وعروس اوروبا. إليها تشدّ الرحال لطلب العلم والادب والفنون وحتى صارت اللغة العربية هي لغة العلم حتى في اوروبا.
بدأ حكم عبدالرحمن الثالث في سنة 300 هـ وانتهى عام 350 هـ واستطاع ان يخلع على نفسه لقب أمير المؤمنين وسمى نفسه الناصر لدين الله وبهذا اصبحت دار الاسلام يحكمها ثلاثة خلفاء (الاموي والعباسي والفاطمي)
في آن واحد.
وقد توسعت قرطبة في عصره ليبلغ عدد سكانها النصف مليون تقريباً، وقد بدأ الناصر ببناء مدينة الزهراء التي استمر بناؤها 17 عاما ليجعلها مدينته المفضلة وهي تبعد عن قرطبة عدة اميال ولكن لم يمهل الزمن مدينة الزهراء هذه طويلا اذ قد دمرت بعد خمسين سنة تقريباً في فتنة البربر الشهيرة.
توفي الخليفة الناصر سنة 350 هـ فخلفه ولده الحكم الثاني الذي حكم لغاية سنة 366 هـ والذي اشتهر بحبه للعدل والعلم والحكمة. وقد بلغت جامعة قرطبة في عصره منزلة علمية عالية جعلتها في مصاف جامعة الازهر في القاهرة والمدرسة النظامية في بغداد.
لما حضرت الحكم الوفاة نظر وهو على فراش الموت إلى ولده الصغيرة نظرة اسى وحزن وكأنه علم بما سيكتنف ارض الأندلس من فتن مضطربة بعده، كان ولده لا يجاوز احد عشر عاماً فأوصى له بالخلافة ولقبه (هشام الثاني) وجعل عليه وصياً وزيره الحاجب محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور والذي لم يكن عند حسن ظن سيده، اذ سرعان ما استحوذ على كل مراكز القوى وتخلص من منافسيه الواحد تلو الاخر بالقتل والاغتيال وقلص من نفوذ هشام الثاني الذي جعله لا يغادر القصر وصيّره خليفة بغير سلطان.
جمع المنصور هذا قدرة ادارية كبيرة وكفائة عسكرية عالية يخالطها الكثير من الحنكة السياسية وميل إلى البطش والتنكيل.. خاض المنصور مع النصارى الاسبان عدة معارك اثبت فيها نفسه شبحاً مرعباً للاسبان تتحدث به كتبهم لحد الآن وفي احدى المعارك استولى على كنيسة سنتياغو وجعل الاسرى الاسبان يحملون الاجراس على ظهورهم لمسافة 400 ميلاً إلى قرطبة..
وبموت الحاجب المنصور سنة 1002م بدأ الهبوط السريع لحكم الاسلام في الأندلس فلم يمض إلاّ وقت قصير حتى اندلعت فتنة البربر الذين دمروا مدينة الزهراء رائعة المدن في الأندلس وتعاقب على الخلافة الاموية خلفاء ضعفاء لم يتركوا اثرا يذكر إلاّ شيئاً ادبيا خالداً ألا وهو غرام الشاعر ابن زيدون (بالولادة) بنت الخليفة المستكفي التي عافت حياة الحريم وكانت على درجة كبيرة من الادب والعلم فأغرم بها الشاعر ابن زيدون الذي انتهى امره معها بالفراق فخلدها بقصيدته الرائعة:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا *** وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جَوانحُنا *** شوقاً إليكم ولا جفت ماقينا(/2)
بالأمس كنا وما يخشى تفرقُنا *** والآن نحن وما يرجى تلاقينا
يا جنّة الخلد بدلنا بَسلسلِها *** و الكوثر العذب زقوماً وغسلينا
ملوك الطوائف
بعد الغاء الخلافة الاموية في قرطبة انفرط عقد دولة الأندلس الاسلامية وعادت الصراعات والاطماع القديمة إلى الظهور وانقسمت الدولة إلى عدد كبير من الممالك الصغيرة التي قد لا يتجاوز الواحدة منها مساحة المدينة الواحدة وما حواليها، وانحسرت عظمة قرطبة وصارت تابعة فيما بعد لسلطان اشبيلية التي ملكها بنو عاد.. كانت دويلات الطوائف هذه متحاربة فيما بينها لا يجمعها جامع من دين أو عصبية أو مصلحة مشتركة فكان من المستحيل على مثل هذه الدويلات الاتحاد ضد خطر الاسبان الزاحف من الشمال ولكن على الرغم من التفكك الاداري والعسكري الذي اصاب الأندلس فان هذه الفترة كانت من اخصب فترات الحضارة الاسلامية في تلك الربوع فقد ازدهر الادب والفن وترعرت الفلسفة ونشطت حركة الترجمة فلابد ان نذكر ان ابن رشد وابن طفيل وعبدالله بن ميمون والمعتمد بن عباد كانوا ابناء عصر الطوائف.. كان الكثير من ملوكها على قدر كبير من الادب والعلم كالشاعر بن عباد صاب اشبيلية والمظفر بن افطاس الذي الف كتاباً في التاريخ بخمسين جزءاً سماه كتاب المظفرى!
على ان ازدهار ممالك الطوائف لم يمنع سقوطها تجاه زحف الاسبان فكانت تلك الممالك كزهور الربيع الطرية التي هبت عليها الحصباء فصارت كالهشيم.
لقد تناسى اولئك الحكام المتصارعون التحذير القرآني (...ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...)(الأنفال:46) وغاب عنهم ان من نام لم ينم عنه فكان املهم الوحيد تجاه قوة الاسبان في الشمال (مملكة قشتالة) هو الاستعانة باخوانهم في الشمال الافريقي.
كانت قد نشأت في المغرب العربي دولة قوية ناشئة من البربر الذين اسلموا حديثاً وسموا انفسهم بالمرابطين وكان ملكهم يوسف بن تاشفين الذي عبر المضيق المائي الفاصل لنجدة اخوانّه في الأندلس والحق بالاسبان هزيمة منكرة في معركة زلاقة الشهيرة حيث لم يعد من جيش الاسبان البالغ 60 الفاً سوى بضع مئات لاذوا بالفرار مع ملكهم الفرنسو السادس. وتنفست ممالك الطوائف الصعداء ولو لفترة قصيرة.. كانت اشبيلية يحكمها المعتمد بن عباد الشاعر المشهور والذي دبّ الخلاف بينه وبين يوسف بن تاشفين فنفاه يوسف هذا إلى المغرب في مدينة اغمات التي مات فيها فقيراً مأسوراً.وقد رثى نفسه بقصيدة مؤثرة مطلعها..
فيما مضى كنتَ بالأيام مسرورا *** فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الاطمارِ عاريةً *** يطأن في الدين ما يملكن قطميرا
رجع يوسف بن تاشفين إلى الشمال الافريقي وتوفي هناك فدب النزاع بين سلالته وسلالة اخرى انشأت لها دولة سميت بدولة الموحدين والذين كانت لهم الغلبة اخيراً واشتهر من ملوكهم السلطان يعقوب ابو يوسف الذي عبر إلى الأندلس بعد ان سمع بالتهديد الاسباني الجديد لنصارى قشتالة فاشتبك مع الاسبان في معركة دامية (معركة الاركوس) حيث خسر الاسبان معظم جيشهم وقد حاصر ابو يعقوب مدينة طليطلة حصاراً طويلاً فخرجت ملكة الاسبان وبناتها إلى السلطان ترجو منه فك الحصار وقد تحرك قلب ابي يعقوب لهذه الجرأة وملئت قلبه الاريحية فأرجعها معززة مكرمة ومحملة بالهدايا والنفائس.. وكان السلطان يعقوب هذا هو الذي بنى المأذنة وبرج المراقبة المسمى الجيرالدا (Giraldo) والذي مازال يطل شامخاً في سماء اشبيلية. كان هذا السلطان يحترم العلماء والمفكرين وقد ضم بلاطه ابن رشد وابن طفيل وغيرهم من الاطباء ابن زهر وابن باجة.
عزم السلطان يعقوب على الرحيل إلى الشمال الافريقي حيث قرر مغادرة الأندلس تاركا طوائفها لقسوة القدر وفتك الاسبان الذين سرعان ما اعادوا تنظيم جيوشهم وزادوا من عدتهم وعديدهم بينما زاد التناحر والتحارب ممالك الطوائف ضعفاً على ضعف.. ولم يكن هناك عبر الساحل الافريقي ابو يوسف يعقوب ليهب لنجدتهم فأصبحوا امام مصيرهم المحتوم. الذين هم سارعوا في تقريب ساعته اذ لا يعدم ان يرى المستطلع لتاريخ هذه الفترة استعانة المسلمين بالاسبان على اخوانهم المسلمين وبالتالي صار الاسبان يضربون بعض هذه الممالك ببعضها حتى إذا ابادوا احدها التفتوا إلى الاخرى فتساقطت هذه الدويلات تباعاً فسقطت قرطبة وبلقيسة ومرسية وحوصرت اشبيلية لمدة 15 شهراً من قبل الاسبان وكان ممن اشترك في الحصار ابن الاحمر مؤسس دولة بني الاحمر في غرناطة وسيأتي ذلك اليوم الذي يلتهم الاسبان مملكته ولو بعد حين (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله)(فاطر:43) واخيراً فتحت اشبيلية ابوابها للاسبان فبدأت المجازر التي يعجز القلم عن وصفها ولم يستثنوا حتى الاطفال الرضع أو النساء أو الشيوخ.. وقد رثى الشعراء سقوط اشبيلية رثاء مبكياً كما في هذه الابيات للشاعر موسى بن هارون:
فكم اسارى غدت في القيد موثقةً *** تشكو من الذل اقداماً لها حُطما(/3)
وكم صريع رضيع ظل مختطفاً *** عن امه فهو بالامواج قد فُطِما
يدعو الوليد اباه وهو في شغل *** عن الجوابِ بدمع سال وانسجما
فكم ترى والهاً فيهم ووالهةً *** لا يرجع الطرف ان حاولته الكلما
في كل حين ترى صرعى مجدّلةً *** وآخرين اسارى خطبهم عظما
لابد ان نذكر هنا ان السقوط المتسارع لممالك الطوائف هو نتيجة لمعركة العقاب التي دارت رحاها في سنة 609 هـ (1212م) بين الاسبان ومن ساندهم من الصليبيين العائدين من ارض الشام بعد طردهم من قبل صلاح الدين، وبين جيش السلطان محمد بن يعقوب ابي يوسف الذي عبر إلى الأندلس لتأديب الاسبان إلاّ ان تعسفه وسوء ادارته ادت إلى انفضاض مسلمي الأندلس عنه عند اول هجوم للاسبان في تلك المعركة فمنهم من هرب ومنهم من انضم إلى الاسبان.
وكانت هزيمة ساحقة للمسلمين كما واصبحت بالتالي بداية النهاية لدويلات الطوائف كما ذكرناه آنفاً.. ومرة اخرى تناسى المسلمون تعليم قرآنهم فكانت النتيجة وبالاً عليهم.
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار * ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير)(الأنفال:15-16).
مملكة غرناطة وسلالة بني الاحمر
في تلك المرحلة الدامية العصيبة التي مرت بها دويلات الطوائف ظهر متنافسان قويان رئيسيان هما محمد بن الأحمر وابن هود وكان قد بلغ العداء بينهما على اشده بحيث استعان ابن الاحمر على خصمه بالاسبان وتنازل ابن هود بدوره عن ثلاثين من قلاع المسلمين للاسبان رغبة في مساندة الاسبان له ضد ابن الاحمر. كان حظ ابن هود اقل من حظ خصمه اذ استطاع ان يهزمه الاسبان ويموت اخيراً بالسم بينما استطاع ابن الاحمر هذا الذي اشترك في حصار اشبيلية كما ذكرنا، من بسط سلطانه ودعمه في جنوب الأندلس فاستولى على غرناطة عاصمة لملكه، التي قد تضخم عدد سكانها فبلغوا 200 الفا بسبب نزح الهاربين اليها من مجازر الاسبان وكانت تقع في موقع حصين في واد فسيح تحيد به الجبال وتتوفر فيها المياه العذبة وبسبب جهود الغرناطيين وخبرتهم تحول ذلك الوادي إلى حدائق غنّاء تنتج الغذاء الوفير مما جعلها موضع حسد من قبل النصارى الاسبان يتحينون الفرص للايقاع بها وابتلاعها كما سنرى فيما بعد. كان اسلاف ابن الاحمر ينتمون إلى سلالة بني نصر وهم من الانصار من الخزرج بالذات وكان اسلافه ممن خدموا السلالة الاموية في غرناطة وابلوا بلاء حسناً في الحروب.. بدأ محمد بن الاحمر ببناء قصره الحمراء على قمة تل كان موقعاً لحامية عسكرية مسلمة (القصبة) فجلب إلى هذا الموقع المياه بواسطة قنوات عميقة داخل الارض من الجبال المحيطة واتسع البناء ليستطيع ضم 000/40 الفاً وقد تعاقب سلاطين بني الاحمر على عمارة قصر الحمراء وتوسعته والعناية بحدائقه البهيجة حتى صار اعجوبة في الفن المعماري لهذا اليوم اصبحت غرناطة اخر معقل للاسلام في الأندلس وازدهرت فيها العلوم والفنون والاداب والفلسفة وكان سلاطينها يشجعون هذه النهضة ويرعونها ويجودون عليها بالغالي والنفيس.. وازدهرت الزراعة عبر موانئها الجنوبية الواقعة على البحر الابيض المتوسط ففيها عاش لسان الدين بن الخطيب وقضى ابن خلدون بعض الوقت من عمره في بلاط بني الاحمر.. واستطاعت غرناطة ان تصمد لقرنين آخرين من الزمان حتى سقوطها سنة 1492م.
سقوط غرناطة
ان صمود غرناطة لهذا الزمن الطويل يرجع لعدة اسباب منها منعة غرناطة وحنكة سلاطين بني الاحمر السياسية وصراعات الاسبان الداخلية.
كانت ممالك الاسبان الرئيسية هي قشتالة والاراكون (وليون التي ضمت إلى الاراكون) انّه لمن سوء طالع غرناطة ان يتم التصالح بين قشتالة والاراكون بزواج ملكة قشتالة ايزابيلا من ملك الاراكون فرديناند وبهذا توحدت ممالك الاسبان وبرزت إسبانيا المسيحية كدولة فتية قوية كان هدفاً مشتركا بينهما ان يقضي فرديناند وايزابيلا على غرناطة بصورة نهائية.. كانت ايزابيلا متعصبة لمسيحيها إلى حد الهوس وكانت ترى ان رسالتها ان تطهر ارض إسبانيا من الكفرة في نظرها وكان يساعدها على ذلك صرامة شديدة وقلب قاسي لا يلين. اما زوجها فرديناند فهو ضب لا يرى ضيراً ان يكتب عهداً بيمنيه لتنقضها شماله.
وبينما كان البلاط الاسباني سائراً في طريق الوحدة كان بلاط بني الاحمر مسرحاً للفتن والدسائس والمؤامرات التي ادت إلى ان يقتل بعضهم البعض.(/4)
اقترتب نهاية غرناطة عندما اعتلى السلطان علي ابو الحسن ابن الاحمر عرش غرناطة ـ كان ابو الحسن شجاعاً مقداماً ولكن يخالط شجاعته مزاج حاد وطبيعة نارية تبلغ درجة التهور والطيش غير عابي للعواقب ـ كان ابوه قد شخص ضعف غرناطة امام الاسبان فآثر السلامة ورضي ان يدفع لملك الاسبان ضريبة سنوية لارضائهم.. اما ابو الحسن هذا فعندما طولب بالضريبة. اجاب الاسبان ان ليس عنده إلاّ السيف واعقب كلامه بالفعل فهجم على حامية اسبانية قريبة واحتلها وطرد منها الاسبان.
وجد فرديناند وايزابيلا فرصتهم الذهبية لتحقيق حلم اسلافهم بالقضاء على هذا المعقل الحصين للاسلام.
وقد ساعدهم على ذلك حصول فتنة كبيرة في البلاط الملكي في غرناطة اذ ان ابا الحسن كان قد تزوج من ابنة عمه عائشة أو (فاطمة) التي ولدت له ابنه ابو عبدالله المقلب (الصغير) وكان لأبي الحسن زوجة اسبانية جميلة كانت المفضلة عنده حيث ولدت له طفلين واراد ان يجعل الملك لهما من بعده.. حدثت الفتنة داخل القصر بين أبي عبدالله الصغير مدفوعاً من امه عائشة وبين ابيه كان للاسبان يد فيها.. ويلف الغموض احداث هذه الفترة إلاّ ان المعروف ان ابا الحسن ترك غرناطة متجهاً إلى المرية عند اخيه الملقب (الزغال) لشجاعته وبأسه وهناك توفي ابو الحسن فاندلعت الفتنة بين الزغال وابن اخيه ابي عبدالله الصغير انتهت بأن يقسم الاثنان المملكة بينهما فيكون للزغال مالقة والمرية وجنوب غرناطة يكون الباقي لأبي عبدالله.
قرر فرديناند تصفية الخصمين كلاً على حدة وكان ابو عبدالله قد ارتبط بمعاهدة صداقة مع فرديناند.. فبعث فرديناند جيشاً كبيراً لمحاصرة مالقة لعدة شهور اصابت المجاعة اهلها ببلاء عظيم واستبسل سكانها في الدفاع عن مدينتهم.. وقد ارسل الزغال جيشاً من المرية لنجدة مالقة ولكن قطع الطريق عليه قوة عسكرية ارسلها ابو عبدالله.. انتصاراً للاسبان!! ولم يجد هذا الخسيس ضيراً ان يرسل رسالة تهنئة إلى فرديناند بسقوط مالقة فيما بعد.
اخيرا استسلمت مالقة للاسبان وبدأت المجازر التي راح ضحيتها الطفل والشيخ والمرأة على حد سواء.. لقد سجل الاسبان صفحة سوداء اخرى في تاريخهم في مالقة حفظتها كتب التاريخ.
ابدى الزغال شجاعة نادرة في مناوراته مع الاسبان وحقق انتصارات لا باس بها عليهم ولكن الكفة رجحت اخيراً لصالحهم فلم يجد بُداً من الاستسلام فأعطي بعض المال ونفي إلى ارض وهبها له فرديناند.
ولكن بقاءه في الأندلس لم يعد مرغوباً فيه فأمر اخيرا بالرحيل فعبر إلى فاس في مراكش وهناك اتهم بالخيانة والجبن وصودرت امواله وفقأت عيناه وسجن ثم اخرج من السجن ليبدأ بالتسول في شوارع فاس وليموت البطل اخيراً كسير القلب مجروح الفؤاد على الرغم من استماتته في الدفاع عن معقل الاسلام الاخير في الأندلس.
ودارت الايام على أبي عبدالله.. فلم يمض إلاّ وقت قصير حتى طلب فرديناند من أبي عبدالله تسليم غرناطة فوراً.. اسقط في يد ابي عبدالله ولم يجد الغرناطيون بداً من الدفاع عن مدينتهم والاستماتة في سبيلها.
وهكذا فقد بدأ حصار غرناطة في خريف سنة 1491م بعد ان سبقه تدمير الحقول والمروج والبساتين في وديان غرناطة الخضراء استمر الحصار لبضعة شهور كانت تكثر خلاله المناوشات والمبارزات بين فرسان المسلمين والاسبان كانت الغلبة في معظمها لفرسان الإسلام حتى خشي فرديناند على فرسانه من الابادة فأمر بايقاف المبارزة بين الطرفين وضيّق بدلها الحصار حتى تفشت المجاعة في داخل غرناطة.
وهناك بدأ ابو عبدالله الصغير مفاوضاته سراً لتسليم غرناطة وفك الحصار عنها على شروط عديدة.
وفى صباح يوم الثالث من كانون الثاني 1492 استيقظ الاسبانيون على اطلاقات المدافع من قصر غرناطة وإذا بهم يرون الصليب منتصباً على قصبته فها قد تم الاستسلام واعطيت المفاتيح لفرديناند وايزابيلا وبهذا انهزم هلال التوحيد امام صليب الشرك ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.(/5)
كانت شروط تسليم غرناطة للاسبان تقضي للمسلمين بحرية الدين واللغة.. كما ان للمسلمين الحق في المحافظة على اموالهم وتقاليدهم وان تحسم قضاياهم من قبل قضاة مسلمين وكذلك السماح للمؤذنين بالاذان في أوقات الصلاة. ويُمنع المسيحيون من دخول بيوت المسلمين من غير اذن.. الخ، لقد استنام الغرناطيون لهذه العهود والمواثيق التي قطعها الاسبان لهم والتي كانت مخدعة الصبي عن اللبن أو الفطام.. فلم يعرف الاسبان ابداً انهم حافظوا على عهد سابق ابداً. كان هناك صوت رافض لهذه الشروط لفارس من فرسان غرناطة الشجعان واسمه موسى الذي خطب في قومه قبل الاستسلام محذراً اياهم من مغبة الاستنامة لوعود الاسبان ولما لم يجد اذناً صاغية غادر قومه قائلاً: (انّه يفضل الموت بالسيف على ان يموت صبراً بيد لئام الاسبان أو يُجرع الذل والهوان على يد الشرك). وعندما خرج موسى من غرناطة اعترضته قوة من فرسان الاسبان فدارت معركة غير متكافئة قتل فيها عدة منهم وسقط اخيراً من على فرسه مثخناً بالجراح فقاتل بسيفه قائماً على ركبتيه ولما تكاثر الاسبان عليه ليفتكوا به رمى بنفسه من علو إلى النهر ولما كان مثقلاً بالدروع غاص موسى إلى قاع النهر ولم يعثر عليه على اثر فضرب هذا الفارس المثل الأعلى في الاباء والعزة والكرامة والشجاعة.
وقد صدق حدس موسى رحمه الله فلم يمض وقت قصير إلاّ والعهود تنكث الواحد تلو الآخر من قبل الاسبان حتى لم يبق منها شيء يذكر وإذا بالمرحلة العصيبة الاخرى تمر على مسلمي الأندلس لتسدل الخاتمة على هذا التاريخ إلى يومنا هذا.
مرحلة ما بعد السقوط
بدأ التعسف والاضطهاد مباشرة بعد سقوط غرناطة وبدأت حملات التنصير الاجباري للمسلمين. ولكن الاسبان لاحظوا ان هؤلاء غالباً ما كانوا يظهرون المسيحية ويبطنون الاسلام وبدأت محاكم التفتيش بمحاكمة وحرق من يشتبه فيه التنصير الظاهري فراح الكثير ضحايا هذه المحاكم التي أمرت بأنشائها الملكة ايزابيلا لتلتهم اليهود والمسلمين وفيما بعد حتى النصارى الذين يشك في ولائهم المطلق للكنيسة الكاثوليكية فاقترنت ايزابيلا بمحاكم التفتيش هذه في التاريخ فكانت سنّة سيئة عليها وزرها ووزر من عمل بها.. ايزابيلا هذه التي سمّاها شكسبير شاعر الانكليز (ملكة ملكات الارض) وهي نفسها التي يبحث الفاتكان الآن في شأن رفعها إلى مستوى القديسة.. هذه هي التي كانت سبباً في ابادة شعبين مسلمين، المسلم في الأندلس والهنود الحمر في اميركا التي عبر اليها كولمبس مبحراً من اشبيلية بأموال الغنائم التي غنمها الاسبان من غرناطة وبأمر من ايزابيلا وزوجها فرديناند..
في سنة 1502م صدر مرسوم ملكي يقضي بأن يُمنح المسلمون شهرين فقط لا غير لاعتناق المسيحية أو الطرد النهائي فشهدت ساحات غرناطة احراق 000/80 من الكتب العربية والتنصير الاجباري للمسلمين من نزلاء حي البيازين المقابل لقصر الحمراء.
وفي سنة 1566م صدر مرسوم ملكي آخر يقضي بمصادرة الكتب العربية ومنع التكلم بالعربية ومنع الحجاب بالنسبة للمسلمات وغلق الحمامات العامة ومنع الزي الاسلامي والاستعاضة عنه بالزي الاسباني وتغيير الاسماء العربية إلى الاسبانية.
كان هذا فوق طاقة تحمل المسلمين فاندلعت ثورة عارمة في غرناطة وفي منطقة جبال إلبشارات التي التجأ اليها الالوف من المسلمين استمرت هذه الثورة لثلاث سنوات متتالية.. ارتكب فيها الاسبان ابشع الجرائم فاحرقت الكهوف على ساكنيها في جبال إلبشارات وقتل فيها الاطفال والشيوخ والنساء.. كان مدبر هذه الحملة على هؤلاء المقهورين البائسين هو (الامير دون جون) الابن اللقيط للامبراطور كارلوس الخامس، فلم تهز قلب هذا اللقيط انات الاطفال والنساء وهم يقتلون ويحرقون امام ناظريه بالالوف، فنال هذا اللقيط مكانة بجدارة في التاريخ بين سفاحي ومجرمي البشرية الجديرين بلعنة الله ولعنة اللاعنين!
تبكي الحنيفية البيضاء من اسف *** كما بكى لفراق الالف هيمانُ
على ديار من الاسلام خالية *** قد اقفرت ولها بالكفر عمرانُ
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة *** حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهر موعظة *** ان كنت في سنة فالدهر يقظانُ
تلك المصيبة انست ما تقدمها *** ومالها من طوال الدهر نسيانُ
يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً *** كأنها في مجال السبق عُقبانُ
وحاملين سيوف الهند مرهقةً *** كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعة *** لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ
(ابو البقاء الرندي)(/6)
بالغ المسلمون في كتمان دينهم عن الاسبان، وقد اطلق عليهم الاسبان (المورسيكيون) في النصارى الذين ابطنوا الاسلام فكانت الوفود السرية تتوالى على المسلمين من شمال افريقيا ناقلة الفتاوى والتشريعات التي تعلمهم كيف يحافظون على دينهم في ظل هذا الكبت والكتمان.. إلاّ ان ذلك لم يكن ليستمر طويلاً.. ففي سنة 1612م كانت خاتمة الاسلام في الأندلس حيث اجبر المسلمون على الرحيل ومغادرة البلاد فغادر الكثير منهم ومات الكثير منهم في الطريق إلى شمال افريقيا وحمل بعضهم مفاتيح بيوتهم في غرناطة على امل العودة يوماً ما واستقر الكثير منهم في فاس والرباط وغيرها من مدن الشمال الافريقي.. كانت هذه الهجرة هي الاخيرة وقد قدر عدد النازحين بين نصف مليون والمليون وبعضهم يصل بالعدد إلى 3 ملايين وهكذا اسدل الستار على شعب مسلم عظيم عمّر ارض إسبانيا وارسى فيها حضارة عظيمة كان محط انظار العالم في القرون الوسطى.
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير)(آل عمران:26).
ولم تنج إسبانيا من العدالة الالهية فاذا امبراطوريتها التي امتدت في اوربا والامريكيتين تنهار سريعاً وتحولت إسبانيا إلى ارض جدباء وسارعت الخطى إلى عصور الظلام بينما دخلت مثيلاتها الاوربيات في عصور النهضة.. وبقيت إسبانيا تغط في نومها العميق إلى ان تململت اخيراً في اواخر القرن العشرين بعد ان دخلت واختها البرتغال السوق الاوربية المشتركة!!
خاتمة
لابد لنا ان نعرج ولو باختصار على الجانب الحضاري لمسلمي الأندلس. فقد ترعرت حضارة زاهية في ربوع الأندلس كان لسانها العربية ومادتها الإسلام.. وقد شملت هذه الحضارة مختلف الجوانب كالزراعة والصناعة والتجارة والادب والفن والمعمار والفلسفة وفن الحروب والفروسية.
فقد انشا المسلمون نظام ري متقن استطاع ان يحي الكثير من ارض الموات وتحولت بسببه ارض إسبانيا الى مروج خضراء وقد دخل العرب الفاتحون معهم المحاصيل الزراعية التي لم تكن معروفة في إسبانيا من قبل مثل النخيل والرز وقصب السكر.. كما برعوا في تربية دود القز وصناعة الأنسجة الحريرية.
اما بالنسبة للفن المعماري فنظرة فاحصة إلى قصر الحمراء ومسجد قرطبة وقصر اشبيلية جديرة ان تثبت ما وصل إليه المسلمون من درجة عالية من الرقي في الفن المعماري والذي لا يزال محط أنظار العالم إلى وقتنا الحاضر.
كما علينا ان لا ننسى التراث الفلسفي الكبير الذي خلفه لنا كبار الفلاسفة المسلمين مثل ابن رشد الذي كان له الأثر الكبير في نقل تراث الفلسفة اليوناني إلى أوربا عن طريق الأندلس وقد ذكر برتراند راسل انّه كانت مدرسة فلسفية في أوربا من اتباع ابن رشد.
وكذلك ابن الطفيل وكتابه الشهير في الفلسفة (قصة حي بن يقظان) وعبد الله بن ميمون والذي كان من يهود قرطبة الا انّه اثرى التراث الانساني بمؤلفاته التي الفها باللغة العربية، وابن عربي وفتوحاته المكية..
وقد برع الكثير من المسلمين في مجال الطب كابن زهر التي كانت مؤلفاته تدرس لفترة طويلة في حواضر اوربا وابن باجة..
ولا نريد ان نبخس النساء الأندلسيات حقهن فقد نبغت منهم الكثير من النساء في الادب والشعر والفنون كالولادة بنت المستكفي وحسانه التميمية وام العلا وغيرهن كثير.
ولابد ان نذكر هنا فن الفروسية التي برع فيه المسلمون وانتقلت تقاليده إلى داخل اوربا حتى اصبحت العصور الوسطى عصور الفروسية.. ان الفروسية هذه لم تكن نتاج غابات الماناي أو تربّت في صقيع دول اسنكندنافيا أو ضباب بريطانيا انها كانت وليدة ابناء الصحراء العرب المسلمين الذين جلبوا تقاليدها معهم اثناء الفتوحات، وقد تعلمها الاوربيون منهم عن طريق الأندلس والحروب الصليبية ولكن هيهات ان يكون الشبه بين الاصل والفرع وبين الابداع والتقليد..
ولا ننسى ايضاً في هذا المجال ما اثرى به الأندلسيون الشعر العربي من شعرهم الذي يتميز بالرقة والسهولة والعذوبة.
ولابد ان نذكر هنا ان اهل الأندلس اخترعوا الموشحات الأندلسية وهي الشعر المطبوع بطابع الأندلس ولعل بعض القراء يذكرون موشحات الوزير ابن الخيب المتميزة بشعره اللطيف..
جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى *** يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلاّ حُلُماً *** في الكرى أو خلسة المختلس
اذ يقود الدهرُ اشتات المنى *** ينقل الخطو على ما يرسمُ
زمراً بين فرادى وثنا *** مثل ما يدعو الوفود الموسمُ
وروى النعمان عن ماء السما *** كيف يروي مالك عن انس
فكساه الحسنُ ثوباً مُعلما *** يزدهي منه بأبهى ملبس
اسباب السقوط(/7)
لابد واننا نستطلع تاريخ الأندلس ان ندرس عوامل سقوط هذه الدولة.. لانني اعتقد جازماً ان دراسة التاريخ ليست قصصاً مجرداً أو لترويج الفكر بقراءة دول الاقدمين وكأن حاضرنا مقطوع الجذور فان الدول تتشابه في نشوءها وهرمها وسقوطها فلو عرفنا العلل التي تصيب الدول فلعلنا نستطيع ان نصحح في حاضرنا ما اخطأ فيه الاقدمون في ماضيهم.
فاي دولة تقوم في التاريخ ولابد لها من عقيدة يؤمن بها افرادها لكي تخلق في نفوسهم حبها والاستماتة في الدفاع عنها ومن ثم قهر اعدائها وتوسعها.. هذا ما عبر عنه ابن خلدون في مقدمته بعنوان العصبية التي قد تكون ناشئة عن القبلية أو الدين وههذا ما نعبر عنه في الوقت الحاضر بالايدلوجية..
فلو اخذنا تاريخ العرب قبل الاسلام لرأينا مثلاً انهم كانوا قبائل مشتتة متحاربة يأكل قويها ضعيفها تفشت فيه العصبية ولكنها على مستوى القبيلة فكان الفكر القبلي قادراً ان يجمع القبيلة الواحدة أو حليفاتها ولكنه لم يستطع ان يخلق منها امة إلى ان جاء الاسلام وجمع العرب تحت راية التوحيد واستطاع ان يبعث في قلوبهم حب هذا الدين والذب عنه والجهاد في سبيله فخلق منهم امة متآلفة يجمعها هذا الدين.. اي بالتعبير الحديث.. خلق الاسلام لهم الايديولوجية التي استطاعت ان تجمعهم وتوحد جهودهم نحو الهدف وهو اعلاء كلمة الله ونشر كلمة التوحيد فكان ان فتح المسلمون البلاد وقضوا على امبراطورية فارس وشلوا امبراطورية الروم لزمن طويل وكانوا على ابواب فتح اوربا لولا الخلاف والفشل والتنازع الذي ادى بالتالي إلى اندحارهم وتلك سنن التاريخ التي تعم المجتمعات والدول والحضارات.
ولكن اصاب المسلمين ما اصاب غيرهم من الامم فضعفت الحمية الدينية في قلوبهم وركنوا إلى الدنيا وبالتدريج دب الوهن والخلاف والتنازع.
وهكذا نسي المسلمون احكام دينهم وتعاليم قرآنهم وتوصيات نبيهم الواحدة تلو الاخرى.. فتسلط حكام الجور عليهم.. وبالتدريج تحول الجهاد إلى صراع بين الدول والممالك لحفظ الملك فاختل نظام الدولة وبرزت الفتن في كل مكان وتقاتل المسلمون مع بعضهم البعض واستعانوا بالمشركين على المسلمين كما رأيناه في الأندلس مثلاً.
انهم بعبارة أخرى.. ذهبت من نفوسهم الحمية على الدين وركنوا إلى طموحاتهم الذاتية واهدافهم الصغيرة.. ولما لم يكن هناك عصبية أخرى غير الدين تجمعهم.. فقدوا الهدف و غامت عليهم السبل.
وبينما المسلمون في غفلتهم عن ضعفهم وما يكال لهم.. بدأت الامم الاخرى في الظهور والصعود وكانت عصبيتها من نوع اخرى (اي ايديولوجيتها بالتعبير الحديث) فالاسبان على سبيل المثال ظهرت فيهم الروحية القومية مدعومة بالحمية الدينية لتطهير إسبانيا من المسلمين الكفرة (بزعمهم) مضافاً اليها الطمع في الغنائم والاسلاب فاتفقت ممالك الاسبان رغم اختلافها.. جمعتهم عصبية الهدف المشترك والمصالح المشتركة فصاروا قوة كبيرة لم يستطع المسلمون الوقوف في وجهها لأنهم فقدوا حيمتهم لدينهم الذي خلق منهم امة اولاً.. لم يكن كافياً انهم صاموا وصلوا وقرؤا القرآن.. اذ ان العقيدة وحدها عاجزة عن الصمود إذا لم يكن يساندها الحمية لهذا الدين ولهذا خسر معسكر الإمام علي مثلاً بسبب فشل اهل العراق أمام بغي معسكر معاوية.. وسقطت بغداد امام غزو المغول وخسر المسلمون الأندلس أمام الأسبان وسقطت فلسطين بيد اليهود في عصرنا الحالي.. كل ذلك لنفس السبب فالايمان والحمية لنصرة الدين هو الذي يخلق القوة لتذليل الصعاب ويبعث على تفجير الطاقات وتعثر على السبل لرفع الظلم والحيف ويجد الطريق للاخذ باسباب القوة والمنعة فالمسلمون باختلافاتهم العرقية والقومية والطائفية لا يمكن ان توحدهم عقيدة اخرى غير عقيدة الدين الذي يبعث في نفوسهم الإيمان.. وانا اعني بالدين.. روح الدين التي تبث العقيدة في النفوس ولا اعني ديناً مؤطراً برأي المدارس الفقهية المختلفة.
لعل المسلمين بالرجوع إلى الايمان يستطيعون ان ينهضوا ويمنعوا ضياع اندلس اخرى واخرى بعد ان اضاعوا الكثير والله المستعان على لم الشعث وجمع الكلمة وتأليف القلوب وما النصر الا من عند الله.
المصادر
* عبد الرحمن بن خلدون: تاريخ ابن خلدون
* سيد امير علي: موجز تاريخ الاسلام
* راي تزفليان: في ظلال الحمراء
* ملاحظات شخصية اثناء رحلتي إلى الأندلس(/8)
الإسلام في عيون غربية منصفة / د.عبد المعطي الدالاتي
رؤى غربية منصفة التقطتها من أقلام مفكرين غربيين درسوا الإسلام فراعهم جماله ، وأعجبتهم مبادئه ، ولكنهم لم يُنزلوا قناعاتهم من سماء العقل إلى أرض القلب ، ولم يسقوها بماء الوجدان ، فلم تنمُ غراسها ولم تثمر !
.
وفشلوا في أن يحوّلوا الاقتناع بالحق إلى اعتناق له ، والإعجاب بالإسلام إلى عقيدة تجري في العروق ، وبذا فقد فشلوا في أن يحققوا السلام الداخلي في أعماقهم ..
نعم لم يبقَ أمامهم إلا ضربة معول واحدة كي يصلوا إلى النبع الثّر الزلال ، فلم يفعلوا ..
حاموا وهم الظّماء حول الماء ولم ينهلوا !!
وإنما أعرض أقوالهم لأولئك المهزومين أمام الغرب ، الذين لا يشربون الكأس الرويّة إلا إذا كانت بيد غربية ! ولا يجرعون الدواء إلا من تلك الصيدلية !!
تقول الشاعرة (ساروجين نايدو) :
"لقد كان الإسلام في المسجد عند أداء الصلاة ، وفي ساحة الحرب إذ يقاتل المسلمون صفاً ، وكانت عدالة الإسلام تطبق خمس مرات في اليوم ، عندما كان الأمير والفقير يركعان ويسجدان كتفاً إلى كتف … لقد شدتني مرات ومرات وحدة الإسلام التي لا تتجزأ والتي تجعل من الإنسان أخاً للإنسان … "(1).
ويقول الأمير البريطاني تشارلز : "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم ، الأمر الذي فقدته المسيحية ، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة ، والدين والعلم ، والعقل والمادة"(2).
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : "لا إكراه في الدين ، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين"(3) .
ويقول غوستاف لوبون في " التمدن الإسلامي" :
"كل ما جاء في الإسلام يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه المسيحيين" .
ويقول المستشرق بول دي ركلا :
"يكفي الإسلام فخراً أنه لا يقر مطلقاً قاعدة (لا سلام خارج الكنيسة) التي يتبجح بها كثير من الناس ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور"(4).
الإسلام دين التسامح:
يقول المستشرق بارتلمي سانت هلر :
" إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام ، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى"(5).
ويقول العلامة الكونت هنري دي كاستري : "درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام ، فخرجت بحقيقة مشرقة هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة ، وهذا إحساس لم يُؤثر عن غير المسلمين .. فلا نعرف في الإسلام مجامع دينية ، ولا أحباراً يحترفون السير وراء الجيوش الغازية لإكراه الشعوب على الإيمان"(6).
ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول : إن تسامح المسلم ليس من ضعف ، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه ، وتمسكه بعقيدته" .
ويؤكد هانوتو إعجابه بروعة التسامح الإسلامي فيقول : "إننا مدينون للمسلمين بالعدل والسلم والتساهل الديني ، ومن الواجب أن ندرس هذا الدين ونبذل جهدنا في فهمه، وعلينا أن نتخذ (لا إكراه في الدين) شعاراً "(7).
ويقول المستشرق لين بول : "في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين) ، وكانت هذه المفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين ، وربما لم يعرفها حتى الآن"(8).
الإسلام ملاذ الإنسانية:
يقول المفكر آرثر هاملتون :
"لو توخى الناس الحق لعلموا أن الدين الإسلامي هو الحل الوحيد لمشكلات الإنسانية"(9)..
ويؤكد هذا المعنى عالم القانون مارسيل بوازار :
"إن دخول الإسلام إلى الساحة العالمية ، وإعادة الأمر إلى نصابه بتحقيق التوازن المطلوب ، ليس هو مجرد مشاركة فعالة ، وإنما هو إنقاذ للوضع البشري المنهار" .
ويقول الفيلسوف جورج برناردشو : "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته ! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً ، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة ، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور(10).. قد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً ، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة "(11).
ويقول شاعر فرنسة (لامارتين) : "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معاً ، دون أن يُعرِّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير … وهو الدين الوحيد الذي عباداته بلا صور ، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر"(12).
***
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح "
------------------(/1)
(1) (مثاليات الإسلام) ساروجيني نايدو (169) .
(2) (الإسلام والغرب) محاضرة الأمير تشارلز في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993 .
(3) (شمس الله تسطع على الغرب) زيغريد هونكه (364-366) .
(4) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي (8 / 133 ) .
(5) عن (مقدمات العلوم والمناهج) (8 / 119 ) .
(6) عن (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) محمد الغزالي (194 – 196) .
(7) عن (الإسلام والمسيحية مع العلم والمدنية) الإمام محمد عبده (162) وهو كتاب قيم ننصح بقراءته.
(8) عن (الإسلام) د. أحمد شلبي (296) .
(9) عن (محمد في الآداب العالمية المنصفة) محمد عثمان (62) .
(10) من رسالته (نداء للعمل) .
(11) عن (الإسلام) د. أحمد شلبي (294) .
(12) (السفر إلى الشرق) لامارتين (47) .(/2)
(4)
الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.
ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.
لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.
ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.
بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.
تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.
ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.
الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.
ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).(/1)
ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.
ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.
غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.
وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.
لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.
إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.(/2)
ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.
تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.
وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة – المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.
وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.
وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.
هذه أخطر التحديات
ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.(/3)
وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.
ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.
وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.
ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.
وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.
وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.
وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.
أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.
ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.
وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:
إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.
إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.
وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.
ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.
وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.
فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.
وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.(/4)
إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.
إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.
إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.
إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.
إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.
والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.
وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).
على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.
أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.
وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:
هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.
وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي –اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو –القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.
فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.
كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.
وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.
ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها –بلوغ الرشد الفكري.(/5)
ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.
ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم –إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.
ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.
ومن هنا فإن –الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل –الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.
ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.
فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.
فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابطـ، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.
والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.
وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب.
أنور الجندي(/6)
الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.
ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.
لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.
ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.
بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.
تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.
ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.
الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.
ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).(/1)
ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.
ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.
غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.
وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.
لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.
إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.(/2)
ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.
تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.
وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة – المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.
وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.
وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.
هذه أخطر التحديات
ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.(/3)
وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.
ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.
وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.
ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.
وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.
وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.
وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.
أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.
ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.
وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:
إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.
إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.
وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.
ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.
وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.
فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.
وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.(/4)
إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.
إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.
إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.
إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.
إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.
والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.
وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).
على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.
أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.
وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:
هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.
وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي –اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو –القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.
فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.
كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.
وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.
ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها –بلوغ الرشد الفكري.(/5)
ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.
ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم –إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.
ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.
ومن هنا فإن –الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل –الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.
ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.
فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.
فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابط، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.
والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.
وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب. ...(/6)
(4)
الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.
ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.
لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.
ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.
بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.
تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.
ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.
الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.
ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).(/1)
ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.
ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.
غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.
وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.
لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.
إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.(/2)
ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.
تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.
وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة – المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.
وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.
وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.
هذه أخطر التحديات
ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.(/3)
وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.
ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.
وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.
ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.
وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.
وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.
وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.
أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.
ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.
وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:
إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.
إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.
وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.
ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.
وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.
فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.
وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.(/4)
إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.
إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.
إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.
إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.
إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.
والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.
وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).
على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.
أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.
وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:
هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.
وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي –اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو –القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.
فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.
كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.
وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.
ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها –بلوغ الرشد الفكري.(/5)
ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.
ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم –إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.
ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.
ومن هنا فإن –الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل –الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.
ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.
فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.
فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابطـ، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.
والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.
وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب.
أنور الجندي(/6)
الإسلام لم ينتشر بحد السيف
دراسة مسيحية :
صدرت مؤخراً دراسة لباحث مسيحي مصري هو الدكتور نبيل لوقا بباوى تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة.
.
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام ، بوصفه دينا سماويا ، لم ينفرد وحده بوجود فئة من أتباعه لا تلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التي ترفض الإكراه في الدين ، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية ، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة.
وقالت الدراسة : حدث في المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التي تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير وبين ما فعله بعض أتباعها في البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب ،مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها ، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التي وقعت على المسيحيين الكاثوليك ، لا سيما في عهد الإمبراطور دقلديانوس الذي تولى الحكم في عام 248م ، فكان في عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس في مصر بإلقائهم في النار أحياء على الصليب حتى يهلكوا جوعا ، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان ، أو كانوا يوثقون في فروع الأشجار ، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعي فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إربا إربا.
وقال بباوي: إن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحي إضافة إلى المغالاة في الضرائب التي كانت تفرض على كل شيء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء ، وأرخوا به التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية إلتي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا ، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتي على يد الراهب مارتن لوثر الذي ضاق ذرعا بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران.
وهدفت الدراسة من رواء عرض هذا الصراع المسيحي إلى :
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الديني الذي وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ومن المسيحيين الكاثوليك وبين التسامح الديني الذي حققته الدولة الإسلامية في مصر ، وحرية العقيدة الدينية التي أقرها الإسلام لغير المسلمين وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم ، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية ، مصداقا لقوله تعالى في سورة البقرة : { لا إكراه في الدين }، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالا للقاعدة الإسلامية لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية ( ضريبة الدفاع منهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات) ، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر ، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها أو أن تقضي عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا في الإسلام قهراً ، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه ، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانياً: إثبات أن الجزية التي فرضت على غير المسلمين في الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التي وقعت معهم ، إنما هي ضريبة دفاع عنهم في مقابل حمايتهم والدفاع عنهم في مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أي اعتداء خارجي ، لإعفائهم من الاشتراك في الجيش الإسلامي حتى لا يدخلوا حرباً يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به ، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامي برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية.
وتقول الدراسة: إن الجزية كانت تأتي أيضاً نظير التمتع بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين ، والتي ينفق عليها من أموال الزكاة التي يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام ، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرا ضئيلا متواضعاً لو قورنت بالضرائب الباهظة التي كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين في مصر ، ولا يعفى منها أحد ، في حيث أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية ، فقد كان يعفى من دفعها: القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان.(/1)
ثالثاً: إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين في معاملاتهم لغير المسلمين إنما هي تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة ، ولا علاقة لها بمبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ، فإنصافاً للحقيقة يعني ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامي ، وإنما ينسب إلى من تجاوز ، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التي حدثت من الدولة الرومانية ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس ، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المستشرقين عيونهم عن التجاوز الذي حدث في جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذي حدث في جانب الإسلام،ويتحدثون عنه ؟؟ ولماذا الكيل بمكيلين ؟ والوزن بميزانين ؟!
وأكد الباحث أنه اعتمد في دراسته القرآن والسنة وما ورد عن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين – رضي الله عنه – لأن في هذه المصادر وفي سير هؤلاء المسلمين الأوائل الإطار الصحيح الذي يظهر كيفية انتشار الإسلام وكيفية معاملته لغير المسلمين.
مجلة الكوثر ، العدد 47، 1424هـ(/2)
الإسلام والأقليات
محمد السماك
تركت الخلفية التاريخية للوطن العربي الشديدة الغنى دينياً وحضارياً، بصماتها على شعوبه العربية وغير العربية. |فالموروث الديني أدى مع مرور الزمن ليس فقط إلى التنوع الديني، إنما إلى تنوع في المذاهب داخل الدين الواحد. والموروث الحضاري أدى كذلك إلى قيام عصبيات أثنية وشعوبية مرتبطة بهذا الموروث.
لعب الإسلام الدور الأهم في تحقيق وحدة الأمة مع المحافظة على هذا التنوع. ولذلك فإن ضرب الإسلام هو المدخل إلى تفتيت الأمة وتمزيقها.
أ ـ البعد الديني
في الأساس يرسم الإسلام خطين واضحين بين المسلمين وغير المسلمين. وبين أهل الكتاب المشركين. هناك تشريعات إسلامية خاصة بالمسلمين. وهناك تشريعات تحدد علاقة المسلمين وتعاملهم مع أهل الكتاب. وهناك تشريعات من نوع ثالث تتناول الكفار والمشركين.بالنسبة إلى أهل الكتاب، لابد من إبراز ما يأتي:
1ـ إن الإسلام عقيدة سابقة لبعثة محمد (صلى الله عليه وسلم)، بدأ مع إبراهيم واستمر مع موسى وعيسى بمحمد (صلوات الله عليهم جميعاً).
2ـ إن الدين واحد والتشريعات مختلفة. يقول أبو حنيفة: إن رسل الله لم يكونوا على أديان مختلفة، ولم يكن رسول منهم يأمر قومه بترك دين الرسول الذي كان قبله لأن دينهم كان واحداً. وكان كل رسول يدعو إلى شريعة نفسه وينهى عن شريعة الرسول الذي قبله لأن شرائعهم مختلفة. وهذا يفسر قول الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً...)(المائدة:48).
وقوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)(المائدة:48).
إن الدين لم يبدل ولم يحول ولم يغير. والشرائع قد غيرت وبدلت لأنه رب شيء قد كان حلالاً لأناس قد حرمه الله عز وجل على آخرين. في ضوء ذلك رأى أبو حنيفة أن الدين واحد، وهو التوحيد، والشرائع مختلفة. فإن اتفق آخرون مع المسلمين في الأصل فإن اختلافات الشرائع الجزئية أمر طبيعي، وعلى الفقيه أن يفهم هذا المعنى الوحدوي للإسلام المستوعب الذي يريد جمع الناس، وتوحيد المجتمع في الداخل من مبدأ الاعتراف باختلاف الشرائع، أي إمكان وجود شريعة اجتماعية أخرى غير الشريعة الإسلامية لفئات اجتماعية تعيش مع المسلمين في مجتمع واحد.
3ـ لا يصح إسلام من ينكر أو من لا يعترف باليهودية والمسيحية. طبعاً هناك وجهات نظر مختلفة حول قضايا التحريف والتأويل. ولكن هذا موضوع آخر. الأساس هو الاعتراف والإيمان بكل من موسى وعيسى وعليهما السلام وبأن رسالتيهما الدينيتين وحي من الله.
4ـ إن التشريع الإسلامي المتعلق باليهود وبالمسيحيين لم يصدر مرة واحدة. شأنه شأن كل سور القرآن الكريم وآياته. نزل التشريع على فترات وكان لنزوله أسباب (أسباب النزول) تتعلق بحوادث معينة. في المرحلة المكية تجدر الإشارة إلى أن الإسلام كان ودوداً مع المسيحيين ومع اليهود. ذلك أنه في تلك المرحلة كان المجتمع المكي يتألف من أهل الكتاب وكفار وكان من الطبيعي أن يكون النبي مع أهل الكتاب ضد الكفار لأسباب إيمانية وليس لأسباب تكتيكية كما ادعى بعض المستشرقين عن سوء نية. وبالتالي كان خطابه أقرب إليهم وإلى معتقداتهم.
وفي المرحلة المدنية (بدءاً من عام 622م) اتخذ التشريع الإسلامي طابع بناء الدولة عل قاعدة وحدة الأمة، هنا بدأ التباين بين المسلمين واليهود، فالذين تنكروا للمسيح الذي ظهر بينهم ومنهم، لم يؤمنوا بمحمد الذي ظهر بين العرب ومنهم.
تزامن هذا التباين مع سلسلة من الحملات العسكرية التي قام بها مشركو مكة ضد الإسلام في المدينة لمنع قيام دولته، ولكي يتجنب الرسول (صلى الله عليه وسلم) مواجهة على جبهتين، جبهة المشركين القادمين من الخارج ـ من خارج المدينة ـ وجبهة اليهود داخل المجتمع الإسلامي ـ داخل المدينة ـ عمد إلى عقد معاهدات مع اليهود لتحييدهم.
هذه المعاهدات أرست قاعدة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، وتطورت بعد ذلك وفقاً لتطور الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين. فقد ورد في نظام المدينة أن "لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم إلا من ظلم وأثم" وأن المؤمنين من قريش والمؤمنين من يثرب ومن أنضم إليهم وقاتل معهم هم أمة واحدة. وأن اليهود يؤلفون أمة واحدة مع المؤمنين وأن "لمن تبعنا من اليهود الحق في تلقي العون من المسلمين والمساعدة طالما أنهم لم يعملوا ضدهم أو يقدموا العون لعدوهم".
نكث اليهود العهد مع المسلمين. أولاً في معركة بدر حيث أقاموا علاقات سرية مع كفار قريش. ثم في معركة أحد (سنة 625م) فقد تحرك اليهود ضد المسلمين عندما شعروا أن المسلمين على قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة. ردَّ المسلمون بعد هزيمتهم في أحد بالسيطرة على المواقع اليهودية تدريجياً إلى أن انتهى الأمر بالاستيلاء على واحة خيبر معقل اليهود.(/1)
تبع هذه التطورات إبرام عقود وإجراء مصالحات تحمل في مجموعها اسم عقود الذمة، هذه العقود ممهورة بحديث شهير للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول فيه: "من آذى ذمياً فقد آذاني"، وبحديث شهير آخر يقول فيه: "ألا من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة". وهذا إلزام لكل مسلم، وهو حق لكل مؤمن من أهل الكتاب على كل مسلم.أرسى الإسلام قاعدتين للتمييز هما:التمييز الديني، والتمييز المكاني.
يتعلق التمييز الديني أولاً بالمسلمين وغير المسلمين. ويتعلق ثانياً باليهود والنصارى وببقية المجموعات غير الإسلامية.
أما التمييز المكاني فيتعلق بالمناطق التي تخضع لأحكام التشريع الإسلامي، وهي "دار الإسلام"، وتلك التي تخضع لحكم أعداء الإسلام (أي دار الحرب على الإسلام). في دار الإسلام يحتفظ اليهود كما يحتفظ النصارى بعقيدتهم ويتمتعون بحماية الدولة الإسلامية لهم ولمعابدهم ولتشريعاتهم الدينية الخاصة، هذا التمييز يعني وضع اليهود والنصارى في ذمة المسلمين (الذمة مشتقة من فعل ذمم وليس من ذم).
هنا لابد من التوقف أمام نقطة على درجة كبيرة من الأهمية وهي التمييز بين الذمة والمعاهدة. فالمعاهدة أو العقد محكوم بزمان ومكان محددين.
أما الذمة فهي عقد أبدي دائم مبرم دون تحديد زمني لمفعوله، وعند موت الموقعين تنتقل موجبات العقد إلى الأبناء "وهذا العقد ليس معاهدة بالمعنى الصحيح ولكنه رابطة لا تنعقد بين دولتين بل بين دولة من جهة ورؤساء مجموعة شعبية من الكتابيين من جهة أخرى. وهذه الرابطة تنشئ واجبات ليس فقط تجاه الدولة الإسلامية ولكن تجاه كل مسلم على حدة وكل ذمي أو كتابي، من هنا يتضح أن لها مفعول القانون لأنه عندما يخالفها الذمي يتحمل وحده نتيجة المخالفة وليس طائفته كلها".
إن أسوأ ما يمكن أن يصل إليه سوء العلاقة بين غير المسلم والحكم الإسلامي هو الخيانة أو التمرد.
في الحالة الأولى: أي الخيانة والتجسس لمصلحة العدو، فإن حكم الإسلام في الذمي الخائن هو الحكم نفسه في المسلم الخائن، أي القتل (العقوبة غير محددة في القرآن الكريم، ولكن قياساً على سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)) إن فعل الخيانة من غير المسلم يعتبر خروجاً على عهد الذمة، وفعل الخيانة من المسلم يعتبر خروجاً عن الإسلام.
وفي الحالة الثانية: أي التمرد، فإن حكم الإسلام في تمرد غير المسلم هو أن التمرد لا ينهي عقد الذمة. بل إنه جريمة بحق الدولة يعاقب عليها الذمي بمثل ما يعاقب عليها المسلم. أي أن التمرد يعتبر احتجاجاً على حالة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وليس عدواناً ضد المجموعة الإسلامية.
هناك قضية أسيء فهمها وأسيء استغلالها طويلاً، وهي قضية العلاقة بين الجزية وحرية المعتقد. لقد مرت عهود (الحاكم بأمر الله الفاطمي 996 ـ1021) كان فيها بعض أهل الكتاب يكرهون على اعتناق الإسلام خلافاً لما تنص عليه الشريعة الإسلامية من أنه لا إكراه في الدين. وهذا التعسف كان متناقضاً للإسلام، وبالتالي فإنه لا يشكل عنواناً مشرفاً فيسجل على الذين قاموا به.
كذلك مرت عهود أخرى كان فيها بعض أهل الكتاب يحملون على عدم اعتناق الإسلام خوفاً من تضاؤل عائدات الجزية.
فالضرائب التي كان يدفعها أهل الذمة أصبحت بعد الفتح ضرورة حيوية لبيت المال وصار كل نقص يصيب مجموع الضرائب خطراً تهدد نتائجه استمرارية السلطة وقوة الجيش في نظر الحكام. ومن هنا كان أي نقص في عدد أهل الذمة ـ سواء تم ذلك بسبب الهجرة أو التحول إلى الإسلام عن طريق الإكراه ـ يؤلف بالنسبة إلى خزينة الدول كارثة مالية تهدد الدولة بإفلاس لا يمكن تلافيه.
إن تطبيق مبدأ حرية المعتقد الذي اعتمد منذ بداية الدعوة يبدو شديد الفعالية في هذا المجال لأنه يمنع كل أنواع الإكراه لا سيما التحول إلى الإسلام تحت ضغط العنف والقوة. هذه الضمانة المدعومة بكلام الله عز وجل سوف يلجأ إليها المسؤولون السياسيون من أجل الاستجابة لحاجات الدولة. وكل تقليص أو إلغاء لمفعولها سيكون من شأنه الإضرار بمصالح الخزينة لأنه يؤدي إلى إنقاص أو إزالة موردها الأساسي.
وبين هاتين الظاهرتين الاستثنائيتين لابد من تثبيت القاعدة، وهي تتمثل في تعاليم الخليفة علي بن أبي طالب لعامله في بزرج سابور:
"لا تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقاً، ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا تقيمن رجلاً قائماً في طلب درهم.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك! قال: وإن رجعت كما ذهبت ويحك إنا أمرنا أن نأخذ منهم العفو يعني الفضل".
