3- يتجه الناس بسرعة نحو المخرج والفكاك من الأزمة، وأحياناً تُوقِعُهم السرعة والعجلة في أزمة أخرى.. لهذا ينبغي أن تكون حلولهم مدروسة، وأطروحاتها معتدلة مع وعي كبير بتداعياتها على المجتمع.. ومع التأكيد على الأناة والتؤدة في التفكير والتخطيط للأزمة، يجب التأكيد على السرعة والمبادرة في التنفيذ والعمل لتلك الحلول وهذه العلاجات.. وهذا هو دور أهل الحل والعقد من ولاة الأمر والعلماء الثقات في بيان الحل والمخرج من تلك الأزمات، ولا آكد من أهمية إرشاد الناس بالواقع الحقيقي للأزمة والموقف الصحيح منها، والمبادرات المطلوبة من الأفراد والمؤسسات تجاهها؛ لأن تأخير البيان عن وقت حاجته مدعاة للفتنة والبلبلة في الصفوف, كما أن البطالة والفراغ فيها قد تؤدي ببعض الناس إلى أنواع من الجدال والمراء والنقاشات والاختلافات الحادّة، وربما الاحتراب فيما بينهم أحياناً.. كما ينبغي التأكيد الدائم على وحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية للمجتمع والاستعانة بأهل المشورة والرأي في الأمة، وليس من الحكمة تهميش أهل التأثير والقوى الفاعلة في المجتمع مهما بلغوا من الاختلاف والتضاد.. كما أن التشاغل أحياناً بخطر الأزمة الخارجي يجب ألاّ يكون على حساب الوحدة الداخلية وضرورة تماسكها.. ولعل من فقه الأولويات، وفهم طبيعة المرحلة ألاّ تنشغل النخب، وتكرس دورها في بيان الأخطاء وتوجيه التهم لمن كان وراء هذه الأزمة، أو تلك حتى ولو كانت من باب المناصحة؛ لأن النظر إلى مآلاتها السلبية قد تفاقم الأزمة داخلياً، وتشتت الجهود المبذولة في دفع الخطر الخارجي أو تقليله.
4- من المقرر شرعاً أنه ليس في الدنيا شر محض كما أنه ليس فيها خير محض ..و(عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، وقد يكون في طرف الأزمات نوع من البشارات، والإنسان عبر تاريخه الطويل- لمن تأمل - يجد أن تقدُّمه ورُقيَّه في كثير من الأحيان كان نتيجة أزمة مرَّ بها في حياته, فتّقت ذهنه إلى الكثير من المخترعات والمكتشفات النافعة لحياة الناس ..
وبما أننا نعيش في عالم متغير متقارب كثير الاضطراب أصبحت أزماته السياسية لو قدّر حصولها في أقصى الغرب لتضوّر لها جوعاً من كان في أقصى الشرق، وربما يؤدي انهيار شركة ما أو إفلاسها إلى بطالة أو غلاء أو فقر في قطر آخر من العالم.. ولهذا فالأزمات تزداد كثرة وتعقيداً مهما حاولنا الانعزال الصوري عنها ..
فالتوعية الدائبة والتربية المستمرة على كيفية التعامل الإيجابي مع الأزمات وخصوصاً في أوقات السلم والرخاء هو واجب المرحلة الراهنة للمؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية.. ومتى قامت هذه المؤسسات بدورها الوقائي فإننا سنخفف وبشكل كبير آثار الدعة والترف واللامبالاة التي أُصيبت بها كثير من مجتمعاتنا المعاصرة.
أما نُخبنا المثقفة فأتمنى أن يكون جوابهم حول السؤال المكرور عن الأزمات: ما هو المخرج من الأزمة؟ أن يتحوّل وينعكس إلى البحث عن المدخل في الأزمة. بكل صور الاستفهام المنطقي وأدواته.. عندها سوف نحدّد موقعنا ونعرف قوتنا ونأخذ عدتنا للمقاومة والتقدّم والارتقاء.(/2)
الأسئلة بين الروح والمهارة والإرشاد
د. جمال بادي 12/10/1425
25/11/2004
لقد قرأت واستمتعت بقراءة مقال "إرشاد الأسئلة" للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكّار وفقه الله، والموضوع حيوي ومهم. ورغم بقاء الجزء الثاني من المقال أيامًا على صفحات الشبكة الدولية إلا أنه لم يحظ بأي تعليق أو تساؤل. فهل سبب ذلك راجع إلى قلّة زوّار الموقع هذه الأيام لانشغال الناس بالعيد؟ أم أنه راجع لقلّة من قرأ المقال وتأثر به؟ وقد يكون الأمر متعلقًا بموضوع هذا التعليق وهو مجرد احتمال.
وأريد إضافة جانبين آخرين لموضوع "الأسئلة"، و "التساؤل"، وهما مرحلتان تسبقان مرحلة "الإرشاد" ولا سبيل لإرشاد الأسئلة بدونهما.
المرحلة الأولى:
تفعيل "روح التساؤل" عند المسلمين، وهي مرحلة الرغبة في التساؤل والإيمان بأهميته وإدراك دوره الفعّال في الفكر والتربية والتعليم والتعلم. هذه الروح الغائبة أو الضعيفة بين المسلمين عمومًا وبين المثقفين والمربين وطلبة العلم والدعاة على وجه الخصوص تطرح تساؤلاً خطيرًا ومهمًا ألا وهو: ما أسباب انعدام أو ضعف هذه الظاهرة؟ ومن المسؤول عنها؟ هل هو التعليم بمناهجه ومقرراته وطرقه وأساليبه؟ أم هو البيت والأسرة والوالدان تحديدًا؟ أم هي البيئة؟ أم هي الثقافة بالشكل الذي آلت إليه في عالمنا الإسلامي في هذا الزمن؟ أم هي تلك الأسباب مجتمعة؟
لا بدّ من تقرير حقيقة مهمة هنا وهي أنّ التكيف مع الأنظمة والآليات والمناهج - رغم ما قد يكون فيها من قصور - تحجب الرؤية عن أولئك المتكيفين عن الحاجة إلى تطويرها، وهو مما يزيد في عمر تلك الآليات لعدد من السنين بل والعقود قبل التفطن لضرورة تطويرها.
وهناك حقيقة أخرى تنبني على السابقة وهي أن استمرار الآليات والمناهج والوسائل والأنظمة في الإنتاج والعطاء لا يدل بحال على أنها الأفضل والأمثل دائمًا. ومن هنا فإن التحدي المبدع الذي يتساءل عن البدائل والإمكانيات والخيارات الأخرى لتيسير العمل والقيام به أو تطويره نحو الأفضل يعدّ سبيلاً ناجعًا لتجاوز عقبة العامل النفسي بالرضا بالروتين القائم وقبوله على أنه الخيار الأوحد والأمثل.
إنه ما لم يحس ويشعر أبناء أمتنا والجيل المسلم المعاصر بأهمية وضرورة "روح التساؤل" وما لم يدركوا دورها الإيجابي والفعّال في التعليم والتعلم والتطور والرقي نحو الأفضل فلن نتوقع منهم العناية بامتلاك المهارات اللازمة لإحيائها وتفعيلها وقد لا ترشدهم الأسئلة إلى شيء مثمر ومفيد ولو طُرِحت عليهم من المربين والمفكرين والمثقفين. وهذا يقودنا إلى الحديث عن المرحلة الثانية من مراحل "الأسئلة" ألا وهي مرحلة "امتلاك مهارات التساؤل". فالتساؤل الذي نروم ونقصد هو التساؤل الذي يقود إلى التفكير الهادف، وإعمال العقل بشكل متزن، وحسن الإدراك والفهم، ويعين على حل المعضلات وتجاوز العقبات والتحديات، ويساعد على إبداع المفاهيم والأفكار النافعة التي ترسي دعائم الحضارة وأسس المعروف والفضيلة في زمان انفلت فيه زمام الأمور، وانقلبت فيه الموازين، وولجت فيه – خلسة - القيم الغريبة الوافدة بيوت المسلمين عبر نوافذ شبكات العنكبوت والشاشات الفضائية مستهدفة عقولَهم وقلوبَهم.
وهنا لي وقفات:
الوقفة الأولى: إن الناظر إلى نوعية الأسئلة المستعملة – في الغالب الأعم - في فصولنا وكتبنا الدراسية، وبرامجنا الفضائية يدرك تمامًا محدوديّتها في التأثير وإيجاد مجتمع مبدع. فهي أسئلة لا تحتاج من التفكير وإعمال العقل سوى استدعاء محفورات الذاكرة أو الرجوع صفحة إلى الوراء في الكتاب ليجد الناشئ أو الطالب إجابة السؤال بحذافيره، ويا لَسعادته! ويكفي ليكون الطالب متميزًا أن يحفظ مفردات المقرر ولو بدون فهم ووعي وإدراك ليتحصل على الامتياز ويهش لنتيجته "الرائعة" أستاذه وذووه!
الوقفة الثانية: إن العجب لا ينقضي من أمة حالها ما وُصِف في الوقفة السابقة، وقد احتوى دستورها الخالد "القرآن الكريم" أكثر من ألف سؤال ( 1) حيث يتعدد التساؤل في بعض السور أكثر من (15) مرة نحو ما ورد في سورة الطور (30 – 43). بل في كثير من السور يتعدد التساؤل ثلاث مرات في الآية الواحدة.( 2) والأمر نفسه يُقال عن السنة النبوية ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وإقامة الحجة حيث يكثر صلى الله عليه وسلم من استعمال الأسئلة كوسيلة للتعليم والتربية والإرشاد والأمر والنهي. وهي ظاهرة فريدة تستحق أن يفرد لها رسائل متخصصة في مراحل الدراسات العليا بجامعاتنا لبيانها وتجليتها وتحليلها بل واستنباط أفضل أنواع مهارات التساؤل على الإطلاق منها.(/1)
الوقفة الثالثة: توجد بعض الدراسات -وإن كانت قليلة- حول مهارات التساؤل في عالمنا الإسلامي، ولكنها لا تفي بالغرض ونحن في حاجة إلى المزيد منها ولا مانع من الإفادة من الدراسات المعرفية الكثيرة جدًا والمفيدة عند غير المسلمين في هذا المجال من قبل متخصصين من ذوي الكفاءة والخبرة مع التأكيد على ضرورة مراعاة قيمنا وعقائدنا وهويتنا.
الوقفة الرابعة: إن إتقان "مهارات التساؤل" كما هي ضرورية للعالم والأستاذ والمربي والمثقف فهي أيضا ضرورية لطالب العلم والتلميذ والمتلقي. فلا بد لكل معلم ومربٍ من أن يعوّد طلابه وتلاميذه على التساؤل، ويزرع فيهم هذه الروح، وأن يحرص كل الحرص أن يمتلكوا مهاراتها اللازمة، وأن يشجعهم على طرح الأسئلة المفيدة التي تثير الذهن، وتحرضه على التفكير السليم، وتربيه على الإبداع، وتحصنّه من الانقياد والانبهار للأفكار الخدّاعة المبهرجة التي تشرّق وتغرّب، والتي أصبحت تزاحم المنتجات المادية عددًا بحثًا عن غرّ غافل يتقمصها.
إذا نجحنا في إعداد جيل مسلم يملك – إلى جانب الاعتزاز بدينه وقيمه والثبات عليه - روح التساؤل ويمتلك مهاراته فذلك هو الجيل الذي سترشده الأسئلة.1- يوجد بالقرآن الكريم وفق تقدير بعض الدراسات العلمية في جامعة الأزهر ألف ومائتا سؤال.
2- سورة النور آية 50.(/2)
الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس
يتناول الدرس الأساليب المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية التعامل مع أخطاء الناس كالمسارعة إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله، و معالجة الخطأ ببيان الحكم،و ردّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه،و بيان مضرة الخطأ، إلى غير ذلك من الأساليب النبوية في هذا الباب .
'1' المسارعة إلى تصحيح الخطأ وعدم إهماله : ومسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تصحيح أخطاء الناس واضحة في مناسبات كثيرة: كقصة المسيء صلاته، وقصة المخزومية، وابن اللتبية، وقصة أسامة، والثلاثة الذين أرادوا التشديد والتبتل، وغيرها، وستأتي هذه القصص في ثنايا هذا البحث إن شاء الله . وعدم المبادرة إلى تصحيح الأخطاء قد يفوّت المصلحة، ويضيّع الفائدة، وربما تذهب الفرصة، وتضيع المناسبة، ويبرد الحدث، ويضعف التأثير .
'2' معالجة الخطأ ببيان الحكم: فعن جَرْهَدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ'رواه الترمذي .
'3' ردّ المخطئين إلى الشرع وتذكيرهم بالمبدأ الذي خالفوه: في غمرة الخطأ وملابسات الحادث يغيب المبدأ الشرعي عن الأذهان، ويضيع في المعمعة فيكون في إعادة إعلان المبدأ والجهر بالقاعدة الشرعية ردّ لمن أخطأ، وإيقاظ من الغفلة التي حصلت، وإذا تأملنا الحادثة الخطيرة التي وقعت بين المهاجرين والأنصار بسبب نار الفتنة التي أوقدها المنافقون؛ لوجدنا مثالا نبويا على ذلك، فعن جَابِر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:'مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ' ثُمَّ قَالَ:'مَا شَأْنُهُمْ' فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ' رواه البخاري .وفي رواية مسلم:'وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ'
'4' تصحيح التصور الذي حصل الخطأ نتيجةً لاختلاله:فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:'أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي'رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد . ونلاحظ هنا ما يلي: أن الأخطاء عموما تنشأ من خلل في التصورات، فإذا صلح التصور قلّت الأخطاء كثيرا، وواضح من الحديث: أن السبب الذي دفع أولئك الصحابة إلى تلك الصور من التبتّل والرهبانية والتشديد هو ظنّهم أن لابد من الزيادة على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم رجاء النجاة حيث أنه أُخبر من ربه بالمغفرة بخلافهم، فصحح لهم النبي صلى الله عليه وسلم تصورهم المجانب للصواب، وأخبرهم بأنه مع كونه مغفورا له فإنه أخشى الناس وأتقاهم لله، وأمرهم بأن يلزموا سنته، وطريقته في العبادة .(/1)
ومن الخلل في التصورات ما يكون متعلقا بموازين تقويم الأشخاص والنظرة إليهم: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم حريصا على تصحيح ذلك وبيانه:فعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ:'مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا'فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا 'فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ' رواه البخاري وابن ماجه .
'5' معالجة الخطأ بالموعظة وتكرار التخويف: عن جنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّهُمُ الْتَقَوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ وَإِنَّ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ قَالَ وَكُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ:'لِمَ قَتَلْتَهُ' قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلَ فُلانًا وَفُلانًا وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'أَقَتَلْتَهُ' قَالَ نَعَمْ قَالَ:' فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ:'وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' قَالَ فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ:'كَيْفَ تَصْنَعُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' رواه مسلم .
ومما يدخل في مواجهة الخطأ بالموعظة: التذكير بقدرة الله، وهذا مثال: عن أَبُي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قال:كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي:' اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ' فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:' اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ' فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي- وفي رواية: فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ- فَقَالَ:' اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ' فَقُلْتُ لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا- وفي رواية:فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ:' أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ ' رواه مسلم والترمذي وأبوداود وأحمد .
'6' إظهار الرحمة بالمخطئ: وهذا يكون في حال من يستحقّ، ممن عَظُم ندمه، واشتد أسفه، وظهرت توبته مثلما يقع أحيانا من بعض المستفتين كما في مثل هذه القصة: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ ظَاهَرْتُ مِنْ زَوْجَتِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ فَقَالَ:'وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ' قَالَ رَأَيْتُ خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ قَالَ:'فَلا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ'رواه الترمذي وابن ماجه .(/2)
وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ:'مَا لَكَ' قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا'قَالَ لا قَالَ:'فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ' قَالَ لَا فَقَالَ:' فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا'قَالَ لا ، فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ:' أَيْنَ السَّائِلُ' فَقَالَ أَنَا قَالَ:'خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ' فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ:' أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ' رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والترمذي ومالك والدارمي وأحمد . إن هذا المستفتي المخطئ لم يكن هازلا ولا مستخفا بالأمر بل إن تأنيبه نفسه وشعوره بخطئه واضح من قوله:' هلكت '، ولذلك استحق الرحمة ورواية أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لحال الرجل عند مجيئه مستفتيا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ يَلْطِمُ وَجْهَهُ وَيَنْتِفُ شَعَرَهُ وَيَقُولُ مَا أُرَانِي إِلا قَدْ هَلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'وَمَا أَهْلَكَكَ ...'الحديث .
'7' عدم التسرع في التخطئة: وقد حدثت لعمر رضي الله عنه قصة رواها بنفسه، فقال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ' فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 'كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ' ثُمَّ قَالَ:' اقْرَأْ يَا عُمَرُ ' فَقَرَأْتُ الْقِرَاءةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبوداود ومالك وأحمد . ومن الفوائد التربوية في هذه القصة: أن على طالب العلم أن لا يستعجل بتخطئة من حكى قولا يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت فربما يكون ذلك القول قولا معتبرا من أقوال أهل العلم .(/3)
ومما يتعلق بهذا الموضوع أيضا: عدم التسرع في العقوبة وفي القصة التالية شاهد: عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِي الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَأَخَذَ كِسَائِي وَضَرَبَنِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ:' مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا' فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِي فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلا وَلا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءهُ' وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَسْقٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ .رواه النسائي وأبوداود وابن ماجه وأحمد، وهو في صحيح النسائي . ويُستفاد من هذه القصّة أنّ معرفة ظروف المخطئ أو المتعدي يوجّه إلى الطريقة السليمة في التعامل معه، وكذلك يُلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعاقب صاحب البستان؛ لأنه صاحب حقّ وإنما خطّأه في أسلوبه ونبهه بأنّ تصرّفه مع من يجهل لم يكن بالتصرّف السليم في مثل ذلك الموقف، ثمّ أرشده إلى التصرّف الصحيح، وأمره بردّ ما أخذه من ثياب الجائع .
'8' الهدوء في التعامل مع المخطئ: وخصوصا عندما يؤدي القيام عليه والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة، ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد كما جاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'لا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ' فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ:' إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ' أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَمَرَ رَجُلا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. رواه مسلم .
لقد كانت القاعدة التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الخطأ: التيسير وعدم التعسير، فقد جاء في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ' .إن هذا الأسلوب الحكيم في المعالجة قد أحدث أثرا بالغا في نفس ذلك الأعرابي يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلا تَغْفِرْ لأَحَدٍ مَعَنَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا ثُمَّ وَلَّى حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَجَ ' فرّج ما بين رجليه ' يَبُولُ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ فَقَامَ إِلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ فَقَالَ:'إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لا يُبَالُ فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلصَّلاةِ ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ فَأُفْرِغَ عَلَى بَوْلِهِ' وقد ذكر بن حجر رحمه الله تعال منى فوائد حديث الأعرابي: 'الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا ولا سيما إن كان ممن يُحتاج إلى استئلافه ' .(/4)
'9' بيان خطورة الخطأ:ففي غزوة تبوك قال رجل: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء . يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء . فقال عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : }قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ'65'{ سورة التوبة وما يلتفت إليه وما يزيد عليه .' الصحيح المسند من أسباب النزول صـ 71 '.
'10' بيان مضرة الخطأ: عن أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ' فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. وفي رواية:حَتَّى إِنَّكَ لَتَقُولُ لَوْ بَسَطْتُ عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَعَمَّهُمْ . رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني .
ومن الأمثلة أيضا على بيان مضرة الخطأ وخطورته:حديث:'لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ' رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد .
وعن أنس رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:'رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَى الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ- أي الغنم السود الصغار-' رواه النسائي وأبوداود، وصححه الألباني. فتبيين مفاسد الخطأ وما يترتب عليه من العواقب أمر مهم في الإقناع للمخطئ.
وقد تكون عاقبة الخطأ على المخطئ نفسه وقد تتعدى إلى آخرين: فمن الأول : ما رواه ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ- وَقَالَ مُسْلِمٌ: إِنَّ رَجُلا نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَنَهَا- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' لا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ' رواه أبو داود والترمذي، وهو في صحيح أبي داود .
ومثال الثاني : ما رواه عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي رواية لمسلم: فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي كَذَا وَكَذَا – فَقَالَ:' وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ مِرَارًا- ثُمَّ قَالَ- مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ' رواه البخاري ومسلم .وفي رواية عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ فَقَالَ:'أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ' رواه البخاري ومسلم وأحمد .
فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هنا لهذا المبالغ في المدح المخطئ فيه عاقبة خطئه وذلك أن الزيادة في الإطراء تُدخل في قلب الممدوح الغرور؛ فيتيه بنفسه كبرا أو إعجابا. وربما يفتر عن العمل متواكلا على الشهرة الآتية من المدح، أو يقع في الرياء لما يحسّه من لذة المدح، فيكون في ذلك هلاكه، وهو ما عبّر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله:'أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ' ثم إن المادح قد يجازف في المدح ويقول ما لايتحققه ويجزم بما لا يستطيع الاطلاع عليه وقد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه، فتكون الطامة لاسيما إن كان الممدوح ظالما أو فاسقا . انظر الفتح .(/5)
'11' تعليم المخطئ عمليا:في كثير من الأحيان يكون التعليم العملي أقوى وأشد أثرا من التعليم النظري وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى جبير بن نفير عن أبيه أنه: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بوَضوء فقال:' توضأ يا أبا جبير ' فبدأ أبو جبير بفيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:' لا تبتدأ بفيك يا أبا جبير فإن الكافر يبتدأ بفيه' ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء، فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم تمضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا واليسرى ثلاثا ومسح رأسه وغسل رجليه . رواه البيهقي في السنن، وهو في السلسلة الصحيحة .والملاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عمد إلى تنفير ذلك الصحابي من فعله المجانب للصواب عندما أخبره أن الكافر يبدأ بفيه، ولعل المعنى أن الكافر لا يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء أفادنيه العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز عندما سألته عن شرح الحديث وهذا من عدم المحافظة على النظافة، والله أعلم .
'12' تقديم البديل الصحيح: ومثاله:عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ قُلْنَا السَّلامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'لا تَقُولُوا السَّلامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو' رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود والدارمي وأحمد .
مثال آخر:عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:جَاءَ بِلالٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مِنْ أَيْنَ هَذَا 'قَالَ بِلالٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ:' أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ' رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد .
والذي نجده في واقع بعض الدعاة الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر قصورا في دعوتهم عند إنكار بعض أخطاء الناس، وذلك بالاكتفاء بالتخطئة وإعلان الحرمة دون تقديم البديل، أو بيان ما هو الواجب فعله إذا حصل الخطأ، ومعلوم من طريقة الشريعة أنها تقدّم البدائل عوضا عن أي منفعة محرمة، فلما حرّمت الزنا شرعت النكاح، ولما حرّمت الربا أباحت البيع، ولما حرّمت الخنزير والميتة وكلّ ذي ناب ومخلب؛ أباحت الذبائح من بهيمة الأنعام وغيرها وهكذا . ثمّ لو وقع الشخص في أمر محرّم فقد أوجدت له الشريعة المخرج بالتوبة والكفارة كما هو مبيّن في نصوص الكفارات . فينبغي على الدعاة أن يحذوا حذو الشريعة في تقديم البدائل وإيجاد المخارج الشرعية . من الأمثلة لتقديم البديل ذكر الحديث الصحيح الذي يُغني عن الحديث الضعيف أو الموضوع .
ومما تجدر الإشارة إليه أن مسألة تقديم البديل هي بحسب الإمكان والقدرة فقد يكون الأمر أحيانا خطأ يجب الامتناع عنه ولا يوجد في الواقع بديل مناسب إما لفساد الحال وبعد الناس عن شريعة الله، أو أن الآمر الناهي لا يستحضر شيئا، أو ليس لديه إلمام بالبدائل الموجودة في الواقع، فهو سينكر ويُغيّر الخطأ ولو لم يوجد لديه بديل يقوله ويوجّه إليه، وهذا يقع كثيرا في بعض التعاملات المالية وأنظمة الاستثمار التي نشأت في مجتمعات الكفار ونُقلت بما هي عليه من المخالفات الشرعية إلى مجتمعات المسلمين، وفي المسلمين من القصور والضعف ما يحول دون إيجاد البديل الشرعي وتعميمه . ولكن يبقى الحال أن ذلك قصور ونقص وأن المنهج الإلهي فيه البدائل والمخارج التي ترفع الحرج والعنت عن المسلمين علمها من علمها، وجهلها من جهلها .(/6)
'13' الإرشاد إلى ما يمنع من وقوع الخطأ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ ' المخبأة: هي الفتاة في خدرها وهو كناية عن شدة بياضه ' فَلُبِطَ سَهْلٌ ' أي: صُرع وسقط على الأرض ' فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ قَالَ:'هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ' قَالُوا نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ:'عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اغْتَسِلْ لَهُ ' فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ . رواه أحمد وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح.وقد تضمنت هذه القصة: تغيظ المربي على من تسبب في إيذاء أخيه المسلم، وبيان مضرة الخطأ، وأنه ربما يؤدي إلى القتل، والإرشاد إلى ما يمنع من وقوع الضرر وإيذاء المسلم .
'14' عدم مواجهة بعض المخطئين بالخطأ والاكتفاء بالبيان العام:ولهذا أمثلة:
الأول:عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ' رواه البخاري والنسائي وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد .
الثاني:عن عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ:'مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَن الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً' رواه البخاري ومسلم وأحمد .
الثالث:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ :'مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا'وَوَصَفَ الْقَاسِمُ فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْض ٍ. رواه مسلم . والأمثلة كثيرة، ويجمعها: عدم فضح صاحب الخطأ . وأسلوب التعريض بالمخطئ وعدم مواجهته له فوائد منها: تجنّب ردّ الفعل السلبي للمخطئ، وإبعاده عن تزيين الشيطان له بالانتقام الشخصي والانتصار للنفس ... أنه أكثر قبولا وتأثيرا في النفس ...أنه أستر للمخطئ بين الناس ... ازدياد منزلة المربي، وزيادة المحبة للناصح .
تنبيه: وينبغي الانتباه إلى أنّ أسلوب التعريض هذا لإيصال الحكم إلى المخطئ دون فضحه وإحراجه إنما يكون إذا كان أمر المخطئ مستورا لا يعرفه أكثر الناس، أما إذا كان أكثر الحاضرين يعرفونه وهو يعلم بذلك فإن الأسلوب حينئذ قد يكون أسلوب تقريع وتوبيخ وفضح بالغ السوء والمضايقة للمخطئ بل إنه ربما يتمنى لو أنه ووجه بخطئه ولم يُستعمل معه ذلك الأسلوب . ومن الأمور المؤثرة فرْقا: من هو الذي يوجّه الكلام ؟ وبحضرة من يكون الكلام ؟ وهل كان بأسلوب الإثارة والاستفزاز أم بأسلوب النصح والإشفاق ؟ فالأسلوب غير المباشر أسلوب تربوي نافع للمخطئ ولغيره إذا استُعمل بحكمة .(/7)
'15' إثارة العامة على المخطئ: وهذا يكون في أحوال معينة، وينبغي أن يوزن وزنا دقيقا حتى لا تكون له مضاعفات سلبية، وفيما يلي مثال نبوي لهذه الوسيلة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ:'اذْهَبْ فَاصْبِرْ' فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ:'اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ' فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. رواه أبو داود، وهو في صحيح أبي داود . ويقابل هذا الأسلوب أسلوب آخر يُستخدم في أحوال أخرى، ومع أشخاص آخرين في حماية المخطئ من إيذاء العامة، ويبينه الفقرة التالية:
'16' تجنب إعانة الشيطان على المخطئ: فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'لا تَلْعَنُوهُ فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ'رواه البخاري . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:'لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ' رواه البخاري . ويستفاد من هذا: أنّ المسلم وإن وقع في معصية، فإنه يبقى معه أصل الإسلام وأصل المحبة لله ورسوله، فلا يجوز أن يُنفى عنه ذلك، ولا أن يُدعى عليه بما يعين عليه الشيطان بل يُدعى له بالهداية والمغفرة والرحمة .
'17' طلب الكف عن الفعل الخاطئ: من الأهمية بمكان إيقاف المخطئ عن الاستمرار في الخطأ حتى لا يزداد سوءا وحتى يحصل القيام بإنكار المنكر ولا يتأخر، فعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لا وَأَبِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'مَهْ إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ' رواه أحمد وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح . 'مَهْ'كلمة زجر وإنكار بمعنى: اكفف . وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:' كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ' رواه الترمذي وابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة . ففي هذه الأحاديث الطلب المباشر من المخطئ بالكفّ والامتناع عن فعله .
'18' إرشاد المخطئ إلى تصحيح خطئه:وقد كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أساليب منها:
1 ـ محاولة لفت نظر المخطئ إلى خطئه ليقوم بتصحيحه بنفسه، ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه مَوْلًى لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:أَنَّهُ كَانَ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلا جَالِسًا وَسَطَ الْمَسْجِدِ مُشَبِّكًا بَيْنَ أَصَابِعِهِ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَفْطِنْ فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ:'إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَزَالُ فِي صَلاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ'رواه أحمد وقال الهيثمي: إسناده حسن .(/8)
2 ـ طلب إعادة الفعل على الوجه الصحيح إذا كان ذلك ممكنا: فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ' فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ:'وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ' فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:' إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا' رواه الجماعة، واللفظ للبخاري . ومن الملاحظ: * أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتبه لأفعال الناس من حوله كي يعلمهم، وقد وقع في رواية النسائي: أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُقُهُ وَنَحْنُ لا نَشْعُرُ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:' ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ...' صحيح سنن النسائي رقم 1008. فمن صفة المربي أن يكون يقظا لأفعال من معه .
* إن من الحكمة في التعليم طلب إعادة الفعل من المخطئ؛ لعله ينتبه إلى خطئه، فيصححه بنفسه خصوصا إذا كان الخطأ ظاهرا لا ينبغي أن يحدث منه، وربما يكون ناسيا فيتذكر .
* إن المخطئ إذا لم ينتبه إلى خطئه؛ وجب البيان والتفصيل .
* إن إعطاء المعلومة للشخص إذا اهتم بمعرفتها، وسأل عنها، وتعلقت بها نفسه؛ أوقع أثرا في حسّه، وأحفظ في ذهنه من إعطائه إياها ابتداء دون سؤال ولا تشوّف .
* إن وسائل التعليم كثيرة يختار منها المربي ما يُناسب الحال والظرف .
3ـ طلب تدارك ما أمكن لتصحيح الخطأ: فعن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ' فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ:' ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ ' رواه البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد . 4 ـ إصلاح آثار الخطأ:فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ:'ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا' رواه النسائي وأبوداود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني.
5 ـ الكفارة عن الخطأ:إذا كانت بعض الأخطاء لا يمكن استدراكها، فإن الشريعة قد جعلت أبوابا أُخر لمحو أثرها ومن ذلك الكفارات، وهي كثيرة: ككفارة اليمين، والظهار، وقتل الخطأ، والوطء في نهار رمضان، وغيرها .(/9)
'19' إنكار موضع الخطأ وقبول الباقي: قد لا يكون الكلام أو الفعل كله خطأ، فيكون من الحكمة الاقتصار في الإنكار على موضع الخطأ، وعدم تعميم التخطئة لتشمل سائر الكلام أو الفعل، يدلّ على ذلك: ما ورد عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قالت: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ:'دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ ' رواه البخاري والترمذي وأبوداود وأحمد . ولا شك أن مثل هذا التصرّف يُشعر المخطئ بانصاف وعدل القائم بالإنكار والتصحيح، ويجعل تنبيهه أقرب للقبول في نفس المخطئ بخلاف بعض المُنكرين الذين قد يغضب أحدهم من الخطأ غضبا يجعله يتعدّى في الإنكار يصل به إلى تخطئة ورفض سائر الكلام بما اشتمل عليه من حق وباطل مما يسبّب عدم قبول كلامه وعدم انقياد المخطئ للتصحيح . وبعض المخطئين لا يكون خطؤهم في ذات الكلام الذي تفوّهوا به ولكن في المناسبة التي قالوا فيها ذلك الكلام كمثل قول البعض عند وفاة شخص: الفاتحة ثمّ يقرؤها الحاضرون وقد يحتجون بأن ما قرأوه قرآنا وليس كفرا فلا بدّ أن يبيّن لهم أنّ الخطأ في فعلهم هو في تخصيص الفاتحة بهذه المناسبة على وجه التعبّد دون دليل شرعي وهذه هي البدعة بعينها . وهذا المعنى هو الذي لفت إليه ابن عمر رضي الله عنه نظر رجل عَطَسَ إِلَى جَنْبِه فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ . رواه الترمذي .
'20' إعادة الحق إلى صاحبه وحفظ مكانة المخطئ: فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلا مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ:'مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ'قَالَ اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:' ادْفَعْهُ إِلَيْهِ' فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ فَقَالَ:'لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ ' رواه مسلم وأبوداود وأحمد . ونلاحظ أن خالدا لما أخطأ في اجتهاده بمنع القاتل من السلب الكثير أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الأمر في نصابه بإعادة الحق إلى صاحبه ولكنه عليه الصلاة والسلام غضب لما سمع عوفا رضي الله عنه يعرّض بخالد ويتهكم عليه بقوله:'هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ' وكان عوف قد جرّ برداء خالد لمّا مرّ بجانبه فقال صلى الله عليه وسلم:'لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ ' وهذا من باب ردّ الاعتبار إلى الأمير والقائد؛ لأن في حفظ مكانته بين الناس مصلحة ظاهرة .
ومن الأمور المهمة حفظ مكانة المخطئ بعد توبته ورجوعه: لكي يثبت على الاستقامة ويمارس حياة عادية بين الناس، وقد جاء في قصة المرأة المخزومية التي قُطعت يدها عن عائشة رضي الله عنها: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رواه البخاري ومسلم .(/10)
'21' توجيه الكلام إلى طرفي النزاع في الخطأ المشترك: في كثير من الأحيان يكون الخطأ مشتركا، ويكون المخطئ مخطَأً عليه في الوقت نفسه، ولكن نسبة الخطأ ربما تتفاوت بين الطرفين، فينبغي توجيه الكلام والنصح إلى طرفي الخطأ وفيما يلي مثال: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:'يا خالد لا تُؤذ رجلا من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله' فقال: يقعون فيّ فأردّ عليهم فقال:' لا تُؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله عز وجل صبه الله على الكفار' قال الهيثمي: رجال الطبراني ثقات المجمع 9/349 وانظر المعجم الكبير للطبراني حديث رقم :3801 .
'22' مطالبة المخطئ بالتحلل ممن أخطأ عليه : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقال أحدهما لصاحبه إن هذا لنؤوم، فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يُقرئانك السلام، وهما يستأدمانك ' أي يطلبان الإدام للطعام ' فقال:' أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما ' ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله بعثنا إليك نستأدمك فقلت قد ائتدما فبأي شيء ائتدمنا ؟ قال:' بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما' قالا: فاستغفر لنا، قال:'هو فليستغفر لكما' السلسلة الصحيحة رقم 2608.
'23' تذكير المخطئ بفضل من أخطأ عليه ليندم ويعتذر : وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعن أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَر'َ ' أي: دخل في خصومة ' قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ' رواه البخاري .
'24' التدخل لتسكين الثائرة ونزع فتيل الفتنة بين المخطئين: وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عدد من المواضع، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وتأخّر من أجل ذلك عن بداية صلاة الجماعة كما في الصحيحين، وفي رواية النسائي: عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قال: وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ كَلامٌ حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذَّنَ بِلالٌ وَانْتُظِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتُبِسَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ... الحديث .
'25' إظهار الغضب من الخطأ: إذا رآه أو سمع به وخصوصا عندما يكون الخطأ متعلقا بالاعتقاد ومن ذلك الخوض في القدر والتنازع في القرآن: فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ فَقَالَ:'بِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ' فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو:مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَتَخَلُّفِي عَنْهُ .رواه ابن ماجه وأحمد وهو في صحيح ابن ماجه .(/11)
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم إنكارا في مسألة من الأساسات: ما حصل في قصة عمر رضي الله عنه في قضية مصدر التلقي فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ :' أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي' رواه أحمد وحسنه الألباني بشواهده . ومعنى متهوكون أي: متحيرون، فنلاحظ هنا:التعقيب النبوي الكريم في تثبيت الأصل والتأكيد عليه من وجوب اتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مصادر التلقي الأخرى
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم لرؤية منكر: ما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ:'إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا' رواه البخاري وابن ماجه وأبوداود وأحمد .
ومما حصل من غضبه صلى الله عليه وسلم عند سماعه لخطأِِ أدّى إلى مفسدة: ما ورد عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ:' يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ'رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد .
ومن هذا الباب أيضا إظهار المفتي للغضب عند تكلّف المستفتي وتعنّته: فعن زيد بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ:' عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلا فَاسْتَنْفِقْهَا' قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ:'لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ' قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:'مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ' رواه البخاري ومسلم. إن انفعال المربي المتوازن مع الخطأ عند حدوثه أو رؤيته أو سماعه بحيث يُرى ذلك في وجهه ويُعرف في صوته وأسلوبه هو علامة حياة في القلب ضدّ المنكر وعدم السكوت عليه حتى يقع في قلوب الحاضرين الرهبة من ذلك الخطأ، ويعمل الكلام وقت الانفعال في النفوس عمله المؤثر هذا بخلاف كتم الأمر، أو تأخيره، فربما يبرد، أو يزول أثر التعليق .(/12)
وقد يكون من الحكمة تأخير التعليق على الحادثة المنكرة أو الكلام الخطير الخاطئ إلى حين جمع الناس، أو اجتماعهم؛ لأجل أهمية الأمر؛ أو لعدم وجود العدد الكافي الذي يتعظ وينقل، ولا مانع من تعليقين خاص مباشر وعام مؤخر، فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلا فَجَاءهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ:'أَفَلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا' ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ:'أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ' فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ . رواه البخاري ومسلم وأبوداود والدارمي وأحمد .
'26' التولي عن المخطئ وترك جداله لعله يراجع الصواب: عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ:'أَلا تُصَلُّونَ' فَقَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعَهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: }وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا'54' {سورة الكهف . رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد .
'27' عتاب المخطئ: كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع حاطب رضي الله عنه حينما علم أنه أرسل إلى كفار قريش يخبرهم بنية المسلمين في التوجّه إلى مكة لفتحها فإنه قال له:'مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ' قَالَ مَا بِي إِلا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ:'صَدَقَ فَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا خَيْرًا ' فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ:' يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ' فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وأحمد . وفي هذه القصة عدد من الفوائد التربوية العظيمة منها: معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي المخطئ خطأ بالغا بقوله له:'مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ' ... والاستعلام عن السبب الذي دفع بالمخطئ إلى الخطأ، وهذا لاشك سيؤثر في الموقف الذي سيُتّخذ منه... وأن أصحاب الفضل والسابقة ليسوا معصومين من الذنب الكبير...وأنّ على المربي أن يكون واسع الصدر في تحمّل أخطاء أصحابه؛ ليدوموا معه على المنهج السويّ، فالغرض إصلاحهم لا إبعادهم...وأن على المربي أن يقدّر لحظة الضعف البشري التي قد تمرّ ببعض من معه، وأن لا يُؤخذ بسقطة قوية وخطأ فظيع قد يقع من بعض القُدامى...والمدافعة عمن يستحق الدفاع عنه من المخطئين ... وأن المخطئ إذا كانت له حسنات عظيمة سابقة، فلا بدّ أن تؤخذ بالاعتبار عند تقويم خطئه، واتخاذ موقف منه .(/13)
'28' لوم المخطئ: الخطأ الواضح لا يُمكن السكوت عليه ولا بد من توجيه لوم وتأنيب إلى المخطئ بادئ ذي بدئ ليحس بخطئه: عن عَلِي رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ رَجَعْتُ حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَايَ قَدِ اجْتُبَّ ' جبّ أي قطع ' أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ ' بقر أي شقّ ' خَوَاصِرُهُمَا وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا فَقُلْتُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَالُوا فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِي الَّذِي لَقِيتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'مَا لَكَ' فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَى ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ فَطَفِقَ ' شرع وبدأ ' رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأَبِي فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ ' أي سَكِر ففقد رشده ' فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجْنَا مَعَهُ.رواه البخاري ومسلم. وهذه القصة قبل تحريم الخمر .
'29' الإعراض عن المخطئ: فقد: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ فَشَذَّ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلٌ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ فَقَالَ الشَّاذُّ مِنَ الْقَوْمِ إِنِّي مُسْلِمٌ فَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فَنَمَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلا شَدِيدًا فَبَلَغَ الْقَاتِلَ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قِبَلَهُ مِنَ النَّاسِ وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَصْبِرْ فَقَالَ الثَّالِثَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا قَالَ إِلا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْرَفُ الْمَسَاءةُ فِي وَجْهِهِ قَالَ لَهُ:'إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ 'رواه أحمد المسند وانظر السلسلة الصحيحة .(/14)
وعن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ:َ أَنَّ رَجُلا قَدِمَ مِنْ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَحَدَّثَهَا فَقَالَتْ إِنَّ لَكَ لَشَأْنًا فَارْجِعْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَأَلْقَى خَاتَمَهُ وَجُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ أُذِنَ لَهُ وَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْرَضْتَ عَنِّي قَبْلُ حِينَ جِئْتُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'إِنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ' فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بِحُلِيٍّ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ غَيْرُ مُغْنٍ عَنَّا شَيْئًا إِلا مَا أَغْنَتْ حِجَارَةُ الْحَرَّةِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا' فَقَالَ الرَّجُلُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْذُرْنِي فِي أَصْحَابِكَ لا يَظُنُّونَ أَنَّكَ سَخِطْتَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لِخَاتَمِهِ الذَّهَبِ .رواه أحمد
'30' هجر المخطئ: وهو من الأساليب النبوية المؤثرة خصوصا إذا عظم الخطأ والذنب؛ وذلك لما يُحدثه الهجران والقطيعة من الأثر البالغ في نفس المخطئ، ومن أمثلة ذلك: ما حصل لكعب بن مالك وصاحبيه الذين خُلّفوا في قصة غزوة تبوك: فبعد أن تأكد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لهم عذر واعترفوا بذلك قال كعب رضي الله عنه: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَ اللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ... إلى أن قال رضي الله عنه في قصته: حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ ...الحديث . رواه البخاري ومسلم . وفي هذه القصة من الفوائد العظيمة والعظات البالغة ما لا ينبغي تفويته بحال ويمكن الاطّلاع على شيء من ذلك في شروح العلماء للقصة كزاد المعاد وفتح الباري .(/15)
ومما يدلّ على اعتماده صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب: ما روته عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً .رواه الترمذي وأحمد . ويتضح من ذلك: أن الإعراض عن المخطئ حتى يعود عن خطئه أسلوب تربوي مفيد، ولكن لكي يكون نافعا لابد أن يكون الهاجر والمُعْرض له مكانة في نفس المهجور، وإلا فلن يكون لهذا الفعل أثر إيجابي عليه بل ربما يشعر أنه قد استراح .
'31' الدعاء على المخطئ المعاند: فعن سلمة بن الأكوع: أَنَّ رَجُلا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ فَقَالَ:'كُلْ بِيَمِينِكَ'قَالَ لا أَسْتَطِيعُ قَالَ:'لا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلا الْكِبْرُ ' فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ . رواه مسلم . قال النووي رحمه الله تعالى:' وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل' ونلاحظ هنا أن الدعاء عليه لم يكن بما يُعين عليه الشيطان ولكن كان بما يُشبه التعزير .
'32' الإعراض عن بعض الخطأ اكتفاء بما جرت الإشارة إليه منه تكرّما مع المخطئ: } وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ'3' {سورة التحريم قال القاسمي رحمه الله في محاسن التأويل:' }وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ { أي محمد صلى الله عليه وسلم} إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ { هي حفصة}حَدِيثًا {تحريم فتاته .. أو ما حرمّ على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له} فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ { أي أخبرت بالسر صاحبتها عائشة،} وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ { أطلعه عن تحديثها به،} عَرَّفَ بَعْضَهُ { أي عرّفها بعض ما أفشته معاتباً } وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ { أي بعض الحديث تكرُّماً' قال الحسن:'ما استقصى كريمٌ قط' وقال سفيان:' مازال التغافل من فعل الكرام' .
'33' إعانة المسلم على تصحيح خطئه: وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ:'مَا لَكَ' قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا'قَالَ لا قَالَ:'فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ' قَالَ لَا فَقَالَ:' فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا'قَالَ لا ، فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ:' أَيْنَ السَّائِلُ' فَقَالَ أَنَا قَالَ:'خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ' فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ:' أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ' رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والترمذي ومالك والدارمي وأحمد .(/16)
'34' ملاقاة المخطئ ومجالسته لأجل مناقشته: عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :'الْقَنِي بِهِ' فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ:' كَيْفَ تَصُومُ' قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ:' وَكَيْفَ تَخْتِمُ' قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ:' صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً واقرأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ' قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:' صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ' قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:' أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا' قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:' صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً'رواه البخاري ومسلم . ومن فوائد القصة: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المشكلة، وهو الانهماك في العبادة بحيث لم يبق وقت لأداء حقّ الزوجة، فوقع التقصير
'35' مصارحة المخطئ بحاله وخطئه: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْهَا فَذَكَرَنِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي:'أَسَابَبْتَ فُلانًا' قُلْتُ نَعَمْ قَالَ:' أَفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ' قُلْتُ نَعَمْ قَالَ:' إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ' قُلْتُ عَلَى حِينِ سَاعَتِي هَذِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ قَالَ:'نَعَمْ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ' رواه البخاري ومسلم. وهذه المصارحة والمفاتحة من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه كانت لعلمه صلى الله عليه وسلم بقبول الصحابي لذلك، فالصراحة وسيلة مفيدة تختصر الوقت وتوفّر الجهد، وتبيّن المقصود بأيسر طريق، ولكنها تكون فيما يُناسب من الأحوال والأشخاص .
وقد يعدل الداعية عن مصارحة المخطئ إذا كان في ذلك حصول مفسدة أكبر، أو تفويت مصلحة أعلى كأن يكون المخطئ صاحب جاه أو منصب لا يتقبّل ذلك، أو أن يكون في المصارحة إحراج بالغ للمخطئ، أو يكون ذا حساسية زائدة تجعله ذا ردّ فعل سلبي، ولاشكّ أن المصارحة مكروهة للمخطئ وثقيلة على نفسه لما فيها من المواجهة والإحراج والظهور بمظهر الناقص في مقابل ظهور الناقد في موضع المستعلي والأستاذ . وكذلك فإنه يجب التنبه إلى أن أسلوب ' اللفّ والدوران ' قد يكون له سلبيات مضاعفة تفوق المصارحة أحيانا، وذلك لما قد يشعر به المخطئ من الاستغفال والتلاعب ويتضايق من الإشارات الخفيّة لشعوره بأنها غمز وإيذاء مبطّن، ثمّ إن التوجيه قد لا يصل أصلا لخفاء المقصود وبعده عن ذهن المخطئ، فيمضي في خطئه قُدُما . وعموما فإن الأشخاص يتفاوتون في التقبّل والأسلوب الأمثل المناسب لكل منهم، ولكن يبقى أن حسن الخلق في العرض والتوجيه له الأثر الأكبر في نجاح المهمّة .