وهذه القاعدة لا تتناقض مع ما ورد في سورة التوبة ـ الآية 29: (قاتلوا الذين لا يؤمنون ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).(/2)
ذلك أن النص هنا يتناول الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الخ من أهل الكتاب والذين يعيشون في دولة إسلامية. أما الذين يؤمنون باليوم الآخر أي الذين لا يناهضون العقيدة الإسلامية في المجتمع الإسلامي... الخ فإنهم يسددونها على أساس القاعدة التي أوضحها الخليفة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
أجمع الفقهاء على أن من واجب القابض على زمام السلطة أن يقوم بفرض الجزية على أتباع الديانات السماوية المنزلة من غير المسلمين. وهؤلاء يحصلون بالمقابل على حماية المسلمين لأنفسهم وأموالهم.
وقد تبوأ أهل الكتاب في الدولة الإسلامية مراكز قيادية أساسية في السلطة باستثناء القضاء (لأن القضاء في الدولة الإسلامية قضاء شرعي لا يمكن أن يتولاه من لا يؤمن به). وباستثناء الرئاسة الأولى أو الخلافة (لأن الخليفة والرئيس هو إمام المسلمين، ولا يمكن أن يؤم المسلمين من لا يؤمن بالإسلام). ولعل من أكثر ما يشد الانتباه هو أنه حتى خلال الحروب الصليبية لم يكن أمين المال عند صلاح الدين الأيوبي مسلماً، بل كان من أهل الكتاب.
ب ـ البعد الاثني
في الأساس هناك قاعدة إسلامية ثابتة تقوم عليها الوحدة الإسلامية. تتمثل هذه القاعدة في قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 10 (إنما المؤمنون إخوة). ومن شأن التأكيد على هذه القاعدة الشرعية لتساوي المؤمنين ضمن وحدة الإسلام الدينية والاجتماعية، صهر أشد الشعوب اختلافاً في العرق واللون في أمة واحدة. ولقد كان هذا التوكيد من العوامل الرئيسة التي ضمنت اتساع الإمبراطورية الإسلامية اتساعاً عجيباً، وصانت قوتها والتحامها على مر القرون. ولما ضعف روح التكامل الخلقي في الإسلام كان الفوز للنزاع الشعوبي وكان فوزاً على حساب سلطان الإسلام. فتجزأت الدولة وتم النصر لأعداء الإسلام.
ولا غرو فإن انحطاط السلطة الزمنية في الدول التي نشأت عن إمبراطورية الإسلام، وما حدث من صولات التوسع والاستعمار الأوروبي أنعش شعور التكافل الإسلامي، فتجلت جميع مناحي التجديد التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر في الشرق الأدنى والأوسط بروح إسلامية.
إلا أن الاستعمار استطاع تحت مظلة مبدأ القومية الذي أعلنته فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر وأد هذا التجديد، حتى أنه ليبدو اليوم مجرد أثر بعد عين. إن الإسلام يتوفر على الجامع التوحيدي المشترك بين كل الأثنيات الإسلامية والطوائف غير الإسلامية للأسباب الأساسية الآتية:
أولاًـ إن الإسلام مبني على رفض العنصرية بدليل قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 13: (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم م ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
ثانياًـ الإسلام مبني على المساواة بين الشعوب المتنوعة وفي ذلك يقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى). وهذا ينقض فكرة شعب الله المختار وهي أكثر أفكار التعصب والتميز العنصري حقداً وكراهية لبقية الشعوب الإنسانية.
لقد عبر الإسلام حدود العروبة إلى أرض حضارات جديدة، وأصبح العرب بعض الإسلام، بعد أن كان الإسلام بعض العرب. وانتشرت العربية مع الإسلام والقرآن، وكان العرب أول من حمل أمانة الإسلام إيماناً ونشراً وجهاداً.
والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين على رسول عربي في أم القرى العربية ودار الهجرة وما حولهما. ومن هنا كان الرباط الوثيق والمقدس بين العروبة والإسلام والقرآن.. إن اختيار الزمان والمكان والرسول واللسان أمور تتعلق في الإسلام بإرادة الله، لا بإرادة البشر، والإسلام كما هو كرامة وتكريم فهو مسؤولية وعطاء. والانتساب إلى أمة الإسلام تحكمه ثلاثة أركان تجمعها الآية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...)(آل عمران:110) والكرامة في الإسلام بالتقوى، والتقوى عقيدة وعمل.
وبالفهم السمح لاختلاف الألسنة والألوان والبيئات والقدرات، وتغير المكان وتعاقب الزمان ومتغيرات الحياة، خرج الإسلام من الجزيرة العربية إلى العالم، أو هكذا ينبغي أن يكون.
ـــــــــــــــــــ
المصدر: موقع الإسلام في صراع الحضارات.(/3)
الإسلام والتحديث
د. غازي صلاح الدين العتباني*
التحديث: وصفه، تداعياته وآثاره
أول ما يواجه المرء من صعوبة في هذا الموضوع هو المصطلح. إذ يتردد المرء بين استخدام لفظة "التحديث" أو لفظة "الحداثة". والأفضل في نظري استخدام لفظة "التحديث" لأن زنة التفعيل تفيد فعلاً نشطاً ومتجدداً وقاصداً. وما نحن بصدده يتعلق بالفعل الهادف الذي يحركه المجتمع أو على الأقل تحركه الطليعة التي تقود المجتمع الناهض. وبرغم ذلك يبقى مجال لاستخدام لفظة "الحداثة" لوصف مجمل الظواهر الخارجية التي تتولد من عملية التحديث، دون أن يعني ذلك بالضرورة الاتجاهات والتفاعلات الداخلية التي هي جوهر عملية التحديث.
وإذ يصعب الاتفاق الفيصل على تعريف دقيق للتحديث، يبدو أنه لا مهرب من شيء من التعقيد عند محاولة وصفه باختصار ربما أخلّ بالمضمون. وقد نقترب كثيراً من وصف التحديث إذا قلنا إنه "اضطراد تكيف المؤسسات المصاحب لتشكل وظائف الحياة المتغيرة باستمرار مع تنامي المعرفة. تلك المعرفة التي ترافق التقدم العلمي والتقني والتي تجدد تحديات الحياة وتعيد تعريف علاقة الإنسان بمحيطه الطبيعي". والمؤسسات المذكورة في بداية العبارة تشمل المفاهيم، والمناهج، والشخصيات المعنوية كالتنظيمات، ومؤسسات الدولة والمجتمع.
إذن فدالة التحديث هي تنامي المعرفة التي تعيد تشكيل مفاهيم الإنسان وتحدياته باستمرار. والتحديث بذلك ليس ظاهرة طارئة، بل هو ظاهرة متجددة في التاريخ ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحضارة الغالبة، في حقبة ما، بسلطانها المادي أو المعنوي أو بكليهما. ولربما اتسع وقع جوهر الحضارة على عملية التحديث، أو ضاق، تبعاً لمدى نفوذ تلك الحضارة واتساع رقعتها. فالحضارات الصينية و الهندوسية باعتبارهما حضارتان إقليميتان قادتا التحديث في رقعة أضيق من التي نفذت إليها الحضارة الإسلامية أو الرومانية.
من الطبيعي إذن أن نجد أقوى مظاهر التعبير عن التحديث المعاصر في الغرب. وهذه هي الحقيقة التي تمثل عقدة مفتاحية للعقل المسلم عند تعامله مع مسألة التحديث، ومن الواجب وضعها في أبعادها الصحيحة عند تناول القضية بصورة موضوعية.
لقد ولّد التحديث المعاصر في الغرب مفاهيم وأنماطاَ ونظماً ما تنفك تتجدد وتتطور بوقع العلم والتكنولوجيا. تمتد تلك الأنماط من الحيز الشخصي للإنسان، إلى أسرته الصغيرة، إلى مجتمعه الواسع، إلى الدولة، إلى العالم بأسره، بل إنها أخذت تتعدى شيئاً فشيئاً إلى بدايات الكون المحيط. ولقد أوجد ذلك حقائق وسنن جديدة في خاصة حياة المرء، وفي علاقاته بالأفراد المحيطين به، وفي علاقات الجماعات فيما بينها داخل القطر الواحد أو ما وراء الأقطار، وفيما بين المجتمعات والدول، وفي علاقة الإنسان ببيئته.
بهذا التولد والتجدد الذي يمضي بصورة متسارعة، أخذت تتهاوى الحقيقة المطلقة أو الثابتة كما أخذت تتبدل المعايير والثوابت فصارت النسبوية منهجاً في النظر والحكم على الأشياء والمسائل. (النسبية هى حالة واحدة، والنسبوية هي النظرية أو السنّة أو المنهج العقلي أو القاعدة المضطردة التي تمضي عليها الأحوال). وبذلك بدا أنه لا يوجد حق واحد، بل الحق متنوع، وكل سؤال له إجابات متعددة بلا تناه. وعلى صعيد المعرفة والعلم لم يعد هناك مبدأ نهائي واحد متفق عليه، كما أنه على صعيد المجتمع لا يوجد نموذج واحد للأشياء، وعلى صعيد النظم لا يوجد مثال واحد.
هذا المنهج المتصاعد أخذ يعيد صياغة العلاقة الرابطة بين التاريخ والمستقبل، فلم يعد التاريخ مؤثراً في المستقبل كما كان، أي لم تعد للتاريخ قدسيته التقليدية في إلهام الفرد والجماعة، ولم تعد مقاييسه وأنماطه هي الحاكمة، فخرج بذلك شيئاً فشيئاً من أن يكون معياراً للحق أو الباطل. وبدوره أدى تضخم فكرة المستقبل وحضوره على حساب التاريخ في العقلية المعاصرة إلى تعمّق النسبوية، فالمستقبل الآن أصبح مليئاً بالاحتمالات والخيارات المتنوعة التي لا يمكن مضاهاة القوالب التاريخية الجامدة بها.
لقد صاحب هذا التحول الهام في مسيرة الإنسانية ما سمي بحركة الإصلاح الديني المسيحي في بداية القرن السادس عشر الميلادي ونشوء الفقه الاحتجاجي (البروتستنتينية) المتمرد على المفاهيم الكاثوليكية وطقوسها. لقد ساهمت الحركة الاحتجاجية في ترسيخ كثير من المفاهيم الحاكمة في الثقافة العالمية الشائعة اليوم. وليس مستنكراً الزعم بأن معايير الحداثة الغالبة في هذا العصر إنما يمكن ردها إلى التعاليم الاحتجاجية تحديداً وليس إلى المفاهيم المسيحية بصفة عامة.(/1)
إن غلبة المفهوم الاحتجاجي قادت إلى فردنة التدين على صعيدي العقيدة والممارسة، وإلى إلغاء الهرمية الدينية بكل قيودها المفهومية والإجرائية، وبذلك أطلقت طاقات الأفراد والجماعات في الإبداع الإنساني والابتداع الديني. وهذا أوجد بدوره واقعا جديداً يتسم بلا معيارية التدين ولا معيارية الأخلاق. ومن هنا بدأت حركة علمنة الحياة بخروج التدين التقليدي من نطاق الالتزام الشعائري فالعقدي، ثم من نطاق الوعي بالجملة.
هذه هي المفاهيم والخلفيات الحقيقية للتحديث في التجربة الغربية. ولذلك ينبغي التفريق بين مظاهر الحداثة ومضامينها، وبين التمدين والتحديث. إن التمدين، بمعنى الاقتناء السطحي لأدوات الحداثة، قد يمثل في حقيقته اتجاهاً خفياً لمقاومة التحديث. نرى ذلك في كثير من البلدان النامية: نراه في حركة العمران النشطة، دون اقتفاء لمعايير الثقافة الوطنية المعبرة عن وجدان المجتمع؛ وفي بناء الجامعات الفخمة حديثة المظهر، دون استيعاب جاد للمفاهيم العميقة للحركة العلمية؛ وفي اتخاذ المصانع والمعامل ذات الأبهة، دون اكتساب فعلي لتقاليد النهضة التقنية وسلوكيات العمل والانتاج؛ وفي إنشاء الجيوش المجهزة بكل أداة قتل فاعلة، دون حماية حقيقية للأوطان أو نصرة لقضايا الأمة. بل إن كل تلك الأدوات ربما استخدمت لقمع أي عملية تحديث حقيقية. وههنا مفرق هام بين التحديث والتغريب لأن التحديث الظاهري من غير مضمون هو أقرب طريق للتغريب السطحي وهو علّة أكبر من التغريب الجوهري.
تاريخ المسلمين في التحديث ومفهوم المستقبل والتطور الزمني لديهم
لقد عايش المسلمون في تاريخهم مع التحديث معطيات مختلفة عن تلك التي لازمت التجربة المسيحية الغربية. أولاً، هم لم يجدوا عائقاً عقدياً أو شعائرياً في التعاطي مع مفهومات العلم ومنتجات التقانة. تتضح تلك الحقيقة عند مقارنة كسب المسلمين في مجال العلوم بالصدام الذي جرى بين تصور الكنيسة لنشأة الكون وبين الحقائق العلمية التي استجدت في بدايات القرن السادس عشر. لقد أودى ذلك الصدام بحياة بعض كبار العلماء الغربيين وساهم في وضع بذور الثورة على الكنيسة. من ناحية ثانية، فإن المسلمين لم يشهدوا شيئاً كالحركة الاحتجاجية التي ظهرت في مسيرة المسيحية الغربية بكل الآثار الواسعة لتلك الحركة على الفكر والحياة. بل هم لم يعالجوا أو يعاينوا الآثار الفكرية والتطبيقية للحركة الاحتجاجية إلا من خلال تعاملهم في القرون اللاحقة مع الاستعمار الاستيطاني فالتحديات الفكرية التي خلفها.
لقد تجلت مرونة المسلمين في اقتباس منتجات التقانة بصفة خاصة في العهود الأولى للإسلام. إن الدارس المدقق لمسلك المسلمين في اقتباس أدوات الحضارة والتقانة ابتداءً من أواخر العهد النبوي ليعجب للنتائج التي يتوصل إليها. لقد كان همّ المسلمين في قرنهم الأول نشر الإسلام في وجه مقاومة قريش وبقية العرب الذين لم يسلموا ولم يسالموا، ثم في وجه الحضارتين الفارسية والرومانية. لذلك غلب الطابع العسكري على اقتباسات المسلمين التقنية الأولى. يمكن ملاحظة ذلك إذا قارنا التقنيات العسكرية المستخدمة في معركة بدر بتلك المستخدمة في حصار الطائف في المعركة مع ثقيف. ثم اضطرد ذلك النسق في كل معارك المسلمين التالية حتى فتح الأندلس في عام 93هجرية، حين تميز القواد السياسيون والعسكريون في التلقي الإيجابي لمنتجات التجربة الإنسانية في التقانة العسكرية، وحتى للأساليب المعاصرة لتنظيم المجتمع مثل إنشاء الدواوين. وكل ذلك قد ضرب بسهم وافر في النجاح المدهش الذي ميز صعود الحضارة الإسلامية.
ولقد استمر هذا النهج في القرنين التاليين، لكنه تميز بعد ذلك برغبة أقوى في اقتباس علوم الإنسانية الأخرى وتجاربها. فنشأت، نتيجة لذلك، حركة نشطة للترجمة خاصة في عهد الخليفة المأمون ومن تلاه. ولما بردت في تلك الحقبة النزعة إلى الفتوح بصورتها الأولى، تحول الاهتمام إلى علوم الإنسانية في الأدب والحكمة والتقانة المتعلقة بشئون الحياة العامة. ثم بعد ذلك تجاوزت المجتمعات الإسلامية مرحلة التلقي السالب للعلوم إلى مرحلة المفاعل الحي النشط المطوّر للحركة العلمية وما يستتبعها من التحديث. بعبارة أخرى، في تلك الفترة طفق المسلمون يقودون حركة التحديث في العالم وفق ثقافتهم هم وتصورهم للأشياء وحاجاتهم، تماماً كما تقودها الحضارة الغربية اليوم وفق تصورها وثقافتها وحاجاتها.(/2)
بمقابل هذا التعاطي الطلق مع التحديث في التاريخ العملي للمسلمين الأول، نشأت فيما بعد نزعة سالبة ومقيدة أبطأت بمقدرات الاستجابة المرنة عند المسلمين للتطور. ويمكن إرجاع تلك النزعة إلى المفهوم حول المستقبل والتطور الزمني بصفة عامة، ذلك المفهوم الذي تراكم وتقوى عبر العصور والذي يمكن استقصاء أصوله عند اتجاهات التنسك واعتزال الحياة العامة الذي بدرت ملامحه بعد عهد الصحابة. وقد ساهم في ذلك التعامل الجزئي أو الانتقائي مع الأحاديث التي تصف مجيئ الفتن وتسارع الخطو نحو آخر الزمان، خاصة وقد ركن بعض الناس إلىتصور المستقبل وفق تفسير انتقائي سالب لما وجدوه من نصوص ذخرت بها كتب الحديث التي صدرت في القرون التالية. هكذا أصبحت واردات المستقبل وتطورات الزمان باللزوم شراً وفتنة تدني البشرية من النهاية. وربما كان العامل الأهم في غلبة هذه الذهنية هو الإحباط الذي أصاب المسلمين جراء الفتن السياسية التي عاينوها كفاحاً فضلاً عن التي تنتظرهم في آخر الزمان. وبهذا أصبح آخر الزمان مفهوماً ممتداً يبدأ من اللحظة الراهنة ويمضي إلى قيام الساعة، وما بين الموضعين لا خير ينتظر.
ولن يجد الدارس المدقق في عهد النبي (عليه الصلاة والسلام) والصحابة من بعده شبيهاً بالجدل الذي أثارته أحاديث الفتن وآخر الزمان أو مثيلاً للذهنية السالبة التي تكونت في العهود التالية. ولاشك أن المقارنة تبرز في العهد الأول مجتمعاً واثقاً من نفسه، مستيقناً من مستقبله، مفعماً بواجبات الدعوة، ينطلق أفراده بثقة وطلاقة يستنجزون بها وعود المستقبل التي بشرهم بها الرسول، عليه الصلاة والسلام، يبلغون بعزمهم من الأرض ما بلغ الليل والنهار، بمقابل مجتمع محبط، فاقد لثقته في نفسه شاك في مستقبله بعد أن بدأ انحدار المجتمعات الإسلامية في عهود المتأخرين. ولقد بلغت السلبية مبلغاً دفع الجبريين إلى القبول المذعن لكل آفة تصيب الإنسان، بل وإلى تبريرها. فقبلوا طغيان الحكام وسلّموا لتحول الخلافة إلى جبرية واعتبروه أمراً طبيعياً ينبغي قبوله لأنه يتسق مع تردي أحوال الناس بتقدم الزمان.
ومن المفارقة أنه في الوقت الذي تخلصت فيه العقلية المسيحية الغربية من النظرة السالبة إلى المستقبل ومستجداته فيما بعد، وقعت العقلية الإسلامية في شرك الشك واليأس من المستقبل ووارداته. ووجه المفارقة هو أنه إذا وجد في نصوص المسيحية ونظرتها إلى الكون والخلق وتجربتها العملية ما يسند مثل تلك العقلية، فإنه لا يوجد لا في النصوص الإسلامية ولا في تجربة الإسلام العملية في عهوده الأولى ما يبرر ذلك لمن أوتي الفهم الصحيح.
إن تطور هذه النظرة السالبة إلى الزمن والمستقبل قد وضعت التحديث في موضع الشك ابتداءً، كأنما فهم أن التحديث بتحولاته المتسارعة إنما هو استدعاءً مبكر للمستقبل و لخاتمة آخر الزمان.
وقد أخطأ بعض المسلمين الذين أرادوا معالجة هذه العلة فاستنتجوا أنه لا بد للإسلام، كيما ينصلح الأمر، من ثورة كالتي أحدثتها المسيحية الاحتجاجية وصولاً إلى العلمانية المعاصرة. وفي الحقيقة أنه لا مبرر مطلقاً لأن يمضي المسلمون في تجربة مشابهة، لأن بعض الاستدراكات الموجبة التي أحدثتها الحركة الاحتجاجية، أو حتى العلمانية المعاصرة، في العقلية المسيحية الغربية، هي من صميم الفهم الإسلامي. فالمسلمون لا يجدون نصوصاً في كتابهم تصطدم بمفهومات العلم، وهم يؤمنون أصلاً بخصوصية العلاقة بين العبد وربه، لا بمفهوم فردنة التدين واعتباطية العلاقة بين المخلوق والخالق ولكن بمفهوم خصوصية التكليف والمسئولية وانتفاء الوكالة والنيابة بين الإنسان والله. وهم يرفضون لاهوتية الحاكم بمعنى اعتصامه بتفويض إلهي يترفع به عن المسئولية أمام البشر. ومثل هذا كثير مما يتوافق فيه الإسلام الصحيح مع بعض إصلاحات الحركة الاحتجاجية التي ثارت على جمود المفاهيم الكاثوليكية السائدة.
تحديث أم تغريب أم أمركة؟
كما أوضحنا من قبل فإن الحضارة الغالبة هي التي عادة ما تملي معايير التحديث وفق مقاييسها الذوقية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقداتها وأساليبها في المعاش. لذلك فإن ما ينفر المسلمين من التحديث المعاصر هو اختلاطه النفسي والمفهومي مع فكرة التغريب. بالطبع فإن البعض من المسلمين لا يجد حرجاً في قبول التغريب، بل ربما كان يدعو إليه صراحة. لكن هؤلاء في قلة وأولئك الذين يأبونه في كثرة.(/3)
ومن اللافت الجدير بالنظر، المعزي للمسلم المعاصر، أن الجدل حول التحديث يدور الآن بذات الحيوية في بعض المجتمعات الغربية مثلما يدور في المجتمعات الإسلامية. بعض منطلقات هذا الجدل في الغرب منشؤها الموقف الديني والثقافي من التحديث، على طابع جدل المسلمين. والبعض الآخر منشؤه النزعة إلى حماية التراث الوطني إزاء ما يرونه أمركة لأساليب الحياة وأذواق الناس. وينبغي الانتباه إلى أن كراهة التحديث في هذه الحالة لا تقتصر على الرغبة المحضة في حماية التراث إنما تتعداه إلى خوف مبطن مما تستتبعه الأمركة من التهميش الثقافي الذي يجلب معه فقدان الأسواق والضمور الاقتصادي والانحسار من الساحة الاقتصادية العالمية. لقد أدركت الدول من التجارب التاريخية، والتجربة الاستعمارية على وجه الخصوص، أن غلبة الذوق المستمد من حضارة بعينها هو خير ضمان لازدهار منتجات تلك الحضارة على مساحة الرقعة التي يمتد نفوذها فيها. وهكذا دخل جدل التحديث ساحة المنافسة السياسية والصراع حول مفاهيم النظام الدولي وتكويناته.
هكذا، فالتحديث لم يعد قضية خاصة بمجتمعات المسلمين، إنما أصبح قضية تشغل الحضارة العالمية التي ما تنفك تشتبك قضاياها وتتداخل همومها. وهذا من العوامل الإيجابية التي ينبغي تسخيرها في تشكيل العلاقة مع مجتمعات غير المسلمين وأصحاب الحضارات الأخرى لأنها توفر سانحة لمساهمة متميزة في الجدل الدائر يقدمها المسلمون باسم دينهم وحضارتهم.
المسلمون والموقف من التحديث المعاصر
إذا عدنا إلى وصف التحديث الذي أوردناه في بداية الورقة سنجده مختصراً في التكيف الموجب مع واردات العلم والمعرفة بما يخدم مصلحة الإنسان. وهذا الوصف ينطبق انطباقاً على مفهوم الإصلاح العام الذي هو مقصد لا خلاف عليه من مقاصد الإسلام والرسالات التي سبقته، وكما قيل "حيثما كانت مصلحة، فثمّ شرع الله". والنصوص التي تحض على العلم والقراءة والتزيد من المعرفة تسعف القارئ للقرآن والسنة كما لا تسعف القارئ لأي نص رسالي آخر. لكن برغم هذه الحقيقة فقد ظلت وستظل عقلية اليأس من المستقبل لدى المسلمين سبباً قوياً في تعويق التعامل الموجب مع التحديث، وهو ما يوجب معالجة بعض المفاهيم الخاطئة لديهم حول المستقبل والتطور الزمني.
إن الإيمان بالساعة شرط ضروري من شروط الإيمان، والأحاديث واضحة في أن اللحظة التي تقوم فيها الساعة هي أسوأ لحظات البشرية، وأن الذين تقوم عليهم الساعة هم شرار الناس. وبرغم ذلك ينبغي أن يتقيد الفهم هنا بحقيقتين:
الحقيقة الأولى هي أن الأوصاف الواردة في وصف آخر الزمان لا تستوجب اعتباره حالة مستمرة بغير انقطاع ومتصاعدة بغير انخفاض. إنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما كسبت أيدي الناس، فبعض أوصاف آخر الزمان والفتن ترتبط بتحولات في طبائع الناس ومسالكهم كتطاول الحفاة العراة رعاء الشاء في البنيان، وكأن تلد الأمة ربتها. وبعضها الآخر يتعلق يتعلق بسنن الطبيعة ومسالكها، كتقارب الزمان وكثرة الهرج (أي القتل) حتى إن القاتل لايدري فيم قتل، وكأن يُمطر الناس ولا تُنبت الأرض شيئاً.
بعض هذه الأوصاف يتعاقب مع البعض الآخر، وبعضه قد شوهد فعلاً ثم أعقبته فترة من الخير، أي أن نسق التردي في أحوال الكون لا يمضي في خط مستقيم متصاعد، بل قد تتحسن تلك الأحوال إذا تحسنت أعمال الناس وصلح ولاة أمورهم كما حدث على عهد عمر بن عبد العزيز مثلاً بعد فترة من الفتن والطغيان. وكما حدث في فترات أخرى ارتد فيها بعض المسلمين إلى نحو من عبادة الأوثان ثم أخلصوا دينهم لله على أيدي الدعاة المصلحين. (لا يذهب الليل والتهار حتى تعبد اللات والعزى). أو نسي المسلمون الله ثم ثابوا إلى ذكره. (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله).
إن نصوص القرآن والسنة تشير إلى سنة التعاقب بين الشر والخير، بين غلبة الحق وغلبة الباطل، بين العسر واليسر، بين تداول الأيام بين خيار الناس وشرارهم. وفوق ذلك كله يبشر القرآن، تأكيداً لما سبقه من كتب، أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون. وأصحاب اليمين بنص القرآن هم ثلة من ألأولين وثلة من الآخرين. وقد مضى الوعد من الرسول، صلى الله عليه وسلم، بأن تبقى طائفة من أمته ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة. كما مضت منه الإشارة إلى أن مثل أمته "مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره".
وبهذا فإن الراجح في تأويل قوله، صلى الله عليه وسلم، أنه "لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه" أنه في وصف زمان الفتنة لأن الحديث قد ورد على لسان أنس بن مالك، رضي الله عنه، في سياق شكوى الناس من الحجاج بن يوسف. أي لا يأتي زمان فتنة إلا والذي بعده شر منه. أما أن يمضي الزمان كله من سيء إلى أسوأ دون تفريج فهذا مما لا تؤيده المشاهدة ولا يسنده العقل ولا تعضده النصوص.(/4)
إن هدي الإسلام في حقيقته هو أبعد من أن يبعث في الناس اليأس والعجز. إن المؤمن مأمور، حتى في لحظة قيام الساعة، إذا كانت في يده فسيلة ألا يقوم من مقامه إلا وقد غرس فسيلته. ذلك أن مفهوم المستقبل في الإسلام لا يتوقف عند نهاية الحياة الدنيا بل يمتد إلى حياة أخرى أفضل. واليأس والقنوط هما من أشد ما حذر الله والنبي منه. وفي الحقيقة لا يمكن للمرء أن يتصور دعوة ترود آفاق النجاح وقد سلّم أصحابها بالهزيمة واستيقنوا الخسارة منذ البداية.
الحقيقة الثانية التي ينبغي تقييد الفهم لأحاديث آخر الزمان بها، هي الارتباط بين تردي أحوال الناس وظهور الفتن بالفساد الذي يحدثونه بأيديهم؛ "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس". والفساد المعني هنا هو فساد الطبائع والسنن. وأمر الله يأتي إلى الدنيا في اللحظة التي تزيّن فيها ويظن أهلها أنهم قادرون عليها. وهذا من أظهر ما تؤيده الوقائع في هذا العصر من تحولات مناخية كبرى، وظهور كائنات مجهرية لم تكن موجودة، أو كانت موجودة ثم تغيرت خصائصها، وظهور أمراض في الحيوان والإنسان ترتبط باختلال سنن التغذية الطبيعية في الحيوان طلباً لزيادة الإنتاج.
هذان المبدءان المتقابلان، مبدأ الإصلاح ومبدأ الإفساد، هما المبدءان المقيدان لموقف الإسلام من التحديث. وبهذا يكون الموقف من التحديث، بالوصف الوارد أعلاه، موجباً حتى دون إدخال أي إضافات عليه. لأن مفهوم المصلحة معلوم في المصطلح الشرعي. إنه مستوعب للمصلحة الدينية والدنوية، وهو يعني بالضرورة درء المفسدة. فأيما تحديث قام على استيعاب منتجات العلم والمعرفة الإنسانية وحقق المصلحة وجب تبنيه دون تحفظ، مع كل الإدراك لآثاره الجامعة المانعة على مجتمعات المسلمين المعاصرة ودولهم. سواءً كان ذلك في مناهج العلم والبحث ، أم التطور التقني، أم أساليب تنظيم المجتمع والدولة، وكل ما في الحكمة المتراكمة من التجارب الإنسانية. فالحكمة ضالة المؤمن. وما دامت هي حكمة لا يختلف حول المصلحة الناتجة منها وجب أخذها وتبنيها. وليس من حرج في اقتباس منتجات الحضارات الأخرى، تماماً كما فعل المسلمون الأوائل، ما وجدت القدرة على التفريق بين البعد المنفعي والآخر القيمي لتلك المنتجات. وقد لا يكون مثل هذا التفريق مهمة سهلة لكنها ممكنة ومتاحة إذا أجهدت العقول في تقصيها وحكمت التجارب في تلمسها. وكيما يؤسس المسلمون موقفهم هذا على نفسية مطمئنة عليهم أن يتذكروا، ويستيقنوا، أن المساهمات الحضارية العظيمة لأسلافهم مدرجة إدراجاً جوهريا لا ينفصل في بنية الحضارة القائمة، وهم بذلك أصحاب سهم وافر فيها. وهذا من أشهر الحقائق التي لا تحتاج إلى كثير تدليل.
من هنا، وبعد إثبات مبدأ التحديث، تتفرع مسألتان ينبغي الوعي بهما. المسألة الأولى وقائية ومقتضاها ضرورة الانتباه لاحتمالات الوقوع في مزالق التحديث التي ميزت التجربة الغربية، مثل النسبوية الموصوفة سالفاً. فمآل النسبوية سيكون لا محالة تكريس اللامعيارية في الدين والأخلاق، على صعيد السلوك الفردي والجماعي، والعلمانية على صعيد الدولة. وقد سبق التدليل على أن حاجات التحول والانعتاق في التجربة المسيحية الغربية هي التي سوغت ذينك التطورين. بينما لا تنشأ حاجة مماثلة في التجربة الإسلامية لأن النصوص الإسلامية لا تنشئ أصلاً تناقضاً مع التحديث.
أما المسألة الثانية التي ينبغي الانتباه لها فهي ايجابية وتستند إلى حقيقة أن التحديث لم يعد محصوراً في جدلية العلاقة المأزومة مع الحضارة الغربية، بل أصبح قضية عالمية ذات أصول نظرية واحدة وإن تنوعت خصوصياتها في كل حيز حضاري مستقل. إن الطبيعة العالمية لمشكلة التحديث لا تمكن من الفصل بين الحداثة والتغريب فحسب، بل تتيح لنا رؤية القضية في أبعادها المشتركة في كل الحضارات: من حيث أصولها ومنابعها، ومن حيث معطياتها العملية والنظرية، ومن حيث نتائجها وآثارها وحلولها. بذلك تنال المجتمعات الإسلامية فرصةأخرى لاستخدام ميزتها النسبية للمساهمة بقدر كبير في تشكيل الاستجابة لتحدي التحديث وإثراء الجدل العالمي حوله، متجاوزة عقدة النقص والتخلف التي تضع المسلمين دائما في موضع المنتظر المتلقي.
إن الميزة النسبية لمجتمعات المسلمين تتمثل في وفرة تجربتها التاريخية ومساهماتها في إيجاد حلول لمشكلات البشرية لفترة ثمانية قرون سادت فيها الحضارة الإسلامية في الساحة العالمية. إن إستدعاء هذه الحقيقة ونصبها أمام النظر يملؤ النفس طاقة معنوية كبيرة تنفلت بها من السلبية وفقدان الثقة التي تميز استجابات المسلمين لكل قضايا الحداثة. وستمثل قضية التحديث بذلك واحدة من أهم قضايا الحوار بين الحضارات لأنها بحق وحقيقة قضية مشتركة في منطلقاتها النظرية وتبدياتها العملية.(/5)
سأعطي ثلاث أمثلة فقط، من بين كثير من الأمثلة التي يمكن إيرادها، على النماذج التي يمكن أن يدلل بها المسلمون على قدرة الإسلام وسبقه في تاريخ الإنسانية لمعالجة أعقد قضايا المعاش والأخلاق، ودوره في تحديد اتجاهات التطور للمجتمعات الإنسانية بصفة عامة وليس الإسلامية وحدها.
النموذج الأول هو موقف الإسلام من العلم. إن استعراض تجربة المسلمين في العلم، سواءً في نصوص القرآن والسنة، أو في التجليات والتطبيقات العملية لتلك النصوص خلال الفترة التي سادت فيها مساهمات الحضارة الإسلامية، تعطي سندا قوياً لمن يقول بإمكانية التحديث في إطار من الالتزام الديني والأخلاقي.
النموذج الثاني هو موقف الإسلام من تنظيم علاقة المجتمع بالدولة ومن الرشد السياسي المؤسس على قواعد الشورى وقوامة المجتمع على الحكام، أو إن شئت جملة القضايا التي تطرحها الديمقراطية في العصر الحديث. صحيح أن التجربة الإسلامية العملية في جملتها لا تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد، فيما عدا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده. لكن النصوص الإسلامية تمثل نقلة كبيرة من الواقع العالمي السائد آنذاك والذي كانت سمته الوحيدة هي البطش والملك العضوض، وهو عين ما حذرت منه النصوص. إن المنهج الذي اختير به عثمان، رضي الله عنه، وحده، أحدث طفرة غير مسبوقة في اتجاه الإنسانية نحو الرشد السياسي. يتضح ذلك بصورة أجلى إذا نظرنا إليه في سياقه التاريخي مقارنين بينه وبين تخلف المناهج السياسية السائدة في الحضارات العالمية آنذاك رغم أنها كانت ترى نفسها في موقع الصدارة الأخلاقية آنذاك.
النموذج الثالث هو موقف الإسلام من الحقوق والحريات. هنا أيضاً تقدم النصوص والتجربة الإسلامية كليهما نماذج غير مسبوقة في التاريخ في اقتلاع الموانع أمام الحرية وفي محاصرة الرق، وإزالة المظالم عن المرأة والضعفاء في المجتمع، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية. ومكتسبات الإسلام ههنا ينبغي النظر إليها أيضاً على خلفية النظم العالمية التي سادت آنذاك والتي كرست نقيض ما جاءت به التجربة الإسلامية من مكتسبات للإنسانية.
هذه النماذج الثلاث وحدها تثبت دور الإسلام في التأثير القوي على التطور الإنساني. وقد استطاع المسلمون إحداث ذلك الأثر على خلفية ضعف مادي معلوم إذا ما قورنوا بالمجتمعات المستقرة من حولهم، لكن مصدر قوتهم الحقيقي كان معنوياً تمثل في قوة أفكارهم وقوة إيمانهم بها. لقد أتاحت مناهج الإسلام النظرية وتجاربه العملية فرصة لانعتاق البشرية وتحررها فأقبلت إليه الشعوب أفواجاً تطلب لديه الخلاص. وقد صاغت جملة التجارب تلك نموذجاً فريداً للتحديث بمقياس عصرها. وقد نجح ذلك النموذج في مقاربة مشكلات الإنسانية لأنه استطاع أن يوائم بين مقتضيات الحداثة وتعاليم الدين، فجمع بذلك بين طاقة الدفع التي يوفرها الدين واتجاهات الدفع المتجددة التي يوفرها التحديث. فكانت التجربة الإسلامية هي التي تفرز قضايا الحداثة ثم توفر لها الإجابات، كانت تطرح تحديثها الخاص بها، لكنها تغير به وجه العالم بتوليدها لقضايا جديدة وحلول ناجعة. واليوم تتيح عالمية قضية التحديث فرصة ثانية للمسلمين لقيادة الحوار العالمي ولطرح قضية التحديث من منظورهم وبمعطياتهم، بل تتيح لهم أن يتفوقوا في طرح مضامين جديدة للتحديث نابعة من تعاليم دينهم تدعو إلى تحرير الإنسان بمنهج العلم وقيم الخير في عالم أخذت تسوده دورة متجددة من الطغيان والعدوان والظلم.
*بحث مقدم ضمن اوراق مؤتمر الإسلام والغرب في عالم متغير.
* مستشار رئيس الجمهورية- السودان(/6)
الإسلام والحرية والإبداع
عبد الرحمن عبد الوهاب
fiqhofglory@yahoo.com
قالوا دوما .. إن الحرية ..[ قضية لم تنتهي البتة ],, Liberty is always unfinished business.,,قضايا الفكر والإبداع من اهم القضايا للنهوض بالأمم .. والفكر لا ينهض إلا في أجواء من الحرية .. وخاصة فيما يخص قضايا النهوض بالأمم .. وهذا ما يتفق عليه القاصي والداني
يقول دانتي[. الانسان يكون على افضل حاله عندما يكون حرا ..هذا يبدو واضحا إذا ما ادركنا مبدأ الحرية ..]
Mankind is at its best when it is most free. This will be clear if we grasp the principle of liberty..-- Dante Alighieri
[حرية الفكر وحرية الكلام ضروريان جدا للحفاظ على الاوطان .. إذ في الوقت الذي يقيد فيه كليهما تذبل وتموت الحرية..]
Freedom of thought and freedom of speech are absolutely necessary for the preservation of our country. The moment either is restricted, liberty begins to wither and die...-- John Peter Altgeld
ليكون حال الكلمة الحرة دوما خلف السجون والاسوار..ان الطغاة يكرهون الحرية حتى وان كانت مجرد كلمة تتلفظ بها الشفتين ....روعة الحياة ان تستشعر أن الله خلقك حرا ..متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ..كما قال عمر رضي الله عنه ..
قيمة الحياة ان الإنسان لم ينزل من بطنه امة وهو مكبلا بالأغلال ..سواء في يديه أو قدميه ..بالرغم ما سبق في علمه تعالى ..من هو المجرم ومن هو الكافر!! .. ومن هوالبريء ومن هو المؤمن ..إلا أن الطغاة من البشر كما لو كانوا يريدون أن يقيدوه بالأغلال وهو في بطن أمه ولو استطاعوا لفعلوا .. بل يودون أن لو نزل مقيدا بالأغلال من بطن أمه ومن ثم يرحلونه الى المعتقلات و السجون .... فكم هو من اله عظيم رحيم ..من خرج عن طاعته فتح له باب التوبه ..امتدادا من والولادة الى النهاية ويقبله الله ( مالم يغرغر )..ومالم تطلع الشمس من مغربها ..
أما الطغاة من خرج عن طاعتهم في بلاد الشرق يذبحونه كالبعير .. وفي بلاد الغرب يذبحونه كالخنزير .. وما بين البعير والخنزير كان المصير .. من هنا نتيه فخرا بإلهنا وعندما يعلو الأذان بكلمة الله اكبر ..تشرأب أعناقنا فخرا بديننا وبإلهنا وبإسلامنا . وننتشي المجد كوننا عبادا لله وأنصار الله وجنودا الله .. لقد قال تعالى
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء..ولقد كان النقيض في منطق الطغاة من آلهة البشر ..وسيلاحظ ممن يجول على سجون الشرق والغرب انتهاء إلى غوانتنامو (لقد أهنّا بني أدم )..ووضعناهم دون كثير ممن خلق الله .لتطالب بعض الشعوب بالحقوق الممنوحة للكلاب ...الله كرم الإنسان وهم يهينونه .. الله يفضله وهم يضعونه ..فكم هو اله عظيم مجيد ..وكم هي من آلهة طاغية مجرمة ..
ومن هنا كان مثار الصراع الذي لن ينتهي بين أولياء الله وأولياء الشيطان .. لهذا قالوا[ بطن الأرض مصير افضل حالا من الطغيان ]
Death is better, a milder fate than tyranny.
-- Aeschylus
الفكر والحرية
ان الفكر المؤطر عقدبا .. هو المنحى الأساسي للنهوض .. و تأخذ الأمة السبق في مضمار المجد ويأخذ الفكر مقامات المجد والخلود .. قيمة العقل في حريته .. وقيمة الشعوب في حريتها .. من هنا كانت قيمة .. الفكر الاسلامي .. ..
كما ويرتبط الواقع بالفكرة المتخيلة سلفاً وتم انجازها.[ نحن نكون كينونة ومكانا لأننا فكرنا فيهما بداية .]
"We are what and where we are because we have first imagined it."
-- Donald Curtis
[أنا افكر,اذن أنا حر و انتمي الى الوجود ,]
"I imagine, therefore I belong and am free."
-- Lawrence Durrell
كما ان كل الافعال في العالم تنجم بداية من خلال التخيل ..
All acts performed in the world begin in the imagination."
-- Barbara G. Harrison
ولئن قالوا ان الواقع هو (كانفا) من نسج التصور ..]
"The world is but a canvas to the imagination."
--Henry David Thoreau
وعليه ان نقول ان الفكرة والهدف لابد ان تتمحور حولها الامر..هي حكم الارض,,
..لا تقنعوا إلا بحكم الأرض من جديد .. ويهيمن القران على العالم ..وهذا لن يتحقق إلا ان يترسخ ذهنيا ويملأ القناعات .. يستتبعه جهد ناجم عن تلك القناعات ..وما أروع غاية الجهد (الجهاد) حينما يبذل ..في سبيل الله وإعلاء كلمته في الأرض ..من هنا لابد ان تأخذ كل آليات التغيير دور القلم ..كما قال الزبيري
سجل مكانك يا قلم من هاهنا تبعث الأمم(/1)
نعم لقد تحولت ثقافة المشرق العربي .. الى منحى .. غريب الدلالات والمضامين .. ابتدأت مؤخرا .. بـ سأبيعك ياوطن .. انتهاء إلى سأشرب كأسك يا وطن .. ولعب الإبداع العربي أدورا على مسرح الخيانة في الآونة الأخيرة فكانت إبداعات بتكريس الاحتلال والتحلل من المجد الغابر وهذا يعد مظهرا سافرا .. لخيانة الأمة والوطن والتاريخ .. إلا أن الأمر في مقامات الإبداع كان لابد ان يكون على النقيض وهو ان يتحمل المسئولية تجاه .. أمة تحت السطو المسلح .. والسلب والنهب .. واقع يئن تحت نعال السيد الأميركي .. الابداع العربي نسي المجد الغابر حمزة بن عبد المطلب وخالد بن الوليد ..وقتيبة .. والمقداد ..
نسي عمرو بن كلثوم حينما قال
اذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا ..
الا نه في مضمار الإبداع ..
و لئن قالت النظريات القديمة . أي ان لاشيء قيل اليوم أكثر مما قيل قبلا
In fact, nothing is said that has not been said before.-- Publius Terentius Afer
.. إلا أننا كمسلمين .. نختلف مع هذه النظرية .. ذلك لأن قيمة القرآن انه قال ما لم يقل قبلا و لا بعدا .. وانه كلمة تتميز بالجديد كل يوم وكانها نزلت الساعة ..حيث إن صحف السماء تختلف عن صحف البشر ,, وكلام السماء غير كلام البشر .. وكونه إن الحرية هي القضية التي لم تنته بعد .. فقد كان القران الذي لم يصمت بعد .. وله كلمة الفصل في كل ما هو آت ..الحرية التي تعتبر هاجسا للبشرية ترنو إلى تحقيقه .. وتستحث الخطى نحو تحقيقها .. كان القرآن .. ذا قيمة أسياسية ذات مجد متناهي ككلام فخم نزل من السماء .. وتكمن القضية ان القران يخرج البشرية خارج التأطير والقولبة التي يريدها الطغاة انها روح التمرد التي بثها ضد أصنام البشر والحجر .. انه يعلمهم حرفة كسر القيود بالأسنان والانطلاق بحرية على يابسة الكون .. يمارس الحرية ..
كحرية العينين .. لتمارس الأجيال الحديدة من امة الإسلام هوايات قديمة .. كانت أولاياتها .. حكم الأرض من جديد ..
من هنا كانت الشجاعة معيارا اساسيا في حياة الامم ,,الشجاعة اهم شيء اذا ذهبت الشجاعة فقد ذهب كل شيء ..
Courage is the thing. All goes if courage goes.
Author: Joseph Addison (1672-1719), English essayist, poet, statesman
فان قالوا الكلمات اطباء تداوي العقول المريضة ..
Words are the physicians of the mind diseasedAeschylus-
.. الا انه لا مناص ان نقول ان القران هو أعظم الكلمات ..انه كلام السماء .. كلام الله ..كونه الدواء الحقيقي ..دواء لأمراض النفوس والأرواح والعقول .. ودواء للامم ..
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (44) سورة فصلت
لابد ان نستلهم من القران من صفحات القران القيمة الأساسية في الوجود .. الحرية وروح الرفض والثورة
والجرأة والرفض التي نستشعرها من مسيرة ركب الأنبياء .. لواقع الطغيان والاستبداد .. جيل جديد آلية التحرر الكبرى [لا اله الا الله .. ] التي كانت شعارا عبر الأزمان .. سار بها ركب الأنبياء .. ليغيروا الواقع الكوني نحو العدل والحرية .. والرافض لكل إشكال الصنمية المادية والمعنوية منذ ابراهيم ابي الانبياء الى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. تلك الصنمية التي يروج لها الآن .. عمرو بن لحي الخزاعي .. الذي أتي بالأصنام ليعبدها الناس من جديد .. على صفحات الجرائد عمرو بن لحي الخزاعي اليوم يعمل كصحفي مأجور .. يروج لأميركا وهبل الجديد تمثال الحرية .. يروج الان لثقافات الانبطاح والخيانة الثقافية ..خيانة الله ورسوله والأمة والتاريخ .. في وقت يقوم فيه الغرب بالاستعمار والتسكع والبلطجة على يابستنا نحن ميراث الاجداد .. على تلك الأرض التي فقهت مفهوم الحرية من لا اله إلا الله .. وهوت بالمعاول دوما على الأصنام .. ضربا باليمين ..ليصبح العالم الإسلامي( سوق للحرامية ).. وكانت أميركا هي زعيمة العصابة .. هيهات بعد ألقمنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وكتاب السماء حب الرفض والثورة وعدم الانحناء والانصياع الا لله ..
فان قال معاوية حينما دخل عليه.. احد العوام وقد أغلظ عليه الأخير القول ..فقال معاوية .. هيهات لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان .. وهانحن نقول لكم ..من زاوية اخرى في نفس السياق أجل لقد لمظنا القرآن الجرأة على جبابرة الأرض ..(/2)
وألقمنا القران الشموخ والوقوف والجرأة .. أمام فرعون وهامان وقارون والنمرود .. في القرن الواحد والعشرين.. انه الجرأة وفخامة النص الإلهي بما يليق بجبروت المتعالي الجبار ..في مقام القرآن الكريم .. يالمجد القران .. لأنه يحمل بصمات السماء .. انه من روح الله .. انه نور {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52) سورة الشورى -ومجد السماء .. انه القران المجيد {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (1) سورة ق
ان القران كان ولا يزال.. يصيب الطغاة بالدهشة و الارتباك .. والحيرة ... وهذا ماقاله ذلك الفرنسي ..
لن نسيطر على الجزائر مادام القران موجودا .. سواء أكان فرنسيا .. او أمريكيا .. جمع حوله حثالات من نصارى المشرق
ليضعوا لنا قرانا جديدا وفق أمزجتهم الخاصة . كما لو كانوا يظنون أننا امة من النساء ..
أوصلت الأمور الى هذه الدرجة .. خيبك الله من أمة ..
أجل ويداس بالنعال .. لقد كان القران ذلك القول الفخم .. ذو الهيبة .. والمكان الرفيع .. {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (21) سورة الحشر
ان النص الإلهي مربك للطغاة وهو الذي يعلم البشرية تكسير القيود والتطلع نحو الحرية ..
ان قيمة القران انه يعري الطغاة .. ويميط اللثام عن التفاصيل .. وينبش المسكوت عنه .. كيف هذا وهو يصدح فينا ..
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء
{ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} (2) سورة النحل
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (14) سورة طه
وهذه النماذج الرائعة من هؤلاء الانبياء الكرام .. وهم يقفون امام الظلم والطغيان .. ولا يهتزون ..
اولئك.. الذين غيروا الكون دوما نحو الأفضل .. انتهاء إلى سيد المرسلين الذي كان للعالمين رسولا وللمقاتلين رسولا .. وللثوار رسولا .. يالمجد محمد ..
وهاهي البشرية من خلال القران منذ الأمس وحتى الغد .. والى الأبد تحسم خيارها مع الطغاة طالما القرآن
متواجدا .. ويتلى .. مع القران وجود الطغاة وجود مهدد ووجود معلق .. كيف وشعار الاسلام الله اكبر ..
كيف وشعار الإسلام [لا اله الا الله] ..,
وكيف والآيات مدوية وفوق رؤوس الأشهاد
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (45) سورة المائدة
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (47) سورة المائدة
فيغضي الظالمون والكافرون والفاسقون الطرف .. ويصابون بالارتجاف لأنه يعريهم و حالما مارست الشعوب الكفاح .. يختفون من الأنظار .. ويقال لهم بعدا .. وتتبعهم اللعنات ..
كان القران كفيلا .. بأن يحول طفل الكتاتيب الى هذا الوجه الصارخ غدا في وجه الظلم .. في وجه جبابرة الأرض عنيدا مسكونا بالثورات .. كونه استظهر القران في قلبه .. وحمل القران بين حناياه .. وحينما تريد أجيالا مسكونه بالثورات فإن هذا لن يتحقق إلا بتحفيظ القران لأولئك الصغار.. داخل مطويات النفس .. وشغاف القلب .. أطفالا يهبطون من بطون أمهاتهم إلى صهوات الجياد .. ليحكم هؤلاء العالم من جديد..
لا قيمة لمجد الكلمة الا بالتحليق والإبداع .. والتوهج .. والطموح نحو عالم أفضل .. واليات النهوض لن تتم الا من خلال القران وتمثل سيرة سيد الأولين والاخرين .. قيمة الإبداع ان نحرك العالم من على الورق نارا ودخانا وزئيرا ضد استباحة الأمة .. ان تتحول المفردة الى عبوة ناسفة أوقنبلة منزوعة صمام الأمان .. على أعداء الله وأعداء الإسلام والإنسانية .. وسيفا مجردا على كل من حاول النيل من مقام الإلوهية وكتاب الله ورسوله الأكرم
أيا كان وكائنا من كان.. نرنو إلى يوم لا محالة قادم .. يحتشد العالم بأسره .. على يابسة الكون ..خاضعا لله.. مذعنا لله .. ساجدا لله.. تحت كلمة الله اكبر ورايات الثوار ..
وهذا لن يبدأ إلا من الورقة .. بداية .. تتحول الورقة إلى ميدان قتال .. للدفاع عن دين الله ومجد القران وفخامة النص الإلهي ..نعم لقد وصلنا إلى حد الإدمان للقرآن . إدمان الحرية ...كونه سفر المجد والحرية ..الحرية هاجس البشرية منذ الأزل !!كما قال الشاعر من رحم الحرية ولدت وفي رحم الحرية أموت .. وفي ظلال من الحرية نبعث في يوم لا ظل إلا ظله ..(/3)
.. لقد تفلت الفكر العربي المعاصر من سياق الاستيعاب لمفهوم الحرية المنطلقة من معايير الإيمان .. وانتهى صفاقة وقحة وكفرا ومع هذا يسوق لهذا الفكر المتزندق في سوق الثقافة المعاصرة ليقول احدهم ..[ لقد كتبت رسالة إلى الله ممهورة بعذابات البشر واخشي أن يكون الله أميا ..]
تعاليت الهنا ,. علوا كبيرا .. سبحانك وتعاليت وتنزهت علوا كبيرا ..ياذا المجد الذي لا يرام تسبيحا وتمجيدا وتنزيها مليء السموات ومليء الارض وما بينهما ومليء ما شئت من شيء بعد .. تعاليت علوا كبير عما قال .. وعما وصف .. وتعاليت عما يصفون .. علوا كبيرا ..
أهلاً أهلاً ..
ايها السادة ..بضحالة الفكر وصريح الكفر ..هيهات..ان نسمح لهم بتجاوز الخط وط الحمراء والحرم الاقدس للكبرياء والمجد الالهي على الارض....مادام فينا عرق ينبض .. وان طارت دون ذلك الرقاب ..نقتص منهم....ونهينهم..وبعد أن نمرغ انوفهم في التراب نحيل القضية الى جبار السماء والارض .. وهو احكم الحاكمين.. ..فنحن قضيتنا اعلاء كلمة الله في الارض والمجد لدين الله في الارض..
أيها السادة .. أن هذا ليس بإبداع ولا أدب بل كان صفاقة سوء أدب ..واستهتارا بالمثل وتعديا للخطوط الحمراء انه لا يتفق مع التأدب لمن خضعت له رقابنا وسجدت له جباهنا حبا وولاء .. انه لا يتفق مع السياق الأخلاقي للمجتمع والدين بل والأخلاق والالتزام الأخلاقي أمام الله تعالى .. انتهاءً إلى كونه كفر وسوء الأدب مع الخالق الأعظم ..أيها السادة ولم يكن إلهنا وحبيبنا يوما .. أميا ولا ظلاما للعبيد .. كما قال هذا النكرة اللعين .. فقيمة الإبداع لدينا ..حينما نكتب ان تسجد وتركع مفرداتنا أمام الآيات الكريمة الكائنة بين القوسين ...المخطوطة على السطر .. نأخذ من نورانيتها القبسات والاشعاعات والمجد والخلود ..وفي نفس الوقت تدافع كلماتنا عن الله نستشعر الولاء والشمم والانتصار لله ولدينه .. تزهق وتركل مفردات الباطل وتصفعها بلا هوادة ونبصق عليها بالنقاط حتى تكون المفردات الإلهية وكلمات الله ذات علو مكانة وهيبة وسمو مقام كونها خط احمر لن نسمح بتجاوزه ..نعم ان قيمة الإبداع الإسلامي.. أن تنال مفرداتنا من مفردات الباطل وما خلفها من معاني وقضايا .. وترغم انفه وتحني هامته على ارض الورقة .. وننتفض بلواء لا اله إلا الله من خلف المقال .. ونعلي راية الله اكبر من خلف الكلمة .. هذا هو الإبداع وقضيتنا باختصار..
لم يرد الله ظلما للعباد ..
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (182) سورة آل عمران
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (51) سورة الأنفال
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (10) سورة الحج
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (46) سورة فصلت
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (29) سورة ق
وماذا يريد الله بعذابات البشر .. فاي منطق سقيم .. خالي من أبعاد الايمان.. والتصور الأساسي .. لماهية الوجود ..من منطلقات الثورة ..والكفاح .. لقد انزل الله القرآن الكريم وبعث الرسل انتهاء الى المصطفى خاتم النبيين لتنتهي عذابات البشر .. لقد كانت سورة التوبة والأنفال والتوبة.. كل منهم بمثابة منشور ثوري ضد الطغاة والمجرمين .. وان الظالمين لهم اللعنة ولهم سوء الدار.. لقد خلق الله الإنسان حرا وأرادت حكمته العليا ان تنتهي عذابات البشر .. فقال له لا تخضع .. وكافح .. ولا تقيم بأرض هوان .. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء
لهذا قال الشاعر
إذا ظلمت بأرض فارتحل فلا خير في ارض مهان كريمها ..
واتضح لي ان كل عذابات البشر .. تنجم بشكل أو بآخر من( الشرك ) واتخاذ البشرا أربابا من دون الله حينما يسلسون لهم القياد للتصرف في شئون العباد .. وكان من حكمة الله العليا أن يأخذ المعذبون حريتهم بأيديهم .. لا أن يكونوا قطعان من الماشية والتنابلة ..
فلو عرف أولئك المعذبون في الأرض قيمة القران والتوبة والأنفال ومحمد (القتال ) ما أساء هذا الأدب ولكنه تخلف عن دوره الأساسي في الحياة والكفاح ثم يلقي باللوم على السماء .. لو عرفوا قيمة القران ..وان كل سورة تعتبر بمثابة منشورات ثورية ضد الطغاة والمجرمين لتناولوه سرا بعيدا عن أعينهم .. ولكن حس المتلقي قد تبلد والأخذ من القران قد مات ..(/4)
وأصيب بضمور عقلي نحو الاستيعاب .. نعم إنها عبوات ناسفة من الآيات .. إنها آيات تحتشد بالحرية والمجد والثورة .. كفيلة بأن تنهي عذابات البشر وتحنى هامات المتجبرين ..بل وتضع الجبارين خلف أبواب السجون ..
الإبداع العربي لم يقرأ قرآنه .. وحرق سجادة صلاته .. وعاقر الخمر وانتهى كفرا ..
ماذا بعد مسيرة الأنبياء يريد وهو لم يقتف الأثر .. ولم يسير على دربهم .. ذلك الدرب الرائع في انتزاع الحرية .. وعدم الشرك .. وهكذا تنتهي مسيرة الإبداع العربي .. {ْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (40) سورة النور
وتنتهي إلى ضحالة الفكر.. وصريح الكفر.. ذلك لأنه لم يستوعب النقطة البالغة الأهمية في الوجود الكوني انه الله تعالى ضد المتجبرين .. وضد الظالمين.. وانه كان دوما في صف المستضعفين والمظلومين ..
الفكر العربي المعاصر يعبد الله على حرف .. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (11) سورة الحج
انه يعبد الله على حرف وانقلب على عقبيه ومن أول طلقة في ميدان الحياة يهرب ايمانيا .. وكان على استعداد أن يبيع دينه وصفقة الإيمان ..
رحم الله من ذبحوا ومن احرقوا ومن ذُبحوا ومن نُشروا ولم يزحزحهم عن إيمانهم مثقال ذرة
كانوا في المحنة رجالا وفي مضمار الإيمان شرفاء .. يقول هنري فريدرك ..
لقد كانت الفلسفة هي الحرية في استعمال العقل وهكذا يتحقق استقلال اجتماعيا وسياسيا او اضطهادا دينياً المجتمعات والحب المطلق لشيء واحد ألاو هو الحقيقة ..
Philosophy means the complete liberty of the mind, and therefore independence of all social, political or religious prejudice... It loves one thing only... truth.-- Henri Frederic Amiel
وهاقد جاءنا القران ليحث استعمال العقل بتجرد للوصول نحو الحقيقة الاساسية في الوجود [ ان الله حق]..
يقول الشيخ محمد قطب ..هناك حقيقة كبيرة في الكون وصل اينشتين الى طرف منها ولكن روحه الجاحدة ابت أن تمضي معها الى نهايتها ..................
ثمة حقيقة واحدة مطلقة في الكون العريض هي الله وحدة
الله وحده هو الحقيقة المطلقة لأن الحقائق (النسبية) كلها تنتهي إليه
تنتهي إليه انتهاء مطلقا لأنه هو خالقها بينما لا ينتهي بعضها إلى بعض إلا بالنسبة التي قدرها الخالق بين بعضها وبعض
والله وحده هو الذي ينبغي ان يعبد ويطاع لأنه الحقيقة الثابتة في هذا الكون
وكلمة الله هي العليا ......]
ويستطرد الشيخ في نقطه اخرى مرتبطة معنا في السياق ..فيما يخص الظلم ..
هل أحنقك الشر يمرح في الأرض ؟ هل أحسست بهزة الغضب وأنت ترى الظلم يقع عليك وعلى غيرك من بني البشر ؟ هل رأيت انه لا يجوز لك أن تسكت وانه ينبغي ان تتحرك وتثور ؟ وانك أنت قبل غيرك ينبغي أن تقول لهذا الشر مكانك فقد تجاوزت حدك .. وهل علمت انك لا شك متعرض للاذي حين تسكت عن الظلم ، وحين تأخذ على عاتقك ان تقاومه وتعترض سبيله ؟ وهل علمت ان الاذى قد يشتد عليك حتى ليسلبك الراحة والأمن ورغد العيش وقد يسلبك الحياة ..ثم ظلت نفسك على غضبها وعلى عزيمتها في الوقوف للظلم وصد العدوان .. إنها الطرق إلى الله ..
نعم انه الطريق..
وعلى الجانب الأخر من الإبداع العربي وخاصة للكتاب الإسلاميين ..كان منهم ُشنقوا ومن ُسمّروا على الصليب .ومنهم الآن من يجر صليبه في درب الآلام .. ومنهم من يسن له فرعون شفرته ..
وتختلف آليات الكتابة فالبعض يكتب بالسكين والأخر يكتب بماء النار .(حمض الكبريتيك )والبعض يكتب بالرصاص .. إلا أنه لا مناص من الكتابة بالدم في هذا المعترك .. فالكتابة وان قال البعض .. تحويل الدم الى حبر ..
اجرح القلب واسقي شعرك منه فدم القلب خمرة الأقلام(/5)
إلا أن قاعدة الإبداع من المعيار الإسلامي إن يتساوى مداد العلماء بدم الشهداء في ميزان الرحمن كما جاء في الحديث النبوي الشريف,, واتضح لي إن من جمع بين الاثنين مداد القلم ودم الشهادة .. ووقع بدمه على ما خطته يمينه فقد حاز على مالا يباري من المجد .. وهكذا دوما تتلخص القضية في الإبداع الإسلامي نحو مضامين العدل والحرية وإعلاء كلمة الله في الأرض ..وحالما يُقتل من جهر بكلمة الحق .. بُعثت كلماته ودوت في الكون واصبح لها طنينا هائلاً في أذان البشر ..تنتفض الأمة فكرا.. ..وتعيش كلماته بين الأحياء..فلسفة قديمة ولكنها ما زالت حية و لم تستهلك ..في مضمار المجد والثورة أشار إليها الشيخ سيد قطب رحمه الله . ستظل كلماتنا عرائس من الشمع... حتى إذا ما متنا من أجلها ... دبت فيها الروح" وعاشت بين الاحياء..
. وأشار إليها احمد مطر .[.لقد شنقوا صوت الببغاء وأعطوني صوت ابدي يتكلم .].وأشار اليها السياب .
[.أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
.و أبعث الحياة(من خلال أفكارهم ) ، إن موتي انتصار](/6)
الإسلام والخطاب الإعلامي المعاصر
سهاد عكيلة
مديرة تحرير مجلة منبر الداعيات
حتى نعود بالمسلمين إلى إسلامهم لا بد أن نتماشى مع متطلَّبات العصر الحديث، ومع ما تفرضه علينا سياسة الأمر الواقع))، ((وحتى يفهمنا الغرب يجب أن نتحدث إليهم بلغتهم))، ((وحتى نواكِب عجَلة التطوّر ينبغي أن نكون على مستوى التحديات التي تواجهنا))...
طروحاتٌ قد تُفهم ضمن إطارها العام في سياق التطور الإنساني وخصوصية كل عصر وضرورات الانفتاح العالمي. إلا أن مضامين تلك التوجُّهات وما ينتج عنها من ممارسات تدعونا للتوقف عند مُرادات مروِّجيها من إطلاقها.
فمتطلَّبات العصر الحديث، وسياسة الأمر الواقع، ومواكبة عجَلة التطور... كلها مصطلحات تعكس قناعات تولَّدت عند قسم كبير ممن يروِّج لها، تعني تطويع الدين بما يتناسب مع ثقافة العالم الجديد وحتمية انفتاح المجتمعات على بعضها حتى لا تتصادم الأحكام الشرعية مع الثقافة السائدة، مما يؤخر عملية الاندماج فيما يسمى بالقرية الكونية. تنظِّر لهذه الثقافة أقلامٌ إما مأجورة أو مدفوعة بتأثر المغلوب بثقافة الغالب.
قسم آخر يتبنى تلك المصطلحات بدعوى العودة بالمسلمين إلى إسلامهم وتحبيبهم في تطبيق أحكامه الشرعية ولو بالحدِّ الأدنى، وهم من أجل ذلك يعملون على جذب شريحة الشباب خاصة عن طريق تقديم (الإسلام المودِرن) كما يُقال، جاعلين من الشريعة أحكاماً مطّاطية تناسب جميع القياسات والأذواق.
يتجلى ذلك في نوعية الخطاب الإسلامي الذي يتم تسويقه إعلامياً، بل هناك الكثير من الأحكام الشرعية والمفاهيم الإسلامية تُقدَّم للناس مشوَّهة أو محرّفة، ومع ذلك تقدَّم على أنها الصورة الأمثل للإسلام.
ولو أخذنا مثالاً على ذلك حجاب المرأة المعروض على الفضائيات ذات المسحة الإسلامية لوجدنا أنّ ما نشاهده أشبه بمهرجان تحتشد فيه الألوان البرّاقة والأشكال الجذّابة لدرجة تدفعنا لطرح تساؤل: أيُّهما أقرب للسَّمت الإسلامي الموافق لحكم الشرع: محجبة تضيف إلى وجهها ولباسها إضافات فاقعة من الزينة؟ أم محجبة تلتزم بأمر الله: (ولا يُبْدين زينَتَهنّ)؟ وسؤالٌ آخر يفرض نفسه: ما هي الحكمة من الحجاب؟
وفي هذا السياق دار نقاشٌ على الهاتف بيني وبين فتاة محجَّبة حديثاًُ، تناولنا خلاله مسألة مواصفات الحجاب الشرعي ومدى تَمثُّل الإعلاميات ذوات (الحجاب المودِرن) بهذه المواصفات. صاحبتي ترى بأنه حتى نحبِّب النساء بالحجاب لا بأس من الظهور بهذا المظهر الجميل، وبأننا لا نستطيع أن نرتدي حجاباً كالذي كانت ترتديه الصحابيات ومَن بعدهن، لأن ذلك لا يتماشى مع عصرنا، كما أن الحجاب لا يتقبله المجتمع حتى الآن، والمحجبة محاربة في مكان عملها، وفي المجتمع... فأوضحتُ لها ما سأبيِّنه الآن من أن أحكام الشرع قسمان: قسم لا يتغير ولا يتبدل وليس قابل للتعديل، والله تعالى يقول: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا)، وقسم يتطور بتقدم العصر وهو الأدوات والوسائل، ومواكبتنا للعصر الحديث تعني أن نستخدم في حياتنا ومشاريعنا وعمارتنا للأرض وممارستنا للدعوة إلى الله كل وسائل وأدوات هذا العصر من تطوُّر تكنولوجي، فلا نقول مثلاً لا نستخدم في تنقلاتنا ووسائل اتصالنا مع من حولنا السيارة والطائرة والجوّال والإنترنت... لأنها لم تكن على عهد رسول الله، فهذا هو التخلُّف بعينه، إذ لو كانت على عهده صلى الله عليه وسلم لاستخدمها الاستخدام الذي يُرضي الله ويخدم الدعوة ويتقدم بالبشرية في عمارة الأرض؛ فهو صلى الله عليه وسلم ما كان لينبذ معارف الكون ونِتاج العقول وأدوات البيئة، بدليل أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعمل المتوفر في بيئته مما لا يحرِّمه الإسلام. إذاً نحن مأمورون باستخدام جميع الوسائل التي تُعيننا على تبليغ دين الله وعمارة الأرض بما يُرضي الله ويحقق مقاصد الشريعة.
وعليه فإننا لسنا مطالَبين بتبديل الدين حتى نُرضي الأذواق، بل إن من واجبنا عرض أحكام الشرع بأمانة كما أنزلها الله وكما بيّنها رسوله، ثم نترك للناس حرية الاختيار، وكلٌّ محاسبٌ على خياره، وغاية دورنا هنا أن نبلِّغ دين الله وننشر أحكام شريعته، وأن نكون حكماء في أسلوب عرض الإسلام ومنهجية الدعوة.
إذاً الله تعبَّدنا بتطويع الوسائل لا بترقيع الأحكام الشرعية. وإذا كان هناك مَن ينتهج نهجَ الغِلظة والفظاظة في تبليغ الدين فالخلل يكمن في أسلوبه وممارسته وليس في المنهج الإسلامي.(/1)
وإذا علمنا أن المقصد الأسمى من الحجاب هو سد باب الفِتَن على كِلا الجنسين بما يحقِّق للقلوب طهارتها ويعين على غضِّ البصر، ويحفظ المجتمع الإسلامي من مزالق الشيطان وسُبُل الانحراف، أقول: إذا علمنا كل ذلك أدركنا حكمة الشارع في تحديد مواصفات مخصوصة للحجاب الإسلامي، وهذا مما لا نجده في نمط (الحجاب المتبرِّج) لدى سفيرات الإسلام عبر الفضائيات. هذا فضلاً عن الجلسات بين الجنسين! التي تعمِّم ثقافة الاختلاط وإطلاق البصر...
وبعد كل ذلك نسمع تبريرات تدّعي أن (عصرنة الإسلام) مما ينادي به منهج الوسطية التي هي السمة الأبرز في ديننا، والإشكال هنا يكمن في الفَهم الخاطئ للوسطية من حيث اعتبارها عند المخطئين مرادِفاً للتساهل والتمييع والتنازل عن الكثير من الثوابت والمسلَّمات، في حين تعني الوسطية أنه لا يوجد في ديننا إفراط يصل بالمسلم إلى حدِّ الغلوّ وتحميل النصوص ما لا تحتمل، ولا تفريط يفرِّغ الدين من محتواه ويطوِّعه ليتماشى مع الطروحات العالمية الجديدة وثقافة الحداثة. يقول تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، ولا يخفى أنّ أصحاب الأهواء المتطوِّعين بتهذيب الأحكام الشرعية، المعنيين بالحذف والإضافة والتعديل كُثُرٌ في الداخل والخارج، وكلما وجدوا من أبناء المسلمين وعلمائهم آذاناً صاغية وعقولاً تستوعب ما يطرحون كان ذلك مسرِّعاً لخطوات تنفيذ خططهم الرامية إلى تنحية الإسلام (بحقيقته لا بصورته) جانباً عن واقع الحياة.
وهذا بالطبع مما يحمِّلنا - كلاًّ بحسب موقعه - مسؤولية مجابهة كل طرح يتلاعب بالأحكام الشرعية ويخدم المصالح الغربية في العالم الإسلامي(/2)
الإسلام والغرب وجهاً لوجه
م. حسن الحسن *
A_l_hasan@yahoo.dk
شن الغرب حملة على الإسلام بشكلٍ مباشر ومن غير مواربة يشير إلى أن حملة علمنة الإسلام لم تحقق المرجو منها.
لم يعد بإمكان أحدٍ قط إغفال تلك الحملة العالمية المعادية للإسلام والتي طالما تم طرحها تحت عناوين شتى، كالحرب "الوقائية"، والحرب على "الإرهاب"، وعولمة ثقافة "حقوق الإنسان" ونشر "الديمقراطية" وما شاكل من مزاعم، ليس مقام بحث زيفها وتداعيها ونسبيتها هنا.
وبغية إحداث شرخ بين المسلمين، فقد اعتاد الغرب تناول الإسلام في خطابه الرسمي مُقَسِّماً المسلمين إلى "معتدلين" و"متطرفين"، محاولاً بذلك تشتيتهم، طامحاً إلى تفريخ إسلامٍ مرن ومتطور ومائع، لِيَفْقِدَ الإسلامُ خصائله ومميزاته، تلك التي تجعل منه نِدّاً للغرب، وليس ذائباً فيه. ألا إننا شهدنا في الآونة الأخيرة هجماتٍ فجَّةً ومباشرةً ومتعاقبةً في آن معاً على قضايا تمسُّ أحكاماً مجمعاً عليها، كتحكيم الشريعة والخلافة وجهاد المحتلين الغزاة، حيث باتت الدعوة لما سبق تهمة، كما أصبح التعرض "لإسرائيل" ولو بمجرد الكلام، أمراً مثيراً لسخط الغرب ومؤججاً لغضبه بشكلٍ غير مسبوق. ولعلَّ شن حملة على الإسلام بشكلٍ مباشر ومن غير مواربة، يشير إلى أن حملة علمنة الإسلام لم تحقق المرجو منها. ولذلك فقد آثر الغرب أخيراً مواجهة الإسلام كما هو، واصفاً جوهر ما يقوم عليه بأيديولوجية شر لا بد من وأدها في مهدها.
وهكذا صرنا نرى أبعاد الصراع واضحة المعالم، وجهاً لوجه بين عامَّة أمة الإسلام من جهة، والغرب مجسداً بالقوى الرأسمالية الكبرى من جهة أخرى، وبات واضحاً للعيان أنَّ "سيمفونية" القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية وغيرها من الترهات، ما هي إلا مجرد حجج لاستئصال الإسلام وتركيع المسلمين.
وبما أنّ أية أمة لا يمكن أن تدخل حلبة الصراع الدولي بشكلٍ فاعلٍ من غير أن ينتظم عقدها في كيان سياسيٍ تمثله دولة بكل مقوماتها وإمكانياتها، وأن مشروع دولة الخلافة هو ما يحقق ذلك وحده دون سواه للمسلمين، الأمر الذي يفسر صب الغرب جام غضبه على فكرة الخلافة، بغية الانتقاص منها وإضعاف الداعين إليها، محاولاً تشويهها وتقديمها في ثوب يقطر دماً ويقدح شراً.
وفي هذا السياق تأتي تصريحات وزير الداخلية البريطاني تشارلز كلارك الأخيرة موضحاً: "إنّ مسألة إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية أمران مرفوضان لا يقبلان النقاش أو المساومة" معتبراً "أن هذه القيم أساسيّة وغير قابلة للتفاوض ...". وقد سبقه إلى ذلك رئيس وزراء بريطانيا توني بلير حيث أعلن تبنيه لما سلف مضيفاً إليها موضوع القضاء على دولة "إسرائيل"، معتبراً "إن تحكيم الشريعة في العالم العربي، وإقامة خلافة واحدة في بلاد المسلمين، وإزالة نفوذ الغرب منها، هو أمرٌ غير مسموح به ولا يمكن احتماله مطلقاً".
وعلى النمط البريطاني، قام رموز الإدارة الأميركية بالتحذير بشدة من الخلافة، فبعد تتالي وتكرار تحذيرات الجنرال مايرز ورامسفلد من الخلافة، فها هو بوش يحذّر من قيام الدّولة الإسلاميّة التي ستمتدّ من إندونيسيا إلى الأندلس، منبهاً إلى: "إنَّ استراتيجية أوسع لناشطين إسلاميّين تهدف إلى إنهاء التأثير الأميركي في الشرق الأوسط، واستغلال الفراغ الناجم عن ذلك، في الإطاحة بأنظمة للحكم في المنطقة" وأضاف "إن المخطَّطَ الأكبر هو: إقامة إمبراطوريّة إسلاميّة متطرّفة من إسبانيا وحتّى إندونيسيا». ويتطابق هذا أيضا مع ما ذهب إليه بوتين عن التهديدات التي تؤرقه في آسيا الوسطى، منبهاً إلى "إنه يوجد من يعمل على إسقاط الأنظمة العلمانية بغية إقامة دولة إسلامية في آسيا الوسطى".
والخشية من دولة الخلافة والتهجم عليها وعلى تحكيم الشريعة بهذا الشكل غير المسبوق، تحمل عدة دلالات، أسوق أبرزها على النحو التالي:
1. بأنه لا يوجد الآن نموذجٌ ميداني يمثل المسلمين ويجسد هويتهم كأمة. وهذه حقيقةٌ لا مراء فيها، حيث إن الأنظمة المقيتة المتحكمة بمصائر الأمة الإسلامية فاقدة الشرعية والشعبية، مسلطةٌ عليها بغطاءٍ جليٍ من قبل الغرب، مُشَكِّلَةٌ حائلاً واضحاً دون نهضة الأمة ووحدتها.
2. بأنَّ الأمة الإسلامية قد أسقطت البدائل التي حاول الغرب تسويقها إليها، وأنها لم تعد ترى سوى الإسلام ملاذاً لها، كما أنها باتت جاهزة أكثر من أي وقتٍ مضى لمعانقة التغيير الذي يوحدها ويحكم شرع الله فيها ويضع حداً لتمادي أعدائها عليها.(/1)
3. إنَّ إصرار زعماء الدول الكبرى بالانتقاص من الشريعة والنيل من فكرة الخلافة بل وعملهم على تشديد قوانينهم لمحاربة أي شكلٍ من الإسلام السياسي الذي ينتمي إلى فكرة الخلافة، ليدلُّ على حالة الأرق من احتمال نجاح دعاة الخلافة في تحقيق مشروعهم، ذلك الذي يشكل نموذجاً فريداً على الصعيد الدولي لمباينته كل ما هو موجود من أنظمة، مما سيغير قواعد اللعبة السياسية القائمة بشكلٍ أساسي، ويشكل معها منعطفاً جديداً على صعيد النظام العالمي.
وخلاصة القول هو: إن نظرة متفحصةً في الواقع الدولي، يجعل من الأمة الإسلامية وحدها هي من يستطيع إيجاد حدّ للسفه الذي ترعاه الدول الكبرى من خلال المؤسسات الدولية. وإنَّ دولة الخلافة وحدها هي من سيجسد ذلك المشروع. ويرجع ذلك لطرح الإسلام رؤية إنسانية بحق، كبديلٍ عن الرأسمالية الفاسدة السائدة. أضف إلى ذلك أهلية الأمة الإسلامية للعب ذلك الدور حيث أنها تمتلك جغرافية استراتيجية هامة وحساسة، وثروات ومقدرات هائلة.
ولعلَّ ما ذهبت إليه تصريحات كبار ساسة الغرب، وما أصدرته مراكز البحوث والدراسات العالمية من احتمال قيام دولة الخلافة، لينبئ بأن الجمر مشتعلٌ تحت الرماد، وإنَّ خطوات الغرب التي يتخذها الآن ضد فكرة الخلافة وأنصارها، ما هي سوى محاولة أخيرة يائسة منه لوأد تلك الفكرة قبل أن تنجب واقعاً يصعب التعامل معه. على كلٍّ فإنّ كثرة الحديث عن الخلافة من كبار ساسة الدول مرفقة بتقارير مراكز الدراسات الاستراتيجية في الغرب، لهي إحدى العلامات الهامة التي تنبئ بقرب بزوغ فجر دولة الخلافة من جديد، فكما قال الشاعر:
أرى خلل الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام(/2)
الإسلام والغريزة الجنسية
قضية الجنس من أخطر المنعطفات في حياة المراهق والمراهقة ، وهي من أكثر مشكلات المراهقة تعقيداً، إذ إن فورة الجنس تتأجج في هذا السن لدى الفتيان والفتيات مع كثرة المثيرات، ومن هنا تشدد الحاجة إلى حسن التفاهم مع طبيعة المراهقة ثم وضع التدابير التي تجنب الفتى مواطن الانحراف والغواية.
وهنا نتساءل: ما نظرة الإسلام إلى الطاقة الجنسية ودوافع الجنس ؟
إن الدين يعترف بالغريزة الجنسية ويوجهها، ولم يكن الله الذي زود الإنسان بأجهزة التناسل وركب فيه غريزة الجنس، ليحرم عليه استعمال هذه الأجهزة بتاتًا، ولم يكن الله ليترك للإنسان حرية التصرف كاملة في هذه الأجهزة بلا ضابط فيكون كالحيوان.
إن الدين الحنيف يوجه الغريزة الجنسية في الحلال الطيب الذي لا لوم فيه ولا حرمة، وهو 'الزواج' الذي فيه تكريم للمرأة والرجل، وللأسرة والمجتمع.
وليس للجنس مشكلة في الإسلام، فقد خلقه الله ككل طاقة حيوية ليعمل لا ليكبت، إنه يقره كما يقر الدوافع كلها، ثم يقيم أمامها حواجز لا تغلق مجراها، ولكن ترفعها وتضبط مجراها، فهي أشبه بالقناطر تقام أمام تيار النهر لتوجيه طاقته كي تنفع ولا تحطم.
الفضول الجنسي عند المراهقين:
الجنس فطرة، ومن طبيعة الناشئة أن يتساءلوا: من أين يأتي الأطفال؟ وعما يكون بين الرجل والمرأة من حيث تكوينهما الجنسي ؟ وتلح هذه المشاعر على المراهق فيشعر بالحاجة الملحة إلى من يتحدث إليه، فله في ذلك اتجاهان:
1ـ إما أن يحصل المراهق على المعلومات من جماعة الرفاق، وفي الغالب تكون هذه المعلومات للاستثارة والتشويق، وغالبًا ما تثير الشعور بالقلق أو التأثم والشعور بالخطأ أو الإحساس بالنقص والقصور.
2ـ والاتجاه الآخر: هو أن يتحدث إلى الكبار المسئولين مثل أبويه وأساتذته، وعلى هؤلاء أن يطمئنوه، ويتخذوا حيال الأمور الجنسية اتجاهًا بيولوجيًا هادئًا لا يشوبه الحرج أو التأثم أو الاستقذار.
المدرسة تستطيع من جانبها أن تقوم بدورها في هذا الصدد عن طريق دروس علم الأحياء والدين والأدب التي تعتبر من الأسباب الطيبة لإشباع ما يكون عند المراهقين من فضول طبيعي في هذه الناحية، ولإشباع قواعد التربية السليمة وتطبع المراهق بالمعايير الخلقية والاجتماعية التي تدعو المجتمع إلى التقيد بها في هذا المضمار وذلك يساعد على التخفيف من حدة القلق والتوتر الذي يمازج الفضول في هذه المرحلة.
الإسلام فيه الإجابات الشافية عن قضية الجنس:
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سألت أم سليم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: 'إذا احتلمت المرأة أتغتسل؟ فقال: إذا رأت الماء فلتغتسل ' فقالت أم سلمة: يا رسول الله وهل تحتلم المرأة ؟ قال: تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها ؟ ' لقد أعطى رسول الله معلومات مناسبة عن قضية الوراثة بأسلوب علمي، وكانت صراحة الصحابية وحرصها على تعلم دينها من الحوافز التي لم تمنعها من السؤال.
ولا يفوتنا أن أم سلمة أخبرت ابنتها زينب لهذه الحادثة كنوع من التعليم والتوجيه هذه هي نظرة الإسلام إلى الجنس نظرة الفطرة السوية.
التربية الجنسية الشرعية هي الحل وليست التربية الغربية:
واليوم نجد هناك دعوة تأتي رياحها من مجتمعات أخرى لتعليم التربية الجنسية ولقد علمنا من واقع هذه المجتمعات ما المقصود بهذا العنوان ' بل ورأينا نتيجة في واقع تلك المجتمعات '.
ونحن نرفض أن نلخص التربية الجنسية في تدريب الفتاة على الأسلوب الذي تتفادى به الحمل أثناء العلاقات الآثمة في سن المراهقة، أو الذي يتفادى به عدوى مرضى الإيدز في هذه العلاقات المحرمة.
ولكن التربية الجنسية هي القيم والمبادئ التي من خلالها يعبر الشاب وتعبر الفتاة تلك المرحلة ليصلوا إلى بر الأمان والتي تتلخص في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ[29]إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29ـ30] وقال تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]
إن تربية الفتيان والفتيات على آداب الإسلام منذ الصغر ضرورة ملحة، ليقفوا عند حدود الحلال والحرام فلا تهاون ولا تجاوز لهذه الحدود.
الإسلام هو الضابط في قضية التربية الجنسية:
وقد وضع الإسلام ضوابط تحد من انحرافات الجنس وجعل هنالك تدابير شرعية توصد باب الغواية، فسن آداب الحجاب وغض البصر وآداب الاستئذان ومنع الاختلاط ولو اتبعت هذه الآداب والضوابط لحُلت كثير من مشكلات المراهقين الجنسية.
فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام
إلى حين اللقاء لكم منا التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المراجع:
1- مراهقة بلا أزمة - د. أكرم رضا.
2- [علم نفس النمو: حامد زهران ص418].
3- [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ج2/196](/1)
الإسلام والفنون
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام والفنون
د. حسام الدين عفانه
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
• ... الإسلام والفنون
• ... تعريف الفن الإسلامي
• ... منهج الفن الإسلامي
• ... خصائص الفن الإسلامي
• ... الفنان المسلم
• ... الفنون وموقف الإسلام منها باختصار شديد
• ... أولاً : فن التصوير
• ... ثانياً : الموسيقى والغناء
• ... ثالثاً : التمثيل
إن الحمد لله ...
تطلق كلمة الفن في وقتنا الحاضر على الغناء والموسيقى والتمثيل والرقص والتصوير والرسم ونحو ذلك من الأمور .
واستعمال كلمة الفن في هذه الأمور هو استعمال حديث وأما قديماً فاستعملت كلمة صناعة في الدلالة على ما يسمى فناً ، ففي مصادرنا القديمة يقولون صناعة الشعر وصناعة الأدب . فألف أبو هلال العسكري كتابه : " الصناعتين النظم والنثر " ، وألف القلقشندي كتابه :" صبح الأعشى في صناعة الإنشا " وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن صناعة الغناء .الفن الإسلامي للشامي ص 17 فما بعدها .
واستخدمت كلمة الفن في العلوم المختلفة فألف ابن عقيل من علماء الحنابلة كتابه " الفنون " .
ويمكننا أن نعرف الفن بأنه التعبير المنسق المبدع الماهر عن تصورات ذات انفعال بوسائل خاصة وضمن قواعد يحكمها الجمال والذوق . الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة ص 18 .
تعريف الفن الإسلامي :
قال الأستاذ محمد قطب في بيان معنى الفن الإسلامي :[ هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود . وهو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان . منهج الفن الإسلامي ص 6 ، نقلاً عن الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة ص 31 .
منهج الفن الإسلامي :
لما كان الفن الإسلامي يرسم صورة الوجود من خلال التصور الإسلامي فإن منهجه في ذلك الفن منبثق أيضاً من التصور الإسلامي وهو يتفق مع منهج الإسلام في الحياة كلها ومن هنا فإن منهج الفن الإسلامي ينظر إلى الإنسان على أنه مخلوق في الوجود ومكون من مادة وعقل وروح وهو مكرم قد سخر له الكون كله ويشكل الإنسان جزءاً من أجزاء هذا الوجود وتتفق حركته مع حركة الوجود حوله وحركته في الحياة هي حركة وئام وانسجام لا حركة صراع وعقد نفسية وهو في المنهج الإسلامي يرضى بالقضاء والقدر لا يصارعه كما هو متصور في بعض مناهج الفنون .
ويرفض الإسلام منهج التقديس الذي يقوم عليه الفن غير الإسلامي سواء كان فناً غريباً أو فناً شرقياً وسواء كان قديماً أو حديثاً فالفنان في منهج الفن الإسلامي هو مخلوق مكرم لا خالق مقدس كما أن فكرة الفن الإسلامي تدور حول العبودية لله خلافاً لما يدور عليه الفن الجاهلي الذي يقدس الأجساد أو الفنان .
والطبيعة وما فيها من أشياء هي مجال ذلك الفن الذي يلحظ الدنيا والآخرة في فنه والماضي والحاضر والمستقبل ويقوم على التوازن والاعتدال وينبذ اللاشعور والتشرذم ويوازن بين العقل والعاطفة والمادة والروح .
والحقيقة أن منهج الإسلام وتصوره للكون والإنسان والحياة يعتبر هو منهجاً للفن الإسلامي مع ملاحظة ما ورد في الشريعة الإسلامية من أحكام تتعلق بجزيئات الفنون المختلفة الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة ص 32 بتصرف .
خصائص الفن الإسلامي :
1. يقوم الفن الإسلامي على العبودية الخالصة لله تعالى فهو يقوم على أساس من عقيدة التوحيد وعلى تصور شامل للإنسان والكون والحياة . الفن الإسلامي للشامي ص37 .
وذلك في الوقت الذي قامت فيه الفنون غير الإسلامية على التعبير عن التصورات الوثنية والانفعالات الخاطئة وأخذت تصور الآلهة على اللوحات أو تمثلها في التمثيليات أو تخاطبها في لحن موسيقي وكلام غنائي وكذلك تُنصب تلك المبادئ عبر فنونها أبطالاً يصارعون الآلهة مع وضعها آلهة لكل شيء في حياتنا فللخمرة إله وللشر إله وللخير إله وللخصب إله وهكذا . ثم إن القصة أو التمثيلية أو اللوحة المصورة في تصورهم يجب أن تترجم الصراع بين الإنسان والقضاء والقدر والفنان إنما هو إله أو نصف إله لأنه يكمل في فنه ما خفي من الكون . الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة ص 34-35 .
2. التحرر من الخرافات والأساطير التي تعتبر المادة الأساسية للفنون غير الإسلامية وذلك لأن التصور الإسلامي حارب الخرافات وحرر العقول من الأساطير وهذه الخرافات لا تتفق مع التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة بل تعتبر لوناً من ألوان الوثنية وإن كانت تسمى فناً . الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة ص34.
3. والفن في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية والوسيلة تشرف بشرف الغاية التي تؤدي إليها فلذا ليس الفن للفن وإنما الفن في خدمة الحق والفضيلة والعدالة وفي سبيل الخير والجمال .
4. وللفن في التصور الإسلامي غاية وهدف إذ كل أمر يخلو من ذلك فهو عبث وباطل والفن الإسلامي فوق العبث والباطل فحياة الإنسان ووقته أثمن من أن يكون طعمة للعبث الذي لا طائل تحته .(/1)
5. إن الغاية التي يهدف الفن الإسلامي إلى تحقيقها هي إيصال الجمال إلى حس المشاهد [ المتلقي ] وهي ارتقاء به نحو الأسمى والأعلى والأحسن أي نحو الأجمل فهي اتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والإنتاج ورفض للهبوط . الفن الإسلامي للشامي 39 .
6. استقلالية الفن وتميزه نظراً لاستقلالية التصور الإسلامي من كل الضغوطات الاجتماعية وغير الاجتماعية التي كانت تؤثر على الفنون في العصور القديمة ونظراً لتميزه عن كل التصورات فإن فنه يستقل ويتميز عن كل الفنون سواء كان هذا الفن شعراً أو قصة أو تصويراً أو تمثيلاً ويكفي أن الفن الإسلامي متحرر من القيود الوثنية التي أحاطت بالفنون خاصة في القرون القديمة والوسطى عند الفراعنة واليونان وأوروبا الكنسية وسيبقى متميزاً عن غيره . الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة 33 . وغير ذلك من الخصائص
الفنان المسلم :
هو الإنسان الموهوب السوي الملتزم ، إن كلمة فنان تطلق في اللغة العربية على الحمار الوحشي لأن له فنوناً في العدو والركض وكثير من فناني اليوم لهم من هذا الاسم نصيب وكذا الفنانات فلهم من صفات الحمير والحمارات نصيب ؟!
إلا أن الفنان المسلم لا بد أن تتوفر فيه ثلاث صفات :
الأولى : أن تتوفر فيه الموهبة فهي المنحة التي يمنحها الله إنساناً من الناس بحيث يرهف حسه وترق مشاعره وتنفذ بصيرته إنها قضية غير مكتسبة ولكنها هبة . يقول الأستاذ محمد قطب :[ والفنان شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات - التي يتلقاها حسه مكبرة مضخمة - إلى لون من الأداء الجميل يثير في النفس الانفعال ويحرك فيها حاسة الجمال ] منهج الفن الإسلامي ص 15 .
وإذا كانت هذه الموهبة هي السمة المميزة للفنان فلا بد حتى تؤتي ثمارها أن تستند إلى أرض صالحة ثابتة حتى تأخذ طريقها سوية مستقيمة منتجة للظل الوارف والثمر الطيب وهذه هي السمة الثانية .
الثانية : الإنسان السوي :
إنه الإنسان المتوازن الذي توفرت له الصحة النفسية الكامنة وهذه السمة هي نتيجة تلقائية عادية للتربية الإسلامية التي يسهم فيها البيت المسلم والمدرسة والمجتمع المسلم . إن الفنان قبل أن يكون موهوباً ينبغي أن يكون إنساناً سوياً يأخذ التوازن أبعاداً في كيانه له تصور كامل عن الكون والإنسان والحياة يدري غايته وهدفه في هذه الحياة فهو واضح في كل شيء من وضوح منهجه وهو الإسلام ، تلك هي النفس التي يهيؤها الإسلام في الإنسان وحين تظهر الموهبة على هذا السطح الثابت الأركان يمكن أن تكون إيجابية فعالة معطاءة في سبيل الخير والجمال ذلك أن ثقلها وضغطها لن يؤثر على ثبات القاعدة فلن يختل توازنها وتعاليم الإسلام ومنهجه يكفلان هذا الثبات المتوازن . الفن الإسلامي للشامي 69-71 .
أما الفنان في الغرب فإنسان غير سوي فيرى فرويد أن الانحراف هو العلة في إبداع الفنان بينما يرى عالم النفس يونج أن الانحراف ما هو إلا نتيجة للإبداع فالفنان عندهم إنسان غير سوي فمثلاً بيكاسو الرسام المشهور كان منحرفاً ويؤمن بالشعوذة والخرافات
وفان جوخ مات منتحراً
وهمنجواي مات منتحراً . الفن الإسلامي للشامي ص 69-71 .
الثالثة : الإلتزام بالإسلام تصوراً وسلوكاً ومنهاج حياة :
ولا يظنن أحد أن الحرية تفقد وجودها في ظل الإلتزام إن الفنان المسلم في حرية كاملة تأخذ أبعادها في مشاعره وتصوراته كما تأخذه في حياته العملية وفي تطبيقاته ذلك أنه قد طرح من حسابه ما وراء القيد الذي يفرضه الإسلام إذ الإسلام حرية القيد لا حرية الحرية والمثال يوضح ذلك فالخمر محرمة في الإسلام فالفنان المسلم - وكل مسلم - يخرج الخمر من حياته فلا يعود لها وجود فيها فبذلك لا يشعر أن حريته قد تأثرت بمنع الاقتراب منها وكذلك جميع الممنوعات الأخرى وإذا بقي لها من وجود فهو وجود الشر الذي يحذره ويبتعد عنه بدافع القناعة الكاملة والحرية الكاملة ، إن الالتزام لا يخدش كرامة الحرية لكنه يبعثها من منطلقات صحيحة ويحلها بمكانها اللائق بها بعيداً عن منحدرات الإسفاف والرذيلة . الفن الإسلامي للشامي ص 85 .
الفنون وموقف الإسلام منها باختصار شديد :
أولاً : فن التصوير : والمقصود به التشكيل والتكوين والتجسيم وردت إشارات إلى ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية ، قال الله تعالى :( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) سورة الأنبياء الآية 52 .
وقال تعالى :( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) سورة سبأ الآية 13 .
وورد في حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون ) متفق عليه . وهم الذين يصورون أشكال الحيوانات التي تعبد من دون الله كما قال القسطلاني في إرشاد الساري 8/481 .(/2)
وعن أبي سعيد قال :( أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير ) رواه الترمذي ومالك ، وغير ذلك من الأحاديث .
وقد استعرض أحد الباحثين الأحاديث الواردة في التصوير والصور وخلص إلى أن المقصود بالصورة في الأحاديث التمثال وأن هذا المعنى هو الأكثر وروداً ووضوحاً ثم ورودها بمعنى الرقم والنقش .
وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في حكم التصوير ويمكن أن نجمل الأحكام المتعلقة بالتصوير بما يلي :
1. يحرم تصوير التماثيل وخاصة ما كان يعبد من دون الله .
2. تحرم التماثيل المقصود بها مضاهاة خلق الله أو المقصود بها التعظيم كتماثيل الزعماء والحكام .
3. تحرم تماثيل كل ما فيه روح ويستثنى من ذلك لعب الأطفال .
4. تحرم الصور غير المجسمة إذا قصد بها التعظيم . الإسلام والفن للقرضاوي ص 111-113 .
5. التصوير الفوتغرافي والتصوير التلفزيوني الأصل فييهما الإباحة إلا إذا كان أصل الصورة محرماً كتصوير امرأة سافرة أو نحو ذلك . وكذلك يحرم هذا النوع من التصوير إذا ترتب عليه مفاسد مثل أفلام الجنس والأفلام التي تعلم الناس السرقة والميوعة والانحراف وغير ذلك من طرق الفساد .
6. يترتب على ما سبق من الأحكام أنه لا يجوز العمل بأي شكل من الأشكال في كل ما يتعلق بهذه المحرمات . فيحرم صنع التماثيل وبيعها واتخاذها في البيوت وغيرها.
ثانياً : الموسيقى والغناء :
وهي من المواطن الشائكة في البحث العلمي .
وخلاصة أحكام الموسيقى وعلى وجه الدقة الآلات الموسيقية :
1. لا يسلم القول بتحريمها مطلقاً كما أنه لا يسلم القول بإباحتها على الإطلاق .
2. تحريم المعازف والمزامير لقوة الأدلة على ذلك ومنها حديث أبي عامر الأشعري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف ) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً
وغير ذلك من الأحاديث .
والصحيح من أقوال المحدثين أن حديث أبي عامر الأشعري ثابت لا مطعن فيه ولا يسلم تضعيف ابن حزم ومن تابعه للحديث وهذا قول الحافظ ابن حجر والقسطلاني والعيني وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وغيرهم . الشريعة الإسلامية والفنون للقضاة 213-214.
3. يباح الدف وطبل الغزاة ونحوهما في الأعراس .
أما الغناء فخلاصة الأحكام فيه ما يلي:
1. تحريم غناء النساء للرجال والرجال للنساء .
2. إباحة غناء النساء للنساء والرجال للرجال ما لم يكن فيه فحش أو يؤدي إلى فتنة .
3. الغناء المصاحب للمعازف الراجح من أقوال العلماء تحريمه .
4. الأغاني الحديثة الغالب عليها التحريم وخاصة ما يسمى بفيديو كليب .
5. يصير الغناء المباح حراماً إذا أشغل الناس عن الواجبات .
6. القيود التي وضعها العلماء القائلون بإباحة الغناء لا تكاد توجد في الأغاني الحديثة
فلذلك يغلب عليها التحريم .
ثالثاً : التمثيل :
1. يحرم التمثيل المحتوي على المنكرات والمحرمات كتمثيل الرجل مع المرأة والسفور والعري والاختلاط والكذب والكفر والفواحش .
2. يحرم تمثيل الأنبياء والصحابة .
3. يغلب التحريم على التمثيل السينمائي والتلفزيوني والمسرحي في عصرنا الحاضر لأنه لا يخلو من المحرمات .
والله الهادي إلى سواء السبيل
الاثنين، 03 ذو الحجة، 1421
وفق 26 شباط، 2001(/3)
الإسلام والقصاص في الشريعة الإسلامية
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه وسلم، أحمد ه على أمر بالتفقه في الدين، وأشكره على أرشدنا إلى إتباع سنن المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين وآله الطاهرين وصحبه الأكرمين.
وبعد:
فإن الدراسات الإسلامية التي ملئت بها المكتبة الإسلامية قد درست جوانب كثيرة ومواضع متعددة من موضوعات الدراسات الإسلامية، وقد كان من نصيبي أن أقوم بإعداد بحث بعنوان: "الإسلام والقصاص"، والأصل في هذا العنوان قوله تعالى:? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [ سورة : البقرة - آية 179 ]
و أحببت أن أقدم بحثي عن القتل، وذلك لما نرى من كثرة القتل في اليمن عموماً، والقرى خصوصاً، وذلك بسبب عدم تطبيق شرع الله الذي ينص على القصاص، والتساهل من قبل الجهات المعنية بذلك.
ولقد قمت بهذا البحث لما رأيت من الضرورة بمكان توعية الناس بهذا الحكم بدلا من الانتقام والثارات الباطلة
خطة البحث : قسمت البحث إلى مقدمة وثلاثة أبحاث وخاتمة.
المبحث الأول : تعريف القصاص – أدلته – الحكمة من مشروعيته.
المطلب الأول : تعريفه.
المطلب الثاني: أدلته .
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعيته.
المبحث الثاني: الشروط الموجبة للقصاص
المطلب الأول: شروطه يجب توفرها في القاتل.
المطلب الثاني: شروط يجب توفرها في المقتول.
المطلب الثالث: شروط يجب توفرها في ذات القتل.
المبحث الثالث : مسقطات القصاص
المطلب الأول : العفو.
المطلب الثاني: الصلح.
المبحث الأول
أدلة مشروعية القصاص الحكمة من مشروعيته
المطلب الأول
التعريف
تعريفه:
في اللغة: القصاص ... القود وهو القتل بالقتل، والجرح بالجرح، والتقاص التناصف في القصاص.
يقول الشاعر : فرمنا القصاص وكان التقاص حكماً وعدلاً على المسامينا
وقيل: القصاص بالكسر القود .
وفي الاصطلاح:
معنى القصاص المماثلة أي مجازات الجاني بمثل فعله، وهو القتل .
المطلب الثاني
ألأدلته من الكتاب والسنة
نصوص الله سبحانه على حد القصاص بآيات متعددة من الكتاب تدل على مشروعية القصاص، وأنه حق متقرر لأولياء الدم، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [سورة : البقرة – آية 178] ، وقال تعالى: ? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[ سورة : المائدة- آية 45 ]، وقال تعالى: ? وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ? [ سورة : الإسراء-آية 33] ، وقال تعالى: ?الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ? [ سورة : البقرة -آية 194 ] ، وقال تعالى: ? وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ? [ سورة : النحل- آية 126]
أدلته من السنة :(/1)
الأحاديث الدالة على شرعية القصاص كثيرة نورد منها ،حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة فقتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله عز وجل حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد قبل، ولا تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام لا يعضد بشجرها ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي" ، وحديث أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، فإن قبل من ذلك شيئاً، ثم عدى بعد ذلك فإن له النار" ، وحديث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمداً أسلم إلى أولياء المقتول، فإن أحبو قتلوه وإن أحبوا أخذوا العقل، ثلاثين حقه وثلاثين جذعة، وأربعون في بطونها أولادها".
المطلب الثالث
الحكمة من مشروعة القصاص
جاءت الشريعة الإسلامية لتوطيد الأمن والحماية للمجتمع، واستئصال كل ما قد يؤدي إلى انتشار الفوضى والاضطراب، ولتحقيق هذا الغرض شرعت عقوبات رادعة لمنع العابثين والمستهترين من التعدي على الدماء والأموال، وتحقيق الحياة الآمنة المطمئنة لجميع أفراد المجتمع، يستوي في ذلك القوي الضعيف ، ولعل أبرز هذه العقوبات وأبعدها أثراً عقوبة القصاص من القاتل المتعمد جزاء ما اقترفت يداه، والحكمة من مشروعية هذه العقوبة لا تخفى على من لديه إدراك سليم، وقد بين جل ذكره حكمة مشروعية القصاص بياناً شافياً موجزاً لا يرقى إلى مستواه أي تعبير بشري مهما بلغت فصاحة كتابه، ، وذلك في قوله تعالى: ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [البقرة179 ] ، فقد بينت هذه الآية أن الغرض من مشروعية القصاص المحافظة على حياة بني الإنسان، فإن علم مريد القتل أنه سيقتل وتزهق روحه كما أزهق، روح غيره يدفعه إلى الامتناع عن القتل خوفاً من العقوبة التي ستقع عليه، وبذلك يحفظ حياته وحياة ومن يريد قتله.
المبحث الثاني
الشروط الموجبة للقصاص
المطلب الأول
شروط يجب توفرها في القاتل
اشتراط الفقهاء في الجاني المستحق لعقوبة القتل العمد عدداً من الشروط، وهي كما يلي:
1- أن يكون الجاني بالغاً، فإن كان صبياً فلا قصاص عليه سواء كان مميزاً أو غير مميزا، وعلى ذلك أن غير المميز لا يدرك النتائج المترتبة على فعله، أما المميز فإنه وإن كان لديه بعض الإدراك إلا أن إدراكه قاصراً، ولم يكن فعله موجباً لإيقاع القصاص عليه؛ لأن القصاص عقوبة يكن فعله موجباً لإيقاع القصاص عليه؛ لأن القصاص عقوبة متناهية الشدة، فلا تقع إلا على شخص توفرت فيه جميع عناصر الأهلية . ومما يدل على اشتراط البلوغ قوله -صلى الله عليه وسلم- : "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" .
2- أن يكون الجاني عاقلاً، فلا يجب القصاص على زائل العقل كالمجنون والمعتوه، والمغمى عليه، والنائم لفقدان الأهلية بالنسبة لهم، كما دل الحديث السابق في الشرط الأول، وهذا الحديث وإن اقتصر فيه على المجنون والنائم والصبي إلا أنه يلحق بهم. والمعتوه المغمى عليه لاشتراكهم في العلة، وهي عدم إدراكهم للآثار المترتبة على أفعالهم ولما رواه مالك في موطأ عن يحيى بن سعيد بن مروان بن الحكم: كتب إلى معادية بن أبي سفيان أنه أتى بمجنون قتل رجلاً، فكتب إليه معاوية أن أعقله، ولا تقد منه، فإنه ليس على مجنون قود. ولما روي أن عمر أتي بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناساً، فأمر عمر أن ترجم، فمر به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة آل فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي عن يحلم، فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شيء، فأرسلها، فأرسلها فجعل يكبر) ، لأن القصاص عقوبة مغلظة، فلم تجب على هؤلاء كالحد، ولأن لي لهم قصد صحيح، فكانوا كالقاتل الخطأ.(/2)
3- أن يكون الجاني مختاراً، فلا قصاص على المكره وإلى اشتراط ذلك ذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ويرى هؤلاء أن القصاص واجب على المكره دون المكره وحجتهم ما رواه البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، ولأن المكره مسلوب الاختيار، فأشبه الآلة، والقصاص إنما يجب على مستعملي الآلة ذاتها، ولآن المكره إنما قتل المجني عليه دفاعاً عن نفسه، فلم يوجب عليه القصاص، كما لو أتاه رجلاً يريد قتله فقتله دفاعاً عن نفسه. وذهب مالك وأحمد وبعض الشافعية وأهل الظاهر إلى وجوب القصاص على المكره والمكره معاً، وحجتهم إجماع الفقهاء على أن من أشرف على الهلاك في مخمصة لم يكن له أن يقتل إنساناً فيأكله، ولأن المكره استبقى نفسه لقتل غيره، والمكره تسبب في القتل بما يقضي عليه غالباً، وذهب الشافعي في قوله الثاني وزفر من علماء الحنفية إلى وجوب القصاص على المكره، وحجتهم أن المأمور مباشر للقتل مع قدرته على الامتناع عما أكره عليه فكان مختاراً للقتل، وفي نظري أن القول بوجوب القصاص على المكره والمكره أولى أن يأخذ به، لقوة أدلته، ولأن كلاً منهما قد ساهم في القتل العمد العدواني ووجب أني يتحمل تبعة فعله كما لو اتفقنا عليه.
4- أن يكون عالماً بتحريم القتل، فإن كان جاهلاً به فلا قصاص عليه، وعلة اشتراط ذلك أن اشتراط ذلك أن القصاص شرع للردع والزجر عن معاودة الفعل، والجاهل بالتحريم لا تدعو الحاجة إلى معاقبته؛ لأن عدم العلم بالتحريم يستلزم اعتقاد الحل، وذلك شبهه والقصاص يدرأ بالشبهات .
5- أن يكون القائل معصوم الدم، فإن كان مهدر الدم فلا قصاص عليه سواء كان المقتول معصوماً أو مهدوراً، وبناء على هذا الشرط لا يجب القصاص على الكافر الحربي إذا أسلم بعد ارتكاب جناية القتل، وذلك لقوله تعالى: ? قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ? [سورة : الأنفال-آية 38 ]. وقال - صلى الله عليه وسلم- :"الإيمان يجب ما قبله" .ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل وحشياً قاتل عمه حمزة، ولم يأخذ منه الدية، ولو كان القصاص واجباً على الحربي لقتله للمسلم لقاده النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
6- أن يكون القاتل مباشراً، فإذا لم يكن مباشراً للقتل فلا قصاص عليه ولو كان متسبباً فيه، وبناءً على هذا الشرط لا يجب القصاص على الشهود القتل إذا اعترفوا بتعمدهم الكذب عن الاقتصاص من المشهود عليه، وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، وحجتهم أن القتل تسبباً لا يساوي القتل مباشرة؛ قتل صورة ومعنى، والقصاص قتل بالمباشرة، فلم يكن مساوياً لما صدر عن القاتل، وعند انتفاء المساواة ينتفي بوجوب القصاص لتخلف شرطه. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المباشرة ليست شرطاً لوجوب القصاص ولا فرق في الحكم بين المباشر والمتسبب، وحجتهم ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي - رضي الله عنه -، على رجل أنه سرق، فقطعه، وأتياه بآخر فقالا هذا الذي سرق وأخطأ على الأول، فلم يجيز شهادتهما على الآخر، وألزمهما دية يد الأول، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما، لقطعتكم .
فهذا الأثر يدل صراحة على وجوب القصاص على المتسبب، إذ أن الشهود لم يباشروا القطع، وإنما تسببوا فيه، ومع ذلك قال لهم علي - رضي الله عنه -: لو علمت أنكما تعمدتموها لقطعتكما، وإن كان السبب موجباً للقصاص في الأطراف وكذا في النفس إذ لا فرق بين النفس والأطراف؛ ولأن القتل اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة، وهذا المعنى موجودة في المتسبب، فكان فعله موجباً للقصاص عليه كالمباشر.
المطلب الثاني
الشروط الواجب توفرها في المقتول
1 ـ أن يكون المقتول معصوم الدم، فإن كان مهدور الدم فلا قصاص على قاتله، وأساس العصمة عند أكثر الفقهاء المسلمين هو الإسلام أو الأمان، ويندرج تحت لفظ الأمان عقد الجزية والموادعة، فالذمي المستأمن متساويان في العصمة، وتحريم الدم، والمال المسلم؛ لأن عصمة المستأمن مؤقتة تنتهي بانتهاء مدة أمانه ، أما أبو حنيفة فيرى أن العصمة لا تكون إلا بالإسلام أو الأمان، وإنما يعصم المرء بعصمة الدار ومنعه الإسلام إلى دار الحرب، وإذا كان أساس العصمة هو الإسلام أو الأمان فإنها تزول بزوال الأساس الذي بنيت عليه، على أن العصمة قد تزول مع بقاء الإسلام أو الأمان.
2 ـ أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل ومثال ذلك أن لا يقتل المسلم بالكافر، والجماعة بالواحد.
المطلب الثالث
الشروط الواجب توفرها في ذات القتل
اشتراط الفقهاء في القتل الموجب للقصاص عدداً من الشروط هي:(/3)
1 ـ أن يقع القتل في دار الإسلام، فإن وقع في دار الحرب فلا قصاص، وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وحجتهم ما رواه أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصبحنا المحرمات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للرسول، فقال -صلى الله عليه وسلم- :" أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقاله أم لا، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ" ، وروى سالم بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا، صبأنا، ووقع خالد فيهم أسراً وقتلاً، ودفع إلى كل رجل منا أسيراً حتى إذا أصبحنا يوماً أمرنا خالد بن الوليد أن يقتل كل واحد منا أسيره، فقال ابن عمر: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، فقدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له صنيع خالد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ، فلو كان القصاص واجباً للقتل في دار الحرب لاقتص - صلى الله عليه وسلم - من أسامة وخالد.
2 ـ أن يكون عمداً، فإن لم يكن عمداً، لم يجب به قصاص، وإنما تجب الدية، ولم يتفق الفقهاء فيما يعتبر عمداً موجباً للقصاص وما لا يعتبر. فيرى الإمام مالك أن كل فعل يتعمده الجاني على وجه الاعتداء وينتج عنه موت المجني عليه فإنه يعتبر قتل عمد يترتب عليه القصاص، وإن لم يكن الفعل مما يقتل غالباً كاللطمة واللكزة، والضرب بالسوط والعصا الصغيرة، ويخالفه في ذلك أكثر الفقهاء فيرون أن اعتبار القتل عمداً إنما يرجع فيه إلى الوسيلة المستخدمة في القتل، فإن كانت مما يقتل غالباً بطبيعته، فالقتل عمده، وإن كانت مما لا يقتل غالباً فهو شبه عمد، وإنما القتل عنده عمد وخطأ ولم يرد في القرآن إلا العمد والخطأ، فمن زاد عليهما قسماً ثالثاً فقد زاد على ما نص عليه القرآن الكريم، قال تعالى: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ?[ سورة:النساء- آية 92].
3 ـ أن يكون ولي القصاص معلوماً، فإن كان مجهولاً لم يجب القصاص على القاتل، وإلى اشتراط هذا الشرط ذهبت الحنفية ، وحجتهم أن القصاص إنما وجب لأجل الاستيفاء، ولا يمكن القصاص مع جهل مستحقه، فلا يكون القصاص واجباً لعدم الفائدة.
4 ـ كالأب والمسلم والخاطئ وغير المكلف، والسبع، ولم يتفق الفقهاء على اشتراط هذا الشرط به قد اختلفت آراؤهم تبعاً لاختلاف صور المشاركة ، فاشتراك الأب وغيره في ارتكاب واقعة القتل، يرى فيها الإمام أحمد في المشهور عنه، ومالك والشافعي وأبو ثور أن امتناع القصاص عن الأب لا يعتبر سبباً موجباً لانتفاء القصاص عن شريكه.
المبحث الثالث
مسقطات القصاص
المطلب الأول
العفو(/4)
لقد اتفق الفقهاء على مشروعية العفو عند القصاص، وأن ذلك أفضل من في الجملة، وقد احتجوا على ما ذهبوا إليه من النصوص الواردة في الكتاب والسنة، المتضمنة الترغيب في العفو والحث عليه، كقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [سورة : البقرة – آية 178]، وقوله تعالى :? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?[ سورة : المائدة-آية 45] ، وقوله تعالى : ? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ? [ سورة : الشورى- آية 40] ، وقد جاءت السنة مؤكدة على ما نص عليه القرآن، روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو) ، وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحط به عنه خطيئة" ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عزاً" ، وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفاً عليهن: لا ينقص مال من صدق، فتصدقوا، ولا يعفوا عبد عن مظلمة يبغي بها وجه الله عز وجل إلا زاده الله عزاً يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) ، والعفو عن القصاص عند الشافعي وأحمد هو التنازل عن القصاص إلى الدية أو إلى غير مقابل ، أما مالك وأبو حنيفة فلا يعتبران التنازل عن القصاص إلى الدية عفواً، وإنما يعتبران أنه صلحاً، ولذلك اشترطا لنفاذ التنازل رضاً الجاني لدفع الدية، وأساس الخلافة بين هذين الفريقين اختلافهما فيما يجب القتل العمد،ويرى الإمام أحمد في رواية عنه ، ويرى الشافعي في المشهور ومالك في رواية عنه والأوزاعي وإسحاق وابن سيرين وأبو ثور وأهل الظاهر أن القتل العمد يوجب القصاص والدية، ويكون الخيار بينهما حقاً لولي القصاص دون غيره ، محتجين بقوله تعالى: ? فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ? ، قال ابن عباس: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله عليهم هذه الآية : ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى? إلى قوله: ? فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ? ، والعفو أن يقبل في العبد الدية، فاتباع المعروف، يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم مما كتب على من قبلكم) .
فهذا تفسير ابن عباس للآية، ولصحابة أعلم من غيرهم بالمراد من كتاب الله لمعاصرتهم النبي - صلى الله عليه وسلم- وتلقيهم عنه يستبعد أن يقول ابن عباس بهذا القول في تفسير الآية دون أن يكون علمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ?[ سورة : النساء -آية 29 ] ، فقد نهى الله في هذه الآية عن قتل النفس، وتعريضها إلى مواطن الهلاك، مما يدل على وجوب استنقاذ الإنسان نفسه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فإذا عرض عليه أولياء الدم افتدى بنفسه عملاً بالآية.
المطلب الثاني
الصلح(/5)
أجمع الفقهاء على الصلح في الدم العمد مسقط القصاص عن الجاني سواء أكان العوض المصالح عليه مالياً أو غير مالي، قليلاً ما أو كثيراً، وعلى ذلك أن القصاص حق مقرر لوارث المجني عليه، ومن كان له حق مالك التصرف فيه بحسب ما يريد، ولأن الولي يملك إسقاط القصاص على غيره عوض كما في العفو، فملك إسقاطه على عوض قياساً على سائر الحقوق، ولأن الحكمة من مشروعية القصاص المحافظة على حياة الناس، وردع بعضهم عن بعض، واستئصال كل ما من شأنه إثارة الفتن والأحقاد، وهذا يتحقق بالصلح بين الجاني وأولياء المجني عليه، إذ به تسكن النفوس، وتزول الرغبة في الانتقام من الجاني، وأن الصلح لا يكون إلا بالتراضي بين الجانبين، وكما يسقط القصاص بصلح جميع أولياء الدم، ويسقط بصلح بعضهم لأن القصاص حق ثابت لكل واحد منهم، فملك المصالحة عنه، ما هو الشأن في سائر الحقوق المشتركة ، وإذا سقط نصيب أحد الأولياء في القصاص بالصلح، سقط نصيب الباقين، لأن القصاص لا يتجزأ، ولمن لم يصلح، سقط نصيب الباقين، لأن القصاص لا يتجزأ، ولمن لم يصالح من الأولياء حق المطالبة بنصيبه من الدية، لأنه تعذر استيفاء القصاص نتيجة لمصالحة بعض الأولياء، فينتقل حق من لم يصالح إلى الدية كما هو الشأن في عفو بعض المستحقين للقصاص، وقد اشترط الفقهاء للحكم بصحة الصلح، وترتيب الأحكام عليه، عدد من الشروط كما يلي:
أولاً: أن يكون المصالح جائز التصرف، فإن لم يكن كذلك لم يعتبر صلحه ، وذلك أن الصلح تصرف تترتب عليه آثار كبيرة فلا يقبل فيمن لا يجوز تصرفه.