'36' إقناع المخطئ: إن السعي لمناقشة المخطئ بغية إقناعه يؤدي إلى إزالة الحاجز الضبابي الذي يعتري بصيرته، فيعود إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ومن أمثلة ما ورد في السنّة بشأن هذا: ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه: أن غلاما شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فصاح به الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم:' مه' فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:' أقروه، ادن'فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:' أتحبّه لأمّك ' قال: لا، قال:' وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم . أتحبه لابنتك ' قال: لا قال:' وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك ' قال: لا قال:' وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبّه لعمتك ' قال:لا قال:' وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم أتحبه لخالتك ' قال: لا قال:' وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم' فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال:' اللهم كفّر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه' .رواه الطبراني 7679 و7759 .(/17)
'37' إفهام المخطئ بأنّ عذره الزائف غير مقبول: يحاول بعض المخطئين تقديم مبررات مختلقة وغير مقبولة وخصوصا إذا انكشف أمرهم بغتة على حين غرة منهم بل قد يبدو على بعضهم التلعثم وهم ينطقون بالعذر الزائف وخصوصا الذين لا يُحسنون الكذب لنقاء في سرائرهم. فكيف يتصرّف المربي يا تُرى إذا صادف مثل هذا الموقف من أحد المخطئين ؟ إن القصة التالية تبيّن موقفا رائعا ودقيقا للنبي صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه ويظهر من خلال القصة المتابعة المستمرّة من المربي للمخطئ إلى حين تخلّيه عن موقفه الخاطئ: عن خوّات بن جبير رضي الله عنه قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ الظهران، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت عيبتي ' وعاء توضع فيه الثياب ' فاستخرجت منها حُلّة، فلبستها وجئت، فجلست معهن، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:' أبا عبد الله' !!' أي أنه يُنكر عليه جلوسه مع هؤلاء النسوة الأجنبيات' فلما رأيت رسول الله هبته واختلطت' تلعثم يبحث عن عذر' قلت يا رسول الله: جمل لي شرد وأنا أبتغي له قيدا 'أتى رضي الله عنه بعذر غير صحيح ليبرر به فعله' فمضى واتبعته فألقى إليّ رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ وأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره، فقال:' أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ' ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال:'السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل ' فلما رأيت ذلك تعجّلت إلى المدينة واجتنبت المسجد ومجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فلما طال ذلك تحيّنت ساعة خلوة المسجد فخرجت إلى المسجد وقمت أصلّي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حُجَره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين وطوّلت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال:' طوّل أبا عبد الله ما شئت أن تطوّل فلست قائما حتى تنصرف'، فقلت في نفسي: والله لاعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأُبْرِئن صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفت قال:' السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك ' فقلت: والذي بعثك بالحقّ ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت . فقال:' رحمك الله ثلاثا' ثم لم يعد لشيء مما كان .قال الهيثمي رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد وهو ثقة . المجمع 9/401 وبالرجوع إلى المعجم الكبير للطبراني 4/203 تبين أن الرواية من طريق زيد بن أسلم يحدّث أن خوات بن جبير قال نزلنا .. وفي ترجمة خوات رضي الله عنه في التهذيب: وأرسل عنه زيد بن أسلم وفي الإصابة في وفاة خوات سنة 40 أو 42 وأما زيد بن أسلم ففي السير أنه توفي سنة 136 وعلى ذلك فالسند منقطع
إنه درس رائع في التربية والخطة الحكيمة المؤدية إلى النتيجة المطلوبة، ويمكن أن يؤخذ من القصة أيضا الفوائد التالية: المربي صاحب الهيبة يستحي منه من لابس المعصية إذا مرّ به .. إن نظرات وسؤالات المربي- على وجازتها وقصرها - لها دلالاتها الكبيرة وأثرها في النفوس ... عدم مناقشة العذر الملفّق لحظة سماعه - مع وضوح الثغرة فيه- والإعراض عن صاحبه يكفي في إشعار المخطئ بعدم قبوله مما يدفعه للتوبة والاعتذار، وهذا يُؤخذ من قوله ' فمضى' ... المربي الجيد هو الذي يجعل المخطئ يشعر بالاستحياء منه الموجب للتواري عنه، والحاجة إليه الموجبة للإتيان إليه، ثم يتغلب الثاني على الأول . إن تغيير الموقف من المخطئ ينبني - في مثل هذه الحالة- على إظهار اعترافه ورجوعه عما حصل منه. إن موقع المربي والقدوة في نفس أصحابه كبير وعظيم، ولومه لبعضهم، أو تخطئته تقع بموقع وقد يلاحظ المربي مصلحة أشخاص آخرين في إنكاره على أحد أصحابه من أجل المنفعة العامة، ولكن هذا لا يعني ترك الأثر السلبي الخاص باقيا بل يُمكن تداركه ومحو أثره بطرق منها: المعاتبة من قِبَل التابع ولو بطريق واسطة كما فعل المغيرة بتوسيط عمر رضي الله عنهما، وفي المقابل إيضاح الموقف والتأكيد على مكانة التابع وحسن الظنّ به من قِبَل القدوة والمربي.
'38' مراعاة ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية:(/18)
ومن ذلك غيرة النساء وخصوصا بين الضرائر، فإن بعضهن قد تخطئ خطأ لو أخطأه إنسان في الأحوال العادية لكان التعامل معه بطريقة مختلفة تماما . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي مسألة الغيرة بين نسائه وما ينتج عنها من أخطاء مراعاة خاصة يظهر منها الصبر والحلم مع العدل والإنصاف ومن أمثلة ذلك: ما رواه أَنَس قَالَ:كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ ' إناء واسع ' فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ:'غَارَتْ أُمُّكُمْ' ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ . رواه البخاري .وغيرة المرأة أمر مركوز فيها يحملها على أمور شديدة ويحول بينها وبين التبصّر بعواقب الأمور، حتى قيل: إن المرأة إذا غارت لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه .
الخاتمة: وبعد هذه الجولة في رياض السنّة العطرة والاطّلاع على شيء من الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس يحسن قبل مغادرة الموضوع التذكير بالنقاط التالية:
* تصحيح الأخطاء واجب ومهم، وهو من النصيحة في الدين، ومن النهي عن المنكر، ولكنه ليس كل الواجب؛ فإن الدين ليس نهيا عن المنكر فحسب، وإنما هو أمر بالمعروف أيضا .
* ليست التربية هي تصحيح الأخطاء فقط، وإنما هي تلقين وتعليم، وعرض لمبادئ الدين وأحكام الشريعة أيضا، واستعمال الوسائل المختلفة لتأسيس التصورات وتثبيتها في النفوس من التربية بالقدوة والموعظة والقصة والحدث وغيرها، ومن هنا يتبين قصور بعض الآباء والأمهات والمدرسين والمربين بتوجيه جلّ اهتمامهم إلى معالجة الأخطاء ومتابعة الانحرافات دون ترجيح الاهتمام بتعليم المبادئ والأسس والمبادرة بالتحصين الذي يمنع وقوع الانحرافات والأخطاء ويبادرها فبل حدوثها أو يقلّل منها .
*يتضح مما سبق ذكره من المواقف والأحداث: تنوع الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء، وأن ذلك قد اختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومن كان لديه فقه، وأراد الاقتداء قاس النظير على النظير والشبيه على الشبيه فيما يمرّ به من مواقف وأحداث؛ ليتوصّل إلى الأسلوب المناسب للحالة المعيّنة . هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شرّ أنفسنا ويجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ وأن يهدينا ويهدي بنا إنه سميع قريب مجيب وهو نعم المولى ونعم النصير والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
للشيخ محمد صالح المنجد(/19)
الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة
للأخلاق الفاضلة منزلة رفيعة في دين الله ولها ارتباط قوي بقوة الإيمان وحسنه، وتدين المرء وتمسكه بالشريعة، ولها أعظم الأثر في قوة الأمة ووحدة صفوفها ولأن الأخلاق يمكن اكتسابها كان من المهم الحديث عن وسائل اكتساب الأخلاق الفاضلة وهذا ما سيتناوله درسنا .
لا ريب أن أثقل ما على الطبيعة البشرية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس، إلا أن ذلك ليس متعذرًا ولا مستحيلاً، بل إن هناك أسبابًا،ووسائل يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حسن الخلق،
ومن ذلك ما يلي:
1ـ سلامة العقيدة : فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من فكر ومعتقد، وما يدين به من دين، والانحراف في السلوك ناتج عن خلل في المعتقد، فالعقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا؛ فإذا صحت العقيدة؛ حسنت الأخلاق تبعًا لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق، كما أنها تردعه عن مساوئ الأخلاق.
2ـ الدعاء: فيلجأ إلى ربه، ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيئه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعاء الاستفتاح: [...اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ...] رواه مسلم. وكان يقول: [ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ]رواه الترمذي.
3ـ المجاهدة : فالخلق الحسن نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة، قال عز وجل: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69] } [سورة العنكبوت].
والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة، أو مرتين، أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله يقول: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99] } [سورة الحجر].
4ـ المحاسبة: وذلك بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على ألا تعود إليها مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب، فإذا أحسنت أراحها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح. وإذا أساءت وقصرت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد.
5ـ التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق : فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها؛ من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها. والمرء إذا رغب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجل غنيمة غنمها الموفقون؛ سهل عليه نيليها واكتسابها.
6ـ النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم،والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
7ـ الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك من إذا ابتلى بمساوئ الأخلاق وحاول التخلص من عيوبه فلم يفلح؛ أيس من إصلاح نفسه، وترك المحاولة، وهذا الأمر لا يحسن بالمسلم، ولا يليق به؛ بل ينبغي له أن يقوي إرادته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدَّ في تلافي عيوبه؛ فكم من الناس من تبدلت حاله، وسمت نفسه، وقلت عيوبه بسبب مجاهدته، وسعيه، وجده، ومغالبته لطبعه.
8ـ علو الهمة : فعلو الهمة يستلزم الجد، ونشدان المعالي، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور. والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد، قال ابن القيم رحمه الله:'فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل'.
وقال رحمه الله:'فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل. والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك'. فإذا توفر المرء على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها.
9ـ الصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخلق الحسن، فالصبر يحمل على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة. واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر وقل من جد أمر تطلبه
10ـ العفة: فهي تحمل على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمل على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنع من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.(/1)
11ـ الشجاعة: فهي تحمل على عزة النفس، وإباء الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس، وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته. وهي تحمل صاحبها على كظم الغيظ، والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزق والطيش.
12ـ العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط .
13ـ تكلف البشر والطلاقة، وتجنب العبوس والتقطيب: قال ابن حبان رحمه الله : ' البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء؛ لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي'. 'وقيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول'.
وما اكتسب المحامد حامدوها بمثل البشر والوجه الطليق
بل إن تبسم الرجل في وجه أخيه المسلم صدقة يثاب عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ...] رواه الترمذي.
والابتسام للحياة يضيئها، ويعين على احتمال مشاقها، والمبتسمون للحياة أسعد الناس حالاً لأنفسهم ومن حولهم، بل هم أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأجدر بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس؛ فذو النفس الباسمة المشرقة يرى الصعاب فيلذه التغلب عليها، ينظرها فيبتسم، وينجح فيبتسم، ويخفق فيبتسم. وإذا كان الأمر كذلك فأحرى بالعاقل ألا يرى إلا متهللاً.
ومن أعظم ما يعين على اكتساب تلك الخلة: الإقبال على الله، وطهارة القلب، وسلامة المقاصد، والبعد عن موطن الإثارة قد المستطاع. ومن ذلك قوة الاحتمال،ومحاربة اليأس، وطرد الهم والكآبة.
14ـ التغاضي والتغافل: وهو من أخلاق الأكابر، ومما يعين على استبقاء المودة واستجلابها، وعلى وأد العداوة وإخلاد المباغضة، ثم إنه دليل على سمو النفس، وشفافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة، قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:'وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز- يعني:بنعل- فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها'.
وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما يسأل عن ذلك كان يقول:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
15ـ الإعراض عن الجاهلين: فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه، قال عز وجل: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199] } [سورة الأعراف].
فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، والعرب تقول:'إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر'. وروي أن رجلاً نال من عمر بن عبدالعزيز، فلم يجبه، فقيل له: ما يمنعك منه؟
قال: التقى ملجم.
16ـ العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان: فهذا سبب لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، وفيه من الطمأنينة، وشرف النفس، وعزها، ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ] رواه مسلم. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو عند المقدرة، والقصد في الجِدَةِ، والرفق بالعَبَدَةِ'. وقال الشافعي رحمه الله:
أرحت نفسي من ظلم العدوات لما عفوت ولم أحقد على أحد
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجدر بالعاقل ـ كما قال ابن حبان ـ:'توطين نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة؛ إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها'.
وقد يظن ظان أن العفو عن المسيء، والإحسان إليه مع القدرة عليه؛ موجب للذلة والمهانة، وأنه قد يجر إلى تطاول السفهاء. وهذا خطأ؛ فالعفو إسقاط حقك جودًا، وكرمًا، وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك؛ رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق.. بخلاف الذل؛ فإن صاحبه بترك الانتقام عاجزًا، وخوفًا، ومهانة نفس، فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسنُ حالاً منه.
17ـ الرضا بالقليل من الناس، وترك مطالبتهم بالمثل: وذلك بأن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارًا، وألا يحملهم على العنت والمشقة، قال تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199] } [سورة الأعراف] .(/2)
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في هذه الآية:'أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس'. وقال مجاهد:'يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم'.
قال المقنع الكندي- واصفًا حاله مع قومه-:
وأعطيهم مالي إذا كنت واجدًا وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وقال الرافعي رحمه الله:'إن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وإن الزائفة هي الأخذ دون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق'.
18ـ احتساب الأجر عند الله عز وجل: فهذا الأمر من أعظم ما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهو مما يعين على الصبر، والمجاهدة، وتحمل أذى الناس؛ فإذا أيقن المسلم أن الله سيجزيه على حسن خلقه ومجاهدته؛ سيهون عليه ما يلقاه في ذلك السبيل.
19ـ تجنب الجدال: لأن الجدال يذكي العداوة، ويورث الشقاق، ويقود إلى الكذب، ويدعو إلى التشفي من الآخرين. فإذا تجنبه المرء؛ سلم من اللجاج، وحافظ على صفاء قلبه، ثم إن اضطر إلى الجدال؛ فليكن جدالاً هادئًا، يراد به الوصول إلى الحق، وليكن بالتي هي أحسن وأرفق، قال تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[125] } [سورة النحل].
أما إذا لج الخصم في الجدال، وعلا صوته في المجلس؛ فإن السكوت أولى، وإن أفضل طريقة لكسب الجدال؛ حينئذٍ هي تركه، قال عليه الصلاة والسلام: [ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ] رواه أبوداود.
20ـ التواصي بحسن الخلق: وذلك ببث فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق، فحسن الخلق من الحق، والله يقول: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3] } [سورة العصر].
21ـ قبول النصح الهادف، والنقد البناء: فهذا مما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، ومما يبعث على التخلي عن الأخلاق الساقطة. فعلى من نُصِحَ أن يتقبل النصح، وأن يأخذ به؛ حتى يكمل سؤدده، وتتم مروءته، ويتناهى فضله.
بل ينبغي لمتطلب الكمال ـ خصوصًا إذا كان رأسًا مطاعًا ـ أن يتقدم إلى خواصه، وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وحاشيته ـ فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ونقائضه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها؛ فهذا ما يبعثه للتنزه من العيوب، والتطهر من دنسها.
22ـ لزوم الصدق: فالصدق يهدي إلى البر، وحسن الخلق من جملة ذلك البر.
23ـ تجنب الوقيعة في الناس: فالوقيعة في الناس، والعرض لعيوبهم ومغمزهم ـ مما يورث العداوة، ويشوش على القلب، فتسوء الأخلاق تبعًا لذلك.
24ـ أن يتخذ الناس مرآة لنفسه: فكل ما كرهه، ونفر عنه من قول، أو فعل، أو خلق ـ فَلْيَتَجَنَّبْه، وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله.
إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنْهُ تكن مثل ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
25ـ مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة: فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديدُ التأثر بمن يصاحبه. فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة.والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانبًا من ماله؛ لإنقاذ صديقه من شدة.
فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة. فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللب أن يبحث عن إخوان الثقات؛ حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر.
26ـ الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات: فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم؛ تَخَلَّق بأخلاقهم، وقبس من سمتهم ودلهم. يروى أن الأحنف بن قيس قال:'كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه'.
ولا يلزم أن يكون هؤلاء الذين يختلف إليهم من أهل العلم، بل قد يوجد من العوام من جبل على كريم الخلال وحميد الخصال، قال ابن حزم: [[وقد رأيت من غمار العامة من يجري في الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جدًا '.
27ـ معرفة أحوال الناس ومراعاة عقولهم، ومعاملتهم بمقتضى ذلك: فهذا الأمر دليل على جودة النظر في سياسة الأمور، فالرجل العاقل يحكم هذا الأمر، وينتفع به عند لقائه بالطبقات المختلفة، فتراه يزن عقول من يلاقونه، فيتيسر له أن يسايرهم إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق.. ومراعاة عقول الناس وطباعهم فيما لا يقعد حقاً، ولا يقيم باطلاً؛ مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة.
28ـ مراعاة أدي المحادثة والمجالسة: فذلك مما يزرع المودة، وينمي الأخلاق الفاضلة.(/3)
29ـ المحافظة على الصلاة: فهي سبب عظيم لحسن الخلق، وطلاقة الوجه، وطيب النفس، وسموها، وترفعها عن الدنايا. كما أنها في مقابل ذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر، وسوء الخلق من جملة ما تنهى عنه الصلاة. ثم إنها سبب لعلاج أدواء النفس الكثيرة كالبخل، والشح، والحسد، والهلع، والجزع، وغيرها.
30ـ الصيام: فبالصيام تزكو النفس، ويستقيم السلوك، وتنشأ الأخلاق الرفيعة، وبالصيام تعلو الهمة، وتقوى الإرادة، ويتحقق الاطمئنان. فهو تدريب منظم على حمل المكروه، ودرس مفيد في سياسة المرء نفسه، ثم إن الصيام يحرك النفوس للخير، ويسكنها عن الشر، ويطلقها من أسر العادات، ويحررها من فساد الطباع، ويجتث منها رعونة الغرائز. فهذه الأمور وغيرها من أعظم ما يعين على اكتساب حسن الخلق.
31ـ قراءة القرآن بتدبر وتعقل: فهو الهدى والنور، وهو كتاب الأخلاق الأول، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، وحسن الخلق من جملة ما يهدي إليه القرآن. وفيه من الوصايا العظيمة الجامعة التي لا توجد في أي كتاب آخر، والتي لو أخذت بها البشرية لتغير مسارها، ولاستنارت سبلها، ولعاشت عيشة الهناءة والعز. بل إن آية واحدة في القرآن جمعت مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199] } [سورة الأعراف].
32ـ تزكية النفس بالطاعة: فهذا من أعظم ما يكسب الأخلاق الفاضلة إن لم يكن أعظمه، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9] } [سورة الشمس]. وقال: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[14] } [سورة الأعلى].
33ـ لزوم الحياء: فالحياء يبعث على فعل الجميل وترك القبيح. والحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير، وهو خلق الإسلام، وهو شعبة من شعب الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: [ إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ] رواه ابن ماجة .
34ـ إفشاء السلام: فإذا ما أفشى الناس السلام توادوا، وتحابوا، وإذا توادوا وتحابوا زكت نفوسهم، وزالت الوحشة فيما بينهم، فتحسن أخلاقهم تبعًا لذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ] رواه مسلم.
35ـ إدامة النظر في السيرة النبوية: فالسيرة النبوية تضع بين يدي قارئها أعظم صورة عرفتها الإنسانية، وأكمل هدي وخلق في حياة البشرية، قال ابن حزم رحمه الله :'من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، واستحقاق الفضائل والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها؛ فَلْيَقْتَدِ بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه آمين'.
36ـ النظر في سير الصحابة الكرام: فهم أعلام الهدي، ومصابيح الدجى، وهم الذين ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، وسمته، وخلقه، فالنظر في سيرهم، والاطلاع على أحوالهم ـ يبعث على التأسي بهم، والإقتداء بهديهم.
37ـ قراءة سير أهل الفضل والحلم: فإن قراءة سيرهم، والنظر في تراجمهم مما يحرك العزيمة على اكتساب المعالي ومكارم الأخلاق؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم.
38ـ قراءة كتب الشمائل والكتب في الأخلاق: فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها.
من رسالة:'الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة'
للشيخ/محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي(/4)
الأسباب الواقية من لبس الحق القسم الأخيرة
بعد أن تبين لنا خطورة لبس الحق بالباطل من خلال الصور التي أوردناها في السابق ، وما ينتج عنها من الضلال والانحراف الذي يورث العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة ، بعد ذلك : يحق لنا بل يجب علينا أن نسأل : كيف النجاة من ذلك الخطر ؟ وما هي الأسباب الواقية منه ؟ وللإجابة على ذلك : نستعرض أسباب التباس الحق بالباطل ؛ فمنها ينطلق العلاج ، وبضدها تتميز الأشياء .
فقد مر بنا أن تلك الأسباب لا تخرج عن ثلاثة أمور :
1- شبهة تسببت في أخذ الباطل على أنه الحق ، وأصل هذا : الجهل .
2- شهوة تسببت في أخذ الباطل وترك الحق عن شهوة وضعف واعتراف بالخطأ .
3- شهوة وشبهة نتج عنهما أخذ الباطل وإظهاره في صورة حق عن هوى ومغالطة استناداً إلى شبهة يعلم صاحبها أنها لا تصلح للاستدلال .
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها بين يدي الأسباب الواقية من اللبس والتلبيس . يمكن تفصيل وبيان الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل فيما يلي :
1- علم وبصيرة بدين الله عز وجل وشرعه
وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله سبحانه وشرعه ؛ فإذا تحقق هذا الأمر : فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قد تحققت ، وبهذا : فلا مجال للشبهة هنا أبداً ؛ لانتفاء الجهل الذي منه تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )[ السجدة : 24] ، فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله : (إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [العصر : 3]، فتواصوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات ، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات [1] .
2- الصبر وتقوى الله عز وجل :
فبالصبر وتقوى الله سبحانه تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه ؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله عز وجل ، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس ، والتقوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب : فإنه يضعف ويقع في المخالفة مع علمه بذلك ، أما إذا اجتمع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح : لم يكن أمام من هذه صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد ، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه ، وإلى هذا أشار ابن القيم في النقل السابق بقوله :إن فتنة الشبهات تدفع باليقين ، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولكن إذا ضعف الصبر والتقوى ، ووجدت الغفلة عن الآخرة، وتنوسِيَ الوقوف بين يدي الله عز وجل ، وصاحب ذلك شيطان يزين ، ودنيا تتعرض بفتنها : فالغالب عدم السلامة . ولكن المخالف للحق هنا : إما أن يكون لديه بقية تقوى وخوف من الله عز وجل فيعترف بذنبه، ويستغفر منه ويتوب ، أو يكون عياذاً بالله قد رقّ دينه وسيطر عليه هواه فأخذ يلتمس مبرراً لباطله، ويبحث هنا وهناك عن شبهة يظهر بها باطله ومخالفته في قالب الحق والموافقة لدين الله ، وهذا هو الخداع والتلبيس ، ولا علاج له إلا بتقوى الله سبحانه ، واليقين بالرجوع إليه .
نعم إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة ، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً ، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه : فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة ؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه ، أما إذا انضم إلى العلم والبصيرة : الصبر والتقوى والخوف من الحساب يوم القيامة ، فإن الشهوة ستنقمع وإن الهوى سيُغلب ، وعندها: يختفي اللبس والتلبيس والخداع والمغالطة في دين الله عز وجل ؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض رده على المحتالين على شرع الله بالحيل الباطلة : فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكَاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال ، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال . [2] .
ويقول سيد قطب رحمه الله في ظلال قوله تعالى : ( وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأعراف : 169] :
نعم إنها الدار الآخرة ! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة ، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العَرَض الأدنى القريب في هذه الدنيا .. نعم ، إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها [3] .
أسباب أخرى مساعدة :(/1)
وبعد ذكر السببين الرئيسين للوقاية من اللبس والتلبيس ، وهما : البصيرة في الدين الذي تدفع به الشبهة ، والصبر والتقوى اللذان تدفع بهما الشهوة : نذكر فيما يلي بعض الأسباب المساعدة لتثبيت السببين السابقين :
3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح :
حيث لابد للمسلم من محاسبة دائمة للنفس ، ومجاهدة لها في تطويعها لشرع الله عز وجل والحذر من الشيطان الذي لا يفتأ يوسوس ويزين لها الباطل ، فإن لم يتفقد كل منا نفسه ، ويسد على الشيطان مداخله المتعددة ؛ فإن النفس تكون على خطر أن تنساق مع شهواتها وهواها ، فيحصل من جراء ذلك : اللبس والتلبيس والتضليل والمغالطة ، إما بعلم أو بجهل ، وإن مما يؤكد أهمية المحاسبة الدائمة واليقظة الشديدة للنفس ما يحصل من كثير منا في يومه أو غده من المغالطات
والمعاذير الكاذبة والتبريرات الغامضة ، سواء أكان ذلك مع النفس أو مع الناس ، ولكنها تكثر وتقل حسب التقوى وقوتها أو ضعفها في القلب ، مع أنه يوجد من الدعاة والمصلحين نماذج فريدة في إخلاصها وصدقها وبعدها عن المداهنة والمغالطة والتلبيس ، نسأل الله لهم الثبات ، ونسأله سبحانه للجميع الصدق في المقاصد والأقوال والأعمال .
ومن الأسباب القوية التي يُتحصن بها من الشيطان ووساوسه : ذكر الله عز وجل في أحوال اليوم والليلة ؛ فكلما كان اللسان رطباً بذكر الله تعالى والقلب يواطؤه في ذلك : كلما كان الشيطان بعيداً ولا يستطيع اقتحام الحصن ؛ لأن ذكر الله سبحانه يحرقه ويمنعه من الدخول ، ولكن ما إن يغفل العبد عن ذكر الله تعالى حتى يكر مرة أخرى للوسوسة ، فهذا دأب الشيطان في كره وفره على القلب ، فكلما ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس .
ومن الأسباب الواقية من التباس الحق بالباطل : مجاهدة النفس في عمل الصالحات والإكثار منها من غير إفراط ولا تفريط ، كما جاء في الحديث القدسي الذي منه : وما تقرب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها .. الحديث [4] فمن كان يسمع ويبصر ويمشي ويبطش بنور الله وهداه : فإنه لن يخطئ أبداً ؛ قال تعالى : ( وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) [العنكبوت : 69] وبالضد من ذلك فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) [الصف : 5]
4- مصاحبة أهل العلم والورع :
إن الجليس يتأثر بجليسه وصاحبه ، سواءً أكان ذلك في الخير أو الشر ، وذلك عن طريق المؤانسة والمشابهة والقدوة ، وعليه : فإن من الأسباب المانعة من الانحراف ولبس الحق بالباطل : الجلوس مع أهل العلم والتقوى ومصاحبتهم ومشاورتهم ، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات ، وبالتقوى والورع لديهم تحترق الشهوات ، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس ، والعكس بالعكس : ما إن يصاحب المرء أهل الجهل والجدال ومن لم يؤتوا حظّاً من التقوى والورع إلا ويتأثر بهم وينطبع بأخلاقهم وتشتبه عليه الأمور لضعف العلم والبصيرة ، أو يتعمد ترك الحق وتعميته على الناس لضعف التقوى والصبر عن الشهوات ، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ، ومكابدة الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر .
ولعل مما يدخل في هذا السبب : الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان ؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله .
5- الحذر من الدنيا ، وعدم الركون إليها :
إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الانحراف والمخالفات : هذه الدنيا الغرارة ؛ فكلما انفتحت على العبد كثرت شبهاتها وانساق مع شهواتها المختلفة ، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله عز وجل في قوله سبحانه ( قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ) [التوبة : 24] .(/2)
والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه : غفلة عن الآخرة ، وتشتت للذهن والقلب ، وإعمال الفكر في الاستزادة منها ، والخوف على فواتها .. وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين ، ومن هنا : تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان ، وتثور الشبهات والشهوات في القلب ، والذي ينشأ منهما : الكذب ، والتدليس ، والتلبيس ، والطمع ، والجشع .. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش فيه ، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات ، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم ، ولذا : كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها : أن يتخفف منها قدر الاستطاعة وأن يرضى منها بالقليل ؛ لأن هناك تناسب طردي وخاصة في زماننا هذا بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس .
6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها :
إن الشعور بواجب النصح للأمة يقتضي من المسلم وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يبين الحق لأمته ، ويعري الباطل ويكشفه لها ، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل ؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها ، ثم يتركها وهو يعلم الحق من الباطل إن مَن هذا شأنه : يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين ، وإن الله عز وجل سائله يوم القيامة عن علمه : فيم عمل به؟، وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه ولم يكشفه للناس ، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسه عياذاً بالله ؟ إن هذا بلا شك أكثر خيانة من سابقه ، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزار من ضللهم شيء . والحاصل : أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس أو السكوت عليه : من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه إن كان في القلب حياة وخوف من الله سبحانه والدار الآخرة ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الدين وأهله : لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج ، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين وتعرية باطلهم وخداعهم كما مر بنا في صور التلبيس ، وعندها : تعرف الأمة من توالي ومن تعادي ، وعندها : تتميز الصفوف ويتميز المؤمن من المنافق ، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة ، لكنها رخيصة في سبيل الله عز وجل لأن نصر الله جل وعلا الموعود لا يتم بدونها .
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل في هذه العجالة حول هذا الموضوع المهم الذي يمس المسلم في عقيدته وأخلاقه ومجتمعه ، ولا أزعم أنني أحطت بجوانبه كلها ، ولكن حسبي إثارة هذا الموضوع والتذكير به لعل فضيلة العلماء الكرام والإخوة الدعاة يكملون ما نقص منه ، ويقوّمون ما اعوج منه . وأحب أن أنبه : أن ما ذكرته من صور التلبيس ذكرته على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ، فالصور كثيرة وكثيرة وبخاصة في زماننا هذا الذي قلّ فيه العلم والورع ونجم فيه الجهل والنفاق .
وفي خاتمة هذه المقالات : أوصي نفسي الأمارة وأوصي إخواني المسلمين : بأن يتفقد كل منا نفسه ، ويبحث عن هذا المرض الخطير فيها فإذا وجدنا شيئاً من ذلك وسنجد فعلينا التوبة الصادقة من هذا المرض، ولنبادر بقطع جذوره قبل أن يستفحل ، ولا نُسوّف في ذلك أبداً ؛ لأن التسويف وطول الأمل من عمل الشيطان وتلبيسه .
والله أعلم ، وصلّ الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
__________________
(1) إغاثة اللهفان : ج2 ، ص167 .
(2) إعلام الموقعين : ج3 ، ص214 .
(3) في ظلال القرآن : ج3 ، ص387 .
(4) البخاري : كتاب الرقائق ، ح 6502 .
مجلة البيان / العدد (89) التاريخ - محرم /1416هـ .(/3)
الأستاذ الدكتور موفق الدين يصف صلاح الدين!
د.إسلام بن صبحى المازني
doctor_thinker@hotmail.com
السماء لا تمطر-عادة- ذهبا ولا فضة ... والنصر لا يأتي رخيصا أو مصادفة، بل أمرنا الله تعالى بالعدة ما استطعنا، ووعدنا سبحانه بالتأييد حينئذ ... إسلام صحيح (على نهج النبي صلى الله عليه وسلم من الوحيين النقيين، بفهم الصحب الكرام)، وأخذ بالأسباب قدر الوسع بلا شك ...
لم يكن صلاح الدين طفرة ولا فلتة، بل كان كوكبا من مجموعة منيرة، ربيت بعناية ميزت أبناء الإسلام، وهو أسوة ليعرف الحالمون كيف كان السادة الحقيقيون .
ولم يكن نصر حطين فرصة مفاجئة اغتنمها، ولا فورة حماسة، بل كان نتيجة توفيق الله تعالى له للسير على خطوات دامت سنوات، بعد خطوات أخرى مهدها له سلفه نور الدين .
فعلى الأمة قادة ومقودين أن يدرسوا ذلك ليعرفوا كيف كان ما كان..
إن أرادوا عودة للقمة ورفعا للغمة
لقد كانت هناك برامج تعليمية وإعلامية وعلمية ورؤية شرعية وروح عامة تبث للنهضة لفترة، وعمل خالص دؤوب ..
فلم نكون الضعفاء؟ ولم نكون الأدنى عدة وعمقا ؟ من يتحمل وزر ذلك اليوم الذي صرنا فيه لا شيء ؟ وأعلنا عجزنا عن حماية أعراضنا وشرفنا ..
من هم أصدقاء صلاح الدين ؟
هذا هو وصف دكتور معاصر لصلاح الدين، وهو العالم البروفيسير الفذ :
موفق الدين عبد اللطيف البغدادي
وهو أستاذ دكتور في الطب والنحو، وكلامه أحلى من الشهد، ونقلت تهذيب ترجمته وسيرته الذاتية - بقلمه وقلم ابن أبي أصيبعة - مع التعقيب في كتابي: روائع تاريخ الطب والأطباء المسلمين، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
انظروا للتربية وهو يحكي عن نفسه، وقارنوا ... :
وتربيت في حجر أبي النجيب، لا أعرف اللعب واللهو، وأكثر زماني مصروف في سماع الحديث، وأخذت لي إجازات من شيوخ بغداد وخراسان والشام ومصر!
وقال لي والدي يوما ً قد سمعتك جميع عوالي بغداد، وألحقتك في الرواية بالشيوخ، وكنت في أثناء ذلك أتعلم الخط، وأتحفظ القرآن والفصيح والمقامات وديوان المتنبي ونحو ذلك، ومختصراً في الفقه ومختصراً في النحو !
وأقبلت على الإشتغال وشمرت ذيل الجد والاجتهاد وهجرت النوم واللذات!
إنما الأيام والعيش كتاب كل يوم فيه للعبرة باب
إن رزقت العلم زنه بالبيان ما يفيد العقل إن عي اللسان
وسافرت إلى مصر.......
إلى أن قال :
وشاع أن صلاح الدين عاد إلى القدس، فقادتني الضرورة إلى التوجه إليه، فأخذت من كتب القدماء ما أمكنني وتوجهت إلى القدس فرأيته عظيماً يملأ العين روعة والقلوب محبة، قريباً بعيدا،ً سهلاً محببا،ً وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف كما قال تعالى " ونزعنا ما في صدورهم من غل " وأول ليل حضرته وجدت مجلساً حفلاً بأهل العلم يتذاكرون في أصناف العلوم، وهو يحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق ويتفقه في ذلك... يحمل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به جميع الناس الفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، حتى العماد الكاتب والقاضي الفاضل، ويركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظهر، ويأتي داره ويمد الطعام ثم يستريح ويركب العصر، ويرجع في المساء ويصرف أكثر الليل في تدبير ما يعمل نهاراً، فكتب لي صلاح الدين بثلاثين ديناراً في كل شهر على ديوان الجامع، وأطلق أولاده رواتب حتى تقرر لي في كل شهر مائة دينار . ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع، وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فيها رغبة وفي كتب فلسفة ابن سينا زهادة...."
من كلامه:
" ينبغي أن تحاسب نفسك كل ليلة إذا آويت إلى منامك، وتنظر ما اكتسبت في يومك من حسنة فتشكر اللّه عليها، وما اكتسبت من سيئة فتستغفر اللّه منها، وتقلع عنها وترتب في نفسك مما تعمله في غدك من الحسنات، وتسأل اللّه الإعانة على ذلك . وإذا قرأت كتاباً فاحرص كل الحرص على أن تستظهره وتملك معناه، وتوهم أن الكتاب قد عدم، وأنك مستغن عنه لا تحزن لفقده. وإذا كنت مكباً على دراسة كتاب وتفهمه فإياك أن تشتغل بآخر معه، ولصرف الزمان الذي تريد صرفه في غيره إليه.
وإياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة، وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين أو ما شاء اللّه، فإذا قضيت منه وطرك فانتقل إلى علم آخر، ولا تظن أنك إذا حصلت علماً فقد اكتفيت! بل تحتاج إلى مراعاته لينمو ولا ينقص ومراعاته تكون بالمذاكرة والتفكر، واشتغال المبتدئ بالتلفظ والتعلم ومباحثة الأقران واشتغال العالم بالتعليم والتصنيف...
وينبغي للإنسان أن يقرأ التواريخ وأن يطلع على السّير وتجارب الأمم فيصير بذلك كأنه في عمره القصير قد أدرك الأمم الخالية وعاصرهم وعاشرهم وعرف خيرهم وشرهم . "(/1)
قال "وينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول فاقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبع أفعاله وأحواله واقتف آثاره، وتشبه به ما أمكنك وبقدر طاقتك، وإذا وقفت على سيرته في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتطببه وتمتعه وتطيبه، ومعاملته مع ربه ومع أزواجه وأصحابه وأعدائه وفعلت اليسير من ذلك فأنت السعيد كل السعيد . "
وإذا خلوت من التعلم والتفكر فحرّك لسانك بذكر اللّه وبتسابيحه، وخاصة عند النوم فيتشربه لبك ويتعجن في خيالك وتكلم به في منامك، وإذا حدث لك فرح وسرور ببعض أمور الدنيا فاذكر الموت وسرعة الزوال وأصناف المنغصات، وإذا أحزنك أمر فاسترجع، وإذا اعترتك غفلة فاستغفر، واجعل الموت نصب عينك والعلم والتقى زادك إلى الآخرة، وإذا أردت أن تعصي اللّه فاطلب مكاناً لا يراك فيه! واعلم أن الناس عيون اللّه على العبد يريهم خيره وإن أخفاه وشره وإن ستره، فباطنه مكشوف للّه واللّه يكشفه لعباده، فعليك أن تجعل باطنك خيراً من ظاهرك وسرك أصبح من علانيتك، ولا تتألم إذا أعرضت عنك الدنيا فلو عرضت لك لشغلتك عن كسب الفضائل، وقلما يتعمق في العلم ذو الثروة إلا أن يكون شريف الهمة جداً، أو أن يثري بعد تحصيل العلم وإني لا أقول إن الدنيا تعرض عن طالب العلم بل هو الذي يعرض عنها، لأن همته مصروفة إلى العلم فلا يبقى له التفات إلى الدنيا، والدنيا إنما تحصل بحرص وفكر في وجوهها، فإذا غفل عن أسبابها لم تأته وأيضاً فإن طالب العلم تشرف نفسه عن الصنائع الرذلة والمكاسب الدنية وعن أصناف التجارات وعن التذلل لأرباب الدنيا والوقوف على أبوابهم، وجميع طرق مكاسب الدنيا تحتاج إلى فراغ لها، وحذق فيها وصرف الزمان إليها، والمشتغل بالعلم لا يسعه شيء من ذلك، وإنما ينتظر أن تأتيه الدنيا بلا سبب وتطلبه من غير أن يطلبها.. وهذا ظلم منه وعدوان ولكن إذا تمكن الرجل في العلم وشهر به خطب من كل جهة وعرضت عليه المناصب وجاءته الدنيا صاغرة وأخذها وماء وجهه موفور وعرضه ودينه مصون، واعلم أن للعلم عقبة وعرفاً ينادي على صاحبه ونوراً وضياء يشرق عليه ويدل عليه كتاجر المسك لا يخفى مكانه ولا تجهل بضاعته وكمن يمشي بمشعل في ليل مدلهم، والعالم مع هذا محبوب أينما كان وكيفما كان لا يجد إلا من يميل إليه ويؤثر قربه ويأنس به ويرتاح بمداناته، واعلم أن العلوم تغور ثم تفور في زمان بمنزلة النبات أو عيون المياه وتنتقل من قوم إلى قوم ومن صقع إلى صقع . "
ومن كلامه أيضاً:
"اجعل كلامك في الغالب بصفات أن يكون وجيزاً فصيحاً في معنى مهم"
وقال "إياك والهذر والكلام فيما لا يعني، وإياك والسكوت في محل الحاجة ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق أو اجتلاب مودة أو تنبيه على فضيلة، وإياك والضحك مع كلامك وكثرة الكلام وتبتيرالكلام، بل اجعل كلامك سرداً بسكون بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه، وأنه عن خميرة سابقة ونظر متقدم"
وقال" إياك والغلظة في الخطاب والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته ويعدم حلاوته ويجلب الضغائن ويمحق المودات"
وقال "انتزح عن عادات الصبا وتجرد عن مألوفات الطبيعة، واجعل كلامك في الغالب لا ينفك من خبر أو قرآن أو قول حكيم، أو بيت نادر أو مثل سائر" .
وقال: "تجنب الوقيعة في الناس والغلظة على المعاشر وكثرة الغضب وتجاوز الحد فيه ".
وقال "استكثر من حفظ الأشعار الأمثالية والنوادر الحكمية والمعاني المستغربة"
ومن دعائه رحمه اللّه :
قال اللهم أسلس لنا مقاد التوفيق، وخذ بنا في سواء الطريق، يا هادي العمي يا مرشد الضلال، يا محيي القلوب الميتة بالإيمان، يا منير ظلمة الضلالة بنور الإتقان، خذ بأيدينا من مهواة الهلكة، طهرنا من درن الدنيا الدنية بالإخلاص لك والتقوى، إنك مالك الآخرة والدنيا.......
سبحان من عم بحكمته الوجود واستحق بكل وجه أن يكون هو المعبود، تلألأت بنور جلالك الآفاق، وأشرقت شمس معرفتك على النفوس إشراقاً وأي إشراق .(/2)
الأسس العلمية للتواصل الأكاديمي
د.محمد سالم سعد الله
non_alshekh@yahoo.com
في زحمة تصارع الفكر الحديث ، واختلاف مناهله ، وتشظي دوافعه ، يحتاج الفرد لَملَمة مهماته ، وترتيب سلم أولوياته ، ليقدم صناعة البيان الختامي في المشهد المعرفي المعاصر ، لكنه بحاجة ملّحة للتعرف على إمكانية المنهج المتوارث في تقديم ما هو الأفضل للمسار العملي الحديث ، وتحديد مكامن الأزمة ، ومناقشة المشكلة ، والمشاركة في تخفيف المحنة ، لذلك يمكننا تحديد بعض الأسس العلمية التي قد تقدّم تصورات مفيدة في إنعاش المسيرة المعرفية والعلمية للأستاذ الجامعي : إنسانا .. وقيمة علمية .. وتطلعا معرفيا وثقافيا .
أولا : التواصل مع الحضارة
تُعد الدراسات الحضارية من الدراسات المهمة والديناميكية ، وقد تطورت بشكل متشعب في ميادين الدراسات المعرفية والثقافية المعاصرة ، وتنوعت مدارسها ، واختلفت الآراء فيها ، وهذه سمة من سمات التطور العلمي في ميدان معين ، لكن موقع هذه الدراسات في البيئة الغربية أفضل منها في البيئة العربية ، وذلك لافتقار الأخيرة إلى مراكز متخصصة للبحث والتقويم والدراسة والتنقيب ، وتقديم الرأي وقبول الرأي الآخر في إطار عملية معرفية لا تعترف بدونية الأنا ، وفوقية الآخر . لذلك نجد أن من المهم أن يكون الهم الحضاري هو الأساس العلمي الأول الذي يحقق التواصل الأستاذ الجامعي مع الآخر في ميادين جامعية عالمية متنوعة .
من هنا تبرز أهمية إنشاء مركز متخصص للبحوث والدراسات العلمية الرصينة في إطار الدرس الحضاري والاستراتيجي ، فضلاً عن أخذها مهمة تطوير الدراسات العربية الحديثة من خلال الجهد المعرفي العربي الأصيل المتمثل بجهود القدامى ، التي مثلت لوحة فسيفساء متكاملة قدمت صورة الدرس الحضاري الإسلامي عبر مئات من القرون الماضية ، قدمت للبشرية جمعاء ما تنير به العقول ، وما تزدان به النفوس ، فضلا عن احتفائها بالأستاذ بوصفه لبنة علمية مهمة وفاعلة في المسيرة العلمية .
وتنهض أقسام المركز المختلفة بالحديث عن الجهد الحضاري والمعرفي العربي الأصيل ، وقيمة هذا الجهد بوصفه الحامل لمعرفة زمنية متجددة وحيوية ، والحديث عن أهمية وضع الدرس الحضاري في ميدان التحليل والتنظير في العصر الحديث ، فضلا عن الحديث عن حركة الترجمة والتأليف والإشكاليات النقدية والمنهجية التي تعتري مسيرة الدرس الحضاري الحديث ، وإمكانية تطوير المدونة النقدية والثقافية العربية هذا من جانب ، ومن جانب آخر يشجع المركز التدريسيين الجامعيين على تقديم بحوث ومشاركات علمية لها صدى في التقدير الرسمي الأكاديمي من ترقيات علمية ونحو ذلك .
ثانيا : التواصل مع التراث
يُعد المخطوط العربي من الكنوز التراثية التي اعتراها النسيان ، وحُكِم عليها بالسجن المؤبد على الرف الممتلىء غبارا وصدأ ، والاستاذ الجامعي الآن أحوج ما يكون إلى إظهار هذا المخطوط إلى الوجود ، لا سيما بعد الفجوة المعرفية التي حدثت بين معطيات العرب ومعطيات الحركة العلمية المعاصرة ، فالتراث العربي لم يرَ النور إلى الآن ، وما حُقِق منه لا يتجاوز نسبة ضئيلة جداً من حجم هذا التراث في المكتبات أو في المتاحف المختلفة في أرجاء المعمورة ، ويقود هذا إلى وصف الأحكام التي تُطلق على التراث العربي والإسلامي بأنها أحكام جزئية لا ترقى إلى الحقيقة العلمية ، لأن جزءاً كبيراً من هذا الإرث المعرفي والعلمي مركون على الرف ، هذا فضلاً عن النتيجة السلبية ـ في الغالب ـ التي خرج بها الدارسون العرب ( الحداثيون ) من كون النتاج العربي التراثي نتاجاً لا يصلح أن تُشتق منه نظريات تتناسب مع الوضع العلمي والنقدي والمعرفي المعاصر ، والعلة لا تكمن في هذا الرأي ، بل في تقصيرنا تجاه المخطوط العربي ، ومحاولة إظهاره للحياة العلمية .
وينهض الأستاذ الجامعي بالحديث عن التراث العربي ، وقيمة المخطوط بوصفه الحامل لمعرفة زمنية محددة وحيوية ، والحديث عن أهمية وضع المخطوط العربي تحت الدرس والتحليل في العصر الحديث ، فضلا عن الحديث عن حركة الترجمة والتأليف ومواد الكتابة وأدواتها ، ومهنة الوراقين ودورهم في إنعاش مسيرة الكتابة العربية وتطوير المدونة الكلامية العربية في شتى التخصصات .
ثالثا : التواصل مع الطالب
اقصد هنا تحديدا طالب الدراسات العليا ، واحدد قضية الإشراف العملي التي يمارس الأستاذ من خلالها مع طلبته أروع أنواع التواصل الأكاديمي ، أو يقدم صورة سيئة له .(/1)
يتجه الأشراف العلمي المعرفي الجاد والرصين إلى تحقيق إمكانيات معرفية على صعيدين : ( صعيد الطالب ، صعيد الأستاذ ) ، فطبيعة العلاقة بين الطالب والأستاذ ، هي علاقة جدلية طردية ، فكلما استطاع الأستاذ تكثيف جهوده ، ومواصلة الجهد العلمي المتطور ، فإنه سيقدم تلك الجهود إلى طالبه ، وبالتالي سيتحقق التواصل العلمي بينه وبين طالبه من جهة ، وبينه وبين المستجدات العلمية من جهة أخرى في ميدان تخصصي معين .
ويتعلق مسار الأشراف العلمي بالحدود الثابتة والدقيقة لميزات النهج العلمي ، وبيانا لسماته وأهدافه ، ويقدم صيغاً تسهم في بلورة المستوى العلمي وتطويره ، وتحديد السبل الناجعة للارتقاء بمستواه وإمكانياته .