ثانياً: أن يكون البدل شيئاً حلالاً متقوماً، فإن كان حراماً كالخمر والخنزير أو الاستمتاع ببضع محرم، لم يكن الصلح ولك هل يسقط القصاص في هذه الحالة؟ يختلف الحكم تبعاً لاختلاف آراء الفقهاء فيما يجب بالقتل العمد، وفيما يعتبر عفواً عن القصاص، فعند الشافعية والحنابلة يسقط القصاص من غير دية، وأما المالكية فلا يرون سقوط القصاص في هذه الحالة ويعتبرون الصلح كأن لم يكن .
ثالثاً: أن يكون البدل معلوماً لكلا الطرفين علماً نافياً للجهالة ، فإن كان مجهولاً لم يصح الصلح، لتعذر الالتزام بما يقتضيه.
رابعاً: أن لا يتضمن الصلح تحريم الحلال، أو تحريم الحرام، فإن كان كذلك لم يعتبر الصلح صحيحاً أخذاً من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" .
الخاتمة : ولقد خرجت بهذه الخلاصة للبحث وهي كما يلي:
1- أن القصاص في اللغة: القود ، وفي الاصطلاح المماثلة.
2- أن الحكمة من القصاص هي استئصال كل ما يؤدي إلى انتشار الفوضى والإضرار بالمجتمع.
3- أن للقصاص شروط تتعلق بالقاتل وأخرى تتعلق بالمقتول، وشروط تتعلق بذات القتل، فشروط القاتل هي : التكليف، والاختيار، والعلم بالتحريم. أما شروط المقتول فهي: العصمة والمكافئة وأما الشروط الواجب توفرها في ذات القتل فهي، أن يكون عمداً في دار الإسلام .
4- أن العفو عن القصاص مشروع وعليه حث الإسلام، وفيه فضل، فمن عفا وأصبح فأجره على الله.
5- أن الصلح عن دم مسقط للقصاص عن الجاني سواء أكان كثيراً أم قليلاً وسواء كان جميع أولياء الدم أم بعضهم، لأن القصاص حق ثابت لكل واحد، فإذا أسقط حقه.. سقط القصاص لأنه لم يتجزأ.
6- أن الفقهاء اشترطوا لصحة الصلح وترتيب العقوبة عليها هي أن يكون المصالح جائز التصرف، أن يكون البدل شيئاً حلالاً متقوماً، ومعلوماً لكلا الطرفين، وأن لا يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام.
إعداد الطالب/ عبد الله صالح أحمد الطلحي
مراجعة وتخريج وتعليق : عبد الوهاب بن مهيوب الشرعبي
لسان العرب للإمام الفاضل جمال الدين بن مكرم الإفريقي، ج7/ 76 .
القاموس المحيط للعلامة مجد الدين بن يعقوب الفيروزبادي، ج2، ص46 .
التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، ج2 ، ص114 .
أخرجه البخاري ،ج1 / 53 ، برقم 112.
أخرجه أبو داود ، ج2 / 576 ، برقم 4496 ، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ج1 / 449 ، برقم 969.
أخرجه الترمذي ج 4 / 11 ، برقم 1387، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل ج1 / 437 ،برقم 2199.
بداية المجتهد ج2 /396، الشرح الكبير، ج9/ 350، مغني المحتاج، ج4 /5 .
سنن أبي داود ج2 / 544 ، برقم 4398. ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ،ج1 / 347 ، برقم 1660.
انظر بداية المجتهد، ج2 /396 ، الشرح الكبير، ج9 /350 ، ومغني المحتاج، ج4/ 15 ، وبدائع الصنائع، ج7 /234.
هو أبو عبد الله بن مالك بن أنس الأصبحي، توفي في المدينة سنة 179هـ.
الموطأ بهامش المنتقى، ص71 .
أخرجه أبو داود، ج3 /115 ، يقول الألباني: ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين إلا أنه منقطع ، فان أبا الضحى - واسمه مسلم بن صبيح - لم يدرك علي بن أبي طالب كما قال المنذري وغيره، انظر: إرواء الغليل ،ج2 / 6 .(/6)
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلب القرشي، الإمام المجتهد توفي بمصر سنة 204هـ (خلاصة مذهب الكمال)، ص: 277-278 .
بداية المجتهد ج2 ، ص396، الشرح الكبير، ج2 ، ص340، المهذب ، ج2/177 .
سنن ابن ماجه ،ج 1 / 659 ، برقم 2045 ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج 1 / 347 ، برقم 1662.
الشرح الكبير، ج2 / 340 .
بدائع الصنائع، ج7 / 235 .
الشرح الكبير، ج9 /341 ، مغني المحتاج ج4 /10 ، المحلي، ج12 /298 .
أخرجه أحمد بن حنبل ،ج4 / 198 ، برقم 17812، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل ج1 / 250 ،برقم 1280
الأم ج6 /31 .
فتح الوهاب، ج2 /138 ، مواهب الجليل ، ج6 /232 .
المغني الوهاب، ج2 /332 ، الإنصاف ، ج5 /242 ، المهذب ، ج2 /177 ، فتح الوهاب، ج2 /127 ، مواهب الجليل، ج6 /232 .
أخرجه البخاري بهامش فتح الباري، ج12 /227 .
دور الحكام، ج2 /89 .
فتح الوهاب، ج2 /128 .
هو النعمان بن ثابت بن زوطي مولى يتيم الله بن ثعلبة، إمام من أجل المجتهدين، وإليه ينسب المذهب الحنفي، واشتهر باعتماده على القياس، توفي في بغداد سنة 150هـ، وفيات الأعيان، ص405 ، خلاصة تهذيب الكمال، ص: 345 .
تكملة شرح القدير، ج8 /251 ، بدائع الصنائع، ج7 /237 ، درر الحكام، ج2 /89 .
أخرجه مسلم ،ج1 / 96، برقم 96.
أخرجه البخاري ، ج5/ 2335، برقم 4068، وانظر المحلى، ج12/50 ، الأم، ج6 /30 ..
بداية المجتهد ج2 /398 .
تكملة شرح فتح القدير، ج8 ، ص245، فتح الوهاب، ج2 ، المهذب، ج2 ، ص397 .
بداية المجتهد ج2 ، ص397 .
بدائع الصنائع ، ج7 ، ص240 .
الشرح الكبير، ج9 ، ص: 345، الإنصاف ج9 ، ص458 ، المهذب ، ج2 ، ص174 ، الأم، ج6، ص: 20 فتح الوهاب، ج2، ص129، المنتقى، ج7 ، ص17 .
سنن ابن ماجه ج2 / 898 ، برقم 2692، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 / 108، برقم 2180 .
سنن ابن ماجه ج 2 / 898، برقم 2693، ضعيف ابن ماجة ج1 / 214 ،برقم 586، واتي بمعناه حديث عائشة في صحيح مسلم ج4 / 1991، برقم 2572، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه خطيئة".
مسند أحمد بن حنبل ج2 / 235 ، برقم 7205، وعلق شعيب الأرنؤوط بأن إسناده صحيح على شرط مسلم .
مسند أحمد بن حنبل ج1 / 193 ، برقم 1674، وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب صحيح لغيره ج 1 / 199، برقم 814.
الشرح الكبير، ج9 /414 ، الإنصاف ص377 ، زاد المعاد ، ج2 /429 ، فتح الوهاب، ج2 /136 ، مغني المحتاج، ج4 /48 .
أخرجه البخاري بهامش فتح الباري، 12 ، ص205 .
بدائع الصنائع ، ج7 /250 ، درر الحكام، ج2 /94 ، الهداية، ج8 /275، شرح الهروي، ص298 ، فتح الباري، ج12 /209 .
بدائع الصنائع، ج7 /253 ، درر الحكام ، ج2 /110.
كتاب العقوبة ، ص616 .
المصدر السابق.
أخرجه أبو داود، ج2 /273 ، برقم 3594، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 / 41، برقم 1905 .(/7)
الإسلام وتوازن المجتمع
محمد عبد الله السمان 21/6/1426
27/07/2005
بادئ ذي بدء أقول: إن الفكر الإسلامي فكر شامل يتسع لحركة الحياة بأسرها ويتواءم مع تطورها حسب مقتضيات الحياة ذاتها، ومرونة الفكر الإسلامي تتسق تماماً مع كون الإسلام خاتم الرسالات السماوية، يعايش الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودراستنا إذن للفكر الإسلامي يجب ألاّ تكون قاصرة على جانب العبادات، وإلا كنّا مناقضين لأنفسنا حين نقول: الإسلام دين ودولة معاً. ولقد كان علماء السلف على وعي بذلك، فقد كانوا فقهاء في العقيدة والشريعة والفلسفة والاجتماع؛ بالإضافة إلى علوم معايش الحياة، كالطب والفلك والهندسة والصيدلة والجيولوجيا وحتى علوم التجارة والزراعة، وقد أفادت أوروبا من إنتاج علماء المسلمين الأوائل، وقد اعترف بذلك العدول من مفكريها. هذه كلمات كان لا بد منها.
أنا اقرأ لدراسة تحمل عنوان المقال "الإسلام وتوازن المجتمع" وهي لمفكر اقتصادي مسلم باكستاني من لاهور هو العلامة ميرزا محمد حسين، وقام بترجمتها من الإنجليزية إلى العربية المفكر الدكتور محمد فتحي عثمان الذي قال في تقديمه للدراسة:"وفي مسلمي الهند وباكستان ..دين صادق وثقافة واسعة ـ خاصة ـ في الدراسات الإسلامية بهذه العبقرية العقلية، يكون لهم من مباهج البحث وعمق الفكر، وشمول النظرة، وسعة الأفق ما يجعل لأبحاثهم في "النظام الإسلامي" ـ بصفة خاصة ـ روحاً جديدة؛ فهم لا ينظرون إلى الإسلام كأجزاء وتفاريق، ولا ينظرون إلى الثقافة الغربية نظرة الجاهل الذي يعادي ما يجهله، ومن هنا جاءت كتاباتهم في وقتها بالنسبة للفترة التي نحياها من تطورنا الفكري، بعد أن جمد فقهنا من قرون، وتطورت الدراسات الإنسانية في ظل الحضارة الغربية، وتشعبت فروعها، وأثمرت الكثير من النظريات والآراء.
والدراسة التي يقدمها لنا المفكر الإسلامي الباكستاني، هي دراسة اقتصادية في مضمونها، والنظام الاقتصادي عقدة الحضارة الحديثة بطبيعته .. فالملكية الاشتراكية،التي ظهرت على المسرح العالمي بدعوى مداواة الجراح التي سببتها الرأسمالية، تستهل علاج الملكية بإلغاء الملكية الخاصة، واستخدام القسر لتحقيق هدفها، وإذا كان الإسلام يرفض تكدّس الثروة بصورة تخالف العدل الاجتماعي، لما لذلك من آثار مزعجة للمجتمع، فهو ـ في نفس الوقت يضع خطة أخرى للعمل. فهو يبيح صوراً من التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، التي لا تضرّ صالح الجماعة .. والله يقول:(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)، كما أن الإسلام يبيح كسب المال وتملكه، والمشروعات الخاصة ليست من محرّماته، وإنما يحرم هذه المشروعات من تأييده عندما تصطنع لها دوراً عدوانياً، وتعمق جذور السيطرة في حياة الناس إلى حد ألاّ يجدوا لها مدافعاً، ومن هنا يغلق الإسلام الطرق المؤدية إلى أورام الثراء الخبيث في التجارة والمعاملات!
ففي وسع الدولة الإسلامية أن تنجح في مهمتها التي عهد الله بها إليها، إذا ما كان أفرادها قد جرّدوا أنفسهم عن الشر والشح. ولا جدال في أن الإسلام يقطع الطريق على الكسب الانتهازي، وتكدس الثروات بصورة تتنافى في العدل الاجتماعي، وهو ما نراه اليوم هادئاً في ظل الرأسمالية المتطرفة .. وهذا الإسلام، لا يملك إلا أن يلعن نظاماً ليس له من سند، سوى المبدأ الشيطاني:"أنا وبعدي الطوفان" ؛ لذا أنكر الإسلام .. "النزعات الانتهازية" والتهافت المسعور على الثراء بأي سبيل. يقول القرآن:(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وهذه الآية الكريمة غنية بالمعاني العظيمة، فهي تؤكد أن ما خلقه الله من مخلوقاته، ينتمي في مجموعهِ إلى المجتمع الإنساني في مجموعه، وعلى ذلك فليس لفرد حق في ادعاء أو اغتصاب نصيب الأسد من هذا المورد العام.
فمبادئ القرآن لا تقسيم فيها إلى بروليتاريا وبرجوازية. فالإنسان يعامل كعامل فعّال، ونافع في مجال النشاط الاجتماعي، وحقّه في الملكية الخاصة مقرر ومسلم به، ولكنه محاط بسياج واقٍ؛ فصاحب المال يستطيع أن يستعمله، ولكن على طريقة لا ضرر فيها بالمجتمع ولا ضرار. والإسلام إذ يسمّي الملكية "وديعة" و"أمانة" من الله ـ جل وعلا ـ فإنه ينتزع كل أساس يمكن أن يستند إليه الرأسماليون، وقد كان الإسلام متيقظاً إلى الاحتمالات الخطرة لتركز الثروات في أيدي فئة قليلة، فهو قد أباح الملكية الخاصة، ولكنه لم يبح ما قد ينجم عنها من تخريب اجتماعي نتيجة للاستغلال!
إن الشيوعية تدعي أنها ترسي أسس أخوة عالمية، ولكن أساليبها الوحشية تنفي هذا الادعاء؛ فإنها لا بد أن تسحق وتمحق أولاً لتحاول البناء بعد ذلك، أو كما يقول لينين:"فمن أجل تحقيق السلام لا بد أن تشق جماجم الرجال" ويردّد النغمة نفسها الشارح للعقيدة الشيوعية (زينوفييف):"إن صرخة الغضب المشحونة بالحقد هي لذتنا ومتعتنا" فهل ينتظر للإخاء العالمي المتولد من البغضاء والعنف إلا أن يكون ـ بالطبع ـ بناء متداعياً معرضاً للانهيار!!(/1)
فرغم أن الشيوعية قامت على الشعارات الزائفة مما أدّى إلى سقوطها بعد أقل من ثلاثة أرباع القرن :(فأما الزبد فيذهب جفاء) إلا أن لها في ديارنا فُلولاً متدنية تتعلق ـ وما تزال ـ بخيوط أوهى من خيوط العنكبوت!!
ومن الجدير بالاهتمام أن السياسة والاقتصاد. ليسا غايتين في ذاتهما، وإنما هما مجرد وسيلتين للغاية السامية النبيلة، وهي: الصالح الإنساني العام، ولما كانت الملكية الخاصة قادرة على الخير والشر، فإنه لا يمكن المرور عليها مروراً سريعاً، وهؤلاء الذين تحققوا كيف تعمقت الملكية الخاصة لها في أغوار الاقتصاد الإنساني، يمكنهم أن يقدروا الدور النافع المخصص لها في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية، ففي الإسلام ـ وحده ـ لا تغدو الملكية الخاصة والصالح العام نقيضين لا يجتمعان.
والدكتور (دي سانتيلاتا) كتب في فصل المشرق "الشريعة والمجتمع" من كتاب (تراث الإسلام): "من المحتمل ـ بالطبع ـ أي شيء لأي شخص؛ لأن كل طيبات الدنيا قد خُلقت من أجل الإنسان، ولكن بصدد تنظيم الملكية، وضع الله حداً لهذا الحق، وهذا مكّن كل فرد أن يتعرّف على ما أفاءه الله عليه ـ خاصة ـ من نعم وفيرة، بين ما أودعه الله في هذا الكون عامة من رصيد الثروة، وكان في هذا ضمان وتأمين للنظام الاجتماعي ـ أيضاً .. ولكن من الخطأ: الظن أن التملك حق غير محدود .. إن طيبات الأرض تُمنح للشخص من أجل تعزيز كيانه ـ أي لاستخدامها استخداماً نافعاً لا لتبذيرها وفقاً لنزوة، وبمتابعة قواعد القرآن والسنة، نجد الشريعة الإسلامية تدفع أي استهلال للثروة في غير الاستعمال الصحيح بأنه صورة من صور الإسراف الذي تعدّه الشريعة مرضاً عقلياً .. هذه الشريعة تؤكد الاعتدال والتوسط في استعمال الثروات بما يكون أقرب إلى موافقة الشرع، ومقصد الخالق من الإنعام بهذه الطيبات على الناس". هذه شهادة للإسلام من كاتب غير مسلم، وهو يوضح أن حق الملكية الخاصة في الإسلام، لا يمكن مزاولته لاستبعاد الآخ(/2)
الإسلام وخط الفقر دفاع أم مواجهة
د. ياسر عبد الكريم الحوراني * 14/11/1425
26/12/2004
لا يكاد يوم يمر في حياة الإنسانية إلا وهناك تكاليف باهضة يدفعها الإنسان بنفسه طوعا أو كرها ، ولعل أهم هذه التكاليف تلك الويلات التي يشهدها العالم من المجاعات والأمراض الفتاكة والتخلف والجهل وسيطرة الأقوى وحرمان الضعيف . كل ذلك لا يخرج عن معنى الفقر الذي يلازم حياة الإنسان ويهدد أمنه وحريته وحقه في الحياة الكريمة .
فما موقف الإسلام من الفقر : فلسفته والموقف الفقهي وأسبابه وآثاره ووسائل وأدوات المواجهة.
أما فلسفة الفقر في الإسلام فكل إنسان فقير لأنه محتاج ، ولا تنفك حاجته عن الله تعالى لأن الله هو الغني المطلق ، والناس جميعا من هذا الوجه فقراء إلى الله تعالى ، وفي القرآن : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ( فاطر / 15 ) ، والله الغني وأنتم الفقراء ( محمد / 38 ) .
وأما الموقف الفقهي فهناك ثلاثة اتجاهات في تحديد مستوى الفقر ، وهي : نصاب الزكاة أي يقع الفقر دون النصاب وهو ما يعادل 200 درهم فضة ، أي ما يقارب 475 ريال سعودي ( الحنفية ) ، أو هو أقل من دخل نقدي يعادل 50 درهما ، أي ما يقارب 119 ريال سعودي ( الحنابلة ) ، أو هو مستوى الكفاية أي ما يلزم الإنسان من الحاجات الأساسية ( المالكية والشافعية والحنابلة في رواية أخرى ) . وواضح أن الاتجاه الثالث أقرب إلى المفهوم الاقتصادي العام لأنه يراعي الاحتياجات الأساسية ضمن سلة اقتصادية متنوعة وشاملة للعناصر الأساسية التي لا تقوم حياة الإنسان إلا بها ، ويمكن احتسابه وفقا لمعطيات الرقم القياسي لتكاليف المعيشة ( مؤشر الأسعار ) . ومن هنا فالفقر هو فجوة معيشية بين الحاجات الأساسية وبين مستوى الكفاية . وفي إطار الموقف الفقهي ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأفضلية الغنى خلافا لما ذهب إليه المتصوفة بأن الفقر أفضل من الغنى . إن موقف الصوفية في هذه المسألة يكشف عن قصور كبير في فهم الأصول الكلية والأهداف العليا التي وضعها الإسلام لتحقيق سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع . يدور احتجاج الصوفية الدفاعي عن الفقر حول الآية القرآنية : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " ( الحشر / 8 ) ، فقالوا مدافعين عن الفقر في هذه الآية أنها قدمت الفقر على الهجرة للدلالة على أهميته وفضله إضافة إلى كونه جاء في سياق المدح والثناء . إن وجه القصور في هذه المدافعة واضح من نص الآية نفسها ، فهي تدل على أفضلية الغنى لأن الله زكى صنيع المهاجرين ووصفهم بأنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وهذا يعني ضرورة وحتمية الخروج من الفقر .
وفيما يتعلق بأسباب الفقر فإن هناك مجموعة كبيرة من الأسباب التي تؤثر في مشكلة الفقر ؛ وهي أسباب ذاتية كالاحتكار والاكتناز والربا ، وأسباب موضوعية كالقرار الاستثماري الموجه نحو الربح السريع والعائد المادي دون النظر إلى العائد الاجتماعي إضافة إلى سوء استخدام الموارد الاقتصادية والإنفاق العام الذي لا يراعي المنفعة الاجتماعية ، وأسباب خارجية تتعلق باقتصاد العولمة وما يحدثه من أزمات على مستوى الاقتصادات الوطنية ، كما أن هناك محددات وعوامل أخرى تؤثر في ازدياد المشكلة واستفحال خطرها مثل البطالة والتضخم بسبب ما تحدثه من انخفاض في الأجور الحقيقية وخسارة المقرضين وانخفاض الدخول وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة. ومن هنا ينشأ عن الفقر العديد من الآثار الاقتصادية التي تهدد بنية واستقرار المجتمع ، أهمها التبعية الاقتصادية للدول الكبرى من خلال الديون الخارجية وفرض الشروط مقابل استيراد التكنولوجيا وتوجيه موارد الدول الفقيرة لإنتاج السلع اللازمة لإشباع الذوق الاستهلاكي للحصول على العملة الصعبة ، إضافة إلى آثار أخرى على مستوى الدولة الفقيرة كالصراع الاقتصادي الطبقي وتخلف الحالة الاجتماعية من الناحية الفكرية والسياسية والعسكرية وجميع علاقات المجتمع بوجه عام .(/1)
إن آثار الفقر واضحة في الحياة المعاصرة بشكل يهدد أمن العالم ومستقبله ، ففي العالم اليوم وحسب تقديرات لجنة الأمن الغذائي التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة في شهر أيلول 2004 أن عدد فقراء العالم يقدر بحدود (800) مليون نسمة. ولكن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن أكثر من مليار و(200) مليون نسمة أي أكثر من خمس سكان العالم يكافحون لأجل البقاء ويعيشون على أقل من دولار يوميا لكل فرد ، كما أن الإحصائيات تشير إلى أن (35) ألف طفل يموتون يوميا بسبب الجوع والمرض ، وهناك (33%) من سكان العالم يفتقرون إلى مياه الشرب الآمنة ، و(25%) يفتقرون إلى السكن ، و(20%) يفتقرون إلى الخدمات الصحية . إن ويلات الفقر تصل حتى الأفراد الذين يعيشون في الدول المتقدمة ، وبحسب إحصائيات مركز الدراسات الإسلامية في أمريكا أن عدد الفقراء في أمريكا يقدر بحوالي (36)مليون ، منهم (700) ألف أمريكي يعيشون تحت خط الفقر .
إذن ، كيف استطاع الإسلام أن يقضي على جيوب الفقر ، وما هي آليات المواجهة في تحقيق صورة المجتمعات الإسلامية الخالية من الفقر ، وقد وقع ذلك في التاريخ الإسلامي أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن عاملا على الصدقات ولكنه أرسل إلى عمر بكامل الصدقة وقال ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا ، وتكررت نفس الصورة في زمن عمر بن عبد العزيز في موقفه مع عامله في العراق ومع عامله يحيى بن سعيد في إفريقيا كما روى ذلك أبو عبيد في الأموال وابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز .
إن آليات المواجهة التي يتبناها الإسلام في مقاومة الفقر والقضاء على جيوبه تصب في ثلاث قنوات أساسية ؛ وقائية وعلاجية وتكميلية . فأما الآليات الوقائية فهي اعتبار العمل عبادة يحصل فيه العامل على أجرين ثواب في الآخرة وأجر مادي في الدنيا ، وتنظيم التبادل على أسس تكافلية وبالتالي تحريم الأسعار الناتجة عن تأثير قوى غير قوى العرض والطلب كالاحتكار والربا والاكتناز ، وتوجيه النمط الاستهلاكي بعيدا عن الإسراف والتقتير . وأما الآليات العلاجية فتتمثل بالزكاة التي تفرد بها الإسلام عن سائر النظم، وموارد بيت المال الأخرى غير الزكاة، وأعمال البر والإحسان التطوعية، وأما الآليات التكميلية فهي سياسة الإنفاق العام التي تقوم من خلالها الدولة بزيادة المعروض من السلع الضرورية وتوجيه هذه السياسة نحو الاستثمار كثيف العمل ويمكن للدولة استثناء بعض الضروريات من التملك الخاص إذا كانت تتعلق بالمستوى المعيشي للفقراء، كما يمكن للدولة القيام بتنفيذ آلية تكميلية كمرحلة أخيرة وهي الضرائب وتكون وفقا لبرنامج اقتصادي مدروس يحدده مستوى الكفاية العام، ويمكن احتساب الضريبة وفقا للمعادلة التالية :
الضريبة الكلية = دخل الكفاية العام - ( الزكاة + موارد بيت المال الأخرى + الإحسان الفردي ) * جامعة أم القرى - كلية الباحة(/2)
الإسلام ودعاة التجديد.. من الوريد إلى الوريد!
د.إسلام بن صبحى المازني
doctor_thinker@hotmail.com
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين
هذه كلمات خطتها دموع القلم على شاطئ التجديد، مقرة بأن تجديد الدين هو دليل محبتنا لرب العالمين، هذا حق.. لكن كيف يكون؟
قال الكميت:
هل للشباب الذي قد فات مردود * أم هل لرأسك بعد الشيب تجديد
وهذا يرينا أن التجديد هو الرد إلى الأصل الأول، أما فلاسفة التجديد ..... من الوريد إلى الوريد! فيرونه تصرفا في الأصل.
لهذا هتفت بدعاة التجديد الجدد:
بل هو تجديد الحزن بعد أن يبلى!
وحسبنا الله، نعم.. حسبنا الله
وَعندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ * إنَّ المَنيَّةَ عِندَ الذُّلِّ قِندِيدُ!
أي كمشروب ممتع وغاية المنى ...
نسأل الله الوفاة على الإسلام غير مبدلين ولا مفرطين، فقد ركب قوم مركب التجديد، وخرقوه ليغرقوا أهله، وصيروه مركبا للتبديد والتقويض، بدلا من التجديد والتنشيط، وأعادوا بتجديدهم ذكرى أخس العبيد، أمثال الجعد والجهم، وأياما حزينة عاشتها الأمة على أيديهم وبأقلامهم، وتنكأ ذاكرتها كل حين بأحفادهم ...
إنها دموع القلم، على شاطئ لم يكن ينبغي أن يكون شاطئا للأحزان أبدا، لكن حيزت لهم المنابر...
كما أن هناك لمحة في أن تجديد الحزن يكون باستعادته كما كان شجيا، فكيف يكون تجديد الدين، أيكون بتغيير صفته؟ إذاً لكان تجديد الحزن فرحا وسرورا! وهذا ما لا يقول به عاقل، فليرجعوا لأنفسهم مقرين بأن التجديد هو الإحياء، وفعلهم هو الإطفاء! محاولة لإطفاء النور بالأفواه
وهي وقفة مراجعة مع النفس، كي يرى كل منا أمجدد هو؟
أمتبع لمجدد هو؟
وأذكر أن شيخ الإسلام كان يقول: أجدد إسلامي وما وجدت لي إسلاما حسنا!
فهي محاولات ليكون إسلامنا غضا كما أنزل! وليس كما نرغب ..
وقد بلينا بمن لديهم ردود معدة سلفا، فيقولون متشدد حنبلي لكل من طالبهم بالصواب
فليسأل كل منا نفسه:
هل أنا على ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- في العقيدة والنسك والشعائر؟ في الخلق والسلوك؟ في الفهم والتقدير للأمور؟ في المرجعية المخبتة لرب العالمين؟
هل أعلم أصلا ما كانوا عليه من مصادر موثقة؟ أم أتلقى ديني حيثما اتفق من كل ما يقال حولي دون تمحيص؟
ونحن نعاني من فتاوى كالزوابع والصرعات=ولم تعد فتاوى فقط بل تشريعات!
وليتذكر كل منا أن المهدي عليه الصلاة والسلام تجديده إحياء وبعث للثوابت! عل في هذه التذكرة بلاغا يقيه جراثيم المدعين.
وهذه ومضات عاجلة حول تلك الفتنة السائرة، عل فيها خيرا وصيانة من مغالطات قد ترن في الآذان، عبر المذياع وغيره:
يباع الأن مفهوم تجديد الدين كل مائة عام، ويقف القوم حيارى، بين كفي المجدد وفكي المبدل ...
والحقيقة الغائبة هي أن احتياجاتنا في الدنيا قليلة، وهذا ما نكتشفه حين نرى أغنى أهلها يأكل الخبز والجبن مثلنا، ولكن توهمنا أنها احتياجات كبيرة، ولجوءنا فيها لغير بارئها يجعلان البعض يبيعون الكثير بالقليل في لحظة الضعف، ويتنازلون عن الحق مقابل بعض هذه الأطعمة والأشربة، والنقود القليلة البائدة...
ويبقى الأمل في بعض أخر، قدّموا ما ينفعهم في ظلمة القبر الطويلة الباردة، وعزلته القاسية...
ولقد قدر الله تعالى أن يكون هناك خير وشر، وأن يتلون الشر بلون الخير أحيانا (مؤسسة الشر الخيرية قد تكون في شكل مسجد! كمسجد الضرار أو فضائية دينية، أو جريدة، أو موقع إنترنت...)، وأن يدعي الخير من ليس من أهله، وألا يدعي الشر أهله، وربما أقسم صاحب الشر بالله أنه من الناصحين {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}، فقد كان إبليس - ظاهريا - من المحبين لأبينا، ولم يطلب أجرا لقاء النصيحة الزائفة...
والحقيقة أن التجديد يساء فهمه، ويظن به أنه التغيير والتدهور (بدعوى التطور)، ولكن ربما في حديث (جددوا إيمانكم) لمحة عن ماهية التجديد...
قال الرسول صلى الله عليه وسلم جددوا إيمانكم،
* قيل: يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟
قال: أكثروا من لا إله إلا الله
رواه أحمد
فلم يكن التجديد هنا سوى ذكر أصل الإيمان (الذي صار - الأن - لفظة باللسان) ليتذكر المرء (ممن فهموا معناها) غاية وجوده، ومهمته على ظهر الأرض، وهي إشارة إلى أن التجديد هو إزالة كل الغفلة والران والصدأ من على القلب، والتراب من فوق العقل كذلك، والعودة بالشيء لأصله، فيكون كالجديد تماما.
فأمر بالعودة للأصل الناصع الذي تنبثق منه كل الفروع، ليكون تذكرة وتهيئة جديدة للنفس، ولتدخل المعاني الكريمة ثانيا في شغاف القلب، وفي حنايا النفس وأعماق الروح، فينتج عنها كل تصرف جميل، وتزول كل العوالق التي تقسي القلوب وتطمس على العقول {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}
*والمسألة ربما تكون واضحة كذلك في رواية يجدد لها (أمر) دينها
(إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو داود وصححه العراقي.(/1)
فهو يجدد أمر الدين وليس الدين
وعلى الثانية يحمل المعنى على التأصيل والتنقية، والتصفية من كل ما علق، فيعود كأنه جديد غض طري كما أنزل
وعلى الأولى يحمل على عودة القضية حية في النفوس، وعودة المعاني فوق رأس أعمال العقول، وعلى عودة الرسالة هي الهدف الأسمى والأنبل، بدلا من كونها شيئا ما في ركن فاتر من الكيان البشري.
أما تغير الفتيا بتغير الواقع فهذا ليس تجديدا، بل هو عمل بالأصل، فهو يتم طبقا لقواعد فيه تحفظ مقاصده وثوابته، وهو مسألة مرونة ذاتية، ولا تشمل الأسس ولا تغير النصوص القطعية، ومن يحفر فيها ليوسع بها الأمر إلى منتهاه عابث {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا}، ويستوي مع المحرف المخرف {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} ويبقى صنف مدحه الحق {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة...} والمقصود يمسكون بما فيه... بلا شك!
*وهناك لمحة أخرى:
وهي أن المُجَدد هو دين الأمة، وليس الدين نفسه (أي إضافة لفظ الدين إلى الأمة، كمضاف ومضاف إليه)
وهذه أيضا تشير لأن المطلوب تجديد صلة الأمة بالدين، وليس طبيعة هذا الدين.. وإلا فما الذي يميز هذا الدين عن أي دين؟ لو أن أهله ألفوا كل مائة سنة دينا وياسقا جديدا؟
والنصوص كلها متقاربة في بيان التجديد الحقيقي، الذي يختلف عن التزوير والتحريف عافاكم الله تعالى
* فحين نقول:
جدد وضوءه!
فهل تجديد الوضوء هو تغيير صفته؟ أو موقفنا منه؟ لا=بل هو الوضوء نفسه يفعل فيصير مجددا! حتى لو لم ينتقض يجدد بأن يكون حديثا في نفس صفته، ولا نترك غسل يد مثلا أو نغير سنة فيه!
بالمثل تجديد الدين... إذن تجديد الدين هو أن نجدد الروح فينا نحوه، ونوقظ العقل به ونرقق القلب معه، فتكون فينا حماسة من وجد ما فقد.
فمن يرى التجديد تحويرا وتحريفا إما لديه خلل في النية أو في القوى العقلية.
*وبالمثل حين نقول: تجديد العهد
فحين أقول لك:
جدد العهد وجنبني الكلام * إنما الإسلام دين العاملين
هل معناه أن تخترع عهدا جديدا بيننا وتنكث الأول؟ أم أن تفي بما كان، وتصدق القول بالعمل؟ وتلتزم بنفس قوة التزامك يوم شددنا الأيدي؟
هذا... والإسلام مع التجديد في نواحي الحياة العملية والعلمية، التي تسير وفقا للشرع
(تعلموا، وسيروا، وانظروا، واضربوا فى الأرض، واغرسوا الزرع .... بما يرضي الله تعالى)
وقد ذكرنا آفة العبث بالأحكام حين تخصص بلا قرينة، وتقيد القواعد المطلقة بلا بينة، وهذه طريق لنسخ الشريعة كلها بالهوى والاستحسان (طبقا للضغوط أو الأحلام)
فقد سمعت من يقول سنة بيئية! وعادة عربية! ومسألة وقتية زمنية! ليبرر ترك واجبات (وليس نوافل) بدعوى أنها خاصة بالعرب أو بزمن مضى وانقضى!
وينسون أن التغير البشري لا يشمل تغير الثوابت الأصلية، وهي الرغبات والنوازع وغيرها - ففي عصر الذرة تبقى النفس هي النفس، والقيم هي القيم - ومن ثم كان الشرع ثابتا خالدا صالحا، والشكل الدنيوي التقني متغيرا، والله أعلم بعباده=فها نحن نرى البشرية بحاجة لتربية ولأخلاق، ولضوابط تحميها من أمراض الحضارة، وبها نفس العيوب والمصائب السالفة، وذات الجرائم بنفس المنشأ، واختلفت فقط في الشكل.
فابن آدم عليه الصلاة والسلام قتل بالحجر، وبوش يقتل باليورانيوم المنضب أو المخصب.. وكلاهما بحاجة لتربية إسلامية ربانية، تترك له مجال التقدم، وتضبط له توجيهه لخير البشرية، بإيمان وأخلاق وتشريعات ربانية مضيئة
أما من يغير الشرع ليوائم كوندوليزا فليهنأ هو وهي بدين جديد
فنحن لا نريد (بولس) مصري أو شامي ليبدل الإسلام ....
كفى ما بنا
نحن أصلا لسنا على الأصل الأول حتى نبدل بدعوى التجديد، فكيف إذا انتقض القليل الباقي؟
وهي فتن تعرض (في الحديث: تعرض الفتن كعرض الحصير عودا عودا)، أي كما يظهر على جلد من نام عليه مثلا...
حين طبع الحصير على جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زاهد في الحرير! كانت العلامات الطابعة على جلده الشريف في سبيل الله، أما هذه الفتن فهي تطبع على القلوب لا الجلود! كما أخبر.. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
وطبع الفتن مؤثر وفتاك، نسأل الله العافية
فمن قلب يصير كوزا صدئا، بل ومقلوبا! يعني: مقزز شكلا ومعنى، ولا قيمة له ولا وظيفة، بل يعكر الماء ويسمم الشاربين
إلى قلب يضيء ويطفيء!
ويبقى قلب المؤمن يزهر وينير كالسراج
والتصفية النهائية تكون على قلبين! كما قال من لا يكذب، صلى الله عليه وسلم:
على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه
رواه الإمام الحبيب العلم الرائع: مسلم أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري
وإذا العقائد بالضلال iiتخالفت
هي حجة اللّه المنيرة iiفاعتصم
إن ابن حنبل اهتدى لما iiاقتدى
ما زال يقفو راشداً أثر الهدى
حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة
نصر الهدى إذ لم يقل ما لم iiيقل
ما صدّه ضرب السِّياط ولا iiثنى(/2)
فهناه حبٌ ليس فيه iiتعصّب
وَوِدادُنا للشافعي iiومالك ...
... فعقيدة المهدي أحمدَ iiأحمدُ
بحبالها لا يلهينّك iiمفسدُ
ومخالفوه لزيْغهم لم iiيهتدوا
ويروم أسبابَ النجاة ويجهدُ
ما فوقها لمن ابتغاها مصعدُ
في فتنة نيرانها iiتتوقّدُ
عزماته ماضي الغرار iiمهنّدُ
لكن محبة مخلص iiيتودّدُ
وأبي حنيفة ليس فيه iiتردّدُ
اجتماع الجيوش لابن القيم رحمه الله.
كما قال عنترة في قصيدته:
يا عَبْلُ أيْنَ منَ المنيّة مهربي إذْ كان ربِّي في السماء قضاها
ولقد وقي الله البيت السني في مجمله من تقديس الشيوخ، كما لدى الصوفية فيكون المريد كالميت بين يدي مغسله، ويبيح له الخروج عن الشريعة لما يسميه الحقيقة!
أو كما لدى الرافضة حيث يقدسون الأئمة المعصومين، ويخطئون الوحي!
أما أئمة أهل السنة فكلهم حرم التقليد الأعمى ولله الحمد
ووضعت أصول الفقه لتكون عنصر التجديد والبناء والتعامل مع المستجدات، وأسس علم الحديث ليكون صمام الأمان من التخريف!
وأشدّهم كُفراً جَهُولٌ يدّعي عِلْمَ الأصول وفاسقٌ متزهدُ
فَهُمو وإن وهنُوا أشدّ مضرّة في الدين من فأر السفين وأفسدُ
فبداية من عبد الله بن عباس وهو يعلم الناس أن الحجارة تسقط على من ترك الدليل لقول أحد كائنا من كان.. إلى جميع الأئمة الذين عرفناهم وسطا لا يجفون ولا يغالون لكنهم ينتقون أين ومتى وعمن يتحدثون.
ولم يقل أئمة أهل السنة بعصمة أحد من الصحابة أبدا فضلا عمن بعدهم، لكنه الأدب والاحترام والوقوف عند الحد.
أما الأحداث والأقوال والأفعال فكلها قيد البحث، وكلها قيد التحقيق بالضوابط الشرعية.. التي منها أحيانا كف الأيدي والألسن لاعتبارت منجية دنيويا وأخرويا ...
وتبقى السنة - صلى الله على صاحبها وسلم - سفينة النجاة، دون تعصب ودون جمود لكن بالتزام وفقه بالأصول منضبط وإلا لضاعت الدنيا
فكيف يستقيم فهمهم للتجديد بأنه الابتداع والاختراع مع قول العزيز الكريم: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} سورة الأعراف.
ومع قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا!)
فهل هو تمسك بالكتاب أي بالأوراق؟ أم بالوصايا الربانية الجليلة المسطورة بها؟
أم يصيرون كمثل الحمار يحمل أسفارا؟
هل هو تمسك بالأواني أم بالمعاني؟
إذن هو الإحياء، وهو الإنعاش، وهو نفض الغبار وإزالة الران
إلهي.. إن كنت مددت يدي إليك داعياً، فطالما كفيتني ساهياً
إلهي.. لا أصل إليك إلا بك فقربني ولا تفتني(/3)
الإسلام وعلاقات الإنسان
أحمد الخطيب
ahmadkhatiby@yahoo.com
معلوم أن للإنسان علاقات ثلاث: علاقته بخالقه وتشمل العبادات والعقائد، وعلاقته بنفسه وتشمل الأخلاق والمطعومات والملبوسات، وعلاقته بغيره وتشمل المعاملات والعقوبات، وجميع هذه العلاقات متشابكة متداخلة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، والدين الكامل أو المبدأ هو الذي يملك نظاماً يعالج هذه العلاقات. أما الدين الناقص أو الفكر القاصر فهو الذي يعالج بعضها ويهمل بعضها، فجميع الأديان اليوم عدا الإسلام هي أديان ناقصة لأنها لا تملك نظاماً كاملاً للعلاقات الثلاث، وجميع الأفكار عدا الإسلام والرأسمالية والشيوعية هي أفكار قاصرة لأنها ليست مبادئ تعالج العلاقات الثلاث وإنما تعالج بعضها وتهمل بعضها الآخر. وإنه وإن كانت الرأسمالية والشيوعية مبدءان يعالجان جميع علاقات الإنسان لكنهما مبدءان باطلان لأن معالجتهما لا تتفق مع فطرة الإنسان ولا تنبني على العقل الإنساني.
وأما الإسلام فقد تناول علاقات الإنسان الثلاث تناولاً عملياً بالفكرة والطريقة وبالتوجيه والتشريع وبالحجج والبراهين وبالأحكام والحلول، لذلك كانت أية محاولة لفصل الإسلام عن جزء من العلاقات هي محاولة محكوم عليها بالفشل لأنها تتناقض مع طبيعة الإسلام الشمولية، والإسلام لم يفرق في معالجاته بين هذه العلاقات. ولو استعرضنا بعض النصوص الشرعية التي تناولت العلاقات الثلاث لما وجدنا فيها أي تمييز أو تفريق بينها يستدعي الفصل بينها وبين بعض تلك العلاقات.
فمثلاً في العقيدة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً).
ومثلاً في العبادات يقول تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) ويقول عليه الصلاة والسلام: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرد".
ومثلاً في الحكم يقول تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) ويقول عليه الصلاة والسلام: "من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية".
ومثلاً في القضاء والبينات يقول تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) ويقول عليه الصلاة والسلام: "من أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ومن جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتص منه" ويقول أيضاً: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
ومثلاً في العقوبات يقول تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا).
ومثلاً في الاقتصاد والمعاملات يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ويقول عليه الصلاة والسلام: "ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده" ويقول أيضاً: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما" ويقول تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).
ومثلاً في الحرب والسلم يقول تعالى: (وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) ويقول: (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً) ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ) ويقول: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
ومثلاً في الأخلاق يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ويقول عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
ومثلاً في المطعومات يقول تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ).
ومثلاً في الملبوسات يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً" وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: "إن الله جميل يحب الجمال".
وهكذا نجد أن الإسلام من خلال هذه العينة من النصوص قد عالج العقيدة والعبادة كما عالج المعاملات والعقوبات وكما عالج الأخلاق والمطعومات والملبوسات، فلا فرق في معالجات الإسلام للعلاقات بين أن تكون علاقة الإنسان بخالقه أو علاقته بغيره أو علاقته بنفسه.
وأما دور العقل في ذلك فقد اعتبره الإسلام مناطاً للتكليف، فعن طريق العقل يهتدي الإنسان أو يضل وطلق الإسلام للعقل العنان للفهم والإبداع في إطار النصوص الشرعية، فهو من جهة منعه من التفكير العابث الذي يؤدي إلى الضياع وهو من جهة ثانية حثه على التفكر والتدبر والاجتهاد.(/1)
والرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يوجه المسلمين توجيهاً إيمانياً عملياً يجمع كل جوانب الحياة ويعالج جميع علاقات الإنسان بدون تفريق، لذلك كانت حياة المسلمين هي حياة إنسانية راقية لا تجنح للمادة وطغيانها ولا تهرب من صخب العيش إلى الجبال والكهوف والزوايا لتدع الدنيا لمن يقدر عليها، ولنأخذ حديثاً من أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يوصي فيه أحد أصحابه. فقد روى البيهقي في كتاب الزهد عن معاذ أنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فمشى قليلاً ثم قال: "أوصيك: 1- بتقوى الله 2- وصدق الحديث 3- ووفاء العهد 4- وأداء الأمانة 5- وترك الخيانة 6- ورحم اليتيم 7- وحفظ الجوار 8- وكظم الغيظ 9- ولين الكلام 10- وبذل السلام 11- ولزوم الإمام 12- والتفقه في القرآن 13- وحب الآخرة والجزع من الحساب 14- وقصر الأمل 15- وحسن العمل. وأنهاك أن: 1- تشتم مسلماً 2- أو تصدق كاذباً 3- أو تكذب صادقاً 4- أو تعص إماماً 5- وأن تفسد في الأرض. يا معاذ: 1- أذكر الله عند كل شجر وحجر 2- وأحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية".
ففي هذا الحديث الشريف أوصاف للمسلم الذي يحيا حياة إسلامية حقيقية كاملة، حياة عملية إيمانية حيث تضمن خمس عشرة وصية اشتملت على العقيدة والأخلاق والسياسة والعبادة وخمس منهيات تعلقت بالأخلاق والسياسة وترك المعاصي، وختمه بذكر الله والتوبة، وكل ذلك بكلمات قليلة لمعاني جليلة.
فلو أخذ المسلمون بمثل هذا الحديث لكفاهم وحماهم من البضاعة الفكرية الفاسدة التي تروجها لنا الحضارة الغربية وما فيها من تشدق بالكلام عن الحياة المدنية والمجتمع المدني وما شاكل ذلك من هرطقات.
نخلص من هذا كله إلى القول بأن هناك فرق بين الأديان المحرفة الناقصة وبين الدين الإسلامي، فإذا كان الفصل في أوروبا بين الديانة المسيحية والدولة فصلاً طبيعياً ومقبولاً عندهم فإنه لا يصلح مع الإسلام ولا بحال من الأحوال لأن الحاكمية في الإسلام هي من خصائص الألوهية فإذا سلبها العبد من الله سبحانه فإنه ينصب نفسه إلهاً إلى جانب الله تعالى وهذا هو الشرك بعينه لذلك كان التشريع والحكم من الله سبحانه فقط ولا مجال لإعطائه للإنسان لأن في إعطائه له ظلم عظيم فضلاً عن كونه كفراً صراحاً.
أما فصل الدين الإسلامي عن الحياة والسياسة والدولة في بلاد المسلمين، أو الأخذ بالإسلام في بعض العلاقات وإهماله في البعض الآخر، فهو ما جعل المسلمين في حالة من الانحطاط الدائم والتخلف المتواصل والضعف الشديد الذي لا تبدو له نهاية طالما استمر تكريس هذا الفصل للإسلام عن الحياة.
وهذا الفصل وهذا الأخذ الناقص للإسلام في العلاقات هو الذي تسبب أيضاً بسيادة الكفر وشقاء البشرية واستشراء الظلم. ولا سبيل إلى إرجاع البشرية إلى رشدها إلا بتمكين الإسلام من تنظيم جميع علاقات الإنسان الثلاث، ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة دولة ا(/2)
الإسلام وعيد الحب
د. عادل على الله إبراهيم*
اعتاد كثير من الناس في العالم أن يحتفلوا يوم 14/فبراير من كل عام بيوم الحب، ويشارك عدد ليس بالقليل من أبناء المسلمين العالم فرحته بهذا العيد...
والسؤال المهم: هل يجوز للمسلم أن يتابع الناس فيما يفعلونه دون تمييز؟
ولكي نجيب على هذا السؤال لابد من مقدمة في غاية الأهمية وهي: ما هو أصل هذا العيد "عيد الحب" [فالنتاين] الذي ارتضته الكنيسة الكاثوليكية:
تشير الموسوعة الكاثوليكية إلى إنّ هناك ثلاث روايات حول سبب هذا العيد الذي أخذ اسم فالنتين؛ وهو اسم لقسيس كان يعيش في أواخر القرن الثالث الميلادي تحت حكم الامبراطور الروماني كلاوديس الثاني، وفي 14/فبراير عام 270م أعدم الامبراطور الروماني هذا القسيس، الذي عارض الإمبراطور في منع عقد الزواج بين الشباب، لكي يذهب الشباب إلى ساحات القتال، ولكن كان القسيس يعقد الزواج بين الشباب سرًا في كنيسته ولما اكتشف الحاكم أمره قتله.
وتشير رواية أخرى أن القسيس لما سجن تعرف على ابنة أحد حراس السجن، وكانت مريضة، فعمل القسيس على شفائها، وقبل أن يعدم أرسل لها بطاقة مكتوبًا عليها [من المخلص فالنتاين]، وهناك روايات أخرى تشير إلى أن هذا العيد في أصله روماني وقد حاولت الكنيسة أن تجعله نصرانيًا لكي يدخل الناس في النصرانية.
وأصبح في أوربا النصرانية يوم 14 فبراير هو عيد الحب، الذي باركته الكنيسة التي تدعو الناس إلى نشر الحب بين الشباب والذي ارتبط اسم الحب في أوربا وأمريكا بالجنس.
وأصبحت الشركات التجارية تكسب من وراء هذا العيد أموالاًَ طائلة في بطاقات الحب وهدايا الحب والورود الحمراء خاصة، ومن أهم شعائر هذا العيد:
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى.
2- توزيع بطاقات التهنئة وفي بعضها صورًا لطفل له جناحان ويحمل قوسًا ونشابًا وهو إله الحب عند الرومان.
3- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام عن طريق الشعر أو النثر أو بجمل قصيرة، وفي بعضها [كن فالنتانيًا].
4- تقام في كثير من البلدات حفلات راقصة مختلطة.. ويرسل في هذا اليوم الهدايا والشوكولاته لمن يحبونهم.
وعليه نقول:
إن الإسلام يصبغ اتباعه بصبغ خاص تمييزًا عن غيرهم، قال تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) [البقرة:137].
ولذا نجد الإسلام قد جعل المسلم مميزًا عن غيره من الناس في الأعياد والمواسم، فالله أبدل المسلمين بأعياد الجاهلية يومين هما الأضحية والفطر، وارتبط العيد في الإسلام بالعبادة، فيجيء عيد الفطر بعد عبادة الصوم وتأتي الأضحية بعد الوقفة بعرفات في عبادة الحج، أما أن يقلد المسلم دون وعي كل ما يشاهده تحت ما يسمى المدنية أو غيرها؛ فهو دليل على ضعف الشخصية وعقابه كما في حديث الصحيحين "يحشر المرء مع من أحب".
والإسلام يدعو للحب المقيد. وأعلى الحب أن تحب الله من كل قلبك لما أعطاك من نعمة الخلق ونعمة الصحة والمال والأبناء والمكانة الاجتماعية، ثم محبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما في حديث "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن هداه الله كما يكره أن يقذف في النار"، البخاري.
ومحبة الله ومحبة رسوله ومحبة الإخوان في الله ونشر الأخلاق الفاضلة،ومحبة الزوجة حيث يمثل النبي الكريم قمة المثل للمحبة، حيث كان يعامل زوجاته بأرق المعاملة، وقد حفظ لخديجة رضي الله عنها مكانتها ومحبتها بعد وفاتها؛ بل كان يفرح للقاء صديقات خديجة وفي الصحيح فرح لما سمع صوت أختها هالة بنت خويلد بعد سنوات من وفاتها.وكذا محبة الأبناء ومعاملتهم بالاحسان.. كل ذلك مما يدعوإليه ديننا.
غير أن هذا العيد يريد أن ينشر المعنى المظلم للحب، وهو العشق والمجون، والإسلام يحرم المجون والاختلاط والإباحية التي أباحتها الكنيسة المحرفة كما أباحت الخمر، وكانت ثمرة هذا الاختلاط أن تفككت الأسر واعطت القوانين الأوربية والأمريكية الشباب حرية الأفعال بعد سن 18 وكثرت حالات الحمل غير الشرعي، وكثر تخلي الآباء والأمهات عن تربية الأبناء لأنهم يشغلون الآباء والأمهات عن التمتع بالحياة التي أصبحت حياة مادية باردة.
وعلى المسلم أن يزن أعماله بما يرضى الخالق، وأن يفعل ما شرعه الله له، وأن يترك كل ما يخالف شرعه، ونحن ندعو للحب الفاضل، والشاب الذي يحب فتاة لسلوكها عليه أن يسارع لخطبتها من أهلها، لتصير حليلته، وعندها يفرح إن كسب قلبها، وتفرح أن كسبت قلبه، وأجمل الحب ما كان سببه إيماني لأنه لا يفتر ولا يقدم.
وفي الحديث قد استكمل الإيمان من أحب لله وأبغض لله.
والله يهدي إلى سبل السلام..(/1)
الإسلام وفكرة حقوق الإنسان
الإنسان.. المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه من روحه
وجعل له السمع والبصر والفؤاد
نبيلة الخطيب
الإنسان ذلك المخلوق الذي تميز على سائر المخلوقات بميزات كثيرة، فهو المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه من روحه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وأوجد فيه سبحانه الإرادة، فهو قادر على أن يقول نعم وأن يقول لا، أن يفعل وأن لا يفعل، وهذه الخاصية ليست إلا في الإنسان:
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)(1).
هذا من التكريم للإنسان فهو حر مختار، وأي فعل يقع منه على غير إرادة منه فهو فعل غير محاسب عليه ولا مؤاخذ:
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)(2).
(رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرهوا عليه).
ويقول تعالى على لسان الشيطان:
(وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن وعدتكم فاستجبتم لي)(3).
ولقد ميز الله تعالى الإنسان بالعلم ورفعه بذلك على سائر المخلوقات ومنها الملائكة:
(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)(4).
وهذا العلم الإنساني يزيد ولا ينقص:
(وقل رب زدني علماً)(5).
ومن تكريم أو تمييز الإنسان أن الله تعالى سخر له ما في السماوات وما في الأرض:
(وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار)(6).
وكل هذا جزء من التكريم لبني آدم:
(ولقد كرمنا بني آدم)(7).
ومن أعظم التكريم والتمييز أن خصه الله تعالى بالهدى والإيمان فجعل منه وفيه الأنبياء الذين يتلقون عن الله الهدى والنور كي لا يضل الإنسان ولا يشقى، ليعيش على هذا الكوكب حياة الطمأنينة والخير والأخوة والتراحم والتعاطف والإيثار.
لكن هذا الإنسان بكل هذه الامتيازات يبقى ضعيفاً:
(يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً)(8).
وقد يقع عليه الظلم والعنت وانتهاك حقوقه من بني جنسه:
(إن الإنسان لظلوم كفار)(9).
وإنما يقع الظلم من الإنسان عندما يتجرد من المعاني الإنسانية الفطرية التي من أعظمها وأجلها حب الإنسان لأخيه الإنسان:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه).
وعندما يفقد الإنسان الإحساس بأخيه الإنسان:
(واللهِ لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم).
وكذلك عندما يهبط إلى الأرض متثاقلاً إليها لا يهمه إلا خشاش الأرض يأكل ويتمتع فاقداً كل إحساس بمصاب الآخرين من بني جنسه إذا اشتكى منه عضو لا يتداعى له سائر الأعضاء بحمى ولا سهر، مشيع بالأنانية وحب الذات، لا يؤثر أخاه على نفسه بل يأكل نفسه هنيئاً مريئاً.
هذا الإنسان الضعيف الذي يطغى، ويعرض عن الحق وينأى بجانبه، الذي خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً، يحتاج حتى تنضبط حركته وتستقيم إرادته ولا يشتط في غلوائه، فيظلم نفسه التي بين جنبيه أولاً ثم نفسه الإنسانية، يحتاج إلى ضوابط وكوابح وترغيب وترهيب مع الإرشاد والتعليم والتربية، يحتاج إلى قوانين فيها كل ذلك تبين له حقوقه، وتوفرها له، وتبين له واجباته المنوطة به وتلزمه بها حتى يتحقق التوازن بين الأخذ والعطاء..
ومما يؤسف عليه أن الإنسان يطلب الحق الذي هو له بتهربه من الواجب الذي هو عليه وتأخذه الغفلة الشديدة عن الحقيقة أن الحق الذي يطلبه هو واجب على الآخرين تجاهه وأن الواجب الذي عليه هو حقوق الآخرين، فإذا لم يؤد الواجب لم يصله الحق.
وعندما قام الإنسان وأنشأ الجمعيات والمنظمات وسماها "حقوق الإنسان" لم يستطع أن يوضح المسألة آنفة الذكر، فظن الإنسان أن له حقاً يجب أن يصله وغفل عن أن عليه واجباً يجب أن يوصله.
أضرب مثلاً: فعندما يقطع الإسلام يد السارق فإنه بذلك يعطي حق الآخرين من الأمن على أموالهم أولاً ويمنع السارق في الوقت نفسه من القيام بالسرقة خوفاً على يده من القطع ثانياً، ويحمي السارق نفسه من أن يعتدي أحد عليه وعلى ماله هو.
فحكم القطع أعطى حق الأمن للناس جميعاً من خلال واجب تطبيق هذا الحكم وواجب كفاية الناس سكناً ومطعماً وتعليماً وعلاجاً، أرأيتم كيف تداخل الحق والواجب بشكل مدهش؟! والشاهد على نجاعة ونجاح هذا الحكم (المثال) لم تقطع خمس أيد طيلة ألف عام، فعندما لم يستطع الحاكم القيام بالواجب –كفاية الناس عام المجاعة (حق الأمن الغذائي) لم يعاقبهم على عدم القيام بواجب الأمانة، هذا مثال واحد بسيط على التلازم بين الحق والواجب والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومن هنا إني أرى قصوراً أو عدم توفيق في مسمى حقوق الإنسان.(/1)
وهذا لا يعني الرفض أو تسميته بالبدعة أو الإحداث كما يرى البعض من المسلمين "إن فكرة حقوق الإنسان بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم، هي فكرة غربية وثقافة غربية" ولكنها "تعد تطوراً إيجابياً نوعياً في تاريخ البشرية التواقة دوماً إلى عديد من الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الإنسان الحديثة." (أحمد الريسوثي، كتاب الأمة، عدد 87).
وهناك قد يرى أن الإسلام أسبق في إقرار حقوق الإنسان وذلك من خلال رؤيته أن "مقاصد الشريعة.. أساس لحقوق الإنسان" في هذا المختصر، فحفظ الدين يضمن حق التدين، وحفظ النفس يضمن حق الحياة، وحفظ العقل يضمن حق التفكير وحرية الرأي والتعبير، وحفظ العرض أو النسل يضمن حقوق الأسرة، وحفظ المال يضمن حق التملك (محمد الزميلي، كتاب الأمة، عدد 87).
ومن المسلمين من يرى أن حقوق الإنسان في الثقافة المعاصرة من مزايا العصر، ويدعو إلى الأخذ بها جملة برمتها.
وكما أن البعض كما ذكرت يجعل من فكرة حقوق الإنسان غربية وثقافة غربية فهناك من يقول: (ليس صحيحاً ليس مفهوم حقوق الإنسان غربياً خالصاً أو أنه غريب عن تاريخنا وثقافتنا، فإن حلف الفضول يمثل أحد معالم التطور التاريخي لحقوق الإنسان كما أنه ربما أول جمعية للدفاع عن هذه الحقوق (د. علي الدين هلال، في صحيفة أردنية يومية).
وكما ألمحت سابقاً فإن العقل البشري يظل قاصراً وضعيفاً وقد تتحكم فيه مصالح وانفعالات في ظرف ما وتحت مؤثرات معينة، وهذا لا يعني أن ينعدم الجهد البشري الإنساني من كل صواب أو خير أو حق أو إرادة وسعي لذلك، فلا إفراط ولا تفريط، الحكمة ضالة المؤمن وكما قال عليه الصلاة والسلام:
"نحن أولى بموسى منهم".
فهذا منهج في التعامل مع المنجز البشري، نأخذ الحق والصواب نحافظ عليه ونحفظه ونزيده حسناً وبهاء وجمالاً وننفي الخبث ولا بأس من التقاطع مع الآخرين بما يفيد الإنسانية.
من الظلم للإسلام أن يقارن بغيره ولكن بعض البيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن نظرة خاطفة تظهر كم أعطى الإسلام للإنسان وكيف يتعامل معه، فمن خصائص الإسلام الإنسانية أنه دين الإنسان والقرآن، وهو كتاب الإنسان، ولو تتبعنا ورود كلمة (الإنسان) في القرآن الكريم لوجدنا أنها تكررت ثلاثاً وستين مرة، وتكررت (بني آدم) ست مرات وكلمة (الناس) تكررت مائتين وأربعين مرة، وأن أول ما نزل على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم سورة العلق ذكر فيها الإنسان مرتين:
(خلق الإنسان من علق.. علم الإنسان ما لم يعلم).
فالوجهة والخطاب للإنسان كونه إنساناً دون تمييز فخلقكم من نفس واحدة:
(وما أرسلناك إلا كافة للناس).
(كلكم لآدم وآدم من تراب).
"ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".
إنها الوحدة الإنسانية والنفس الواحدة:
(من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).
فالإسلام يحترم الإنسان لأنه إنسان حرم إيقاع الظلم عليه بأي وسيلة وأي سبب:
"إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" (حديث قدسي).
ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب مهما كان نوع أو جنس أو لون أو دين هذا الواقع عليه الظلم.
هذه النظرة للإنسان عند المسلمين دين وثقافة وإيمان وقيم، لا يجادلون فيها ولا يتجاوزونها.
أما من انتكست فطرتهم وارتكست طبيعتهم وأرضعوا الحقد والبغضاء والتعالي والاستكبار فإنهم لا يقيمون للمعنى الإنساني وزناً إذا كان الإنسان غير ذاتهم العنصرية:
(ليس علينا في الأميين سبيل).
(إنما أهلك من كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فوالذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
الهوامش:
(1) الإنسان: الآية 2
(2) البقرة: الآية 28
(3) إبراهيم: الآية 22
(4) البقرة: الآية 21
(5) طه: الآية 114
(6) إبراهيم: الآيتين 32، 33
(7) الإسراء: الآية 70
(8) النساء: الآية 28
(9) إبراهيم: الآية 34(/2)
الإسلام ومبادئ حقوق الإنسان الدولية
اختتم مساء أمس الأربعاء 19/8/1424هـ، في مدينة الرياَض، مؤتمر "حقوق الإنسان في السلم والحرب"، والذي أقامته المملكة العربية السعودية رغبة منها في إظهار وإثبات أن الدين الإسلامي يضم في محتواه جميع شرائع الأخلاق الإنسانية، وحقوق الإنسان، التي تنادي بها حكومات الدول الغربية.
تاريخ غير مشرف لإعلان حقوق الإنسان:
عرض الأستاذ الدكتور عبد الرحمن زيد الزنيدي (أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة في الرياض) خلال الجلسة الأولى تاريخ ظهور مفهوم "حقوق الإنسان" في العصر الحديث، حيث أكد على أن الغرب الذي ينادي الآن بهذا المفهوم، هو الذي أفرز المعانات والمصائب والكوارث التي حلت على شعوب العالم، حيث قامت الدول الغربية ذاتها بعد ذلك إلى المطالبة بحقوق الإنسان.
وقال الدكتور الزنيدي: إن الكوارث والحروب الطاحنة التي أسقطت عشرات الملايين من القتلى والمشوهين في الحرب العالمية الثانية، والتي سببتها حروب الدول الغربية، أدت إلى المطالبة بهذه الحقوق، ليولد بعدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م.
مشيراً إلى أن هذه القضية قد أصبحت جزءاً من العولمة، عولمة حقوق الإنسان بالقوة ضغطاً سياسياً واقتصادياً أو حتى عسكرياً.
وتساءل الزنيدي على أي أساس وضعت هذه الحقوق إذا كان الغرب هو الذي وضعها بناءً على مقتضيات ظروفه وخلفيته التعليمية والثقافية، فما وجه إلزام الآخرين بها ممن تختلف ظروفهم وخلفياتهم عنه؟ بل أليس لهذه الأمم أن تضع هي لحقوق الإنسان مضامين تتسق مع تراثها وظروفها الخاصة؟
القرآن الكريم ومبدأ التعددية:
الدكتور رفعت حسن (أستاذ القانون الدولي بجامعة لويسيفل بالولايات المتحدة الأمريكية) قدم في محاضرته التي جاءت تحت عنوان "المنظور القرآني للتعددية الأخلاقية" الآية القرآنية الكريمة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الآية 13 من سورة الحجرات).
وأشار إلى أن ما يقال في الغرب وما هو سائد فيها، عن الدين الإسلامي، أنه دين يحتوي على أفكار سلبية كالتعصب والعنصرية وغيرها من الاتهامات الباطلة، مؤكداً أن الإسلام في الواقع هو دين التعددية والتفتح، وأن تعددية الأجناس ما هي إلا حكمة الله في خلقه، كما ورد في الآية الكريمة، والتي تشير بشكل مباشر وصريح إلى أن الدين الإسلامي يحث البشرية على التواصل والتحادث والتعارف فيما بينها، وأن الدين الإسلامي والقرآن الكريم يحث المسلمين على احترام الأديان الأخرى والتسامح مع الناس.
وأشار الدكتور حسن إلى أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم عليه الإسلام لأكبر برهان على تفتح المسلم على الآخر، وقابليته للتعاون في سبيل السعي وراء الخير وتجنب الشر ودحضه.
وجاءت محاضرة الدكتور أحمد المفتي (مدير عام مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان الخرطوم) لتبين مدى توافق مفهوم حقوق الإنسان الذي تنادي به الدول الغربية بدون تطبيق، مع الدين الإسلامي، وأن الإسلام يشمل في داخله هذه المفاهيم، التي تعد من أساسيات الدين وأخلاقياته.
وأوضح الدكتور المفتي بأن الدين الإسلامي، والأديان السماوية التي جاء بها الرسل من عند الله - عز وجل - لا تشمل فقط هذه المفاهيم وتطبقها، بل أنها تقدم أبعاداً أكثر عمقاً وأوسع نطاقاً لحقوق الإنسان.
وبين الدكتور "المفتي" أن النظام الدولي لحقوق الإنسان نشأ بعيداً عن الأديان السماوية لاعتبارات تاريخية في الغرب، حيث تنادي هذه الدول بمفاهيم إنسانية موجودة من قبل في الأديان السماوية،
كما أشار إلى أن أصول وقيم كل الأديان السماوية واحدة في منظور الدين الإسلامي، حيث ورد في القرآن الكريم قوله - تعالى -: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" [سورة الشورى: الآية 13]
حيث إن التشريعات السماوية من الله - عز وجل - هي واحدة، وأن حقوق الناس والشعوب التي أمر بها الدين الإسلامي، موجودة في الأديان السماوية الأخرى، إلا أن الغرب نادى بمبادئ من منطلق الحاجة لضمان حقوق الإنسان، فيما أمر الدين الإسلامي والأديان الأخرى بهذه الحقوق كواجبات شرعية ودستور عادل يضمن حقوق الناس كافة.(/1)
وركز الأستاذ الدكتور جعفر عبد السلام (الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية) في محاضرته على أن الشريعة الإسلامية غنية في مصادرها الأساسية بالقواعد والمبادئ التي تعترف بالإنسان وتكرمه في أوقات السلم والحرب على السواء، وأن الشريعة الإسلامية ذاتية خاصة بالنسبة لهذه المسائل، إذ هي تسوي في الخطاب بين الفرد، سواء في النطاق الدولي أو الداخلي، وبالتالي فهي تتفوق على القانون الدولي بجعلها الالتزامات مفروضة في مجال العلاقات الدولية والداخلية على السواء في زمني السلم والحرب، وطالب بأن يتم إثراء النظرية العامة لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنسان بالمبادئ الإسلامية الرائدة في هذا المجال.
شمولية الإسلام لمبادئ حقوق الإنسان:
وفي إشارته إلى الآية القرآنية الكريمة "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً" [الآية1: سورة النساء] بين الأستاذ الدكتور أحمد أبو الونا (وكيل كلية الحقوق جامعة القاهرة) إلى أن الدين الإسلامي لم يغفل عن حقوق الإنسان الذي تطالب به الدول الغربية، وأنه يطبق هذه المبادئ الدينية في السلم والحرب، وليس في وقت الحرب فقط (كما هي عليه بعض بنود وقوانين حقوق الإنسان الغربية).
كما استنكر القرآن الكريم الأفعال المهينة للكرامة الإنسانية، وعد فرعون من المفسدين بقوله - تعالى -: "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين" [القصص: الآية 4].
كما أشار الدكتور أبو الونا، إلى أن الدين الإسلامي حث على مقابلة السيئة التي تقع في العدو بالحسنة في جانب المسلمين في قوله - تعالى -: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".
وبين الدكتور عبد اللطيف بن سعيد الغامدي، من خلال محاضرته في المؤتمر أن الدين الإسلامي يولي أهمية كبرى للقانون الإنساني، وأن نظرته للقيم الإنسانية مدروسة ومركزة وكاملة؛ لأنها تنبع من تفكير قوي وصادق وواع، حيث إن التصور الإسلامي لكل القضايا وقضية القانون الدولي الإنساني ينبع من:
- أنه ذو أصل إلهي مقدس ولا يخضع بالتالي إلى نظام قانوني علماني.
- يرتكز أساساً على قواعد مستمدة من القرآن الكريم، تشكل كلاً يمتد إلى الجميع عبر المكان والزمان، ولا يمثل بالتالي فرعاً للقانون العام أو الخاص.
وخلص الدكتور الغامدي من ذلك إلى قاعدتين أساسيتين، هما:
1- إن مجال تطبيق القانون الإنساني الإسلامي كل لا يتجزأ ولا يفرق بين حرب وأخرى أو نزاع آخر داخلي أو دولي.
2- إن هذه القواعد المطبقة في كل النزاعات ترتكز أساساً على الرحمة والرأفة انطلاقاً في قدرة الله - عز وجل -.
وبين الغامدي أن القانوني الإنساني الإسلامي كان متقدماً على عصره؛ لأنه أوجب دائماً على المقاتلين احترام القواعد:
القانون الإسلامي الإنساني ومبادئ احترام كرامة الإنسان يحرم التمثيل وتعذيب العدو.
تحريم قتل رجال الدين والشيوخ والنساء والأطفال، ويمنع القانون الإسلامي تجويع المدن المحاصرة وتحطيم الأملاك والغدر، قال - تعالى -: "إن الله لا يحب الخائنين".
الأسرى: لا يبيح الإسلام قتل الأسرى، ويحظر على أشكال التعذيب والتمثيل بالعدو، وتذهب الشريعة الإسلامية إلى أبعد من ذلك، إذ توصي بحسن معاملتهم، قال - تعالى -: "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً".
نظام الله - عز وجل - أشمل وأدق:
الأستاذ الدكتور رشاد حسن خليل (عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر) أشار إلى أن الشريعة الإسلامية قامت بأعظم عمل إنساني حين دعت إلى حقوق الإنسان بأسلوب فريد ونظام جديد يجعلها دستوراً للحياة، فالإسلام الحق هو دين الفطرة الخالدة الذي يحمي الإنسان ويقرر حرياته ويحافظ على حقوقه ويرفع من شأنه ويكرم إنسانيته، وهذا يتحلى بالناحية التاريخية وخصائص ومزايا حقوق الإنسان في الإسلام.
وتحدث الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الصالح (أستاذ الدراسات العليا، وعضو المجلس العالمي في الرياض) عن قانون حقوق الإنسان في مصادر الشريعة (الطفل المرأة الرجل) من خلال التحدث في إطار منظومة هذا الكون الكبير الدقيق المحكم الذي خلقه ودبر أمره رب العالمين "فتبارك الله أحسن الخالقين".
وأكد الأستاذ الدكتور محمد صالح على نقطة جوهرية في أن وضع قوانين لمبادئ حقوق الإنسان من قبل الناس والأشخاص والهيئات، ستكون قاصرة وغير كاملة، وتخضع لتدخلات ومصالح المنظرين، لذلك يجب أن نأخذ بالقوانين والتشريعات التي أوجدها الله - عز وجل - كونه الخالق والعليم والخبير، وكونه أعرف بالذي خلقهم من أنفسهم.(/2)
وقام الدكتور يحيى بن محمد حسن زمزمي (وكيل كلية الدعوة وأصول الدين جامعة أم القرى) بدراسة منهج القرآن في قصة حقوق الإنسان محللاً الآيات ومستنبطاً منها النتائج والفوائد، حيث اطلع على نصوص القوانين الدولية؛ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومعاهدات ومواثيق الأمم المتحدة؛ لتقويمها إجمالاً في ضوء منهج القرآن الكريم.
وخلص الدكتور زمزمي في دراسته إلى أن مفهوم "حقوق الإنسان" في القرآن شمل القواعد والنصوص التي تنظم علامات الناس على سبيل الإلزام، وأثبت وعند مقارنة المفهوم القرآني مع مفهوم القانون الدولي متمثلاً في الإعلان العالمي الكمال المطلق لمنهج القرآن وإثبات الخلل البيني لمناهج البشر.
وقال: إنه من السهل وضع الأنظمة، ولكن الصعب تطبيقها على أرض الواقع، وما يسن من قوانين وأنظمة في العالم سريعاً ما تتلاشى أمام شريعة الغاب، ولعل ما سنه الغرب ينفي في كثير من الأحيان بين مبادئ نظرية وتطبيقية.
وأضاف" إن الإسلام قد أعطى أصناف الناس حقوقهم، فلم يترك صنفاً منهم، مؤمناً أم كافراً، رجلاً أو امرأة، أو صغيراً أو كبيراً، أو حياً أو ميتاً، إلا وجاءت نصوص القرآن الكريم ببيان حقه، وفصلت السنة النبوية الشريفة ذلك، وبينته بجلاء، مما لم يوجد في غير دين الإسلام".
وتوالت المحاضرات والنقاشات التي أثرت العرض العلمي حول مسألة تحددت في أن الدين الإسلامي هو أوسع الأديان والتشريعات التي وضعت قوانين حقوق الإنسان كأساسيات في تنظيم حياة الناس والشعوب.
حيث ألقى العديد من الأساتذة والدكاترة المسلمين والعرب، وحتى الغربيين محاضرات وكلمات خلال المؤتمر.
وركزت المحاضرات على تبيان أن حقوق الإنسان، كأفكار ومبادئ ونظريات، لا تتعارض مع جاء به القرآن الكريم، وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل إن الدين الإسلامي يحتوي فيما يحتويه، هذه الأفكار والتشريعات، وأن الإسلام أوسع وأشمل من كل تلك الأفكار، حيث يقدم صوراً أشمل، وأبعاداً أعمق، وأفكاراً أغزر وأصوب، في سبيل الحفاظ على حقوق الناس كافة.
الرسالة الحقيقية:
ولعل ما قاله أحد المشاركين في الحوارات، وهو الأستاذ محمد عبدالله البكري (مستشار وزير العدل في جيبوتي) يلخص الفكر الذي يجب أن يصل إلى العالم، حيث قال في لقاء له مع موقع "المسلم": "
الإنسان المكرم هو الإنسان الذي لا يخضع إلا لله - تعالى -، والشريعة الإسلامية لها مميزات تفوق القانون الدولي لحقوق الإنسان وتشمله، هناك أشياء إذا قال عنها الغرب: إنها حق من حقوق الإنسان، فهذا يعد عبثاً، مثل: مسألة الإباحية والشذوذ الجنسي وزواج المثلين، هذا يعدونه حقاً من حقوق الإنسان، وهذا ما ترفضه الفطرة، و يعد ظلماً في الحق الإنساني، وليس حقاً من حقوقه.الشريعة الإسلامية تكرم الإنسان، أما القوانين الغربية فإنها تريد أن تعطي الإنسان الحق في أي شيء حتى ولو كان ضد مصلحت الإنسان نفسه".(/3)
الإسلام يرفض العنف
شواهد من القرآن والأنبياء
الحلقة (22) الجمعة 3 ربيع الثاني 1396هـ – 2 نيسان 1976م.
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.
قد يكون الحديث عن الذات بغيضاً في كثير من الأحيان ولكنه في أحيان خاصة ضروري من أجل إزالة التباس أو كشف شبهة أو القضاء على تشويش مقصود، وقبل أن نأخذ في الحديث، أحب أن أؤكد لكم أنني منذ وهبت لله نفسي ما جعلت لها حظاً فيما آخذ وفيما أدع وإنما كنت أبذل جهد الطاقة -والعصمة لله وحده- أن أتحرى الحق، فإذا استبان لي وجه الحق لزمته غير متردد وغير آبه بآراء الناس وغير ملقٍ بالاً إلى كلام الناس، والمسلم كذلك ينبغي أن يكون إذا أرضى الله فلا عليه بأس إن شاء الله تعالى أن يغضب منه الناس جميعاً، وإذا أسخط الله تعالى فما الذي يجنيه من رضا الناس كلهم.
وكلكم تعرفون من سلوكي الصغيرة والكبيرة فأنا رجل مكشوف يعرفني الصديق معرفة العدو بلا زيادة ولا نقص ما عندي لف ولا دوران، ما عندي لجلجة، ولا جمجمة ما عندي همس وهمز ولمز بين الجدران، خلقني الله حراً أنفر من كل طباع العبيد، وأحتقر كل أخلاق العبيد، وكم من مرة قررت رأياً وقلته لكم ثم استبان بعد زمن أن فيه خطأ فلم تأخذني بحمد الله العزة بالإثم فأصر على الخطأ بل كنت أقف في نفس المكان لأعلن أنه سبق لي أن قلت في التاريخ الفلاني كذا وهو خطأ وأستغفر الله لذلك وأرجو أن يصحح على الوجه التالي ذلك سلوك أظن كل الناس يعرفون عني، وأنا مدفوع إلى ذلك بشعور يشكل بالنسبة إليَّ مرضاً أو شيئاً من ذلك، حينما أفكر وأقرر لكم نتائج ما أفكر به أتمنى لو أن غيري كفاني مؤونة هذا كله ورضي الله عن عمر فلقد كان يقول: مَنْ علمَ أنَّ كلامَه من عمله قلَّ كلامه، فالإنسان مأخوذٌ بما يقول ومحاسب على ما يقول، ولذلك وجب عليه أن يتحرى الصواب دائماً قد يخطئ لكن شفيعه في هذه المواقف النية الصالحة وإرادة الخير والصواب، ونحن كما تعلمون نعيش في عصر عجيب والمسلمون فيه يعانون غربة ويرزحون تحت مشكلات ويقاسون من متاعب وأوجاع وهذا يجعل الإنسان الذي ابتلاه الله بمهمة التوجيه أكثر شعوراً بالمسئولية أو ذلك هو الذي ينبغي أن يكون ومهما يبلغ بي الغرور فلن يصل بي بحمد الله تعالى إلى الحد الذي يجعلني أمنح آرائي أكثر مما تستحق باستمرار كنت أقول لكم:(/1)
إن هذا الكلام الذي ألقيه عليكم رأي، وهو رأي يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، وأنا أرجو من كل أخ يسمع كلامي فيكشف فيه خطأ أن ينبهني عليه وأنا أرجو من كل أخ يستشكل شيئاً من كلامي أن يسألني عنه وكنت أقول باستمرار إنني بحكم السن والتجربة أنتمي إلى جيل غير هذا الجيل وذلك يعني أن هذا الجيل، له مشكلات وله اهتمامات قد لا أشعر بها أو قد لا تشكل عندي أية مشكلة، فكنت أطلب إلى الإخوة باستمرار أن يلغوا فيما بيني وبينهم فارق السن وفارق العلم والثقافة، وأن يعتبروني واحداً منهم. ومن كان منهم لا يجرؤ أو يستحي أن يواجهني فليكتب لي بهذا الذي يشعر به وأنا كفيل إن شاء الله تعالى بإيضاح كل شيء وأظن أنه لا يطلب من إنسان أكثر من هذا. أنا أصرح باستمرار وأصر على أن مشكلات العالم الإسلامي اليوم على صعيد الفكر وعلى صعيد العمل جميعاً أكبر من طاقة الأفراد والفرد مهما يبلغ من التحصيل ومن العلم ومن الممارسة ومن التجربة ومن الإخلاص يبقى عاجزاً عن تقديم الحلول النهائية يجب أن تشترك الأمة أو يشترك النابهون من الأمة جميعاً في التفكير ومحاولة البحث الجاد المؤسس على أصدق النوايا وأخلص الاتجاهات في سبيل الحق وطلب الصواب لكي يمكن أن نهتدي إلى حلول لمشاكلنا. وبصورة خاصة فمنذ أوائل الصيف الماضي ذكرت على المنبر حينما كنا نخطب في الجامع الوسط أن الموضوعات التي نثيرها اليوم تشكل أرضاً بكراً لم يسبق لها أن طرقت على المنابر ولا طرحت على الجماهير وهي من أجل ذلك بحاجة إلى المراجعات المستمرة. ورجوت الإخوة جميعاً أن يراجعوني وأن يناقشوني وقلت لهم لا يتصور أحد منكم أنني أتأثر حينما يرد علي رأياً من آرائي لا أريد أن تعتقدوا أن الإنسان منكم حين يناقشني الرأي أغضب فهو صاحب الفضل علي، ولستُ أنا صاحب الفضل هو صاحب الفضل علي لأنه بالحوار وبالمناقشة سوف يفرز ما في آرائي من سلبيات وسوف نجد الإيجابيات الضرورية فتعالوا ناقشوا وتعالوا نشترك في التفكير وكنت أحسب أنني وضعت الأمور في أنصبائها الحقة، وأنني قطعت الطريق على كل محاولة للتشويش والإبهام. مرة أخرى اسمحوا لي أن أقول لكم إنني أرفض أن أضع شخصي حائلاً بيني وبين الدعوة، لقد طرقت موضوعات منذ أوائل الصيف كانت تتعلق بأوليات الوحي وانتبهوا علي فأنا لا أشكو ولا أعتب ولا أغضب ولكني أرسم صورة، لابد أن يقابلها الدعاة في الطريق مرصودة لهم، كي يستعدوا لها وكي يوطّنوا أنفسهم على احتمال تكاليفها في تلك الأيام كنت أتحدث عن ظاهرة الوحي وأتحدث عنها في الحدود التي يسمح بها الجو، والتي تسمح بها النصوص الموجودة بين أيدينا، وكنت أتحدث عن الشدائد والأثقال التي يقابلها الأنبياء بصورة خاصة، ويلقاها الداعون إلى الله بصورة عامة، وتطرق الحديث كما ذكرت لكم في الجمعة الماضية في ظروف مزعجة إلى أن أطرق باب العنف في الدعوة وعدم العنف لسوء الحظ في ذلك الوقت، وسأكشف لكم الموضوع تماماً كي لا يكون أحد منكم في إبهام ولا لبس.
وعدت أن أتحدث في الجمعة القادمة عن الموضوع، يشاء الله أن تقوم في البلاد محاولة، وأن يكون القائم بها أخ من إخواني عزيز عليّ حبيب إلى نفسي أعرفه على البعد رأيته مرة وهو صبي، فعرفت فيه الإخلاص ولكني عرفت فيه الاندفاع الأعمى غير المستبصر وشب الرجل ونشأ جندياً في دعوة الله تبارك وتعالى، ولكنه كتلة من نار تشتعل ذلك هو أخي على البعد وصديقي على البعد وحبيبي في الله الأخ مروان حديد فرّج الله عنه.
في الواقع وقفت أمام نفسي في حرج شديد بين الوفاء لما أعتقد أنه الصواب وبين الوفاء لمقتضيات زمالة الطريق ولم يطل بي التردد على العادة أنا مع آرائي ومع قناعاتي ولو كانت تحطمني أنا نفسي بالذات، وبدأت الحديث وهاجمت العنف في وقت أعرف أن فيه ناساً من الناس ربما يفسرون هذا أنه مهاجمة للأخ مروان فرج الله عنه، وأنه مناصرة للسلطة.(/2)
كان ذلك كله في بالي ويومها قفزت إلى ذهني قضية يعرفها دارسو الأدبيات الماركسية، فحين قامت ثورة فرنسا العظمى وتشكلت كومونة باريس، كان كارل ماركس يرى في هذه الكومونة التجربة الرائدة العظمى لحكم العمال والكادحين ولكنه رأى أن المجازر التي ارتكبت شيء رهيب وأنه وقعت أخطاء لا يمكن تحملها، مع ذلك فقد وقف كارل ماركس مع الكومونة على ما فيها من مصائب وما فيها من أخطاء وكتب من أجلها كتاباً مشهوراً في الأدبيات الماركسية هو كومونة باريس، قفزت هذه الحادثة إلى ذهني، وتبادر كيف تتماثل الحوادث، فوجدت نفسي أتقزز إن ماركس يخون اعتقاده ويخون رأيه ويقف مع الجانب الذي يعتقد أنه ارتكب خطأ كبيراً لا يمكن الدفاع عنه ما هذا؟ انتهازية.. أما أنا فقد قررت أن أقف مع الصواب بغير إطالة للتردد وتكلمت على العنف، وقلت إن العنف لا يثمر شيئاً، وقلت إن الإسلام منهج قوامه الحب وقوامه الطيبة وقوامه الإنسانية الرفيعة المهذبة، ولكم أن تعجبوا أن شهوراً طويلة مرت منذ ذلك الوقت. من أوائل الصيف وإلى الآن دون أن يعقب الأبطال الأشاوس على هذا الكلام.
في الجمعة الماضية سمعتم كلكم ماذا قلت والحمد لله الكلام على المنبر ليس شيئاً يسهل التنصل منه وكما كان يقول زياد بن أبيه كذبة المنبر بلقاء مشهورة وكلامي يسجل وتتداوله الأيدي في هذا البلد، وخارج هذا البلد وخارج هذا القطر، فالكلام الذي سمعتموه كان ينصب على قضية واحدة قلت بالنص إنني سأقتطع منظوراً تاريخياً محدداً يبدأ بالثورة الفرنسية وينتهي بأيامنا هذه لأدرس معكم على ضوء الوقائع؛ التربة التي نشأ فيها العنف لماذا لأنني سبق أن قلت لكم إن العالم اليوم يعيش تحت عبء هستيريا خطيرة -هستيريا العنف- وما يتولد عن العنف من مجازر ومذابح وأخطار تتعرض لها البشرية وأن هذه العدوى مع الأسف تسربت إلى بلادنا وسكنت عقول كثير من المسلمين، وأصبح كثير منهم يعتقد أن قضية الإسلام لا يمكن أن تنتصر إلا على أساس القيام بعنف ثوري يحطم الطغيان والطغاة تحطيماً، مع قطع النظر عن وجود الشروط الضرورية لتقبل الإسلام أو عدم وجود هذه الشروط، ومع قطع النظر عن سلامة التكوين الذي يجب أن يتوفر في الدعاة إلى الإسلام أو لا يتوفر وقلت إنني أريد أن أحمي الشباب المسلم من هذه التيارات الضارة وكان يخطر في بالي كلام النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت هذه الحشرات والهوام تتهافت على النار، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها) أعرف أن كثيراً من شباب المسلمين يرون هذا الرأي ولكن عذرهم أنهم ما كلفوا أنفسهم مؤونة دراسة التجربة الإسلامية وما كلفوا أنفسهم مؤونة تصور قضية العنف على النحو الذي هي موجودة عليه، في هذه الأيام فاقتطعت من التاريخ منظوراً وصورت لكم تطور العنف وكشفت لكم عن التجربة التي نشأ فيها هذا العنف وقلت اعتباراً من الجمعة القادمة سنتكلم داخل رحاب الإسلام إذاً أنا لم أعط رأياً في المسألة بل عرضت المشكلة وصورتها وما قدمت الحل ولا أدري كيف يهيء الله في بعض الأحيان إرهاصات...
يوم الجمعة الماضية بعد الصلاة عندنا في البيت كنت أقف مع بعض الإخوة ولا أعرف ملابسات الكلام، لكني ذكرت أن الإنسان يُشَوَّهُ كلامُه بعدم الفهم ويشوَّه كلامه للغرض المقصود، وأستشهد بكلمة كان يقولها الفنان والفيلسوف والعالم "مايكل آنكل" فقد كان يقول: "إن معرفتي ستخلق عدداً كبيراً من الجهلة" فتفكير الإنسان في الواقع حينما يتنطح إنسان من الناس ليكون قاضياً يحكم على تفكير إنسان يجب عليه أن يأخذ تفكير الإنسان في كليته لكي يهتدي إلى الحقيقة؛ أما البتر والتجزئة فلا ينتج شيئاً، قيل لأبي نواس: لماذا لا تصلي؟ قال: إن الله قال: (فويل للمصلين) لكنه لم يقل بعد ذلك الذين هم عن صلاتهم ساهون، بتر جزءاً من الآية احتج به على ترك الصلاة.
قيل لأبي نواس ذات يوم: علامَ تشرب الخمر؟ ألا تعلم أن الله حرمها؟ قال: لا. قيل: وكيف؟ قال: إن الله تعالى قال: (فهل أنتم منتهون) قلنا: لا، فسكت وسكتنا، سألنا الله تعالى فقلنا له لا ننتهي ولم ينزل علينا بعد ذلك وحياً، ترون أن الإنسان المغرض يستطيع أن يأخذ من القرآن من كلام الله تعالى ما يؤدي غير الحقيقة بل ما يؤدي ضد الحقيقة، والناس حينما يتغرضون فهم أشد شراسة من الوحوش من هنا فقد استغربت ما ثار في الأسبوع الماضي وهمس به بعض الإخوة.. سلفاً أقول لهم سامحهم الله ولكنكم يا إخوتي مغرر بكم تغريراً شنيعاً إذا كنت أطلب منكم وأرجو وأقول أنتم أصحاب الفضل علي تعالوا ناقشوني فلماذا الهمس بين الجدران؟ ولماذا التناجي بإلأثم والعدوان؟ ولماذا الانتشار في المجالس؟ ولماذا التدسس تحت الآباط؟ ولماذا؟ إن لم يكن من وراء ذلك غرض مبيت فهو التشويش والصد عن سبيل الله.(/3)
يا إخوة يا مسلمون إنكم تأكلون لحوماً حرمها الله عليكم وإنكم لتركبون مركباً خشناً وما أنا بغاضب، كلا ولا أنا بعاتب وإنما أقول مرة أخرى عفا الله عنكم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ولكن افهموني أنا لا أسمح أبداً بشيء من هذا التشويش لا أسمح أبداً أن يتخذ الكلام عن قضايا الإسلام ذريعة يشوش بها بعض الناس على مبادئ حقة وهم أجبن الناس وهم أذلّ الناس أنا أعرف المعارك وأنا أعرف الساحات ولقد كنت باستمرار أفقد في ساحات النضال وأفقد في مواقف الكفاح هؤلاء الأبطال الأشاوس.. لا أراهم.. هذا سلوك عشائري، طريقة سوقية وما أشبه ذلك لا يا إخوتي الطريق ليس من هنا أبداً الطريق هو أن نقف رجالاً في وجه رجال. عقولاً في مواجهة عقول ونتناقش وقلت إنني لم أصدر آراء نهائية وطلبت أن لا أناقش الآراء ومنذ مدة عمدت عن سبق تصور وتصميم إلى رفع سوية الكلام لماذا لأنني أردت أن تتفتح عقول شباب المسلمين على مهماتهم، فمهماتهم ليست مهمات بلد ولا مهمات قطر ولا مهمات عَالَمٍ عربي ولا مهمات عَالَمٍ إسلامي، مهماتهم عالمية كونية. وإذا جاز لنا أن نستعير من علم الأحياء قاعدة شهيرة نقول إن الوظيفة تخلق العضو فأنا أردت هذا أردت أن أحدد المهمة الكبيرة لأفسح المجال للهمم العظيمة كي تنطلق باتجاه الإسلام مرة أخرى، وبلا ملل أقول لست عاتباً والسبب بسيط منذ سنوات -وهذا مثل- وحين كانت الخلائق مستحكمة بين مصر والاتحاد السوفياتي ذهب وفد يرأسه المرحوم المشير عبد الحكيم عامر في زيارة إلى الاتحاد السوفياتي وكان رئيس الاتحاد السوفياتي في ذلك الحين خروتشيف وخروتشيف رجل جلف غير مؤدب يمثل جلافة الإنسان السوقي الروسي فعلاً وحذاؤه على منبر الأمم المتحدة مشهور وأثناء المحادثات وفي ساعة من ساعات التجلي العجيب لخروتشيف مد خروتشيف يده وعرك أذن عبد الحكيم عامر وقال له يا جناب المشير إنكم تتحدثون على الاشتراكية وتتحدثون عن إذابة الفوارق بين الطبقات وأحب لك أن تتأكد أنكم لابد أن تكونوا شيوعيين في يوم من الأيام طبعاً الذي أتصوره أن المشير رحمه الله فتح فمه دهشة واستغراباً لكن خروتشيف كان يعني كل حرف يقوله -في هذه الكلمة- كل نظام من الأنظمة له منطق، حين تضع نفسك ضمن منطق النظام فأنت سائر في الواقع إلى نتائجه التي لابد من مواجهتها على الإطلاق أو أن ترجع فالطريق الاشتراكي يؤدي إلى الشيوعية إذا أردنا أن نخلص للمنطق الاشتراكي بالذات والشيوعيون لا يحتقرون شيئاً كما يحتقرون الاشتراكيين لأنهم يعتبرون الاشتراكيين جماعة تزيف الماركسية والشيوعية وتخلق أمام الطبقة العاملة وهماً لا ظل له في الحقيقة، وتلقي حجاباً بينه وبين ألاعيب الاستعمار والإمبريالية العالمية.
طبعاً نسمح لأنفسنا أن نقول إن المشير رحمه الله ذهب وأن عبد الناصر رحمه الله ذهب وأن أخانا السادات الآن يعود ليتراجع عن جملة الخط الماركسي كله، وعن الاشتراكية كلها لأنه إما أن يمشي كما قال خروتشيف فيصل إلى الشيوعية وإما أن يعود إلى قواعده. أنا لا أفرك آذانكم يا إخوة إنما أربت على صدوركم وعلى ظهوركم وألقاكم بمنتهى الحب والود والعطف وأقول لكم لا بأس عليكم إن شاء الله فطريق الإسلام معروف الأول معروف الغاية وأنتم طالما في طريق الإسلام فمصيركم إلى القواعد التي أقف فيها الآن، لا أخشى عليكم هل ترتدون يوماً عن دين الإسلام لا ذلك لا يخطر في بالي فاجهدوا جهدكم وقولوا ما شئتم ولكني أنصح لكم أن تكونوا أمناء على الحقيقة أمناء على الفكر أمناء على قضية الإسلام. ماذا؟ وأذهب أبعد لا لن يفرح بها أحد لقد قيل كلام وسخ قذر ولكنه لا يهم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ قالوا: وما أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجل من المسلمين كان إذا خرج من بيته في الصباح يقول اللهم إني أتصدق بعرضي على المسلمين. كل إنسان يتكلم فذلك صدقة عليه وأنا أعفو عنه، ونحن نرجو أن يكون القانون الذي نتعامل به فيما بيننا قانون العفو والتسامح والطيبة ما دامت الأمور أثيرت بهذا الشكل فسأسمح لنفسي أن أبسط القضية بعض البسط سأعود إلى أين. إلى أوائل الصيف حينما كنت أتحدث عن أوليات الوحي وحينما رويت لكم نصاً من سيرة ابن إسحق وافتحوا عقولكم وقلوبكم يا إخوتي كان ابن إسحق يتحدث عن فترة الوحي ثم قال هذه الفترة انتهت وقال ثم تتامَّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي تتابع وهو أي رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمن بالله مصدق بما جاءه من عنده قد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمّله على رضا العباد وسخطهم والنبوة أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستطيع لها حملاً إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه.(/4)
قال ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الأذى والخلاف. هذا نص ابن إسحق في السيرة التي هي أوثق نص للسيرة بين أيدينا ويقول السهيلي شارح السيرة في تعقيبه على أثقال النبوة قال: وقع في هذا الموضع يعني في الحديث عن أثقال النبوة من رواية يونس عن ابن إسحق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه يقول وهو في مسجد منى وذكر له يونس النبي صلى الله عليه وسلم فقال، يعني وهب كان عبداً لله صالحاً، وكان في خلقه ضِيْقٌ؛ فلما حُمِّلَ أو حُمِّلتْ عليه أثقال النبوة ولها أثقال تفسخ تحتها تفسخ الرضع تحت الحمل الثقيل فألقاها عنه وفر هارباً.
أشرح لكم الكلام لأنه من كلام العرب القدماء الرُضَعْ: هو الفصيل من الناقة الذي ينتج ويولد في الربيع.. صغير.. حينما تلقي عليه حملاً يحمله البعير البازل في العادة لا يستطيع أن يستقل به، فهو يتفسخ تحت الحمل فكذلك يونس النبي صلوات الله عليه حينما حملت عليه أثقال النبوة ولها أثقال تفسخ تحت هذه الأثقال كتفسخ الفصيل الصغير الذي لا يستطيع أن يتحمل الحمل فألقى أثقال النبوة عن ظهره وفر هارباً. قال السهيلي ووقع في رواية ابن إسحق أن أولي العزم من الرسل منهم نوح وهود وإبراهيم صلوات الله عليهم –انتبهوا- أما نوح فلقوله طبعاً -كما قص القرآن يا قومِ إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله) وأما هود فلقوله: (إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون) وأما إبراهيم فلقوله هو والذين معه: (إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله) إذاً فالمسألة لها أصل يمكن أن نرجع إليه جميعاً. النبوة قدوة ومثل والرسول صلى الله عليه وسلم حمل الرسالة فتحملها بفضل الله وتوفيقه ولكنه أُمر بأن يقتدي بالمرسلين من قبله من أولي العزم فقال تعالى من سورة الأحقاف:
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بأن يصبر صبر أولي العزم من الرسل الذين سبقوه يصبر على ماذا على تكاليف النبوة وعلى أثقالها، وكذلك مأمور بالاقتداء فبسورة الأنعام يقول الله جل اسمه (أولئك –يعني الأنبياء الذين قص الله نبأهم في السورة- الذين هدى الله فبهداهم اقتده) يعني اقتدِ يا محمد بهدي الأنبياء من أولي العزم الذين اقتصصنا عليك نبأهم، ونحن المسلمين مأمورون بماذا هل نحن مأمورون بأن نضع شخص النبي صلى الله عليه وسلم في إطار من الزينة والزخرف لنتغزل بها ونمتدح أم نحن مأمورون بأن نقتدي ونتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم تقرأون قول الله تبارك وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بأن يقتدي بالأنبياء من قبله ومأمور بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ونحن الأمة الإسلامية مأمورون بأن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا من سورة البقرة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) فالأمة المسلمة شهيدة بمعتقداتها وبسلوكها وبأخلاقياتها وبحركتها على الناس والشهادة لا تكون إلا من موقع امتياز إذا لم يكن ثمة امتياز فلا شهادة لأن الأمة مطلوبة أن تشهد على سلامة الدعوة فحين تكون غير قادرة على أداء هذه الشهادة فهي إذاً شهادة سوء وشهادة باطل لا شهادة حق وشهادة صواب.
هذه الأمة أيضاً مطالبة بهذا فالله جل وعلا يقول في سورة الأنعام فيما يقص علينا: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء –من أهل مكة- فقد وكلنا بها قوماً –يعني بالدعوة- ليسوا بها بكافرين) من هم الأنصار والمهاجرون الذين نحن خلفاؤهم عرفتم الآن إذاً واجباتنا مساوية تماماً لواجبات النبوة أفراداً وجماعات كأمة يجب أن نتحمل المسئولية حمل الرجال الأقوياء والله جل وعلا يقول (وخذ ما آتيتك بقوة) وكأفراد يجب أن نصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ومن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى فتعالوا بنا ننظر ما هو مواقف هؤلاء الرجال؛ علماً بأنني أتحدث أيضاً ضمن منظور تاريخي أتحدث عن فترة بدأت في بداية الوحي وانتهت بفترة الإنذار ثلاث سنوات هي السنوات الأولى من عمر الدعوة، ومع ذلك أقول طويلة وأن يخضع لصبر لا نهاية له حتى إذا استقل على قدميه إنساناً يعرف الله ويضعه دائماَ نصب عينيه ويتحرك لله ويسكن لله ويأخذ لله ويدع لله فحينئذ يمكن أن نطرح هذه النماذج في الساحة لتكون دعاة ونحن واثقون عندئذ بأن هؤلاء الدعاة سيعكسون عن الإسلام أنصع الصفحات وسيعطون عنه أروع صورة.(/5)
سأقرب إليكم المسألة، في كل مجتمع عندنا وعند غيرنا ناس يتزينون بزي الدين مشايخ علماء كذا وكذا بعض هذه النماذج في الحقيقة لا يتلاءم سلوكها مع ما يطلبه الدين ولا أخلاقها مع ما يطلبه الدين ولا تعاملها مع ما يطلبه الدين ليست المسألة هنا المسألة أريد أن ألفت نظركم إلى أولاد هؤلاء الناس.. إلى أولادهم فسوف ترونهم شيوعيين بعثيين قوميين سوريين سكيرين خميرين زناة لوطيين لماذا لأن هذا المخلوق ما رأى من الإسلام إلا الصورة البشعة المتمثلة في الوالد الكريم هذا ما أريد أن أقوله..
يتقرر إن الداعية المزيف يضر ولا ينفع ويصد عن دين الله ولهذا فنحن نرفض هذا الاتجاه المدمر الذي يرى أننا نستطيع أن ندفع الشباب للقيام بثورات باسم الإسلام ونحن نقول لهم إن الذي يأتي بالعنف يذهب بالعنف، وإن الذي يزرع الشر يحصد الشر، وإن الذي يوغر القلوب تحرقه القلوب، لا يمكن لا يمكن لا يمكن.. بعد أن تتلظوا وبعد أن تحترقوا بنار التجربة وبعد أن تكونوا فعلاً أدوات يحركها الله ولا تحركها النزوات ولا تحركها الشهوات ولا تحركها الرغبات فانطلقوا لن أخاف عليكم أما اليوم فلا.. ذلك كذب وتزييف، ذلك تدجيل لا أوافق عليه ولا أرضاه سأظل أنفق ما تبقى من حياتي لمطاردة هذه النوازع الضارة لأن القضية قضية مستقبل الإسلام برمته فهمتم. تعالوا الآن إلى الساحة سأطيل عليكم لا بأس وإن كنت والله أشعر أن كل خلية من جسدي مريضة مع ذلك لا بأس.
ما هي تربة الإسلام، ما هي التربة التي أمر محمد سيد الدعاة أمر المسلمين جميعاً أن يقفوا عندها قلنا إن أولي العزم منهم نوح ومنهم هود وإبراهيم، فما موقف نوح تعالوا نقرأ لا داعي للثرثرة ولا للكلام.. تعالوا إلى رحاب القرآن بالذات. يقول الله تعالى في سورة يونس (واتلُ عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أفضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجاه الله ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).
أين في هذا الموقف حمل السلاح أين في هذا الموقف المعاركة والمصارعة والطعان، أين لا شيء عناصر الموقف تنحل إلى ما يلي نبني أمر فهو واقف مع الأمر ينفذه على الكره وعلى الحب وهو يصبر على كل المتاعب التي تترتب على وقوفه عند أمر الله تعالى، وهو يعلن هذا الموقف ويدعو إليه الناس ويتحمل تبعات هذا الإعلان ويتحمل تكاليف هذه الدعوة ثم لا يستجيب الناس فلا يحمل نوح عليه السلام سلاحه ولا يذهب مقاتلاً لكي يفتح عملية جراحية في أدمغة الناس ليصب الإيمان فيها صباً لأن هذا مستحيل وإنما يفوض الأمر إلى الله ويأتي الإنقاذ من قبل الله تبارك وتعالى فيدمر الظالمين المكذبين وينجي الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
هذا نوح وهو من أولي العزم فمن أين يأتي بعض الإخوة بموقف العنف في سياق الدعوة إذا أردنا موقف نوح دعونا من نوح صفّوه على جنب تعالوا إلى هود، يقول الله تعالى في سورة هود (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله -إعلان الوحدانية- مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون -أي أنتم تكذبون على الله بادعائكم له الشركاء- يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله الذي فطرني أفلا تعقلون، ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين).
إلى هنا انتهت الدعوة ما الموقف؟:
(قالوا يا هود ما جئتَنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين –موقف إعراض وتكذيب هل انتهى الأمر لا انتظروا السخرية الأكبر يقولون –إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء- يعني بعض الأصنام أصابك بالخبل كما يروج الجهلة من المسلمين أن الولي الفلاني ضرب فلاناً فأفقده العقل أو شلّه أو ما أشبه ذلك- إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال –مَنْ هود- (قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء محيط).
ثم وقعت الواقعة فهذه عناصر موقف هود؛ رجل كلف الدعوة فجهر بها لم يجلس تحت الأقبية، ولم يحبس نفسه بين أربعة جدران، ولم يسلك أساليب الحزبيات ولم يتورط في التلاعبات لا. موقف واضح وبسيط يدفع إلى الاعتقاد والإعلان والاستعداد لتحمل التبعة.(/6)
من كان يظن أن الدعوة إلى الله تمر بلا ثمن وبلا مصاعب وبلا متاعب وبلا أعباء وبلا أثقال فهو مخطئ. أنت إن أردت أن تكون مسلماً تدعو إلى دينك فعليك أن تعلم يا أخي أن أهون شيء تقدمه لربك دمك وروحك التي بين جنبيك. ماذا تملك لا شيء فهذا هو موقف هود.
ماذا أيضاً تعالوا ننظر إلى موقف نبي آخر من الأنبياء من أولي العزم من الذين اقتص الله علينا نبأهم في القرآن الكريم تعالوا ننظر إلى شعيب صلوات الله عليه يقول الله تعالى أيضاً من سورة هود:
(وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول إنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك –يعني عشيرتك- لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط ويا قوم –انتبهوا- ويا قوم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا برحمة منا ونّجيناهم من عذاب غليظ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود).
هذا شعيب ما موقفه؟ سلاح؟ دماء؟ لا.. بل دعوة وإعلان واستعداد لتحمل النتائج.. ماذا؟ إبراهيم أبو الأنبياء جد نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما موقفه اقرؤوا إن شئتم ما يقول الله جل اسمه من سورة الأنعام يقول الله تعالى:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً، قال هذا ربي، فلما أفل، قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).
انتهت قضية الأصنام والأرباب الكاذبة ووقف إبراهيم جد نبينا عليه السلام مع حقيقة الوحدانية المطلقة وحاجَّه قومه ناقشوه في أمر الوحدانية وكيف يتهجم على الأصنام قال؛ (أتحاجُّونِ في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعقلون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم).(/7)
فهذا موقف إبراهيم نفس الموقف الذي اتخذه نوح نفس الموقف الذي اتخذه هود نفس الموقف الذي اتخذه شعيب ثم ماذا حبيبكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. من الذي يجرؤ فيقول إنه خلال الدعوة كان يقابل الناس بالعنف ويسيء إلى الناس ويكسر الخواطر والقلوب؟ هو الذي كان يقول: "يا عائشة لو كان العنف رجلاً لكان رجل سوء" من منكم ينسى مواقف الصبر، مواقف العزيمة القعساء التي لا تتزلزل ولا تتزعزع لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمعوا ما يقول الله تعالى وهو يهذب ويؤدب خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم يقول من سورة يونس (أم يقولون افتراه -يعني هذا القرآن قال فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه- وهذه المصيبة الناس يسمعون منك الكلام لا يعرفونه ولا ينزلونه منازله ولا يوقعونه مواقعه. ثم يتهجمون على التكذيب يا ليت أن الذي يكذب وأن الذي يعترض وأن الذي يرد يتمتع بالعقل القادر على الحركة والقادر على العطاءَ يا ليت كنا وضعناه على الرؤوس -والله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين. فإن كذبوك- ماذا؟ أحمل السلاح. اذبح الناس. شتتهم ألقهم في السجون لا- وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون- موقف واضح الرسول داعية ومبلغ عن الله ليس جباراً ولا مستكبراً ولا مسيطراً ولا وكيلاً عن الله على قلوب الناس وإنما هو مبلغ فقط -إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب).(/8)
وأيضاً في أخريات سورة يونس ماذا يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم يقول له بادئ الناس سافلهم وعاليهم قل – يا محمد- (يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين) موقف مفروض؛ موقف الصلابة والثبات على المبدأ وعدم إنكار أي حرف من حقائق الدعوة (وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين.. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) أفي هذا الموقف لبس أفيه غموض أم أن الرجال دخلهم الجبن ودخلهم العجز ودخلهم الخور وأصبحوا يريدون أن ينفسوا عن أنفسهم يا ليت أنهم ينفسون بالفعال ولكنه ادعاء وأقول: هؤلاء الأبطال هؤلاء الأشاوس أين هم عن حقائق الإسلام هل بلغت بنا الخطوب أن نتلقى تعليمنا عن أناس لم يبلغوا بعد أن يكونوا تلاميذ تلاميذنا ومع ذلك نحن نقول لهم قفوا معنا وجهاً لوجه كتفاً لكتف قيمة لقيمة وتعالوا نناقش القضايا لماذا، لماذا الهمس واللمز لماذا الدوران على المجالس لماذا التناجي بالإثم والعدوان لماذا هل هذه خلائق المؤمنين. لا نحن نقول بصراحة من شاء أن يغضب فليغضب ومن شاء أن يرضى فليرضى نحن لا نوافق على العنف في مجال الدعوة ذلك موقف مبدئي، كي أعطي هؤلاء ما يسوءهم وينوءهم ذلك موقف مبدئي نحن لا يمكن أن نسمح بأن نطرح في الساحة العامة أناساً لم يكتمل تكوينهم بعد عليهم أن يعلنوا مواقفهم تماماً مسلمين مكشفين عن رؤوسنا لا نختبئ ولا نهرب ولا نجامل ولا نداري ولكنا في ذات الوقت نستعد لتحمل التضحيات نستعد لدفع الثمن مهما بلغ ولماذا نذهب إلى العنف؟ مرة أخرى سوف أستعير سأستعير لكم شيئاً من علم نفس الشواذ من علم النفس المرضي قاعدة العلاج النفسي الأول ما هي قاعدة العلاج النفسي تنحل في كلمتين (فهم مشكلة الطرف الآخر) فالإنسان تجده معقداً تعقيداً نفسياً غريباً حينما تريد أن تعالجه نفسياً تضعه أمامك وبالملاطفة والملاينة بالكلام الطيب تشرح له المشكلة؛ إن اللاشعور يختزن كثيراً من الأشياء؛ حياتنا الظاهرة لا نريدها نقذف بها في حياتنا الباطنة، تتراكم فوق بعضها البعض حتى تشكل العقدة فحينما نستجر ونستدعي هذه الأشياء المقذوفة إلى الوراء في ساحة اللاشعور نضعها في ساحة الشعور تعرض المشاكل أمامنا وتنحل العقدة تماماً حينما نرى المشكلة تنحل فعلم المرضي يقول لنا: إن العلاج يتوقف على فهم المشكلة ونحن في مجال الدعوة قبل أن نحمل الأحقاد على الناس وقبل أن نفكر بالعدوان على الناس اعلموا علماً لا ريبة فيه أن مكاننا الآن ليس خلف المتاريس ولا على الجبهة إن ميداننا الحق في المرحلة التي نحن فيها في داخل النفوس وبعض الإخوة يستنتج من هذا أنني أدعو إلى تعطيل الجهاد ويا سبحان الله لا أدري هل أتكلم بين عرب أم بين أعاجم ما معنى الجهاد العرب حين نطقت بالجهاد ماذا أرادت؟ أرادت بذل الوسع والمجهود تارة يكون باللسان وتارة يكون بالنظرة الحانية وتارة يكون بالموقف السلبي وتارة يكون باليد فالقتال جانب من جوانب الجهاد و إلا فما معنى أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) يجاهدهم بماذا بالقرآن هل يضرب بالقرآن وجوههم وأدبارهم لا وإنما يجاهدهم بالحجة وبالمنطق فالقتال الذي يخاف عليه الإخوة لا خوف عليه إن شاء الله ولا بأس؛ ولكن الجهاد شيء واسع وأظن أنني أتكلم بكلام عربي وأعرف ماذا أتكلم فأنا لا أدعو إلى تعطيل الجهاد ولكني أدعو إلى إلغاء العنف والقتال عندنا نحن المسلمين شأنه شأن ما يفعل الطبيب الماهر. أنت تذهب إلى طبيب ليجري لك جراحة ويعرف الطبيب الناجح من الطبيب الفاشل بحجم الجراحة إن كان الحجم الذي اشترطه من الجسم أكثر مما تقتضيه الحاجة فهو طبيب فاشل وإن كان قد شرط من جسمك ما يسمح للآلة أن تدخل وتعمل عملها فقط دون زيادة ولا نقصان؛ فهو طبيب ناجح. فنحن في القتال أيضاً نرفض العنف ونرفض التنكيل وتعرفون جميعاً أن القتال في الإسلام شرع لغاية واحدة هي إبطال مقاومة الخصم حتى يكون الناس الذين يتزعمهم هذا الخصم وجهاً لوجه أمام الحقيقة الإسلامية لا أكثر ولا أقل ولو تصورنا جدلاً أننا وصلنا إلى اتفاق عالمي تنفتح فيه الحدود الفكرية بين أمم الأرض جميعاً وتأخذ كل دعوة حقها من الدعاوة والإعلان دون مصادرة ودون مطاردة ودون حجر ودون تضييق فلا يبقى أي معنى للقتال لأن هذا هو الشيء الذي يريده الإسلام هل الإسلام يريد أن يقتل الناس غلطانون أنتم يا إخوة الإسلام يريد أن يحيي الناس ألم تسمعوا الله يقول (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في(/9)
الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً هذا إعزاز وإغلاء وإعلاء للإنسان لأن الإنسان في الإسلام عندنا قيمة وقيمة عالية وقلت قبل اليوم إننا حين نفكر ونركز أنظارنا نركز عداءنا على ظواهر اجتماعية كي لا يتركز عداؤنا على الناس الإسلام بهذا الشكل وإلا فتعالوا قولوا لي ما معنى أن تترادف وصايا الله ووصايا رسوله صلى الله عليه وسلم ووصايا الخلفاء الراشدين حينما كانوا يسيرون الجيوش كانوا يوصون قوادهم: "لا تتبعوا منهزماً ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا راهباً ومن كف عنكم فكفوا عنه ولا تقطعوا شجرة ولا تحرقوا نخلاً ولا تذبحوا شاة أو بعيراً إلا لمأكلة" هذه أخلاق قتال أم أخلاق رجال هذه أخلاق أناس يرون أن القتال ضرورة وهو ضرورة كريهة حينما لا يوجد غيرها نستعملها أما طالما أننا نجد القلوب مفتحة لنا فيجب أن لا نتأخر عن طرق أبواب القلوب؛ وأخيراً أذكركم يا إخوة أن عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه كان يقول: "إنني ليذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". دعوة الإسلام سلام ودعوة الإسلام حب ودعوة الإسلام تجميع ودعوة الإسلام دعوة قلوب ودعوة الإسلام دعوة عقول والإنسان الذي يدخل الإسلام بالكره والعنف لا يقبل إيمانه فافهموا هذه الحقائق، ولقد شغلتني هذه العجاجة البسيطة عن متابعة حديثي الذي كنت قررت أن أتحدث به ولكن لا بأس كما شرحت أرضية العنف في الجمعة الماضية شرحت لكم اليوم بنصوص القرآن أرضيه السلام والمحبة والود ولكن مع مواقف الرجال وأرجو أن أعود بعد هذا الأسبوع إلى معالجة الموضوع الأساسي على نهجنا المعروف والذي حداني كما أريد أن أؤكد أن يعرف كل الإخوة الذين يرشحون أنفسهم للدعوة إلى الله أن هذا الغبار شيء لا بد منه وأن الذين لا يريدون أن يواجهوه عليهم أن يكفوا عن ميدان الدعوة وأن هذا في الواقع سنة الأنبياء وسنة المرسلين وسنة المصلحين من قبل.. كان أبو إبراهيم يقول لإبراهيم عليه السلام: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لأرجمنك لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) من الذي وقف في وجهه أبوه. قبلُ محمد صلى الله عليه وسلم كان يطوف على الناس حين الموسم يحدثهم عن الإسلام ويقرأ لهم القرآن ومن خلفه كان يمشي رجل أحول يقول لهم لا تصدقوه فإنه كذاب من هذا عمه أبو لهب كذلك هي السنة يقول الله تعالى من سورة الفرقان: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) ويقول الله تعالى من سورة الأنعام (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه). إذاً فالله يريد أن يمتحن الدعاة بهذا الغبار المتطاير (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) اتركهم امض في طريقك ودعهم ولأكاذيبهم ولدعايتهم الفاسدة (فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) كذلك فإن الله تبارك وتعالى نبه كما قال لنا: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) فطريق الدعوة صديقنا فيها ليس الأخ ابن الأم والأب، وليس الذي نزلنا من صلبه، وإنما صديقنا فيها رفيق الطريق. قد يكون الأب هو العدو وقد يكون الأخ هو العدو وقد يكون العم هو العدو -وليس هذا مهماً- المهم أن يعلم الدعاة أن الطريق إلى الله لا بد فيه من مصادفة عقبات من هذا النوع فأرجو من الله أن لا تكون هذه الظواهر شيئاً يفت في أعضاء الإخوة واعلموا أيها الإخوة أننا أمام أمر عظيم هو مستقبل الجنس البشري بكامله ارفعوا من هممكم وارفعوا من اهتماماتكم ووسعوا مشاعركم ونموا عواطفكم والتصقوا بربكم ينصركم الله إن شاء الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/10)
الإسلام يعلو
رئيسي :المنهج :
الحمد لله، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،،
فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانقطاع من النذر، وقد ملأ العالم الظلمات، وتشتتت فيه الأهواء، وتفرقت فيه الأديان، حتى إن الله مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا نفراً قليلاً من أتباع الرسل، قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[19]}[سورة المائدة] . وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ] رواه مسلم .