رابعا : التواصل مع السلوكيات العلمية المتزنة
يتجه الوعي المؤسساتي إلى تنظيم خبراته وفقا لأجندة علمية دأب على رسمها ثلة من الأساتذة الجامعيين المختصين والمبدعين في حقول مختلفة ، منهجها تحديد الركائز الأولى في تنظيم المسيرة العلمية ، وغرضها إيجاد السبل الكفيلة بدفع النتاج المعرفي ، وهدفها تحويل الظاهرة إلى تعليل ، وتفعيل السلوكيات عن طريق التحليل ، وإذا كان المشروع المؤسساتي للاستاذ ينطلق من الثوابت السابقة ، فإن دوره لن يؤطر بصيغ مدونة ومثالية لا تجد لها صدى إلا في فضاء الكتابة ، فدوره دور بنائي أولا من خلال بناء الهرم العلمي القائم بمهمة النهوض بالمجتمع ، وله دور تفاعلي ثانيا من خلال النهوض بفعاليات المجتمع ومؤسساته ، فضلا عن دوره الريادي في صياغة عقول متفتحة تدعو إلى احتضان المعرفة ، وتطوير العلم ، وبناء قيم الطالب العلمية وفقا لمبادىء الحرية التي من المفترض أن يكون متمتعا بها .
تكتنز الجامعة سلوكيات عدة منها ما كان سلبيا ، ومنها ما كان ايجابيا ، تتعلق الأولى بإمكانية الانفصال ، وتتعلق الثانية بإمكانيات الاتصال ، الانفصال عن الدور الريادي للأستاذ الجامعي ، والاتصال بالواقع العلمي والتربوي ، لذلك فإننا سنتجه إلى بيان بعض السلوكيات التي ينبغي تجنبها دفعا للوقوع في شرك ( اللاعلمية ) ، أو المساهمة في انهيار أو اغتيال العملية التعليمية في الجامعة من خلال تراجع الدور الريادي للأستاذ فيها .
على الأستاذ الجامعي أي يعي أن سمعة التعليم الجامعي بات مرهونا الآن بعطايا الأستاذ العلمية والمعرفية ، ومقيدا بتطور مستواه ، وأن انهيار المسلك التعليمي مرده بشكل من الأشكال إلى الأستاذ نفسه ، وإذا ما وقع ذلك فان الحل الفردي ، لن يقدم مخرجا سحريا لمجاوزة الأزمة ، إنما تشكل الحلول التي تمتلك رؤى جماعية المسلك العلمي لتقديم الحلول .
وعلينا بيان أمر مهم وهو أن الأستاذ الجامعي متى ما طمح أن تكون منافسته العلمية متجهة نحو العالمية وتجاوز اطر الإقليمية فانه سيسعى جاهدا إلى نفض التقليد والسكون ، والصيغ الأكاديمية المزعجة حينا ، والمتقولبة أحيانا أخرى ، وسيسهم ذلك في رقي التحصيل ، وتحقيق مدارات من المعرفة الجادة ، ومجاوزة الإخفاقات التي حملت الأستاذ زمنا على ترك المبادرة والالتزام بالتقليد .
ومن المهم ذكر أن التواصل الجامعي لن يتحقق بوجود إدارة متعصبة غير مرنة ، مفتقرة إلى ابسط قواعد التعامل العلمي الصحيح مع الأستاذ الجامعي ، وقد أسهمت هذه الإدارات المتحجرة ـ وما أكثرها في الميدان الجامعي ـ في تثبيط الأستاذ مرة ، وإعاقة الجهد العلمي الرصين مرة أخرى ، وملل التدريسي من تقديم النصح والإرشاد للمسيرة العلمية والتربوية مرات عدة ، وقد ساعد هذا في حرمان الأستاذ الجامعي من القرار العلمي الناضج الذي يدخل في خدمة التدريسي ويحفظ له منزلته ، لذلك فإننا نرجو أن يتحرر الأستاذ الجامعي من سطوة الإدارة وجمودها ، وان يقترح سبلا ناجعة لتطويرها .
ومن النقاط المهمة الأخرى التواصل مع البحث العلمي ومستجداته ، وإعادة الأمل إلى مسيرة البحث المبدع والمبتكر وتشجيعه ، وليس البحث الجامد أو المسخ أو المسروق أو الذي لا يمتلك قيمة علمية تذكر لأنه لا يستند إلى مقومات كتابة البحث ، ولا يمتلك صاحبه الأدوات العلمية المناسبة التي تصوغ الفكرة ، وتقدمها للآخرين .
وتقتضي السلوكيات العلمية المتزنة أن يتحلى الأستاذ الجامعي بفلسفة تنظيمية وتربوية متطورة ، وفكر ثاقب لإدامة عجلة الحياة الجامعية ، لان ذلك يسهم في بلورة العقل وتحويله من عقل هاضم للمعلومة إلى عقل منتج لها ، ومن نهج علمي تقليدي استهلاكي إلى آخر إنتاجي ، ومن ضعف في أدوات البحث المنهجية والمعرفية ، إلى تكوين قاعدة علمية رصينة لأخذ المعلومة وتوظيفها بشكل صحيح ، ثم محاولة ابتكار طرائق جديدة في أساليب تقديم المعلومة للطالب الذي يعشق كل جديد ، ويستمتع بكل أسلوب يكسر التقليد والجمود .(/2)
وجدير بالذكر أننا لا يمكننا مطالبة التدريسي بالإبداع وتقديم الأفضل ، ونحن نقيد حركته في الوقت نفسه بإدارة لا تعترف بالمرونة ولا تستخدم التعامل المرضي مع الأستاذ ومنزلته العلمية ، وتشير بعض الدراسات النفسية أن الإنسان لا يمكنه العطاء إذا كان يحس بممارسة ضغوط معينة على صعيدي : العقلي والجسدي ، لان التفكير وطرائقه مرتبط بشكل مباشر بحماية مطالب الأستاذ بالتمتع بمنزلته التي ارتقت في بعض الدول العظمى إلى منزلة الحصانة الدبلوماسية .
لقد أثرت الإدارة الجامدة في أروقة جامعاتنا إلى إضعاف مبادرات الأساتذة هم تجاه جامعتهم ، كما أسهمت في تقليص عطاء الأستاذ وتحديده بالمحاضرة حينا ، وببحث ملزَمٍ على تقديمه لغرض الترقية العلمية حينا آخر.
وفي الختام يمكننا القول أن التواصل الأكاديمي لا يمكن تحقيقه إلا بمعالجة الرباعية الآتية :
1. أستاذ مغيب .
2. طالب غائب .
3. منهج عقيم .
4. إدارة جامدة .
أستاذ مغيب بسبب أوضاع عدة عصفت بالواقع العراقي المعاصر : من واقع مادي متأرجح ، وواقع امني متدهور ، وواقع اجتماعي متأزم ، وواقع سياسي متلون غير مستقر ، وواقع مستقبلي مغر بالسفر إلى هنا وهناك ، وواقع أكاديمي متحجر غير مرن ، وطالب غائب بسبب ظروف أمنية واقتصادية واجتماعية سيئة ـ والقائمة في ذلك تطول ـ ، فضلا عن تشتت الفكر ، وضياع الهدف ، وغياب العقل المفكر المناقش والمحاور ، ومنهج عمره عقود غير متطور لا زال يُدرّس في أروقة جامعاتنا ، وإدارة أحجمت النص القانوني ، وحكمت عليه بالشنق والخنق حتى الإعياء ، وإذا استمر هذا الرباعي العمل في جامعاتنا فإننا سنحصد نتائج من السهل وصفها بالسلبية .(/3)
الأسلوب والأسلوبية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
1- " الأسلوب والأسلوبية " موضوع جديد في ميدان الفكر والأدب، ظهر في الربع الثاني من القرن العشرين، وكان أول من بدأ بها " شارل بالي " تلميذ " دي سوسير ". ثم انطلقت مذاهبها في تيّارات مختلفة متضاربة مصاحبة لتيّارات الحداثة والبنيوية والتفكيكيّة ومنطلقة منها.
لقد كانت كلمة " الأسلوب " وما يرادفها في اللغات الأُخرى كلمةً واضحة لدى العامة والخاصة، وكان هنالك دراسات وتصورات للأسلوب واضحة كذلك مهما اختلفت فيها وجهات النظر. بل أكثر من ذلك، كانت الدراسات حول الأسلوب مفيدة للأديب ولما ينتجه الأديب، مساعدة على نمو العطاء والإتقان والإحسان فيه.
وحسب ما أعتقد، فقد جاءت الدراسات الحديثة " للأسلوب والأسلوبية " لتطرحه في متاهة واسعة من مظانّ الفلسفة وسراديبها، دون أن تكون عاملاً مساعداً للأديب أو لعطائه، أو للأدب بصفة عامة. هذا هو الشعور الذي تملكني وَأَنا أَدرس هذه القضية في متاهاتها المظلمة.
ومهما يكُن من وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع بين بعض الأدباء، إلا أن الذي يجب ألا يُختلَفَ فيه هو رفض ما ورد من إساءة للتصَوُّر الإيماني، والإساءة في تأويلٍ فاسدٍ لبعض الآيات الكريمة.
ولا يختلف اثنان أن " الأسلوب والأسلوبية " كما ظهرت في هذا القرن، هي وليدة الحداثة ومختلف مذاهبها من بنيوية إِلى تفكيكية إِلى غير ذلك.
يَتلقَّى بعضهم ما يَرِدُنا من العالم الغربيّ اللادينيّ والعَلماني، تلقّي القَبول والاستسلام، دون أدنى محاولة للتمحيص والتدقيق، وردّ الأُمور إِلى منهاج الله. وقد بلونا من ذلك كثيراً. ولم يدرك بعض أبناء المسلمين أَنَّ بَيْنَ ما يَردُنا سمّاً زُعافاً طواه الزخرف المُغْري. والأعجب أن أكثر ما أخذناه كان في ميدان فتنة الفكر والخلق، وفساد الممارسة وانحلال القيم، وقليلون أولئك الذين يتساءلون كيف دخلت علينا أنواع الرقص وجنون الغناء ولهيب الفاحشة، ولم تدخل الصناعة التي تعين على حماية ديارنا وأعراضنا وأموالنا ؟! كيف دخلت شعارات مساواة المرأة بالرجل ولم تدخل شعارات مساواة الإنسان بالإنسان في ميدان الإنسانيّة وشعارات الديمقراطيّة وحقوق الإنسان ؟! كيف جاء طوفان الإعلام يدعو إلى جميع أشكال هذه الفتن ولم يدع إِلى حق المسلمين بأن يمتلكوا القوة العلميّة والصناعية والعسكرية ؟!
كيف رضي بعض المسلمين من خلال دعوة السلم والسلام أن نُلْقِيَ أسلحتنا ويمضيَ الغربُ يُنمّي أسلحته الفتاكة المبيدة ؟!
بزُخْرُفِ فتنةٍ وغُرورِ حَالِ (1)
...
...
يُمَنّيهِمْ عَدوُّ الله مَكْراً
وحِيناً بالفَسَاد أوِ الضّلالِ
...
...
ويَخْدعُهم بِدَعْوى السِّلم حِيناً
ودارُوا في هَوى قيلٍ وقالِ
...
...
فألْقَوْا عن كَواهِلهمْ سِلاحاً
وفتّحتِ الديارُ لكلِّ قالِ
...
...
فَفُتِّحتِ القلوبُ لكلِّ غازٍ
يُقَتِّل باليمين وبالشِّمالِ
...
...
وفاجَأهم سلاحٌ ذو مَضَاءٍ
ولقد سعى أَعداء الله إِلى غزو العالم الإسلامي بكلِّ أنواع الأسلحة الفكرية والقتالية والأدبية. ولقد تميّز سلاحهم الأدبيّ المدِّمر بأنه لا يهاجم الدين الحق
بصورة مباشرة تستفُّز الشعور وتوقظ الغافلين في أغلب الأحيان. كلاّ ! إنه يهاجم بأسلوب غير مباشر، ويَسْتَغلُّ شهوات الإنسان وأهواءه ونزعاته المتفلّتة ورغباته المفتونة.
ومن هنا كان خطر الأَدب الزائف الذي يحمل الفتنة كما تَحْمل الحلوى السمّ.
لذلك كان من أهم أسباب دراستي للحداثة والبنيوية والعلمانية والأسلوب والأسلوبية هو نزع غطاء الزخرف الكاذب وكشف الفتنة وسمِّها، من خلال منهاج الله، وبأسلوب الحجّة بالحجة، لا بالمهاترات والصراخ والشعارات.
والقضيّة الثانية التي أُحِبُّ أن أُثيرها، هي أنَّ بعضنا يرَى الغرب العلماني في قمة الصواب، وأن ما يطرحه من نظريات فكرية وأدبيَّة هي ذروة ما يسمونه " الإبداع " ! وسَرَتْ هذه الشائعة، حتى توهَّم الكثيرون منا أَنَّنا لا نملك القدرة على طرح نظريات إيمانيّة نابعة من منهاج الله، لنردّ على النظريات العلمانية. والحقيقة التي لا شك فيها أن منهاج الله كنز عظيم لا يفنى، ويمكن أن نَصْدُرَ عنه بأغنى النظريات الفكريَّة والأدبية وغيرها، وأغنى المصطلحات، وأقوم المناهج، وأصدق الوسائل، لننهض إلى واجبنا بإنقاذ الإنسان، إنسان اليوم، من مخالب الضواري وأنياب الوحوش الكواسر، المجرمين الظالمين المعتدين في الأرض، أهل الفتنة والفساد:
سَيَرُدُّ كيدَ المجرمين الجُحَّدِ (2)
...
...
المجرمون استكبروا في الأرض مَنْ
لله تنهج بالسبيل الأقْصَدِ
...
...
فئة معطّرة الجهادِ غنيّةٌ
ماضٍ وكلّ مصدّقٍ متجرِّدِ
...
...
من كلّ أروعَ في الجهاد مجرّبٍ
لله لم يشرك ولم يترَدّدِ
...
...
أغنى الحياة بصدقه وولائه
*
...
*
...
*
ملأ الزّمان وعطَّرَ الأفْق الندي
...
...
فئة كأنّ المسكَ من أنفاسِها
طَلَعَتْ ويغْنَى كلُّ وادٍ أجْرَدِ
...
...(/1)
تمضي فيهتزُّ الربيع بها إذا
للعالمين ورحمة للمجْهَدِ
...
...
بشرى رسول الله آية ربّه
ولا تنحصر الأَحداث بمجرياتها وفواجعها بالمجرمين وحدهم، ولكن النائمين الغافلين، التائهين المستضعفين، مشاركون بذلك، لأنهم لم ينهضوا إِلى مسؤولياتهم، ولا إلى الوفاء بالأمانة التيِ خُلِقوا لها.
إننا ندرس هذه الموضوعات، ونقدمها للقارئ الكريم، ليدرك مدى خطورة تسلل الأفكار العلمانيّة المناهضة للإسلام، ومدى خطورة تقبُّلها من بعض المسلمين، حتى إِذا تجمّعت هذه وتلك، أخذت هذه الأفكار كلها توهن من عزيمة الأمّة ومن ثقتها بربها ومن نهوضها للوفاء بأمانتها التي ستحاسَبُ عليها بين يدي الله.
عند دراسة أيّ أمر أو قضيّة، يجب أن يكون هنالك ميزان نؤمن به ونزن الأمور والقضايا به. ميزان أمين معلن عنه معروف لدى الناس، حتى يعرف الناس منطلقك والأسس التي تبني عليها رأيك.
إنّ الميزان الذي نزن به الأمور ليحكم على هذه القضية أو تلك بأنها حق أو باطل هو ميزان المنهاج الربّاني. فهو وحده الميزان الحق الأمين. وهو الذي يجب أن تردّ الأمور كلها إليه، صغيرها وكبيرها. وهو الميزان الذي لجأنا إليه لندرس قضيَّة " الحداثة " كلها ومذاهبها و" البنيويّة " و " التفكيكيّة "، وكذلك " الأسلوب والأسلوبية "، وكذلك العلمانيّة، وسائر القضايا التي تعرَّضنا لها بالدراسة والتحقيق والتدقيق.
إِن أَعداء الإِسلام لم يتركوا أَسلوباً لمحاربة الإِسلام إِلا لجؤوا إِليه، سواء أكان الأسلوب مباشراً أو غير مباشر. وهذا أسلوب غير مباشر حين يستخدمون الأدب، ويُطلقون منه مذهباً بعد مذهب، ليدعو كلُّ مذهب إِلى صورة من صور التحلُّل من أسس وقيم، و إِلى التفلّت منها، لتتفجّر الشهوات وتتدفّق، ولتصبح خَدراً يسيل مع الدم في العروق.
ولا نستطيع إلا أن نعترف بأنهم حققوا نجاحاً كبيراً في واقع العالم الإسلامي، نجاحاً يكشف عن نهج عام وخُطّة شاملة، يُخفونها أول الأمر ثمّ يكشفون منها شيئاً فشيئاً، على قدر ما أصاب الخَدَر من النفوس والقلوب. وما كان سبب نجاحهم إلا قوّة الجهد الذي بذلوه للفتنة والفساد، وغفوة المسلمين غفوة كبيرة.
ومهما يكن، فيظل واجب المؤمن أن يتصدى للدفاع عن دينه وإسلامه، لاجئاً إلى الله سبحانه وتعالى، يستمد منه العون والقوة. إنه دين الله، وإنّ الله ناصر دينه، ولكنها فترات ابتلاء وتمحيص قد تطول وتمتدّ على حكمة لله بالغة وقدر غالب، لتقوم الحجّة على كلّ إنسان يوم القيامة، أو تقوم له.
ويجب أن نعلم، كما بيَّنَّا في أكثر من كتاب، أنه ما من مذهب أدبيّ إلا وكان وراءه مذهب فلسفيّ يغذّيه ويدعمه. فكم من نزعة فساد انتشرت في الأرض عن طريق مذهب فاسد في الأدب.
تدعو " الحداثة " إلى عزل المؤلف عن كلمته وما ألفه، وتجعل هذا العزل أو تسميه موت المؤلّف. وبذلك خالفوا المبدأ العظيم في الإسلام من أن كلّ إنسان مسؤول عن عمله وعن كلمته، كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
(.... وهل يكبّ النَّاس على وجوههم " أو مناخرهم " في جهنّم إلا حصائد ألسنتهم )
[ الترمذي : 41/8/2616 ]
وعن طريق الأدب المنحَلِّ ومذاهبه نشروا الفاحشة بألوانها، واستخدموا بعض الألفاظ في غير معناها. فحين دعوا إِلى " تحرير المرأة " دَعَوْا في الحقيقة إلى تقييدها بالشهوات الماجنة أو الأهواء المتفلتة، وجَرّدوها من عفَّتها حتى تكون عبدة لا حرّيّة لها. وأطلقوا شهوات الشباب حتى سقط الكثيرون في حمأة الرذيلة، حتى صاروا عبيداً لها.
2- لماذا ندرس الأَسلوب والأسلوبيّة من حيث إِنها مذهب غربيّ ؟!
لماذا ندرس الأسلوب والأُسلوبية من حيث إنها مذهب غربيُّ، ولماذا ندرس سائر المذاهب الأدبية والفكرية في الغرب ؟!
ندرس ذلك لنعرفَ أحدَ المنافذ التي يأتي الخطرُ منها على العالم الإسلامي، ولنعرف ما نأخذ وما ندع، لنحميَ أمّتَنا ودينَنا ونوفّرَ أسبابَ النهوضِ من الكبوةِ التي وقع فيها المسلمون اليوم.
العالم الإسلامي اليوم متأخّر من حيث القوةُ الماديةُ والصناعيةُ والعلميةُ بالنسبة لما وصل إليه الغرب. والغربُ متخلف تخلّفاً مريعاً بالنسبة للتصوّر الإيماني الإنسانيِّ الرّباني. ويمكن أن يعيش الإنسان بغير صناعة متطورة، ولكن لا يستطيع أن يعيش دون أخلاق ورسالة تحمل الأخلاق. ويكون الواقع أسوأ بكثير على الإنسان في الأرض، حين يتوافر لدى أمة من الأُمم جبروتُ القوةِ الماديةِ من صناعة وسلاح، وتتجرّدُ من قوَّةِ الأخلاق ورسالتها، فتضطرب الموازين، ويمتدُّ الظلم، والعدوان والمجازر. فمن يوقف ذلك، والسلاح يدفعه والموازين مضطربة والأخلاق ورسالتها مطويّة.(/2)
يجب أن نأخذ من غيرنا ما تحتاجه الأُمَّة المسلمة اليوم من صناعة وعلوم تطبيقية في مسيرة نهضتها الإِيمانيّة في مختلف ميادين الحياة. نريد ذلك لأننا نؤمن أن لنا نحن الأمةَ المسلمةَ رسالةً في الحياة : أمانةً حملناها، وعبادةً خُلِقْنا لها، وخِلافةً جُعلت لنا، وعمارةً للأرض بحضارة الإيمان أُمِرْنا بها. إنها رسالة وأَمانة وإِننا محاسَبون عليها بين يدي الله يوم القيامة، وإنها هي محورُ العهد مع الله، العهد الذي أَخذه اللهُ من بني آدم ومن ذريَّاتهم كلِّهم في عالم الغيب، ثم تأكَّد العهد مع كلِّ أُمة وكلِّ رسول. إنها مسؤوليّة عظيمة، وشرف عظيم لمن يقوم بها، وظلم وجهالة لمن يتخلّف عنها.
(( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ))
[الأحزاب : 72 ]
وحتى ننجح بالأخذ عن غيرنا يجب أن نلتزم بأربعة شروط رئيسة:
أولاً : أن يكون لدينا ميزان أمين دقيق نحدّد به ما نأخذ وما ندع. وهذا الميزان الذي لا ميزان لنا سواه هو منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ، ميزاناً يجب أن يملأ نورهُ قلوبَ المسلمين إيماناً وعلماً ثمّ ممارسة.
ثانياً : أن لا نقف عند الأخذ فحسب، فمسؤوليتنا تفرض علينا أن نعطي ونقدّم حين نأخذ. فإن كان لدى بعض الأمم قوة العلم الدنيوي والصناعة والسلاح، فإن لدينا وحدنا العلمَ الحقَّ والنظرة الأمينة والتصور الكامل الشامل للكون، والموت والحياة، والإنسان، وما سخَّره الله للإنسان.
ثالثاً : أن نعي الواقع الذي نعيشه لا من خلال الخوف والوهم والظنّ، ولكن من خلال منهاج الله.
رابعاً : أن يدرس ذلك المختصّون المؤمنون الذين لا يُفْتَنون بإذن الله وهم يأخذون ما نحتاجه من غيرنا.
فإذا توافرت هذه الشروط الأربعة أصبح ما نأخذه من غيرنا يطابق قوله سبحانه وتعالى:
(( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ))
[ النحل : 66 ]
نعم ! نريد أن نأخذ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، ولا نريد أن نأخذ الفرث والدم مما هو متوافر لدى غيرنا، ومما هو غصّة وفتنة وضلال.
الخير الحق ملك للناس جميعاً، لا يحلُّ لأحد أن يحجزه. ولا يحقّ لشعب أن يدّعي أنه صاحب حضارة خاصة به وحده، إلا حضارة الإيمان التي بناها المسلمون المؤمنون الممتدون مع الرسل والأنبياء، والذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم. فهم وحدهم الذين بنوا حضارة الإيمان، حضارة التوحيد، حضارة الخير الحق.
وحين اختصّت هذه الأمة المسلمة الممتدّة ببناءِ حضارة الإِيمان والتوحيد، فإنها كذلك ساهمت بالحضارة الماديّة من علوم تطبيقيّة وصناعة، لتسخّرها في طاعة الله، ولتكون جزءاً لا ينفصل عن حضارة الإِيمان والتوحيد، ولتكون هذه الحضارة الإيمانيّة حضارة ممتدة شاملة لجميع ميادين الحياة.
وأما المجرمون المفسدون في الأرض فقد اختصوا بأن يساهموا في الحضارة الماديّة ليعزلوها عن الإيمان والتوحيد، حتى أصبحت حضارة مادية علمانية، ساهم في بنائها التاريخ البشريّ كله.
وما بناه الإنسان من علوم وصناعة، فإِنما ذلك فضلٌ من الله، هداهم الله به إليها، فكفروا به وبفضل الله، وعزوا ذلك لأنفسهم فتنة وضلالاً وابتلاءً من الله، لتقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
ولقد جعل الله الكون مفتوحاً لعباده كلهم، للتقيّ والفاجر، ليسيروا في آفاقه حيث تقوم آيات الله البيّنات، يراها المؤمن فيزداد إِيماناً، ويراها الكافر فيأخذه الكبر والغرور، ويحسب أنه هو صانعها ومبدعها.
الإنسان بحاجة اليوم إلى حضارة الإيمان والتوحيد، لينطلق بها المؤمنون المتقون، فيصلوا ما انقطع منها فترة من الزمن، ويمضوا على صراط مستقيم يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.
ولفظة الحضارة كلمة جرت على ألسنة الناس، دون أن يكون لها معنى محدّد في القلوب والوعي. فمن الناس من يحسب الحضارة عمائر وشوارع، أو يحسبها مجرَّد علم وصناعة وسلاح، أو أيّ نشاط مادي يوفّر للإنسان متعته ورفاهيته.
أما حضارة الإيمان والتوحيد، فإنها تشمل ذلك كله، تشمل كل نشاط مادّيّ في الحياة يوجهه الإيمان والتوحيد، حتى يرتبط النشاط بهما، تترابط عناصر النشاط كلها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من الفتنة والكفر والجهل والظلام إلى الإيمان والعلم والنور، من العلمانيّة والجاهليّة، إلى الإيمان والحق.
3- لمحة سريعة عن الغزو العَلماني اللاديني للعالم الإسلامي
إننا نلمس اليوم تسلل التصورات الوثنيّة والعلمانيّة إلى العالم الإسلامي في ميادين مختلفة من الحياة : الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الأدبيّة، إن هذا التسلل بدأ منذ عهد بعيد، ولكنه اشتدّ اليوم وبرزت مظاهره وامتدت. ولقد سقط في حمأة الفكر العلماني كثيرون، ولم يكن لهم بادئ الأمر صولةٌ وجولة، ولكنهم اليوم امتدوا وانتشروا وعلت منابرهم.(/3)
بدأ الغزو أول الأمر بالجيوش والسلاح، والاحتلال والعدوان، والإِرهاب والفتك. وكان يستخدم الحركات التنصيرية التي يدّعي أنه لا يؤمن بدينها ممهِّدةً لجيوشِه الزاحفة، وكان يستغل المستشرقين والضعفاء، ويستغل الإعلام، وأخذ يهدّم في حصون الأمة حصناً حصناً بشكل عدائي سافر. ومع المقاومة التي كان يلقاها في مختلف بقاع العالم الإسلامي لجأ إلى أُسلوب خفيّ غير مباشر يستغل فيه الأدب والكلمة، والفكر والفلسفة، في إطار مغرٍ من الزخرف والزينة، تحت شعارات مغرية كذلك ولكنها مضلِّلة، مثل الحرّية، الإنسانيّة، العدالة، المساواة، حقوق المرأة، حقوق الإنسان، وسحق المرأة وإلقائها في وحول الجريمة المدَبَّرة، وجريمة سحق الشعوب كذلك. ولقد أثَّر زخرف الشعارات وأثر إعلامها الهادر حتى خدّر الكثيرين. وجاء الأدب الزائف يحمل الزخرف الزائف ليتابع نشر الفتنة والفساد بصورة هادئة غير مباشرة. وكانوا يهدفون من ترويج الأدب الزائف الواهي إلى عدة أمور في وقت واحد : أولاً إِبعادِ المسلم عن لغته العربيّة الأصلية وآدابها، ونشر اللهجات العامية واللغات الأجنبية. ثم إبعاد المسلم عن كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ثم إبعاده عن تراثه الصادق الصافي بمحاولة طمسه بالشبهات. ولقد أصابوا في ذلك نجاحاً ملحوظاً، حتى إنك ترى أن اللهجات العامية طغت، واللغات الأجنبية امتدت، وكذلك آدابها وتصورها، وهجر الملايين من المسلمين كتاب الله وعمّ الجهل باللغة العربية وبالكتاب والسنة القطاع الأعظم من المسلمين في الأرض.
وسهّل امتداد جريمة الآدابِ الغربيّةِ بأسلوبٍ ناعمٍ هادئٍ ما كان يثيره إِعلامهم ومن سقط من المسلمين في ضلال دعوتهم من أنه لا علاقة بين الأدب والدين. وإِنهم لكاذبون، وإنهم ليعلمون أنهم كاذبون مفترون خادعون. فصدّق الفريةَ الكثيرون وبرزت التبعيّة الأدبيّة تحمل الضلال والسمّ الزعاف.
إنهم يعلمون أن كل مذهب أدبيّ ظهر عندهم كان وراءه فكر وفلسفة تدعمه وتغذّيه. فالكلاسيكيةُ كان وراءها الوثنيةُ اليونانيّة والرومانيّة، والرومانسية كان وراءها الفلسفةُ المثالية، والمذهب الوجودي كان وراءه الفلسفة الوجودية، وكذلك الواقعية وسائر المذاهب الأدبية. وإِنهم ليعلمون أن الإسلام فكر مشرق قادر على أن يدفع أدباً ينبع منه. إنهم يعلمون كل ذلك، ولأنهم يعلمون ذلك فقد كانوا يخافون الإسلام والأدب الذي يمكن أن ينبع منه نظريةً ونصّاً، والذي يلتزم الإسلام التزام وعي وقدرة وصدق.
إنهم يخافون ذلك خوفاً شديداً، لأنهم عرفوا من خبرتهم الطويلة في صراعهم مع الإسلام، أن الإسلام هو الدين الوحيد في الأرض الذي لا يمكن مساومته على حقٍّ أو دفعه إلى باطل، مادام أبناؤه مستمسكين به صادقين واعين عاملين باذلين. إِنهم يدركون أنه الدين الوحيد الذي يَجْمع أبناءه أمةً واحدةً لا يَحلُّ لها التفرُّق والصراع :
(( فاستمسكْ بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ))
[ الزخرف : 43 ]
(( والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ))
[ الأعراف : 170 ]
ولكن " فوكوياما "، في كتابه " نهاية التاريخ والرجل الأخير "، يُطمئن الغرب على ديمقراطيّته التي يرى أنها هي نهاية التاريخ البشريّ، يطمئنهم بأنه مع أن الإسلام يملك من المقومات ما يؤهله لمصارعة الديمقراطية، إلا أنه لا خوف من ذلك، فالمسلمون ممزّقون لا أمل بلقائهم أبداً. ولكننا نقول له : الله أكبر، وسيلتقي المؤمنون على قدر من الله غالب، ووعد صادق. وعلى المؤمنين المتقين أن يهبّوا ليصدقوا الله ويوفوا بعهدهم مع الله.
(1) من قصيدة " كوسوفا " في ديوان : عِبر وعَبرات للمؤلف.
(2) من ملحمة الإسلام في الهند للمؤلف.(/4)
الأسهم حديث الساعة »
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
اسمحوا بي أن أنتقل بكم أو أنتقل معكم إلى مجلس من مجالس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يروي لنا خبره وقصته الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، كما جاء في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد أنه قال: جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله وهل يأتي الخير بالشر ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب مثلاً ثم قال: ( إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - قال الراوي أو كما قال صلى الله عليه وسلم- وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) .
مجلسٌ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق يتحلّق حوله وأمامه أصحابه، قلبه الرحيم شفقته على أمته أنطقته بقوله: ( إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) .
الصحابة يتعلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسأل أحدهم متعجباً مستفسراً : كيف تكون الدنيا وزهرتها والخير والمال شيء يخشى منه ! قال: " يا رسول الله هل يأتي الخير بالشر ؟ " ، فسكت النبي - حتى يلفت أنظار الناس - ثم ضرب مثلاً طويلاً في شأن الدابة والإبل عندما تأكل ثم تجتر ثم تستقبل الشمس إلى غير ذلك، ثم بين إن هذا المال خضرة حلوة، نفس تحبه تتعلق به، تشتاق إليه، تحرص عليه، تفكر فيه، تجتهد في جمعه، تسهر الليل في تحصيله، تشقى النهار لأجله، تكاد في بعض الأحيان أن تنقطع له، ولا يكون لها هم سواه، كما وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في صورة أخرى عندما قال: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)
لِمَ سمّاه عبدا للدينار أو عبدا للدرهم أو عبد للخميصة أو عبدا للخميلة كما ورد في الحديث، لأنه إذا كان القلب معلقا به والفكر منشغلا فيه والجهد مبذولا له والوقت مستغرقا لأجله، فأي شيء بقي ؟
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة عظيمة، قال : ( ومن يأخذه بغير حقه يكون كمن يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة ) .
من كان همه الجمع والحرص والحب والاستكثار من غير نظر إلى حلال أو حرام، من غير نظر إلى حق الله في المال، من غير نظر إلى أمور كثيرة، سنجثو جميعاً على ركبنا لنتعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كمن يأكل ولا يشبع، صورة غير موجودة في الواقع المحسوس، من أكل امتلأت بطنه وشبع، لكن البطن التي لا تمتلئ هي البطن التي تريد أن تأخذ أو تأكل كل شيء من حل وحرمة، {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} .
تأملوا هذا الحديث، هذه القصة البسيطة، وانتقلوا معي إلى حديث صحيح آخر، يصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة النفس البشرية وصفاً دقيقاً، وهو وصف يتضمن توجيهاً وتنبيهاً وتعليماً وتربية وتذكيراً, روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبه المال، وطول العمر ) .
وفي رواية مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان : حب الحرص على المال والحرص على العمر ) .
السن يتقدم الجسم يضعف، لكن الشباب مستمر ومتجدد في حب المال وحب الحياة، وفي رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم في صحيحه قال: ( يشب الشيخ على حب اثنتين: طول الحياة وحب المال ) .
فهذه أيضاً صورة وصفية دقيقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنتقل إلى صورة أخرى لأني أريد أن أريكم صورا أحسب أنها اليوم في واقعنا كأنما هي ضرب من الخيال، لو أن أحداً جمع الناس كجمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بذلك الحديث الذي أوردناه لعجبوا منه عن أي شيء تتحدث؟! هل تريد أن تخيفنا من الدنيا وزهرتها ونعيمها ؟ لا داعي لذلك التخويف، نحن نأخذ المال نحن ننفقه نحن نعرف حق الله، فهل كان أصحاب محمد لا يعرفون ذلك؟ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويعلم الأمة ؛ لأن المزالق كثيرة وما رأينا زيغاً وانحرافاً في كثير من الجوانب إلا ومرده ذلك المرتع الوخيم، الذي يبدأ يسيرا ثم يعظم في التعلق بالمال وحبه.(/1)
أنتقل بكم إلى قصة أخرى، أعلم أنكم لو سمعتموها كقصة وليست حديثا لضحكتم وتندرتم من قائلها وقلتم له قصص عجيبة وغريبة، لكن القصة مروية في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قص النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن رجل من بني إسرائيل جاء إلى أخ له فستقرضه دينا فأعطاه ألف دينار، فقال له: ائتني بالشهود، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، قال: فمضى صاحبه فركب البحر، فلما آن الأوان لسداد المال، لم يجد مركبا يركب فيه، وحار في أمره، ولم يرد أن يتخلف عن أمر أشهد الله فيه وجعل الله كفيله فيه، فأخذ خشبة فنخر فيها، فوضع فيها المال ومعه ورقة، ثم قذف بها في البحر، فجاء صاحبه من الجهة الأخرى فوجد الخشبة فأخذها حطبا لأهله، فلما مضى إلى بيته نشرها فوجد فيها المال فأخذها، ثم من بعد ذلك جاء المقترض وجاء بماله مرة أخرى، وقال: ما أخرني عنك إلا أني لم أجد مركبا، فقال له: هل بعثت شيئا قال: أقول إني: لم أجد مركباً، إلا يومي هذا، قال: فهل وضعت مالا في الخشبة، قال: نعم، قال: فقد أدى الله عنك .
قصة عجيبة خرافية عند من لا يؤمنون بخبر الأنبياء، قصة ربما للتلهي أو لتلهية الناس عن أمور أخرى، لما أوردها هنا لنقول إن من يتعامل في دنياه وفي تجارته وماله مع الله وبمراقبة الله، تكون أموره مختلفة، وأحواله على غير الأمور التي يعرفها الناس وينسجون حولها أو يتعاطونها، ولو قلنا لأحد اليوم افعل مثل هذا، لقال: وهل تراني مجنونا حتى أضع مالا في خشبة أو أقذف به في البحر، أو أي صورة من الصور الأخرى التي قد تكون مماثلة، لماذا؟ لأنه قد ضعف اليقين في القلوب والإيمان في النفوس، وصار الاعتماد على المادة والأمور المحسوسة أعظم من الاعتماد أو الظن واليقين في الأمور الغيبية التي يجري بها قدر الله عز وجل الذي هو يقدر الأقدار ويصرف الأكوان سبحانه وتعالى.
ثم أمضي بكم أيضا إلى صورة ثالثة ذكرها أيضا البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الأعراب راكبا يلتفت يمينا ويسارا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له –يعني من كان عنده دابة يركبها زائدة فليعطها غيره ممن ليس عنده دابة- ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا شيء له ) قال أبو سعيد: فذكر من المال ما شاء الله أن يذكر -يعني عدد من كان له فضل مال من كان له فضل لباس من كان له فضل طعام- قال: حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)
يعني كأن ما زاد عن حاجتك أخرجه لغيرك ممن يحتاجه .
ومرة أخرى نركب الصور ونجمعها، كيف نتخلص أو نحذر مما خوفنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه التوكل على الله الذي جعل الرجل يقذف بماله في ماء البحر، وإنه النظر إلى الإنفاق في سبيل الله لئلا تتشبث به النفس ويتعلق به القلب، ويصبح هو الهم الأعظم الأكبر، ويتحقق الوصف الرباني الذي هو في طبيعة الإنسان، إن لم يهذبه الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: {وإنه لحب الخير لشديد}
قال أهل التفسير: الخير هنا هو المال، وإنه لحب الخير أي المال، {لشديد} حبه شديد للمال، قال ابن كثير: "في الآية معنيان إنه أي الإنسان حبه للمال شديد أي عظيم، أو المقصود بشديد، أنه بخيل، أي أن حبه للمال جعله شديدا حريصا بخيلا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الوصف العجيب الذي أخبر فيه عن طبيعة النفس التي فيها جود وبذل وسخاء وعطاء وطبيعة النفس التي فيها قبض وبخل وشح، عندما أخبر أنه مثل بالرجل الذي يلبس حلة من حديد، قال: فإذا أنفق أسبغت عليه ووفرت، وعفت أثره - أي محت ذنوبه من بعده - وإلا - أي البخيل- ضاقت عليه حتى ضاقت على ترقوته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم"
وقد أخبرنا : ( اللهم أعط منفقا خلفا، اللهم أعط ممسكا تلفا ) .
تلك صورة قرآنية وضحها الحق سبحانه وتعالى، ولو أردنا أن نفقه كيف نعالج الأمر فلنتمم الآية التي بعدها {وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} .
إلى أين سيمضي بك حب المال ؟ هل ستبقى مخلدا في الدنيا ؟ ألا تعلم ألا توقن ألا تتذكر بأن الحال سيؤول إلى موت وقبر وحفرة مظلمة ليس فيها طول ولا عرض إلا بقدر ذلك الجثمان { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور } .
يوم يقف المرء بين يدي الله عز وجل فيسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، كل ريال لو علمت أنك تسأل عنه : من أين جاء وكيف خرج .. لطال فكرك في تحصيله ، ولأسرعت كثيراً في إنفاقه صور كثيرة مازالت يصورها لنا النبي صلى الله عليه وسلم ..
ولعل بعضكم الآن يسأل لم نورد هذه الصور المتكاثرة، وسأزيد من هذه الصور والأحاديث والآيات وأجعل علتها من بعد.(/2)
في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال أمن حلال أم من حرام)
انظر يميناً انظر يساراً، تذكر بعض من حولك .. تذكر بعض ما رأيت، في ثوان معدودة أجزم أن كلا منكم ستدور في ذهنه عشرات من الأحوال والأعمال والصور التي رأى فيها المال ينهب من حرام وصاحبه مطمئن القلب باسم الثغر كأنه لا شيء من الخطر عليه مطلقاً، كأنه لم يسمع مثل هذا الحديث الذي يذكره النبي على سبيل الإخبار، ولكنه يتضمن الوعيد لأنه قد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به ) .
والله جل وعلا قد أخبرنا فقال : {.. فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
صور ليس فيه تحريم لحلال قطعاً، لكن فيها تنبيه وتحذير من أخذ المال من حرمة، أو عدم التورع من شبهة، أو التساهل في أمر كما قال الحسن رحمه الله، قال : " أدركت أقواما كانوا يدعون ما لا بأس فيه مخافة أن يكون فيه بأس، ولقد أصبحت في أقوام يأخذون ما فيه بأس رجاء أن لا يكون فيه بأس " .
مال لا شك في حله يتركونه خوفا من أن يكون فيه شبهة حرام، ومال يغلب الظن على حرمته يؤخذ اليوم ليقال فيه قول أو لعل فيه مخرجا، أو نأخذه ثم نفكر من بعد ما هو حكمه.
وأنتقل بكم أيضا إلى صورة ثالثة أو رابعة، لحكيم بن حزام رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قال ثم جئت ثانية –أي في وقت آخر- فسألته فأعطاني، قال: ثم جئت ثالثة فسألته فأعطاني، ثم قال: ( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه ) .
(من أخذه بطيب نفس) نفسه سمحة، جاء المال.. جاء، ذهب.. ذهب، تأخر.. تأخر، ليست معنية به وليست تجعله هو همها الأعظم، وأما من كانت النفس عنده مستشرفة، يبيت ليله ينتظر الصباح الذي يأتيه بالمال، يخطط أحيانا أو يتمسكن أو ربما يكذب أو ربما يحتال، يترقب المال ويستشرف له ويستكثر منه لم يبارك له فيه، وهل تظنون المال بكثرته أم ببركته، كم من أموال كثيرة عند أصحابها محقت بركتها، فكان كثيرها أقل من القليل، وكم من قليل مبارك نفع الله به حتى فاض مع قلته، هذا هو اليقين الإيماني، هذا هو الذي جعل محمداً صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق الذي نزل عليه ملك الجبال يقول : ( لو شئت أن أقلب لك الصفا والمروة ذهبا لفعلت، فيقول: لا ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ) .
هذا الذي جعل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يموت ودرعه مرهونة عند يهودي، هذا الذي جعله عليه الصلاة والسلام يصلي ثم يسرع في صلاته ثم ينفتل فيخرج إلى بيته ثم يرجع من بعد فيتعجب أصحابه فيقول: ( ذكرت شيئا من تبر فخشيت أن يحبسني فأنفقته في سبيل الله ) .
كان المال يأتي يمر فيخرج ليس هناك تعلق قلبي ولا انشغال فكري ولا هم ولا غم ولا ترقب ولا تحسب ولا حزن ولا بكاء ولا مرض ؛ لأن القلوب معلقة بما هو أسمى وأعظم، لأن اليقين والتوكل على من هو أكبر وأجل وأعز وأعظم سبحانه وتعالى، من عنده خزائن السماوات والأرض من إذا قال لشيء كن فيكون، ومع ذلك نتأمل في هذا الحديث، أعطاه ثم أعطاه ثم أعطاه، ثم نبه هذا التنبيه العظيم الذي قال له به، يا حكيم لا تجعل المال شغلا يشغلك في كل وقتلك، فماذا صنع حكيم هذه الكلمات ماذا أثرت فيه، هل بقي على حاله، كلا، قال :
"فما سألت بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من بعده شيئا"، حتى كان عمر في زمانه يعطيه من حقه فيرده ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان صائماً في يوم من الأيام، ثم عند طعام الإفطار جاءوا له بصنفين من الطعام، وعبد الرحمن من أثرياء المسلمين، لكن ثراؤهم كان يختلف، يختلف كثيرا عن أحوال كثير من أثريائنا، لما جيء له في الإفطار بنوعين من الطعام بكى رضي الله عنه، فقالوا: ما يبكيك يا عبد الرحمن، قال: "ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد لم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدت قدماه، وإن غطينا قدماه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا" .
كان يخشى أن يكون هذا نعيم الدنيا يحرمه من نعيم الآخرة، أولا يكون له من النعيم قدر عظيم فقد عجل له نعيم في الدنيا كثير، كل نعيم كان في الدنيا، كانوا ينظرون إليه في الآخرة، هل سيحرمهم؟ هل سيمنعهم؟ هل سيكون فيه حرمة تستوجب عقوبتهم ؟
وكلنا يعلم ما روى الترمذي أيضا وأهل التفسير في قوله عز وجل: { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }(/3)
يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته بسبب شدة الجوع، فلقي أبا بكر، قال: يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة، قال: الجوع يا رسول الله، فقال: ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم مضيا فلقيا عمر الفاروق، ما أخرجك يا عمر، قال: الجوع، فمضى الثلاثة حتى أتوا رجلا من الأنصار، ففرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلا شاة فذبحها وطبخها، ثم استعذب الماء وقدمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فأكلوا وشربوا، فقال عليه الصلاة والسلام: ( والله لتسألن عن نعيم هذا اليوم ) .
كم من نعيم كهذا في كل يوم من أيامنا، ولذا أعيد بكم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ينبهنا في واقع حالنا اليوم، وهو يتحدث إلينا كأنه بيننا صلى الله عليه وسلم، ويقول –كما ثبت في الحديث الصحيح أيضا عليه الصلاة والسلام من رواية أبي هريرة- (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه) .
وفي رواية مسلم قال: (ممن فضل عليه) .
أي فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه، كم يقول اليوم الناس الحال سيئة .. انظر فلان كم راتبه، انظر فلان ماذا عنده، هلا نظرت إلى من هو دونك، هلا نظرت إلى الصور التي تراها على الشاشات لأهل إفريقيا الذين تصيبهم المجاعة فيموتون ويتساقطون كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف.
كنت بالأمس مع طبيب مختص في جراحة القلب للأطفال، فقال لي بالحرف الواحد: ما كنت أشعر بمعنى قوله عز وجل {أو مسكيناً ذا متربة} حتى ذهبت إلى إفريقيا فرأيت الناس على الأرض يبحثون في التراب طعاما أو يأكلون التراب، أفلا نحمد الله على نعمته، أفلسنا نتنبه إلى هذه المعاني كلها، والله جل وعلا يقول: { وتأكلون التراث أكلا لمّاً * وتحبون المال حباً جمّاً}
والتراث هو الميراث، أو ما خلف من المال .
قال ابن كثير : " أي ما حصل منه من حل أو من حرام "
{وتحبون المال حبّاً جمّاً } ؛ أي شديدا حلاله وحرامه .
وكل هذا الذي نقوله، هو منهج الإسلام، لكنه قطعا ليس فيه تحريم لما أحل الله، ليس فيه تحريم للطيبات ولا للتجارات ! لكنه تهذيب للنفس من التعلق بهذه الدنيا على النحو الذي نراه .. سعار عجيب ، وتعلق غريب، وانشغال تام، وانهيارات عصبية وجلطات دماغية، وسكتات قلبية، لأجل الأسهم إذا صعدت أو نزلت، ولا ننظر إلى أسهم الإيمان صاعدة أو نازلة، ربما تصل إلى أسفل سافلين والناس يضحكون ملء أشداقهم ، وينامون ملء عيونهم .. لكن إن سقطت الأسهم نسبة محدودة في المائة ما ناموا ليلهم، ولا وقفوا نهارهم عن الحركة والدأب، ولا فترت ألسنتهم من الشكوى ولا قلوبهم من الغم والهم، لا حرمة لشيء مما أحل الله .
قال عمرو بن العاص كما روى الإمام أحمد في مسنده: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو يتوضأ فقال: اذهب والبس ثيابك وسلاحك ثم ائتني، فأتيته فنظر إلي فقال: إني باعثك على جيش ويسلمك الله وتغنم وأرغب لك في مال صالح، فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله ما أسلمت على مال وإنما أسلمت لأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
هكذا هو المنهج المتزن المعتدل .. ذاك لم يكن متعلقا بالمال ، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول خذ من المال ما هو صالح وتكون صالحا تنفقه في مكانه ومحله .
وروى النسائي في سننه كذلك عن عمرو بن تغلب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أشراط الساعة أن يفشو المال ويكثر ، وتفشو التجارة ، ويظهر الجهل ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان ويبحث عن الرجل الكاتب في الحي العظيم فلا يجد ) .