بعثه الله رحمة للعالمين، وقد وعده الله بالظهور والعلو والرفعة، وأنه ظاهر على كل من عانده وخاصمه، كما قال جل وعلا :{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة] . ليظهره ويعليه على كل دين ولو كره المشركون .
إن دين الإسلام ظاهر لا يرتاب في ذلك إلا منافق يقول :{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً[12]}[سورة الأحزاب] . أما أهل الإيمان الذين صدَّقوا وعد الله وخبره فهم يوقنون أن الله قد أعلى أمر هذا الدين وأظهره منذ أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين ودعاهم، فما زال هذا الدين في علو وارتفاع، وغيره في سفول وانحسار، والله لا يخلف الميعاد {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ[20]}[سورة الزمر] . حتى في أيام الضعف وفي مراحل النكبات، وفي أيام الأزمات والانتكاسات كان هذا الدين عالياً شامخاً يخرج من تلك الأزمات ومن تلك النكبات قد اكتسب جمعاً كثيراً من الناس .
الحق يعلو ولا يعلى عليه فمن ناواه كانت جنود الله منتصرة
جنود الله التي لا حصر لها ولا يعلمها إلا الله ، يثبت بها أهل الإيمان، ويعلي بها شأن أهل الإسلام، ويرفع الله بها دينهم وعملهم بقدر ما يكون معهم من الصدق، وقد أخبر في كتابه مؤكداً في مواضع عديدة أنه لا يخلف الميعاد، قال جل وعلا :{...فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ...[80]}[سورة البقرة].
إلا أننا مع هذا الوعد ومع هذه البشارة نحتاج إلى أن نقف وقفات:
الوقفة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلو وهذا الظهور لأهل الدين خاصة دون غيرهم: فالعلو الذي جاء للإسلام إنما هو لأهله، فبقدر ما يتحقق لهؤلاء من وصف الإسلام ويكون معهم من خصاله وأعماله؛ بقدر ما يكون لهم من العلو والارتفاع، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون] .
وإنما ذكر المنافقين دون غيرهم لأنهم مندسون في أهل الإسلام، يعيشون معهم، يشيعون بينهم الأراجيف وفينا من يسمع أقوالهم، ولذلك قال: {...وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون] .
هذا الضمان، وهو العلو والارتفاع والعزة لا تكون إلا لأهل الإيمان بإيمانهم وأعمالهم، وما يقوم في قلوبهم من صالح العمل، فإن العمل الصالح من الجند الذي ينصر الله به أهل الإسلام، والتي يحصل بها حفظ أهل الإسلام ويقي بها أهل الإسلام مكراً عظيماً، قد لا ندركه ولا نتخيله، قال الله في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[46]}[سورة إبراهيم] . أي مكراً عظيماً تزلزل منه الجبال، وتزول من أماكنها لكن الله لهم بالمرصاد وهو من ورائهم محيط، وقد قال الله للمؤمنين- وهم في حال ضعف في غزوة أحد لما أصيبوا وقتل منهم من قتل وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة وأصابه ما أصابه-:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران] .(/1)
إن الإيمان علوه لا ينكسر في هزيمة عسكرية، ولا بانحسار مادي، ولا بضعف في صناعة أو غير ذلك، أهل الإيمان لا يعلو شأنهم، ولا يكون لهم الدولة دون غيرهم إلا بالإيمان الذي علق الله به العلو :{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[110]}[سورة آل عمران] . -:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران] . فهذا العلو لا يكتسب من انتصار في معركة، ولا يكتسب من إتقان صناعة آلة أو غير ذلك- وإن كان ذلك من الأسباب التي يظهر فيها العلو- لكنهم عالون، ولو لم يكونوا كذلك، وانظر إلى شأن العرب عندما خرجوا يقاتلون الروم وفارس، كيف كانت حالهم؟ إنهم كانوا من أهل التردى في الصناعة، وفي القتال وفي معرفة فنون التقدم، لكنهم فاقوا خصومهم أكبر الدول في ذلك الوقت الروم وفارس، فاقوهم بإيمانهم وما معهم من اليقين، ولقد حقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم علو الدين، وظهوره وارتفاعه على كل ملة، بدت بشائر ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد دانت لهم أهل الجزيرة كلهم حتى لم يبقَ فيها من يعبد غير الله، ثم إن الصحابة واصلوا المسيرة، وقد بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش الذي عقده قبل وفاته، جيش أسامة، فأمضاه أبو بكر رضي الله عنه، فكان ذلك فاتحة النصر وظهور الدين في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا تحققنا في أي زمان، وفي أي مكان، بوصف الإيمان؛ فإننا موعودون بالنصر، والله لا يخلف الميعاد، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[21]}[سورة يوسف] .
الوقفة الثانية:وعد الله لأهل الإيمان بالعلو والظهور،لا يلزم منه ولا يستفاد منه، أنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، بل سيصيبهم: كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[155]}[سورة البقرة] . فلابد من البلاء ليتميز الصالح من غيره، فالبلاء سنة الله في عباده وأوليائه وأعدائه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد] . إن الذين يدعون الصدق والإيمان و الصلاح في وقت السعة والرخاء كُثر، لكنهم يمحصون وتمحص سيئاتهم، وتقلل عنهم ما حملوه من أوزار الخطايا بسبب ما يصيبهم من هذا البلاء؛ فيصفو معدنهم وما في قلوبهم من الإيمان بتلك البلايا {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ[4]}[سورة محمد] .
إن البلاء الذي يبتلي الله به أهل الإسلام من ضعف أو هزيمة، إنما هو لحكمة بالغة لا تتحقق بغير هذا السبيل، ولذلك كان ابتلاء الله لعباده الصالحين من دلائل الصدق الذي يخص الله به أصفياءه، الناس يبتلون ويمتحنون على حسب إيمانهم الأمثل فالأمثل، الأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على قد ما معه من الإيمان .
هذا البلاء له حكم بالغة أشار الله منبهًا الصحابة في وقعة بدر إلى بعضها قال سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ[179]}[سورة آل عمران] .
الوقفة الثالثة:أن سنة الله في الأيام والدول والأحوال أنها لا تقر على أمر دائم بل هي سريعة التقلب والزوال: فالشدة تؤذن بالفرج والله سبحانه قد قال :{...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...[140]}[سورة آل عمران] . فالحال تتقلب وتتغير وهذه من سنن الله في خلقه، فالناس لا تستمر حالهم على حال واحدة بل هم في مناوبة وتعاقب بين المصائب والمواهب، بين المسار والمضار:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]} [سورة آل عمران] .(/2)
إن الله سبحانه جعل البلاء موصلاً إلى رحمته{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة] .
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل وقت له أمر وتدبير
وللمهيمن في حالتنا قدر وفوق تدبيرنا لله تدبير
نرى الأمور ونكرهها، نراها على غير ما نهوى، ويخرج الله من رحم الظلام فجراً تشرق به الوجوه، وتسر به النفوس، ويحقق الله به الوعد الذي وعده هذه الأمة، فكلما اشتدت الكربة رقبنا الفجر، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين أجدبت الأرض، وقحط المطر، وقنط الناس. قال : إذاً مطرتم . فجعل عمر بن الخطاب اشتداد الحال علامة على قرب المطر، قال رحمه الله بعد قوله له: مطرتم، تلا قول الله:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[48]}[سورة الشورى] . والله يبتلي العباد بما يبتليهم به ليميز الخبيث من الطيب، ثم بعد ذلك يأتي فرج الله :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
إنه مهما كان من انهزام وانكسار، فلن يخلف الله وعده.
الوقفة الرابعة: أن وعد الله لا يزيد المؤمنين عند اشتداد الكرب إلا ثباتاً، لما اشتد الأمر على صحابة رسول الله فجاءهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ما وعدنا إلا أمراً لا تحصيل له، كذباً لا سبيل إلى إدراكه، وأما المؤمنون الثابتون المصدقون لوعد الله فمهما اسودت الدنيا في وجوههم؛ لا يتزلزل الإيمان في قلوبهم، بل هم مصدقون لوعد الله ورسوله {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً[22]}[سورة الأحزاب] .
وعد الله لا يخلف {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[47]}[سورة إبراهيم] . {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة] . {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء] . وقال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} فقال جلّ وعلا مبشراً أهل الإيمان بعد هذا التهديد:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [13] وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]}[سورة إبراهيم].
إن اليأس يدب في بعض النفوس، فالناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها، وبدأت تتناثر هنا وهناك، فلا تكاد تخف وطأة الكفر على بلد من البلدان حتى تفجع الأمة بنكبة، أو نكبات جديدة يرقق بعضها بعضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نبأ الفتن: [...وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي...]رواه مسلم.
إن آلام الأمة لو تتبعناها لطال بنا الكلام، ولسنا في شأن تعداد الآلام، إنما في شأن التعامل مع هذه الآلام، كيف يتعامل المؤمن مع هذه الآلام؟ إن الواجب على المؤمن أن يتعامل مع هذه الآلام بإيمان جازم، ويقين راسخ، وعقد صالح، وعمل يرفع به درجته، ويثبت به قدمه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا] رواه مسلم .
فالواجب على المؤمن أن يستقبل هذه النوازل بصبر، وإيمان راسخ، وأن يرجع إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في هديه ما ليس في غيره من الكتب والآثار وغير ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة لأهل الإيمان:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[21]}[سورة الأحزاب] .(/3)
إننا بحاجة في ظل هذه الأزمة التي كشرت عن أنيابها على الأمة الإسلامية في بقاع الأرض، فأمس أفغانستان، واليوم العراق، وغداً سوريا، وبعدها الله أعلم، هذه الهجمة التي يقودها الغرب الصليبي الصهيوني إنما تقابل بإيمان راسخ، وعمل جازم، ويقين ثابت، فإنه لا سبيل إلى تفادي هذه الكربات، واستقبال هذه النكبات إلا بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة اللجأ إلى الله، والاعتماد عليه، وعدم النظر إلى هذه القوة المادية، فإن الشيطان يخوف أولياءه، يخوفنا بهذه القوة، ونحن معنا قوة لا تهزم، معنا الله الذي قد قال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]}[سورة النحل] .
فلنكن من الذين اتقوا والذين هم محسنون، فإن الله لا يخلف الميعاد، كتب أحد الصحابة لقريش في وصف مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، قال :'إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بجيش كالليل يمشي كالسيل، فأحذركم إياه فو الله لو جاءكم وحده لهزمكم' . فالمراد أن وعد الله لا يتخلف والصحابة أيقنوا بذلك، فجاءتهم البشائر، وحققوا النصر، وهذا الفتح المبين، والنشر الكبير لدين الإسلام إنما كان لصدق إيمانهم، وعظيم توكلهم واعتمادهم على ربهم .
إننا بحاجة إلى نظرة متفائلة، نظرة تنظر إلى المستقبل بإشراق، ترقب وعد الله، وتعمل على تحقيقه، إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى المستقبل بنظرة متفائلة، فالبشائر كثيرة التي تدل على أن الأمة قد أقبلت على خطوة يرتفع بها دينها، ويعلو بها شأنها، إن الخصوم أعداء الإسلام لم يخرجوا من الاستعمار الذي غلب ديار الإسلام إلا وقد أيقنوا أنهم خلّفوا في بلاد الإسلام ما يأمنون به على مصالحهم، ويقوم به شأنهم، ويقوم به ما يريدون تحقيقه في بلاد الإسلام، فلما رأوا أن الأمة قد عادت إلى ربها على وجه العموم، فالخير انتشر في الأمة، والدعوة إلى الله سادت وانقلبت عليهم الموازين، وأصبحوا يرون في الذين خلّفوهم بعدهم لا يحققون مقاصدهم ولا مآربهم؛ عادوا بجيوشهم ليسيطروا على الأمة ويمنعوها من تحقيق العلو والنصر {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[21] }[سورة يوسف] .
كل هذا السعي إنما هو لتمكين اليهود، وإفشال كل من يدعو إلى الله ورسوله، ولو كان يدعو بالكلمة الحسنة، ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، إنهم لا يريدون أن تعلو كلمة الله في مكان من الأرض كما جاء في دعاء عمر رضي الله عنه على هؤلاء لما كان يدعو عليهم يقول :'اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك' .
هذا الوصف منطبق على الصهاينة الصليبيين الذين يحتلون بلاد العراق، ويحتلون غيرها من بلاد المسلمين، نسأل الله أن يكشف الكربة عن هذه الأمة، وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وملله، وأن يخرج هؤلاء الكافرين من بلاد الإسلام أذلة صاغرين؛ إنه ولي ذلك، والقادر عليه .
إننا بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل: نقرأ فيه السنن، ونطالع فيه ما ذكره سبحانه من سبل النجاة في الكربات والمدلهمات، نتأمل فيه من الخير الذي يخرجنا من هذه الأزمات والله سبحانه على كل شيء قدير، وقد قال في خصوم الدين:{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً[84]}[سورة مريم].
وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والله لا تعجله الأماني، ولا تعجله دعوات الناس، فالله جعل لكل شيء قدراً إذا جاء الكتاب وبلغ أجله؛ فإن الله منجز وعده، لا إله إلا هو وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده وأظهر دينه، نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يقر أعين الجميع بنصر الإسلام، وأن يحقن دماء إخواننا في العراق، وفي سائر بلاد الإسلام، و صلى الله وسلم على نبينا محم(/4)
الإسلاميون .. كيف يقرؤون الأحداث؟
(بعض قادة الصحوة يقوّمون الواقع السياسي للأمة) ... أحمد فهمي
قامت مجلة البيان بإجراء استطلاع لآراء نخبة من قادة العمل الإسلامي ورموزه حول الأحداث الراهنة، وكيفية مواجهة الأمة للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وقد شارك في هذا الاستطلاع تسعة وعشرون من رموز الدعوة ينتمون إلى اثنتي عشرة دولة؛ منها عشر دول عربية..
منذ ما يقرب من أربعة عشر عاماً، وتحديداً منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة بالسعي إلى السيطرة العالمية؛ هناك ظاهرة سياسية باتت تتكرر كل عدة أعوام، يمكن أن نسميها «ظاهرة الحدث الانقلابي»، ونعني بها الحدث الذي يتوفر فيه سمات أساسية:
أولاً: يترتب عليه إعادة صياغة لمنظومة التوازن السياسي العالمي لحساب القوة الأمريكية المتفردة.
ثانياً: يحدث بعده مباشرة تسارع وتداع للأحداث بصورة مختلفة تماماً عما قبله.
ثالثاً: المنحنى العام لهذه الأحداث يتجه نحو تهميش العمل السياسي ـ ومؤسساته ـ، وتعظيم العمل العسكري ـ ومؤسساته ـ، وبمعنى آخر طرح مفهوم القوة كمحدد رئيس، ثم وحيد؛ لأنماط العلاقة بين مختلف الدول والشعوب.
ونستطيع القول إن هناك أحداثاً أربعة بالتحديد يصلح أن تمثِّل هذه الظاهرة، وهي: سقوط الاتحاد السوفييتي ـ حرب الخليج الثانية - هجمات 11 سبتمبر ـ العدوان الأمريكي على العراق.
والملاحظ أن أكثر الدول تأثراً ـ سلباً بالطبع ـ بهذه الأحداث هي الدول الإسلامية، والذي يهمنا في هذا المجال ما يتعلق بموقف الصحوة الإسلامية من الحدث «الانقلابي» الأخير، وهو العدوان على العراق، وذلك بناءً على أن الصحوة الإسلامية هي ـ فيما نحسب ـ: عقل الأمة الواعي، وقلبها النابض، ويدها المجاهدة، ومن ثم فإن المسؤولية الملقاة على عاتق قادتها ورموزها وناشطيها؛ مسؤولية تنوء بحملها الجبال، وأول ما يجب عليها في هذه الأزمة أن تتوفر لديها القدرة على استيعاب الحدث بكل أبعاده وتداعياته، وقد كان أحد أهداف هذا الاستطلاع أن نتأكد من تحقق ذلك لدى فصائل الصحوة المؤثرة في العالم الإسلامي.
أما الهدف الآخر للاستطلاع فهو أن يكون ممارسة لأحد صور التفكير الجماعي الذي أصبح حتمياً مع التطورات الأخيرة..
إن لزوم التفكير الجماعي في النوازل التي تعرض للأمة الإسلامية ينبع من تعقد الأحداث، وتراكبها؛ بصورة تجعل من الصعوبة أن تستقل حركة إسلامية واحدة مهما كانت قوتها وانتشارها بتكوين رؤية شاملة وشافية لمواجهتها، ولن تتجمع ـ والله تعالى أعلى وأعلم ـ أجزاء الصورة المبعثرة إلا بين أيدي الحركة الإسلامية العالمية وعقولها.
وهذا الاستطلاع بين أيدينا يُثبت هذه الحقيقة من وجهين متعارضين.
فمن ناحية: يتضمن ما كتبه رموز العمل الإسلامي ما يصلح أن يكون الخطوط العريضة لرؤية شاملة للحالة الراهنة، والتي يمكن تقسيمها إلى هذه المحاور:
أولاً: ملامح الأزمة وعلامات الخطر.
ثانياً: تحليل الأزمة.
ثالثاً: دور علماء الأمة.
رابعاً: دور الحركة الإسلامية.
خامسا: دور الأمة الإسلامية
سادساً: استشراف المستقبل.
ومن ناحية أخرى: فإن هذه المحاور لم تتجمع كلها في كلام أي من هؤلاء الرموز، وإنما هي محصلة لما ذكره الجميع.
وهذه أسماء المشاركين في الاستطلاع وفق الترتيب الأبجدي:
(*) الشيخ أبو بكر أحمد: الأمين العام لجمعية أهل السنة والجماعة بالهند، وجامعة مركز الثقافة السُّنية الإسلامية.
(*) د. أحمد بن عبد الله الزهراني: عميد كلية القرآن في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سابقاً.
(*) د. أحمد الريسوني: رئيس حركة التوحيد والإصلاح المغربية، أستاذ بجامعة محمد الخامس ـ الرباط.
(*) الشيخ أحمد ياسين: زعيم حركة حماس الفلسطينية ومؤسسها.
(*) د. إسماعيل محمد حنفي الحاج: عميد كلية الشريعة ـ جامعة إفريقيا العالمية ـ الخرطوم.
(*) الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين، ورئيس المحكمة الشرعية بالضفة الغربية.
(*) الشيخ حامد العلي: من علماء الدعوة السلفية ـ الكويت.
(*) الشيخ قاضي حسين أحمد القاضي: أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.
(*) الأستاذ راشد الغنوشي: زعيم حزب النهضة التونسي.
(*) الشيخ رفاعي سرور: داعية مصري.
(*) الشيخ سلامات هاشم: رئيس جبهة مورو الإسلامية، وأمير بانجسا مورو، الفلبين.
(*) د. السيد العربي: داعية مصري.
(*) د. صلاح الدين النكدلي: رئيس تحرير مجلة الرائد ـ ألمانيا، ومدير المركز الإسلامي بآخن.
(*) د. عبد الحق الأنصاري: أمير الجماعة الإسلامية بالهند.
(*) الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك: أحد علماء السعودية البارزين.
(*) د. عبد الستار قاسم: أستاذ العلوم الإسلامية ـ جامعة النجاح الوطنية - الضفة الغربية.
(*) د. عبد العزيز الرنتيسي: قيادي بارز في حركة حماس الإسلامية - فلسطين.
(*) الشيخ عبد الله جاب الله: رئيس حركة الإصلاح الوطني ـ الجزائر.(/1)
(*) الشيخ عبد المجيد بن محمود الريمي: من علماء الدعوة السلفية ـ اليمن.
(*) الشيخ عبد المجيد الزنداني: رئيس جامعة الإيمان ـ اليمن.
(*) د. عبد المنعم أبو الفتوح: عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين ـ مصر، وأمين عام مساعد اتحاد الأطباء العرب.
(*) الأستاذ عصام العطار: داعية ومفكر إسلامي سوري معروف.
(*) الأستاذ علي صدر الدين البيانوني: المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا.
(*) الشيخ محمد حسان: رئيس مجمع أهل السنة بالمنصورة؛ التابع لجماعة أنصار السنة المحمدية، مصر.
(*) الشيخ محمد حسين يعقوب: داعية مصري معروف.
(*) الشيخ محمد سيد حاج: داعية بجماعة أنصار السنة المحمدية - السودان.
(*) الأستاذ محمد الهندي: قيادي بارز في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية.
(*) الأستاذ محمد يتيم: رئيس تحرير جريدة التجديد المغربية، نائب برلماني.
(*) د. همام عبد الرحيم سعيد: من رموز العمل الإسلامي في الأردن.
وسوف نستعرض مادة الاستطلاع الثرية من خلال المحاور الخمسة المذكورة آنفاً:
* أولاً: ملامح الأزمة وعلامات الخطر:
أفاض المشاركون في الاستطلاع في الحديث عن خطورة الأوضاع الحالية، ويصف الأستاذ الغنوشي الاحتلال الأميركي للعراق بأنه «بلا ريب من نوع الأحداث الدولية الكبرى التي تمثل عادة منعطفاً كبيراً في التاريخ، وعاملاً رئيساً في توجيه المستقبل لعشرات السنين، وبالخصوص في مسرح الحدث وما يجاوره»، كما يؤكد الدكتور همام سعيد أن هذا العدوان يمثل «الحملة الصليبية العاشرة، وهي أشد من أي حملة صليبية سابقة، فالهدف منها هو القضاء على جذور الإسلام في المنطقة؛ في جميع مناحي الحياة، الثقافية، والدينية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية».
ويتحدث الشيخ رفاعي سرور عن الالتباس الهائل في أحداث العراق، فيقول: «وبدت في هذه الأحداث الحيرة التي في الفتنة التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حين أشار إلى الشرق أو إلى العراق فقال: «ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان»(1)، والذي جعل هذه الحيرة واضحة اختلاط الرايات المرفوعة، فإذا فكَّر الإنسان في الدخول فيها بدا له تساؤل: من سينصر؟ هل ينصر النظام البعثي الكافر، أم زعيمه الطاغوت؟ أم المنافقين؟.. وذلك في غيبة القلة القليلة من المسلمين الموحدين الذين قتلهم صدام برصاص الشوارع.. وإذا توقف الإنسان عن المشاركة؛ فهل يترك أمريكا الصليبية تعيث فساداً؟».
وفيما يتعلق بالهدف أو الأهداف الأميركية، يقول الشيخ قاضي حسين: إن «هدف الاحتلال هو إعادة خريطة المنطقة حسب مصالح أميركا، وإزالة كل التحديات التي تهدد أمن إسرائيل، والسيطرة على منابع النفط، ومن ثم السيطرة على مستقبل العالم كله، هذا ما بدا من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر»، ويقول الشيخ الزنداني: إن «ما حدث في العراق الخطوة العملية في النظام العالمي الجديد في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ وضح الهدف وهو البترول، والوجود العسكري ـ إعادة الاستعمار مرة ثانية ـ، والغزو الثقافي»، ويعبِّر الشيخ الريمي عن الأهداف الأميركية في المنطقة بصياغة أخرى، فيقول: إن أميركا تريد «ضرب القوة العلمية والإيمانية في الأمة؛ من خلال متابعتها للإسلاميين وضربها لهم تحت شعار مكافحة الإرهاب، و «ضرب» القوة المادية؛ من خلال ضرب القوة العسكرية في البلدان العربية كالعراق ومصر، وكذلك استنزاف ثروات المسلمين».
وفيما يتعلق بالأهداف التي تمكنت الإدارة الأميركية من تحقيقها بالفعل من غزو العراق، يلخصها الأستاذ الغنوشي بأنها:
«- تدمير الجيش العراقي وأسلحته شر تدمير.
ـ وضع اليد على ثاني، وربما أول، مخزون نفطي عالمي.
ـ البدء بتشكيل حكم مستأنس ضعيف، ووضع هذا القطر بتركيبته المعقدة على طريق التفتت.
ـ توجيه رسائل تهديد مباشرة وقوية إلى بقية الأنظمة العربية.
ـ توجيه رسائل إلى القوى الدولية.
ـ البدء بتنفيذ مشاريع بناء تمكيناً لشركاتهم العملاقة من الغرف واعتصار العراق حتى الدم».(/2)
ويتفق كثير من المشاركين في الاستطلاع على أن الخطر الحقيقي ليس فيما حدث، ولكن فيما يُنتظر أن يحدث في الفترة المقبلة، فيقول الشيخ عبد الله جاب الله: إن «سقوط بغداد فاجعة كبيرة تفوق في حجمها وتداعياتها نكبة فلسطين عام 1948م؛ لأن أميركا هي حاملة مشروع الحركة الصهيونية»، ويضيف الأستاذ عصام العطار: «إنني أعتقد أننا من غزو العراق واستعماره الفعليّ المباشر في أول البلاء وليس في آخره، وأنّ وجودنا كلّه: ثقافةً وحضارةً، وشعوباً وأمةً؛ مهدّد أشدّ تهديد»، ويضيف أيضاً: «الخطوة التالية بعد العراق في تفكيرهم وتخطيطهم قد تكون سورية أو إيران، ثم تتبعها بشكل من الأشكال، ووقت من الأوقات: السعودية، ومصر، ودول عربية أخرى»، ويؤكد الشيخ حامد العلي على المعنى نفسه بالقول إن الأمة «بدأت بالفعل تعيش مرحلة احتلال غربي صليبي العنصر، صهيوني الروح، وستعصف بالمنطقة كلها، وخاصة على الدول التي يرى التحالف الصهيو أميركي أنه من الضروري إعادة ترتيبها لتلائم الحقبة الدولية الجديدة»، ويشير الأستاذ البيانوني إلى أن «الأهداف الحقيقية لهذه الحرب كانت تشير بوضوح إلى أن العدوان لن يتوقف عند حدود العراق، كما أنه لم يتوقف من قبل عند حدود أفغانستان»، ويقول الأستاذ محمد يتيم: إنهم «لن يقفوا عند العراق، وسيعلنونها حرباً لا هوادة فيها ضد الإسلام والمسلمين، حرباً مباشرة وغير مباشرة، لذلك نصبوا عليها (العراق) حاكماً أمريكياً ذا أصول صهيونية، وبدؤوا بتغيير مناهج التعليم، وجاؤوا بجحافل المنصّرين إلى جنوب البلاد».
* ثانياً: تحليل الأزمة:
تناول المشاركون أزمة العراق الأخيرة تناولاً سببياً من مختلف الأبعاد، وبصورة شاملة تعطي رؤية أكثر من واضحة.
فمن الناحية العقدية الشرعية: يقول الشيخ عبد الرحمن البراك: «بالصبر والتقوى يحفظ الله عباده المؤمنين من كيد الكافرين والمنافقين، قال ـ تعالى ـ: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]، ويقول أيضاً: «لا يكون التسليط على المسلمين إلا بسبب من قِبَل أنفسهم، وهو تضييعهم لأمر الله وإقبالهم على الدنيا وتعطيلهم الجهاد، حتى لا تكون لهم هيبة، لهذا مع كثرة المسلمين لم تستطع حكوماتهم أن يردوا غزو أمريكا وحلفائها لبلادهم بدءًا بالعراق بعد غزو الأفغان، بل قد يكون منهم من قدَّم بعض المساعدة لأولئك الغزاة»، ويرى الشيخ محمد يعقوب أن تفسير ما حدث «لا يعدو إحدى ثلاث ـ والله أعلم ـ؛ إما هو من قبيل العقوبة والجزاء، أو هو من قبيل المحنة والابتلاء، أو هما معاً، وأظن أن الأمر كذلك»، ثم يلفت إلى أمر مهم يتعلق بالولاء والبراء، فيقول: «كانت المشكلة الأكبر ولاء ـ بعض ـ المسلمين في الواقعة الأخيرة وتعاطفهم وحماسهم لشخص هو أبعد ما يكون عن الإسلام ونصرة الدين، فلم يأت الخذلان إلا من جهته، وكان الضياع منه وبسببه»، ويؤيده في جزء من كلامه الشيخ محمد حسان الذي يقول: «نحن مسؤولون ابتداءً وانتهاءً عن هزائمنا، ونرفض بشدة كل محاولة تسويغية تجعل من أعدائنا مشجباً نعلِّق عليه كل أخطائنا، قال ـ تعالى ـ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123]».
ويشير الشيخ أحمد ياسين إلى لفتة عقدية طيبة يفسر بها ما حدث فيقول: «لعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد أن تنطلق الشعوب العربية والإسلامية في جهادها معتمدة على الله عاقدة رايتها عليه بعد أن سقطت الأصنام البشرية»، ويضيف: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً آخر، خرجنا بالمسيرات لدعم العراق؛ من أجل هزيمة الشيطان الأكبر، وأراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجتث جذور الفساد والكفر من العراق وغير العراق؛ لتصبح التربة صالحة لغرس الإسلام».
وأيضاً يشير الشيخ رفاعي سرور إلى الأثر العقدي في هذا الحدث من وجهة أخرى، فيقول: «من طبيعة الأحداث الخطرة أنها ساهمت بصورة كبيرة جداً في تأكيد أثر العقيدة، فبمقارنة سريعة بين المجاهدين في أفغانستان وبين صدّام تتأكد حقيقة العقيدة، وبمقارنة سريعة بين المجاهدين الذين دخلوا العراق ليدفعوا عنه أهل الصليب وبين كثير من العراقيين الذين انشغلوا بالسرقة والنهب ـ يتأكد أيضاً أثر العقيدة، وظهور هذا التأثير هو من طبيعة علامات الساعة؛ لأن غاية هذه العلامات هو تحقيق إيمان الناس».(/3)
ومن الناحية التاريخية: يقول الشيخ السيد العربي: «ابن العلقمي الشيعي وزير المستنصر يبيعه لجنكيز خان بثمن بخس، ويسلم بغداد وما وراءها للمغول، بالأمس المغول، واليوم الصليبيون، والروافض هم هم؛ لا يقل جرمهم عن جرم البعثيين، لقد سقطت بغداد في ساعات بخيانة من الروافض حين خرقوا جدارها المخرّق أصلاً من قِبَل البعث»، ويوافقه الشيخ محمد حسان على ذلك، فيقول: «ما حدث وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62]، وما زال أبناء العلقمي يحيون بيننا».
أما البعد الواقعي السياسي: فقد توجه كثير من المشاركين بالنقد لمواقف الدول العربية، فيقول الشيخ جاب الله: «كان الواجب عليهم رفض العدوان ومنعه بكل الوسائل والطرق، ولكنهم لم يفعلوا وسكتوا، أو ساعدوا بالقليل أو الكثير ـ يعني للتحالف الأميركي ـ حتى وقعت الجريمة، فسقطت بغداد ليتمهد الطريق أمام أميركا، ومن ورائها إسرائيل»، ويقول الشيخ عبد الحق الأنصاري: «أوضاع البلاد العربية تتيح للقوى الخارجية الانتهازية فرصة التعدي والظلم، وإن الدول المسلمة لا ترجع إلى الحق بكل جدية، بالإضافة إلى الاختلاف فيما بينهم من أجل السياسات الخاطئة»، وينعى الأستاذ العطار على هذه الدول «استسلامها المخزي للواقع المخزي، وافتقارها إلى إرادة التغيير والنهوض والإصلاح، وانفصالها الصارخ عن الشعوب»، ويضيف: «لو كان بين بلادنا العربية وحدة وتعاون لأمكنها أن يكون لها من القوة والمنعة ما يجعلها في مصاف الدول العظمى».
أما الشيخ عبد المجيد الريمي؛ فيوسع إطار النقد قليلاً ليُدخل فيه القوميين والإسلاميين، فيقول: «المواقف التي قادنا إليها القوميون مواقف كلها تجر إلى الهزيمة»، ويضيف: «لا تزال المعالجات عند القوميين أو بعض الدعاة أو بعض الناس تعالج الخطأ بخطأ أكبر. لا بد من مراعاة الحكمة والمصالح، وآن الأوان لضرورة أن يُرجع إلى الشرع في كيفية حل هذه المشكلات؛ لا بالهوى والعصبية والآراء الشخصية».
وقد تناول بعض المشاركين (البعد الميداني) في العدوان الأميركي على العراق، فيقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح: «عجيب أن تصمد أم القصر ذات الأربعين ألف نسمة ثلاثة أيام، وتسقط بغداد في ساعات، ثمة خيانة أو خيانات وقعت، وسط صمت عربي وإسلامي رهيب. لا شك أن النظام العراقي أحد المسؤولين عما جرى ويجري حين خسر شعبه باستبداده»، وحول المعنى نفسه يقول الأستاذ محمد الهندي: «كان بإمكان المقاومين أن يصمدوا في بغداد طويلاً، ولكن أنا أرجح أن يكون هناك اتفاق مع قادة الحرس الجمهوري الذي عمل على الاستسلام»، لكن يرى الدكتور الرنتيسي أن «الانهيار السريع كان مفاجئاً، وأما الانتصار الأمريكي فلم يكن مفاجئاً والسبب في ذلك أن هناك فرقاً هائلاً في ميزان القوى بين ما يملكه الأمريكان وما يملكه العراق»، أما الدكتور عبد الستار قاسم فيقول: إن «الانهيار كان متوقعاً؛ لأن الجيش العراقي وجد نفسه لا يحارب من أجل قضية بل من أجل شخص، خاصة أن كثيرين في العراق لديهم خصومات مع النظام».
* ثالثاً: دور علماء الأمة:
الواجب على علماء الأمة وطلبة العلم أكثر من غيرهم، كما يقول الشيخ عبد الرحمن البراك، ويضيف أن: «الواجب عليهم أولاً توثيق الروابط فيما بينهم ليتم التعاون والتشاور فيما يجب اتخاذه في مثل هذه النازلة العظيمة، ومن الواجب عليهم تبصير الناس بحكم الله في أقداره وبما يجب عليهم من محاسبة أنفسهم والعودة إلى الله بالتوبة»، ويزيد الدكتور أحمد الزهراني دور العلماء وضوحاً بقوله: «إن من الواجب المتحتم عليهم عدة أمور:
- السعي إلى توحيد صفوف الأمة وجمع الكلمة ضد العدو الداخلي والخارجي.
- التحلي بالشجاعة والإقدام في مواجهة الأمور دون تردد أو خوف.
- تثبيت الأمة ودعوتهم إلى الوقوف ضد الباطل وأهله.
- الصدع بكلمة الحق في وجه كل ظالم وباغ؛ سواء كان حاكماً أو محكوماً حتى يرتدع.
- كشف حال أهل الباطل.
- نصرة المسلمين بكل ما يستطيعون.
- رفع راية الجهاد ودعوة الناس إليه والمشاركة الحسية والمعنوية في ذلك.
- كشف مخططات الأعداء وتحذير الأمة من الارتماء في أحضانهم.
- أن يكونوا مرجعاً للأمة في الأزمات.
ü رابعاَ: دور الحركات الإسلامية:(/4)
يعبِّر الشيخ جاب الله عن أهمية الدور الملقى على عاتق الصحوة الإسلامية بقوله: «لا أمل للأمة في التصدي لتلك المشاريع والأهداف إلا في الحركة الإسلامية»، ويُسوِّغ ذلك بقوله: «فَهُم خير من يعرف طبيعة المؤامرة، وحقيقة العدوان، وخير من يدرك طبيعة الواجب الشرعي والتاريخي والإنساني الملقى على عاتق أمة الإسلام، وهم أبرز من يدافع عن دين الأمة ووحدتها ولغتها واستقلالها، ويحمي حقوقها وثرواتها»، ويقول الأستاذ صلاح الدين النكدلي: إن الأحداث الأخيرة تلقي «على الربانيين من المسلمين مسؤولية كبيرة في تحرير القلوب والعقول والنفوس من الشبهات والشهوات التي تهز اليوم معاقد الإيمان، وأن يوقنوا بقول الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]».
ويحدد بعض الدعاة والعلماء الدور المطلوب من الصحوة الإسلامية في نقاط محددة، فيقول الشيخ قاضي حسين: إن عليها:
«ـ مقاومة ما يأتي من قِبَل قوى الشر من الهجمات الفكرية والثقافية والاقتصادية التي تستهدف إبعاد المسلمين عن ربهم، وجرِّهم نحو الفساد الشامل.
- التركيز على الشباب، والطلبة، والنساء، وأصحاب القرار؛ لإقناعهم بضرورة أداء الواجب في هذ الفترة الحساسة، ثم بوضع برامج تناسب قدراتهم وكفاءاتهم.
ـ محاولة تبصير كل المسلمين بما يحاك ضدهم وضد دولهم وأجيالهم ومستقبلهم، وحثهم على المشاركة في فعاليات المقاومة».
ويدعو الشيخ محمد سيد حاج إلى أنه ينبغي «تأكيد أن الإسلام لا يُهزم، ومبادئه الحية لا تموت، وأن ما بيننا وما بين أميركا هدم المباني وبقاء المعاني»، وينادي الشيخ جاب الله الحركة الإسلامية أن «عليها أن تخرج بنضالها من ميدان القول والارتجال إلى ميدان التخطيط والعمل، ومن منطلق النخبة على ساحة الأمة، ومن سياسة التنافي والتصادم إلى سياسة التعايش والتعاون، ومن عقلية المصالح المائعة إلى منطق المصالح المنضبطة بالحق»، أما الشيخ الريمي فينبه الإسلاميين إلى أنه «من العجب أن يدعو بعض الناس إلى مقاطعة السلع ـ وهذا أمر طيب ـ، ويدعون في الوقت نفسه إلى الحلول المستوردة في السياسة والاقتصاد؛ بمعنى أنهم يدعون إلى الفكرة الديمقراطية والحرية»، ويقول: «فنحن نهيب بأهل الإسلام والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ أن يبينوا خطورة ما في هذه الأفكار الغربية المستوردة من مخاطر على وحدتنا، وعلى إيماننا، وعلى عقيدتنا»، ويقدم الشيخ حامد العلي اقتراحاً أخيراً بأن «يُعقد مؤتمر عام لعلماء الأمة لإعلان النفير العام، وأن على الأمة تجنيد كل طاقاتها وتركيزها لصد هذه الموجة الصليبية».
* خامساً: دور الأمة الإسلامية :
توزع الخطاب الموجه إلى الأمة من المشاركين في الاستطلاع إلى نوعين: الأول موجه إلى الشعوب الإسلامية، والثاني موجه إلى حكومات الدول الإسلامية.
فأولاً: توجه قادة العمل الإسلامي إلى أبناء الأمة الإسلامية يدعونهم إلى إعلان التوبة والتخلص من الذنوب التي تكبل الأمة، فيقول الشيخ أبو بكر بن أحمد: «يمكن للأمة الإسلامية أن تواجه المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة وتستعيد شرفها المفقود بعودتها إلى الله، والتي تتمثل في اتباع القرآن والسنة، والسير على نهج الأنبياء، والمقاطعة التامة مع الأعداء، قال ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120].
ويحذر الأستاذ عصام العطار قائلاً: «إما أن نستيقظ فوراً فنرجع إلى ربنا، ونبدل ما بأنفسنا، ونأخذ بأسباب النجاة والإصلاح الشامل، وإما أن نضيع ونزول ونبوء بخزي الدنيا والآخرة»، ويقول الشيخ عبد الرحمن البراك: «في هذه النازلة درس للمسلمين ليراجعوا أنفسهم، ويأخذوا بأسباب النصر على عدوِّهم؛ وذلك بإقامة دين الله وتحكيم شرعه، وإحياء شريعة الجهاد»، ويطالب الدكتور همام سعيد بأن يشمل الإصلاح المطلوب كل مسلم، فيقول: «ما يجري هو مؤامرة كبيرة ستصيب كل فرد وجماعة، ويجب أن يكون الرد على مستوى هذا الشمول».(/5)
ويطرح الشيخ قاضي حسين الوحدة بوصفها دوراً أساسياً مطلوباً من الأمة، فيطالبها بـ «وحدة الصف الداخلي والمصالحة الشاملة بين ألوان الطيف الشعبية كلها من ناحية، وبين الشعوب وحكوماتها من الناحية الثانية، وبين الحكومات الإسلامية من الناحية الثالثة»، ويقول الأستاذ علي البيانوني أنه ينبغي أن «تتوقف كل أشكال الصراعات البينية، وتُستنفر جميع القوى لمواجهة العدوان؛ قبل أن يأتي يوم نلوم فيه أنفسنا ولات ساعة مندم»، ويؤكد الشيخ عبد الحق الأنصاري أهمية «الرجوع إلى الحق، والهدوء والسكون إليه، واتخاذ خطوات جادة لتنمية أواصر الوحدة والوئام الكاملين بين الفئة الحاكمة والجماهير»، أما الشيخ إسماعيل حنفي الحاج فيحذر الأمة من الاستسلام للحزن الذي يولِّد القعود، ويقول: «يجب أن يكون الحزن إيجابياً لا سلبياً؛ أي يدفعنا إلى العطاء والبذل لا إلى الانكماش واليأس.. {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146]. يجب ألا يزيد الحزن عن حده فينقلب إلى ضده، يتحول بصاحبه إلى القسوة والتبلد فلا يتجاوب مع الأحداث الآتية».
وأكد بعض المشاركين أنه لا سبيل للأمة إلا الجهاد، فيقول الدكتور همام سعيد: «الحل الوحيد للوقوف في وجه هذه الحملة والمحافظة على المكتسبات الحالية هو الجهاد»، ويؤيده الشيخ حامد العلي بالقول: «المطلوب من الأمة اليوم أن تنهض مجاهدة لصد موجة الاحتلال هذه وتحطيمها، كما حطمت سابقتها، وأن تستعد لتقديم كل ما يتطلبه ذلك من تضحيات»، وينسج الشيخ سلامات هاشم على المنوال نفسه، حيث يقول: «تشير النصوص إلى أن الجهاد لإعلاء كلمة الله هو السبيل لرد مكايد الكفار ومنهم النصارى، وتاريخ الإسلام يؤكد ذلك، قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]».
وثانياً: توجه كثير من المشاركين بخطابهم إلى حكومات الدول الإسلامية، وكان العامل المشترك في كلامهم الدعوة إلى تحكيم شرع الله، وتوحيد الصف، وإتاحة الفرصة للشعوب كي تعبر عن نفسها، ويقول الدكتور أحمد الريسوني: «إن المسؤولين في الدول العربية والدول الإسلامية المجاورة لها؛ إن استطاعوا أن يغيروا سلوكهم مع شعوبهم من جهة بالتجاوب معها، ومع أميركا بتصعيد المناهضة والرفض؛ فإنهم يستطيعون تحاشي الاشتعال الواسع في دول المنطقة»، ودعا الأستاذ علي البيانوني إلى «تحصين الجبهة الداخلية، بالمبادرة إلى مصالحة وطنية شاملة»، ودعا الدكتور همام سعيد إلى «إيجاد موقف عربي موحد رافض ومقاوم لهذه الحملة، وإلى اتخاذ موقف مستقل عن القرار الأميركي، مع الأخذ في الحسبان استبعاد تكوُّن وحدة بين الدول العربية»، أما الأستاذ عصام العطار؛ فقد دعا الحكومات الإسلامية إلى أخذ العبرة من الحدث العراقي، فقال: «الذين كانوا يهتفون أمس خوفاً أو طمعاً أو نفاقاً، ليل نهار: بالروح بالدم نفديك يا صدّام. لم يفتدوه اليوم بروح أو دم، بل افتدوا أنفسهم بهجره، وربما افتدى بعضهم نفسه بسبِّه وشتمه وحربه. لا بد أن يقوم في أقطارنا الإسلامية حكم شوري يرضي الله عز وجل».
* سادساً: استشراف المستقبل:
أبدى المشاركون في الاستطلاع اهتماماً كبيراً بالمستقبل الغامض الذي ينتظر العالم الإسلامي بكل مفرداته، وتراوح الحديث عن المستقبل بين منبِّه إلى أخطار، ومثبِّت للأركان، وداعٍ إلى التفاؤل، ومحللٍّ للخيارات المحتملة.
يقول الشيخ حامد البيتاوي محذراً: «هزيمة العراق ستنعكس سلباً على العالم العربي والإسلامي، ومعروف أن الولايات المتحدة أعلنت أنها تريد تغيير خريطة المنطقة؛ يعني لن يتوقف العدوان»، ويقول الأستاذ محمد يتيم: «نحن الآن على مشارف مرحلة جديدة يواجه فيها الإسلام والمسلمون تحدياً أخطر من تحدي الاستعمار في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين»، ويفسر بعض هذه الأخطار بقوله: «ستبرز شخصيات وزعامات مصنوعة تتحدث عن حقوق الإنسان، وعن حقوق المرأة، وعن الحريات الدينية في دول الخليج، وها هم قد بدؤوا يتحدثون عن أسلحة الدمار الشامل المهربة إلى سوريا»، ولا يبعد الشيخ قاضي حسين كثيراً عن هذا التحليل، حيث يقول: «إن هذه المرحلة المصيرية قد تؤدي إلى حقبة جديدة من التشرذم والتقسيم والاحتلال والهلاك، لكن في الوقت نفسه هي مرحلة مرشحة لأن تؤدي إلى كسر الأغلال، ومقاومة الانحلال، ودحر الاحتلال».(/6)
ويلتقط الأستاذ العطار هذا الأمل الأخير فيقول: «إن فرصتنا للنجاة وأداء رسالتنا الربانية العظيمة لم تضع بعد، فالعالم بأكثرية شعوبه وأنظمته يرفض أن يتحول إلى إمبراطورية أميركية، ويتمسك بالتعددية، وسنجد في جهادنا سنداً من كثير من أحرار العالم، وإن كان اعتمادنا أولاً وآخراً على الله عز وجل، ثم على أنفسنا وما نملكه من طاقات، وما نقدمه من تضحيات، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]»، ويقول الشيخ الريمي: «هناك بداية تململ، وإن كانت تحتاج إلى ترشيد، وإلى أسباب إيمانية، وأسباب مادية».
ومن اللفتات الطيبة ما أشار إليه الأستاذ الغنوشي بقوله: «ها هم الأميركيون قد جاؤوا يسوقهم القدر الإلهي لإنجاز ما عجزت عنه أجيال من المناضلين؛ أي وضع المنطقة على طريق التغيير في الاتجاه الذي تريده شعوبنا وليس فيما أرادوا، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]. إن نجاحهم في تحقيق أهدافهم سيكون مستحيلاً بفضل الله ثم ببركات الصحوة»، ويضيف: «المرجح مع تضخم الغطرسة الأميركية الصهيونية وإصرارها على الاحتلال وتوسيعه إلى بلاد عربية وإسلامية أخرى؛ أن تتحول المنطقة كلها من طنجة إلى جاكرتا ناراً ملتهبة بالثورة»، ويؤيد الدكتور الريسوني هذا الكلام: «أميركا أحدثت حالة احتقان لم يسبق لها مثيل في العالم العربي والإسلامي، وهذا الاحتقان سيعبِّر عن نفسه، وسيجد طريقه إلى الانفجار والاشتعال ولو بعد حين، ولا أستطيع التكهن بمسار هذا الانفجار».
وعلى الصعيد السياسي؛ فقد قدم بعض المشاركين توقعات عما يمكن أن يطرأ على الساحة من تغيرات، فقال الدكتور صلاح الدين النكدلي: «والذي يلوح لي أن ـ بعض الحكومات العربية ـ ستعمل على توفير أدلة تقنع أمريكا بصيانة مصالحها، وبمصادرة دين الأمة وثقافتها المناوئة، وستعمد هذه الحكومات إلى المناورة في ميدان التغييرات السياسية، وربما رفض بعضها الانصياع التام للإجراءات الأمريكية، وهنا قد تنشأ أزمة أو أزمات»، ويتحدث الدكتور همام سعيد عن «إمكانية ظهور كيانات جديدة أو دول جديدة، وهذه الكيانات من الممكن أن تشكل خطورة كبيرة، ومن الممكن أن يُعاد تقسيم بعض دول المنطقة لكيانات أصغر، أو إعادة توزيع لبعض الأنظمة على حساب بعضها الآخر»، وبالنسبة إلى العراق يتحدث عن «إمكانية إيجاد كيانات ثلاثة: شيعية في الجنوب، وسنِّية في الوسط، وكردية في الشمال، ومن الممكن إعطاء حكم ذاتي تحت السيطرة الأميركية».
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ يقول الدكتور همام أنه من المحتمل «تطبيق سياسة الترانسفير على الفلسطينيين، ولكن بطريقة طوعية وكثيفة؛ عن طريق تقديم إغراءات مادية، وبالنسبة إلى المسجد الأقصى فمن المحتمل تطبيق السياسة نفسها التي اتبعها اليهود في تقسيم المسجد الإبراهيمي».
أما قادة العمل الإسلامي في فلسطين المحتلة؛ فلهم رؤيتهم المتعلقة بتأثير الأحداث في المقاومة، يقول الشيخ أحمد ياسين: «سيكون تأثير ما حدث في العراق سلباً على الأنظمة العربية؛ مما سيؤثر على المقاومة في فلسطين خاصة، حيث سنواجه تياراً فلسطينياً عربياً يسوق الهزيمة ويرفع الرايات البيضاء، وللحق أقول: إن المقاومة عاقدة العزم بعون الله ـ تعالى ـ أن تستمر في جهادها لتشكل رافعة للأمة»، ويقول الدكتور الرنتيسي: «أطمئنكم أن المقاومة ستستمر، ولا علاقة لنا بما يحدث في العراق، ونحن هنا ـ والحمد لله ـ نقاوم منذ عقود من الزمن ولم نتوقف؛ لذلك عجبنا للسرعة التي توقفت فيها المقاومة في العراق»، ويؤيد الأستاذ محمد الهندي ذلك بقوله: «المقاومة الفلسطينية لم ترتبط ببغداد لذلك ستستمر. نحن بوصفنا مقاومة إسلامية لا نراهن اليوم على الأنظمة العربية، وأنا أقول مثلاً عندما اجتاحت إسرائيل الضفة الغربية كان هناك آلاف القوات الرسمية الفلسطينية خلال ساعات اختفت المقاومة منها، نحن نراهن على مقاومة شعبية».
ونختم هذا التقرير بما قاله الشيخ محمد حسان في سياق بث الأمل، حيث تحدث عن أميركا وأنها «استكملت كل حلقات الظلم والفساد، وراحت تردد باستعلاء كلمات عاد الأولى.. {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، والجواب: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
فلكل حضارة دورة فلكية؛ فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ(172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]».
_____________________
* المصدر: جريدة البيان(/7)
الإسلاميون كيف ينظرون إلي المستقبل ؟
أحمد فهمي
لا نبالغ إذا قلنا إن ملايين الإسلاميين العاملين للإسلام في شتى أنحاء الأرض لا يشغلهم شيء الآن بقدر ما يشغلهم مستقبل العمل الإسلامي في ظل أوضاع متوترة وظروف متغيرة، وفي ظل عجز تام عن التنبؤ بالأحداث القادمة حتى في مدة قصيرة، وحتى الولايات المتحدة التي تملك أعرق وأضخم مراكز الدراسات المستقبلية أصبحت سمعتها هذه من الماضي، ولكن بالنسبة للإسلاميين الأمر يختلف نوعاً ما، فلديهم معطيات ومعايير ربانية لا يملكها غيرهم يمكنهم بواسطتها توقع الأحداث بصورة أكثر دقة من غيرهم.
وسعياً لتلبية هذه الرغبة العارمة لدى الإسلاميين نقدم هذا التحقيق الذي يتضمن عرضاً لرؤية مستقبلية لنخبة من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي، وهذه الرؤية هي إجابة على ستة تساؤلات طُرحت على المشاركين في التحقيق تتناول بعض القضايا الهامة في العمل الإسلامي، وقد كانت المشاركات متميزة طرح فيها الضيوف أفكاراً جديدة وتصورات تثبت مواكبة كثير من الإسلاميين للظرف ومعايشتهم وإدراكهم لمشكلات العمل الإسلامي.
وهذه هي أسماء المشاركين:
- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
- الأستاذ قاضي حسين أحمد: أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.
- الشيخ أبو زيد حمزة: نائب رئيس جماعة أنصار السنة، السودان.
- الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين وخطيب المسجد الأقصى.
- الدكتور منير محمد الغضبان: مفكر إسلامي سوري.
- الدكتور محمد أبو رُحَيِّم: كلية الشريعة، الأردن.
- الأستاذ كسال عبد السلام: نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحركة الإصلاح الوطني الجزائرية.
- الأستاذ عبد الرزاق مقري: رئيس الكتلة البرلمانية لحركة مجتمع السلم «حمس» الجزائرية.
- الأستاذ محمد جهيد يونسي: نائب في البرلمان ومسؤول السياسة والعلاقات في حركة الإصلاح الجزائرية.
- الدكتور أحمد أبو حلبية: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ونائب رئيس رابطة علماء غزة.
- الدكتور سالم سلامة: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ورئيس رابطة علماء غزة.
- الدكتور ماهر الحولي: كلية الشريعة الجامعة الإسلامية بغزة، وأحد مسؤولي الحركة الإسلامية بالقطاع
- الشيخ خالد حمدان: أحد قيادات الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني ومدرس بكلية الدعوة.
- الشيخ أحمد الحج: من قيادات حركة الإخوان المسلمين في فلسطين.
- الأستاذ صالح لطفي: باحث في مركز الدراسات المعاصرة، الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني.
وقبل استعراض محاور التحقيق نشير إلى بعض الملاحظات:
1 - هذه الرؤية ليست رؤية قادة أو علماء أو مفكرين أو ناشطين في العمل الإسلامي، بل هي رؤية جمعية تشمل هذه الشرائح كلها.
2 - هذه الرؤية يمكن اعتبارها أحد التطبيقات العملية لقوله - تعالى -: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ومن ثم تقتصر فقط على الشؤون الداخلية للحركات الإسلامية.
3 - هذه دعوة إلى المهتمين بالقضايا المستقبلية للعمل الإسلامي لكي يثروا النقاش بمقالاتهم أو دراساتهم سعياً لتنمية الوعي المستقبلي لدى الإسلاميين.
أولاً: ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟
يقول الدكتور محمد أبو رحيم: إن «الحركات الإسلامية السنيّة الحديثة حركات يحكمها قاسم مشترك؛ فهي تدعو إلى الكتاب والسنة، وتحكيم الشريعة الإسلامية، وتتصدى للمذاهب الفكرية المعاصرة» ولذلك فإن الحديث عن التعاون بين هذه الجماعات يستند إلى أسس راسخة، ويعتبره الأستاذ علي البيانوني: «أمراً ملحّاً يرقى إلى مستوى الواجب الشرعي الذي لا يجوز التهاون فيه». ويقول الأستاذ قاضي حسين إنه: «أمر يحتمه الإيمان والعقيدة، وتفرضه متطلبات العمل ومقتضيات الفقه السياسي». ويؤكد الأستاذ البيانوني الضرورة الواقعية للتعاون بين الجماعات في مواجهة «التحدّيات التي تواجه الأمة الإسلامية على كافة الأصعدة» ولحماية «الصحوة الإسلامية المعاصرة ورعايتها وترشيدها، وحمايتها من التطرّف والانحراف، ولتبادل الخبرات والاستفادة من مختلف التجارب، ومواجهة الحملة العالمية المعادية للإسلام».(/1)
ولكن يتفق كثير من الإسلاميين على أن ما هو واجب خلاف ما هو واقع؛ فقد «أصاب حركاتنا الإسلامية ما أصاب الأنظمة والحكومات المتشرذمة، وما أصاب كذلك الأحزاب والتنظيمات العلمانية والقومية» كما يقول الشيخ حامد البيتاوي، ولذلك يقول الدكتور أبو رحيم إن «هذا الأمل ـ التعاون ـ ممكن من الوجهة النظرية إلى حد ما؛ بيد أن الزحف به نحو التطبيق العملي على مستوى الحركات نفسها متعثر» ويذكر بعض الأسباب والأمثلة العملية: «غدت عبارة: نحن أولاً، شعاراً يروَّج له في الداخل بقوة، حتى وصل ببعضهم إظهار التعاطف مع الحركات الرديفة له على حياء في حال تعرضها للإجهاض، وبعضهم أظهر مساندته للباطل من غير خجل ولا حياء، بل إن بعضهم لا يسوِّغ عملية الإنقاذ ولو كانت تحت قدرته إلا للأتباع، وأما من لم يكن منهم فلا يلتفت إليه، ولا يجدون بأساً من قراءة الفاتحة على روحه، مع عدم جوازها شرعاً».
ويشير الدكتور منير الغضبان إلى صور قليلة للتلاقي بين الجماعات منها «المظهر الذي يمكن أن يدل على فهم الأفكار والمواقف لا على التنسيق والتعاون وهو من خلال المجلات الإسلامية العامة (المجتمع ـ البيان ـ وغيرهما) أما التنسيق فقد يبدو على مستوى جزئي بين حركتين أو أكثر بحكم المجاورة والضرورة»، وينبه الأستاذ كسال عبد السلام إلى معنى قريب بقوله إن: «بادرة التعاون تظهر بين الحركات في الأقطار المختلفة أكثر منها في القطر الواحد، لسببين: ربما التنافس وما يدخل في إطار الاختلاف المشروع (اختلاف التنوع)، أو دافع الزعامة والتزعم».
وإذا ما أخذنا الواقع الجزائري كمثال للواقع الإسلامي فسنجد أن «التنسيق أو التعاون الإرادي في العمل والمواقف بين فصائل الحركة الإسلامية في الجزائر يكاد ينعدم، إذا ما استثنينا التقاطع ـ غير الإرادي ـ الحاصل في النشاط الميداني المتعلق بقضايا الثوابت الحضارية للشعب الجزائري من دين ولغة وانتماء حضاري، أو ما تعلق بقضايا الأمة الأساسية، وأعني بها قضية الأمة المركزية (قضية فلسطين) و (قضية العراق) والتي لا يختلف عادة حولها اثنان» كما يؤكد النائب الإسلامي جهيد يونسي.
وفي محاولة لتحليل الأسباب المعوقة للتعاون بين الحركات الإسلامية في الأفكار والمواقف والمناهج. يقول النائب الإسلامي عبد الرزاق مقري: «أنسب فضاء للتنسيق والتعاون هو أولاً: الأفكار؛ باعتبار أن الحركات الإسلامية لها أهداف عامة واحدة، ولها غايات كبرى متفق عليها، وهي التمكين لدين الله - تعالى - عز وجل -»، ثم يضرب مثالاً بالواقع الجزائري مرة أخرى فيقول: «في الجزائر التوافق قائم بين فصائل الحركة الإسلامية فيما يخص قانون الأسرة، وحينما نتحدث عن ضرورة العمل من أجل حماية الثوابت الإسلامية وعدم علمنة الدستور الجزائري وعدم علمنة المجتمع الجزائري والوقوف ضد سياسات الإفساد، فإن الحركة الإسلامية كلها متفقة بخصوصها». فما الذي يحدث الخلاف بصدده إذن؟ يضيف عبد الرزاق مقري: «الذي يبقى غير متوافق بينها في اعتقادي هي المناهج، مناهج التغيير؛ فالحركة الإسلامية متوزعة إلى مدارس مختلفة معلومة ومتنوعة».