قال السندي في شرحه في هذا الحديث في قوله: (يفشو المال ويكثر وتفشو التجارة ويظهر الجهل) قال: "أي بسبب اهتمام الناس بأمر الدنيا"
من يطلب العلم اليوم، وإذا عكف عليه عاكف، قالوا مغفل ضيع دنياه، وإذا تفرغ له أحد أو أعطاه شيئا من وقته، أو قل بسببه شيئا من دخله قالوا إنه أحمق يقرأ كتبا ويأخذ علما ما عسى أن ينفعه في المال، ولو حصل على أعلى الشهادات في الشريعة فلن توظفه ولن يدخل سوق العمل، وكأن سوق العمل دخول إلى الجنة، وكأنه ضمان من عذاب الله عز وجل.
قال السندي رحمه الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان) قال: " إشارة لبيان كثرة اهتمام الناس بالدنيا وحرصهم على إصلاحها"
وكل يوم نستمع إلى العشرات من خبراء الأسهم والهواتف تشتغل متى نشتري ومتى نبيع، لا تحريم لما أحل الله، لكن المنهج الإيماني يقتضي غير هذا وهذا هو الذي بينته من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
نسأل الله عز وجل أن يعلّق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يعلقها بعبادته وكثرة ذكره وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا منتهى أملنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(/4)
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
الأسهم حديث الساعة يتكلم فيها الرجال والنساء، ويتحدث عنها الصغير والكبير، وتتصدر صفحات الصحف والإذاعات والفضائيات والقنوات، عمت قضية الاهتمام بها والتعلق بها كل أحد، والأمر الذي تحدثت عنه قد يراه بعض الناس موعظة في غير محلها، أو تذكيرا بعصر قد سلف ومضى، وهل سنكون كذلك العصر، ولكنني أقول معتقدا وجازما باعتقادي وبما أحسبه صحيحاً، هل يا ترى سنعالج في المنبر أو حتى في أي دائرة خلل السوق ونقومه ونرشد الناس إلى طريقة الصفق في الأسواق، هم بها أخبر مني ومن غيري، لكننا نقول من خلال هذا العرض الموجز انتبهوا معاشر المسلمين ليست الدنيا كل شيء ليس المال كل شيء وأنا متيقن كذلك أن هذه الحركة العظيمة الهائلة بالأموال الكثيرة المتكاثرة فيها كثير من ارتكاب المحرمات والتجاوز في كثير من المعاملات والسؤال الذي يسأل بين خلط ونقاء وغير ذلك، كثير من الناس لا يلقي له بالا ويتجاوز فيه ويأخذ بالأدنى في كل شيء، بل قد غير كل تفكيره في حياته ومع أسرته وربما حتى في شؤونه الخاصة والعامة، حتى جعلها مربوطة بهذا دون أن يكون له التفات حقيقي إلى الأمر الذي خلق له، والغاية التي يعيش لأجلها، والدين الذي ينبغي أن يعتني بها وبأسهمه أن تكون صاعدة لا هابطة، والله عز وجل قد بين لنا ذلك وحذّر منه وبين الحقائق كلها، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد من رواية كعب بن مالك عن أبيه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) .
تلك صور كثيرة وهي ومضات قليلة، أقول في ختامها:
أولاً: اقدروا الدنيا قدرها واجعلوا لها حظها دون أن تكون هي الأولى والآخرة، دون أن تكون هي التي تسد الأفق فلا ترون غيرها ولا تعرفون سواها ولا تنظرون إلى غيرها، وتلك مصيبة كبرى إذا دخلت إلى القلوب والنفوس والعقول والأفكار والأحاديث والصحف والمجلات نسينا كل شيء .. نسينا كل جرح من جراح المسلمين .. نسينا كل مصيبة من مصائب الأمة .. نسينا كل اعتداء على الدين .. نسينا كل تجاوز على الحرمات .. نسينا كل تقصير في الواجبات، وانشغلنا بالأسهم كأن حياتنا التي خلقنا لأجلها هي هذه الأسهم .
والأمر الثاني: أين التوكل على الله، أين صدق التوكل على الله الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا )
الطيور تخرج من أوكارها مع الفجر بطونها خاوية وتعود في آخر النهار بطونها ممتلئة، لم تأخذ دورات في الأسهم، ولا تعرف الهبوط والصعود ولا غير ذلك.
وأخيراً : أين الرضا بقدر الله ؟ كيف لم تفكر عندما كانت الأرباح تتعاظم والأموال تكثر لم تفكر ولم تسأل ! وعندما جاء الهبوط جاء التذمر وجاء الاعتراض وجاء غير ذلك ..
ثم أيضا ننتبه إلى مسألة أخيرة : هل نحن منتبهون إلى الحل والحرمة وإلى الإنفاق تحدثاً بنعمة الله كلما زاد الخير الذي عندنا أم ما نزال نستكثر ونستكثر حتى يصدق فينا - والعياذ بالله - حديث النبي صلى الله عليه وسلم كمن يأكل ولا يشبع، ومضة من حياة النبوة ومن توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علها تردنا إلى صوابنا ، وتلم شعث قلوبنا ونفوسنا، وتعيدنا إلى حقيقة ما يملأ هذه النفوس من الغنى غنى الإيمان ومن اللذة لذة الطاعة ومن الراحة راحة الإقبال والتعلق بالله عز وجل، إلى غير ذلك مما نعلمه.
أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا ، وأن يرزقنا رزقاً حلالاً طيباً، وأن يبارك لنا في(/5)
الأشعريّون
د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري 6/6/1426
12/07/2005
رُفقة طيبة كريمة هاجرت إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فكانوا عنده أهل عبادة ونسك، تعرف منازلهم بالليل لدويّهم بالقرآن، وأهل مروءة وإيثار، فإذا قل طعام عيالهم جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسويّة، مع صبر جميل على الفقر وقلّة ذات اليد، فلما كانت غزوة تبوك، واستنفر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الناس لها جاءه الأشعريّون بأشواق الجهاد والشهادة يطلبون أن يحملهم معه جنودًا في هذه المعركة؛ إذ كانوا لفقرهم لا يجدون ما يرتحلونه في هذا السفر الطويل، ووافق حضورهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وطلبهم هذا الطلب وهو غضبان، ولعل ذلك بسبب مزيد انشغاله واهتمامه بإعداد هذا الجيش الذي كان أكبر جيش جهّزه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولذا أجابهم جواب المغضب "والله لا أحملكم على شيء". فمضوا من عنده، وفي قلوبهم حزن شديد مخافة أن يكون رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد وجد عليهم في نفسه، فبينا هم كذلك إذا بلال بن رباح يناديهم ويدعوهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلما عادوا إليه إذا خمس من الإبل عظام سمان حسان فدفعها إليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يحملكم على هؤلاء فاركبوهن". فانطلقوا بهن ثم لم يلبثوا أن أقبل بعضهم على بعض وقالوا: "إن تغفّلنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن يمينه، ولم نذكّره بها والله لا يُبارك لنا فيها، ولا نفلح بعدها أبدًا"! فلنرجع إليه فنذكّره بيمنه تلك. فرجعوا إليه –صلى الله عليه وسلم-فقالوا: "يا رسول الله، إنك حلفت ألاّ تحملنا، وقد حملتنا فظننا أنك نسيت يمينك"، وإذا النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي وافوه قبل قليل مغضبًا يقبل عليهم بلطفه وبشره المعهود قائلاً: "لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أثبتّ الذي هو خير، وكفّرت عن يميني" فطابت عند ذلك قلوبهم، وأنِست نفوسهم، وفاؤوا إلى الطمأنينة والبشرى.
وبقي أن نستشرف معاني من هذه القصة الملهمة منها:
1- الغضب النبوي في هذا الموقف هو جزء من الطبيعة البشريّة، ظهر من النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- ليؤكد اللافتة الضخمة في أداء النبي –صلى الله عليه وسلم- لدعوته. (...سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الاسراء: من الآية93] فيحدث منه الانفعال الغضبي ليشرّع لأمته ما تفعله حال الغضب، كما ينسى ليُشرّع لأمته ما تفعله حال النسيان، ولتعلم الأمة عظيم حكمة الله تعالى يوم جعل الرسالة والقدوة للبشر بشرًا مثلهم، له غرائزهم ومشاعرهم وانفعالاتهم.
2- الغضب النبوي في هذا الموقف هو الحالة الاستثنائية التي تُبرز عظمة القاعدة العامة في حال النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي كان شديدًا في امتلاك نفسه عند الغضب. وليتضح من هذا الموقف الاستثنائي أن صفح النبي –صلى الله عليه وسلم- وحلمه في مواقف الغضب لم يكن لكونه ذا طبيعة ملائكيّة لا تقبل هذا الانفعال بحيث يُستشار فلا يغضب، بل لأنه كان يغضب كما يغضب البشر ولكنه يملك نفسه عند الغضب فيكظم الغيظ ويعفو ويُحسن. وكانت عظمته الأخلاقية تجعله مسيطرًا على انفعالاته في أحواله جُلِّها.
3- لم يأتِ الأشعريون حالاً تستوجب الغضب، إنهم لم يطلبوا مالاً يتخوّلونه، أو متاعًا يتأثّلونه، أو مغنمًا يحوزونه لأنفسهم يتكثّرون به، إنهم أتوا ليعرضوا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دماءهم التي خزنوها في عروقهم، ومهجهم التي أكنّتها جوانحهم، رخيصة في سبيل الله تعالى، ويسألونه ما يحملهم إلى حيث تُسفك الدماء، وتُزهق المهج، وتُباع الأنفس على الله تعالى، فما بال النبي –صلى الله عليه وسلم- غضب على هؤلاء وهو أهل العفو والصفح والتحمّل لغيرهم من الأعراب الذين كانوا يسألون ويلحفون في المسألة، ويُعطون فيستكثرون من العطاء، ومع ذلك يستقبل إلحافهم المضجر بخلقه السمح السجيح (لو كان لي عدد هذه العضاة نعمًا لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جبانًا)؟
إن ذلك هو تصرف النبي –صلى الله عليه وسلم- مع من يحبهم ويحبونه فهو يحتملهم ويحتملونه، ويعذرهم ويعذرونه، ويعطي آخرين من ماله وخلقه أكثر من أولئك، لا لأنهم أحب إليه، ولكن لأنهم أحوج إلى التألّف والرفق لحداثة عهدهم بالإسلام أو قلة خلطتهم بالرسول –صلى الله عليه وسلم- ولذا قال: "فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الهلع وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير.."، إن هذا العطاء يشمل العطاء من المال ومن الخلق ومن التعامل، ولذا إذا أطلقت نفسك على سجيتها فاحترس عند التعامل مع مَنْ لا يعذرك.(/1)
4- روعة الموقف الأخلاقي المُبهر للنبي –صلى الله عليه وسلم- الذي اتخذ موقفًا معلنًا مؤكدًا باليمين أنه لا يعطيهم "والله لا أحملكم" ومع ذلك رجع عن هذا الموقف بغاية السرعة والتلقائيّة والصحة النفسيّة العالية، ولم يجد غضاضة في الرجوع عن موقفٍ أعلنه وأقسم عليه للانتقال إلى خيارٍ أفضل، وترك ذلك القرار إلى قرار أصلح، كم تنهزم إراداتنا حين نتخذ موقفًا في لحظة انفعال، ثم يكبلنا هذا الموقف عن الوثوب إلى مواقف أفضل؛ حتى لا يُحسب علينا رجوعٌ أو تراجع، ولو كان ذلك موقف أبٍ مع أبنائه، أو معلمٍ مع طلابه، أو رئيس مع مرؤوسيه.
وكم رأينا من لجّ في غواية أو خطأ، وتحمل خسارة أو دمار؛ لأن الشيطان نفخ في منخره، وعظم في نفسه أن يرجع عن موقفه وإن استبان خطأه، أما معلم الناس الخير فقد أطلقها مدوّية ناصعة "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرّت عن يميني وأتيت الذي هو خير".
5- ألا يشدّك حتى تخفق أعماق وجدانك حال تلك النفوس الملائكيّة الشفافة الطهور التي كانت تمشي على الأرض وكأنها تحلق بين قناديل الجنة، أيُّ إيمانٍ وصفاءٍ ويقين أُترعت به قلوب الأشعريين، فلم تجد على نبيها –صلى الله عليه وسلم- أدنى موجدة، وإن غضب ومنع وتألّى على ذلك وأقسم، وإنما كان الذي وُجد في نفوسهم عظيم الشفقة على الرسول والتعظيم لكلامه، حيث عادوا على أنفسهم باللائمة؛ إذ ظنوا أنهم أغفلوا النبي –صلى الله عليه وسلم- عن تلك اليمين، وأنهم يتحملون مسؤولية تذكير النبي –صلى الله عليه وسلم- بها، فينقلبون إليه معتذرين مذكّرين بتلك اليمين.
إنها الصورة الرائعة للصفاء القلبي والإشراق النفسي، والإيمان الحق بالرسالة والرسول.
ذاك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي اصطفاه الله لرسالته، وهؤلاء هم الذين آمنوا معه، واصطفاهم الله لصحبته.. (محمد رسول الله والذين معه...)
6- هذا الموقف الذي صدر من الرسول سُبق بمواقف كثيرة في الرفق وغرس الحب وملء النفوس بأحاسيس الرعاية، ولذا فعندما يأتي هذا الموقف مسبوقًا بذلك لا يُحدث صدمة أو هزة، وإنما يأخذ حجمًا محدودًا، ويُفسّر تفسيرًا حسنًا، إنها عملية سحب قليلة من رصيد عاطفي كبير تم إيداعه.(/2)
الأشياء الصغيرة
د. عبد الكريم بكار 19/10/1425
02/12/2004
في أحيان كثيرة يجد الناس أنفسهم يعملون وفق معادلات خاطئة، أو يجدون أنفسهم وقد قعدوا عن العمل بسبب تنافر إمكاناتهم مع طموحاتهم. شيء جميل وعظيم ألا نرضى بالقليل، وأن نتطلع إلى الكثير من الخير لنا ولأمتنا، ولكن بشرط ألا تعظم الفجوة بين المطلوب والممكن إلى درجة نفقد معها الحماسة للعمل، ونزهد معها في الممكن، فيضيع من أيدينا إذ ترنو أبصارنا نحو العسير والمستحيل!
في مجال الأعمال يقولون: فكر عالمياً، وتصرف محلياً. وهذا قول حكيم، يمكن أن نستفيد منه في المجال الدعوي والمجال الحضاري عامة. لنمتلك الرؤية الشاملة والواسعة، ولنحاول أن نعرف موقعنا بدقة على الخارطة العالمية والمحلية. ولنلامس في تصوراتنا آفاق المطلوب والمتاح، وآفاق القريب والبعيد، والسهل والمرهق، ولكن لنركّز جهودنا دائماً في دوائر التأثير، حيث لا يدخل في الرصيد في نهاية المطاف إلا تلك المنجزات الصغيرة والقابلة لوضع اليد عليها. الأشياء الصغيرة تظل دائماً قابلة للتنفيذ، لأنها قابلة للتصديق، والأشياء الكبرى كثيراً ما تبقى في حيز الأمنيات، لأننا نشك عادة في قدرتنا على القيام بها.
كثير من الشباب المسلم حائر في توظيف وقته وطاقاته في المجال المثمر والملائم؛ فهذا شاب يرغب في أن يكون داعية وطبيباً. وهذا شاب يرغب في أن يكون مهندساً وفقيهاً. وهذا شاب ثالث يرغب في أن يكون مدرساً ورجل أعمال...
شباب كثيرون ابتعثتهم حكوماتهم إلى بلاد الغرب ليدرسوا بعض التخصصات العلمية المهمة، فما كان منهم إلا أن تركوا تخصصاتهم، وانتقلوا إلى المجال الدعوي. وكثيراً ما تصادف في الولايات المتحدة الأمريكية شاباً مسلماً يعمل إمام مسجد، وقد كان تخرج في قسم الكيمياء أو الفيزياء. وهذا رجل يحمل الدكتوراة في الأدب الإنجليزي ترك التدريس في الجامعة ليدرس في مدرسة عربية هزيلة هناك...
في بلادنا شباب ورجال كثيرون لا يحبون الوظائف التي قضوا فيها شطراً مهماً من أعمارهم، إنهم ينظرون إليها على أنها خط رزق احتياطي، أو أنها مصدر تُستمد منه الوجاهة الاجتماعية. إن تطلعاتهم وتفاعلاتهم ومستقبلهم ليس في هذه الوظائف والأعمال ولهذا فإنهم لا يعطونها إلا القليل من اهتمامهم وجهدهم! هذا مدرس يعمل في تجارة العقار، وهو يجد في تجارته من المردود المادي أضعاف ما يجده في وظيفة التدريس، ولهذا فإنه لا يحضر دروسه، ولا يكلف طلابه بكتابة ما ينبغي أن يكتبوه من الواجبات أو ما ينبغي أن يحلوه من التمارين؛ لأنه لا وقت لديه للتصحيح. وإذا دُعي إلى اجتماع مسائي في المدرسة فإنه لا يحضر فذلك في نظره اجتماع لغو، ولا وقت لديه لمثل ذلك! وهذا ليس أكثر من نموذج صغير لبلاء كبير!
وأود أن أضع النقاط على الحروف في الإضاءات التالية:
1- لن يكون في المستقبل ما يسمى "بالأمم العظيمة والدول العملاقة" ولكن سيكون هناك دوائر تضم أعداداً من الأبطال الصغار الذين يهتمون بإتقان الأشياء الصغيرة التي بين أيديهم وهم يشكلون -حيثما وجدوا بكثافة- بؤراً متفوقة ونافذة ومؤثرة، إنهم يعملون بصمت ومن غير عناوين كبيرة إنهم أشبه بقطرات الماء التي يتشكل منها النهر العظيم، وأشبه بحبات الرمل التي يتكون منها الجبل العظيم، حبة الرمل ليست بشيء، لكن لولا حبات الرمل لم يكن هناك الجبل العملاق!
من المهم أن ندرك أن كل موقع يحتله واحد منا هو ثغرة من ثغور الإسلام، ومن خلال نوعية تصرفنا وأدائنا في ذلك الموقع، نسهم في رفع راية الإسلام وحماية حرماته، أو نسهم في ذهاب ريح الأمة وجعلها عالة على غيرها من الأمم. إن أمهر البنائين لا يستطيع أن يشيد صرحاً متيناً من لبنات هشة. وإن أعظم الحكام لا يستطيع أن يبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده.
كان (بنجوربون) يقول: إن إسرائيل لن تقوم بناء على قرار تصدره المنظمة الصهيونية العالمية، ولكننا سنبنيها لبنة لبنة، سنضم البقرة إلى البقرة والمزرعة إلى المزرعة والمصنع إلى المصنع والجامعة إلى الجامعة، وبذلك وحده يصبح لنا دولة بما تعنيه الكلمة.
هذا المنطق هو المنطق القابل للتطبيق، وأعتقد أن مساعينا في دفع الأمة في دروب النهضة ينبغي أن تتركز في شيئين أساسيين: تقديم النماذج وبناء الأطر.
إن عقولنا تنطوي في أعماقها على ميول نحو الاستحالة، واستصعاب الأمور والنماذج العملية هي التي تزرع في تصوراتنا ومشاعرنا الميول نحو الممكن إن كل مثقف مسلم بقليل من الوعي وقليل من الجهد يستطيع أن يقدم في جانب من جوانب حياته نموذجاً صغيراً يجذب إليه بعض الناس، فيقلدونه ويترسمون خطاه، وبذلك يكثر الخير، وتترسخ تقاليد ثقافية مثمرة.
وهناك في الأمة رجالات فيهم سمات قيادية، ولهم همم عالية وهؤلاء لا يكتفون بتقديم النماذج، لكنهم يبنون الأطر التي تجمع الجهود المتفرقة، وتوجه الأنشطة وتحرر الطاقات الكامنة. ومن النماذج والأطر تتشكل فيزياء التقدم.(/1)
2- الأمم الفقيرة ليست هي الأمم التي لا تملك المال، لكنها الأمم التي يتلفت أطفالها يمنة ويسرة، فلا يجدون حولهم سوى رجال من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فتتجه أبصارهم نحو رجالات الأمم الأخرى باحثة عن القدوة والمثل وعن حقل جديد للممارسة. وبذلك تنشأ الفتنة الثقافية!
3- هناك علاقة عكسية بين الكيف والكم. وبما أن جهودنا وطاقاتنا مهما بلغت هي في النهاية محدودة فإن ما ننجزه يخضع لتلك العلاقة: الكم دائماً على حساب الكيف. والمتأمل في (حديث القصعة) وفي واقعنا اليوم يجد أن الأمة تعاني من مشكلة (كيف) لا مشكلة (كم) ولو اتجهنا إلى جعل الإحسان والإتقان السمة التي لا نتنازل عنها في جميع أعمالنا لتحسنت النوعية وارتقت الأمة.
أملي أن نكف عن الهروب إلى الأمام والذي طالما مارسناه من خلال الحديث عن الأشياء الكبيرة كيلا نتحمل مسؤولية الأشياء الصغيرة ومن الله تعالى الحول والطول(/2)
الأشياء الصغيرة
د. عبد الكريم بكار 19/10/1425
02/12/2004
في أحيان كثيرة يجد الناس أنفسهم يعملون وفق معادلات خاطئة، أو يجدون أنفسهم وقد قعدوا عن العمل بسبب تنافر إمكاناتهم مع طموحاتهم. شيء جميل وعظيم ألا نرضى بالقليل، وأن نتطلع إلى الكثير من الخير لنا ولأمتنا، ولكن بشرط ألا تعظم الفجوة بين المطلوب والممكن إلى درجة نفقد معها الحماسة للعمل، ونزهد معها في الممكن، فيضيع من أيدينا إذ ترنو أبصارنا نحو العسير والمستحيل!
في مجال الأعمال يقولون: فكر عالمياً، وتصرف محلياً. وهذا قول حكيم، يمكن أن نستفيد منه في المجال الدعوي والمجال الحضاري عامة. لنمتلك الرؤية الشاملة والواسعة، ولنحاول أن نعرف موقعنا بدقة على الخارطة العالمية والمحلية. ولنلامس في تصوراتنا آفاق المطلوب والمتاح، وآفاق القريب والبعيد، والسهل والمرهق، ولكن لنركّز جهودنا دائماً في دوائر التأثير، حيث لا يدخل في الرصيد في نهاية المطاف إلا تلك المنجزات الصغيرة والقابلة لوضع اليد عليها. الأشياء الصغيرة تظل دائماً قابلة للتنفيذ، لأنها قابلة للتصديق، والأشياء الكبرى كثيراً ما تبقى في حيز الأمنيات، لأننا نشك عادة في قدرتنا على القيام بها.
كثير من الشباب المسلم حائر في توظيف وقته وطاقاته في المجال المثمر والملائم؛ فهذا شاب يرغب في أن يكون داعية وطبيباً. وهذا شاب يرغب في أن يكون مهندساً وفقيهاً. وهذا شاب ثالث يرغب في أن يكون مدرساً ورجل أعمال...
شباب كثيرون ابتعثتهم حكوماتهم إلى بلاد الغرب ليدرسوا بعض التخصصات العلمية المهمة، فما كان منهم إلا أن تركوا تخصصاتهم، وانتقلوا إلى المجال الدعوي. وكثيراً ما تصادف في الولايات المتحدة الأمريكية شاباً مسلماً يعمل إمام مسجد، وقد كان تخرج في قسم الكيمياء أو الفيزياء. وهذا رجل يحمل الدكتوراة في الأدب الإنجليزي ترك التدريس في الجامعة ليدرس في مدرسة عربية هزيلة هناك...
في بلادنا شباب ورجال كثيرون لا يحبون الوظائف التي قضوا فيها شطراً مهماً من أعمارهم، إنهم ينظرون إليها على أنها خط رزق احتياطي، أو أنها مصدر تُستمد منه الوجاهة الاجتماعية. إن تطلعاتهم وتفاعلاتهم ومستقبلهم ليس في هذه الوظائف والأعمال ولهذا فإنهم لا يعطونها إلا القليل من اهتمامهم وجهدهم! هذا مدرس يعمل في تجارة العقار، وهو يجد في تجارته من المردود المادي أضعاف ما يجده في وظيفة التدريس، ولهذا فإنه لا يحضر دروسه، ولا يكلف طلابه بكتابة ما ينبغي أن يكتبوه من الواجبات أو ما ينبغي أن يحلوه من التمارين؛ لأنه لا وقت لديه للتصحيح. وإذا دُعي إلى اجتماع مسائي في المدرسة فإنه لا يحضر فذلك في نظره اجتماع لغو، ولا وقت لديه لمثل ذلك! وهذا ليس أكثر من نموذج صغير لبلاء كبير!
وأود أن أضع النقاط على الحروف في الإضاءات التالية:
1- لن يكون في المستقبل ما يسمى "بالأمم العظيمة والدول العملاقة" ولكن سيكون هناك دوائر تضم أعداداً من الأبطال الصغار الذين يهتمون بإتقان الأشياء الصغيرة التي بين أيديهم وهم يشكلون -حيثما وجدوا بكثافة- بؤراً متفوقة ونافذة ومؤثرة، إنهم يعملون بصمت ومن غير عناوين كبيرة إنهم أشبه بقطرات الماء التي يتشكل منها النهر العظيم، وأشبه بحبات الرمل التي يتكون منها الجبل العظيم، حبة الرمل ليست بشيء، لكن لولا حبات الرمل لم يكن هناك الجبل العملاق!
من المهم أن ندرك أن كل موقع يحتله واحد منا هو ثغرة من ثغور الإسلام، ومن خلال نوعية تصرفنا وأدائنا في ذلك الموقع، نسهم في رفع راية الإسلام وحماية حرماته، أو نسهم في ذهاب ريح الأمة وجعلها عالة على غيرها من الأمم. إن أمهر البنائين لا يستطيع أن يشيد صرحاً متيناً من لبنات هشة. وإن أعظم الحكام لا يستطيع أن يبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده.
كان (بنجوربون) يقول: إن إسرائيل لن تقوم بناء على قرار تصدره المنظمة الصهيونية العالمية، ولكننا سنبنيها لبنة لبنة، سنضم البقرة إلى البقرة والمزرعة إلى المزرعة والمصنع إلى المصنع والجامعة إلى الجامعة، وبذلك وحده يصبح لنا دولة بما تعنيه الكلمة.
هذا المنطق هو المنطق القابل للتطبيق، وأعتقد أن مساعينا في دفع الأمة في دروب النهضة ينبغي أن تتركز في شيئين أساسيين: تقديم النماذج وبناء الأطر.
إن عقولنا تنطوي في أعماقها على ميول نحو الاستحالة، واستصعاب الأمور والنماذج العملية هي التي تزرع في تصوراتنا ومشاعرنا الميول نحو الممكن إن كل مثقف مسلم بقليل من الوعي وقليل من الجهد يستطيع أن يقدم في جانب من جوانب حياته نموذجاً صغيراً يجذب إليه بعض الناس، فيقلدونه ويترسمون خطاه، وبذلك يكثر الخير، وتترسخ تقاليد ثقافية مثمرة.
وهناك في الأمة رجالات فيهم سمات قيادية، ولهم همم عالية وهؤلاء لا يكتفون بتقديم النماذج، لكنهم يبنون الأطر التي تجمع الجهود المتفرقة، وتوجه الأنشطة وتحرر الطاقات الكامنة. ومن النماذج والأطر تتشكل فيزياء التقدم.(/1)
2- الأمم الفقيرة ليست هي الأمم التي لا تملك المال، لكنها الأمم التي يتلفت أطفالها يمنة ويسرة، فلا يجدون حولهم سوى رجال من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فتتجه أبصارهم نحو رجالات الأمم الأخرى باحثة عن القدوة والمثل وعن حقل جديد للممارسة. وبذلك تنشأ الفتنة الثقافية!
3- هناك علاقة عكسية بين الكيف والكم. وبما أن جهودنا وطاقاتنا مهما بلغت هي في النهاية محدودة فإن ما ننجزه يخضع لتلك العلاقة: الكم دائماً على حساب الكيف. والمتأمل في (حديث القصعة) وفي واقعنا اليوم يجد أن الأمة تعاني من مشكلة (كيف) لا مشكلة (كم) ولو اتجهنا إلى جعل الإحسان والإتقان السمة التي لا نتنازل عنها في جميع أعمالنا لتحسنت النوعية وارتقت الأمة.
أملي أن نكف عن الهروب إلى الأمام والذي طالما مارسناه من خلال الحديث عن الأشياء الكبيرة كيلا نتحمل مسؤولية الأشياء الصغيرة ومن الله تعالى الحول والطو(/2)
الأصل في العبادة المسارعة
[من كتاب العبادة واجتهاد السلف للشيخ حفظه الله]
فالأصل في العبادة المسارعة , وأن يعلم العبدُ أَنَّ أنفاسه معدودة , وأنَّ لحظاته موقوفة إمّا على طاعة ؛ وإمّا على تفريط وإضاعة .
ولذلك نرى أن المسارعة من صفات المؤمنين كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } [ سورة المؤمنون : 60-61 ] .
فهؤلاء مُقَرَّبُون , وفي البرِّ منغمسون , وبطاعة ربهم منشغلون , ورغم ذلك فهم خائفون وجلون , فلمّا لم يمنعهم مانع عن فعلهم , ويشغلهم شاغل عن ذكرهم , وجَدُّوا في السير ؛ أثنى الله عليهم , وأثبت فعلهم , ومدح عملهم .
وكما ذكر سبحانه عن أنبيائه ورسله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } [ سورة الأنبياء : 90 ] .
وكما أثنى سبحانه على عباده الصالحين ؛ وأوليائه المتقين , بقوله سبحانه وتعالى : {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) } [ سورة آل عمران : 114 ] .
ولقد أمر الله سبحانه بالمسابقة , والمنافسة في الطاعات , وبالمسارعة والجد إلى الجنّات .
قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } [ سورة آل عمران : 133 ] .
وقال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [ سورة الحديد : 21 ] .
وقال تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [ سورة البقرة : 148 ] .
وقد جعل الله أعلى المنازلِ في الجنّات ؛ لأهل السبق في الخيرات , كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ (14)} [ سورة الواقعة : 10-14 ] .
وقد حَثََّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسارعة لفعل الخيرات , وتدارك المهمات قبل فوات اللحظات .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا لَنَا , فَقَالَ : مَا هَذَا فَقُلْنَا : قَدْ وَهَى فَنَحْنُ نُصْلِحُهُ , قَالَ : مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ .( 1)
فالنجاة من الفتن لزوم الطاعة والثبات عليها , فالمسارعة في وقت الأمان ينجي عند وقوع البلاء .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ , يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا , أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا , يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا .(2 )
فالبدار البدار والوحا الوحا قبل فوات الأوان , وقبل قدوم الفتن وتعذر الطّاعة والإيمان , وهوان المعاصي والآثام , حتى تعم الزمان والمكان , فإنَّه سيأتي الزمان الذي يتقلب فيه العبد لا بين معصية وطاعة , وإنما يتقلب بين كفر وإيمان .
فلابد للعبد أن يدفع نفسه للطاعات دفعًا , وأن يجعل رأس ماله من الأيام والليالي إيمانًا يدفع به الضلال , وعِلمًا يزيل به الجهل , فلا شيء أغلى من وقتٍ ينفق في طاعة الله , وصحةٍ يعمل فيها بأمر الله .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ .( 3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ , وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ , احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ , وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا , وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ , فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ .( 4)
فالواجب على العبد أن يتقدم ولا يتأخر , ويمضي ولا يلتفت , ويطرق أبواب الخير فما فتح له من بابٍ فليلزمه ؛ ويدعو الله بالثبات .(/1)
عن خالد بن معدان قال : إذا فَتَحَ أَحَدُكُم بَابَ خيرٍ ؛ فليسرع إليه فإنه لا يدري متى يُغلق عنه .
و قال أيضا : العَيْنُ مَالٌ والنَّفْسُ مَالٌ , وخيرُ مَالِ العبدِ ما انتفع به وابتذله , وشَرُّ أموالك ما لا تراه , ولا يراك , وحسابه عليك ونفعه لغيرك .(5 )
ومما يُؤْثَرُ أن عبد الله العُمَرِيّ العابد , أنه كتب إلى مالكٍ يحضه على الانفراد والعمل , فكتب إليه مالك : إن الله قَسَمَ الأَعْمَالَ كما قَسَمَ الأرزاق , فَرُبَّ رَجُلٍ فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم , وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم , وآخر فتح له في الجهاد , فَنَشْرُ العلم من أفضل أعمال البر , وقد رضيت بما فُتِحَ لي فيه , وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه , وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبر .(6 )
وإذا فُتح هذا الباب فليلزمه ؛ حتى في زمن الفترة والتعب والملل , حتى لا يُحْبَس عليه ولا يستطيع مواصلة السير .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً , وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ , فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ , وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ .( 7)
فإن النَّفس إذا عُودت على التباطؤ كلَّت وملَّت , وألزمت صاحبها بالرُّخص حتى تبتعد عن الطريق .
عن عبد الصمد بن سليمان بن أبي مطر قال : بِتُّ عند أحمد بن حنبل رحمه الله ؛ فوضع لي صاغرة( 8) ماء , قال : فلما أصبحت وجدني لم استعمله , فقال : صاحب حديث لا يكون له وردٌ بالليل , قال : قلت مسافر , قال : وإن كنت مسافر , حج مسروقٌ فما نام إلا ساجدا .(9 )
وليحذر العبد من التسويف والتباطؤ فمن خاف عدوًا فر منه , ومن أراد خيرًا سعى إليه , ومن طلب العُلى سَهِر الليالي .
عن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ خَافَ أَدْلَجَ , وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ , أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ , أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ .(10 )
عن هشام بن حسان قال : قال الحسن البصري : والله لقد أدركنا أقوامًا وصحبنا طوائف ؛ إن كان الرجل منهم ليمسي وعنده من الطعام ما يكفيه , ولو شاء لأكله فيقول : والله لا أجعل هذا كله في بطني حتى أجعل بعضه لله , فيتصدق ببعضه , والله لقد أدركنا أقوامًا وصحبنا طوائف ما كانوا يبالون أشرَّقت الدنيا أم غربت , والله الذي لا إله غيره لهي أهون عليهم من التُّراب الذي يمشون عليه .(11 )
وقال أيضًا : المؤمن يُصبح حزينًا ويمسي حزينًا ويتقلب في الحزن , ويكفيه ما يكفي العنيزة .( 12)
قال فضيل الرَّقاشي : يا هذا ! لا يشغلنك كثرة النَّاس عن نفسك , فإن الأمر يخلص إليك دونهم , ولا تقل أذهب ها هنا وها هنا ليذهب عليَّ النهار ؛ فإنه محفوظٌ عليك , ولم نر شيئًا قط أحسن طلبًا ولا أسرع إدراكًا من حسنةٍ حديثة لذنب قديم .( 13)
هدي السلف في المسارعة
أخي الحبيب : مهما حاول العبد أن يصف أحوالهم وأن يتندر بسيرهم ؛ فالعقل يحار , واللِّسان يعجز , واليد تخفق في ذكر محاسنهم ومآثرهم ولا يتم البيان ! فكيف يكون الوصف بعد وصف الله لهم ! كما قال تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [سورة الفتح : 29](/2)
فتأمل هذا الوصف البديع لهذه الكوكبة من الصحابة من المهاجرين والأنصار , ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بأكمل الصفات , وأجلِّ الأحوال , وأنهم جادون مجدون في نصرت دينهم , ساعون في ذلك بغاية جهدهم , فليس للكفار منهم إلا الغلظة والشِّدة , فلذلك ذَلَّ أعداؤهم , وانكسر مخالفوهم , ومع ذلك فهم رحماء متحابون بينهم , متعاطفون كالجسد الواحد , يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه , هذه معاملتهم مع الخلق !! أمَّا معاملتهم مع الخالق فإنك تراهم ركعا سجدًا بكثرة صلاتهم التي هي العلامة والدلالة على تمام العبودية لله سبحانه وتعالى , حتى أنك تر أثر العبادة وحسنها على وجوههم , فترى النور يشع منها فلما استنار باطنهم بالعبادة استنار الظاهر بالجلال والهيبة والعظمة , حتى أنك ترى وصفهم في الكتب السابقة , فالوصف السابق في التوراة , وأما في الإنجيل فهم كزرع نما وثبت واستقام , يُعْجِبُ من حسنه الزرّاع لشدة انتفاعهم به , كذلك الصحابة في انتفاع الخلق بهم , وهم مع قوتهم واجتماعهم يهابهم الأعداء , وقد جمع الله لهم الإيمان والعمل الصالح والمغفرة والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .
يا عاذلَ المُشتاقِ دَعهُ iiفَإِنَّه
يطوى عَلى الزَّفَراتِ غَيْرَ حَشَاكا
لَو كانَ قَلبُكَ قَلبَهُ ما iiلُمْتَهُ
حَاشَاكَ ممَّا عِندَهُ iiحَاشَاكا
لقد كان السَّلف رضي الله عنهم أسرع الخلق لفعل الطاعات والمسابقة لرضى رب البريات سبحانه وتعالى وكيف لا يكون ذلك وقد رأوا من نبيهم من المسارعة ما سبق به من قبله وأعجز من بعده صلى الله عليه وسلم .
هدي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسارعة
انظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في المسارعة لفعل الخيرات .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ , فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ , فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ , فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ : ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ .(14 )
فانظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم لما تذكر شيئا من الصدقة أسرع وبادر إلى إخراجه صلى الله عليه وسلم , حتى فزع الصحابة لسرعته صلى الله عليه وسلم , بل في جميع الطاعات وكل القربات كان صلى الله عليه وسلم له السبق رغم أن الله غفر ذنبه ومحا خطاياه .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ , قَالَ : أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا , فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا , فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ .( 15)
أخي الحبيب : هذا نداء رب العالمين , ومنهج خير المرسلين في المسارعة لفعل الخيرات , والمسابقة بالطاعات , وكذلك كان الصحابة ومن بعدهم أحرص الناس على ذلك .
أبوبكر رضي الله عنه
وهذا أبو بكر رضي الله عنه ضرب أعظم المثل في المسابقة والمسارعة لفعل الخيرات ؛ حتى أعجز من بعده أن يلحق به .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا , قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا , قَالَ : فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا , قَالَ : فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ .(16 )
بين أبي بكر وعمر
وهذا عمر يتمنى أن يسبق أبا بكر يومًا في طاعة ؛ فما استطاع إلى ذلك سبيلا .(/3)
عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَال : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا , فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا , قَالَ : فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قُلْتُ : مِثْلَهُ , وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ , فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , قُلْتُ : وَاللَّهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا .(17 )
ويحاول عمر أن يسبق أبا بكر ببشارة لعبد الله بن مسعود , فيجد أبا بكر قد سبقه إليها .
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ , فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ , فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ , فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ , قَالَ : ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو , فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ : سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ , قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ : وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ , قَالَ : فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ , وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ ؛ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ .( 18)
فقد كانا رضي الله عنهما في منافسة مستمرة ومسارعة للخير حتى أصبح الأمر عندهما يقين فلا تتدافع إليهما الوساوس والظنون والغائب حاضر والأمر عندهما مصدق رضي الله عنهما .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ : لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا , خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ , قَالَ : آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً , فَتَبِعَهَا الرَّاعِي , فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ : مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي ؟! قَالَ : آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي الْقَوْمِ .( 19)
عثمان رضي الله عنه
وهذا عثمان رضي الله عنه ؛ ما من سبيل فيه مسابقة إلا وكان في المقدمة .
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ , قَالَ : لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ , أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ دَارِهِ ثُمَّ قَالَ : أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حِرَاءَ حِينَ انْتَفَضَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اثْبُتْ حِرَاءُ , فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ؟! قَالُوا : نَعَمْ , قَالَ : أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ : مَنْ يُنْفِقُ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً وَالنَّاسُ مُجْهَدُونَ مُعْسِرُونَ , فَجَهَّزْتُ ذَلِكَ الْجَيْشَ ؟! قَالُوا : نَعَمْ . ثُمَّ قَالَ : أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ بِئْرَ رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِثَمَنٍ ؛ فَابْتَعْتُهَا فَجَعَلْتُهَا لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَابْنِ السَّبِيلِ ؟! قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ , وَأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا .( 20)
علي ابن أبي طالب رضي الله عنه
وهذا عليٌ رضي الله عنه ؛ يَشْهَدُ له النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقبولِ والفتح .(/4)
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ : لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ , فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى , فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى , فَقَالَ : أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ فَقِيلَ : يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ , فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ , فَقَالَ : نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا , فَقَالَ : عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ , ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ , وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ .(21 )
أبو دجانة رضي الله عنه :
وهذا أبو دُجَانَة رضي الله عنه ؛ يقفُ مع الصَّحَابةِ في موضعِ منافسةٍ فيكون له السَّبقُ في ذلك .
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ : مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا , فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ : أَنَا أَنَا , قَالَ : فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ ؛ قَالَ : فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ , فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ : أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ , قَالَ : فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ .( 22)
عكَّاشة بن محصن رضي الله عنه :
وهذا عكَّاشة بن محصن رضي الله عنه حينما يسمع عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ؛ سارع بطلب الدعاء أن يكون منهم .
عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ , فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ قَالَ : ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ , ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ , فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ .( 23)
صحابيٌّ أنصاري :
وهذا رجل من الأنصار يسابقُ إلى إكرام ضيف رسول الله صلى الله عليه , دون أن يَعْلَمَ ما عنده من طعام .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ : مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ , فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنَا , فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ , فَقَالَ : أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي , فَقَالَ : هَيِّئِي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً , فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا , ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ , فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ , فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} .(24 )
سُهيل بن عمرو رضي الله عنه :
وهذا سُهيل بن عمرو - والد أبي جندل - وكان من سادات قريش وخطبائهم , تدارك ما فات من عمره في الكفر , وسارع لرضا الله سبحانه وتعالى حتى نال مكرمة عظيمة عند المسلمين .(/5)
فمن حِلْمِهِ وصحة إسلامه ؛ أنه قدم المدينة في شيوخ من قريش ؛ فيهم أبو سفيان , فاستأذنوا على عمر فأبطأ عليهم , واستأذن بعدهم فقراءٌ من المسلمين فأذن لهم , فقال أبو سفيان : عجبًا يؤذن للمساكين والموالي ؛ وكبار قريش واقفون , فقال سهيل : اغضبوا على أنفسكم ! فإن الله دعا هؤلاء فأسرعوا , ودعاكم فأبطأتم , والله إن الذي سبقوكم إليه من الخير خيرٌ من هذا الذي تنافسون فيه من هذا الباب , ولا أرى أحدا منكم يلحق بهم إلا أن يخرج إلى الجهادِ لعل الله يرزقه الشهادة , فخرج سريعا إلى الشام رضي الله عنه . وكان يتردد في مكة إلى بعض الموالي يُقرئه القرآن فعَيَّره بعضُ قريشٍ , فقال سهيل : هذا والله الكِبر الذي حال بيننا وبين الخير .( 25)
وكان سهيلٌ بعد كثير الصلاة والصوم والصدقة , خرج بجماعته إلى الشام مجاهدا . ويقال : إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير , وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن . وكان أميرًا على كردوس ( 26) يوم اليرموك .
قال المدائني وغيره : واستشهد يوم اليرموك , وقيل مات في طاعون عمواس .(27 )
________________________________________
( 1) صحيح : رواه الترمذي (2335) وقال : حديث حسن صحيح , وأبو داود (4558) وابن ماجة (4160) وأحمد (2/161)
(2 ) رواه مسلم (118)
(3 ) رواه البخاري (6412)
( 4) رواه مسلم (2664)
( 5) سير أعلام النبلاء (4/540)
(6 ) سير أعلام النبلاء (8/114)
( 7) حسن : رواه أحمد (2/188)
( 8) إناء يوضع فيه الماء
( 9) البيهقي"شعب الإيمان" (3/166)
(10 ) حسن : رواه الترمذي (2450) , الحاكم (4/308) وصححه ووافقه الذهبي انظر الصحيحة (2335)
( 11) حلية الأولياء (6/272)
( 12) حلية الأولياء (6/271)
( 13) البيهقي "الزهد الكبير" (781)
(14 ) رواه البخاري (851)
(15 ) رواه البخاري (4837) مسلم (2820)
(16 ) رواه مسلم (1028)
(17 ) حسن : رواه الترمذي (3675) الدارمي (1660)
(18 ) حسن : رواه أحمد (1/25)
(19 ) رواه البخاري (2324) مسلم (2388)
( 20) حسن : رواه الترمذي (3699) النسائي (6/263) أحمد (1/187-188-189) , انظر الصحيحة (875)
( 21) رواه البخاري (2942) مسلم (2406)
(22 ) رواه مسلم (2470)
(23 ) رواه البخاري (5811) مسلم (216)
(24 ) رواه البخاري (3798) مسلم (2054)
(25 ) ابن العماد "شذرات الذهب" (1/30)
(26 ) الطائفة العظيمة من الجيش .
( 27) سير أعلام النبلاء (195)(/6)
الأصل في تقدير الديات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين- أما بعد :-
فإن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي أمر الله بالحفاظ عليها ؛ ولذا شُرع للإنسان أن يتناول الأكل والشراب اللازم لقيام بدنه ، كما شرع له النكاح والبحث عن مسكن ، وشرع له أيضاً التداوي من الأمراض واجتناب كل ما من شأنه أن يضره في بدنه ونفسه ؛ فحرم عليه الخمر والخنزير وأكل الميتة والدم وما ولغ فيه الكلب ... كل ذلك ليحافظ على نفسه من الهلاك أو ليرفع عنها المشقة والعنت أو ليُكمّل لها الراحة والطمأنينة .
ومما يحافظ على النفس – أو بعضها - من الهلاك ويحميها من الضياع : القصاص والديات والأروش ؛ قال تعالى ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة:179] ، فالقيام بذلك يعني حماية النفس وصيانتها ، والتفريط فيه يعني هلاكها ؛ ومن هنا كان كل من القصاص والدية عقوبات رادعة لمن اعتدى على هذه النفس المصانة .
والإسلام قد قدّر هذه الديات وحددها ولم يتركها وفقاً للأمزجة والأهواء والتعسف ، ولكنا نلحظ - في زماننا هذا – رخصاً واضحاً وتدنياً بيّناً في تقدير قيمة الديات ، حتى نجد أن هذه التقديرات الحالية غير رادعة ، مما أدى إلى استهانة الناس بدماء بعضهم البعض ، وأدى ذلك أيضاً إلى كثرة الثارات التي ربما تطول لعشرات السنين .
والناس اليوم لم يعودوا يتعاملون بالإبل والدينار والدرهم ، أو أنهم يربون الأغنام والأبقار ولكن- في الغالب- بكميات قليلة.
لأجل ما سبق كله كان لا بد من دراسة أصول الديات التي يُرجع إليها في التقدير مهما اختلف الزمان أو المكان ؛ فأقول والله موفقي ومسددي ومعيني :
تعريف الدية :
الدية في اللغة (مصدر ودية القاتل المقتول أي أعطى ديته، وأعطى لوليه المال الذي هو بدل النفس ؛ ثم قيل لذلك المال الدية تسميةً بالمصدر. قال في القاموس : الدِّيَةُ بالكسر : حَقُّ القَتيلِ جمعها : دِياتٌ ) (1) . وفي الصحاح : ( وديت القتيل أديهِ ديةً إذا أعطيت ديته ) (2) . وفي لسان العرب : (الدِّيةُ: حَقُّ القَتيلِ، وقد وَدَيْتُه وَدْياً. قال الجوهري : الدِّيةُ واحدة الدِّيات ، والهاءُ عوض من الواو، تقول: ودَيْتُ القَتِيلَ أَدِيه دِيةً إِذا أَعطيت دِيَتَه، و اتَّدَيْتُ أَي أَخذتُ دِيَتَه .. وأَصل الدِّية ودْية فحذفت الواو ) (3).
قال السرخسي : ( واشتقاق الدية من الأداء لأنها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال وهو النفس ، والأرش الواجب في الجناية على ما دون النفس مؤدى أيضاً ، وكذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات ؛ إلا أن الدية اسم خاص في بدل النفس ؛ لأن أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف ) (4) . وقال ابن نجيم : (وقد صار هذا الاسم علماً على بدل النفوس دون غيرها وهو الأرش ) (5).
وأما معناها في الشرع ؛ ( فالدية عبارة عما يؤدى ) (6) . وعُرفت بأنها : (مقدار معلوم من المال على عاقلة القاتل في الخطأ ، وعليه في العمد ؛ بسبب قتل آدمي حر معصوم - ولو بالنسبة لقاتله - عوضاً عن دمه ) (7) . وقال الشربيني الشافعي : (وهي المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها ) (8)
أصول الديات :
• المذهب الحنبلي :
قال ابن قدامة : ( أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل ، وقد دلت عليه الأحاديث الواردة ، منها حديث عمرو بن حزم ، وحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه - في دية خطأ العمد ، وحديث ابن مسعود – رضي الله عنه - في دية الخطأ ) (9) ، وظاهر كلام الخِرقي أن الإبل خاصة هي الأصل في الدية . قال أبو الخطاب : ( هذا إحدى الروايتين عن أحمد ) (10) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتيل السوط والعصا " مائة من الإبل " (11) ؛ ولأنه فرّق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ؛ ولا يتحقق هذا إلا في الإبل ؛ ولأنه بدل متلف حقاً لآدمي فكان متعيناً كعوض الأموال ، وعلى هذا فإن بقية ما ذكر أبدال عنها أشبه المتيمم إذا عُدِم الماء ، لأن ذلك أقل ما تُحمل عليه الأحاديث (12) ، ونسب ابن قدامة هذا القول لطاووس والشافعي وابن المنذر (13) . فدل هذا على أن الأصل في الدية هي الإبل . وعليه فلا يُصار إلى غيرها إلا عند الإعواز ؛ قال ابن قدامة – رحمه الله -: ( فإن أعوزت أولم توجد إلا بأكثر من ثمن مثلها فله الانتقال إلى أحد هذه الأنواع ؛ لأنها أبدال عنها فيصار إليها عند إعوازها كالقيمة في بدل المثليات ) (14) ، وعليه فمن وجبت عليه الدية وجب تسليمها من الإبل ، وأيهما أراد العدول إلى غيرها فللآخر منعه ، لأن الحق متعين فيها كالمثل في المثليات (15) .(/1)
وقال القاضي : لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم ؛ فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها (16) ؛ وهذا قول عمر وعطاء وطاووس وفقهاء المدينة السبعة ، وبه قال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد (17) ؛ لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن " وأن في النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار " رواه النسائي (18) ، وروى ابن عباس - رضي الله عنه - أن رجلاً من بني عدي قُتل ، " فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفاً " رواه أبو داود والنسائي (19) ، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن تقويم الإبل بالذهب والفضة كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه ( فرض على أهل الذهب ألف دينار في الدية وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم ) (20) ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر- رضي الله عنه - قام خطيباً فقال : ألا إن الإبل قد غلت فقوّم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألف شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة " رواه أبو داود (21) ؛ وكان هذا بمحضر من الصحابة فكان إجماعا (22) ، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن تقويم الإبل بالذهب والفضة لم يكن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان من عمر .
وقد دل هذا على أن الأصل في الدية هي هذه الأنواع الخمسة ؛ وعليه فأي شيء أحضره من عليه الدية لزم الولي قبوله ؛ لأنها أبدال عن فائت فكانت الخيرة إلى المعطي كالأعيان في الجنس الواحد (23) . واختلفوا في الحلل ؛ هل هي أصل سادس على روايتين (24) .
وقد رُدّ على حديث ابن عباس باحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الورق بدلاً عن الإبل ؛ والخلاف في كونها أصلاً لا بدلاً . وأما حديث عمرو بن شعيب فيدل على أن الأصل هو الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم كان لغلاء الإبل، ولو كانت أصولاً بنفسها لم يكن إيجابها تقويماً للإبل ، ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى ، وقد روي أن الإبل كانت تقوم قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم (25).
والظاهر من خلال ما سبق أن الحنابلة في أصل الدية على فريقين : أنها الإبل خاصة ولا ينتقل إلى غيرها إلا عند الإعواز أو التراضي ، وقيل : أنها من الأنواع الخمسة . وقد أشار إلى هذين القولين أبو الخطاب كما تقدم ، وإليه أشار ابن قدامة أيضاً في الكافي (26).
• المذهب الحنفي :
قال الكاساني - رحمه الله -: ( قال أبو حنيفة - رحمه الله -: الذي تجب منه الدية وتقضى منه ثلاثة أجناس : الإبل والذهب والفضة ) (27) واحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن حزم المتقدم " في النفس مائة من الإبل " وقد تقدم فقد جعل - عليه الصلاة والسلام - الواجب ( من الإبل ) بالإشارة إليها ؛ فظاهره يقتضي الوجوب منها على التعيين ، إلا أن الواجب من الصنفين الأخيرين ( وهما الذهب والفضة ) ثبت بدليل آخر ، فقد ذكر الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه - " لما دوّن الدواوين جعل الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم " (28) وقضاؤه ذلك كان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع منهم (29) ؛ فمن ادعى الوجوب في الأصناف الأخرى فعليه الدليل (30).
والمعنى – على هذا القول - أن للقاضي أن يقضي بالدية من الدراهم أو الدنانير (31) ، وليست الدراهم والدنانير بدلاً عن الإبل بل هي أصل بذاتها . قال السرخسي : ( فلو كان الأصل في الدية الإبل - وهي دَيْن - والدراهم والدنانير بدل عنها كان هذا ديناً بدين ونسيئةً بنسيئة ، وذلك حرام شرعاً ، يوضحه أن الآدمي - بالقيمة -كسائر الحيوانات ، والأصل في القيمة : الدراهم والدنانير ؛ إلا أن القضاء بالإبل كان بطريق التيسير عليهم ؛ لأنهم كانوا أرباب الإبل وكانت النقود تتعسر منهم ، ولأنهم كانوا يستوفون الدية على أظهر الوجوه ليندفع بها بعض الشر عنهم ، وذلك في الإبل أظهر منه في النقود ؛ فكانت ( أي الإبل ) بخلاف القياس بهذا المعنى ، ولكن لا يسقط بها ما هو الأصل في قيمة المتلفات (وهو النقدين) أه (32)
وعند أبي يوسف ومحمد – رحمهما الله تعالى - ( أصول الدية ستة أجناس : الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل ) واحتجا بقضية عمر - رضي الله عنه - المتقدمة (33) وبما روي عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - " فرض في الدية ، على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل هذه الشياة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة " رواه أبو داود (34)(/2)
وقد رُدّ ما استدلا به من قضية عمر - رضي الله عنه - بأنه إنما قضى بذلك حين كانت الديات على العواقل فلما نقلها إلى الديوان قضى بها من الأجناس الثلاثة ، وقد ذكر الكاساني أن في كتاب المعاقل ما يدل على أنه لا خلاف بينهم ، فإنه قال : لو صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة أو مائتي حلة لم يجز بالإجماع ولو لم يكن ذلك من جنس الدية لجاز (35) . ورُدّ عليهما أيضاً بأن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية وهذه الأشياء مجهولة المالية ؛ ولهذا لا يقدر بها ضمان المتلفات ، والتقدير بالإبل عُرِف بالآثار المشهورة ولم يوجد ذلك في غيرها فلا يعدل عن القياس ، والآثار التي وردت فيها تحتمل القضاء فيها بطريق الصلح فلا يلزم حجة (36).
والخلاصة: أن للحنفية قولان في أصل الدية : هي من الثلاثة الأجناس ( الإبل والذهب والفضة ) ، هي من الستة الأجناس ( الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل )
• المذهب المالكي :
نقل ابن رشد - رحمه الله - أن مذهب مالك كمذهب أبي حنيفة : أن الأصل في الدية هو الإبل والذهب والورق ، قال : ( ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق ) أه (37) ، وما ذاك إلا لأنه غالب كسبهم (38) .
قال ابن عبد البر - رحمه الله -: ( وأما أقاويل الفقهاء فإن مالكا والشافعي في أحد قوليه وأبا حنيفة وزفر ذهبوا إلى أن الدية من الإبل والدنانير والدراهم ، ولم يختلفوا هم ولا غيرهم أن الإبل مائة من الإبل وكذلك لم يختلفوا أن الذهب ألف دينار ) (39).
وقال محمد بن عبد الباقي الزرقاني- رحمه الله - : ( قال مالك : فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر وأهل المغرب ، وأهل الورق أهل العراق ، والأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل لأنه خلاف الواجب عليهم من ذهب أو فضة ، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق لأن المفروض عليهم الإبل ، ولا من أهل الذهب الورق ، ولا من أهل الورق الذهب ؛ فإنما يقبل من كلٍ ما وجب عليه ) (40)
والحاصل : أن الأصل في الدية عند المالكية هو من الثلاثة الأجناس ( الإبل والذهب والفضة ) .
• المذهب الشافعي :
قال في المهذب : ( وتجب الدية من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الدية من القاتل أو العاقلة ، كما تجب الزكاة من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الزكاة ) (41).
وقال النووي - رحمه الله -: ( ومن لزمته - أي الدية - وله إبل فمنها .. ثم قال : ولا يعدل إلى نوع وقيمة إلا بتراض ، ولو عدمت فالقديم : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم ، والجديد : قيمتها بنقد بلده وإن وجد بعض أخذ وقيمة الباقي ) (42) ، فمفهوم كلامه أن الإبل هي الأصل وإنما الدنانير والدراهم بدل عنها عند الإعواز . وقد نقل ابن عبد البر - رحمه الله - ذلك عن الشافعية ، قال : ( وقال المزني : قال الشافعي : الدية الإبل ، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير والدراهم على ما قوّمها عمر بن الخطاب ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق ) (43) ؛ وعليه فلا ينتقل إلى الذهب أو الفضة إلا برضا المجني عليه ، قال في المهذب : ( وإن أراد الجاني دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الولي على قبوله ، وإن أراد الولي أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الجاني على دفعه ، لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل لم يجز الإجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال ، وإن تراضيا على العوض جاز ؛ لأنه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضي كالبدل في سائر المتلفات ) (44).
إلا أن لهم قولين فيما إذا أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ؛ فقال في القديم : يجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم ؛ لما روى عمرو بن حزم ، وقال في الجديد : تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (45). ( قال الشافعي : والعلم محيطٌ بأنه لم يقوّمها إلا قيمة يومها للإعواز ؛ قال : ولا تقوّم بغير الدنانير والدراهم ؛ قال : ولو جاز أن تقوّم بغير الدنانير والدراهم جعلنا على أهل الخيلِ الخيلُ وعلى أهل الطعامِ الطعامُ ، وهذا لا يقوله أحد . قال أبو عمر – ابن عبد البر - : قد قاله بعض من شذ ) (46)
والخلاصة : أن الشافعية يرون أن الأصل في الدية هي الإبل وأنه لا يُنتقل عنها إلى غيرها إلا بالإعواز أو التراضي .
• المذهب الزيدي :(/3)
ذكر الإمام المهدي في الأزهار أن الدية عندهم ( مائة من الإبل ومائتا بقرة وألفا شاة ومن الذهب ألف مثقال ومن الفضة عشرة آلاف درهم ) (47) ؛ قال القاضي العنسي في شرحه على الأزهار : ( وهذه الأصناف الأربعة عندنا كلها أصول يخير الجاني ووارثه وكذا العاقلة فيما بينها ) (48). ولعله اعتبر النقدين أصلاً واحداً ، وقال السيد حسن الجلال في شرحه على الأزهار : ( ثبوت الذهب في حديث عمرو بن حزم والبقر والشاء والحلل في حديث جابر دليل أن كل نوع أصل على أربابه دون غيرهم ) (49) ، وقال ابن الأمير الصنعاني معلقاً على كلام الجلال هذا : (هذا حسن جداً ويدل له أحاديث على أهل كذا كذا وعلى أهل كذا كذا ، ويدل له حديث عمرو بن شعيب ..) (50) وقال الشوكاني في شرحه على الأزهار عند قوله (ويخير الجاني فيما بينها) : (هذا هو الحق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – فرض كل نوع من أنواعها ولم يبين لنا أن هذا أصل وهذا بدل وإنما كثر ذكر الإبل لأنها غالب أموال العرب ..) (51)
والخلاصة : أن الزيدية يرون أن أصناف الدية هي الإبل والبقر والشياة والذهب والفضة .
الترجيح :
أقول : قد جاء في هذه المسألة -كما ترى - أحاديث ظاهرها التعارض ففي بعضها أن تقدير الدية بالقيمة كان من رسول الله ، وفي أخرى أن تقديرها كان من أبي بكر ، عن عمرو بن شعيب قال :" قضى أبو بكر رضي الله عنه على أهل القرى حين كثر المال وغلت الإبل فأقام مائة من الإبل بستمائة دينار إلى ثمانمائة دينار (52) فقد أفاد هذا الحديث أن تقدير الذهب كان من أبي بكر ، ولكن الحديث ضعيف ، وفي أحاديث أخرى أن هذا التقدير كان من عمر ، عن ابن عمرو قال : " كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين . قال : فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر - رحمه الله - فقام خطيباً .. (53) ففي هذا الحديث تقدير هذه الأصول ، وفيه جواز أخذ القيمة عنها ، وعن مكحول وعطاء قالوا : أدركنا الناس على أن دية المسلم الحر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل فقوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تلك الدية على أهل القرى ألف دينار واثني عشر ألف درهم ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم ، فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل ، ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق (54) ففيه أن تقدير الذهب كان من عمر ، ولكن الحديث ضعيف . ومع ضعف بعض الأحاديث إلا أنه لا تعارض بينها - على فرض صحتها - فإن الذي قدر هذه القِيَم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً ثم لما تغير سعر الإبل في عهد أبي بكر غير من قيمة الذهب والفضة الغنم والبقر ثم لما كان عمر وتغير السعر كذلك غير من قيمتها ففهم ذلك أبو بكر وعمر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء الإبل على عددها من دون تغير فأفاد ذلك أن الإبل هي الأصل .(/4)
كما أن هناك أحاديثاً أخرى تدل أن الذي قدّر الذهب والفضة والغنم .. هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كحديث عطاء بن أبي رباح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد" (55) ، فقد دل على أن تقدير هذه الأصول كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الحديث ضعيف ، ومثله حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.. وفيه " وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار " (56) وفيه أن تقدير الذهب كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولكن الحديث ضعيف ؛ ولكنه قد قوّاهما حديث عمرو بن شعيب وفيه " من قتل خطأ فديته مائة من الإبل .. قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع في قيمتها وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان فبلغ قيمتها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق . قال " وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاة ألفى شاة .. (57) فقد أفاد أيضاً أن تقدير هذه الأصول كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه جواز أخذ القيمة عنها . وعليه فإن الذهب والفضة والغنم والبقر من أصول الديات . ولا يتعارض هذا مع قولنا : إن الإبل هي الأصل ؛ فإن الجميع أصل ؛ ولكن الإبل هي أصل هذه الأصول ، وعليه فإن حصل تفاوت في قِيَم هذه الأصول فإن المرجع في تقدير الدية هو تقديرها بالمقارنة مع قيمة الإبل ، وأما إن تقاربت قِيمها فيصح تقدير الدية - والحال هذه - بأحد الأصناف الأربعة الأخرى ؛ أكد ذلك أنه لا دية مغلظة إلا في الإبل ، والله تعالى أعلى وأعلم .
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل
وسبحان الله وبحمده ؛ سبحان الله العظيم
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي : علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء - 5 ربيع الأول 1427هـ ، 4 إبريل 2006م
________________________________________
________________________________________
(1) - القاموس المحيط ( جزء 1 - صفحة 1729 ) .
(2) - مختار الصحاح ( جزء 1 - صفحة 740 ) .
(3) - لسان العرب ( جزء 15 - صفحة 383 )
(4) - المبسوط للسرخسي ج: 26 ص: 59
(5) - البحر الرائق ج: 8 ص: 372
(6) - البحر الرائق ج: 8 ص: 372
(7) - الفواكه الدواني ج: 2 ص: 186
(8) - مغني المحتاج ج: 4 ص: 53
(9) - المغني ج: 8 ص: 289
(10) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 74
(11) - انظر : سنن النسائي ج: 8 ص: 42 ، سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 877 ؛ قال الشيخ الألباني : صحيح ( إرواء الغليل جزء 7 - صفحة 262 )
(12) - المبدع ج: 8 ص: 346
(13) - المغني ج: 8 ص: 289
(14) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(15) - انظر : الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(16) - المغني ج: 8 ص: 289 ، وانظر المبدع ج: 8 ص: 345 ، وانظر الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(17) - المغني ج: 8 ص: 289
(18) - سنن النسائي ج: 8 ص: 57 ؛ قال الشيخ الألباني : ضعيف ( الجامع الصغير وزيادته جزء 1 - صفحة 609 )
انظر حديث رقم : 2333 في ضعيف الجامع ؛ والحديث فيه سليمان بن أرقم قال النسائي : وسليمان بن أرقم متروك ؛ لكن قال الشافعي رحمه الله : لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أحمد رحمه الله : أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحا ، وقال يعقوب بن سفيان الفسوى : لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم انتهى (نصب الراية جزء 2 - صفحة 237 ، 238 )
(19) - سنن النسائي ج: 8 ص: 44، سنن أبي داود ( جزء 2 - صفحة 592 ) ؛ قال الشيخ الألباني : ضعيف ( ضعيف أبي داود جزء 1 - صفحة 456 )
(20) - سنن البيهقي الكبرى ج: 8 ص: 80
(21) - انظر : المغني ج: 8 ص: 289 ، والكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 74 ، والحديث في سنن أبي داود ( جزء 2 - صفحة 592 ) ؛ قال الشيخ الألباني : حسن ( إرواء الغليل جزء 7 - صفحة 305 ) .
(22) - الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75 ، وانظر المبدع ج: 8 ص: 345
(23) - انظر : الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(24) - انظر : الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(25) - المغني ج: 8 ص: 290
(26) - انظر : الكافي في فقه ابن حنبل ج: 4 ص: 75
(27) - بدائع الصنائع ج: 7 ص: 253 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 349(/5)
(28) - في مصنف ابن أبي شيبة ج: 5 ص:344 عن الشعبي عن عبيدة السلماني قال : "وضع عمر الديات فوضع على أهل الذهب ألف دينار على أهل الورق عشرة آلاف وعلى أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة مسنة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة "
(29) - المبسوط للسرخسي ج: 26 ص: 75 ، وانظر البحر الرائق ج: 8 ص: 374
(30) - بدائع الصنائع ج: 7 ص: 254
(31) - المبسوط للسرخسي ج: 26 ص: 75
(32) - المبسوط للسرخسي ج: 26 ص: 75 وما بعدها
(33) - بدائع الصنائع ج: 7 ص: 253 ، وانظر البحر الرائق ج: 8 ص: 374 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 349
(34) - الحديث في سنن أبي داود ( جزء 2 - صفحة 592 ) قال الشيخ الألباني : ضعيف ( مختصر إرواء الغليل جزء 1 - صفحة 446 ) ؛ قال المنذري : لم يذكر ابن إسحاق من حدثه به عن عطاء فهو منقطع ( نصب الراية جزء 4 - صفحة 419 ) ، وانظر البحر الرائق ج: 8 ص: 374
(35) - بدائع الصنائع ج: 7 ص: 254، وانظر البحر الرائق ج: 8 ص: 374
(36) - البحر الرائق ج: 8 ص: 374
(37) - بداية المجتهد ج: 2 ص: 308، وانظر كفاية الطالب ج: 2 ص: 388 ، وانظر شرح الزرقاني ج: 3 ص: 430
(38) - شرح الزرقاني ج: 3 ص: 430
(39) - التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 345
(40) - شرح الزرقاني ج: 4 ص: 218 ، وانظر كفاية الطالب ج: 2 ص: 388 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 345 ، وانظر الكافي ج: 1 ص: 596
(41) - المهذب ج: 2 ص: 196
(42) - منهاج الطالبين ج: 1 ص: 126
(43) - التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 346
(44) - المهذب ج: 2 ص: 196
(45) - المهذب ج: 2 ص: 196
(46) - التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص: 346 ، وانظر سنن الترمذي ج: 4 ص: 12
(47) - كتاب الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ص303.
(48) - التاج المذهب لأحكام المذهب ج:4 ص:324
(49) - ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار ج:4 ص:2401
(50) - منحة الغفار على ضوء النهار ج:4 ص:2401
(51) - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ج:4 ص:438
(52) - سنن البيهقي الكبرى ج: 8 ص: 77
(53) - سنن أبي داود ( جزء 2 - صفحة 592 ) قال الشيخ الألباني : حسن ، وقد تقدم
(54) - سنن البيهقي الكبرى ج: 8 ص: 95؛ قال الألباني : ورجاله ثقات غير مسلم وهو ابن خالد الزنجي وفيه ضعف ( إرواء الغليل جزء 7 - صفحة 306 )
(55) - سنن أبي داود ( جزء 2 - صفحة 592 ) قال الشيخ الألباني : ضعيف ( ضعيف أبي داود جزء 1 - صفحة 455 )
(56) - سنن النسائي ج: 8 ص: 57 . قال الشيخ الألباني : ضعيف ؛ انظر حديث رقم : 2333 في ضعيف الجامع ( جزء 1 - صفحة 609 )
(57) - سنن النسائي ج: 8 ص: 42 ، سنن ابن ماجه ( جزء 2 - صفحة 878 ) قال الشيخ الألباني : حسن ( صحيح ابن ماجة جزء 2 - صفحة 95 )(/6)
الأصول الثلاثة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلّم ثلاثة أصول
وهي معرفة ربّه ودينه ونبيّه
الأصل الأول
إذا قيل لك مَن ربّك، فقل ربّي الله الذي ربّاني بنعمته وخلقني من عدم إلى وجود، والدليل قوله تعالى
إنّ الله ربّي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم
وإذا قيل لك بأي شيء عرفت ربّك؟ فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته، فأمّا الدليل على آياته قوله تعالى
ومِن ءاياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهنّ إنْ كتنم إياه تعبدون
ودليل مخلوقاته قوله تعالى
إنّ ربّكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيام ثمّ استوى على العرش. يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
وإذا قيل لك لأي شيء خلقك الله؟ فقل: خلقني لعبادته وطاعته واتّباع أمره واجتناب نهيه
ودليل العبادة قوله تعالى
وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلاّ ليعبدون. ما أريد منهم مِن رزق وما أريد أن يُطعمون. إنّ الله هو الرزّاق ذو القوة المتين
ودليل الطاعة قوله تعالى
يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فرُدّوه إلى الله والرسول
يعني كتاب الله وسنّة نبيه. وإذا قيل لك أي شيء أمرك الله به ونهاك عنه؟ فقل: أمرني بالتوحيد ونهاني عن الشرك، ودليل الأمر قوله تعالى
إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون
ودليل النهي عن الشرك قوله تعالى
إنّ الله لا يغفر أنْ يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومَن يُشرِك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار
الأصل الثاني
إذا قيل لك ما دينك فقل: ديني الإسلام وهو الإستسلام والإذعان والإنقياد إلى الله تعالى
والدليل قوله تعالى
إنّ الدين عند الله الإسلام
ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وهو مبني على خمسة أركان، أولها شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت مَن استطاع إليه سبيلا. فأما دليل الشهادة، قوله تعالى
شهِد اللهُ أنّه لا إله إلاّ هو والملائكةُ وأولو العِلم قائما بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم
ودليل أنّ محمدا رسول الله، قوله تعالى
ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيّين
ودليل الصلاة قوله تعالى
إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا
ودليل الزكاة قوله تعالى
خُذ من أموالهم صدقة تُطهّرهم وتزكّيهم بها وصلِّ عليهم إنّ صلاتك سَكَنٌ لهم
ودليل الصيام قوله تعالى
يا أيها الذين ءامنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون
وإذا قيل لك: الصيام شهر؟ فقل نعم، والدليل قوله تعالى
شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرءان هُدىً للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصُمه
وإذا قيل لك الصيام في الليل أو في النهار؟ فقل: في النهار، والدليل قوله تعالى
وكُلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيطِ الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا الصيام إلى الليل
ودليل الحج قوله تعالى
ولله على الناس حجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً ومَن كفر فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين
وإذا قيل لك ما الإيمان؟ فقل: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، والدليل قوله تعالى
ءامن الرسول بما أُنزل إليه مِن ربّه والمؤمنون كلٌّ ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نُفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير
ودليل القدر قوله تعالى
إنّا كلَّ شيء خلقناه بقدر
وإذا قيل لك ما الإحسان؟ فقل: أن تعبد اللهَ كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدليل قوله تعالى
إنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون
وإذا قيل لك منكر البعث كافر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى
زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا قُل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبّؤنّ بما عمِلتم وذلك على الله يسير
الأصل الثالث
إذا قيل لك مَن نبيّك؟ فقل: محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانة، وكنانة من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل، وإسماعيل من إبراهيم، وإبراهيم من نوح، ونوح من آدم، وآدم من تراب، والدليل قوله تعالى
إنّ مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وإذا قيل لك من أول الرسل؟ فقل: أولهم نوح، وآخرهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم
والدليل قوله تعالى
إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيّين من بعده
وإذا قيل لك بينهم رسل؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى
ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت(/1)
وإذا قيل لك أمحمد بشر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى
إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي أنّما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يُشرك بعبادة ربه أحدا
وإذا قيل لك أمحمد عبد؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى
سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله
وإذا قيل لك كم عمره؟ فقل: ثلاث وستون سنة، أربعون منها قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيّ ورسول. نُبِّئ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، وخرج على الناس فقال
يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا
فكذّبوه وآذوه وطردوه وقالو ساحر كذاب، فأنزل الله عليه
وإن كنتم في ريْب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
بلده مكّة، وولد فيها وهاجر إلى المدينة، وبها توفي ودُفن جسمه، وبقي علمه، نبي لا يُعبد، ورسول لا يُكذّب، بل يُطاع ويتبع، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
...(/2)
الأصول الكلية في سياسة الحكم الإسلامية
(الشبكة الإسلامية) د. صلاح الصاوي
يحكم العمل السياسي في المذهبية الإسلامية عدد من الأصول والقواعد الكلية نوجز بيانها فيما يلي :
أولاً : السيادة للشرع :
فقد تمهد في محكمات الشريعة بداهاتها الأولى أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير ، وأن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات ، والسلطة التي تهيمن على كافة السلطات والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها إنما هي إرادة الله عز وجل ، ولقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف أعصارها وأمصارها على أنه لا دين إلا ما أوجبه الله ولا شرع إلا ما شرعه ، فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه . وأن من جادل في هذه البداهة فرد على الله أمره بتحليل حرامه أو بتحريم حلاله ، أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والتشريع المطلق فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه . وقد انعقد إجماع الأصوليين على أن الحكم هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً ، وأن العقل ليش بشارع ، وأن الإجماع لا ينعقد إلا على نص ؛ لأن الأمة لا تملك إنشاء الأحكام ابتداء ، وأنه لا قياس مع النص ، وأنه لا اعتبار للمصلحة التي تتعارض مع الشرع ، وأن كل ما أحدث على خلاف الدين فهو رد ، وأن اتباع أهل العلم إنما يكون من جهة علمهم بالشريعة وقيامهم بحجتها وحكمهم بأحكامها ، وأن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل لمعرفة الحكم الشرعي ضلال وبهتان ، وأن الشورى لا تكون إلا في الأمور المباحة وما سكتت عنه الشريعة وتركته عفواً - يجتهد فيه الناس بما يحقق مصالحهم ، وأنه إذا وضح النص ليس لأحد أن يتقدم عنه أو يتأخر ولعل في تدبر هذه الآيات ما يجلي هذه الحقيقة : قال تعالى : (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [سورة يوسف : 40] وقال تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب : 36] وقال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء :65] وقال تعالى : (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) [الشورى: 21] .
بل إن هذه الحقيقة هي الإسلام كله ، فالقبول بها قبول بالإسلام وردها خلع للربقة وكفر بالإسلام ، فالإسلام هو الاستسلام لله وحده ، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته ، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر به ، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وطاعته وحده .وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس ديناً غيره ، وذلك بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت ، ولهذا كان الإسلام دين الرسل جميعاً كما قال تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران :19] وقال تعالى : (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85] ويترتب على هذا المبدأ بطبيعة الحال خضوع الجميع في دار الإسلام للشريعة حُكاماً ومحكومين ، ونزع الشرعية عن كل عمل يتعارض مع الشريعة .
فالمشروعية التي تستند لها الديمقراطية العلمانية ويتغنى بها الكتاب والمفكرون لن تبلغ عشر معشار ما تقرره الشريعة في هذا المضمار. ولم لا ؟ وقد أعطت الشريعة للأمة حق المعصية في المعصية لأنه لا طاعة إلا في الطاعة ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، بل حق الحسبة وتغيير المنكر باليد ، لا يُستثنى من ذلك حاكم ولا محكوم ، فالكل امام سلطان الشريعة سواء .
ثانياً : السلطة للأمة :
فسيادة الشرع في المنهج الإسلامي لا تعني الثيوقراطية التي لفظتها المجتمعات الغربية ، لأنه لا بد من التفريق بين مصدر السلطة السياسية ومصدر النظام القانوني في المنهج الإسلامي ، فالسلطة السياسية مصدرها الأمة ، والنظام القانوني مصدره الشرع ، وكم يؤدي الخلط بين الأمرين إلى تشويش وتلبيس !! فإذا كانت الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع ، فإن السلطة في التولية والرقابة والعزل للأمة ، ولها في إطار سيادة الشريعة مطلق الحق في ذلك لا ينازعها فيه إلا ظلوم ، ولا يسلبه منها إلا طاغوت مراغم لمقاصد الشريعة ومحاد الله ورسولهوقد تجلّى هذا المعنى في مقالات الخلفاء الراشدين المهديين ، نذكر منها :(/1)
- ما قاله أبو بكر رضي الله عنه في خطبة له قبيل وفاته : "إن الله قد رد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم" وما قاله عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلغني أن قائلاً منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يفرق امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته فتمت ، إلا أنها قد كانت كذلك ولكن وقى الله شرها ، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" ما قاله علي رضي الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته وأرادوا أن يعقدوا له البيعة فقال : إن بيعتي لا تكون خفية . ولا تكون إلا في المسجد . فحضر الناس إلى المسجد ثم جاء علي فصعد المنبر وقال : "أيها الناس عن ملأ وأذن إن هذا أمركم ليس لأحد من حق إلا من أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا أن ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي ، وليس لي أن آخذ درهماً دونكم ، فإن شئت قعدت لكم وإلا فلا آخذ على أحد ، فقالوا : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس : اللهم اشهد ، فبايعه طلحة والزبير وقال لهما إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا : بل نبايعك فبايعاه ثم بايعه الناس" . وفي رواية أخرى أن الزبير قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : "أيها الناس .. إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه ، وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه إن أمره إلى الله ، فقام الناس فأتوا علياً في داره فقالوا : نبايعك فمد يدك ، لا بد من أمير فأنت أحق بها ، فقال : ليس ذلك إليكم ، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر ، فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة".
- ما روي عن عمر بن عبد العزيز بعد أن أخذت له البيعة بناءً على عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك إليه أنه قام فصعد على المنبر ثم قال : "أيها الناس إني لست بمبتدع ولكني متبع ، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم ، وإن هم أبوا فلست لكم بوال . ثم نزل" .
هذا وقد استقر في فقه السياسة الشرعية أن الإمامة تنعقد بأحد وجهين : الاختيار من أهل الحل والعقد أو العهد من الإمام السابق ، وإذا كان العهد عند المحققين لا يعدو أن يكون ترشيحاً يفوض الأمر في إمضائه أو الغائه إلى الأمة فقد آل أمر الإمامة إلى طريق واحد لا تنعقد انعقاداً شرعياً بغيره وهو الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد ، فتمهد من ذلك أن السلطة في ذلك إلى الأمة لا غير .
ثالثاً : سيادة القضاء :
فالقضاء في النظام الإسلامي له حرمة خاصة ، والقضاة في ظل هذا النظام مستقلون لا سلطان عليهم إلا للشرع ، ولا يحل لحاكم ولا لغيره أن ينال من حرمة القضاء ، أو أن يتدخل في أعمال القضاة بترغيب أو ترهيب ، وعلى الدول أن تسن من النظم ما يكفل للقضاء حرمته ، وللقضاة استقلالهم ، وينأى بهم عن نزوات الحكام وأهواء الساسة ، وللأمة أن تلزم حكامها من البداية بالضمانات اللازمة لحيدة القضاء واستقلاله ، ولا تعقد لهم البيعة ابتداء إلا على ذلك .
رابعاً: صيانة الحقوق والحريات العامة :
فقد تمهد من استقراء نصوص الشريعة أن الأحكام الشرعية قد جاءت لتحقيق مصالح العباد الدينية والدنيوية وأن مقاصد هذه الأحكام بالنسبة للمكلفين خمسة حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ المال ، وحفظ العرض ، وقد كفلت الشريعة ما يحقق هذه المقاصد من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، بل لقد ارتفعت بهذه الحقوق إلى مستوى الواجبات بل إلى مستوى الحرمات وأحاطتها بسياج منيع لا يخترقه إلا ظلوم كفور
أما عن الحرية والمساواة فقد كانت للشريعة القدح المُعَلىَّ في ذلك ، ولم لا ؟ وقد كانت كلمة التوحيد صك تحرير للبشرية تحررها من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى وحده ، وتصون وجهها عن ذل الإستسلام والانقياد لغير الله عز وجل ، وإن صيحة عمر رضي الله عنه لواليه على مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه لا تزال تشق حجب الزمان والمكان تحمل إلينا هذه القيمة الإسلامية الرفيعة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) ولا يزال قوله صلى الله عليه وسلم يدوي في مسمع الزمان وقد جاء إليه من أراد أن يشفع في المخزومية ليدرأ عنها الحد . فقال صلى الله عليه وسلم : [وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها] .خامساً : الحسبة :(/2)
والحسبة هي الأمر بالمعروف متى ظهر تركه ، والنهي عن المنكر متى ظهر فعله ، وهي ولاية أساسية من الولايات العامة في الدولة الإسلامية ، بها يصان الدين وتقدس أحكامه ، فإن حراسة الدين هي أول ما يناط بالحكومة الإسلامية بل لا يذكر تعريف الخلافة الإسلامية إلا مقترناً بذلك فهي نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به . ويذكر أهل العلم في مقدمة ما يناط بالأئمة من الواجبات حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة .
هذا . وبالإضافة إلى كون الحسبة ولاية عامة من ولايات الدولة الإسلامية فإنها حق عام بذلته الشريعة للكافة ، بل أوجبته عليهم حتى يتعاضد العمل الشعبي مع العمل الحكومي على حفظ الدين وصيانة حرماته والضرب على أيدي العابثين والمفسدين .
فهي إذن سلطة تخولها الشريعة لكافة المسلمين يجدع بها على أدناهم أنف أعلاهم ويحتسب بها بعضهم على بعض ، وليس هذا من قبيل فرض الوصاية على الآخرين أو ممارسة سلطات كهنوتية على ضمائر المواطنين وذلك لأمرين :
الأول : أن الحسبة لا تعلق لها إلا بما ظهر من أحوال الناس ، ولهذا قيل في تعريفها إنها أمر بالمعروف متى ظهر تركه ، ونهي عن المنكر متى ظهر فعله ، فتأمل قولهم : متى ظهر تركه ، متى ظهر فعله ، وعلى هذا فكل ما استتر من أقوال الناس وأعمالهم ومعتقداتهم لا سلطان لأحد عليه إلا الله عز وجل .. وقد ذكر الغزالي في الإحياء في شروط المنكر الذي يجب الاحتساب على المتلبس به : أن يكون المنكر ظاهر للمحتسب بغير تجسس ، فكل من ستر معصيته في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه .
الثاني : أن الحسبة لا تكون في موارد الاجتهاد التي تنازع فيها الأئمة حتى لا تكون فيها شبهة فرض الوصاية على الآخرين ، وإلزامهم بخلاف ما يعتقدون في المسائل الاجتهادية ، بل تكون في مواضع الإجماع التي دلت عليها الأدلة القاطعة من نص صحيح أو إجماع صريح ، ولهذا شاع على ألسنة الفقهاء . "لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه" ، بل جعلها السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة من قواعد الفقه الكلية . وقال الغزّالي في الإحياء في شروط المنكر الذي يجب الاحتساب عليه : "أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد ، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة".
فالحسبة إذن صمام أمن المجتمع الإسلامي يحول دون طغيان الأئمة ودون فساد الرعية حتى يبقى الدين محفوظاً من الخلل ، والأمة معصومة من الزلل .
سادساً : الشورى :
والشورى أصل من الأصول الكلية في سياسة الحكم في المذهبية الإسلامية ، فالأمة هي وحدها - كما سبق - مصدر السلطة ، والنزول على إرداتها فضيلة ، والخروج على رأيها تمرد ، بل جعلتها الشريعة أصلاً مضطرداً في كافة الشئون وسمة ملازمة لجماعة المسلمين قال تعالى : (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [الشورى:38] فنص الآية يوحي بأن الشورى طابع أساسي للجماعة كلها . فهي أعمق من أن تكون مجرد نظام سياسي للدولة الإسلامية لا سيما إذا علمنا أن الآية مكية ولم تكن الدولة الإسلامية قد وجدت بعد . وقال تعالى : (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران:159] . بل نقل بعض أهل العلم الإجماع على أن الحاكم الذي لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . قال ابن عطية فيما نقله عن القرطبي في التفسير : "الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب وهذا مما لا خلاف فيه" . ولقد وعى ذلك الخلفاء الراشدون فكانوا أشد الناس تحرياً للشورى وقياماً بها ، فقد أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال : "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله : فإن وجد فيه ما يقضي به ، قضى بينهم ، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، وإن لم يعلم خرج ، فسأل المسلمين عن السنة ، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم" .(/3)
ويقول البخاري رضي الله عنه : (كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غير اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة ، فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:لا إله إلا الله ، فإذا قالوا:لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تابعه عمر ، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذا كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرّقوا بين الصّلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من بدّل دينه فاقتلوه] وكان القرّاء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً ، وكان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل .
هذا . وقد وقع خلاف في الفقه الإسلامي حول مدى وجوب الشورى ابتدءًا، وخلاف آخر حول مدى الالتزام بنتيجتها انتهاءً ، وبعيدًاًعن الدخول في معمعة الجدل الفقهي الذي دار في هاتين المسألتين فإن من المقرر في قواعد السياسة الشرعية أن البيعة عقد بين الأمة وبين الأئمة يوجب على الأئمة القيام على حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، ويوجب على الأمة لقاء ذلك الالتزام بواجب الطاعة والنصرة ، وإذا كانت الإمامة عقداً من العقود فإنه يجوز تقييد هذا العقد بما تقيد به سائر العقود من الشروط المباحة .
فإذا اشترطت الأمة لنفسها في عقد البيعة التزام الحاكم بالشورى ابتداءً وبنتيجتها انتهاءً في المهمات والمسائل العظام أصبحت الشورى مُلزمة بمقتضى العقد واجبة بمقتضى هذا الشرط مهما كانت نتيجة الجدل الفقهي الدائر في هذه المسألة ؛ لأن الأصل هو الوفاء بالعقود والعهود ، فإذا أخل الحاكم بالتزامه سقط ما وجب على الأمة بمقتضى عقد البيعة من الطاعة والنصرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابه : التعددية السياسية في الدولة ال(/4)
الأضحية
أولاً: تعريف وبيان:
- تعريفها لغة.
- تعريفها شرعاً.
ثانياً: فضلها.
ثالثاً: الأدلة على مشروعيتها.
- الكتاب.
- السنة.
- الإجماع.
رابعاً: الحكمة من مشروعيتها.
خامساً: حكمها.
سادساً: شروطها.
سابعاً: آداب متعلقة بالأضحية.
1- عدم أخذ المضحي من شعره ولا بشرته.
2- تسمين الضحايا.
ثامناً: مسائل متعلقة بالأضحية:
1- هل ذبح الأضحية أفضل أم التصدق بثمنها؟
2- أيها أفضل الأضحية بالإبل أو البقر أو الغنم؟
3- حكم الاشتراك في الأضحية.
4- عمّن تجزئ الأضحية الواحدة؟
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين.
6- الاستدانة من أجل الأضحية.
7- توزيع الأضحية.
8- الأضحية عن الميت.
9- ذبيحة المرأة والصبي.
تاسعاً: آداب متعلقة بذبح الأضحية.
عاشراً: بدعٌ ومخالفات.
أولاً: تعريف وبيان:
الأضحية في اللغة: بضم الهمزة وكسرها، وبتخفيف الياء وتشديدها، وجمعها أضاحيّ، وأضاحي. ويقال: ضَحية بفتح الضاد وكسرها، وجمعها ضحايا، وأضحاة بفتح الهمزة وكسرها، وجمعها أضحىً منونة، ومثله أرطى جمع أرطاة([1]). والأصل في هذه التسمية: الذبح وقت الأضحى، ثم أطلق ذلك على ما ذبح في أي وقت كان من أيام التشريق.
وهي شرعًا: ما يذبح من بهيمة الأنعام في أيام النحر تقرباً إلى الله تعالى([2]).
([1]) انظر: الصحاح (6/2407). ولسان العرب. مادة (ضحا) (14/477).
([2]) انظر: شرح الرسالة (1/366)، مغني المحتاج (4/282)، كشاف القناع (2/615)، الشرح الممتع (7/453).
ثانيًا: فضلها:
قد وردت أحاديث في فضلها لكن لا يصح منها شيء.
نقل الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله عن بعض أهل العلم ـ وأبهمه ـ أنه لا يصح في الضحايا شيء([1]).
فمن تلك الأحاديث:
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا))([2]).
وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه...)) الحديث([3]).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ أَضْحَى : " مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، أَفْضَلَ مِنْ دَمٍ يُهَرَاقُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَحِمًا مَقْطُوعَةً تُوصَلُ " *([4]).
([1]) التحديث بما قيل: لا يصح فيه حديث (ص209).
([2]) أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعف هذا الحديث الألباني في الضعيفة (526).
ثالثًا: الأدلة على مشروعيتها:
قال ابن قدامة رحمه الله: "الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع"([1]).
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصلاة: المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى)([2]).
وعن عكرمة وعطاء والحسن وقتادة ومجاهد: أي إذا صليت يوم الأضحى فانحر([3]).
قال ابن قدامة: "قال بعض أهل التفسير: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد"([4]).
قال ابن كثير رحمه الله: "والصحيح القول الأول: أن المراد بالنحر ذبح المناسك؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه"([5]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "خص هاتين العبادتين بالذكر لأنهما أفضل العبادات، وأجل القربات... وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من الأضاحي، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به"([6]).
أما السنة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين ([7]).
أما الإجماع: فقد نقله غير واحد.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية"([8]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "ولا خلاف في كونها من شرائع الدين"([9]).
وهي مشروعة في جميع الملل([10]).
([1]) المغني (13/360).
([2]) أخرجه ابن جرير في تفسيره (12/722).
([3]) أخرجه عنهم ابن جرير في تفسيره (2/722-723).
([4]) المغني (13/360).
([5]) تفسير القرآن العظيم (4/597-598).
([6]) تفسير الكريم الرحمن (7/679-680).
([7]) أخرجه البخاري في الأَضاحي، باب: في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم (5553) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1969).
([8]) المغني (13/360).
([9]) فتح الباري (10/3).
([10]) انظر: تحفة المودود لابن القيم (ص65)، والشرح الممتع (7/453).
رابعًا: الحكمة من مشروعيتها:(/1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وهي من نعمة الله على الإنسان أن يشرع الله للمسلم ما يشارك به أهل موسم الحج؛ لأن أهل الموسم لهم الحج والهدي، وأهل الأمصار لهم الأضحية، ولهذا نجد من فضل الله ورحمته أنه جعل لأهل الأمصار نصيباً مما لأهل المناسك، مثل: ترك الأخذ من الشعر والظفر في أيام العشر من أجل أن يشارك أهل الأمصار أهل الإحرام بالتعبد لله تعالى، بترك الأخذ من هذه الفضولات، ولأجل أن يشاركوا أهل الحج في التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، لأنه لولا هذه المشروعية لكان ذبحها بدعة، ولَنُهِيَ الإنسان عنها، ولكن الله شرعها لهذه المصالح العظيمة"([1]).
وكذلك "شرع الله الأضحية لتحقيق الحكم التالية:
1- اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام، الذي أمر بذبح فلذة كبده، فصدَّق الرؤيا، ولبّى، وتلّه للجبين، فناداه الله وفداه بذبح عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:102-107]، ففي ذبح الأضاحي إحياء هذه السنة، وتضحية بشيء مما أفاء الله على الإنسان، شكراً لصاحب النعمة ومُسديها، وغاية الشكر محض الطاعة بامتثال الأمر.
2- توسعة على الناس يوم العيد، فحين يذبح المسلم أضحيته يوسع على نفسه وأهل بيته، وحين يهدي منها إلى أصدقائه وجيرانه وأقاربه فإنه يوسع عليهم، وحين يتصدق منها على الفقراء والمحتاجين فإنه يغنيهم عن السؤال في هذا اليوم الذي هو يوم فرح وسرور"([2]).
([1]) الشرح الممتع (7/454-455).
([2]) أحكام العيدين وعشر ذي الحجة، لعبد الله الطيار (ص65-66).
خامسًا: حكمها:
اختلف العلماء في حكم الأضحية إلى قولين هما:
القول الأول: الوجوب على المقيم الموسر، وبه قالت الحنفية([1]) واستظهره شيخ الإسلام ابن تيمية([2])، والشيخ ابن عثيمين([3]) رحمهما الله.
ومما استدلوا به:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا))([4]).
وعن مخنف بن سليم رضي الله عنه قال: كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: ((يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة)) الحديث([5]).
وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر صلى ثم خطب فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله))([6]).
القول الثاني: أنها سنة مستحبة، وهو قول المالكية([7])، والشافعية([8])، والحنابلة([9])، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم([10])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسن من شعره وبشره شيئاً))([11]).
قالوا: علق الذبح على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة([12]).
وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأتى بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي))([13]).
قالوا: فمن لم يضح منا، فقد كفاه تضحية النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك بها أضحية([14]).
وعن أبي سريحة أو أبي سريج الغفاري قال: أدركت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كانا لا يضحيان، في بعض حديثهم: كراهية أن يقتدى بهما([15]).
واستدل بعضهم بالبراءة الأصلية، وأنه لا دليل صحيح صريح يعتمد عليه الموجبون.
وذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أنها: سنة كفاية([16]).
([1]) انظر: بدائع الصنائع (5/62).
([2]) انظر: مجموع الفتاوى (23/162).
([3]) انظر: الشرح الممتع (7/455).
([4]) أخرجه أحمد (2/321)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3123)، والدارقطني (4/285)، والبيهقي (9/260)، والحاكم (4/231 ـ 232) والحديث اختلف في وقفه ورفعه. قال البيهقي (9/260): "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: الصحيح عن أبي هريرة موقوفًا". وممن رجح الوقف أيضًا المنذري في الترغيب (2/155).(/2)
([5]) أخرجه أحمد (4/215)، والترمذي في الأضاحي، باب: الأذان في أذن المولود (1518)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4224)، وأبو داود في الضحايا، باب: ما جاء في إيجاب الأضاحي (2788)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3125) من طريق ابن عون عن أبي رملة عامر عن مخنف بن سليم، وأبو رملة لا يعرف، والحديث فيه اضطراب. وقال الترمذي: "حسن غريب ولا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه"، وضعفه القرطبي في المفهم (5/350)، ونقل التضعيف عن أبي محمد عبد الحق وغيره.
([6]) أخرجه البخاري في التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7400) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1960).
([7]) انظر: بداية المجتهد (1/415)، القوانين الفقهية (ص186)، الشرح الكبير (2/118)، المفهم (5/348).