ويلخص الشيخ أبو زيد حمزة أسباب التفرق في جملة واحدة: «الجهل والابتداع في الدين والبغي»، بينما يفصل الأستاذ قاضي حسين الأسباب إلى داخلية وخارجية، فيرجع الأخيرة إلى أساليب الاستعمار الذي «يضخ كل الإمكانيات المادية والسياسية لتأجيج أُوار الفتنة» أما الداخلية فيقول إن «بعض القيادات تنشأ لديها الشدة في مواقف تصل بعض الأحيان إلى العصبية» ثم يذكر مثالاً على ذلك: «فالقضية الأفغانية كانت محل إجماع لدى المسلمين جميعاً من حيث رفض الاحتلال، ولكنها كانت محل خلاف بين الحركات الإسلامية من حيث دعم الأحزاب الجهادية المختلفة، والحالة نفسها تكررت للأسف فى الجزائر وفي السودان»، وهو ما عبر عنه الأستاذ البيانوني بأن هناك عقبات «تتعلق ببنية الحركات الإسلامية نفسها».
وإذا كانت هذه هي صورة الحاضر؛ فكيف ينظر الإسلاميون إلى مستقبل التعاون بين الحركات الإسلامية؟ يقول الأدكتور منير الغضبان: «إذا أردنا ان ندرس المستقبل على ضوء الواقع فالأمل ضعيف؛ إذ إن مطارق المحنة التي تنزل ببعض الحركات الإسلامية أو الخوض في غمار التجربة السياسية في بعضها الآخر يجعل الحركة منكفئة على ذاتها، وقلَّما تستفيد من التجارب السابقة، ولا شك أن هذا من ضعف الوعي عند هذه الحركات».
ويحاول الشيخ خالد حمدان أن يطرح مسوغاً واقعياً قوياً لتنسيق المواقف، فيلفت الانتباه إلى أن: «أعداء الإسلام في تعاملهم مع الحركة الإسلامية ما عادوا يميزون فيما بينها من خلال طروحاتها ومناهجها ومواقفها؛ فالكل عندهم سواء؛ فالذي لا يحارب في العلن يحارب في الخفاء، والذي لا يحارب في ساحات المعارك والجهاد، يحارب في ساحات الدعوة والعمل الخيري، بالتضييق أو الحصار أو الاعتقال».(/2)
ويتفق أغلب المشاركين على أن هناك آفاقاً مستقبلية جيدة للتعاون بين الحركات الإسلامية، بل يؤكد الأستاذ قاضي حسين أنه بدأ يرى الآن: «تجانساً وتكاملاً بين الحركات بل بين معظم التيارات الإسلامية؛ لأن الخطر يهدد الجميع ويهدد الوجود». ويقدم النائب عبد الرزاق مقري تفسيراً آخر للتفاؤل: «في الماضي كانت هناك مسلَّمات عند بعضهم لا يمكن نقاشها على الإطلاق، الواقع الآن صقل هذه التجربة، وأقنع الجميع بأن منهج الوسطية والاعتدال بإمكانه أن يصل إلى تحقيق الغايات الكبرى؛ ولذلك فرص التعاون أصبحت ممكنة جداً»، ويقدم الدكتور أحمد أبو حلبية مثالاً واقعياً: «أعتقد أن كثيراً من هذه الجماعات تسير في هذا الاتجاه خاصة في فلسطين».
ولكن بعض الإسلاميين يضع شروطاً لتحقق ذلك بالصورة المطلوبة، فيقول الشيخ أبو زيد حمزة: » إذا أردنا مستقبلاً للتعاون بين الجميع، فهذا يتطلب جملة أمور من أهمها: الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج سلف الأمة، والصدق في دعوى الوصول إلى التعاون والتنسيق؛ فلا ينبغي مثلاً رفع هذا الشعار دون معرفة أسباب التفرق والاختلاف والسعي إلى إزالتها؛ لأن الجمع كيفما أتفق يؤدي إلى مزيد تفرق وشتات». ويلقي النائب يونسي بالكرة في ملعب الإسلاميين بالقول إن: «التعددية الإسلامية يمكن الاستفادة منها وتحويلها إلى قوة تكامل تدفع بالمشروع الإسلامي إلى الأمام».
لكن في المقابل يرفض الباحث الإسلامي صالح لطفي هذا التفاؤل، ويقول: » إني غير متفائل من المستقبل في هذا الباب تحديداً؛ لأن ما يحصل في الأمة على وجه العموم ينعكس بشكل أو بآخر على جماعات العمل الإسلامي» كما يدعو من هذا المنطلق أهل المسؤولية في العمل الإسلامي إلى التساؤل: «إلى أي حد اجتهدت الحركة الإسلامية اجتهاداً فعلياً للتمكين للإسلام كدين لا كحركات؟ ».
ثانياً: هل حدث تراجع في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة؟ وما هي الأسباب إن وجدت؟
تباينت وجهات النظر في الإجابة على هذا السؤال إلى ثلاث اتجاهات:
الأول: يمثل أغلبية الأشخاص والدول يؤيد حقيقة تراجع العمل الدعوي التربوي.
والثاني: يضم فلسطين وباكستان، ويؤكد على ازدهار العمل الدعوي التربوي، ويقول الدكتور أبو حلبية في ذلك: «انتفاضة الأقصى شجعت الجانب التربوي والدعوي أكثر، وزادت أعداد الناس المقتنعين بالفكر الإسلامي، والمساجد خير شاهد».
والثالث: ينتصف الطريق فلا هو ازدهار ولا تراجع، فيصفه الأستاذ أحمد الحج بأنه «لم يحدث تراجع وإنما تباطأ العمل» ويصفه الأستاذ صالح لطفي بأنها «حالات من المراجعات وليس التراجع»، ويفض الأستاذ علي البيانوني هذا الاشتباك بالقول إنه: «لا يمكن التعميم في الإجابة على هذا السؤال؛ إذ إنّ مستوى العمل الدعويّ والتربويّ، ودرجة تقدّمه أو تراجعه، ليست واحدة في كلّ الأقطار، لكن من المؤكّد أنه تراجع في بعض الأقطار خلال العقدين الماضيين».
ويقدم مؤيدو الاتجاهين الأول والثالث مجموعة من الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع أو التباطؤ أو المراجعات، بعضها داخلي يعود إلى الحركات الإسلامية نفسها، وبعضها الآخر ينسب إلى الظروف المحيطة، ويذكر الدكتور منير الغضبان من الأسباب الداخلية: «تحمل الحركة عبء العمل الدعوي والتربوي من جهة، وعبء العمل السياسي، وكلاهما أمران منفصلان لا يمكن الجمع بينهما إلا على حساب أحدهما» ولكن هذا السبب يعتبره النائب يونسي ظرفاً جبرياً أوجب على الحركة أن ترجح الجانب السياسي كاختيار إيجابي، فيقول إن: «التحول الحاصل في العالم وفي مجتمعاتنا فرض الاهتمام هذه الأيام بالبعد السياسي؛ فلم يكن بوسع الحركات الإسلامية أن تتأخر عن هذا الميدان، وإلا حكم عليها بالانطوائية والانعزالية والتخلي عن مواكبة التغيرات الجذرية». ويقدم الدكتور الغضبان سبباً آخر للتراجع لدى الحركات الإسلامية وهو «انشغالها بنفسها في خلافات داخلية أو معارك فيما بينها من المحق ومَن المبطل؟ ومحاولة السيطرة على الساحة والتنازع يقود إلى التلاشي؛ ففي المنطق الرياضي تنابز القوى الإيجابية تكون المحصلة فيها صفراً؛ فكذلك في المنطق الإسلامي تكون المحصلة صفراً {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]).
ويضيف الأستاذ كسال سبباً آخر وهو «الالتفات إلى التأسيس والبناء الهيكلي - للحزب - كرهان أساسي لوجود هذه المظلة للعمل الإسلامي».(/3)
أما الأسباب الظرفية التي أثرت على العمل التربوي فكثيرة، يذكر منها الأستاذ البيانوني: «تخوّف بعض الحكومات من العمل الإسلامي المنظّم، مما أدّى إلى تحوّل هذا العمل إلى السرّ، ومن المعروف أن العمل السرّيّ يكون محفوفاً بمخاطر التطرّف وردود الأفعال، وهو الأمر الذي يجعل العمل الدعويّ يعاني من تراجعٍ في بعض البلدان». ويقول الأستاذ عبد الرزاق مقري مستشهداً بالواقع الجزائري إن: «الانحرافات الأمنية الكبيرة التي وقعت، والفتنة التي أتت على الأخضر واليابس في الجزائر، أدى ببعضهم إلى الوقوع في الحرج عند الظهور بالاسم الإسلامي والفكرة الإسلامية، وأدى إلى ردود أفعال للأطراف التي تخاف من الحركة الإسلامية، فجاءت ترسانة من القوانين والتشريعات التي تمنع الخطاب، وهذا أدى إلى فراغ كبير في المجال الدعوي» ويستشهد الأستاذ أحمد الحج بالواقع الفلسطيني، فيرجع التباطؤ في العمل الدعوي التربوي إلى: «الضغط العسكري الإسرائيلي ووقوف السلطة الفلسطينية ضد العمل الإسلامي؛ حيث اعتقل الكثير ممن يقومون بالعمل الدعوي، ومورس الكثير من الضغوط على الخطباء والدعاة أحياناً وتهديدهم في عيشهم أحياناً، بل والتحقيق معهم ومساءلتهم من قِبَل الأجهزة الأمنية المختلفة، كذلك الحصار ونقاط التفتيش».
وينبه الباحث صالح لطفي من فلسطين إلى دور «الطابور الخامس من المثقفين المستغربين الذين استعملوا مجموعة من الآليات لا تملكها كلها او بعضها الحركات الإسلامية كالفضائيات والمجلات والمؤتمرات ووزارات الشباب والتربية والتعليم والثقافة والمرأة ودور الأزياء».
فماذا عن المستقبل؟
يبدو كثير من المشاركين متفائلاً بمستقبل العمل الدعوي التربوي و «يوجد ـ ولله الحمد ـ خير كثير، وما زال كثير من الدعاة إلى الله يبذل جهده في الدعوة إلى الله وتربية الناس على الشريعة» كما يؤكد الشيخ أبو زيد حمزة، ويقول الأستاذ مقري: «في اعتقادي، فإنه في هذه السنوات القليلة الأخيرة بدأ نوع من الوعي الإسلامي الجديد ونحن نستبشر خيراً».
وإلى الذين يستصعبون العمل الدعوي التربوي في ظل الهجمة الشرسة على الإسلام يؤكد الشيخ حمدان أن «الفرصة مواتية ومواتية جداً للعمل الدعوي والتربوي مع كل ما تتعرض له دعوة الإسلام من مكائد ومؤامرات لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله - عز وجل -».
ويقدم الدكتور سلامة توصية للحركات الإسلامية: «لا بد من صياغة مناهج جديدة تحفظ لنا مبادئنا وتتعامل مع الواقع وتستغل ما تقدمه التقنية الحديثة؛ لأن الأمور ليست كالسابق؛ فقد نستخدم المحاضرات والجلسات العلمية والفضائيات والإنترنت، كل هذه الأشياء قد تستخدم في العمل التربوي؛ فلماذا يتأخر المسلمون عن استخدام ما قد أباحه الله لنشر دعوتهم؟ ».
ويقدم الدكتور منير الغضبان رؤية لفك الاشتباك بين العمل التربوي والسياسي، فيقول: » الحل الأنجع هو فك الارتباط بينهما: إما من خلال واجهة سياسية للحركة الإسلامية تعمل فيها النخبة فقط، وتعرف خط التعامل مع السلطة والمعارضة المحلية، ولا تشترك القواعد إلا عند عمليات الاقتراع؛ أو تدريب بعض الأفراد العاملين وتهيئتهم للفرز للعمل السياسي؛ بينما تتفرغ القيادات الدعوية والتربوية للعمل التربوي والدعوي، أو من خلال انفصال كامل بين الحزب السياسي والحركة الدعوية؛ حيث يكون الحزب السياسي في أهدافه ومنطلقاته يمثل تطلعات الحركة الدعوية من الجانب السياسي».
ثالثاً: هل تراجع دور العلماء بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟
من أبرز جوانب الخلل في مسيرة العمل الإسلامي في العقود الأخيرة هي تراجع دور العلماء، وهو ما أيده أغلب المشاركين في هذا التحقيق، وإن اختلفوا في بيان الآثار السلبية لهذه الظاهرة، والأسباب التي أدت إليها والخطوات العلاجية لها في المستقبل.
وفي مجال توصيف الظاهرة يركز الأستاذ البيانوني على أنه رغم توفر وسائل العلم والتعلم لا توجد نتيجة مرضية، فيقول: «نشهد اليوم وفرة في عدد العلماء وخرّيجي كليات الشريعة وأصول الدين ومعاهد العلم الشرعي، وكذلك في عدد الكتب والمؤلّفات التي يصدرها هؤلاء العلماء، وفي الحلقات العلمية التي تبثّها بعض المحطّات الفضائية، إلاّ أنني أعتقد أن دور العلماء في العمل الإسلاميّ المنظّم ما يزال محدوداً» بينما يركز الأستاذ قاضي حسين على جانب آخر من الظاهرة وهو انخفاض عدد العلماء الربانيين المؤهلين لقيادة الأمة، فيقول: «هناك كوكبة من العلماء الربانيين فى العالم الإسلامي لكن عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين».
ويحاول الباحث صالح لطفي التخفيف من هذه الصورة القاتمة، فيفرق بين المشاركة والقيادة: «الحركات الاسلامية تزخر بالعلماء الأفذاذ الذين وإن لم يتسنموا المناصب القيادية فهم أهل حكمة نافذة ورأي في الصفوف». ولكن فرض الوقت المطلوب من العلماء الآن هو تسنم القيادة وليس مجرد المشاركة.(/4)
وكان اللافت أن أكثر المشاركين حديثاً عن الآثار السيئة لغيبة العلماء هم ممثلو الأحزاب السياسية في الجزائر؛ فقد أكدوا على تأثر العمل الإسلامي سلبياً بافتقاد العلماء، فيقول الأستاذ يونسي: «إن عدم اعتماد فصائل الحركة الإسلامية في عمومها على عمل العلماء العاملين افقدها في كثير من الأحيان الصواب في اختيار الوسائل الموصلة للأهداف المنشودة، كما فرض على كثير من الدعاة والنخب الإسلامية الاضطلاع بمهمات قد لا تتناسب وملكاتهم، مما جعل كثيراً من اجتهاداتهم الصادقة تجانب الصواب ومصلحة المشروع الإسلامي، وقد زجت في بعض الأحيان بأبناء الصحوة الإسلامية في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل» ويأخذ على الدعاة «قلة علمهم بمقتضيات الشرع وفنون الدعوة وفقه الموازنات» ويأخذ «على الحركة الإسلامية في الجزائر وفي غيرها أنها لا تعير كبير اهتمام لآراء العلماء».
ويقول الدكتور أبو رحيم إن تراجع العلاقة بين العلماء وقيادات العمل الإسلامي أثَّر «على مستوى الانسجام والالتحام بين طبقات المجتمع المسلم وفقدان المرجعية الدافعة والداعمة لهذه الحركات».
وعند النظر في أسباب تراجع دور العلماء، يقدم المشاركون رؤية متكاملة في هذا المجال تتناول تأثير الحكومات والضغوط الخارجية، وقدم المناهج والأساليب العلمية، والخلاف بين القيادة السياسية والعلمية، وتقصير العلماء.
ونستعرض هذه الأسباب بدءاً بالأستاذ قاضي حسين الذي يشير إلى تأثير: «الأجواء العلمية والتعليمية التي تسود العالم الإسلامي؛ فهي إما قديمة وبالية تدور حول معانٍ محدودة وتشدد عليها على حساب مقاصد الشريعة الحقيقية، وإما واقعة تحت تأثير الحكومات التي تميت في أهل العلم روح العلم والعقيدة وغيرتها» ويذكر سببا آخر وهو أن: «أمريكا في مخططاتها الرامية إلى السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي تسعى إلى تغيير المناهج الدراسية، وتحاول أن تبرز طبقة من العلماء تسميهم علماء (الإسلام الحديث) ومن هنا تزداد ضرورة وجود العلماء الربانيين الخلّص».
ويمثل الأستاذ مقري بالواقع الجزائري متهماً نظام الحكم الذي تولى في أعقاب الاستقلال حيث «كانت هناك مدارس للتعليم الأصلي الشرعية كونت نخبة من الرجال لهم إلمام واسع بالعلوم الشرعية، وكان بإمكان هذه التجربة لو بقيت أن تعطي ثماراً أكثر، لكن للأسف الشديد النظام الاشتراكي في ذلك الوقت ألغى التعليم الأصلي بحجة توحيد مناهج التعليم، مما أدى إلى نقص فادح وفظيع جداً في تنشئة الرموز والمرجعيات الشرعية».
ويعيب الباحث صالح لطفي على أنظمة التعليم الشرعي خاصة في الدول التي تتبنى نهجاً علمانياً؛ حيث تجد عدداً كبيراً من «المنتسبين للدراسات الشرعية هم من متوسطي المستوى وأقل من ذلك بعكس الكليات العلمية كالطب والصيدلة والهندسيات» فكيف يمكن أن يظهر من مثل هؤلاء علماء ربانيون؟
أما الدكتور أبو رحيم فيتحدث صراحة عن جوانب تقصير يراها في العلماء، يذكر منها: «جنوح كثير من أهل العلم إلى المصطلحات الفضفاضة والمفاهيم المغلوطة المأخوذة عن أعداء الأمة وإنزالها على واقع بعض الحركات الإسلامية، وإضفاء ثلة من العلماء الشرعية على المذاهب الفكرية المعاصرة المسيطرة وتسويغ وجودهم مع ظهور عداء هذه المذاهب للإسلام والمسلمين، والانهزامية عند طائفة من العلماء ممن وقعوا تحت تأثير الرأي العام العالمي فأظهروا أنفسهم بالمظهر المقبول عند الغربيين وأهل الملل الأخرى، ثم عملوا على نشر ما يعرف بالتسامح الديني، وحوار الأديان».
ويدافع الشيخ أبو زيد حمزة عن العلماء، ويعتبر أن الهجوم عليهم سبب لتقليص دورهم في العمل الإسلامي، فيقول: «لا يمكن الزعم بتراجع دورهم، ولكن لا يبعد أن يقف بعض الناس سداً منيعاً للاستفادة من علمهم، كأن يرموهم بالتخاذل أو نحو ذلك من التهم التي تحول دون الاستفادة منهم».
وعلى صعيد العلاقة بين العلماء وقادة العمل السياسي يتحدث الدكتور منير الغضبان عن إشكالية قائمة «بين القيادات السياسية والدعوية والمرجعيات الشرعية والعلمية، وما لم تحل هذه الإشكالية فستنعكس آثارها على المسيرة الدعوية كاملة، العلماء يعتقدون أنهم المرجعية الأولى والأخيرة والآخرون جميعاً تلاميذ في مدرستهم يجب أن يسمعوا ويطيعوا لهم، والقيادات السياسية تجد نفسها أوْلى بالاجتهاد بالمواقف والرؤى التي لا تتعارض عموماً مع الإسلام وفقهه السياسي. لا بد من فك هذا الاشتباك»، ويؤكد الأستاذ كسال على هذه الحقيقة بالقول إن أهم أسباب تراجع دور العلماء: «غلبة التوجه السياسي ثم غلبة الأنا السياسية لدى كثير من ممارسي العمل الإسلامي، ثم المعادلة الصعبة في الجمع بين السلطتين: الروحية، والسياسية».(/5)
ويطرح المشاركون عدداً من التوصيات والاقتراحات لتفعيل دور العلماء في العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، فيدعو الشيخ خالد حمدان إلى «بناء مرجعيات ومجامع علمية أو هيئات ومؤسسات تعاونية وحوارية بين العلماء في القطر الواحد بشكل خاص أو على مستوى أوسع إن أمكن، والاستفادة من النموذج العراقي الرائد من خلال (هيئة علماء المسلمين) ودورها المتميز في أصعب وأحلك ظروف العراق»، ويدعو الأستاذ البيانوني الحركات الإسلامية «أن تولي اهتماماً خاصاً في مناهجها وبرامجها لهذا الدور المطلوب من العلماء».
ولحل إشكالية العلم والسياسة يقول الدكتور منير الغضبان: إن الحل ما ذكره «كتاب الله ـ - عز وجل - ـ في تجربة بني إسرائيل {إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، ولم يكن القائد هو النبي، وتقدم صاحب الكفاءة والاختصاص ليتحمل مسؤوليته، ولم يكن هذا لينقص من قدر النبي الموحى إليه، لكن عندما تجتمع الكفاءة والعلم فلن يكون إشكال عند ذلك؛ حيث توفر ذلك في داوود - عليه السلام - {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]، وحينئذ يكون التغيير {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، وحين يقر القائد السياسي بضبط سيرته من العالم ويقر العالم بوضع الخطط من القائد يتم التغيير كذلك».
رابعاً: هل يتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارنة بنتائج الفترة الماضية غير المشجعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية؟
العمل السياسي من كبريات القضايا التي شغلت الحركات الإسلامية سواء بالممارسة أو التنظير أو الاجتهاد في حكمه الشرعي، وبينما يعتبره بعضهم طوق النجاة وعليه المعول في التمكين للإسلام، يراه آخرون طوقاً حول الإسلام وقيداً للعمل الإسلامي، وخروجاً عن أحكام الشريعة، وحسب السؤال الموجه للمشاركين في هذا التحقيق؛ فإن نصف المشاركين تقريباً اعتبروا أن النتائج التي تحققت لجماعات العمل السياسي في الفترة الماضية مشجعة ومحفزة للاستمرار، بينما اعترف الباقون بأنها كانت مخيبة للآمال ومتوقعة على كل حال.
وأياً كانت النتائج السابقة فإن الأستاذ علي البيانوني يؤكد على أن العمل السياسي «هو جزء من اهتمامات الحركة الإسلامية، يفرضه الفهم المتكامل للإسلام، على أنه دينٌ يشمل جميع جوانب الحياة. كما تفرضه التحدّيات السياسية التي تواجه الأمة بشكلٍ عام».
وبينما يعتبر الأستاذ قاضي حسين أن الحركات الإسلامية حققت نجاحات كبيرة في هذا المجال في الفترة الماضية، فإن الدكتور أبو رحيم يعرض رأياً مخالفاً فيقول إن: «ممارسة الحركات الإسلامية للعمل السياسي لا يخرج عن كونه بناء في الهواء، ونتائج الفترة الماضية من المشاركات شاهد على ذلك؛ لأن هذه الممارسة ما نبتت إلا في ظل أنظمة العلمنة والديمقراطية والعولمة وهيمنتها؛ فهي محكومة بالثوابت فيها، وأيّ تجاوز لها ولو على مستوى التأييد الشعبي فحكمه الاجتثاث والزج به في غياهب التاريخ؛ لأن من ثوابت هذه الأنظمة رفض الشريك صاحب القرار؛ فكيف إذا كان الشريك صاحب عقيدة ومنهج لا يقبل الشراكة؟. ويدعم الشيخ أبو زيد حمزة هذا الرأي، بل وينتقد أداء الحركات الإسلامية السياسية، فيقول إنه غاب عنها «منهاج النبوة في الدعوة إلى الله وعدم الفقه بالمراحل المنهجية الدعوية، ونسبة الإخفاق دائماً إلى غيرهم من خارجهم، مع غلبة القوة والعنف في الحكم على من خالفهم، وخضوعها للعواطف والانفعالات أكثر من خضوعها للحكمة والعقل، بل ربما افتقدت إلى قيادة علمية فقهية».
ولكن الدكتور سلامة حتى على فرض أن الحركات السياسية حققت تراجعاً أو إخفاقاً فإنه يقول: «النتائج غير المشجعة في السابق كانت بسبب الهجمة الشرسة التي يديرها الأعداء ويوقعون فيما بين الحركات وأبناء جلدتها».(/6)
ومن فلسطين أيضاً يعرض الباحث صالح لطفي رأياً معارضاً لممارسة العمل السياسي بصورته الراهنة لأسباب يراها واقعية ومنهجية، فيقول: «حيثما تم الانخراط بالعمل السياسي حدث نوع من الشرخ السياسي داخل الصف الإسلامي، أو كثرت الجيوب والقيل والقال على حساب التربوي والدعوي» ويرجع ذلك إلى أسباب منها: «عدم المراجعة الصادقة للمرحلة التي تم فيها خوض غمار العمل السياسي، فإن كانت ثمة ضرورة للانسحاب تم الانسحاب أو تغيير في أساليب العمل أو السياسات العامة، كما أن ثمة قصوراً في فهم الواقع السياسي للآخر وتحديداً الأنظمة التي تقبل بمشاركة الحركة الإسلامية في برلمانها؛ فهي تحدد سقف اللعبة السياسية وآلياتها وكيفية إدارتها ومعالم التأثير الصادرة عن هذه اللعبة، ولا تتورع هذه الدولة عن استعمال البطش إذا لاحظت أن الحركة تجاوزت الخطوط التي وضعت أصلاً». ثم يقرر لطفي قاعدة هامة: «لا يمكن للحركة الإسلامية أن تغير من خلال هذا النظام الموضوع أصلاً لمنع هذه الحركة من تنزيل أمر الدين على الناس».
ولكن النائب جهيد يونسي يؤكد على أن بعض الإخفاق في ممارسة العمل السياسي لا يسوغ التوقف عنه، ويقرر هو الآخر قاعدة للعمل الإسلامي: «إذا ما أراد أبناء الصحوة الإسلامية أن لا يعيشوا على أطراف مجتمعاتهم كخدم عند غيرهم لا يلتفت إليهم إلا عند الحاجة، فلا بد من ولوج ساحات المجتمعات السياسية والمدنية على السواء ما دام ذلك من أجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو التقليل منها».
وبعيداً عن الخلاف في جدوى العمل السياسي من الناحية الشرعية كما عرضها الشيخ أبو زيد أو الواقعية كما عرضها آخرون، فإن بعض المشاركين قدموا لنا معايير يمكن بها الحكم على جدوى الممارسة السياسية واقعياً حسب ما يتحقق عنها من مصالح، فيقول الأستاذ البيانوني: «لا أقيس النجاح في هذا الميدان بوصول هذه الحركة أو تلك إلى الحكم، بمقدار ما أقيسه بمستوى الوعي السياسيّ عند الحركة، وبقدرتها على التعامل مع المستجدّات والمتغيّرات الدولية والإقليمية والمحلية، والتخلّي عن الخلافات البينية، وبناء الجبهة الداخلية القادرة على المواجهة والصمود». ويعرض الأستاذ لطفي معياراً آخر فيقول: «علينا أن نحكم على التجارب بشكل منفصل، بمعنى أن دراسة التجربة السياسية السودانية ـ وهي تجربة تمكين ـ تختلف عن التجربة التركية وهي تمكين أيضاً؛ إلا أنها تختلف كلية عن الأولى، كما أن التجربة المصرية تختلف عن الأردنية وعن الكويتية؛ وهكذا فلكل خصوصيته التي يجب أن تدرس بعمق».
ويبدي المشاركون تأكيدات على أهمية التمسك بالثوابت الإسلامية في ممارسة العمل السياسي، ويقول الأستاذ البيانوني إن: «التمسك بالثوابت الإسلامية لا شكّ من أهم عوامل نجاح العمل الإسلاميّ بشكلٍ عام، والعمل السياسي بشكلٍ خاص؛ لأنّ هذه الثوابت هي بمثابة البوصلة التي تحدّد المسار، وتكشف الزيف والضعف، وتنفي الخطأ، وتفرز الصواب»، ويستخدم كسال عبد السلام هنا مصطلح «الأصالة والمعاصرة».
ولكن يعرض الباحث صالح لطفي بُعداً آخر للتمسك بالثوابت يثمِّن الحركات الإسلامية التي تدفعها ثوابتها للتخلي عن العمل السياسي ولو مؤقتاً، فيقول: «هناك حركات إسلامية أخفقت أو راوحت مكانها بحكم تمسكها بثوابتها الإسلامية إلا أن هذا الإخفاق الظاهر والذي سببه الحرب الشرسة التي شنت على هذه الحركات في حقيقته أوجد في العقل الباطن للمجتمعات احتراماً كبيراً لهذه الحركات وهو ينتظر تلكم اللحظة التي يمكن لهذه الحركات أن تعاود التمكين المؤثر».
فماذا عن مستقبل العمل السياسي:
الشيخ قاضي حسين يبدو مطمئناً وهو يقول إنه: «رغم التحديات الكبيرة توقعات الإنجازات فى المستقبل أكبر من توقعات الماضي»، ولتحقيق النجاح في مسيرة العمل السياسي يؤكد الشيخ حمدان على طرح هام هو: «على الحركات الإسلامية مراجعة برامجها وأدائها في العمل السياسي؛ وإن أدى ذلك إلى الفصل بينه وبين العمل الدعوي إذا تطلب الأمر، أو طرحه من خلال عناوين وواجهات قريبة ومتعاطفة ضمن منظومة العمل الإسلامي العام».
ويقدم الدكتور منير الغضبان عناصر أربعة للنجاح يعتبرها لازمة للعمل السياسي في الفترة المقبلة، وهي:
1 - فقه الواقع: بعيداً عن العاطفية والارتجال وردود الأفعال والأماني، الواقع بجميع عناصره الخصم الداخلي والعدو الخارجي.
2 - فقه الإسلام: فنحن لسنا مجرد حزب سياسي تهمه السلطة؛ إنما نحن حركة إسلامية يهمها تطبيق الإسلام من خلال السلطة.
3 - فقه تطبيق الإسلام على الواقع: من خلال الفقه السياسي أو السياسة الشرعية ضمن أطر التدرج والتيسير لا التعسير، وفقه الأولويات وفقه الموازنات.
4 - التربية الروحية: التي تقتل الأنا في الإنسان وتجعله جندياً لله لا جندياً لذاته.
خامساً: هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟(/7)
قدم لنا نحو خمسة عشر من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي في هذا التحقيق خلاصة الدروس التي استفادوها خلال تجربتهم الإسلامية في الفترة الماضية، وقد تكوَّن من ذلك كله كنز من الفوائد لا يقدر بثمن، ونذكر أبرز الفوائد منسوبة إلى قائليها:
الأستاذ علي البيانوني: ضرورة التواصل بين أجيال الدعاة، ضرورة تبنّي حاجات الجماهير المعاشية بمقدار تبنّي حاجاتهم الروحية والفكرية، نقد الذات وتقبل النصح ومحاولات الإصلاح بصدر رحب.
الشيخ أبو زيد حمزة: البدء بالأهم فى الدعوة إلى الله وهو توحيد الله، ومراعاة منهج الأنبياء فى الدعوة أمر لازم وثمراته طيبة.
الدكتور منير الغضبان: العاطفية والارتجال والبعد عن التخطيط هو مقتل الحركات الإسلامية، غياب المؤسسات الفاعلة والتي يتحرك القرار من خلالها تجعل الحركة الإسلامية ملكاً لأشخاص لا لمبادئ وقيم، مقتل الدعاة أو القادة في المهلكات المحددة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
الأستاذ قاضي حسين أحمد: ضرورة الالتزام بالجماعة مهما كانت الظروف ومهما كانت الخلافات فى الرأي، ضرورة تجديد الوسائل والطرق فى إيصال الدعوة وتحقيق الهدف، عدم الرد على الاتهامات التي قد تأتي من بعض المجموعات أو الأحزاب الإسلامية ثم المبادرة بمد يد التعاون إليها تأتي بالنتائج المطلوبة والمرجوة.
الأستاذ كسال عبد السلام: تجنُّب الجنوح إلى النزعة الذاتية ولو في مجال الطرح الفكري الصرف، تبني مبدأ سعة الصدر في التعامل داخل التنظيم وفي خارجه مع التنظيمات الأخرى.
الدكتور أحمد أبو حلبية: أهم درس هو أن من يخلص العمل لله سيجد ثمار هذا الإخلاص، ثم إن العمل الإسلامي يحتاج لصبر وثبات على الحق كما قال ـ - تعالى - ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45].
الشيخ خالد حمدان: أخطر ما يعاني منه العمل الإسلامي بروز الأمراض النفسية كالأحساد والأضغان في نفوس أبنائه ورموزه، على الحركات الإسلامية أن تسعى جادة جاهدة في الاستفادة من التجارب الإبداعية المعاصرة في صناعة «القيادات» و «الكوادر» التي تقدر على النهوض بالعمل الإسلامي ومتطلباته.
سادساً: ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي؟
المعوقات:
- الاستبداد الذي لا يسمح بالعمل للإسلام، فيحول دون قيام المسلمين بواجب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (الأستاذ علي البيانوني).
- ما تسعى قوى الاستعمار إليه عن طريق حكومة برويز مشرف من فرض العلمانية والفساد وبحجة «الإسلام الحديث»، وقيام الحكومة الباكستانية بفصل العناصر الإسلامية من المؤسسة العسكرية حتى يسهل استخدام هذه المؤسسة ضد الحركات الإسلامية إذا لزم الأمر، والخوف من تسلم الإسلاميين حكم هذه الدولة ذات القوة النووية (الأستاذ قاضي حسين).
- الجهل وعدم تصور الإسلام تصوراً صحيحاً لدى من يقوم بالعمل الدعوي، وجود طوائف ضالة وفرق من أهل البدع لها أثرها الواضح، النفرة وعدم الانسجام بل والتناقض لدى بعض الدعاة، معوقات إدارية تتمثل في تولية غير الأكفاء أحياناً وفي ضعف التخطيط (الشيخ أبو زيد حمزة).
- الذاتية خاصة فيما تعلق بتولي وتولية المناصب القيادية، وكذا الانكماش الفكري، ومنها مشكلة الانسجام التي تزداد وتكبر كلما قل الاعتماد على الطاقات الوافدة التي لم تتلق تكوينها في أحضان الحركة الإسلامية أو أهمل إخضاعها لذلك (كسال عبد السلام).
- الصحوة الإسلامية الشعبية العامة أصبح سقف مطالبها أكثر مما تطيقه أو تدعو إليه الحركة الإسلامية، كما أن الحركة الإسلامية لم تحقق النجاح المأمول في مجالات التربية والقدوة وبناء الشخصية الإسلامية المتوازنة التي تستطيع أن تقود الجماهير بسمعتها ومصداقيتها، وأيضاً الحركة الإسلامية لم تقدم فكراً متقدماً أو بدائل علمية بإمكانها أن تواجه بها معضلة الحكم في العالم العربي والإسلامي، وتجعلها تنتقل من موقع الدعوة إلى موقع الدولة بكفاءة عالية (عبد الرزاق مقري).
- من المعوقات في فلسطين: ملاحقة المجاهدين والدعاة وتكميم الأفواه، وعدم اخذ العلماء لدورهم الطبيعي، وقلة المؤسسات ومحاربة المؤسسات التي تعمل للإسلام، عدم وجود الطاقات المؤهلة بما يكفي حاجة الناس (د. ماهر الحولي).
- داخل الخط الأخضر في فلسطين: الحركة الإسلامية تعيش كأقلية، والكيان الصهيوني لا يسمح بانتشار العمل الإسلامي وحملة الاعتقالات الأخيرة خير برهان، أساليب المخابرات «الإسرائيلية» في حرب الصحوة الإسلامية من نشر للفساد والزنا والمخدرات والشقاق بين الناس، والفضائيات وما تبثه من سموم وفواحش (الأستاذ صالح لطفي).
المبشرات:(/8)
- ما وصلنا إليه من الاتحاد والوحدة بين الأحزاب الدينية الرئيسة في باكستان ونتيجة لذلك حققنا نتائج مطمئنة ومبشرة في المستقبل، وأيضاً وجود جيل من الشباب الملتزم في جميع مجالات الحياة (الأستاذ قاضي حسين).
- أنا مستبشر خيراً ومتفائل كثيراً في مسيرة العمل الإسلامي في فلسطين بفضل الله وتوفيقه، وبسبب هذه الصحوة الإسلامية وجهاد أبنائنا (الشيخ حامد البيتاوي).
- قبول كثير من الناس في المجتمعات بطبقاته المتعددة لنهج أهل السنة والجماعة وظهور ذلك لدى الشباب خاصة في الجامعات، كثرة المساجد ودور العلم والدورات العلمية والأسابيع الدعوية (الشيخ أبو زيد حمزة).
- المطلب الإسلامي أصبح مطلباً جماهيرياً عاماً ليس مرتبطاً بحزب أو تنظيم أو هيئة أو دولة مما دفع بالإسلام إلى الواجهة العالمية، ونشوء الوعي في الغرب نفسه بفساد المنظومة الليبرالية الجديدة حيث نشاهد النمو المتسارع للحركات المناهضة للعولمة مما يؤكد حقيقة أن للإسلام مستقبلاً زاهراً في الغرب (الأستاذ عبد الرزاق مقري).
- الصحوة والتغيير في الشارع الفلسطيني؛ فمثلاً كان قديماً يوجد مسجد واحد في كل مخيم، اليوم المساجد بالعشرات، وانظر إلى نوعية المصلين فأغلبيتهم من الشباب رغم أن الشاب في السابق كان يعاب عليه إذا دخل المسجد وكان الأمر مقتصراً على الشيوخ، وفي مجتمعنا الفلسطيني كانت المرأة تشق الجيوب وتلطم الخدود عندما يستشهد ابنها أو قريبها؛ أما الآن فهي تزغرد، بل ترسل ابنها للشهادة (د. ماهر الحولي).
- مسيرة العمل الإسلامي بفضل الله تأخذ بُعداً أفقياً متنامياً في واقع مجتمعنا «الأرض المحتلة عام 48» لتغطي جميع شرائح المجتمع من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وعلى مستوى الشارع والمدرسة والجامعة (الشيخ خالد حمدان).
ـ من فلسطين: زار المسجد الأقصى المبارك للصلاة عام 2003م أكثر من 300 ألف مصل أي 30% من السكان المسلمين في البلاد، وانتشار الكتاب الإسلامي سواء من خلال المعارض الإسلامية أو العامة، وانتشار المكتبات الإسلامية في طول البلاد وعرضها، وارتفاع وتيرة العمل الإسلامي في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية بين صفوف الطلبة المسلمين، وازدياد الطلاب الجامعيين الآيبين إلى ربهم (الأستاذ صالح لطفي).
- في سوريا الصحوة الإسلامية الآن تملأ الفجاج، عودة التيار القومي الذي كان يتنكر للإسلام إلى الاعتراف بالإسلام واعتباره أساساً للنصر (الدكتور منير الغضبان).
----------------------------------------
(*) شارك في إجراء حوارات فلسطين، والجزائر، مراسلا المجلة: نائل نخلة، ويوسف شلي.
جمادى الأول 1425هـ * يونيو/يوليو 2004م(/9)
الإسلاميون والعطاء الفكري
(النموذج السوري)
محمد علي شاهين
عندما يكون الإيمان بالإسلام طريق خلاص وسبيل إنقاذ، ويكون النضال من أجل التحرير هو جوهر النضال من أجل الإسهام والتبشير بمجد الإسلام وسيادته في أمة مهزومة مقهورة، ويكون التصدي للغزو الثقافي والفساد السياسي والتضليل القومي مهمة شاقة وعسيرة، تبرز أهمية الريادة الفكرية لنجباء الحركة الإسلامية من خلال الإبداعات القلمية الراقية، والعطاء المتجدد القادر على الابتكار، والتعبير الصادق الأمين عن ضمير الأمة بصراحة وجرأة، والتنبيه إلى الأخطار التي تتهدد الأمة في حاضرها ومستقبلها، والسعي الدؤوب لإعادة صياغة الشخصية الإسلامية التي تستعصي على الاستعمار والاستغلال والقدرة على تقديم البدائل بلغة العصر.
وتبدو صورة هذه الحركة الرائدة اليوم أكثر جلالاً وجمالاً لأنها حركة مثقفين، تنوعت ملكاتهم الأدبية فكان لهم أدب رصين مهذب، وشعر قوي معبر، ومقالة نقدية مستوعبة قضايا التطور، وظهر منهم رجال كان لهم منطق أخاذ مهيب، مهدوا بفكرهم الإصلاحي لعالم جديد تسوده العدالة، وفجروا كفاح أمة لا تنقطع ثورتها، ووقفوا وقفة عز في خنادق المستضعفين ضد قوى الظلام، وكسوا بساحر لمساتهم الهياكل القديمة حلة البهاء وزادوها تألقاً.
ولطالما أحبت جماهيرهم المتعطشة إلى المعرفة، الكلمة الصادقة، وعشقت الخطابة النقدية للأوضاع السياسية والاقتصادية، والدعوة لوحدة العالم الإسلامي في ظل الخلافة، وتحرير الأمة.
وتعلمت الإنصات للترتيل في محاريبهم، فقد استوعبت هذه التجربة، وحملت روادها لقيادة الشارع الإسلامي، وتحدي الخصوم.
المزاوجة بين مدرستين
ولقد اتسعت ميادين العطاء الفكري التي صالوا فيها وجالوا، وتعمقت جذور الشجرة الطيبة التي غرسها الإمام البنا بيده المباركة خلال العقود الستة الماضية وفاح عطرها وأينع ثمرها، وطبعوها بلون متميز، زاوج بين مدرستين فنيتين عريقتين، كان لكل منهما في أدبنا العربي الأصيل وتراثنا الإسلامي نكهة خاصة، رغم تناقض تينك المدرستين إلى درجة الصراع بعد رفض التحكيم.
أخذوا من الخوارج صراحتهم في الحق والجرأة في مواجهة الخصوم وتحدي الأعداء والثقة بالنصر، والاطمئنان إلى عدل الله، ونوال الجنان والتضحية من أجل المبادئ وحب الاستشهاد، وأخذوا من الشيعة ذكر الأحزان والفواجع والبكاء على الشهداء الذين يعلقون على المشانق ويقتلون في الزنزانات ويعذبون داخل الأقبية والمعتقلات، ولابد للدارس المتعمق لهذه الظاهرة الفريدة من إسقاط دائرة الضوء على إحدى الساحات القطرية في عالمنا الإسلامي، فيختار الساحة السورية كمثال، وهي الساحة التي فاض كأسها بالعطاء، ويترجم في هذه العجالة باختصار لبعض الأعلام على كثرتهم وتنوع أساليبهم وغزارة إنتاجهم وانتشار مؤلفاتهم.
كان الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله تعالى - رمزاً متألقاً من رموز الحركة الإسلامية، فقد عالج في وقت مبكر المشكلات الاجتماعية والسياسية، ودعا إلى مناهضة الاستبداد السياسي ومجابهة الاستعمار، وتأييد القضايا الإسلامية في العالم متأثراً بالإمام البنا، ومتتلمذاً عليه وعلى خاله الشيخ محب الدين الخطيب، صاحب المطبعة السلفية، وهو أول من كتب مسرحية إسلامية (مسرحية أبي جهل) ويدل على سعة علمه وغزارة إنتاجه، فقد بلغت مؤلفاته أكثر من ثلاثين كتاباً، كتب في التراجم (رجال من التاريخ) وفي الرحلات (بلاد العرب) وفي القصة (قصص من الحياة) وفي الدعوة (تعريف عام بدين الإسلام) وفي النقد (في التحليل الأدبي).
قادة ومفكرون
أما الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله الذي تقلد مناصب رفيعة في قيادة الإخوان فقد كان رجلاً متميزاً بالعطاء، وكان إلى جانب هذا مفكراً من الطراز الأول وخطيباً مفوهاً، وشاعراً مقلاً، أيقظت روحه دعوة الإمام البنا في وقت مبكر أيضاً، فكان ثائراً على الاستعمار الفرنسي قائداً لكتائب الجهاد في فلسطين، مشاركاً في الحياة السياسية السورية والفكرية، ألف رحمه الله أكثر من خمسة وعشرين كتاباً منها: (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) و(المرأة بين الفقه والقانون) و(الأحوال الشخصية) و(أخلاقنا الاجتماعية) و(الاستشراق والمستشرقون) و(من روائع حضارتنا) و(المرونة والتطور في التشريع الإسلامي).
وتفوق الأستاذ عصام العطار المراقب العام الثاني للجماعة وخليفة السباعي في قيادة الحركة الإسلامية السورية في فن الخطابة حتى عد من خطباء دمشق البلغاء، وكانت خطبة الجمعة في مسجد جامعة دمشق، في الستينات أشبه بخطبة الجمعة في جامعة طهران بعد الثورة الإسلامية، وكانت له في صحيفتي اللواء والشهاب أعمدة دائمة ومقالات وتصريحات، تناولت شؤون السياسة والحكم.
أما عن فنون التحقيق والنشر فقد كانت لهم بها قدم راسخة ومعرفة واسعة وإنجازات علمية راقية.(/1)
ولا يزال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى - رائداً في فن التحقيق، مجتهداً فيه مع غزارة في التصنيف والتأليف، ومن كتبه المحققة (الأجوبة الفاصلة للأسئلة العشرة الكاملة) و(الرفع والتكميل في الجرح والتعديل) للكنوي، و(المصوع في معرفة الحديث الموضوع) للقارئ، و (قواعد في علوم الحديث) لظفر أحمد، وقد تميزت قيادته للجماعة داخل البلاد وخارجها بالحكمة والأناة في أحلك الظروف، وأنجبت مدرسته الفكرية في حلب الكثير من النجباء.
وكان الشيخ سعيد حوى رحمه الله مربياً فاضلاً ومحدثاً أنيقاً وخطيباً متمكناً، ومفكراً حركياً من طراز فريد، وهو مثل سيد قطب في مصر، دعا إلى تحرير الأمة الإسلامية وتحقيق أمنها، وكان مجاهداً، ألف الدراسات المنهجية وهي (الله) و (الرسول صلى الله عليه وسلم) و (جند الله ثقافة وأخلاقاً) وله (المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين) وكتب في السجن (الأساس في التفسير) أحد عشر مجلداً.
ويعتبر الأستاذ محمد المجذوب - رحمه الله تعالى - أحد رواد القصة الإسلامية، فقد أصدر في وقت مبكر سلسلة للشباب والطلاب منها: (قصتان من الماضي) و (قصص من سورية) و (قاهر الصحراء) و (مدينة التماثيل) ورواية (صرخة دم) ومسرحية (من تراث الأبوة) وله (تأملات في المرأة) و (ذكريات لا تنسى مع المجاهدين والمهاجرين في باكستان) و (علماء ومفكرون عرفتهم) ثلاثة أجزاء، وكان خطيباً شعبياً عرفته منابر الساحل السوري في المناسبات الوطنية، وشاعراً صاحب ديوان ومجموعات شعرية راقية (همسات قلب) و (نار ونور) و (ألحان وأشجان).
الأميري.. شاعراً
وبرز من شعراء الإخوان رجال تمثلوا فكر الإمام المجدد وطريقته الإصلاحية التربوية، ومدرسته الجهادية، كان في طليعتهم عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله الذي اكتوى بنار القضية الفلسطينية، فكانت هاجسه اليومي منذ أن تطوع في جيش الإنقاذ عام 1367/1948، وعبر عن هموم المسلمين بجرأة وصراحة، ونقد الأوضاع الشاذة وكان يرى أن الإسلام وحده طريق الخلاص بعد سقوط كل الشعارات والأيدلوجيات والوجوه المستعارة، ونظم من أجل تلك المعاني عشرات الدواوين والمجموعات ومنها: (من وحي فلسطين) و (ملحمة الجهاد) و (الزحف المقدس) و (حجارة من سجيل).
وإذا ذكرت القصة القصيرة في سورية ذكر رائد هذا الفن الأستاذ إبراهيم عاصي –فرج الله عنه- بعد أن أغفله النقاد، ونسيه الموظفون في مكاتب حقوق الإنسان، ولنقرأ معاً مجموعاته القصصية: (سلة الرمان) و (ولهان والمتفرسون) و (حادثة في شارع الحرية) ومجموعة مقالاته في المرأة (همسة في أذن حواء) وفي الرجل: (للأزواج فقط) ولنجلس أمامه ليحدثنا بأدب جم في كتابه: (جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي).
وملك الدكتور حسن هويدي ناصية البيان والبلاغة رغم تخصصه في الطب، فكانت له مؤلفات قيمة منها: (الوجود الحق) و (الشورى في الإسلام) و (من نفحات الهدى) وله محاضرات لو جمعت لبلغت عدة مجلدات في مباحث العمل الإسلامي الحركي والتربية الروحية.
وكتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي في الأدب والدين والسياسة مقالات امتازت بالصدق والأصالة وكان جل اهتمامه بأدب الطفل المسلم، وأدب الانتفاضة الفلسطينية، وصدر له في الدراسات الأدبية والنقدية (دراسات في أدب باكثير) وفي الرواية (عشر روايات للانتفاضة) ورواية (القسام) وكتب في القصة (أصوات) وكتب للأطفال ستة وعشرين كتاباً.
وامتاز الأخ عبد الله عيسى السلامة بالأدب الجم والأسلوب المشرق، فكانت بعض خصال شعره المعبر عن معاناة المسلم المعاصر في ديار الاغتراب، وجاءت مقالاته الأدبية والنقدية ثمرة قلم عقائدي ناضج منفتح على الثقافات والمدارس الحديثة، ومن أبرز أعماله: مسرحية (بيت العباقرة) و (واحة في التيه) ومجموعته الشعرية (الظل والحرور).
وأجاد الأديب الإنسان محمد محمود الحسناوي فن المقالة السياسية والدراسة النقدية وأنصتت له المنابر وخشعت له المحاريب وهو صاحب كتاب (الفاصلة في القرآن الكريم) وتألق في ليل الأمة مثلا جوهرة نفيسة في روايته (خطوات في الليل) ومجموعته الشعرية (في غيابة الجب) ومجموعته القصصية (الحلبة والمرأة).
ولولا خشية الإطالة لاستعرضت نماذج من إبداعاتهم المنثور منها والمنظوم، وحلقت مع هؤلاء الأعلام في عالمهم الساحر البهيج، وتناولت بالنقد أجمل ما غنوه من قصائد، وكما كتبوه من قصة أو مسرحية، وما دبجته يراعتهم من مقالة أو دراسة أو بحث، وأضفت إليهم من أهل الفكر والقلم ضمن هذا النموذج نجوماً لا يتسع المقال لمقامهم.
ولابد للدارس المتعجل، وهو يستعرض مسيرة هؤلاء الرواد كنماذج مختارة من وقفات.
الأولى: أصالة الحركة التي أنجبتهم وفجرت طاقاتهم في خدمة أهدافها.
الثانية: خروجهم عن دائرة القطرية إلى الإسلامية الأرحب.
الثالثة: جمعهم بين العلوم الدينية والفنون الأدبية والثقافات العصرية.
الرابعة: حملهم هموم الوطن وعدم تخليهم عن جماهيرهم.(/2)
الخامسة: تقلدهم مناصب في حركتهم يدل على احترام قواعدهم لرجال الفكر.
السادسة: تمثيلهم للمحافظات السورية يؤكد انتشار الفكر الإسلامي وثراءه داخل البلاد.
السابعة: غزارتهم في التأليف والتصنيف والنظم وقدرتهم على العطاء والبذل.
وسيظل الفكر الإسلامي الذي أرسى قواعد مدرسته الحديثة كل الرواد حياً ما دامت الحياة، وستبقى الكلمة الطيبة بلسماً شافياً لجراح الأمة الموؤدة المقهورة وهي تتطلع لفجر إسلامي مشرق في كل الأقطا(/3)
الإشارات القرآنية إلى الطبائع البشرية
توطئة وتمهيد:
إن الإنسان مخلوق الله تعالى الذي خلقه فسواه فعدله، فكان هذا تكريماً للإنسان على مخلوقات الله الأخرى، وحسبه من هذا التكريم الإنعام عليه بالعقل والفكر، وتشريفه بالتكليف الإلهي.
إن الإنسان في أصل جوهره الذي عليه مدار ذاته وكيانه ووجوده يدور حول طبعه وسليقته من ناحية، ومن ناحية أخرى يدور حول ذاته الحرة الواعية المستبصرة بما أضاف أو أضيف إليها من مكسوبات البيئة والظروف المخامرة، والأحوال الملابسة...
ويكون هناك إحدى حالتين:
الأولى يسيطر فيها الطبع الموروث بالسليقة في الأغلب الأعم، وهو ما تنطوي عليه الفطرة المفطور عليها، وإما أن تسيطر الظروف على الطبع فتعمد إلى تعديله وتخصيص حركته ونزعاته وسلوكياته...
وفي دولاب الحياة توجد كل أصول الطباع، خصالها وخصائصها وتفريعاتها، سواء كانت أصولاً محضة ( لم يلحقها تغير أو تبديل أو تحوير وتخصيص ) أم غير ذلك مما أعتورها وكاتفها ـ درجة ما من التعديل والتحوير.. وهذا الطرز والأنماط فاشية بين بني البشر، ظاهرة كل الظهور، واضحة كل الوضوح للعيان، لا تخفي على الأريب والخبير الممارس.
والكلام على الإشارات القرآنية للطبائع البشرية كلام كثير يحتاج بيانه وتفصيله إلى سفر جامع، لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض هذه الطبائع، ونحرر تحليل بعض المواقف الظاهرة السافرة والخيوط التي تصل بينها وبين عوالم الأسرار المطوية في السرائر، والتي قد تكون محجوبة مستورة ولكنها تقف وراء كل حركات الإنسان وسكناته، فنفسر أسلوبه في الحياة ومنهاج عمله، وتبرر مسلك عقيدته، وما يتأدى إليه من قول وفعل.
الطبائع الثمانية
هناك تقسيمات قديمة للطبائع عزا القدماء إليها كل شيء، لعل أقدمها الطبائع الأربعة: الناري، ويدل على الحرارة، والهوائي، يدل على الرطوبة، والمائي، للبرودة، والأرضي ( الترابي )، لليبوسة.
كما أن القدماء اتفقوا على الأخلاط والأمزجة الأربعة، وهي:
الصفراوي (choleretic).
والبلغمي (phlegmonus).
والدموي (consanguious) (consanguinargy).
والسوداوي ( الميلانخوليا ): (melancholic).
ثم أخذ العلم في التطور وتوالت البحوث والدراسات التي قطعت أشواطاً بعيدة من النظرية والتطبيق، لكن في النهاية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلاديين المدرسة الفرنسية في علم الطباع التي طوّرت هذا العلم وانتقلت به من حيز الفروض النظرية البحتة والتصورات النمطية الخيالية المحضة إلى الدراسات التطبيقية والتحليلات العملية، على عينات إحصائية مختارة من مختلفة طبقات وشرائح المجتمع، ورصد النتائج وتدوين الملاحظات المنتهي إليها في دقة بالغة.
كانت هذه طفرة بارزة يرجع الفضل فيها إلى العلامة والفيلسوف الفرنسي رينيه لوسين (rene lesenene) ( أستاذ علم النفس والفلسفة بجامعة السربون والمتوفي سنة خمس وخمسين وتسع مئة وألف للميلاد ).
وكان رافقه وعاضده في بحوثه جيرترود هيمانس (gertrude heymans) ( عالم النفس الهولندي ) وصديقه الدكتور فيرزما (wirsma) (وهو طبيب اختصاصي في الأمراض العقلية ).
ولقد انتهت الدراسات لهذه المدرسة إلى أن طبائع البشر ثمانية طباع: العصبي، والعاطفي، والغضبي، والجموح، والدموي، واللمفاوي، والهلامي، ثم الخامل.
وعن كل طبع من هذه الطباع استخلصت البحوث العلمية لهذه المدرسة كثيراً من الدقائق واللطائف التي تفسر لنا كثيراً من الرغبات والمنازع التي تتحكم في التوجه وتبرر لنا غوامض الشخصية، وتميط اللثام عن عديد من السلوكيات الغامضة.
* الإشارات القرآنية:
إن الإشارات القرآنية الواردة في الكتاب العزيز إنما تعطينا صورة دقيقة للملامح والسمات والقسمات التي ينضوي تحتها الطبع، فهي إما تصرح بالطبع تصريحاً، أو تشير إليه تلميحاً، أو تقرر أخص خصائصه بلمحات ضمنية أو غير مباشرة.
وهنا يأتي دور الخبير المتمرس بطول المران على قراءة ما وراء الظواهر والمحسوسات، من خلال تقويم الإشارات واللمحات، وترجمة مدلولاتها بغير افتئات على النصوص، أو تزيد لا موجب له بحال من الأحوال.
لكننا بادي الرأي ـ قبل الولوج إلى جواهر المسائل ـ نرى وجوب الإشارة والتنبيه والتنويه عن عدة ملاحظات وتحفظات وهي:
أولاً: الغضب من أقبح الطبائع البشرية على مختلف مستوياتها، لكنه إذا كان منسوباً لله تعالى فإنه قمة العدل والقسط، لكونه منزهاً عن عوارض السلبية التي تعتور البشر، ولأنه بريء من الظلم والفساد ( حاشاه ذلك )، ومع هذا فإن رحمته سبحانه وتعالى سبق تغضبه. من ثم، فإنه في الصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق تكون المشاركة لفظية فحسب، فإنه جل شأنه ( ليس كمثله شيء ).(/1)
ثانياً : الأنبياء كلهم مبشرون بالجنة لكونهم مخلصين مختارين، والغصب عندهم ليس بنقيصة تقدح في عصمتهم، وسلامتهم، وكمال إيمانهم. ولكن ورد في كل الأحوال على سبيل ضرب الأمثال والتعريض بالأمم، وهم مختلفون عن السواد البشري، فهم جميعاً معفو عنهم، مغفور لهم، وما ورد عنهم من المواقف والأحوال إنما كان استقصاءً وسبراً لأغوار النفس البشرية، مع إلهامهم المسارعة بالتوبة والإنابة، ورسم لهم سبحانه طريق الإعذار والإنذار وتدارك الأمر قبل فوات الأوان، وهذا مفاده تعليم المكلفين كيف يتصرفون... والأنبياء جميعاً قدوة حسنة، أعذارهم ممهودة وأخطاؤهم مغفورة، وطباعهم مرضية...
ثالثاً: كل كافر مغضوب عليه، وكل مغضوب عليه من الله تعالى هالك لا محالة، كذا كل مرضي عنه من الله ناج.
قال تعالى: ) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) ([سورة طه](1).
وقال: ) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ([سورة الأعراف].(2)
) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ..... (154 ) ([سورة الأعراف ].(3)
كان موسى عليه السلام على درجة رهيبة من الغضب والثورة لانحراف قومه عن عبادة الله تعالى وتوحيده، وقد ثارت ثائرته وهجم على أخيه هارون أخذاً بلحيته ورأسه في ثورة عارمة، ظاناً أنه قصر في زجر قومه وحاد عن طريق الحق بالسكوت عن ضلالهم(4)
) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ......(5)قوة عارضة وفحولة مدهشة حال اختلاجه وانفعاله الذي انفلت بسبب الغيرة الشديدة على دين الله ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (6)توضح الآيات في أجلى وأبين بيان وأدق تصوير كل ملابسات وخصائص الغضب في الطبع الغضبي.