([8]) انظر: الأم (2/345)، المهذب (1/237)، المجموع (8/385) ، مغني المحتاج (4/282).
([9]) انظر: المتسوعب (4/355)، المغني (13/360)، الإنصاف (4/14).
([10]) انظر: المحلى (7/355).
([11]) أخرجه مسلم في: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة... (1977).
([12]) انظر: المغني لابن قدامة (13/361)، والمحلى (7/355).
([13]) أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وأبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121). قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
([14]) انظر: شرح الزركشي (8/386).
([15]) أخرجه البيهقي (9/295). وصححه الألباني في الإرواء (1139).
([16])انظر: فتاوى اللجنة (11/394).
سادساً: شروطها:
1- أن تكون من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم([1]).
قال تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:28].
قال القرطبي رحمه الله: "والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم"([2]).
ونقل بعضهم الإجماع على ذلك([3]).
2- أن تكون قد بلغت السن المعتبر شرعاً.
لحديث البراء وفيه: فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: عندي جذعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك))([4]).
وهذا يدل على أنه لا بد من بلوغ السن المعتبر شرعاً([5]).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن))([6]).
فلا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا ما كان مسنة، سواء كان ذكراً أم أنثى.
والمسن من الإبل: ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة.
والمسن من البقر: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة.
والمسن من المعز: ما بلغ سنة ودخل في الثانية.
ويجزئ الجذع من الضأن وهو: ما بلغ ستة أشهر ودخل في السابع([7]).
3- أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء المنصوص عليها في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: ((أربعٌ: العرجاء البيّن ظلعها، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي))([8]).
قال الخطابي رحمه الله: "قوله: ((لا تنقي)) أي: لا نِقْي لها، وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: ((بيّن عورها)) و((بيّن مرضها)) و((بيّن ظلعها))، فالقليل منه غير بيّن فكان معفواً عنه"([9]).
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: "((بيّن)) أي: ظاهر ((عورها)) ـ بالعين والواو المفتوحتين وضم الراء ـ أي: كما هي في عين، وبالأولى في عينين، ((والمريضة)) هي التي لا تعتلف، ((بيّن ظلعها)) ـ بسكون اللام ويفتح ـ أي: عرجها، وهو أن يمنعها من المشي"([10]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "((العجفاء)) وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فالمخ مع الهزال يزول، ويبقى داخل العظم أحمر، فهذه لا تجزئ؛ لأنها ضعيفة البنية كريهة المنظر"([11]).
وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بعضباء الأذن والقرن. قال قتادة: فذكرت لسعيد بن المسيب، قال: العضب النصف فأكثر من ذلك([12]).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وعلى كل حال ينبغي أن نقسم العيوب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما دلت عليه السنة على عدم إجزائه، وهي أربع: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي، فهذه منصوص على عدم إجزائها، ويقاس عليها ما كان مثلها أو أولى منها، وأما ما كان مثلها فإنه يقاس عليها قياس مساواة، وأما ما كان أولى منها فيقاس عليها قياس أولوية.(/3)
القسم الثاني: ما ورد النهي عنه دون عدم الإجزاء، وهو ما في أذنه أو قرنه عيب من خرق، أو شق طولاً، أو شق عرضاً، أو قطع يسير دون النصف، فهذه ورد النهي عنها في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن هذا النهي يحمل على الكراهة، لوجود الحاصر لعدم المجزئ بأربعة أصناف.
القسم الثالث: عيوب لم يرد النهي عنها، ولكنها تنافي كمال السلامة، فهذه لا أثر لها، ولا تكره الأضحية بها ولا تحرم، وإن كانت قد تعد عند الناس عيباً مثل: العوراء التي عورها غير بيّن، ومثل: مكسورة السن في غير الثنايا، وما أشبه ذلك، ومثل: العرجاء عرجاً يسيراً، فهذه عيوب لكنها لا تمنع الإجزاء، ولا توجب الكراهة لعدم وجود الدليل، والأصل البراءة"([13]).
4- أن تكون ملكاً للمضحي، أو مأذوناً له فيها، فلا تصح التضحية بالمغصوب والمسروق، والمشترك بين اثنين إلا بإذن الشريك.
5- ألا يتعلّق بها حق الغير، فلا تصح التضحية بالمرهون، ولا بالموروث قبل قسمته.
6- أن تقع الأضحية في الوقت المحدد شرعاً، فإن ذبحت قبله أو بعده لم تجزئ.
وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن أفضل وقت التضحية هو يوم العيد قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء))([14]).
كما أنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بالحديث السابق وحديث جندب بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي – أو نصلي – فليذبح مكانها أخرى))([15]).
ولكن اختلفوا في بدء وقت الذبح عند من يصلي العيد، على أقوال هي:
القول الأول: أن الذبح يبدأ من بعد الفراغ من الصلاة. وبه قالت الحنفية([16])، والحنابلة([17]).
القول الثاني: أن الذبح يبدأ من بعد مضي قدر الصلاة وخطبتين، سواء صلى الإمام أم لا. وإليه ذهبت الشافعية([18])، وبه قال ابن حزم([19]).
القول الثالث: أنه من بعد ذبح إمام صلاة العيد أو قدره إن لم يذبح لعذر، فإن لم يذبح لغير عذر فمن بعد فعل الصلاة([20]).
واختلفوا في بداية وقت الذبح عند من لا يصلي العيد كأهل البوادي والمسافرين ونحوهم على أقوال هي:
القول الأول: يذبح من بعد طلوع الفجر من يوم النحر، وبه قالت الحنفية([21]).
القول الثاني: من بعد ذبح أقرب الأئمة إليه. وبه قالت المالكية([22]).
القول الثالث: من بعد مضي قدر الصلاة والخطبة بعد دخول الوقت. وإليه ذهبت الشافعية([23])، وقال به ابن حزم([24]).
القول الرابع: من بعد مضي قدر الصلاة بعد دخول الوقت. وهو قول الحنابلة([25]).
وأما آخر وقت ذبح الأضحية فاختلف أهل العلم في ذلك على أقوال، أصحها قولان:
القول الأول: هو يوم النحر ويومان بعده، وهو قول الحنفية([26])، والمالكية([27])، والحنابلة([28]).
ومما استدلوا به آثار عدة عن جمع من الصحابة منها:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (الأضحى يومان بعد يوم الأضحى) ([29]).
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (الذبح بعد النحر يومان)([30]).
القول الثاني: يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة تبع ليوم العيد، وبه قالت الشافعية([31])، ورواية عن أحمد([32])، واختيار ابن تيمية([33])، وابن القيم([34]) رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به ما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب))([35]).
قالوا: فجعل حكمها واحداً أنها أيام أكل لما يذبح فيها، وشرب، وذكر لله عز وجل([36]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل أيام التشريق ذبح))([37]).
وقالوا: إنها كلها يشرع فيها التكبير المطلق والمقيد، ولم يفرق أحد من العلماء فيما نعلم بين هذه الأيام الثلاثة في التكبير، فهي مشتركة في جميع الأحكام، وإن كانت كذلك فلا يمكن أن نخرج عن هذا الاشتراك وقت الذبح([38]).
وقد ذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء([39])، وكذلك ابن عثيمين([40]) إلى هذا القول.
وهذا القول قوي من حيث النظر، لولا ما عارضه مما ثبت عن غير واحد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي هريرة من غير اختلاف عليهم في ذلك، وهو مما يقوي مذهب الجمهور، قال الطحاوي: "ولم يروَعن أحد من الصحابة خلافه، فثبت حجتُه، وأيضا فإن مثله لا يقال من جهة الرأي، فدل على أنه توقيف"([41]).
([1]) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/224)، والمعونة (1/658)، المجموع (8/393)، المغني (13/368).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (12/44).
([3]) انظر: بداية المجتهد (2/435)، وسبل السلام (4/176).
([4]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: سنة الأضحية (5545)، ومسلم في الأضاحي (1961).
([5]) انظر: الشرح الممتع (7/459).
([6]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: سن الأضحية (1963) من حديث جابر رضي الله عنهما.
([7]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/414-415).(/4)
([8]) أخرجه أحمد (4/284)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، وأبو داود في الضحايا (2802)، والنسائي في: الضحايا، باب: العجفاء (4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144). وقال الترمذي: "حسن صحيح...، والعمل على هذا عند أهل العلم". وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، والألباني في صحيح الترمذي (1211).
([9]) معالم السنن (4/106).
([10]) عون المعبود (7/357).
([11]) الشرح الممتع (7/466).
([12]) أخرجه أحمد (1/83)، وأبو داود في الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا (2805) واللفظ له، وصححه ابن خزيمة (2913) وضعفه الألباني في الإرواء (1149).
([13]) الشرح الممتع (7/476-477).
([14]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: سنة الأضحية (5545)، ومسلم في الأضاحي، باب وقتها (1961).
([15]) أخرجه البخاري في الذبائح والعيد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليذبح)) (5500)، ومسلم في الأضاحي، باب: وقتها (1960) واللفظ له.
([16]) انظر: اللباب (3/333)، بدائع الصنائع (5/108-109) تكملة شرح فتح القدير (9/525-526).
([17]) انظر: الشرح الكبير (2/283).
([18]) انظر: الأم (2/223)، المجموع (8/387) وما بعدها.
([19]) انظر: المحلى (7/377).
([20]) انظر: المدونة (2/2)، مواهب الجليل (3/243).
([21]) انظر: مجمع الأنهر (2/518).
([22]) انظر: المدونة (2/2)، الكافي لابن عبد البر (1/423).
([23]) انظر: الأم (2/223).
([24]) انظر: المحلى (7/377).
([25]) انظر: المبدع (3/283).
([26]) انظر: المبسوط (12/9).
([27]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/43).
([28]) انظر: الفروع (3/546).
([29]) أخرجه مالك في الموطأ (ص365)، والبيهقي في الكبرى (9/297)من طريق نافع عنه، وهذا من أصح الأسانيد.
([30]) أخرجه البيهقي (9/297) من طريق قتادة عن أنس، وعلّقه ابن حزم في المحلى (7/377)، وصححه. وفيه عنعنة قتادة، وشيخ البيهقي أبو نصر بن قتادة متكلم فيه.
([31]) انظر: الأم (2/217)، المجموع (8/390).
([32]) انظر: الإنصاف (4/87).
([33]) انظر: الاختيارات (ص120).
([34]) انظر: زاد المعاد (2/292).
([35]) أخرجه مسلم في الصيام ، باب : تحريم صوم أيام التشريق (1141) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.
([36]) انظر: الشرح الممتع (7/499).
([37]) أخرجه أحمد (4/82)، والبزار (8/364)، وابن حبان (3854)، والطبراني في الكبير (2/138)، والبيهقي (5/239) من حديث جبير بن مطعم، وفيه اختلاف واضطراب، والصحيح فيه أنه منقطع، وقال البزار: "وحديث ابن أبي حسين هذا هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنا لم نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في كل أيام التشريق ذبح"، وانظر: التمهيد (23/197).
([38]) انظر: الشرح الممتع (7/500).
([39]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/406).
([40]) انظر: الشرح الممتع (7/499).
([41]) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/218).
سابعاً: آداب متعلقة بالأضحية:
من ذلك:-
1- عدم الأخذ من الشعر والبشرة إذا دخلت العشر لمن أراد أن يضحي.
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يلمس من شعره وبشره شيئاً))([1]).
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما يجتنب الرجل إذا أراد أن يضحي؟ قال: "لا يأخذ من شعره، ولا من بشره"([2]).
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن من أراد التضحية، ودخل يوم العشر فلا يأخذ من شعره وبشره شيئاً"([3]).
قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا: والحكمة من النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم. قال أصحابنا: وهذا غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم"([4]).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والحكمة من ذلك: أن الله سبحانه وتعالى برحمته لما خص الحجاج بالهدي، وجعل لنسك الحج محرمات ومحظورات، وهذه المحظورات إذا تركها الإنسان لله أثيب عليه، والذين لم يحرموا بحج ولا عمرة شرع لهم أن يضحوا في مقابل الهدي، وشرع لهم أن يتجنبوا الأخذ من الشعور والأظفار والبشرة، كالمحرم لا يأخذ من شعره شيئاً، يعني لا يترفه فهؤلاء أيضاً مثله، وهذا من عدل الله عز وجل وحكمته"([5]).
وهذا الحكم خاص بمن يضحي لا يتناول من يضحى عنهم.(/5)
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ظاهر التحريم خاص بمن يضحي، وعلى هذا فيكون التحريم مختصاً برب البيت، وأما أهل البيت فلا يحرم عليهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بمن يضحي، فمفهومه: أن من يضحى عنه لا يثبت له هذا الحكم، وكان صلى الله عليه وسلم يضحي عن أهل بيته، ولم ينقل أنه قال لهم: لا تأخذوا من شعوركم وأظافركم وأبشاركم شيئاً، ولو كان ذلك حراماً عليهم لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهذا هو الراجح"([6]).
2- الأفضل في الأضحية صفةً ما توافرت فيها صفات التمام والكمال من بهيمة الأنعام، ومنها: السُّمن، كثرة اللحم، كمال الخلقة، جمال المنظر، غلاء الثمن.
عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا أمامة بن سعد قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسنمون)([7]).
([1]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة... (1977)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
([2]) السؤالات (ص76).
([3]) زاد المعاد (2/320).
([4]) شرح مسلم (13/138-139).
([5]) الشرح الممتع (7/529).
([6]) الشرح الممتع (7/529-530).
([7]) أخرجه البخاري معلقاً في الأضاحي، باب: أضحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أقرنين، وقد وصله أبو نعيم في المستخرج كما قال الحافظ في الفتح (10/10).
ثامنا: مسائل متعلقة بالأضحية:
1- هل ذبح الأضحية أفضل أم التصدق بثمنها؟
التضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل المسلمين من بعده.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك"([1]).
وقال ابن القيم رحمه الله: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد، كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة، كما قال تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]"([2]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "والأفضل أن تضحي، فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وأفضل من شراء لحم بقدرها أو أكثر ليتصدق به؛ وذلك لأن المقصود الأهم في الأضحية هو التقرب إلى الله تعالى بذبحها لقوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37]"([3]).
وقال أيضا: "والذي يدل على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها عمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فإنهم كانوا يضحون ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل لعدلوا إليه، بل لو كانت تساويه لعملوا بها أحياناً؛ لأنها – أي الصدقة – أيسر وأسهل...، وأيضاً لو عدلوا إلى الصدقة لتعطلت شعيرة عظيمة نوه الله عليها في كتابه في عدة آيات"([4]).
2- أيها أفضل الأضحية بالإبل أو البقر أو الغنم؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أفضل الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، وهو قول الحنفية([5])، والشافعية([6]) والحنابلة([7])، وبه قال أبو محمد بن حزم([8])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها))([9]).
قالوا: والإبل أغلى ثمناً من البقر، والبقر أغلى ثمناً من الغنم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن))([10]) الحديث.
قالوا: وجود المفاضلة في التقرب إلى الله بين الإبل والبقر والغنم، ولا شك أن الأضحية من أعظم التقرب إلى الله تعالى، ولأن البدنة أكثر ثمناً ولحماً ونفعاً([11]).
القول الثاني: أن الأفضل الغنم ثم البقر ثم الإبل. وهو قول المالكية([12]) رحمهم الله.
ومما استدلوا به:
حديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين([13]).
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم يختار لخاصته ولا يفعل إلا الأفضل.
وأجاب عن ذلك ابن حزم رحمه الله بأنه محمول على التخفيف لرفع المشقة([14]).
واعلم أن كلام الجمهور محمول على من ضحى عن نفسه وأهل بيته ببعير أو بقرة، لا سبع بعير أو سبع بقرة، وإلا فالغنم في هذه الحالة أفضل([15]).
3- حكم الاشتراك في الأضحية:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في جواز الاشتراك في الأضحية على قولين:
القول الأول: جواز الاشتراك، وبه قالت الحنفية([16])، والشافعية([17])، والحنابلة([18])، وبه قال ابن حزم([19])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة([20]).(/6)
قالوا: وتقاس عليه الأضاحي.
وقالوا: إن اشتراك السبعة في الجزور أو البقرة هو المشهور عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم([21]).
القول الثاني: أنه لا يجوز الاشتراك في الأضحية وهو قول المالكية([22])، وإليه ذهب جمع من أئمة الدعوة كعبد الله بن عبد اللطيف، وعبد الله أبا البطين، ومحمد بن إبراهيم([23])، رحم الله الجميع.
ومما استدلوا به:
أن الأصل عدم جواز التشريك، والقياس لا يصح([24]).
وقالوا: إنه حيوان يضحى به، فلم يجزئ إلا عن واحد، كالشاة، ولأن كل واحد يصير مخرجاً للحم بعض بدنة أو بقرة، وذلك لا يكون أضحية، كما لو اشترى لحماً، ولأن كل إنسان مخاطب بفعل ما يسمى أضحية، وهذا الاسم ينطلق على الدم دون اللحم، ولأنه اشتراك في دم، فوجب ألا يجزئ مريد القربة([25]).
4- عمن تجزئ الأضحية الواحدة؟
وتجزئ الأضحية الواحدة عن الرجل وأهل بيته، وإن كثروا.
لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون([26]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل، وعن أهل بيته ولو كثر عددهم"([27]).
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إذا تعيبت بعد أن أوجبها فإنها تجزئ إذا لم يكن ذلك العيب بفعله أو تفريط منه. وهو قول المالكية([28]) في الأضاحي دون الهدي، والشافعية([29])، والحنابلة([30]).
ومما استدلوا به:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ابتعنا كبشاً نضحي به، فأصاب الذئب من أليته أو أذنه، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر أن نضحي به([31]).
قالوا: وذلك لأن فقد الألية عيب يمنع الإجزاء، لكنه لما كان هذا العيب بعد التعيين وليس بتفريط منه ولا بفعله فإنه أمين، ولا ضمان عليه([32]).
وبحديث ابن عباس، قال موسى بن سلمة الهذلي: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال: وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها، فُأزحِفت عليه بالطريق فَعَيِيَ بشأنها، إن هي أُبدِعَت كيف يأتي بها، فقال: لئن قدمت البلد لأستحفينّ عن ذلك، قال فأضحيت فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه، قال: فذكر له شأن بدنته فقال: على الخبير سقطت، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمَّره فيها، قال: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أُبْدِع عليَّ منها؟ قال: ((انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك))([33]).
القول الثاني: أنها لا تجزئ، وإليه ذهبت الحنفية([34]).
لأن الأضحية عندهم واجبة، فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها سليمة، كما لو أوجبها في ذمته ثم عينها فعابت.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما إذا اشترى أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين"([35]).
6- الاستدانة من أجل الأضحية:
سئل ابن تيمية رحمه الله عمن لا يقدر على الأضحية، هل يستدين؟
فقال: "الحمد لله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك، والله أعلم"([36]).
7- توزيع الأضحية:
يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي، ويتصدق، والأمر في ذلك واسع، من حيث المقدار، ولكن المختار عند أهل العلم أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث([37]).
ولا فرق في جواز الأكل والإهداء من الأضحية بين أن تكون تطوعاً، أو واجبة، ولا بين أن تكون عن حي أو ميت أو وصية.
ويحرم بيع شيء من الأضحية من لحمها، أو جلدها، أو صوفها، ولا يعطي الجزار منها شيئاً أجرة على ذبحه؛ لأن ذلك بمعنى البيع([38]).
8- الأضحية عن الميت:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحى عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها"([39]).
وقال رحمه الله: "والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها"([40]).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "مسألة: هل الأضحية مشروعة عن الأموات أو عن الأحياء؟
الجواب: مشروعة عن الأحياء، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة فيما أعلم أنهم ضحوا عن الأموات استقلالاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات له أولاد من بنين أو بنات في حياته، وماتت له زوجات وأقارب يحبهم، ولم يضح عن واحد منهم، فلم يضح عن عمه حمزة ولا زوجته خديجة، ولا عن زوجته زينب بنت خزيمة، ولا عن بناته الثلاث، ولا عن أولاده، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته قولاً أو فعلاً، وإنما يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته.(/7)
وأما إدخال الميت تبعاً فهذا قد يستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عنه وعن أهل بيته، وأهل بيته يشمل زوجاته اللاتي متن واللاتي على قيد الحياة، وكذلك ضحى عن أمته، وفيهم من هو ميت، وفيهم من لم يوجد، لكن الأضحية عليهم استقلالاً لا أعلم لذلك أصلاً في السنة. ولهذا قال بعض العلماء: إن الأضحية عنهم استقلالاً بدعة ينهى عنها، ولكن القول بالبدعة قول صعب؛ لأن أدنى ما نقول فيها أنها من جنس الصدقة، وقد ثبت جواز الصدقة عن الميت([41]).
وقال رحمه الله: "وأما الأضحية عن الأموات فهي ثلاثة أقسام: الأول أن تكون تبعاً للأحياء كما لو ضحى الإنسان عن نفسه وأهله وفيهم أموات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي ويقول: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد)) وفيهم من مات سابقاً.
الثاني: أن يضحي عن الميت استقلالاً تبرعاً فقد نص فقهاء الحنابلة على أن ذلك من الخير وأن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به، قياساً على الصدقة عنه، ولم ير العلماء أن يضحي أحد عن الميت إلا أن يوصي به، لكن من الخطأ ما يفعله كثير من الناس اليوم يضحون عن الأموات تبرعاً، ثم لا يضحون عن أنفسهم وأهليهم الأحياء فيتركون ما جاءت به السنة، ويحرمون أنفسهم فضيلة الأضحية، وهذا من الجهل، وإلا فلو علموا بأن السنة أن يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته فيشمل الأحياء والأموات، وفضل الله واسع.
الثالث: أن يضحي عن الميت بموجب وصية منه تنفيذاً لوصيته فتنفذ وصيته كما أوصى بها بدون زيادة ولا نقص"([42]).
وذهبت اللجنة الدائمة للإفتاء إلى جواز ذلك([43]).
9- ذبيحة المرأة والصبي:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه ، أن امرأة ذبحت شاة بحجر ، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ، فأمر بأكلها([44]).
قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه جواز أكل ما ذبحته المرأة سواء كانت حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة"([45]).
وكان أبو موسى يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن([46]).
وعن إبراهيم النخعي قال في ذبيحة المرأة والصبي: "لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية"([47]).
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي"([48]).
([1]) مجموع الفتاوى (26/304).
([2]) تحفة المودود (ص65).
([3]) الشرح الممتع (7/521-522).
([4]) رسالة الأضحية (ص5).
([5]) انظر: الدر المختار وحاشيته (5/226) وما بعدها، بدائع الصنائع (5/80).
([6]) انظر: الأم (2/49) مغني المحتاج (4/285).
([7]) انظر: المغني (13/366)، كشاف القناع (2/615).
([8]) انظر: المحل (7/370).
([9]) أخرجه البخاري في العتق ، باب : أي الرقاب أفضل (2518).
([10]) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: فضل الجمعة (881)، ومسلم في الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة (850).
([11]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/359).
([12]) انظر: الكافي لابن عبد البر (ص421)، المعونة على مذهب عالم المدينة (1/658)، المنتقى (3/88).
([13]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم (5553)، واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1966).
([14]) انظر: المحلى (7/374).
([15]) انظر: مغنى المحتاج (6/127).
([16]) انظر: بدائع الصنائع (5/105).
([17]) انظر: المجموع (8/397).
([18]) انظر: المغني (13/392).
([19]) انظر: المحلى (7/381).
([20]) أخرجه مسلم في الحج، باب: الاشتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة (1318).
([21]) انظر: شرح معاني الآثار (4/175)، والمحلى (7/382).
([22]) انظر: المعونة (1/663)، المنتقى (3/95).
([23]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/397).
([24]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (11/396).
([25]) من كلام القاضي عبد الوهاب في المعونة (1/663).
([26]) أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، ومالك في الموطأ في الضحايا (1050)، قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1216).
([27]) زاد المعاد (2/323).
([28]) انظر: المدونة (2/504).
([29]) انظر: الأم (2/352).
([30]) انظر: مسائل صالح (ص281)، شرح الزركشي (4/301).
([31]) أخرجه أحمد (3/32) وابن ماجه في الأضاحي، باب: من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شيء (3146)، والبيهقي (9/289) وفيه جابر الجعفي وله شاهد عن جابر عند أحمد (3/78)، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (679).
([32]) انظر: الشرح الممتع (7/516).
([33]) أخرجه مسلم في الحج، باب: ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق (1325).
([34]) انظر: بدائع الصنائع (5/76).
([35]) مجموع الفتاوى (26/304).
([36]) مجموع الفتاوى (26/305).
([37]) انظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية (26/309).
([38]) انظر: تحفة الفقهاء (3/135)، شرح مسلم (13/130)، المغني لابن قدامة (11/109).
([39]) مجموع الفتاوى (26/306).(/8)
([40]) الاختيارات (ص120).
([41]) الشرح الممتع (7/455-456).
([42]) رسالة الأضحية (ص51).
([43]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (11/417).
([44]) أخرجه البخاري في الأضاحي ، باب : ذبيحة المرأة والصبي (5504).
([45]) فتح الباري (9/633).
([46]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/389) وصححه الحافظ في الفتح (10/19).
([47]) عزاه ابن حجر لسعيد بن منصور، وصححه (9/632).
([48]) انظر: المغني (8/581)، ومغني المحتاج (6/124-125).
تاسعاً: آداب متعلقة بذبح الأضحية:
1- حدّ السكين، وإراحة الذبيحة:
عن شداد بن أوس، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم بأحسنوا الذبح، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))([1]).
2- يستحب إمرار السكين بقوةٍ وتحامل ذهاباً وعوداً، ليكون أوجى وأسهل.
3- استقبال الذابح القبلة بأضحيته، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما([2])، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال([3]).
4- أن ينحر البعير قائماً على ثلاث قوائم، معقول الركبة، وإلا فباركاً. لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ابعثها قياماً مقيدة سنةَ محمد صلى الله عليه وسلم...([4]).
والبقر والغنم يستحب أن يضجعها على الجنب الأيسر([5]).
5- ويستحب أن يذبحها بيده ويضع رجله على صفاحها، ويقول: بسم الله الله أكبر، اللهم هذا عني وعن آل بيتي، أو عن آل فلان، لقول أنس رضي الله عنه: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده([6]).
قال ابن حجر: "وفيه استحباب التكبير مع التسمية، واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين وإمساك رأسها بيده اليسار"([7]).
ولحديث عائشة وفيه: ثم ذبحه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)) ثم ضحى به([8]).
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك"([9]).
([1]) أخرجه مسلم في العيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل (1955).
([2]) أخرجه مالك في الموطأ في الحج، باب: العمل في الهدي حين يساق (854) من طريق نافع عن ابن عمر.
([3]) انظر: الكافي لابن قدامة (1/651).
([4]) أخرجه البخاري في الحج، باب: نحر الإبل مقيدة (1713)، ومسلم في الحج، باب: نحر البدن قياماً مقيدة (1320).
([5]) انظر: المجموع (8/408).
([6]) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: من ذبح الأضاحي بيده (5558) واللفظ له، ومسلم في الأضاحي (1966).
([7]) فتح الباري (10/18).
([8]) أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل (1967).
([9]) مجموع الفتاوى (26/308-309).
عاشراً: بعض البدع والمخالفات الشرعية في الأضحية:
1- لطخ الجباه بدم الأضحية:
جاء في أجوبة اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه:
لا نعلم للطخ الجباه بدم الأضحية أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولا نعلم أن أحداً من الصحابة فعله، فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء([1]).
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود | عبد الله بن غديان | عبد الرزاق عفيفي | عبد العزيز ابن باز
2- الوضوء لذبح الضحية:
وجاء في أجوبتها أيضاً:
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد صلاة عيد الأضحى من أجل أن يذبح أضحيته، ولم يعرف ذلك أيضاً عن السلف الصالح، والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فمن توضأ من أجل ذبح أضحيته فهو جاهل مبتدع؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، ولكنه إذا ارتكب ذلك بأن توضأ لذبح أضحيته فذبيحته مجزئة له ما دام مسلماً لا يعرف عنه ما يوجب تكفيره، ويجوز الأكل منها له ولغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم([2]).
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان | عبد الرزاق عفيفي | عبد العزيز ابن باز
3- ومن البدع أيضاً ما ذكره ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: "وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يسميها في ليلة العيد ـ أي: الأضحية ـ ويمسح ظهرها من ناصيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك: هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي، وما أشبه ذلك فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم"([3]).(/9)
4- ومن البدع: ما يفعله "من يطوف حولها ـ أي الأضحية ـ، أو يتخطاها هو وأهل بيته قبل ذبحها، ومن يهلل ويكبر بصوت جماعي مع أهل بيته حال الطواف حولها، ونحو ذلك من المحدثات التي سببها انتشار الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام"([4]).
([1]) فتاوى اللجنة الدائمة (11/432).
([2]) فتاوى اللجنة الدائمة (11/433).
([3]) الشرح الممتع (7/493-494).
([4]) من: تنوير العينين بأحكام الأضاحي والعيدين، لمصطفى بن إسماعيل (ص556).
([3]) أخرجه الحاكم (4/222) وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في الضعيفة (528).
([4]) عزاه الهيثمي في المجمع (4/18) للطبراني في الكبير وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في الضعيفة (525).(/10)
الأعمال المضاعفة
سليمان بن صالح الخراشي
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فكل مسلم منا حريص أشد الحرص على أن يطول عمره ليزداد فيه من الخير، كما قال لما سئل : { من خير الناس؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله" } [رواه الترمذي وأحمد]، فهذه الدار هي دار التزود من الأعمال الصالحة والاستكثار منها؛ لكي يرتاح الإنسان بعد موته، ويرضى عن سعيه.
وقد أخبر أن أعمار أمته ما بين الستين والسبعين، وليسوا كأعمار الأمم السابقة، ولكنه دلهم على أعمال وأقوال تجمع بين قلتها وسهولتها، وبين أجرها العظيم، الذي يعوض الإنسان عما يفوته من سنين طويلة مقارنة بأمم أخرى، وهذه الأعمال هي ما يسمى (بالأعمال المضاعفة) وليس كل إنسان يعرفها.
ولذا أحببت ذكر أغلبها في هذه الرسالة الصغيرة حرصا على أن يزيد منا في عمره الإنتاجي في هذه الدنيا، ليكون ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف، فيتخيرون من الأعمال أخفها على النفس، وأعظمها في الأجر، فهو كمن يجمع الجواهر الثمينة من بطن البحر بين أناس يجمعون الأصداف وهو كما قال الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدا وتجيء في الأول
وقد ذكرت هذه الأعمال والأقوال متتالية باختصار، مع ذكر دليل كل قول أو عمل، وهي أدلة من القرآن الكريم،أو من الأحاديث الصحيحة والحسنة، والله الموفق لكل خير.
1- صلة الرحم: قال : { من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه } [رواه البخاري ومسلم].
2- حُسن الخلق: قال : { صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار } [رواه أحمد والبيهقي].
3- الإكثار من الصلاة في الحرمين الشريفين: لقوله : { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه } [رواه أحمد وابن ماجة].
4- صلاة الجماعة مع الإمام: لقوله : { صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة } [رواه البخاري ومسلم].
وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد، ولو كان المسجد النبوي؛ لقوله لأم حميد – إحدى الصحابيات –: { قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي } [رواه أحمد]. فكانت رضي الله عنها بعد هذا تصلي في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، حتى لقيت الله عز وجل.
5- أداء النافلة في البيت: لقوله : { فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع } [رواه البيهقي وصححه الألباني]. ويشهد له قوله في الصحيح: { أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } [رواه البخاري ومسلم].
6- التحلي ببعض الآداب يوم الجمعة: وهي ما ورد في قوله : { من غسَّل يوم الجمعة، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها } [رواه أهل السنن]. ومعنى " غسَّل " أي:غسل رأسه، وقيل: أي جامع امرأته ليكون أغض لبصره عن الحرام في هذا اليوم. ومعنى " بكَّر " أي: راح في أول الوقت، و " ابتكر " أي: أدرك أول الخطبة.
7- صلاة الضحى: لقوله : { يُصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى } [رواه مسلم]. ومعنى " سُلامى " أي: مِفصل من مفاصل الإنسان، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا.
وأفضل وقت لصلاة الضحى عندما يشتد الحر؛ لقوله : { صلاة الأوابين حين ترمض الفصال } [رواه مسلم] أي: تقوم صغار الإبل من مكانها من شدة الحرارة.
8- تحجيج عدد من الناس على نفقتك كل سنة: لقوله : { تابعوا بين الحج والعمر، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة } [رواه الترمذي وصححه الألباني]. والإنسان قد لا يستطيع الحج كل سنة، فلا أقل من أن يحجج على حسابه من يستطيع من فقراء المسلمين.
9- صلاة الإشراق: لقوله : { من صلى الغداة – أي الفجر – في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
10- حضور دروس العلم في المساجد: لقوله : { من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته } [رواه الطبراني وصححه الألباني].
11- الاعتمار في شهر رمضان: لقوله : { عمرة في رمضان تقضي حجة معي } [رواه البخاري]. أي: تعدلها.
12- أداء الصلوات المكتوبة في المسجد: لقوله : { من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم } [رواه أبو داود وصححه الألباني].(/1)
فالأولى أن يخرج متطهرا من بيته، لا من دورات مياه المسجد، إلا لحاجة أو ضرورة.
13- أن يكون من أهل الصف الأول: لقول العرباض ابن سارية رضي الله عنه: { إن رسول الله كان يستغفر للصف المقَّدم ثلاثا، وللثاني مرة } [رواه النسائي وابن ماجة] ولقوله : { إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول } [رواه أحمد بإسناد جيد].
14- الصلاة في مسجد قباء: لقوله : { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة } [رواه النسائي وابن ماجة].
15- أن تكون مؤذنا: لقوله : { المؤذن يُغفر له مدى صوته، ويُصَدِّقه من سمعه من رطب ويابس، وله أجر من صلى معه } [رواه أحمد والنسائي]. فإذا لم تستطع أن تكون مؤذنا فلا أقل من أن تكسب مثل أجره وهو:
16- أن تقول كما يقول المؤذن: لقوله : { قل كما يقولون – أي المؤذنون – فإذا انتهيت فسَل تُعطه } [رواه أبو داود والنسائي] أي: ادع بعد فراغك من إجابة المؤذن.
17- صيام رمضان وستٍ من شوال بعده: لقوله : { من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر } [رواه مسلم]
18- صيام ثلاثة أيام من كل شهر: لقوله : { من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر، فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك في كتابه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها اليوم بعشرة أيام } [رواه الترمذي].
19- تفطير الصائمين: لقوله : { من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا } [رواه الترمذي وابن ماجة].
20- قيام ليلة القدر: لقوله تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر أي: أفضل من عبادة ثلاث وثمانين سنة تقريبا.
21- الجهاد: لقوله : { مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل من عبادة ستين سنة } [رواه الحاكم وصححه الألباني].
وهذا في فضل المقام في الصف، فكيف بمن جاهد في سبيل الله أياما وشهورا أو سنوات؟
22- الرباط: لقوله : { من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان له كأجر صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا له مثل ذلك من الأجر، وأجري عليه الرزق وأُمِّن الفتان } [رواه مسلم]. والفتَّان هو عذاب القبر.
23- العمل الصالح في عشر ذي الحجة: لقوله : { ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله،؟ فقال : ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء } [رواه البخاري].
24- تكرار بعض سور القرآن: لقوله : { قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، و قل هو يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن } [رواه الطبراني وصححه الألباني].
25- الذكر المضاعف: وهو كثير، ومنه أن رسول الله خرج من عند جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها بُكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال : { مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. فقال : لقد قلتُ بعدك أربع كلمات وثلاث مرات لو وُزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته } [رواه مسلم].
وعن أبي أمامة قال: { رآني النبي وأنا أُحرك شفتي، فقال: " ما تقول يا أبا أمامة؟ " قلت: أذكر الله. قال: " أفلا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل والنهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، والحمد لله ملء ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبح الله مثلهن " ثم قال: " تعلَّمهن وعلِّمهن عَقِبَك من بعدك" } [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
26- الاستغفار المضاعف: لقوله : { من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة } [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
27- قضاء حوائج الناس: لقوله : { لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا } [رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني].
28- الأعمال الجاري ثوابها إلى ما بعد الموت: وهي ما وردت في قوله : { أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: رجل مات مرابطا في سبيل الله، ورجل علَّم علما فأجره يجري عليه ما عُمِل به، ورجل أجرى صدقة فأجرها يجري عليه ما جرتْ عليه، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له } [رواه أحمد والطبراني].
29- استغلال الوقت: بأن يعمر المسلم وقته بالطاعات: كقراءة القرآن، والذكر، والعبادة، واستماع الأشرطة النافعة، لكي لا يضيع زمانه هدرا، فيُغبن يوم لا ينفعه الغَبْن، كما قال : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة، والفراغ } [رواه البخاري].
وفقنا الله جميعاً لإطالة أعمارنا في الخير، واستغلال الفرص المضاعفة التي يغفل عنها المفرطون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/2)
الأعمال المقربة إلى الله سبحانه وتعالى
الحمد لله وحده .. وبعد فقد أخبر مالك الدنيا والآخرة المتصرف في بريته في أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم انه خلقهم لحكمة عظيمة خفيت على الكثير من الناس وهي معرفتهم بربهم جل وعلا وبعظمتة وكبريائه وعظيم سلطانه وأسمائه وصفاته وأفعاله وبما فيه صلاحهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم بما أمر به في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء من
القاعدة والاساس الإسلام والتوحيد الذى هو افراده تعالى بالعبادة والبراءة من جميع المعبودات من دونه من لدن عرشه إلى قرار أرضه وأفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة ثم بقية مبانى الإسلام الخمسة وأصول الايمان الستة وواجباته وشعبه التي عن تقرب من سبعين شعبة (( أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها اماطة الأذى عن الطريق ))(1)
واجتناب المحرمات ابتداء من الشرك الأكبر والكفر والنفاق وما دون ذلك من الكبائر المتوعد عليها الغضب والعقاب إلى ترك الإنسان ما لا يعنيه لقوله { وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون } (2) وما ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركو به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ))(3) أمر تعالى البشرية بما شرعه لهم من تعاليم الإسلام وأحكامه واقامة حدوده وسلطانه في أرضه بين عباده المشتمل على صلاح القلوب والنفوس والمجتمعات الانسانية من جميع الاجناس والألوان في تألفها وبرابطها وتماسكها يداً واحدة وتعاونها على أعدائها في الدين وتربيتها تربية إسلامية وأخلاقية وثقافية .. سالمة من جمبع المفاسد والنزعات والآراء الهدامة وبذلك يحصل لها النصر من الله والتمكين والقوة واستقامة الأحوال في الدنياً والسعادة في الآخرة ونهاهم عما ينافي ذلك ويناقضه من أسبات الفساد والشر والظلم والشحناء والفوضى واختلال الأمن وضعف العقول باتباع الشهوات وبرك الطاعات وارتكاب المحرمات وتحكيم الأنظمة الانسانية المنافية للصلاح والاخلاق والاستقرار والعذاب في الآخرة .
أخبر سبحانه أنه لا تنفعه طاعة العباد إن كثرت ولا تضره معاصيهم وإن تعاظمت لكمال غناه وسعة حلمه وكمال علوه وعدم حاجبه إليهم وشدة حاجتهم إليه في جميع الأحوال بقوله تعالى { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } (4) ولما ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي أنه قال ((يا عبادى انكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعى فتنفعوني )) إلى أن قال (( يا عبادى انما هى اعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ))(5) وقد بين جل شأنه أنه سيحاسب عباده يوم القيامة على أعمالهم وأفعالهم الصالحة والفاسدة ولذلك فقد خلق جنة عظيمة في منتهى السعة الإرتفاع والحسن والجمال والنعيم والشرف والكرامة لمن أجاب داعي الله من عباده المؤمنين الذين لا يريدون العلو والفساد في الارض وانما رغبتهم في طاعة الله وفيما يقربهم إليه ويوصلهم إلى ذكر الله وجناته مع أخذ نصيبهم من هذه الحياة القليلة الفانية ومن عليها فجمعوا بين سعادة الدنيا والآخرة وخلق نارا عظيمة في منتهى العذاب والخزى والهوان والخسران لمن ترك داعى الرحمن فلم يرفع به رأسا واتبع داعي الهوى والنفس والشيطان فلم يقم لله وزنا ولا قدرا ولا أعتبارا ولا لدينه وكتابه ورسوله ولا للجنة والنار وانما همه في حصوله على المال والتجارة بأي طريق من حلال وحرام ولو على حساب ترك الفرائض والوقوع في المحارم لقوله تعالى { ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } (6) وقوله تعالى : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } (7) وسنذكر بإذن الله ، طرفاً مهماً من أعمال أهل الجنة ونعيمها وأعمال أهل النار وعذابها على وجه الاختصار .
فمن أهم أعمال أهل الجنة وآكده على الاطلاق صحة سلامة العقيدة والتوحيد والديانة الاسلامية التي هى دين الأنبياء والمرسلين وعباد الله المتقين الذى لا يقبل الله من أحد دين سواه من يهودية أو نصرانية أو صائبة أو إتحادية أو صوفية منحرفة أو غير ذلك لقوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (8) والاسلام هو البر والتقوى والايمان والهدى المذكور في قوله تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (9) وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته من الشرك والشركاء والأنداد والصاحبة والولد وغير ذلك من صفات النقص والعيب الخاصة بالبشر ونحوهم .(/1)
ومن أعمالهم المحافظة على الصلوات في المساجد إذا نودى إليها وترك الاشتغال بغيرها من التجارة وسائر الأعمال والأهل والأولاد لما لها من المنزلة العظيمة في نفوسهم ولما يرجون بفعلها من ثواب الله ورضوانه ويخشونه من تركها غضبه وعذابه في قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله إقام الصلاة وايتاء الزكاة } (10) وهؤلاء هم عمار المساجد على الحقيقة بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن المشهود لهم بالإيمان والهداية والسلامة من النفاق لقوله تعالى { انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } (11) وإقامتهم لها على الوجه المشروع من كامل الطهارة والطمأنينة فيها والخشوع وحضور القلب والرغبة فيها وترك العبث والحركات والوساوس والخواطر المبطلة لثوابها وهي التي علق الله عليها الفلاح والفوز والقبول ، لا على مجرد الأداء بالبدن مع الكسل والسهو والغفلة في قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون } (12) وهذه هي الصلاة المثمرة التي تأمر صاحبها بالمعروف وتنهاه عن المنكر لقوله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } (13) .
ومن أعمال أهل الجنة بذل الزكاة كاملة كل عام لأصحابها من الفقراء والمساكين ونحوهم كالمصابين بحرق أو دم لا يجدون له أداء عن رضا وطيب نفس في الأموال الزراعية من الحبوب والثمار والأوراق النقدية والأموال التجارية والصناعية والعقارية وغير ذلك ، وصيام رمضان عن رغية ومحبة واحتساب ، وحج بيت الله الحرام على المستطيع مع اجتناب المحرمات فيه وفي غيره .
ومن أعمالهم الايمان بأصول الايمان وهي الايمان بالله رباً ومعبوداً لا شريك له والايمان والاقرار بجميع الملائكة والكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والقرآن وصحف إبراهيم ، والايمان والتصديق بجميع الرسل والأنبياء بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء والصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
ومن أعمالهم الأمر بالمعروف والعمل به والنهى عن المنكر واجتنابه ، على القريب والبعيد لقوله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله }(14) ومن ذلك الدعوة إلى الله على بصيرة والجهاد في سبيله وبر الوالدين وصلة الأرحام والاحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام والجيران وأبناء السبيل ، والصدق والعفاف وغض البصر عن المحارم وكف الأذى والأمانة والصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضاء عند القضاء والوفاء بالوعد والعقود وإعفاء اللحية وقص الشارب ورد السلام وتشميت العطس وعيادة المريض واتباع الجنائز ومحبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والترضى عنهم والسكوت عما جرى بينهم والمسارعة إلى فعل الخيرات والتعاون على البر والتقوى وترك الكبائر والمحرمات كالزنا والربا وشرب الخمر والغيبة والنميمة والحسد وسماع الأغاني والملاهى والتصوير والتشبه بالنساء ..إلى غير ذلك من آداب الإسلام ومحاسنه فيجب على المسلم الذى يخاف الله ويتقيه ويرجو ما عنده من الثواب والكرامة ويخشى غضبه وعقابه أن يحقق إسلامه بطاعة الله وأن يقوم على من تحت يده ومسئوليته من النساء والأولاد ومن حوله من الجيران يأمر بطاعة الله وينهى لله عن المعاصى وأن توجد فيه هذه الخصال الايمانية الطيبة التي هي سبب لمرضاة الله وصلاح لمجتمعه ونصر لدين الله ، وفق الله الجميع لما فيه خيرهم وسعادتهم والسلام عليكم ورحمة الله (15)
بقلم : الشيخ أحمد بن عبدالرحمن القاسم
--------------------------------------------------
(1) كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم .
(2) سورة الذاريات آية 56
(3) رواه البخاري ومسلم .
(4) سورة النساء 13 -14
(5) رواه مسلم .
(6) سورة النجم آية 31 .
(7) سورة النساء آية 13
(8) سورة آل عمران آية 85
(9) سورة الأنبياء آية 25
(10) سورة النور آية 36-37
(11) سورة المؤمنون آية 1 -2 .
(12) سورة التوبة آية 18
(13) سورة العنكبوت آية 45
(14) سورة التوبة آية 71
(15) عن مجلة الدعوة عدد 657 في 20/7/ 1398 هـ(/2)
الأفكار أساس التغيير
محمد محمد بدري / آفاق فكرية
تنطلق أي أمة من الأمم في دربها الحضاري من مجموعة الأفكار التي على أساسها تشيد الأمة صرح حضارتها ، ويقدم الواقع شواهد عديدة على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعية الأفكار التي يعتنقها أفرادها "فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه" و "المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة ، تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة الأولى في صدر الإسلام وتفوقها على مجتمعات الرومان والفرس وغيرها " .
ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة ، حتى إذا جاءت أفكار الرسالة ، تحول الرجال الذين لا يزالون في بداوتهم والقبائل ذات الحياة الراكدة .. تحول هؤلاء إلى رجال يحملون للعالم الحضارة ويقودون فيه التقدم والرقي .
فماذا دخل حياة المجتمع العربي يومئذ ؟
لم يدخل حياته عامل جديد ينقله تلك النقلة الهائلة في كل جانب من جوانب الحياة ، إلا ذلك التصور الاعتقادي الجديد .. ذلك التصور الذي جاء إلى عالم الإنسان بقدر من الله ، والذي انبثق منه ميلاد للإنسان جديد.
فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم ! ! ولأن الأفكار بهذا القدر من الأهمية، فإنه ومنذ أن تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل المسلم من ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون برصد الأفكار الفعالة التي تحاول إحياء الأمة ، لكي يقضوا عليها في مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تعدل انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على أساس العاطفة وتحت سلطانها، وليس على أساس (الفكرة .. والمبدأ) ..
ومن هنا كانت مخططات أعداء الإسلام لاحتواء وتدمير الأمة الإسلامية تهدف دائماً إلى هزيمة الأمة (فكرياً)، لأن هزيمة الأمة في أفكارها تجرّدها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقداتها.
وإذن فالمعركة بين الأمة الإسلامية، وأعدائها .. ليست معركة واحدة في ميدان الحرب، بل هي معركة في ميدانين .. ميدان الحرب، وميدان الفكر ..
والأعداء حريصون في ميدان الفكر على (احتلال) عالم (الأفكار) في أمتنا، وحريصون في نفس الوقت على توزيع (نفاياتهم) الفكرية من أفكار اللغو كأشعار الغزل والقصص الجنسي والأدب العاري .. وما إلى ذلك، حريصون على توزيع هذه النفايات إلى أمتنا، لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة تصبح غثاء تدور به الدوامات السياسية العالمية، ولا يملك نفسه عن الدوران ولا يختار حتى المكان الذي يدور فيه، وهذا ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذر منه : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
إن أحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلى مرحلة الشتات والفرقة، ودخول أمتنا مرحلة (القصعة) .. كل ذلك دليل على وجود خلل في البنية الفكرية والطروحات العقيدية التي أثمرته، مهما كانت دعاوانا عريضة، وأصواتنا مرتفعة بالادعاء أننا على النهج السليم، ولذلك فإن العاملين في ميدان (إحياء) الأمة لا بد لهم من التمييز بين (أسباب) مرض أمتنا و(أعراض) هذا المرض، فالأسباب في الحقيقة (فكرية) أساسها المعتقدات والقيم والأفكار، أما الأعراض فهي سياسية واقتصادية واجتماعية ..، ومن هنا فإن بداية أي تغيير لا بد أن تحدث في الأفكار، وبقدر ما تملك الأفكار رصيداً قوياً من الاستجابة لدى الأمة وتغييراً ملحوظاً في مجال سلوكيات أفرادها وعلاقاتهم الاجتماعية، ستتحول هذه الأفكار ثقافة معطاءة يمكن أن نقول إنها تشكل نقطة البدء في التغيير المنشود.(/1)
الأفلام الكرتونية الإسلامية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/وسائل الإعلام
التاريخ ... 9/2/1423
السؤال
ما حكم ما يسمى بالأفلام الكرتونية الإسلامية، حيث سمعت بعض أهل العلم يحرم إنتاجها وبيعها وشراءها ومشاهدتها؛ لأنها صور ورسومات، وهي داخلة في النهي عن التصوير، وبعضهم قال: إنه يحرم إنتاجها وتجوز مشاهدتها والإثم يكون على المنتج، أما المشاهد فلا إثم عليه، وبعضهم قال: إنه يجوز إنتاجها واستعمالها؛ لأنها للأطفال، وأحكام الأطفال يتساهل فيها ما لا يتساهل في أحكام الكبار؛ لأن عائشة –رضي الله عنها- كان عندها بنات تلعب بهن، وعندها حصان ذو أجنحة ولم ينكر ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، بينوا لنا الحكم بالتفصيل؛ لأن هذا الأمر قد انتشر في المجتمع، وحصل فيها الاختلاف –كما سبق-.
الجواب
الأفلام الكرتونية ظاهرة جديدة لم تكن معروفة عند الفقهاء، وإن كان في بعض عباراتهم إشارات قد تدل عليها، وقبل الجواب عن حكمها لا بد من معرفة الحكم في التصوير وأنواعه، فأقول باختصار: العلماء في حكم التصوير لذوات الأرواح طرفان ووسط. الأول: قسم أجاز التصوير بأنواعه مجسماً وغير مجسم، وأولوا النصوص التي جاءت بالتحريم بأن قالوا: هذا في أول الإسلام زمن قرب العهد بالجاهلية وعبادة الأصنام، أما في هذه العصر فليس هناك عبادة للأصنام !!، كما تمسكوا بما وجدوه في بعض كتب التاريخ عن صور وتماثيل قبل الإسلام في بلاد الفرس والروم، ولما فتحها المسلمون لم يغيروها.
الثاني: قسم من العلماء حرم جميع أنواع التصوير كلها مجسمة وغير مجسمة، واستدلوا بظواهر النصوص المحرمة لذلك، كحديث عائشة في الصحيحين (البخاري (5954) ومسلم (2107)):" أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله"، وحديث ابن عباس المتفق عليه: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه بها في جهنم" أخرجه البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له، وحديث أبي طلحة عند البخاري (3225) ومسلم (2106) واللفظ للبخاري:"لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل".
الثالث والقسم الثالث: وسط بين الطرفين حرموا التصوير المجسم (التماثيل)، وحملوا عليها أحاديث: "كل مصور في النار..." (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له)، وقالوا: هذا النوع من التصوير هو الذي تتحقق فيه المضاهاة لخلق الله، وهو مظنة الشرك بالله وعبادة هذه الصورة من دون الله –سبحانه-.
واستدلوا بالجواز بحديث زيد بن خالد الجهني المتفق عليه: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة إلا رقماً في ثوب" أخرجه البخاري (3226) ومسلم (2106)، فقالوا: إن الصورة المرقومة على القماش ونحوه كالورق، والحائط، والأرض لا بأس بها.
والذي يظهر لي رجحان القول الثالث هذا؛ لأمور منها:
-إن المضاهاة بخلق الله عمل قصدي يتعلق بالقلب، وهو كفر بالله –سبحانه- حتى لو صور ما لا روح فيه كالأحجار والأشجار والجبال والأنهار والبحار، وهذه هي المضاهاة لخلق الله التي علل بها النهي في الأحاديث، وهي الموجبة للعن المصورين ويبين هذه العلة الحديث الآخر: "قال الله –عز وجل-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة" أخرجه الشيخان (البخاري (7559) ومسلم (2111) واللفظ للبخاري). فإذا كانت علة التحريم هي المضاهاة فلا فرق بين ماله روح وما ليسه له روح.
-أما حكم التماثيل (الصور) المجسمة فهي حرام؛ لأنها ما صورت إلا لعظم منزلتها عند أهلها، والتعظيم مظنة العبادة، ومثلها الصور غير المجسمة كالصور الشمسية للعظماء والرؤساء، خاصة إذا رفعت في مكان عالٍ احتراماً وتعظيماً لصاحبها، فحرمتها قطعية حينئذٍ، وقصة قوم نوح وتصوير الصالحين منهم لغرض تذكرهم دليل واضح جلي في مثل هذه الصور، ونحن نعلم ونرى في هذا العصر صوراً وتماثيل لعدد من طواغيت البشر تنتصب أو ترفع في الميادين العامة وأماكن تجمع الناس.(/1)
إن لفظ العموم في مثل حديث: "كل مصور في النار" (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له) لا يكون حقيقة إلا على جرم عظيم وكبير هو المضاهاة لخلق الله عن قصد وإرادة ولفظة: (كل)، هي أقوى صيغ العموم وإذا أضيفت لنكرة، فهي لشمول أفراده، كقوله –تعالى-: "كل نفس ذائقة الموت" [آل عمران:185] والمضاهاة في اللغة: المشاكلة والمماثلة، كقوله –تعالى-: "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل" [التوبة:30]، أي: يشاكلونهم، فيقولون مثل قولهم، كما تطلق المضاهاة أيضاً على المعارضة كما في الحديث في ذم المصورين: "يضاهون بخلق الله" البخاري (5954) ومسلم (2107)، أي: يصورون الصور قاصدين المشابهة لخلق الله والمعارضة له، وأنّى لأحد ذلك حيث يقال لهم يوم القيامة:"...أحيوا ما خلقتم" أخرجه البخاري (5951) ومسلم (2108)، وصدق الله:" وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون" "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [البقرة:111].
وعلى هذا يتعين حمل معنى حديث: "كل مصور في النار" (البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له)، وما يشابهه على معنى المضاهاة؛ لأننا نجد كثيراً من كبائر الذنوب كقتل النفس، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين ...إلخ هي أعظم من التصوير ولم يحكم على أهلها بالنار، كما في هذا الحديث، فظهر أن التصوير بغير قصد المضاهاة -كما فسرناها- لا يدخل في عموم هذا الحديث، وإنما هو لعموم المضاهين بتصويرهم لخلق الله –سبحانه-.
-والنصوص التي وردت عن السلف من الصحابة والتابعين في النهي عن تصوير ماله روح تدل على أنهم فهموا الأحاديث النبوية على أنها من ألفاظ الوعيد لا غير، بدليل قول عبدالله بن عباس –رضي الله عنهما- لما جاء رجل يستفتيه، وكانت مهنته التصوير، قال له: "إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له" رواه البخاري (2225) ومسلم (2110) واللفظ له، ووجه ذلك أنه لم يغلظ عليه القول، بل لم يزد على قوله هذا، وعامة ما روي عنهم هو من باب الورع واتقاء الشبهات.
-إن كثيراً من أنواع التصوير في الوقت الحاضر تستعمل في التعليم والتوجيه كوسائل إيضاح لا يكاد يستغنى عنها، فالصورة الواحدة أحياناً تختصر أو تكفي عن مئة عبارة أو أكثر، وحديث عائشة ولعبها بالبنات وهي صور مجسمه (لها ظل) جائزة بالنص، وعلل العلماء ذلك الجواز لغرض التعليم والتربية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا جاز التصوير المجسم للصغار لهذا الغرض فهو للكبار من باب أولى، والرجال به أولى من النساء؛ لأنهم مطالبون بتعلم أنواع كثيرة من العلوم قد لا يطلب بعضها من النساء.
ثم إن التصوير اليوم –خاصة ما ليس له ظل- لا يستغنى عنه في ضرورات الناس وحاجاتهم، فالقول بحله وجوازه يتفق مع يسر الدين وسماحته، كقوله –تعالى-:"...يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر..." [البقرة:185]، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد (13025) "...ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه..." أخرجه البخاري في صحيحه (39)، وقوله:" يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
-جمهور العلماء يقولون بجواز الصورة إذا قطعت وبقي من أجزائها ما لا تحل فيه الحياة عادة كصورة الرأس بلا صدر، أو البدن بلا رأس، أو كانت الصورة ممتهنة كأن تكون على فراش يوطأ أو مخدة يتكأ عليها، أو منشفة يستحم بها...إلخ، وقد ورد في بعض كتب الفقه إشارات إلى مثل هذه الأفلام الكرتونية أو الكاريكاتورية، يقول ابن قدامة في (المغني) في حكم إجابة الدعوة لوليمة العرس إذا كان في المكان منكر كالصورة:" فإن قطع رأس الصور ذهبت الكراهة، وكذلك إذا كان في صورة بدن بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان" انتهى.
وقال محمد الرملي الشافعي في كتابه (نهاية المحتاج) في مبحث وليمة العرس على قول صاحب المنهاج "ويحرم تصوير حيوان" قال الرملي:" وإن لم يكن له نظير كبقرة لها منقار أو فرس له جناحان أو صورة من طين أو حلاوة للوعيد الشديد على ذلك" وفي حاشية محمد المغربي المطبوعة مع (نهاية المحتاج):"ويظهر أن خرق بطنه –يعني: الصورة- لا يجوز استدامته، وإن كان بحيث لا تبقى الحياة في الحيوان؛ لأن ذلك لا يخرجه عن المحاكاة" انتهى.(/2)
فقول ابن قدامة: "أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير الحيوان..."، وقول الرملي: "وإن لم يكن لهم نظير كبقر له منقار. . . . . "، وقول المغربي: "ويظهر أن خرق بطنه لا يجوز استدامته..." فهذه الأقوال وإن اختلفت في الحكم الشرعي بناء على تصوير الحيوان الذي لا نظير له هل هو جائز أم لا ؟ أقول: إن فيها إشارات – وإن لم تكن صريحة - إلى الصور الكرتونية والكاريكاتورية كصورة إنسان له جناحان، أو رجل رأسه كالكرة الأرضية، أو رجل أنفه أكبر من جسمه، أو حيوان يخطب بلسان إنسان ونحو ذلك، فإن مثل هذه الصور لا نظير لها في الواقع فليست حيواناً ولا إنساناً من كل وجه، بل أخذت من هذا صفة ومن تلك أخرى.
وبعد هذا البيان ألخص جواب السؤال، فأقول: إن الأفلام الكرتونية الإسلامية نوع من أنواع التصوير الجائز -فيما يظهر لي-، والله أعلم، وعليه فإن إنتاجها وبيعها وشراءها ومشاهدتها جائز كله ما دامت منضبطة بالضوابط الشرعية كسلامة القصد وصحته، وألاّ تشتمل على عبارات شركية، أو بدعية، أو مخلة بالآداب والأخلاق الإسلامية، وحينئذٍ يكون إنتاجها ونشرها قربة إلى الله –سبحانه-، ولا أراني مجانباً للصواب إذا قلت: إن هذا العمل يدخل في حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله –عز وجل- يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله..." رواه أبو داود (2513) والترمذي (1637) والنسائي (3578) وابن ماجة (2811) وأحمد (17321)، اللهم علمنا ما جهلنا، ووفقنا للصواب حيثما كنا، آمين.(/3)
الأقصى في خطر ... ... ...
يمثل الحرم القدسي الشريف أبرز معالم الصراع بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال، لما للحرم القدسي من مكانة دينية في نفوس المسلمين، ولزعم الصهاينة المحتلين بوجود هيكلهم تحت الحرم القدسي الشريف .
قدسية الحرم القدسي عند المسلمين
يعود تقديس المسلمين للحرم القدسي الشريف كونه قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين ولارتباطه الوثيق بإسراء ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نوه الله سبحانه وتعالى إلى أهميته ومكانته في قوله عز وجل {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (1) .
كما يعد ثاني مساجد الأرض بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، لما روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه "قال:قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول. قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى …" (2) .
ومما يدلل على أهميته وأهمية الصلاة فيه ما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاة في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة .." (3) .
تاريخ الحرم القدسي ووصفه:
كان اسم المسجد الأقصى يطلق قديماً على الحرم القدسي الشريف كله وما فيه من منشآت أهمها قبة الصخرة المشرفة (4)، وعليه فإننا عند الحديث عن المسجد الأقصى كبؤرة رئيسة لمدينة القدس نعني بذلك الحرم الشريف بعنصرية الرئيسين المسجد الأقصى والصخرة المشرفة ضمن المساحة الكاملة داخل أسوار الحرم الشريف والبالغة مائة وأربعين دونماً تقريباً (5) وتقدر بحوالي 15% من مساحة البلدة القديمة لمدينة القدس والبالغة نحو كيلو متر مربع (6) في الناحية الجنوبية الشرقية من المدينة (7) التي يحيطها أحد عشر باباً سبعة أبواب ما زالت مستعملة وأربعة أبواب مغلقة (8) .
وللحرم الشريف سور حجري يشتمل على 14 باباً منها 10 أبواب مفتوحة و4 مغلقة أما الأبواب المفتوحة فهي (9) :
من الجهة الشمالية:
باب الأسباط (الأسود)
باب حطة
باب شرف الأنبياء (فيصل)
من جهة الغرب:
باب الغوانمة
باب الناظر
باب الحديد
باب القطانين
باب المتوضأ (المطهرة)
باب السلسلة
باب المغاربة
أما أبواب الحرم المغلقة فهي (10)
باب السكينة
باب الرحمة
باب التوبة
باب البراق
ويتصل الحرم بباقي أجزاء المدينة بطرق تتوزع من أبواب الحرم الشريف العشرة وتمتد بين أجزاء المدينة ذات الوظائف المختلفة (11) وتكثر آبار المياه العذبة في ساحة الحرم حيث يبلغ عددها 25 بئراً منها ثمانية آبار في صحن الصخرة المشرفة وسبعة عشر في فناء المسجد الأقصى المبارك وفي موقع متوسط بين المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة توجد بركة الوضوء (الكأس) (12)، كما يوجد عدد من الأسبلة لشرب المياه في مواقع متفرقة أكبرها: (13)
سبيل قايتباي – سبيل شعلان – سبيل باب الحبس- سبيل البديري – سبيل قاسم باشا .
وللحرم الشريف أربعة مآذن هي: (14)
مئذنة باب المغاربة
مئذنة باب الغوانمة
مئذنة باب السلسلة
مئذنة باب الأسباط
وتحتوي ساحة الحرم القدسي الشريف على العديد من القباب والمساطب والتي كانت مخصصة للغرباء والمتصوفة وأهل العلم المنقطعين للتدريس احتساباً لوجه الله (15) .. أما القباب فهي: (16)
قبة السلسلة – قبة المعراج – قبة محراب النبي – قبة يوسف – قبة الشيخ الخليلي- قبة الخضر- قبة موسى- قبة سليمان – القبة الجنوبية .
أما المساطب فقد أعدت للصلاة والتدريس في فصل الصيف ومنها : (17)
مسطبة الكرك- مسطبة علاء الدين البصيري- مسطبة العشاق .
ويوجد في الطرفين الأخيرين من أطراف الحرم من الشمال والغرب أروقة محكمة البناء هي: (18)
الرواق الممتد من باب الحطة إلى باب شرف الأنبياء .
الرواق المحاذي لباب شرف الأنبياء .
الرواقان السفليان اللذان تحت دار النيابة شمال الحرم من الغرب .
ورواقان فوقها مستجدان .
الأروقة الغربية وتمتد من باب الغوانمة إلى باب المغاربة .
الرواق الممتد من باب الغوانمة إلى باب الناظر .
الرواق الممتد من باب الناظر إلى باب القطانين .
الرواق الممتد من باب القطانين إلى باب السلسلة .
الرواق الممتد من باب السلسلة إلى باب المغاربة .
وفي الحرم الشريف مزولتان شمسيتان لمعرفة الوقت واحدة غربية رسمها مفتي الشوافعه محمد طاهر أبو السعود على جدار مسجد الصخرة من الناحية القبلية إلى الغرب، والثانية رسمها المهندس المقدسي رشدي الإمام على واجهة القنطرة الجنوبية إلى الغرب تجاه المسجد الأقصى (19) .
بعد استعراض معالم الحرم القدسي الشريف يبقى استعراض أبرز معلمين في الحرم وهما مسجد قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى .
مسجد قبة الصخرة المشرفة:(/1)
يقوم بناء الصخرة المشرفة في وسط ساحة الحرم الشريف (20) ويعد بناء قبة الصخرة من أبرز معالم الحرم القدسي الشريف وقد شرع في إنشائه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس سنة 68هجرية/ 688 ميلادية، حول الصخرة المشرفة الواقعة على صحن مرتفع في ساحة الحرم الشريف، وانتهى البناء سنة 72 هجرية/ 691 (21)، وقد بنى في بادئ الأمر قبة السلسلة الكائنة شرقي الصخرة لتكون نموذجاً، ثم بنى المسجد نفسه . (22) وقد هدف الخليفة عبد الملك بن مروان من بناء هذا المسجد الضخم إلى مواجهة روعة الكنائس في القدس وأثرها في نفوس المسلمين وإلى أن تتضاءل بجانب ضخامته وروعته كنيسة القيامة وغيرها من الكنائس في بلاد الشام(23) .
ويقوم مسجد الصخرة في وسط بناء مربع الشكل، والبناء قائم على نشر – تل – مرتفع في وسط الحرم ومفروش بالبلاط الأبيض (24)، وهو فناء الصخرة الذي يسميه عامة الناس سطح الصخرة أو سطوح الصخرة أو صحن الصخرة .. طوله من الشمال للجنوب 219 ذراعاً ومن الشرق للغرب 223,5 ذراعاً وارتفاعه 12 ذراعاً (25) يرقى إليه بمراق الواحدة منها تسمى (مرقاة) ويسميها الناس (الدرج) في أعلى كل مرقاة قنطرة قائمة على أعمدة من الرخام وهذه القناطر يسمونها (موازين) لاعتقادهم – عامة الناس – بأن الميزان سوف ينصب هنا يوم الحساب !! (26) ويحيط بالقبة المشرفة تسعة مراق لها ثمان قناطر ومرقاً بدون قنطرة (27) .
قبة الصخرة المشرفة بناء مثمن الأضلاع، أربعة أضلاع منها تواجه الجهات الأربعة وبها المداخل الأربعة ويتوسط البناء الصخرة المشرفة – وهي قمة جبل – (سنأتي على وصفها لاحقاً) ترتفع نحو متر ونصف المتر عن أرضية البناء وبمعدل أبعاد تبلغ 13×18 متراً يحيط بها قبة دائرية مكونة من أربعة أكناف دائرية مكسوّة بترابيع الرخام بين كل اثنين منها ثلاثة أعمدة من الرخام الملون تحمل ستة عشر قوساً مكسوّة بالرخام الأبيض والأسود. وفوق الجزء الدائري قبة مكسوة بالفسيفساء بأشكال زخرفية قوامها فروع نباتية بألوان متجانسة يغلب عليها الألوان الأخضر والأزرق والذهبي، كما تحوي قطعاً صدفية، وبهذه الرقبة ستة عشر شباكاً من الجبص والزجاج الملون من الداخل، ومن الخارج بلوكات من القيشاني المزخرف بفتحات دائرية (انظر شكل رقم 1) .
ويعلو هذه الرقبة قبتان داخلية وخارجية، الداخلية من الخشب مكسوة بالرصاص، وفي أول عهدها كانت مكسوة بالنحاس المذهب، وهي حالياً قبة معدنية مكسوة بألواح الألمنيوم الذهبي اللون، والمسافة بين القبتين تبلغ معدل متر واحد، ويبلغ قطر القبة حوالي 20 متراً وارتفاع قمتها عن الأرضية 35 متراً يعلوها هلال طوله أربعة أمتار ونصف .
وبين الجزء الدائري من المبنى والمثمن الخارجي مثمن أوسط يتكون من ثماني دعامات مكسوة بالرخام المعرق وستة عشر عموداً رخامياً ملوناً، بين كل دعامتين عمودان، ويعلو الدعائم والأعمدة عقود مكسوة بكاملها بالفسيفساء تحوي على الوجهين شريطاً من الكتابات بالخط الكوفي. وبين العقود "شدّادت" خشبية مكسوة بالبرونز بنقوش بارزة مذهبة، والحوائط الخارجية مكسوة من الداخل بشريط علوي من الرخام المحفور ومن أسفله بكامل الواجهات رخام معرّق ذو اللونين الأبيض والرمادي مجمع بطريقة هندسية .
أما من الخارج فالرخام يكسو كل واجهة من واجهات المثمن حتى منتصف الارتفاع والنصف قبل ذلك مكسواً بالفسيفساء ذات الزخارف النباتية. وفي كل واجهة سبع حنايا، خمس منها مفتوحة بها شبابيك حصبية مع الزجاج الملون وبلكونات القاشاني من الخارج. ويبلغ طول كل ضلع من أضلاع المثمن 20 متراً تقريباً وارتفاعه 12 متراً (28) . نصف الارتفاع السفلي مصفح بصفائح الرخام الأبيض الجميل. ونصفه العلوي مغش بترابيع من القاشاني الأزرق. وقد كتبت عليه سورة "يس" بالأبيض.
وكان قد أمر بتركيبه السلطان سليمان القانوني سنة 1615 (29) وسقف الرواقين الأوسط والخارجي أفقي من الداخل من الخشب المزخرف، وكانت تحمل هذا السقف جمالونات خشبية، من أعلى تستند على رقبة القبة وتميل نحو المثمن الخارجي مكسوة بألواح الرصاص وهي حالياً جمالونات معدينة تعلوها ألواح الألمنيوم فضية اللون. ورقبة القبة مكسوة من الخارج بترابيع القيشاني المزخرف، وفي أعلاه شريط كتائي يحوي سورة الإسراء ويعود هذا الشريط إلى أول عهد قبة الصخرة بالقاشاني في القرن الخامس عشر. وكانت رقبة القبة قبل ذلك مكسوة بالفسيفساء المشجرة (30) ويبلغ مجموع عدد الأعمدة في المبنى 40 عموداً وللمبنى أربعة أبواب خارجية (31) كبيرة ومزدوجة، مصنوعة من الخشب، ومكسوة بصفائح النحاس، وهي:
باب داود (باب إسرافيل) – باب الجنة – باب الأقصى- الباب الغربي المقابل لباب القطانين من أبواب الحرم (32) .(/2)
والشخص الداخل من أي باب من الأبواب الأربعة يستطيع أن يرى جميع ما في داخل البناء من الأعمدة والدعائم، فتظهر أمامه مباشرة، ولا يحجبها عنه أي حاجب (33). وتبلغ مجموع مساحة الفسيفساء التي تغطي مساحات مختلفة داخل مبنى الصخرة المشرفة 1200 متراً مربعاً (34). وقد تم الاستغناء عن الصور الممثلة للإنسان والحيوان في نقوش المسجد وذلك وفقاً لأحكام الديانة الإسلامية واستعيض عنها بالأشكال الطبيعية والرسوم المركبة والتقليدية، مما أعطى المكان رونقاً يمتاز عن غيره بها يبعث في النفس من الشعور بالهدوء والطمأنينة والتأمل العمق (35) .
وفي مسجد الصخرة ستة وخمسون شباكاً: أربعون ينفذ النور منها، وستة عشر لا ينفذ، وفوق كل واحد من هذه الشبابيك غير النافذة آية قرآنية(36).
الصخرة
تحت القبة وفي وسط المسجد تقوم الصخرة نفسها وهي عبارة عن قطعة ضخمة من الصخر غير منظمة الشكل.. طولها من الشمال إلى الجنوب 17 متراً و70 وعرضها من الشرق إلى الغرب 13 متراً و 50 سم.. وأعلى نقطة فيها مرتفعة عن سطح المسجد زهاء متر ونصف المتر حولها درابزين من الخشب المنقوش والمدهون، وحول هذا الدرابزين مصلى للنساء وله أربعة أبواب. يفصل بين هذا المصلى ومصلى الرجال سياج من حديد مشبك، بناه الصليبيون (37) .
المغارة:
تحت الصخرة مغارة ينزل إليها من الناحية القبلية بأحد عشر درجة. إنها في شكل قريب من المربع طول كل ضلع أربعة أمتار ونصف المتر. ولها سقف ارتفاعه ثلاثة أمتار. وفي السقف ثغرة سعتها متر. وعند الباب قنطرة مقصورة بالرخام على عمودين. وفي داخلها محرابان. كل محراب على عمودين من رخام. وأمام المحراب الأيمن صفة يسمونها مقام الخضر، وفي ركنها الشمالي صفة تسمى باب الخليل، وأرض المغارة مفروشة بالرخام(38).
أجمع العديد من الباحثين والدارسين أن بناء قبة الصخرة آية في الجمال يشهد للعرب بمدى ما وصل إليه مجدهم وغناهم وعظمتهم (39)، فهي من أهم وأبدع آثار الأمويين كما أنها أقدم أثر إسلامي في تاريخ العمارة الإسلامية (40). وهو ما حدا بالعديد من الخبراء والمهتمين بالإشادة بجمالها وروعة ودقة صنعها فقد قال الكابتن كروزويل (41) الذي كان أستاذاً لفن العمارة في جامعة القاهرة ((لقبة الصخرة أهمية ممتازة في تاريخ العمارة الإسلامية، فقد بهرت ببنائها ورونقها ومغارتها ومغامتها وسحرها وتناسقها ودقة نسبها كل من حاول دراستها من العلماء والباحثين)) وأضاف ((لم تكن قيمة المسجد بما يثيره من ذكريات فقط بل إنه أهم المباني العجيبة التي شادها الإنسان، إنه أعظم بناء يستوقف النظر، إن روعته لا يصلح إليه خيال إنسان)) .
صيانة قبة الصخرة عبر التاريخ: (42)
لم يكن بالإمكان أن تكون قبة الصخرة المشرفة على ما هي عليه الآن دون العناية والاهتمام بها منذ إنشائها وإلى يومنا هذا. وخلال هذه القرون من الطبيعي أن يطرأ بعض الوهن على أجزاء هذا البناء وزخارفه من جراء الزلازل وعوامل الطبيعة. ففي عهد الخليفة العباسي المأمون تم ترميم بعض أجزائه عام 216هـ/ 831 م، وتم تجديد وترميم القبة في عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي عام 143هـ/ 1022م وكان ذلك نتيجة هزة أرضية أوقعت جزءاً منها (43)، وفي 492هـ/1099م سقطت القدس في أيدي الصليبيين فحولوا قبة الصخرة إلى كنيسة (44)، وبعد استعادة صلاح الدين الأيوبي لمدينة القدس بإعمار مسجد قبة الصخرة، فقد جدد الظاهر بيبرس قبة الصخرة المشرفة وجدد قبة السلسلة سنة 661هـ/1262م. وذهّب الملك الناصر محمد بن قلاوون قبة الصخرة من الداخل ورمم صفائح الرصاص سنة 718هـ/1318م، أما الملك الأشرف قايتباي فقد ركب الأبواب النحاسية في مدخل الصخرة من الجهة الغربية سنة 872 هـ/1467. أما في العهد العثماني فقد تمت أبرز أعمال الترميم في زمن السلطان سليمان الأول (سليمان القانوني) الذي رمم قبة الصخرة سنة 1542 وأعاد تبليطها (45) .
المسجد الأقصى
يطلق اليوم اسم المسجد الأقصى على المسجد القائم في الناحية القبلية من الحرم، وعلى بعد خمسمائة متر بوجه التقريب من مسجد الصخرة إلى الجنوب (46) ويبلغ طوله – من الداخل – 80 متراً وعرضه 55 متراً (47)، وفي صدر المسجد القبة، وللمسجد أحد عشر باباً سبعة منها في الشمال وواحد في الشرق واثنان في الغرب وواحد في الجنوب (48) وقد بناه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 692 م وأتمه الوليد بن عبد الملك سنة 705م (49) ولا تنطبق تسمية المسجد باسم "مسجد عمر" نسبة إلى خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ أن المسجد الذي أمر الخليفة عمر ببنائه كان في البقعة المباركة المشهورة بالحرم الشريف، وكان يحاذي السور الشرقي، أي شرق بناء المسجد الأقصى الذي نراه اليوم، وكان ذلك المسجد مترامي الأطراف، مسقوفاً بالأخشاب، ويتسع لحوالي ثلاثة آلاف من المصلين (50) .(/3)
وللمسجد في الداخل 53 عموداً من الرخام، 14 منها في الرواق الأوسط و12 في الأروقة الثلاثة الشرقية و 8 تحت القبة و 11 في جناح القبة من الشرق و 7 في جناحها في الغرب وواحد في مقام الأربعين .
وللمسجد أيضاً 49 سارية من الحجارة 4 منها تحت القبة و12 في الرواق الغربي و 4 في الرواق الشرقي و3 في جناح القبة من الغرب والباقيات متفرقات. والسواري ضخمة ومربعة الشكل. وأما الأعمدة فإنها مصنوعة من الرخام المختلف الألوان. وفوق الأعمدة أقواس حجرية تتراوح فتحاتها بين 8,91 و 9,17 متراً، ثلاثة من الشرق، وأخرى مثلها من الغرب وواحد بينهما في الوسط، والرواق الأوسط واسع مرتفع (51) وفي صدر المسجد القبة التي ترتفع 17 متراً عن الأرض وقد غطتها الفسيفساء الجميلة والتي تضم مظهراً جميلاً من مظاهر الفن (52)، وللقبة قشرتين الداخلية التي تم ذكرها سابقاً أمام الخارجية للقبة فإنها عبارة عن ألواح خشبية مصفحة من الخارج بالرصاص. والمسافة بين قشرتين القبة الداخلية والخارجية تتراوح بين 75 سم عند الرقبة، ومتران ونصف المتر في الوسط وثلاثة أمتار في القمة عند الهلال .
وهناك رقبة القبة، وهي القسم الأسطواني القائم بين القبة نفسها والأقواس التي ترتكز عليها.. وفوق الرقبة تقوم القبة، وهي قائمة على أربعة أقواس. يرتكز كل ركن من أركانها الأربع على عمودين من رخام، وأسطوانة مربعة مكسوة أيضاً بالرخام. وتحت القبة وفي أقصى المسجد من القبلة، محراب كبير، كان يسمى فيما مضى محراب داود ويطلق عليه الآن محراب عمر. وفي صدر المسجد من الغرب وفي داخل المقصورة المصنوعة من الحديد المشتبك محراب آخر – يسمى – محراب معاوية، وفي داخل المسجد، عند زاويته القبلية الشرقية جامع متصل به، يسمونه جامع عمر وهو مستطيل الشكل، ويقال – أنه من بقية البناء الذي أقامه الخليفة عمر بن الخطاب – وهو جامع معقود بالحجارة والكلس طوله 30 متراً وعرضه 8 أمتار وفيه محراب صغير وحول المحراب أربعة أعمدة صغيرة اثنان منها ملتويان. وإلى الشمال من جامع عمر إيوان كبير يسمونه مقام عزيز ويسمونه أيضاً مقام الأربعين فيه محراب .. وإلى الشمال من مقام عزيز إيوان صغير وجميل فيه محراب زكريا، طوله 6 أمتار وعرضه خمسة.. وفي الجانب الغربي إلى القبلة جامع آخر يسمونه جامع النساء .. وهو عبارة عن عشر قناطر على تسع صوار في غاية الإحكام (53) .
وأمام المسجد من الناحية الشمالية رواق كبير .. وهو مؤلف من سبع قناطر مقصورة، كل قنطرة منها تنتهي عند باب من أبواب المسجد السبعة، وفي المسجد الأقصى 137 نافذة، 7 منها في القبة، وهي كبيرة صنعت من الزجاج الملون ينفذ منها نور ضئيل. و42 في الرواق الأوسط نصفها تطل على الرواق الشرقي والنصف الآخر على الرواق الغربي، والنور ينفذ منها كلها. ذلك لأن الرواق الأوسط أعلى من الرواقين المذكورين. و 43 في حائط المسجد الشرقي، و24 منها بالزجاج الملون و10 من غير زجاج ينفذ منها النور. و14 في حائطه الغربي، اثنان كبيرتان ينفذ منها النور و 12 بالزجاج الملون. و 16 في الحائط الشمالي كلها بالزجاج الملون. و24 في الحائط القبلي، و 22 بالزجاج الملون (54) .
ويوجد تحت المسجد الأقصى بناء يسمى (الأقصى القديمة) وهو عبارة عن دهليز واسع طويل، يتألف من سلسلة عقود ترتكز على أعمدة ضخمة بعضها أسطواني، والبعض الآخر مربع الشكل وهناك إلى جانب هذا الدهليز، دهليز آخر – يسمى – إسطبل سليمان، وهو واقع تحت الجزء المرصوف من أرض الحرم شرقي المسجد الأقصى، وجزء آخر منه يقع تحت المسجد نفسه (55) .
صيانة المسجد الأقصى عبر التاريخ:
في منتصف القرن الثاني للهجرة زار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المدينة المقدسة وأمر بإعادة بناء المسجد الأقصى المبارك، وفي عهد ولده الخليفة المهدي تم إصلاح ما تصدع من جدران المسجد سنة 163 هـ ثم قام الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله ببناء أقسام عديدة من المسجد سنة 426هـ/ 1034 (56) . وضيقه من الغرب والشرق بحذف أربعة أروقة من كل جانب والأبواب السبعة التي في شمال المسجد اليوم هي من صنع الظاهر، كما أن جزءاً كبيراً من بناء الأقصى الحالي، قبل التعميرات التي جرت في العصر الحالي، يرجع إلى الظاهر. وعندما احتل الصليبيون القدس غيروا معالم المسجد فاتخذوا جانباً منه كنيساً وجانباً آخر مسكناً لفرسانهم الإسبتارية وأضافوا إليه من الناحية الغربية بناء جعلوه مستودعاً لذخائرهم (57) .(/4)
بعد فتح صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس في 583هـ/ 1187 أمر بترميم المسجد الأقصى وجاء إليه بالمنبر الذي لم يعمل في الإسلام مثله من حلب وقد – صنع على مدى سنين بأمر نور الدين زنكي خاصة باسم المسجد الأقصى- (58) وهو المنبر الذي أحرقه اليهود في سنة 1969 أثناء الاحتلال الإسرائيلي. وقد أجرى السلاطين المماليك ثم العثمانيون إصلاحات وتعميرات كثيرة في المسجد الأقصى ولكن شكله العام لم يتغير منذ عهد الأيوبيين (59). وفي سنة 1344هـ/ 1925 جرت تعميرات واسعة في المسجد الأقصى استهدفت تدعيم القبة والبناء بصورة عامة. وأخرى بين سنتي 1357هـ/ 1938 و 1363هـ/ 1943م هدم فيها الرواق الشمالي وأعيد بناؤه، والرواق الأوسط الذي كان ما زال قائماً منذ التجديد الفاطمي وأعيد بناؤه (60) .
بعد حريق المسجد الأقصى بدأت الحكومة الأردنية وفي نفس العام 1969 بإعادة إعمار المسجد الأقصى وإزالة آثار الحريق الإسرائيلي (61) .
مزاعم اليهود حول الحرم القدسي الشريف
يشكل دخول داود عليه السلام للقدس بداية تاريخ عهد (القدس) اليهودي. وعلى أساسات معبد ملكي صادق بنى سليمان الحكيم عليه السلام معبده. وهكذا تكرست القدس مدينة مقدسة للقبائل العبرانية بعد أن فرضت نفسها مرجعاً سياسياً ودينياً لهم، وأصبحت بعد السبيّ إلى بابل – سنة 586 ق.م عامل توحيد وآلية من آليات تطوير المعتقد اليهودي وصياغته في صورته الأساس. فقد نظمت أناشيد الشوق إلى القدس وتمت صياغة التلمود البابلي ليحل محل التلمود المقدسي، وجرى خلال هذه الفترة ترديد القسم المعهود (فلتنسني يمني إن نسيتك يا أورشليم) (62) .
ولما تبوأ كورش عرش الفرس، أذن لمن شاء من اليهود بالعودة إلى القدس. فعاد فريق منهم (538م) ليعيدوا بناء الهيكل ويبنوا السور من جديد (63). وجاء تدمير الهيكل الثاني وتشتيت اليهود على يد تيطوس (70م) ليعزز مشاعر الإغتراب والشوق إلى المدينة المقدسة عند اليهود) (64). واحتلت مدينة القدس محلاً رومانسياً في الفكر الصهيوني ليستثير العواطف اليهودية. ولما اعتلى عرش الرومان الإمبراطور هدريان (إدريانوس) أتى على ما تبقى من الهيكل عام 131م، وهدم أورشليم فجعل عاليها سافلها، وبعد مضي أربع سنوات على خرابها أقام على أنقاضها مدينة جديدة أسماها إيليا كابيتولينا. وبعد حين سمح لهم – اليهود – أن يزوروا أطلال الهيكل مرة واحدة فقط في كل سنة (9آب/ أغسطس) (65) .
حائط البراق
يمثل حائط البراق الجزء الجنوبي الغربي من جدار الحرم الشريف ويبلغ طوله (47) متراً وارتفاعه (17) متراً ويعد من الأملاك الإسلامية، لأنه يشكل جزءاً من الحرم الشريف وله علاقة وطيدة بإسراء النبي عليه السلام – إذ ربط النبي عليه السلام دابته البراق في الحائط، وسمي حائط البراق نسبة إلى دابة الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلق عليه باللغة العبرية اسم (كوتل معمراني) ويدعي اليهود أن هذا الحائط هو الجدار الخارجي لهيكل سليمان عليه السلام – متناسين ما حل بالهيكل في عهد هدريان (66) .
ويطلق على حائط البراق اسم حائط المبكى وذلك لأن اليهود اعتادوا في عهد هدريان الذهاب إلى مدينة القدس والبكاء على أطلال هيكلهم الذي زالت آثاره من شدة الحريق الذي أتى عليه، وقد أخذت أجيال اليهود في القدوم إلى آثارهم كي يقوموا بالبكاء والنواح على مجدهم الزائل عند حائط البراق .
أما القسم الذي كان دائماً موضوع الخلاف بين المسلمين واليهود فهو عبارة عن ثلاثين متراً من الحائط الخارجي المذكور ويمتد أمام ذلك القسم من الحائط رصيف لا يستطاع سلوكه إلا من الطرف الشمالي من زقاق ضيق يبتدئ من باب السلسلة ويمتد هذا الرصيف جنوباً إلى حائط آخر. ويفصل هذا الحائط بخط مستقيم رصيف – حائط البراق – عن بضعة بيوت عربية خصوصية وعن موقع مسجد البراق في الجهة الجنوبية (67) الذي هدمه اليهود عند إزالتهم حارة المغاربة في أعقاب احتلالهم لمدينة القدس عام 1967 (8).
ويقوم عند الطرف الشمالي من الرصيف حائط ثالث فيه باب يفصل هذه الجهة عن الفناء الكائن أمام مقر المرحوم الحاج (أمين الحسيني) وقد قامت سلطات الاحتلال بمصادرة هذا المقر وحولته إلى كنيس يهودي (69) .(/5)
قد جرت اشتباكات عديدة بين الفلسطينيين سكان الأرض الأصليين واليهود بسبب تجاوز اليهود لهامش الحرية الذي منحهم إياه المسلمين من زيارة حائط البراق، وكان أبرز هذه الثورات ثورة البراق في العام 1929، إذ جلب اليهود مساءً 23 أيلول/ سبتمبر 1928 أدوات جديدة إلى المبكى وأقاموا ستاراً يفصل بين الرجال والنساء ونفخوا في الصور، فأثار هذا المسلمين وجعلهم يعتقدون أن الغاية الأخيرة لليهود هي استملاك المسجد الأقصى تدريجياً زاعمين أنه الهيكل، مبتدئين بالجدار، وصدرت الأوامر الرسمية إلى اليهود بنزع الستار فلم يفعلوا فتولى البوليس رفعه، فهاج هائجهم واشتد التوتر، وسارت حشودهم في 15 آب 1929 (يوم عيد صيامهم) في موكب نحو الحائط حيث رفعوا العلم الصهيوني وأنشدوا نشيدهم الوطني وهتفوا "الحائط حائطنا" وفي اليوم التالي الجمعة 16 آب/ أغسطس خرج المسلمون من صلاة الجمعة من الحرم في تظاهرة نحو البراق حيث قلبوا منضدة للشماس اليهودي، وأحرقوا الاسترحامات التي أعتاد المصلون اليهود وضعها في ثقوب الحائط. فزاد هذا في اشتداد التوتر (70) وامتدت الاشتباكات إلى باقي أنحاء فلسطين وكان ذروتها في 29 آب/ أغسطس وعلى إثر هذه الاضطرابات عينت حكومة الانتداب البريطانية لجنة دولية للتحقيق في ملكية الحائط في العام 1930 (71) .
وقامت اللجنة بالتحقيق والتدقيق في أقوال الفلسطينيين أصحاب الأرض واليهود وأصدرت تقريرها المشهور والذي أكد على أحقية المسلمين والفلسطينيين في حائط البراق، وقد جاء في استنتاجات التقرير، للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي بجهات البر والخبر (72).
الإجراءات الإسرائيلية للاستيلاء على الحرم القدسي الشريف
إن الأطماع الصهيونية بالحرم القدسي قديمة قدم الحركة الصهيونية فقد صرح عراب الحركة الصهيونية ثيودرو هرتزل في مدينة بال بسويسرا قائلاً ((إذا حصلنا لحظة يوماً على مدينة القدس وكنت لا أزل حياً وقادراً على القيام بأي شيء فلن أتوانى لحظة عن إزالة كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود وسوف أدمر كل الآثار التي مرت عليها قرون)) (73) ، وقد أكد المؤرخ اليهودي الدكتور إسرائيل ألداد عزم الصهاينة على تدمير الحرم القدسي لإنشاء هيكلهم بتصريحه لمجلة (تايم) الأمريكية بقوله ((إن على إسرائيل أن تبني الهيكل في موقعه الأصلي)) وعندما سئل كيف يمكن أن يحصل هذا؟ أجاب: من يعلم، من الممكن أن تحدث هزة أرضية أو أشياء أخرى يمكنها أن تغير كل شيء (74) .
من جهتها سعت سلطات الاحتلال الصهيوني في سبيل تدمير الحرم القدسي وإقامة هيكلهم المزعوم إلى اتخاذ عدة إجراءات هدفت من ورائها إلى بسط نفوذها وتدمير الحرم، وقد بدأت هذه الإجراءات منذ اليوم الأول لاستيلاء الصهاينة المحتلين على الجزء الشرقي من مدينة القدس في 7 حزيران/ يونيو 1967، وفيما يلي أبرز الاعتداءات الصهيونية :
أولاً: الحريق
كانت جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك أول المحاولات البارزة لتدمير هذا المكان المقدس وتخريبه، وقد حدث في 21 آب 1969، أن قام مايكل روهان الأسترالي الجنسية بإشعال النار في المسجد مما أسفر عن حرق منبر صلاح الدين بأكمله والسطح الشرقي الجنوبي للمسجد (75)، وقد بلغت مساحة الجزء المحترق من المسجد 1500 متر مربع من أصل المساحة الإجمالية البالغة 4400 متر مربع أي ثلث مساحة المسجد الأقصى تقريباً، ومما يجدر ذكره أنه في نفس يوم الحريق قطع الإسرائيليون في بلدية القدس الماء عن الحرم الشريف لكي لا يستعمل في إطفاء الحريق. كما أن سيارات الإطفاء الإسرائيلية جاءت بعد أن أخمدت النيران ولم تفعل شيئاً (76) .
ثانياً: المحاولات المتكررة للصلاة في المسجد الأقصى
بدأت المحاولات الصهيونية لاقتحام المسجد الأقصى وساحة الخارجية بحجة الصلاة فيه في 18 آب/ أغسطس 1969 حيث قام فوج من 25 صهيوني بالطواف حول مسجد الصخرة المشرفة وهم يتلون المزامير، والأدعية وبعض فقرات من التوراة، ثم أخذوا ينشدون النشيد الصهيوني "بتار" (77) .
وفي 28 كانون ثاني/ يناير 1976 سمحت القاضية روث أود من المحكمة الإسرائيلية لليهود في الصلاة داخل الحرم القدسي الشريف. وفي 24 شباط/ فبراير 1982 سمحت الشرطة الإسرائيلية لمجموعة من أعضاء الكنيست من حركة (هتحيا) العنصرية بالقيام بجولة في الحرم القدسي بمناسبة ذكرى خراب الهيكل وكانوا يعتزمون تأدية الصلاة لولا منعهم من قبل الحراس المسلمون. كما رفع الوفد البرلماني الإسرائيلي علم (إسرائيل) في ساحات الأقصى وهم يرددون النشيد الوطني الإسرائيلي (78) .
ثالثاً: محاولات نسف المسجد الأقصى(/6)
توالت المحاولات الإسرائيلية لنسف المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف ومن أبرزها:
· في أيار/ مايو 1980 عثرت قوات الأمن الإسرائيلية على مخزن للمتفجرات بالقرب من المسجد الأقصى كان قد أعده الإرهابي مائير كهانا وعصباته (79) .
· في 11آذار/ مارس 1983 اكتشف الحراس العرب (46) رجلاً من المستوطنين اليهود يقفون بجوار الحائط الجنوبي للأقصى ويحملون معهم المتفجرات وأدوات الحفر وعندما حاصرهم الحراس أعلموا الشرطة، فألقت القبض عليهم واعتقلتهم ثم أطلقت سراحهم !
· في 30/1/1984 اكتشفت ثلاثة قنابل يدوية من النوع الذي يستخدمه جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام باب الأسود، وكانت هذه القنابل مخبأة في إحدى ثمار القرع (80) .
· اكتشف الحراس العرب شحنة متفجرة أسفل بعض الأغصان، وكانت ستنفجر عند وصول المستشار الألماني هوليموت كول لزيارة الحرم الشريف عام 1985 (81) .
رابعاً: الاقتحام المسلح وإطلاق النار على المصلين
في 2 آذار/ مارس 1982 حاولت مجموعة من المتطرفين اليهود من مستوطني كريات أربع مزودة بالأسلحة النارية اقتحام المسجد الأقصى من باب السلسلة بعد أن اشتبكت مع الحراس العرب، كما اقتحم الجندي الإسرائيلي إيلي جثمان في 11 نيسان/ أبريل 1982 المسجد حيث نجح في الوصول إلى قبة الصخرة ودخولها، بعد أن أطلق النار على حرس المسجد وقتل اثنان منهم. وقد أسفرت الاصطدامات التي وقعت بين المسلمين واليهود عن سقوط تسع شهداء و 136 جريحاً فلسطينياً (82) .
وتعد المجزرة التي قامت بها القوات الصهيونية في ساحة الأقصى في 8 أكتوبر 1990 من أبرز الجرائم التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي. فقد أطلق الجنود الصهاينة النار على المصلين في المسجد بعد تصد المصلين لمجموعة أمناء جبل الهيكل المتطرفة عند محاولتهم وضع حجر الأساس للهيكل المزعوم في ساحة الحرم القدسي الشريف وقد أسفرت المجزرة عن استشهاد أكثر من 20 شخصاً وجرح 115 آخرين .