وهذه الخصيصة من هذا الطبع (furious temperment) ممدوحة عند موسى، لأن مردها ومرجعها إلى القوة في أمر الله والغيرة على دينه، وهذا موجب قوي يحفز إليها ويحض عليها.
لكن الطبع الغضبي بين السواد الأكبر من أفناء الناس طبع ممقوت لكثرة مثاليه وجم عوراته، وما انطوى عليه من نقائص تتمثل في القوة الشديدة والصرامة العنيفة، والعناد، والاندفاع، والحمق وعدم التروي، والتهور العشوائي غير المحسوب، محروم من الحلم والأناة والرفق.
والغضبي معنىٌّ بالرد الفوري سريع الاستجابة مهما كانت الآثار والتداعيات والمردودات.
إن عقل الغضبي فولازي صلب، لا يعرف المرونة، وإن كان لا يعدم المروءة، شديد الصلادة والتحجر. ولئن كان الطبع الغضبي مولعاً بالموضوعية، فهو منهوم بالفعل، يلتذ بتفعيل طموحاته، إلا أنه ضيق الأفق مع طيبة القلب ورهافة الشعور.
والغضبي يشبه العصبي في انفعالاته، لكن العصبي الطبع (temperment) (neurotic character)، يتميز عادة بقعود الهمة، وضعف القدرة على تحقيق المرادات بالعمل الشاق، فهو يشعر بالوهن، ويستطيع التضحية بالعمل والفعل حتى لا يرهق بدنه.
وبينما نرى الغضبي مشهوراً بالحيوية والنشاط والهمة، نرى العصبي ملولاً ثرثاراً، وهو يفتقر إلى الموضوعية، كذوب، يهمل الأعمال والواجبات المفروضة عليه، وهو سهل الاقتناع، وسهل الاستسلام، والسيطرة عليه ممكنة ميسرة من أسهل الطرق.
ونرى من مشهد موسى أن قوته بلغت حداً فائقاً، فهو في عنفوان غضبه ألقى الألواح، وفعل ما فعل بأخيه هارون، وفي لحظة خاطفة بعد أن استشفع أخوه بأمه وقدم أعذاره بأن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه تساير ( سكت ) الغضب عن موسى، وهدأت نفسه بعد أن قدر ظروف أخيه وأيقن من أعذاره، فأخذ الألواح...(/2)
ويصور المشهد: ضعف هارون الشديد باعترافه )استضعفوني (و )كادوا يقتلونني (، وهذا تصريح واضح بقلة حيلته، وضعفه وهوان شأنه عند قومه الذين كانوا يهابون موسى عليه السلام بدليل أنه مجرد أن غاب عنهم انحرفوا إلى عبادة العجل... من ثم كانت مهابة الطبغ الغضبي مدعاة للتوقير، والإجلال لأن القوم يعرفون بأن حدة الغضب وشدة الانفعال عند موسى من ألزم خصائص طبعه.
وقوة الانفعال عند الغضبي غير قوته عند الطبع الجموح (bolty temperment type)، حيث إن الغضبي لا يتحكم في نفسه ولا تصرفاته حال الانفعال.
أما الجموح: فإن انفعاله فيه درجة القوة الغضبية، لكنه محسوب تحت السيطرة، ولذلك، فإن الغضبي يتحكم فيه الطبع ويسيطر عليه سيطرة تامة كاملة، أما الجموح فإنه يسيطر على طبعه ويتلافى سلبيات الغضبي بالتروي والإثارة وحساب الآثار والتداعيات بمنتهى الدقة.
أما طبع هارون فهو الطبع العاطفي الوديع شديد الانفعالية، قليل الفعالية أو نادرها، حيث يميل إلى الوداعة والسلامة..
والنمط العاطفي يؤثر السكينة ويكره الصراع ولو أتى أسباب النصر فيه... إن الصدام رهان خاسرة، ومجازفة تهولة، وخرق لا موجب له، ولا مبرر للتورط فيه من العاطفي الذي ينشد السلامة، ويركن إلى الدعة مهما كان في ذلك تفويت لفرص يرجوها ويتشوق إليها... ثم يستغفر موسى عليه السلام لنفسه ولأخيه وهذا بعد أن برئت ذمة أخيه من التقصير والتهاون المقصود.
هناك موقف آخر لموسى عليه السلام عندما استغاث به الإسرائيلي فيصراعه مع القبطي: ) فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) ([سورة القصص]....
وكزه: لكزه(7) وموسى في ثورته الغضبية لم يقصد قتل القبطي، فهو قتل خطأ إذن... وقد فطن موسى لأول وهلة أن الشيطان هو الذي هيج غضبه وزج به إلى هذا الفعل القاتل... فاستغفر ربه فغفر له: ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) ([سورة القصص].
وهذا مفاده: أن المسارعة إلى التوبة من السنن المحمودة، مع الإقرار بالخطأ والاعتراف به(8).
لكن بعد هذه التوبة المقبولة والعذر الممهود والإنابة، يحاول الطبع السيطرة على الشخصية مرة أخرى بالتوسيل والتغرير: ).... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) ([القصص]...
لم يزل موسى متأثراً متألماً لما حدث بالأمس من قتله القبطي خطأ عن غير عمد، فما أن استصرخه الإسرائيلي، الذي كان استنصره بالأمس، حتى قال له موسى منفعلاً: )إنك لغوي مبين (.
ولما رأى الإسرائيلي ـ والذي هو من شيعة موسى ـ الغضب في عينيه والتهجم بادياً على جبينه وإنه على وشك الهياج والثوران، ارتعب وذعر واستولى عليه الفزع والهلع مخافة أن يفتك به موسى، فاستطار قلبه، وسارع صارخاً: ).... أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ( 19 )([القصص].
ولكن الحقيقة الثابتة في ظاهر النص القرآني أن موسى ساورته نفسه أن يبطش بالقبطي(9)، وكأنه سيطر عليه الطبع القوي الذي يحضه على الانتصار للإسرائيلي الذي هو من شيعته.
قال تعالى: )فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما.... (، فإن مدلول الآية يقطع بتوجه إرادة موسى إلى قتل القبطي، وهنا نية العمد متوفرة.
وتدل الآيات دلالة صريحة واضحة على سمة الاندفاع التي يتميز بها الطبع الغضبي، وهو الذي يسعد ويلتذ ويشعر بلذة عارمة في الفعل ذاته، وينسى ما فرط منه سلفاً، وإن كان نادماً على فوارطه وبوادره، متألماً ألماً وجيعاً عند تذكرها واسترجاعها واستدعائها من مخزون الذاكرة (10).
إن حاجة الغضبي إلى ذات الفعل أهم وأبعد من الغاية من الفعل، ومن ثم فإنه لا يحفل ولا يكترث بمردود الفعل، ولو كان منطوياً على هلكه.
ومشهور عن الغضبيين: أن ردودهم قوية صادمة صارمة عنيفة مفحمة حاسمة.
إن خطورة الغضبية غير محصورة، لأن سلبيات هذه الطبيعة تنعكس على المجتمع وعلى الناس، ولذلك قرر القرآن الكريم أن المغضوب عليه من الله هالك لا محالة ).... ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( 81) ([سورة طه] (11)
) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ([الأنبياء]. أي: مغاضباً لقومه، ولا يصح أن يقال: مغاضباً لربه، إذ إن بغضه وغضبه على قومه كان في سبيل الله، فكيف يكون مغاضباً لله(12)؟!.
قال تعالى: )وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( 37 ) ([الشورى].
قال ابن كثير: أي: سجيتهم العفو عن الناس، وليس الانتقام من الناس(13).(/3)
وقال الشيخ الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، لكن يشترط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة(14).
وقال الشافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار.
(وزيد عليه: من استرضي ولم يرض فهو شيطان ).
والغضوب مبغوض عادة من الناس، لأنه غير مأنوس.
وقد ثبت من المأثورات الجليلة والمسموعات القيمة أن المنجني من غضب الله هو أن لا تغضب.
والغضبي بعيد عن نفسه، منزوي عن الناس، غير مرضي عنه عند ربه ما لم يهذب من أمره.
يقول تعالى: ).... حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ( 16 ) ([الشورى].(15)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان ). أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن.
وورد في الصحيحين وغيرهما: ( إن رحمتي سبقت غضبي ).
وفي لفظ: ( إن رحمتي [ تغلب ] غضبي ).
وقد أخرجه الشيخان وابن ماجه(16)والعجلوني في كشف الخفاء(17)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (18)، والترمذي في جامعه الصحيح (19)، وأحمد في المسند(20)، وورد بلفظ: ( سبقت رحمتي غضبي) (21)..
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من نار ) (22).
ولذلك أوصي وأنصح الغاضب بأن يتوضأ لتساير عنه الغضب ويذهب عنه ما يجد لأن نار الشيطان يطفؤها الماء.
وقد ورد في الجامع الصحيح: ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ) (23).
وحسب الغضب من القبح أن يقول فيه المعصوم: ( الغضب يجمع الشر كله ) (24).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ) (25).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني! قال: ( لا تغضب ) فردد مراراً، فقال: ( لا تغضب ) (26).
ومن أروع ما ذكره الخطابي ( شارح سنن أبي داود ): معنى قوله: ( لا تغضب ): أجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه(27).
لكن هناك بعض الحالات تعتري فيها الحدة خيار الناس، وهي تختلف عن القوة الغضبية، لأن الحدة عرض من عوارض النفس التي تسري عن مكنون الكبت والقهر المضغوط في أطواء الضمير، ولا يقدر البشر على مغالبته، وهذا ليس صفة طبيعية ملازمة، ولكنها حال متغيرة سرعان ما تذوي وتنمحي آثارها، فهي بنت وقتها وبنت لحظتها، ورد في الحديث: ( الحدة تعتري خيار أمتي ) .(28)
قال المؤرخون وعلماء السير والتراجم: إن أبا بكر رضي الله عنه كان خيراً كله على حدة فيه، وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يخشى بوادره.
وهذه البوادر لا تعدو أن تكون لوناً من الحدة الفارطة في موقف من المواقف الحرجة، لكن سرعان ما يعود الأمر إلى حافرته.
نرجسية فرعون وبطره
وردت نرجسية فرعون واستعلاؤه وأشره وبطره في ادعائه الألوهية والربوبية وجحده للإله الحق الواحد المربوب، لا رب سواه. في قوله ـ الذي رواه عنه القرآن الكريم ـ: )ما علمت لكم من إله غيري.... (38) ((29)[سورة القصص].
وهي أشبه ما تكون ـ مع الفارق ـ بعنجهية قارون، إذ جحد فضل الله تعالى عليه عندما قال: )قال إنما أوتيته على علم عندي.... (78) ((30)[سورة القصص].
أما إبليس اللعين ـ قبحه الله ـ فهو من النمط العصبي الذي يتسم بطاقة رهيبة من الانفعالية، وهذا النمط الطباعي حاد العاطفة، أذي شديد الإيذاء، ثرثار متكلم يتحدث عن نفسه كثيراً، وهو خفيف الحركة، نزق الأفعال محب للتألق والظهور... وهو من أكثر الطباع المخلوقة تحللاً من الدين وهروباً من التكليف، وميلاً إلى اللهو والاستمتاع.
ويتميز الطبع العصبي بالتشرد النفسي، والقلق المخامر والسآمة والملل وسرعة الإياس.
والنمط اللمفاوي مناقض تماماً للنمط العصبي، من حيث إنه لا انفعالي، فعال ذو ترجيع بعيد.
وإذا كان للمفاوي من أصدق الناس، فإن العصبي من أكذب خلق الله طراً.
وكما أن العصبي ليس موضوعي النظرة، فإنه في حقيقته ذاتي، لكن اللمفاوي موضوعي لاهتمامه بالموضوع.
إن اللافعالية التي يعاني منها العصبي ويكتوي بنارها هي المسؤولة عما يدهمه ويفعل به الأفاعيل، حيث تسلمه هذه اللافعالية للفراغ والضياع والتشرد والتمزق النفسي والوجداني، من ثم نرى العصبي مولعاً بالمقامرات والمغامرات الحسية غير المأمونة، وهو كثيراً ما يتورط في الأوهام الخطيرة، وهو مهدر للقيم والأخلاقيات.
والعصبي متمرد محب للظهور، على هشاشة وعدم جلادة وثبات، وهو يفتقد إلى المثابرة، ويفتقر إلى الصلابة.
من أهم سمات وأشراط هذا الطبع السقيم الرديء: الميل إلى الابتذال والتدهور الأخلاقي، مع الولوع الشديد بالأحوال الشاذة، كالسحر والجن والشياطين، مع إدمان النظر في الغيبيات... وهو في كل أحواله مهتلك على اللجاجات الفارغة، وهو يعلم في أكثر أحواله وأطواره أنه على غير الحق وأنه بعيد كل البعد عن المضمون....(/4)
ولما كان الذكاء موجوداً في كل طبائع البشر بلا استثناء إلا أنه لا توجد قاعدة ثابتة ولا قانون معين محدد لدرجة الذكاء ومستواه عند كل من هذه الطبائع. فلو تأملنا منهج إبليس ومسلكه نجده عالماً ومثقفاً واعياً: ).... أأسجد لمن خلقت طيناً (61) ([سورة الإسراء].
)خلقتني من نار وخلقته من طين (12 ) ([سورة الأعراف].
فهو على علم دقيق بأصل الخلق والخليقة، ويعرف جيداً أصل عنصره ومادة طبيعته، وجبلته الأولى، ثم هو يعرف قدر الله تعالى وعزته: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) ([سورة: ص]. ثم يستثني من يخرج عن طاعته ويتمرد على سيطرته: )إلا عبادك منهم المخلصين (83) ([سورة ص].... ثم إنه يعلم يقيناً أن الله تعالى بيده الخلق والأمر، وإن أمره بالكاف والنون، )قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) ([سورة الأعراف].
إنه كان مؤمناً بالبعث والحساب والجزاء لكن للأسف لم ينفعه علمه ولا ذكاؤه حيث تردى إلى أسفل درك، وهوى من حالق، وأورد نفسه موارد التهلكة التي لا صدر لها، وصار خسيئاً مطروداً مغضوباً عليه من رب العالمين إلى يوم الدين.
من النمط العاطفي (romantic temperment) الجدير بالتنويه، القمين بالتنبيه إليه، الحقيق بالتأمل والتدبر فيه ـ إنما هو نمط نبي الله يعقوب عليه السلام وما جرى له من جراء فراق ابنه يوسف وحزنه عليه.
وتتمثل الطبيعة العاطفية في يعقوب أصدق تمثيل وأبلغ تصوير، إذ تلوح في كل أقطار الشخصية كل المخايل والعلامات والأشراط والتصرفات ـ كل خصائص الفطرة العاطفية: ).... وقال يا أسفى على يوسفَ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84 ) ((31)[سورة يوسف].
إن ابيضاض عيني يعقوب، بسبب الحزن الشديد والأسف على فقدان فلذة كبده، أشعل حريق اللوعة، وأجج وأضرم سعير الوله على يوسف الطفل المفقود في غياهب الجب، مما كان له أعنف الأثر الذي أعقب يعقوب العمى النفسي المسمى عند الأطباء النفسيين بـ (hysterical blindness). وهو من ألوان العمى الذي يقع على الحقيقة، وهو مردود إلى الكوارث النفسية (psychological crises) والصدمات العاطفية العنيفة التي تعتري الطبع العاطفي المشحوذ الإحساس، المطرور في رهافته وشعوره، والمتوتر الوجدان دائماً لفرط الانفعالية.
إن تراكم الأحزان في طوية العاطفي تجعله دائماً مثقلاً بالهموم ينوء بالأنكاد، منغلق على نفسه يميل إلى الوحدة والعزلة، كثير الخجل، خوالجه مشحونة مشغولة بما يجتره باستمرار من وقائع موجعة وأفكار أليمة وذكريات تحمل في مطاويها كل ما يجرح الشعور ويثير كامن الأشجان.
إن العاطفي يعيش في ذكرياته الوجيعة وأحلامه القاسية المنصرمة التي تنبض بالقلق في ضميره ومكنون سريرته بين الحين والحين، وبين الفينة والفينة، وهي تفتأ تكدر عليه حياته، وتنغص عليه أوقاته وتحرمه من المسرات، وتقطع عليه سبيل التسرية والتفريج.
إن العاطفي شديد التأذي، وهو على النقيض من العصبي.
وبينما نرى العصبي موصوف بحضور البديهة مع الاستجابة الفورية ـ نرى العاطفي يكبت الاستجابة ويكبح الرد الفوري ويلجم شعوره في أطواء ذاته وأعماق نفسه، لكنه لا يهدر هذه الإحساسات والمشاعر إنما تتراكم وتتعاظم في خوالجه، ودخائل ضميره ومكنون سريرته، ولكن هذا كله مرهون بظروف وملابسات مجهولة، إذ لا بد أنه سيأتي وقت لا حق معلوم تتفجر هذه الشحنات المتوهجة كالمتفجرات المدمرة إذا ما عيل الصبر وطال المدى على هذا التنامي المفزع والتكاثف المثير.
إن جراح العاطفي لا يبليها الزمان ولا يقدر على الفكاك من أسرها، فهي تتضيفه وتتحرك بعد فترة وأخرى محركة شجونة، ومثيرة لواعج أحزانه، فتكدر عليه صفو الحياة، فيضيق صدره ويغتم لمعاودتها كالحمى، وهي تنهش في خالجته وتكوي صدره، وتحرق وجدانه.
إذا كان العصبي مشهوراً بالعبث، فإن العاطفي مشهور بالحزن وأثقاله التي تثقله وينوء بها. وإذا كان العاطفي محتمياً بالعزلة عن الناس، لكونه شديد التأذي ضيق الحظيرة بهم، فإنه دائماً يحلل نفسه في الحوادث، ولا يحلل الحوادث في نفسه.
ثم إن كآبة العاطفي تحدو بكثير من العلماء إلى أن يسموها بالحداد الميتافيزيقي (metaphysic mourning)، وهي التي يكون فيها حدباً مشفقاً على بني جلدته من البشر.
وإذا كان الانفجار العاطفي لتكاثف المؤثرات النفسية في العقل الباطن ـ أمراً محتوماً غير مردود لتعاظم تأثير الانفعالية المكبوتة المقموعة بالترجيع البعيد، والترديد المناوب فإنه لا بد وأن يظهر في صورة أوجاع وأمراض عضوية حتمية كلون من التفريح وتفريغ الشحنات المضغوطة في قرار اللاشعور كالشلل الهستيري (hysterical hemiplegia) والعمى الهستيري (hysterical blindnes)،وغير ذلك مثل: الهستيريا التحولية (conversion hysterical)، والهستريا الانشقاقية (diversion hysterica).(/5)
يقول علماء الطباع: الغضبيون يندفعون إلى المستقبل، بينما العاطفيون يكتفون بالتشوف إليه، أما الدمويون فإنهم تقدميون، ولكن بعض العاطفين، بل كثيراً منهم، يقفون بطموحاتهم إلى حد التشوف، وليست لديهم الجسارة على العبور والتحدي والصمود إزاء المعوقات التي قد تعترض طريقهم، وهذا العجز الظاهر يضاعف من أوجاع العاطفي وأوصابه، وكثيراً ما يقع فريسة لأحلام اليقظة، وهو أكثر الطبائع تعرضاً لخطر الأمراض النفسية الخطيرة، مثل: الفصام (schizophrenia)، والهستريا (hysterica)، والتوتر العصبي (anxiety neuzosis) الخ.
لكن إذا كان الطبع العاطفي مستهدفاً من كثير من الأمراض والعواصف النفسية، إلا أن الأنبياء عليهم السلام جميعاً لهم قانون خاص غير بني جلدتهم من البشر لكونهم ( أي: الأنبياء ) محوطين منظورين من عين الله تعالى مكلوئين برعايته.
ونؤكد مجدداً منبهين إلى أن هؤلاء الأنبياء جميعاً مبشرون بالجنة، وأن أعذارهم ممهودة وذرائعهم مقبولة وشافعهم غير مردود.
سليمان والملك مع النبوة
كان سليمان بن داود، وأبوه، ويوسف بن يعقوب، هؤلاء الثلاثة كانوا ملوكاً وأنبياء، وقد أوتي كل منهم ما لم يؤت أحد من أنبياء الله من نعيم الدنيا ومتعتها، فنالوا خير الدين والدنيا معاً.
وقصة سليمان مع الهدهد التي ذكرها القرآن الكريم مشهورة، نعرفها جميعاً لكن حسبها أن تصور لنا الطبع المثالي(32)في أدق صورة وأعمق خصائصه ولطيف علائقه بالذات الإنسانية والطبع البشري.
يقول الله تعالى: ) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لاعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)([سورة النمل].
هذه القوة والصرامة والدقة والانضباط عند سليمان عليه السلام وسيطرته الكاملة على المملكة تبدي لنا طاقة جبارة وحرصاً بالغاً في تسيير دفة المملكة باتساق ونظام لا تتسع معه إلى مراوغة أو افتعال تبريرات للتخلف عن النظام العام والنسق المرسوم لديوان المملكة.
إن مملكة مديدة الأطراف واسعة الأفياء فيها العدد العديد والكثرة الكاثرة من الإنس والجن والطير، لا بد أن تكون في أشد الحاجة إلى حكم قوي مكين قوامه العدل والرأفة والشفقة على خلق الله، إذ إن الصرامة وقوة الحزم لا تمنع ولا يمكن أن تمنع من ترسيخ قواعد العدل والحق والحرية.
لقد كانت كل أمارات وملامح الرزانة والذكاء والقوة والنزاهة والعدالة متوفرة في أعلى مجاليها في شخصية سليمان. ولولا هذه القوة والضلاعة والثبات والعدل لما استطاع السيطرة على هذه المملكة ولا نفرط عقدها وتحللت علائقها.
إن الطبع الجموح والذي نراه أعلى الطباع، ويطيب لنا أن نستأذن علماء الطباع في تسميته بالطبع المثالي، يمتاز برقة الشعور لفرط الانفعالية مشفوعة بقوة في الفعالية مع الترجيع البعيد... إنه يتميز بحب العمل، وذلك مع الدقة والعزيمة والصبر والجلادة لتحقيق غاية منشودة. ولئن كان الغضبي محباً للفعل لذات الفعل، فإن المثالي يهتلك على الفعل لغايته أكثر منها لذاته... فضلاً عن تميز المثالي على الغضبي حيث إن المثالي منظم قوى الإدراك والاستيعاب شديد التركيز مع تميز الحس العملي وقوة الذاكرة.
يتميز المثالي أيضاً، بالقوة مع المثابرة وعدم الملل فهو لا يعرف اليأس، وهو شديد الحرص والحذر واليقظة والجلادة، مع عدم المبالاة بشهوة الجنس غير الشرعية مع البساطة والتواضع.
هذا النمط المثالي مشهود له بالحب والشفقة والتحنن على الآخرين، والعطف على من هم دونه من الضعفاء وأضرابهم، مع صلابته في التحدي والتصدي لنظراته وأقرانه ومن هم أقوى، والجموح لا يعرف الإعضال، أو الاستحالة إزاء همته العالية، وعزيمته القوية.
ثم إن العاطفة الدينية عند هذا النمط تكون عادة متوهجة مطرودة، وهم يهتمون بالتاريخ والمستقبل البعيد، من ثم نراهم يعدون العدة ويرسمون الخطط لمستقبلهم في دقة بالغة، وهم لذلك ليسوا مسوقين عشوائياً إلى مقاصدهم وغاياتهم عشوائياً بل إنهم يتشوفون إلى غوامض المستقبل بالحكمة والأناة، مع الفعل المنسق المرتب مع الالتزام بضوابط الأخلاق والقانون بلوائحه وقوانينه في إطار عزيمة خارقة تقتحم الصعاب وتجتاز المهالك بضراوة وشراسة وتصميم، لا يلوي على شيء، وتتصدى وتتحدى كل من يقف في طريقها ليعوقها عن الوصول إلى مبتغاها، مع الدقة والإتقان الذي هو قوام النجاح والبلوغ إلى الذروة المأمولة.
وإذا كان العصبي متفلتاً من التدين، ولا يكترث بقيم الدين ولا ضوابطه، ولا أخلاقياته، فإن تدين العاطفي هو الأميل إلى التصوف والفلسفة والفكر، لكن تدين الجموح هو للسيطرة على الزمان بدلاً من الانخراط فيه... وأما ما ينعاه الناعون على تدين العاطفي بأنه فوضوي لخطورة انزلاقه في كثير من الأحيان إلى التردد والشك والريبة وهذا ما يتنزه عنه الجموحين ومن على شاكلتهم.(/6)
لكن الطراز اللمفاوي عقلي التدين، ولا يخرج تدين الغضبي عن التصلب والتشدق بأصول العبادة مع جنوحه إلى الرقائق والمواعظ والإرشاد بالخطب الحماسية والصوت الجهوري.
أما الدمويون فإنهم يرون الدين وسيلة لابتزاز المشاعر، مع تسخيره لأعراضهم بافتعال تبريرات مصنوعة وذرائع مكذوبة.
إن المتهم أمام سليمان عليه السلام ـ الهدهد ـ وهو طائر لا حول له ولا قوة، لكن قوبل بحسم منقطع النظير، وشدة فائقة، حتى لا يكون التساهل والتهاون معه سبيلاً وطريقاً لتبرير الخروج على النظام والالتفاف حول القواعد الكلية بذرائع وتبريرات منحولة واختلافات مفتراة... لكن هذه الشدة لم تكن عنفاً محضاً ولا اعتسافاً في استعمال الحق، لكنها ممزوجة بالعدل الذي هو أساس الملك، ولا تقوم للحياة قائمة بدونه....
لما أن ذكر الهدهد لسليمان سبب تأخره وغيبته عن المملكة، تأمل سليمان بثاقب نظره، وبتؤدة حتى لا يجور على هذا الهدهد المتهم إنما ليعطيه الفرصة كاملة لتقديم مبرراته وتسويفاته.
ثم إن توعد سليمان بمحاسبة الهدهد شملت ثلاثة أحوال:
الأولى: العذاب الشديد، إذا كانت ذرائعه واهية أو ضعيفة.
الثانية: الذبح، إذا كان كاذباً على نبي الله سليمان، من ثم يكون التجاوز عنه في هذه الحالة ذريعة وفتحاً لباب شديد الحرج والخطورة على المملكة والتحلل من قواعد الانضباط فيها...
الثالثة: إخلاء سبيله وبراءته، إذا جاء بالدليل القاطع الذي تبرأ ذمته به، حيث يكون ثمة طارىء ملح وضرورة قهرية فرضت نفسها عليه.
وبعد أن حكى الهدهد المشهد الذي صدمه من بلقيس وقومها الذين يسجدون للشمس من دون الله، قال سليمان بنظره الحاذق الحكيم: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين )، ونلحظ هنا أنه لم يقل أصدقت أم كذبت؟ ولكنه أفرد الصدق مع ضمير المخاطب، وجمع الكذب، ليدلنا على ندرة الصدق وتفشي الكذب بين الكثرة الكاثرة من السواد الأعظم.
هذا الطبع المثالي لا بد أن يكون كذلك، قمة في العدل والتنزه عن أوضار الظلم، والتجرد من الهوى وسلطان النفس الذي يهدم دائماً ولا يبني أبداً.
كان آدم أبو الأنبياء، وأبو البشر أيضاً، مستهدفاً من إبليس اللعين الذي فشل في السيطرة عليه، فاخترق أوهى النقط في الأسرة الأولى على الأرض، فنفذ إليه من خلال حواء، وكان هذا مدخلاً خطيراً تسبب في عصيان آدم ربه وإخراجه وحواء من الجنة ) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ........ (20) [الأعراف].(33)
وكلنا يعرف قصة ابني آدم ) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ([المائدة].
ثم يقول: ) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) ([المائدة].(34)
وممن المواقف المثيرة ما ورد بشأن العتاب من الهدهد لسيدنا سليمان حيث قيل: إنه لما كان من أمر صدق الهدهد وسلامة موقفه وإخلاصه للتوحيد ـ قال لسليمان: كيف توعدتني يا نبي الله بالذبح لمجرد التغيب عن الحضور والتأخر عن المملكة إذا لم يكن هذا التغيب مشفوعاً بسلطان مبين؟!! ( وكان الهدهد توهم أنه الذبح المعروف بالمدية ( السكين )، وهو الذي تفزع وتفرق منه الطيور والحيوانات ).
ـ قال سليمان: كنت سأذبحك بغير سكين...
ـ كيف ذلك؟.
ـ بأن أضعك بين قوم لا يعرفون قدرك!!.
ـ إن هذا والله لأشنع وأبشع من الذبح..
إن الهدهد المؤمن لم يطق أن يرى قوماً يسجدون للشمس من دون الله، وهذا يقطع بيقينه وعمق رصيده الإيماني بالله الواحد الأحد الحقيق بالعبادة... ثم إنه عالم بأن وراء ضلالهم وغوايتهم الشيطان الذي غرر بهم وزين لهم أعمالهم فضللهم وصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون(35).
إن الطبع الجموح، وهو المسمى عندنا بالطبع المثالي، إنما هو أعلى الطباع شأناً وأعظمهم فطرة، وأقواهم جبلة من حيث إن صاحبه يملك أمره ويسيطر على جميع قواه النفسية والعصبية والحسية، فهو يملك زمام الأمور في يد واثقة ويقف على أرض صلبة من اليقين والثقة بالنفس، ومهما أوتي من قوة عارضة أو كثافة حد إلا أنه إذا عورض بدليل راجح لا يتورع أن يسلم به ويتخلى عن رأيه دون أدنى شعور بالغضاضة أو التردد أو التقاعس لسبب من الأسباب...
وهذه بلقيس التي كانت من قوم كافرين بشخصيتها وطبعها المثالي لأول وهلة قالت: ) إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) (، ثم كان إسلامها مع الإقرار والاعتراف بالذنب: ) قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) (.
هذه المرأة العملاقة الجسور(36)صدق فيها قول الشاعر:
ولو كانت النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال(/7)
طبع معاوية وشخصية عمرو بن العاص
في حوار خاطف سريع بين معاوية بن أبي سفيان وبين عمرو بن العاص نستطيع ـ من تحليل السياق والوقوف على المآتي والمصادر والحوافز النفسية والخوالج المطمورة في مطاوي السريرة ـ أن نستخلص الطبع والشخصية وإمكاناتها وأبعاد القدرات الخاصة، سيما الميتافيزيقية، وهي ما وراء الظواهر التي تلوح عن الخواطر والبوادر ولكن تكمن وراء أسجافها وستورها ألغاز وحوافز أو كوابح غامضة أو خفية محجوبة.
قال معاوية: ما بلغ من أمرك يا عمرو؟.
قال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما دخلت في أمر إلا وخرجت منه...
قال معاوية: لكني ما دخلت في أمر، وأردت الخروج منه.
ونقول: إن شخصية عمرو بن العاص تلوح ركائزها وعمق جذورها الراسخة المكينة من خلال هذه الفقرة المحدودة، إذ إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، على ما ذكر علماء النحو.
وقوله: ( ما دخلت ) نفي.
وقوله: ( أمر ) نكرة، وهذه النكرة المسوقة في إطار النفي أفادت العموم لأجل ذلك، ومفاد هذا: أنه في أي أمر ( على العموم والإطلاق) مهما كان شأنه ما دخل فيه عمرو بن العاص إلا وخرج منه. وهذا يدل على قوة العارضة والثقة الفارطة بالنفس. وحدة الذكاء، وحضور البديهة واليقظة التامة، كلها من مقومات تلك الشخصية التي لا تبالي أي الأمور تنخرط في أتونها، فهي مستعدة لاستدعاء كل طاقتها وكوامن قدراتها للخروج من المآزق المتوقعة والمروق من الكوارث والإفلات الخاطف من أية نازلة أو نائبة في أي وقت في أي مكان وفي أي زمان: وكذلك كان عمرو بن العاص حقاً، وبذلك طارت شهرته في الآفاق كأحد دهاة العرب...
أما معاوية رضي الله عنه فكان من الطبع اللمفاوي، الذي يتروى ويستشير، ويستأنس بآراء المقربين منه وغير المقربين من أهل الرأي الموثوق بهم... فهو إذا دخل في أمر ( لا يريد ) الخروج منه لأنه اختاره بإرادته الحرة الواعية، ولا يتم ذلك إلا بعد مشاورة واستئناس ودراسة وتقويم لكل الأخطار المتوقعة واستحضار كل البدائل والممكنات... ومن ثم يكون مطمئناً نماماً لأن هذا الاختيار هو أفضل وأنسب اختيار ولا يسد مسده أو ينوب عنه اختيار آخر... من ثم، فلا موجب ولا مدعاة للتفكير في إرادة الخروج منه بعد دراسة الجدوى بجدية وتقويم.
كلا الرجلين له طبعه وله شخصيته، وكلاهما واجه التاريخ بصفحة حافلة من الأحداث الجسام التي تتآزر جميعها على التأكيد على ما ذهبنا إليه من تحليل طباعي لكلا العملاقين من الصحابة... فرضي الله عنهم أجمعين.
-------------
[1] – توضح الآيات قوة موسى وشدة غضبه الذي تمثل في ثورة عارمة إذ أخذ بلحية أخيه ورأسه.
[2] – راجع ما حرره العلماء في تفسير القرطبي وروح المعاني للإمام الألوسي 9/66 ـ 68
[3] – راجع القرطبي والطبري والكشاف للزمخشري.
[4] – قال ابن عباس: لما رجع موسى من المناجاة غضبان لعبادة قومه العجل أعجلتم أمر ربكم بانتظار موسى حتى يرجع من الطور وألقى الألواح وهي ألواح التوراة من شدة الضجر والغضب ألقى الألواح وأخذ بشعر رأس أخيه هارون ولحيته ويجره إليه ظناً منه أنه قصر في كفهم عن ذلك. راجع تفسير الطبري 13/123 وروح المعاني 9/66 وما بعدها.
[5] – يلاحظ قوة غضب موسى ووهن هارون وضعفه وتوسله واستشفاعه لأخيه بالرحم الماسة الميلولة ليكف عنه.
[6] – ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح.
[7] – على ما ورد في لسان العرب لابن منظور 7/273 ، 274 وما بعدها، وهو منقول عن القرطبي أيضاً في تفسيره 13/ 260، 261 .
[8] – وهذا مؤدى قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً 17 [النساء]. راجع ما قاله الفخر الرازي في التفسير الكبير 9/ 235 .
[9] – قال الإمام الطبري 20/31 وابن عباس: أو أن يبطش بالقبطي الفرعوني فظن الإسرائيلي الذي هو من شيعته أنه يريده. ولكن ورد عن الحسن أن الصارخ المستغيث هنا هو القبطي. تفسير القرطبي 13/265 ، ولكن المختار عند الطبري أولى.
[10] – وإلا فكيف نفسر قول موسى للإسرائيلي: إنك لغوي مبين ، ويقر بهذا تصريحاً وتأكيداً، ثم يريد أن يبطش بعدوه مع كل هذا؟؟!!.
[11] – هوى: هلك، وقيل: شقى. وقيل: هوى: أي: سقط من قصر في جهنم، يهوي الكافر من أعلاه في جهنم أربعين خريفاً. راجع تفسير ابن كثير 3/161 .
[12] – راجع التفسير الكبير للرازي 22/214، والقرطبي 11/329، وجامع البيان للطبي 17/61. وقال الرازي 2 /15: دخل ابن عباس على معاوية، فقال له معاوية: يظن نبي الله يونس أن لن يقدر الله عليه؟! قال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة هـ . بتصرف.
[13] – التفسير 4 /118.
[14] – حاشية الصاوي على الجلالين 4/40 وانظر الزمخشري في الكشاف 3/472 وفيه: لا يقول الغضب أحلام.(/8)
[15] – داحضة بمعنى مدحوضة فاعلة بمعنى مفعولة، مثل دافق بمعنى مدفوق، وراضية بمعنى مرضية وساتر بمعنى مستور . وقال ابن كثير: وفيه غضب منه، وعذاب شديد يوم القيامة، التفسير 4/110. وقال ابن عباس: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام ومحاجتهم بالباطل. البحر المحيط 7/513.
[16] – في السنن 1/67 و2/435.
[17] – 2/79.
[18] – 190/223.
[19] – الترمذي.
[20] – المسند 2/242.
[21] – قال المفسرون: وهذه الكلمة هي المشار إليها في قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى 129 [طه].
[22] – أخرجه أبو داود في السنن 5/141/4748 وأحمد في المسند 4/226. فالغضب من الشيطان، والشيطان من نار، والماء يطفىء النار.
[23] – الترمذي 3450 عن ابن عمر.
[24] – مسند الإمام أحمد 1/239.
[25] – أخرجه البخاري 8/52/6114 ومسلم 2609 وأبو داود وأفمام أحمد في المسند 1/382 و2/236 و268 و517.
[26] – أخرجه البخاري 8/53/6116.
[27] – وهذه إشارة ضمنية إلى أن الطبع الغضبي لا يتغير ولا يتأتى لذلك النهي عنه، لذلك فهو أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.
[28] – راجع فيض القدير للمناوي 3/462، وكشف الخفاء للإمام العجلوني 1/353/1120 والسخاوي في المقاصد الحسن 303/397، والطبراني في معجمه 3/88.
[29] – سورة القصص، من الآية 38. هذا هو قمة الجهل والتردي في حمأة النرجسية والتشوه.
[30] – وهو بذلك يجحد فضل الله تعالى عليه ويتملكه الغرور ويستولي عليه البطر والغطرسة.
[31] – كظيم: كاظم، وهو الممسك على حزنه، لا يظهره ولا يشكوه. وقيل: هو المملوء كمداً وغيظاً ولكنه يكتمه في نفسه.
قال الألوسي: الأسف أشد الحزن على ما فات. روح المعاني 13/39 ـ 41. وقال الرازي في الكبير 18/93: الحزن الجديد يقوي الحزن القديم. وقد قال الشاعر القديم:
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي:
فإن يك البين يا ابن الطلح فرقنا إن المصائف يجمعن المصائب
وفي روح المعاني 13/39:
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع.
[32] – هذا النمط هو الجموح bogty temperment، وذلك باصطلاح علماء الطباع، ولكن لاشتراك لفظ الجموح مع المعنى اللغوي الذي مفاده السرعة والاندفاع، ولذلك رأى السيد الجميلي أن يسميه عند الأنبياء وغيرهم بالطبع المثالي.
[33] – وكانت النتيجة: أن عصى الإثنان ربهما وأكلا من الشجرة. قال تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ 22 [الأعراف].
[34] – تأمل قوله: لئن بسطت إلي ، حكاية عن قابيل، ويرد عليه هابيل: ما أنا بباسط يدي... والفرق البلاغي ظاهر الوضوح. قال العلماء: إثمي: إثم قتلي، وإثمك: لعدم صبرك علي. قال الزمخشري: كان هابيل أقوى من قابيل القاتل، لكنه تحرج من قتله خوفاً من الله الكشاف 1/485. وقال أبو حيان: أراد أن يقتل مظلوماً لا ظالماً من البحر. المحيط 3/463.
[35] – راجع التفسير الكبير للإمام الرازي 24/190 وما بعدها، وانظر ما قاله ابن عباس عن بلقيس: قالت لقومها: إن قبل سليمان الهدية فقاتلوه، فهو ملك يريد الدنيا، وإن رفضها فهو نبي صادق فاتبعوه ابن كثير في مختصره 2/671 وتفسيره 3/361. وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها بتصرف من القرطبي 13/194.
[36] – وقد بسط الإمام الألوسي قصة توليها المملكة وتنصيبها ملكة، وذكر أيضاً ـ كما نقل عن آخرين ـ أن أمها كانت جنية راجع روح المعاني 19/188 بتصرف .
د/ السيد إبراهيم الجميلي
كاتب ومفكر إسلامي وطبيب استشاري(/9)
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية
: "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " (آل عمران :59 )
هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الأول من سورة آل عمران , وهي سورة مدنية , ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائتي آية بعد البسملة . وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة امرأة عمران , وابنتها السيدة مريم أم عيسى ( عليهما السلام ) , كما تروي معجزة ميلاده من أم بغير أب , وتذكر عددا من المعجزات التي أجراها الله ( تعالي ) علي يديه .
ويدور المحور الرئيسي لسورة آل عمران حول حوار أهل الكتاب لتحديد عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وتشريعاتها .
وتستفتح السورة الكريمة بالحروف المقطعة الثلاثة الم التي جاءت في مطلع ست من سور القرآن الكريم . وقد سبق التعليق علي هذه المقطعات في عدد من المقالات السابقة , ولا أري ضرورة لتكرار ذلك هنا .
ويدور نصف السورة تقريبا ( من الآيات 1 ـ 85) في حوار أهل الكتاب ( ممثلين في وفد نصارى نجران الذي كان قد قدم المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة من أجل خاتم الأنبياء والمرسلين ( صلي الله عليه وسلم ) .
وتتضمن هذه الآيات الكريمة الإشارة إلي اليهود , وإلي خبث نواياهم , وكراهيتهم للحق وأهله , وتآمرهم علي غيرهم من الأمم , ومكرهم وخداعهم , كما تتضمن تحذير المسلمين منهم ومن دسائسهم ومؤامراتهم , ومؤامرات غيرهم من أهل الكفر والشرك والضلال الذين يدعمونهم , وأهل النفاق الذين يلتفون من حولهم .
وتؤكد سورة آل عمران ضرورة الإيمان بجميع الرسالات السماوية , وبجميع أنبياء الله ورسله دون أدني تفريق لأن رسالتهم جميعا واحدة وهي الإسلام العظيم الذي بعث به كل نبي وكل رسول وفي ذلك يقول ربنا ( تبارك وتعالي ) :
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (آل عمران :19)
ويقول ( عز من قائل ) :
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( آل عمران :85)
وقد جاء الخطاب إلي أهل الكتاب في ( قرابة السبعين ) آية (من الآية 18 إلي 85) نختار منها قول ربنا ( تبارك وتعالي ):
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( آل عمران :64)
وبعد ذلك تحدثت الآيات في سورة آل عمران عن عقاب المرتدين , وحكم الله ( تعالي ) فيهم , ودعت إلي الإنفاق في سبيل الله , وحذرت من تحريف اليهود للتوراة , وأمرت باتباع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
وأشارت السورة الكريمة إلي الكعبة المشرفة بصفتها أول بيت وضع للناس , وأكدت فريضة الحج علي المستطيع من المسلمين , وكررت من عتاب أهل الكتاب , كما عتبت علي كفار قريش كفرهم وضلالهم بينما آيات الله تتلي عليهم وفيهم خاتم أنبيائه ورسله ( صلي الله عليه وسلم ) , وأوصت بتقوي الله ( سبحانه وتعالي ) في السر والعلن , وبضرورة الاعتصام بحبله جميعا , ونهت عن فرقة الكلمة , وذكرت العباد بنعم الله ( تعالي ) عليهم , ودعت إلي نفرة أمة الإسلام للدعوة إلي الخير , وإلي الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر , ووصفت الذين يستجيبون لهذا النداء الإلهي بأنهم هم المفلحون .
وتحدثت سورة آل عمران عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة وجزائه , وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق , أنزله بالحق علي خاتم أنبيائه ورسله ( صلي الله عليه وسلم ) , وأنه هدي وموعظة للمتقين . وخاطبت أمة الإسلام بقول ربنا ( تبارك وتعالي )
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... (آل عمران :110)
وبعد ذلك انتقلت سورة آل عمران إلي الحديث عن غزوة أحد , وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم لأوامر رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) في ساحة المعركة , وذكرت بانتصارات بدر , وبمبررات ذلك الانتصار , وصاغت تلك الأحداث صياغة ربانية معجزة لا تتوقف عند حدود وصف المعركتين وصفا مجردا , ولكن تتجاوز ذلك إلي توجيهات ربانية دائمة في بناء الجماعة الإسلامية , وتوضيح سنن الله في النصر والهزيمة إلي يوم الدين , مؤكدة أن لله ما في السماوات وما في الأرض , وأن الله تعالي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وأنه غفور رحيم . وتنهي هذه السورة الكريمة عن أكل الربا , وتحذر من عذاب النار , وتأمر بطاعة الله ورسوله , وبالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله , وسؤاله الجنة التي أعدت للمتقين الذين أوردت شيئا من صفاتهم , وتوصي بالسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب المكذبين الذين كذبوا رسل الله وحاربوا دينه وأولياءه .(/1)
ثم عاودت سورة آل عمران إلي التذكير بغزوة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين , مؤكدة لهم أنهم هم دائما الأعلون ما داموا علي إيمانهم بالله , علي الرغم من تعرضهم لشيء من النكسات في بعض الأوقات لأن النصر والهزيمة من سنن الله في الحياة , لكل منها قوانينه , وأن الأيام دول يداولها الله ( سبحانه وتعالي ) بين الناس لحكمة يعلمها بعلمه المحيط لعل منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء , وأن يميز المؤمنين من المنافقين , وأن يطهر المؤمنين بشيء من الإبتلاء والتمحيص مما قد يقعون فيه من الذنوب , ويهلك كلا من الكافرين والمشركين والطغاة المتجبرين بذنوبهم , والله ( تعالي ) لا يحب الظالمين من المعتدين , كما لا يحب المتخاذلين في الدفاع عن دمائهم , وأعراضهم , ومقدساتهم , وممتلكاتهم , وأراضيهم , وعن الحق وأهله . وهذا الخطاب كما كان لرسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) وأصحابه وأهل زمانه , هو خطاب لكل من آمن به من بعده إلي يوم الدين .
وتؤكد هذه السورة الكريمة بشرية سيدنا محمد ( صلي الله عليه وسلم ) وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل لا يجوز لأي ممن آمن به واتبعه أن يرتد عن ذلك بعد موته , فرسالته خالدة , باقية إلي يوم الدين لأن الله ( تعالي ) قد تعهد بحفظها . وتؤكد الآيات أن من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا , ولكنه يهلك نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه .
وتنتقل الآيات إلي الحديث عن قضية الأجل مؤكدة أن الله ( تعالي ) قد جعل لكل نفس أجلا محددا لا تموت إلا عنده , وقد جعل الله ( تعالي شأنه ) الأجل غيبا لا يعلمه إلا هو ( سبحانه وتعالي ) حتي لا تتوقف عجلة الحياة , وحتي يتجاوز المسلم حاجز الخوف من الموت فيتقدم إلي مواكب الشهادة في سبيل الله دون وجل أو مهابة .
وتؤكد الآيات في سورة آل عمران أن من قصد بعمله أجر الدنيا أعطاه الله إياه , وليس له في الآخرة من نصيب , وأن من قصد بعمله أجر الآخرة أعطاه الله تعالي أجري الدنيا والآخرة . وأن الله ( سبحانه وتعالي ) يجزي عباده بحسب شكرهم لنعمه , واعترافهم بعظيم فضله , وإن كانت هذه أحكاما عامة إلا أن فيها تعريضا واضحا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناء شدة القتال في غزوة أحد فتسببوا في عدم إتمام النصر الذي بدا في أول الأمر محققا للمسلمين .
ثم تنتقل الآيات إلي الحديث عن العلماء الربانيين , والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله من أجل إعلاء دين الله واقامة عدله في الأرض , فقتل منهم من قتل شهيدا , وأصيب من أصيب , ولكنهم لم يذلوا لعدوهم أبدا , ولم يخضعوا له , واحتسبوا وصبروا في كل ما مر بهم من الشدائد والمحن ولذلك امتدحهم القرآن الكريم بقول ربنا ( تبارك وتعالي ):
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ( آل عمران :146 ـ 148)
وتعاود السورة المباركة إلي التحذير من موالاة كل من الكافرين والمشركين , مؤكدة أن الله ( تعالي ) هو مولي المؤمنين , وهو خير الناصرين الذي يعدهم النصر بقوله الحق :
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوي الظالمين ( آل عمران :151)
ومرة أخري تستعرض الآيات (152 ـ 175) أحداث معركة أحد بهدف تربية المسلمين , وتحذيرهم من مزالق الطريق , وتنبيههم إلي ما يمكن أن يحيط بهم من كيد الكفار والمشركين كالذي أحاط بهم في القديم والذي يحيط اليوم بجميع المسلمين , وفي ذلك يحاول الشيطان أن يعين أولياءه كي يجعل منهم مصدر إرهاب وتخويف للمؤمنين , والخوف لا يجوز أن يكون إلا من رب العالمين .
وتطلب الآيات من رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) ألا يحزن علي الذين يسارعون في الكفر لأنهم لن يضروا الله شيئا في الوقت الذي يضرون أنفسهم ضررا بليغا , ويريد الله ( سبحانه وتعالي ) ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم . وإمهالهم في الدنيا , والتمكين لهم فيها ليس من صالحهم لإزديادهم في المعاصي والآثام مما يجعلهم أهلا لمضاعفة العذاب في الآخرة . وعلي النقيض من ذلك فإن ابتلاء الله ( تعالي ) لصفوف المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب ( وهو أعلم بهم ), وليظهر ذلك لمن يشاء من عباده كما فعل في معركة أحد , وفي ذلك يقول :
ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ( آل عمران :179)
وتدعو الآيات إلي الإيمان بالله وتقواه , وببذل المال في سبيل الله , وتتوعد الذين يبخلون بقول ربنا ( تبارك وتعالي ):(/2)
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (آل عمران 180 )
ثم تعاود الآيات إلي ذكر شيء من جرائم اليهود المروعة , ودسائسهم الخبيثة , وأساليبهم الملتوية , وتطاولهم الكاذب علي الله ( تعالي ) وعلي غيرهم من الخلق , ومحاربتهم دين الله , وأولياءه وأنبياءه , ورسله , ونقضهم العهود والمواثيق , ونشرهم المعلومات الكاذبة والأباطيل والأساطير , والإشاعات المختلقة المزيفة , والادعاءات الباطلة ( قاتلهم الله ).
وتنطلق الآيات إلي تأييد خاتم الأنبياء والمرسلين ( صلي الله عليه وسلم ) في وجه المكذبين لدعوته ولبعثته الشريفة فتقول :
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( آل عمران :184)
وتؤكد السورة الكريمة أن الفناء هو مصير الخلائق , وأن الموت مكتوب علي كل نفس , وأن جزاء الأعمال سوف يوفي كاملا يوم القيامة , وأن الإبتلاء من سنن الحياة , ولا يملك الإنسان في مواجهته أفضل من الصبر الاحتساب , وتقوي الله ( تعالي ) وذلك كله من عزم الأمور .
وتعاود الآيات للمرة الثالثة إلي استعراض بعض مخازي بني إسرائيل ومنها كتم ما أنزل عليهم , ونبذه وراء ظهورهم , وبيعه بالحقير من حطام الدنيا الفانية . وتختتم سورة آل عمران بتوجيه الناس جميعا إلي التأمل في خلق السماوات والأرض , واستخلاص شيء من صفات الخالق العظيم بالتعرف علي بديع صنعه في خلقه , وتدعوهم لتكثيف الدعاء إلي الله ( تعالي ) والرجاء من فضله بالنجاة من النار , ومن خزي يوم القيامة , والمغفرة من الذنوب , وتكفير السيئات , ورفع الدرجات , والاستجابة إلي كل ذلك من فيض كرم الله ( تعالي ), وفي ختام هذه السورة المباركة أيضا يأتي الخطاب إلي رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) وإلي جميع المسلمين من بعده ألا يغتروا بتقلب الذين كفروا في البلاد في شيء من النعم المادية والجاه والسلطان , وذلك لأن متاع الدنيا قليل , ومن ثم لابد أن ينتهي بهم إلي جهنم وبئس المصير , بينما الصالحون المتقون قد يعيشون في الدنيا عيشة الفقراء , وحياة الابتلاء ثم تنتهي بهم هذه الحياة إلي نعيم الآخرة الأبدية الخالدة وما أعد الله ( تعالي ) لهم فيها من خير كثير .
وتعاود السورة الكريمة في ختامها إلي ذكر أهل الكتاب بمن اهتدي منهم ومن حقت عليه الضلالة , فالذين اهتدوا إلي دين الله , وآمنوا بخاتم أنبيائه ورسله ( صلي الله عليه وسلم ), وبالقرآن الكريم الذي أنزل إليه , فمن الله ( سبحانه وتعالي ) عليهم بالخشوع لجلاله , والخضوع لأوامره , واجتناب نواهيه , والاعتزاز به وتعظيمه , فأكرمهم بأن لهم أجرهم عند ربهم , وتقفل سورة آل عمران بوصية من الله ( تعالي ) إلي عباده المؤمنين يقول لهم فيها :
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون . ( آل عمران :200)
وهذه الوصايا الربانية هي عدة المؤمن في مواجهة أهل الباطل في كل عصر وفي كل حين .
من الآيات الكونية في سورة آل عمران
1 ـ الإشارة إلي أن الله ( تعالي ) هو الذي يصور الخلق في أرحام الأمهات كيف يشاء .
2 ـ التعبير عن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بظاهرتي ولوج الليل في النهار , وولوج النهار في الليل .
3 ـ تشبيه دورة الحياة والممات والبعث بإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي .
4 ـ التأكيد علي خلق كل من آدم وعيسي ابن مريم ( عليهما السلام ) من تراب , ثم قيام كل منهما بالأمر الإلهي : كن فيكون ,
5 ـ ذكر حقيقة أن .. أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين
6 ـ التأكيد علي أن لله ما في السماوات وما في الأرض وأن إليه ترجع الأمور .
7 ـ الإشارة إلي حقيقة أن كل نفس ذائقة الموت , وأن الموت كتاب مؤجل لا يحل إلا بإذن الله .
8 ـ التلميح إلي قضية نفسية مهمة لم تعرف إلا مؤخرا وهي معالجة الغم بغم جديد من أجل تخفيفه .
9 ـ التأكيد علي أن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار فيهما آيات لأولي الألباب , وأن التفكير في مثل هذه القضايا من وسائل التعرف علي الخالق العظيم , وعلي شيء من صفاته العليا وقدراته التي لا تحدها حدود .
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة , ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة والتي تتعلق بالتأكيد علي خلق كل من آدم وعيسي ابن مريم ( عليهما السلام ) من تراب ثم قيام كل منهما بالأمر الإلهي : كن فيكون .
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يؤكد ربنا تبارك وتعالي في محكم كتابه أن الخلق الأول لأبينا آدم ( عليه السلام ) قد تم بمعجزة وذلك بالأمر الإلهي كن فيكون , ولحكمة يعلمها الله ( تعالي ) تم هذا الأمر علي عدد من المراحل المتتالية كما يلي :
(1) من تراب ( آل عمران /59, الكهف /37, الحج /5, الروم /20, فاطر /11. غافر /67)(/3)
(2) ثم من طين وهو التراب المعجون بالماء ( الأنعام /2, الأعراف /12, السجدة /7, ص /76,71, الإسراء /61)
(3) ثم من سلالة من طين أي من خلاصة منتزعة من الطين برفق ( المؤمنون /12)
(4) ثم من طين لازب أي لاصق بعضه ببعض ( الصافات /11)
(5) ثم من صلصال من حمأ مسنون أي أسود منتن ( الحجر /33,28,26)
(6) ثم من صلصال كالفخار ( الرحمن /14)
(7) ثم نفخ الله ( تعالي ) فيه من روحه فأنشأت نسمة الروح مراد الله ( سبحانه وتعالي ) من خلقه . ويجمل القرآن الكريم هذه المراحل كلها بالإشارة إلي خلق الإنسان من الأرض ( هود /61, طه /55, النجم /32, نوح /18,17), ومن الماء ( الفرقان /54)
ويتحدث القرآن الكريم عن تسلسل النسل بالتكاثر , والمادة أصلا هي تراب الأرض ونفخة الروح , ويجمل ذلك في تعبير من ذكر وأنثي ( الحجرات /13) كما يجمله في الماء ( الفرقان /54), وفي الماء الدافق ( الطارق /6), وفي الماء المهين ( المرسلات /20), وفي سلالة من ماء مهين ( السجدة /8), ومن نطفة ( النحل /4, يس /77, عبس /19), ومن نطفة إذا تمني ( النجم /46), ومن نطفة أمشاج ( الإنسان /2), ومن علقة ( القيامة /38, العلق /2), ومن مضغة مخلقة وغير مخلقة ( الحج :5), ويجمع المراحل كلها حتي انشاء الجنين خلقا آخر ( الحج :5, المؤمنون :12 ـ 14) ويضمها في تعبير خلقا من بعد خلق ( الزمر /6), وفي تعبير أطوارا ( نوح /14), وفي أحسن تقويم ( التين /4). ويرد الخلق كله إلي الخلق الأول لأبينا آدم ( عليه السلام ) في تعبير من نفس واحدة ( النساء /1, الأعراف /189, الزمر /6), ويشير إلي خلق أمنا حواء من هذه النفس الواحدة ( أبينا آدم عليه السلام ) بقول ربنا ( تبارك وتعالي ):
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( النساء :1)
وقوله ( عز من قائل ):
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها .. ( الأعراف :189)
وقوله ( جلت قدرته ):
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها .. ( الزمر :6)
والنفس الواحدة هي آدم ( عليه السلام ) الذي خلقه الله ( تعالي ) أصلا من تراب , وفي ذلك يقول المصطفي ( صلي الله عليه وسلم ): إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض , فجاء بنو آدم علي قدر الأرض : جاء منهم الأحمر , والأبيض , والأسود وبين ذلك , والخبيث والطيب وبين ذلك
( أخرجه كل من الإمام أحمد , وأبو داود , والترمذي )
وعملية الخلق بأبعادها الثلاثة : خلق الكون , وخلق الحياة , وخلق الإنسان عملية غيبية غيبة كاملة عنا حيث لم يشهدها أي من الإنس أو الجن وفي ذلك يقول ربنا ( تبارك وتعالي ):
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( الكهف :51)
ولكن الله ( تعالي ) الذي قرر هذه الحقيقة يطالبنا في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم بان نتفكر في كيفية الخلق , ومن ذلك قوله عز من قائل :
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ( البقرة :164)
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( آل عمران :191,190)
أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير ( العنكبوت :20,19)
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( غافر :57)
ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو علي جمعهم إذا يشاء قدير ( الشوري :29)
والجمع بين هذه الآيات يشير إلي أنه علي الرغم من أن عملية الخلق قد تمت في غيبة الإنسان , إلا أن الله ( تعالي ) ـ من رحمته بنا ـ قد ترك لنا في أنفسنا , وفي صخور الأرض من حولنا , وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ علي الوصول إلي تصور ما عن كيفيات الخلق . ولكن هذه التصورات تبقي قاصرة , عاجزة , ومنقوصة في غيبة الاستهداء بالنصوص الواردة في كتاب الله وفي سنة رسوله ( صلي الله عليه وسلم ) عن ذلك .(/4)