خامساً: الحفريات الصهيونية حول الحرم الشريف:
كانت الحفريات حول المسجد الأقصى وتحته من الناحيتين الغربية والجنوبية إحدى المحاولات لتخريب وتصديع جدرانه وهي تبدو في ظاهرها محاولة للبحث عن بقايا الهيكل المزعوم، إلا أنها تهدف في حقيقتها إلى هدم وإزالة المباني الإسلامية الملاصقة أو المجاورة لحائط البراق وعلى امتداده، كما تهدف إلى الاستيلاء على الحرم الشريف وتخريبه وإنشاء الهيكل في الموقع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وقد بدأت الحفريات الإسرائيلية حول المسجد الأقصى في أواخر عام 1967 ومرت حتى الآن بتسع مراحل وهي كما يلي (83) :
· المرحلة الأولى:
بدئ بها في أواخر عام 1967 وتمت سنة 1968 وقد جرت على امتداد (70) متراً من أسفل الحائط الجنوبي للحرم القدسي الشريف خلف قسم من جنوب المسجد الأقصى وأبنيته جامع النساء والمتحف الإسلامي والمئذنة الفخرية الملاصقة له. ووصل عمق هذه الحفريات إلى 14 متراً، هي تشكل مع مرور الوقت عامل خطر يهدد بإحداث تصدعات لهذا الحائط والأبنية الدينية والحضارية والأثرية الملاصقة له وقد مولت الجامعة العبرية هذه الحفريات التي ترأست فريقها البروفيسور بنيامين مزار ومساعده مئير بن دوف، أما ما تم اكتشافه في هذه الحفريات فكان آثاراً إسلامية أموية وآثاراً رومانية وبيزنطية .
· المرحلة الثانية:
انتهت هذه الحفريات سنة 1969، وقد جرت على امتداد (80) متراً آخر من سور الحرم الإسلامي القدسي، مبتدئة حيث انتهت المرحلة الأولى، ومتجهة شمالاً حتى وصلت أحد أبواب الحرم الشريف المسمى (باب المغاربة) مارة تحت مجموعة من الأبنية الإسلامية الدينية التابعة للزاوية الفخرية (مركز الإمام الشافعي) وعددها (14)، صدعتها جميعها وتسببت في إزالتها بالجرافات الإسرائيلية بتاريخ 14/6/1969 وإجلاء سكانها. ويقول مئير بن دوف أنه اكتشف أساسات ثلاثة قصور أموية اثنان منها متشابهان والثالث يختلف قليلاً عن سابقيه .
· المرحلة الثالثة:(/7)
بوشر بهذه الحفريات سنة 1970 وتوقفت سنة 1974 ثم استئنفت ثانية سنة 1975 حتى أواخر عام 1988 وقد امتدت من مكان يقع أسفل عمارة المحكمة الشرعية القديمة (تعتبر من أقدم الأبنية التاريخية الإسلامية في القدس) مارة شمالاً بأسفل خمسة أبواب من أبواب الحرم القدسي، وهي باب السلسلة وباب المطهرة وباب القطانين وباب الحديد وباب علاء الدين البصيري (المجلس الإسلامي) وعلى امتداد (180) متراً وفوقها مجموعة من الأبنية الدينية والحضارية والسكنية والتجارية تضم أربعة مساجد ومئذنة قايتباي الأثرية وسوق القطانين، وعدد من المساكن والمدارس الأثرية. وقد وصلت أعماق هذه الحفريات إلى أبعاد تتراوح بين 10 إلى 14 متراًن وطول حوالي (400) متر، ونتج عن هذه الحفريات تصدع عدد من الأبنية منها الجامع العثماني، ورباط الكرد والمدرسة الجوهرية، والمدرسة المنجكية (مقر المجلس الإسلامي) والزاوية الوفائية كما جرى تحويل الجزء السفلي من المحكمة الشرعية إلى كنيس يهودي، وفي شهر آذار من عام 1987 أعلن الإسرائيليون أنهم اكتشفوا القناة التي كان قد اكتشفها قبلهم الجنرال الألماني (كونراد تشيك) في القرن التاسع عشر بطول 500 م. ولم يكتف الإسرائيليون بإيصال النفق بالقناة بل قاموا بتاريخ 7/7/1988 وتحت حماية الجيش الإسرائيلي بحفريات جديدة عند ملتقى طريق باب الغوانمة مع طريق المجاهدين (طريق الآلام) بهدف حفر فتحة رأسية ليدخلوا منها إلى القناة الرومانية وإلى النفق ولكن تصدى لهم المواطنون في القدس الشريف ومنعوهم من الاستمرار فاضطرت السلطات الإسرائيلية إلى إقفال الفتحة وإعادة الوضع السابق .
· المرحلتين الرابعة والخامسة:
بدئ بهما سنة 1973 واستمرتا حتى العام 1974 في موقع خلف الحائط الجنوبي الممتد من أسفل الجانب الجنوبي الشرقي للمسجد الأقصى وسور الحرم القدسي الشريف ويمتد الحفر على مسافة تقارب الثمانين متراً إلى الشرق وقد اخترقت هذه الحفريات خلال شهر تموز يوليو 1974 الحائط الجنوبي للحرم القدسي الشريف ودخلت منه إلى المسجد الأقصى بعمق 20 متر، وأسفل جامع عمر وتحت الأبواب الثلاثة للأروقة السفلية للمسجد الأقصى والأزقة الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى، ووصلت أعماق هذه الحفريات إلى أكثر من (13) متراً وأصبحت تعرض السور والمسجد الأقصى لخطر الانهيار بسبب قدم البناء وتفريغ التراب الملاصق للحائط من الخارج إلى أعماق كبيرة، بالإضافة إلى العوامل المناخية .
· المرحلة السادسة
بدئ بها في عام 1977 وتركزت في مكان قريب من منتصف الحائط الشرقي لسور المدينة وسور الحرم الشريف الذي يقع بين باب السيدة مريم والزاوية الشمالية الشرقية من سور المدينة وتهدد أعمال الحفر في هذه المرحلة بإزالة وطمس القبور الإسلامية التي تضمها أقدم مقبرة إسلامية في المدينة وقد نتج عن هذه الحفريات مصادرة الأرض الملاصقة لإحدى هذه المقابر وإنشاء جانب من منتزه إسرائيل الوطني فيها .
· المرحلة السابعة:
وهي مشروع تعميق ساحة البراق الشريف وهي ملاصقة للحائط الغربي للمسجد المبارك وللحرم القدسي الشريف ويفضي هذا المشروع بضم أقسام أخرى من الأراضي الغربية المجاورة للساحة وهدم ما عليها وحفرها بعمق تسعة أمتار ويعرض المشروع الجديد الأبنية الملاصقة والمجاورة لخطر التصدع والانهيار ثم الهدم وتضم هذه الأبنية عمارة المحكمة الشرعية القديمة المعروفة بالمدرسة التنكرية. وعمارة المكتبة الخالدية. وزاوية ومسجد أبو مدين الغوث وكلاهما من الأوقاف الإسلامية بالإضافة إلى 35 عقاراً يسكنها ما لا يقل عن 250 مواطناً عربياً .
· المرحلة الثامنة:
تقع حفريات هذه المرحلة خلف جدران المسجد الأقصى المبارك وجنوبيها وتعتبر استئنافاً للمرحلتين الرابعة والخامسة، وقد بدئ بها سنة 1967 وتحت شعار كشف مدافن ملوك إسرائيل في (مدينة داود ويخشى ان تصدع الجدران الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك، وقد نشب حولها خلاف بين جماعة ناطوري كارتا التي تطالب بوقف الحفر وفريق الحفر التابع لوزارة الأديان .
· المرحلة التاسعة:
بتاريخ 21/8/1981 (ذكرى إحراق المسجد الأقصى) أعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلية فتح النفق الذي اكتشفه الكولونيل الإنجليزي وارين عام 1867م، ويقع ما بين بابي الحرم المسماة باب السلسلة وباب القطانين، أسفل جانب من الحرم اسمه (المطهرة) وتوغلت أسفل ساحة الحرم من الداخل على امتداد (25) متراً شرقاً وبعرض (6) أمتار، ووصلت إلى أسفل سبيل قايتباي. وقد أدت هذه الحفريات مبدئياً إلى تصدع في الأروقة الغربية الواقعة ما بين بابي السلسلة والقطانين للحرم القدسي الشريف. وقد تدخل
تدخلت دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس وأقفلت باب النفق بالخرسانة المسلحة بتاريخ 29/8/1981. وقد تم افتتاح النفق مرة أخرى عشية عيد الغفران اليهودي يوم 24/9/1996م.
محطات في تاريخ الحرم القدسي الشريف(/8)
636 فتح الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القدس وبنى مسجده في ساحة الحرم الشريف .
685 بدأ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة المشرفة .
691 الانتهاء من بناء قبة الصخرة .
693 بدأ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء المسجد الأقصى ومن ثم أتم بناءه الوليد بن عبد الملك .
705 الانتهاء من بناء المسجد الأقصى .
15/7/1099م احتل الصليبيون القدس وحولوا قبة الصخرة إلى كنيس، ورفعوا عليها صليبهم وحولوا المسجد الأقصى إلى اصطبل لخيولهم .
2/10/1187 حرر صلاح الدين الأيوبي القدس بعد انتصاره على الصليبيين، وطهر قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى من الصليبيين ورممها .
9/2/1924 احتل الجنرال البريطاني أدموند اللنبي القدس، ووقع بذلك الحرم القدسي تحت السيطرة البريطانية .
16/8/1929 بدأ ثورة البراق، والتي بدأت بعد أن دافع الفلسطينيون عن حائط البراق وتصدوا لليهود الذين حاولوا السيطرة عليه .
16/7/1948 أغار اليهود على الحرم القدسي، وأسقطت طائراتهم في أرض الحرم ستون قنبلة، أصابت إحداها مسجد قبة الصخرة، وأصابت إحداها أيضاً المسجد الأقصى .
7/6/1967 احتلت قوات الغزو الإسرائيلية مدينة القدس، ووقع المسجد الأقصى وقبة الصخرة في أيديهم، رفعوا العلم الصهيوني على قبة الصخرة المشرفة .
11/6/1967 بدء الحفريات الصهيونية أسفل الحرم القدسي وفي منطقته .
15/8/1967 الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلي شلوموغرون وخمسون من أتباعه يقيمون الصلاة في ساحة الحرم الشريف .
11/8/1969 قام سائح أسترالي يدعى مايكل روهان بتحريض من جهات يهودية متطرفة في الحكومة وفي المنظمات الإرهابية بإحراق المسجد الأقصى المبارك .
الهوامش
سورة الإسراء، الآية 1 .
أنظر صحيح البخاري، مج4، ص 117 .
نقلاً عن عرفات نظام الدين وعلي طاهر الدجاني: القدس إيمان وجهاد، (بيروت: المؤسسة العربية للدرسات والنشر، ط2 1987) ص 75 .
الموسوعة الفلسطينية (دمشق: 1984) مج 4، ص 203 .
رائف يوسف نجم، الإعمار الهاشمي في القدس، (عمان، دار البيرق للطباعة والنشر والتوزيع، 1994)، ص 33 .
علي بركات، خطر التهدم الحضاري على الحرم القدسي الشريف، ورقة عمل منشورة في كتاب يوم القدس أبحاث الندوة الرابعة 205 تشرين الأول 1993، عمان ص 208 .
رائف يوسف نجم، مرجع سابق، ص 33 .
محمد محمد حسن شراب، بيت المقدس والمسجد الأقصى دراسة تاريخية موثقة، (دمشق: دار القلم، 1994) ص 49 .
عرفان نظام الدين وعلي طاهر الدجاني، مرجع سابق، ص 73 .
المرجع السابق، ص 73 .
رائف يوسف نجم، مرجع سابق، ص 35 .
علي بركات، مرجع سابق، ص 35 .
عرفان نظام الدين وعلي طاهر الدجاني، مرجع سابق، ص 72-73 .
المرجع السابق، ص 72 .
محمد محمد حسن شراب، مرجع سابق، ص 486-487 .
عارف العارف، تاريخ قبة الصخرة والمسجد الأقصى ولمحة عن تاريخ القدس، (القدس: مكتبة الأندلس، د.ت) ص 199-202
المرجع السابق، ص 203 .
انظر المرجع السابق، ص 206-209 وانظر نظام الدين عرفان، مرجع سابق، ص 72 .
انظر محمد محمد حسن شراب، مرجع سابق، وانظر عارف العارف، مرجع سابق، ص 146 .
الموسوعة الفلسطينية (دمشق، 1984) مج3، ص 23 .
المرجع السابق، ص 23 .
عارف العارف، مرجع سابق، ص 67 .
د. شفيق جاسر أحمد محمود، تاريخ القدس والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فيها منذ الفتح الإسلامي حتى الحروب الصليبية (عمان، دار البشير، 1984)ص 201 .
عارف العارف، مرجع سابق، ص 140 .
د. شفيق جابر، مرجع سابق، ص 208 .
عارف العارف، مرجع سابق، ص 140 .
لمزيد من التفاصيل أنظر عارف العارف، مرجع سابق، ص 141-144 .
عصام عواد، قبة الصخرة المشرفة نظرة في ماضيها وحاضرها، من كتاب يوم القدس أبحاث الندوة الثانية 12-14 تشرين الأول/ أكتوبر (عمان) ص 45-46 .
محمد محمد حسن شراب، مرجع سابق، ص 487 .
عصام عواد، مرجع سابق، ص 46 .
رائف نجم، مرجع سابق، ص 40 .
عارف العارف، مرجع سابق، ص 127 .
محمد محمد حسن شراب، مرجع سابق، ص 488 .
رائف نجم، مرجع سابق، ص 43 .
الموسوعة الفلسطينية، مج 3، مرجع سابق، ص 24 .
عارف العارف، مرجع سابق، ص 128 .
المرجع السابق، ص 119 .
المرجع السابق، ص 123 .
مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين (بيروت: 1975، ج6، ق2) ص 118 .
المرجع السابق، ج9،ق2، ص 119.
د. شفيق جابر، مرجع سابقن ص 208 .
لمزيد من التفاصيل انظر عارف العارف مرجع سابق، ص 76-114، وكذلك رائف نجم، مرجع سابق، ص 62-65 .
عصام عواد، مرجع سابق، ص 49 .
د. غازي ربابعة، القدس في الصراع العربي الإسرائيلي (عمان: دار الفرقان، 1987) ص 24 .
رائف نجم، مرجع سابق، ص 64-65بتصرف .
عارف العارف مرجع سابق، ص 149.
أحمد عبد ربه البصبوص، القدس تناديكم (عمان، دار البشير للنشر والتوزيع 1995) ص 244 .
الموسوعة الفلسطينية، مرجع سابق،م 4، ص 204 .
رائف نجم، مرجع سابق، ص 38 .
عرفان نظام الدين وعلي الدجاني، مرجع سابق، ص 68 .(/9)
عارف العارف مرجع سابق، ص 184-185.
محمد محمد حسن شراب، مرجع سابق، ص 490 .
عارف العارف مرجع سابق، ص 185-187.
المرجع السابق، ص 187 .
المرجع السابق، ص 188 .
عرفان نظام الدين وعلي الدجاني، مرجع سابق، ص 69 .
الموسوعة الفلسطينية، مرجع سابق،م 4، ص 204 .
د. غازي ربابعة، مرجع سابق، ص 24 .
الموسوعة الفلسطينية، مرجع سابق،م 4، ص 204 .
المرجع السابق، ص 204 .
رائف نجم، مرجع سابق، ص 79-81 .
إبراهيم الدقاق، المدينة والمعاش: من كتاب يوم القدس أبحاث الندوة الثالثة 10-13 تشرين الأول 1992 (عمان) ص 176 .
عارف العارف مرجع سابق، ص 193.
إبراهيم الدقاق، مرجع سابق، ص 176 .
عارف العارف مرجع سابق، ص 194.
أحمد عبد ربه بصبوص، مرجع سابق، 265-266 .
المرجع السابق، ص 266 .
أنظر مايكل دمبر، سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين 1948-1988 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1994) ص 215-217 .
أحمد عبد ربه بصبوص، مرجع سابق، 266 .
أكرم زعيتر، القضية الفلسطينية (عمان) : دار الجليل للدراسات والأبحاث الفلسطينية، ط3، 1986، ص 81-82 .
لمزيد من التفاصيل أنظر المرجع السابق، ص 82-86، وكذلك وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-139 من أوراق أكرم زعيتر (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 1984) ص 322-326 .
الحق العربي في حائط المبكى في القدس تقرير اللجنة الدولية المقدم إلى عصبة الأمم عام 1923 (بيروت: مؤسسة الدارسات الفلسطينية 1968) ص 105-106 .
جامعة الدول العربية : الإدارة العامة لشؤون فلسطين، الذكرى التاسعة عشرة لإحراق المسجد الأقصى المبارك، 1988، ص6 .
محمد علي أبو حمدة، مباحث في الهجمة اليهودية على الطابع الإسلامي لمدينة بيت المقدس (عمان، مكتبة الرسالة الحديثة) 1982، ص 104-105 .
جامعة الدول العربية، مرجع سابق، ص 15 .
رائف نجم، القدس الشريف خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي 1967-1981 (عمان، المركز الثقافي الإسلامي، د.ت) ص 27-28.
روحي الخطيب، تهويد القدس (د.م 1970) ص 40 .
أحمد عبد ربه بصبوص، مرجع سابق، 255-256 .
جامعة الدول العربية، مرجع سابق، ص 15 .
أحمد عبد ربه بصبوص، مرجع سابق، 254 .
رائف نجم، الإعمار الهاشمي في القدس، مرجع سابق، ص 125.
جامعة الدول العربية، مرجع سابق، ص 15-16.
اللجنة الملكية لشؤون القدس وثائق حول الحفريات الإسرائيلية المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك (عمان) وكذلك رائف نجم، الإعمار الهاشمي في القدس، مرجع سابق، ص 119 – 123 .
المصدر: المركز الفلسطيني لللإعلام
...(/10)
الأكل في مطاعم يُشرب فيها الخمر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/الأطعمة والأشربة والصيد والذكاة
التاريخ ... 20/09/1426هـ
السؤال
دُعيتُ إلى مطعم للأكل، والمشكلة أن المطعم تُقدَّم فيه المشروبات الكحولية. فهل يجوز للمسلم الذهاب إلى تلك المطاعم للأكل؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإذا وجدت مطاعم أخرى لا تقدم فيها المشروبات الكحولية أو المأكولات المحرمة، فلا يجوز الذهاب إلى مثل هذه المطاعم؛ لأن في ذلك دعماً لها وإعانة على الإثم والعدوان، أما إذا لم توجد في البلد مطاعم تقدم الحلال، ويمكن الوصول إليها دون مشقة، فلا حرج عليك –إن شاء الله- ويتعين عليك عند الذهاب إليها أن تنصح أصحابها بالامتناع عن تقديم الحرام، ولتكن النصيحة باللين والحكمة، فإن قبل منك فالحمد لله، وإن لم يقبل نصحك فلا شيء عليك حينئذ.
وما دام المسلم لم يأكل أو يشرب حراماً، ولم يجلس على مائدة الحرام فلا إثم عليه –إن شاء الله- والمائدة المذكورة في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائده يدار عليها الخمر" أخرجه الترمذي (2801)، وغيره، هي ما يوضع على الطاولة من طعام وشراب، فمن جلس على مائدة حلال -وقريباً منه مائدة أخرى فيها خمر –فلا إثم عليه، مادام منكراً للمنكر بقلبه أو لسانه، وكثيراً ما يحصل مثل هذا في المطاعم المختلطة بين المسلمين والكفار، وخاصة في البلاد التي تعيش فيها الأقليات المسلمة في أنحاء العالم.
وفقنا الله وإياكم إلى كل خير وثبتنا عليه.(/1)
الأم مكانتها ودورها
سعود بن إبراهيم الشريم
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
جندية مجهولة
فعلى البسيطة من هذا الكون ثَمَّ مخلوقة ضعيفة، تغلب عليها العاطفة الحانية، والرقة الهاتنة، لها من الجهود والفضائل ما قد يتجاهله ذوو الترف، ممن لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، هي جندية حيث لا جند، وهي حارسة حيث لا حرس، لها من قوة الجذب ومَلَكة الاستعطاف ما تأخذ به لبَّ الصبي والشرخِ كلَّه، وتملك نياط العاطفة دقّها وجلِّها، وتحل منه محل العضو من الجسد، بطنها له وعاء، وثديها له سِقاء، وحجرها له حِواء، إنه ليملك فيها حق الرحمة والحنان، لكمالها ونضجها، وهي أضعف خلق الله إنساناً، إنها مخلوقة تسمى الأم، وما أدراكم ما الأم؟!
أم الإنسان – عباد الله – هي أصله وعماده الذي يتكئ عليه، ويرد إليه وَاللهُ جَعَلَ لَكُم من أنفسكم أَزوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم من أَزواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]. وكون الشيء أصلاً وعماداً دليل بارز بجلائه على المكانة وعلو الشأن وقوة المرجعية، ألا ترون أن أم البشر حواء، وأم القوم رئيسُهم، وأم الكتاب الفاتحة، وأم القرى مكة، وفي ثنايا العلوم كتاب الأم للشافعي رحمه الله؟!
لماذا الحديث عن الأم؟
من خلال هذه المقدمة الوجيزة عن الأم، ربما يدور بخلد سائل ما سؤال مفاده: أيوجد ثمَّ مشكلة تستدعي الحديث عن مخلوقة ليست هي بدعاً من البشر؟ أم أن الحديث عنها نوع تسلية وقتل للأوقات؟ أم أن الأمر ليس هذا ولا ذاك؟.
والجواب الذي لا مراء فيه: أن الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل إن الأمر أبعد من هذا وأجلّ، إننا حينما نتحدث عن الأم فإننا نتحدث عنها على أنها قرينةُ الأب، لها شأن في المجتمع المكوَّن من البيوتات، والبيوتات المكونة من الأسر، والأسر المكونة منها ومن بَعْلِها وأولادها، هي نصف البشرية، ويخرج من بين ترائبها نصف آخر، فكأنها بذلك أمةٌ بتمامها، بل هي تلد الأمة الكاملة، إضافة إلى ما أولاه الإسلام من رعاية لحق الأم، ووضع مكانتها موضع الاعتبار، فلها مقام في الحضانة، ولها مقام في الرضاع، وقولوا مثل ذلك في النفقة والبرِّ وكذا الإرث.
فالحديث عن الأم إذاً يحتل حيزاً كبيراً من تفكير الناس، فكان لزاماً على كل من يهيئ نفسه لخوض مثل هذا الطرح أن يكون فكره مشغولاً بها، يفرح لاستقامة أمرها، ويأسى لعوجه، ويتضرس جاهداً في الأطروحات المتسللة لواذاً؛ ليميز الخبيث من الطيب، فلا هو يسمع للمتشائمين القانطين، ولا هو في الوقت نفسه يلهث وراء المتهورين.
والمرتكز الجامع في هذه القضية، والذي سيكون ضحية التضارب والمآرب، هي أمي وأمك وأم خالد وزيد، وحينئذ يجني الأولاد على أمهاتهم، ويقطعون أصلاً وأُسًّا قرره رسول الله لرجل حين جاء يسأله: { من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك } [خرجاه في الصحيحين]. وسلام الله على نبيه عيسى حين قال: وَبَراً بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلني جَباراً شَقِياً [مريم:32].
ماذا يحدث لو غاب دور الأم؟!
إن الارتفاع بشأن الأم في أوساط الناس وفق الحدود والمعالم التي حددها الشارع الحكيم لهو من دواعي رفعة البيت المسلم، كما أن المحاولات الخبيثة في خلخلة وظيفتها التي فطرها الله عليها من حيث تشعر هي أو لا تشعر، سببٌ ولا شك في فساد الاجتماع، وضياع الأجناس، وانثلام العروة، فأزاحت الأم عن نفسها مسئولية النسل ورعايته، فأصبحت لنفسها لا لرعيتها، ومن ثم قد تُسائل هي نفسها عن السبب، وما السبب إلا ما بيَّناه آنفاً، ولعمرُ الله كم قد تحقر الأم نفسها، أو يغيب عن وعيها مكانتها وسلطانها، ولو رفعت ببصرها قليلاً في ديوان من دواوين سنة المصطفى لوجدت قول النبي : { والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده } [رواه البخاري]، ومعلوم أن الرعاية لا توكل إلا لذي قدرة وسلطان على رعيته، ومن هنا عُلم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
لقد أصبح دور الأم ضعيفاً في تربية الأبناء وتوجيههم الوجهة الصحيحة؛ بسبب جهلها، أو غلبة المفاهيم الدخيلة عليها، فانحرفت مع التيارات المناوئة لما فُطِرت عليه، فخرج كثير من الأمهات من بيوتهن، وقلَّ تدينُهن وقربُهن من الله، فحصل الإهمال وضاع العيال، ولربما سلّمت فلذات كبدها إلى أيدي خادمة غير مسلمة !! وإن كان ثم مسلمة فجهلها أضعاف جهل الأم، فكانت كالمستجير من الرَّمْضاء بالنار، والمعلوم المقرر أنه ليس لبشر أمان.
أماه … لا تنخدعي !(/1)
لقد انقاد كثير من الأمهات وراء صيحات أهل الكفر، فأُعجبت ببريق ما عندهم، وظهر النَّهم عندهن، حتى إنك لتحسه من إحداهن، فتراها كلما تقدمت في السن والإنجاب ازدادت في التشبب، ولا تزال تبتدئ من حيث انتهى أهل الكفر أنفسهم. إذاً الأم هناك تعيش تعيسة مُهَانة، لا أمل لها في ولد ولا بنت، ولربما لم تشعر بقيمة الأمومة والبنوة إلا بكلب تقتنيه، أو سِنَّور يحل في قلبها محل ابن آدم، وذلك كله ليس بمانع هذا الحيوان من أن يكون يوماً ما وريثها الوحيد دون أولادها، وأولادها في غفلة سادرين، ينتظرون خبر وفاتها بفارغ الصبر، لينعموا بما تخلفه من تركة أو عقار، وإن كانت الأم فقيرة الحال ففي دور العجزة والرعاية بالمسنين متسع لها ولمثيلاتها.
إن الذين يزدرون وظيفة ربة البيت التي هي الأم،هم جُهَّال بخطورة هذا المنصب وآثاره العميقة في حاضر الأمم ومستقبلها المشرق، بل إن أعباء هذا المنصب لا تقل مشقة ومكانة عن أحمال الرجال خارج بيوتهم، وإن القدرات الخاصة التي توجد لدى بعض الأمهات لا تبرِّر لهن إلغاء هذا المنصب، الذي لا يليق إلا لهن، ولا يلِقْن إلا له. فطرة اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ [الروم:30].
أكمل الأمهات !!
ليس أكمل الأمهات تلك الأم التي امتلأت في عقلها بصنوف من العلوم والمعارف النظرية أو التجريبية،في حين أن القلب خواء مما ينفع بيتها أو يفيده، إن مثل هذه الأم تحل بما تعلمت مشاكل وتخلق مشاكل أخرى، لا ليس نضح الأم كمثل هذا، إنما الأم هي تلك المصونة العفيفة، التي أضاءت قلبها بنور الإيمان والطاعة، والاتباع للكتاب والسنة، والتي هي لبعلها وولدها كالإلهام والقوة في إدخال السرور، والنقص من الآلام، ولم تكن الأم قط أعظم من الأب إلا بشيء واحد هو خلقها ودينها، الذي تجعل به زوجها وولدها خيراً وأعظم منها، وقديماً قيل: وراء كل رجل عظيم امرأة. فالمرأة – أيها الناس – إما زوجة حانية، أو أم مربية، أو هي في طريقها إلى هذا المصير النبيل بعد أن تشبّ عن الطوق.
دورك يا أمَّاه !!
إن تصور الأم قاعدةً في البيت لا شغل لها جهلٌ مُركَّب بمعنى الأسرة الحية، كما أن تصورها محلاً لإجادة الطهي والخدمة فحسب ضربٌ من السلوك المعوج الذي عرفته الأم الكافرة إبَّان إفلاسها الأخلاقي والأسرى، والذي أثبت من خلاله أن الأم العاطلة خير من الأم الفاسدة الخرَّاجة الولاَّجة، وأن الأمهات المحتبسات في المخادع والبيوت أشرف من اللواتي يتكشَّفن لكل عين، ولا يرددْن يد لامس أو نظرة لاحظ.
ونحن - معاشر المسلمين - لا نريد في حياتنا من خلال الواقع المرير أن نوازن بين شرين، لنختار أحدهما أو أخفهما، كلا بل إننا نريد أن نحقق ما طالبنا الإسلام به، من إقامة أسرة مستقيمة يشترك الجنسان معاً في بنائها، وحمل تبعاتها على ما يرضي الله ورسوله، ليتحقق فينا قول الباري جل وعلا: وَالذِينَ ءامَنُوا وَاتبَعَتهُم ذُريتُهُم بِإِيمانٍ أَلحَقنَا بِهِم ذُريتَهُم وَمَا أَلَتنَاهُم من عَمَلِهِم من شيء كُل امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
يقول وكيع بن الجراح: قالت أم سفيان المحدِّث لولدها سفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه وإلا فلتتبعني. هذه هي أم أمير المؤمنين في الحديث.
وقبل ذلك حذيفة بن اليمان تسأله أمه: يا بني، ما عهدُك بالنبي ؟ قال: من ثلاثة أيام، فنالت منه وأنَّبته قائلة: كيف تصبر يا حذيفة عن رؤية نبيك ثلاثة أيام؟.
وذكر ابن سعد في طبقاته الكبرى عن إسحاق بن عبد الله، عن جدته أم سليم رضي الله عنها أنها آمنت برسول الله ؛ قالت: فجاء أبوأنس – وكان غائباً – فقال: أَصَبَوتِ؟ قالت: ما صبوت، ولكن آمنت بهذا الرجل. قالت: فجعلت تلقِّن أنساً وتشير إليه: قل لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمداً رسول الله، ففعل، قال: فيقول لها أبوه: لا تفسدي عليَّ ابني، فتقول: لا أفسده، فلما كبر أتت به النبي وقالت له: هذا أنس غلامك، فقبَّله النبي .
لقد قامت الأم بدورها الريادي في التربية والتوجيه، متمثلاً في شخصيات وسلف هذه الأمة لا تعد حصراً، إيمان بالله، وحسنُ تربية، ولا تفسدُ على زوجها إصلاحَ بيتها، تطلعه على كل ما من شأنه إصلاح البيت المسلم، بيتها دار الحضانة الأسمى، لا دور الحضانة المنتشرة في آفاق المسلمين، والتي ينبغي ألاَّ تُقبل إلا في الضرورات الملجئة.
في الخنساء عبرة وعظة
أيتها الأم المسلمة.. أيها الأب المسلم:(/2)
في سير الأسلاف عظةٌ، وفي مواقفهم خير وعبرة، والخنساء رضي الله عنها عُرفت بالبكاء والنواح، وإنشاء المراثي الشهيرة في أخيها المتوفَّى إبان جاهليتها، وما أن لامس الإيمان قلبها، وعرفت مقام الأمومة ودور الأم في التضحية والجهاد في إعلاء البيت المسلم ورفعة مقامه عند الله، وعظت أبناءها الأربعة عندما حضرت معركة القادسية تقول لهم: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لابْنُ أبٍ واحد وأم واحدة، ما خبث آباؤكم، ولا فُضحت أخوالكم. فلما أصبحوا باشروا القتال واحداً بعد واحد حتى قُتلوا، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
هذه هي الخنساء فأين جملة من رائدات نهضة الأمومة منها؟ هذه هي الخنساء فأين المتنصِّلاتُ عن واجب الأمومة منها؟ إن جملة منهن – ولاشك – أقصر باعاً وأنزل رتبةً من أن يفقهن مثل هذا المثل، ربما كرهت إحداهن أن تكون أُمًّا لأربعة، ولو تورطت بهم يوماً ما لما أحسنت حضانتهم وتربيتهم، فلم تدرك ما ترجو، ولم تنفع نفسها ولا أمتها بشيء طائل، وكفى بالأم إثماً أن تضيِّع من تعول. وفي مثل الخنساء تتجلى صورة الأمومة على وجهها الصحيح، وما ذاك إلا للتباين الذي عاشته في جاهليتها وإسلامها، ومن هنا يظهر عظم المرأة، ويظهر تفوقها على رجال كثير مع أنوثتها وقصورها عن الرجل، ولو كانت الأمهات كأم سليم، وعائشة، وأم سلمة، والخنساء، لَفضُلتْ النساء على كثير من الرجال في عصرنا الحاضر. فالصالِحاتُ قانِتاتٌ حَافِظَاتٌ للغَيبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ [النساء:34].
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن للأم مكانة غفل عنها جُلّ الناس بسبب ضعف الوازع الديني المنجي من الوقوع في الإثم والمغبَّة، وعلينا جميعاً أن نعلم أن الأم خير حانية، لطيفة المعشر، تحتمل الجفوة وخشونة القول، تعفو وتصفح قبل أن يُطلب منها العفو أو الصفح، حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، يزيدها بنموه ضعفاً، ويحمِّلها فوق ما تطيق عناء، وهي ضعيفة الجسم، واهنة القوى، تقاسي مرارة القيء والوحام، يتقاذفها تمازج من السرور والفرح لا يحسّ به إلا الأمهات، يتبعها آثار نفسية وجسمية، تعمل كل شيء اعتادته قبل حملها بصعوبة بالغة وشدة،تحمله وهناً على وهن، تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثم تأتي ساعة خروجه فتعاني ما تعاني من مخاضها، حتى تكاد تيأس من حياتها، وكأن لسان حالها يقول: يا لَيتَني مِت قَبلَ هَذَا وَكُنتُ نَسياً منسِياً [مريم:23]. ثم لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين غلاً قسراً وإرغاماً، فيمزق اللحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرته إلى جانبها نسيت آلامها، وكأن شيئاً لم يكن إذا انقضى، ثم تعلِّق آمالها عليه، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، والذي تفقهه من قوله تعالى: المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدنيَا [الكهف:46]، ثم تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، تغذِّيه بصحتها، وتنميه بهزالها، تخاف عليه رقة النسيم وطنين الذباب، وتؤْثِره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة، تقاسي في إرضاعه وفطامه وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها.
تقول عائشة رضي الله عنها: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله فقال: { إن الله قد أوجب لها الجنة – أو أعتقها من النار } [رواه مسلم]. الله أكبر.. ما أعظم الأم الصادقة المسلمة !!.
لا للعقوق
ألا فليتق الله الأولاد، وليقدِّروا للأم حقَّها وبرَّها، ولينتهين أقوام عن عقوق أمهاتهم قبل أن تحل بهم عقوبة الله وقارعته، ففي الصحيحين يقول النبي : { إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات }، وعند أحمد وابن ماجة أن النبي صلى الله عيله وسلم قال: { إن الله يوصيكم في أمهاتكم } قالها ثلاثاً، وعند الترمذي في جامعه عن النبي قال: { إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء… وذكر منها: وأطاع الرجل زوجته وعقَّ أمه }.
ولا بطلقة واحدة
ألا لا يعجبنَّ أحدٌ ببره بأمه، أو يتعاظم ما يسديه لها، فبرُّها طريق إلى الجنة.
جاء عند البيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد: "أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري حدّث: أنه شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلَّل *** إن أُذعرت ركابها لم أُذعر
الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ قال ابن عمر: لا، ولا بزفرة واحدة!".
ليس هكذا تُكرم الأم!!(/3)
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أنه ينبغي التنبيه إلى مكانة الأم. وواجب الأولاد والمجتمع تجاهها لا يعني خرق حدود الشريعة أو تجاوزها، إذ تلك حدود الله فلا تعتدوها، فالأم لا تُطاع في معصية الله، ولا يُقدَّم قولها على قول الله ورسوله، ولا ينبغي أن يُتشبَّه بأهل الكفر في طقوسهم ومراسيمهم مع الأم، والتي هي ليست من نهج الإسلام في شيء،حيث يعملون لها يوماً في السنة هو يوم البر بها، يقدمون لها فيه شيئاً من الزهور أو الطيب ونحو ذلك، يسمونه عيد الأم، وهذا من البدع المنكرة التي يكتنفها آفتان:
أولاهما: تقليد أهل الكفر: ورسول الله نهانا عن التشبه بهم، وأمرنا بمخالفتهم، ومن أبى فقد قال عنه : { ومن تشبه بقوم فهو منهم }، حتى لقد قال اليهود عنه: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه [رواه مسلم].
وثاني الأمرين: هو إحداث عيد واحتفال لا يُعرف في أعياد المسلمين: وما للمسلمين إلا عيدان: عيد فطر، وعيد أضحى، وما عدا ذلك من أعياد للأم واحتفالات، أو أعياد للميلاد أو للبلوغ أو للكهولة أو للشيخوخة، كل ذلك مما أُحدث في الدين، وحرّمه علماء الملة. فكل احتفال أو عيد لم يدل الشرع عليه فهو بدعة محدثة، ورضي الله عن ابن عباس حين قال: { ما أتى على الناس حتى أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن }.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
الأم موصل جيد للعقيدة ... هل أنت أم ناجحة؟
مفكرة الإسلام: لا نستطيع أبداً أن نغفل الدور الكبير للأم في تربية أولادها، ومع أنها شريكة الرجل في هذه المسئولية الكبيرة إلا أن نصيبها أوفر وأهم من الرجل، وذلك لأن الأم هي التي حملت ثم وضعت ثم أرضعت، فضلاً عن وجودها وقتًا أكبر من الرجل.
وتأملي معي عزيزتي الأم المسلمة الموقف التالي لأم من الأمهات المسلمات:
جاء والد أنس وكان غائبًا وغير مسلم فقاله لزوجته: أصبوتِ؟
قالت: ما صبوت ولكنت آمنتُ بهذا الرجل، وجعلت تلقن أنسًا وتشير إليه قل: لا إله إلا الله ، قل أشهد أن محمدًا رسول الله .
وكان الولد يردد ما تقول له أمه، وكان والد أنس يقول لها: لا تفسد عليّ ابني؟
فتقول: إني لا أفسده.
أتدرين من هذا الزوج؟ ومن هذه الزوجة؟ ومن هذا الابن؟
هذا الزوج هو مالك بن النضر أبو أنس وقد كان مشركًا، وزوجته آمنت برسول الله وقد قال لامرأته أم سليم: إن هذا الرجل ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ يُحرّم الخمر فانطَلَق حتى أتى الشام فهلك هناك.
وهذه الزوجة الأم هي أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها وقد لُقبت بالرميصاء وقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ففي رواية البخاري: 'دخلتُ الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة' وفي روايه لمسلم: 'أريتُ الجنة فرأيتُ امرأة أبي طلحة'.
وقد عكفّتْ أم سليم رضي الله عنها على ابنها أنس تلقنه الشهادة وتحوطه بالرعاية حتى يكبر، مخافة أن يصيبه ضرر بسبب زواجها الجديد أو على الأقل تنشغل عن تربيته التربية التي تريدها له، وكانت تقول:
'ولا أتزوج حتى يأمرني أنس فيقول: قد قضت الذي عليها'.
وقد اعترف أنس فعلاً بعد ذلك لها بأنها لم تنشغل عنه في حضانته وطفولته فقال:
'جزى الله أمي عني خيرًا ، لقد أحسنت ولايتي'.
وهذه الأم هي صاحبة القصة المشهورة الله مات ابنها الصغير وقد سجّته في جانب من جوانب البيت وجاء أبو طلحة الأنصاري زوجها ليلاً وكان غائبًا فسأل عن ابنه المريض فقالت له: هو أسكن مما كان وأرجو أن يكون قد استراح. ثم جهّزت له العشاء وتصنعّت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فما كان منه إلا ما يكون من الرجل إلى أهله.
فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا قومًا عارية لهم، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا.
قالت: فإن الله كان أعارك ابنك عارية ثم قبضة إليه، فاحتسب واصبر.
هي هي هذه الأم المسلمة عندما تقدّم لها أبو طلحة يطلب الزواج منها قالت له:
'لم أكن أتزوجك وأنت مشرك .. فهل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأزوجك نفسي، لا أريد منك صداقًا غيره'.
وبالفعل أسلم أبو طلحة وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام من الرميصاء وقيل: ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم في الإسلام.
والقصة مشهورة في سير أعلام النبلاء.
أما هذا الابن الذي كانت تلقنه أمه الشهادة فهو الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر الأنصاري رضي الله عنه خادم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكانت أمه قد أتت به وهو بن عشر سنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقالت له: هذا غلام يخدمك. فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وكنّاه بأبي حمزة ، ولازم الغلام رسول الله ملازمة شديدة، ما فارقه فيها أبدًا، وخدم أنس النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وشهد معه ثماني غزوات، وصلى معه إلى القبلتين.
فلا غرابة إذن أن تكون هذه الأم العظيمة التي أسلمت قبل زوجها، هي هي التي تُلقن ابنها الصغير أنس الشهادة وتقوم بدورها التربوي في توصيل العقيدة من قلبها المفعم بالإيمان إلى ابنها الصغير، وتكون هي هي التي اشترطت الإسلام لها مهرًا للزواج من أبي طلحة الأنصاري، وهي هي التي صبرت على فقد طفلها الصغير ومع ذلك تهيأت لزوجها الغائب وكان منه ما كان بين الرجل وأهله وهي المكلومة الحزينة على وفاة ابنها، ولكنه الإيمان الذي يشع نوره في جنبات قلبها فيظهر على السلوك والأفعال.
وهي هي ذات الأم التي دفعت بانها أنس صاحب العشر السنوات ليتشرف بأعظم شرف وهو خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته الشريفة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
الأسس التربوية للتنشئة الإيمانية:
على الأم المسلمة تنشئة الأبناء إيمانيًا على هذه الأسس التالية وتكون منذ الطفولة:
1- تلقين الطفل كلمة التوحيد.
2- تعليم الطفل القرآن الكريم وربطه به.
3- احترام أسئلة الطفولة المحرجة.
4- تقريب المعنى الغيبي إلى ذهن الطفل حتى يكاد يراه ويلمسه.
5- غرس روح الخشوع والعبودية لله في نفس الطفل.
6-تربية روح المراقبة لله تعالى والخشية في نفس الطفل.
7- استشعار الطفل باستمرار حاجته لله تعالى والاستعانة به.
8- تربية الطفل إيمانيًا عن طريق القصص الهادفة.
9- التركيز على جوانب العقيدة المؤثرة في قلب الطفل.
10- تجنب الطفل الأخطاء العقدية والخرافات.(/1)
11- تربية الطفل على الاستسلام لله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
12_ غرس الاغتزاز بالانتماء إلى الاسلام في نفس الطفل.
13- تنشأة الطفل على عبادة الله عز وجل وأداء الشعائر الدينية وربطه بالنوافل.
14- تنشأة الطفل إيمانيًا من خلال آداب الطعام والشراب وغيرها.
الأم المسلمة التي تربي أولادها التربية الإيمانية الصادقة والصحيحة تساهم في تكوين جيل مسلم مؤمن، معتز بدينه، لأنه تربى منذ نعومة أظفاره على الإيمان بالله، والخشية منه، والمراقبة له، والاعتماد عليه، والاستعانة به، والتسليم لأمره.
فتنمو عنده الملكة الفطرية لتقبل كل فضيلة والتعود على كل خلق كريم، وإقباله على الخير يصبح عادة من عاداته.
ولا تنسي عزيزتي الأم المسلمة هذه القاعدة 'عودوا أولادكم الخير فإن الخير عادة'.
عزيزتي الأم المسلمة كيف تحقق الأم الصحة النفسية لأبنائها هذا ما سنعرفه في المقال التالي فتابعي معي وفقك الله.(/2)
الأمالي المكية
على
المنظومة البيقونية
إملاء:
أبي عبد الله سليمان بن ناصر العلوان
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ المصنف ـ رحمه الله ـ منظومته بالبسملة (1) اقتداءً بالكتاب العزيز، وتأسياً بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في مراسلاته ومكاتباته، وكذلك التسمية يبتدئ بها في أي أمر مهم شرعاً كالوضوء والأكل، ( كما في الحديث الصحيح ) ولذلك أوجب التسمية غير واحد من أهل العلم عند الأكل وهو ظاهر النصوص، (( وأحاديث الأمر صحيحة صريحة ولا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها ))((2 )).
ـ وروى الحاكم بسنده في مستدركه (( بسم الله الرحمن الرحيم )): اسم من أسماء الله، وسنده باطل وإنما ذكرناه لننبه عليه حتى لا يغتر به.
انظر مواطن البحث على ((البسملة)) في تفسير ابن جرير ج1/50 ـ 59. وتفسير البغوي ج1/37 ـ 39، والبيان لابن الأنباري ج1/31 ـ 34، وزار المسير لابن الجوزي ج1/ 7 ـ 9، والتبيان في إعراب القرآن للعكبري ج1/3 ـ 4، وتفسير القرطبيج1/91 ـ 107، ومعاني القرآن للنحاس ج1/50 ـ 56، والكشف عن وجود القراءات السبع للقيسي ج1/13 ـ 24، وتفسير ابن كثير ج1/ 17 ـ 23، الدار المصون ج1/13 ـ 35، الحلبي )) وروح المعاني للآلوسي ج1/39 ـ 67.
أبدأ بالحمد مصليا على محمد خير نبي أرسلا
ـ ثم ثنى المصنف ( بالحمد(1) لله ) والعلماء تارة يفتحون مصنفاتهم بالحمد، وبعضهم بالبسملة، وأفضل ما يستفتح به، خطبة الحاجة لأن النبي، صلى الله عليه وسلم ، كان يستفتح بها، فروى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وابن الجارردو وغيرهم عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: علمنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة، فقال والتشهد في الحاجة أن يقول: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يرقأ ثلاث آيات من القرآن، اتقوا الله تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا، اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.
وحمد الله سبب من أسباب إجابة الدعاء، ويدل على ذلك حديث فضاله بن عبيج ـ رضي الله عنه(2)
(1)انظر الكلام على ((الحمد)) في تفسير ابن جرير ج1/59 ـ 62، ومعاني القرآن للنحاس ج1/57 ـ 59، والمفردات للرغب.ص (( 131 )) والأذكار النووية ج3/285 ـ 268 ـ الفتوحات الربانية، ومدارج السالكين ج2/256، وبدائع الفوائد ج2/92 ـ 96، وغذاء الألباب للسفاريني ج1/10 وتفسير ابن كثير.
(2)ولفظه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم، رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره، إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد ما شاء)) وفي رواية: يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصل... الحديث رواه أحمد والترمذي وصححه أبو داود وغيرهم.
والحمد لغة: الثناء.
وشرعاً الثناء على المحمود بالصفات اللازمة والمتعدية.
وصفات الله ـ عز وجل ـ تنقسم إلى قسمين :
1- صفات لازمة/ كالحياة والعلم، والسمع، والبصر، والوجه، وغيرها.
2- صفات متعديه/ كالرضى والحب والكره وغيرها.
والله ـ تعالى ـ يحمد بما له من الصفات اللازمة، والمتعدية، وأما الشكر فلا يشكر إلا على الصفات المتعدية لا الصفات اللازمة، ومن هذه الحيثيه صار الحمد أعم من الشكر، ومن جهة أخرى أن الحمد يكون باللسان، والقلب، والشكر يكون باللسان والقلب، والجوارح.
فمن هذه الحيثية صار الحمد أخص والشكر أعم.
قوله: { مصلياً } اقتداء بقوله ـ تعالى ـ: (( يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )).
وأظهر أقول العلماء أن الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، واجبة كلما ذكر فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، : (( رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي )).
ومعنى رغم أي لصق بالرغام وهو التراب وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم، دعاء على من لم يصل عليه إذا ذكر.
( 1 ) انظر هذا البث محرراً في تفسير القرطبي ج14/232 ـ 236، والأذكار النووية ج3/318 ـ 326 ـ الفتوحات الربانية )). وجلاء الأفهام لابن القيم ص (( 214 ـ 223 )) القول البديع للسخاوي ص (( 244 ـ 245 )) وروح المعاني للآلوسي ج11/81 ـ 83 ** وتفسير القاسمي ج13/4901)).
فائدة
قام الإجماع على أن أفضل الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم، (1).(/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه، في الاختيارت(2): وقع النزاع في أنه وحده: هل هو أفضل من جملتهم؟ قطع طائفة من العلماء بأنه وحده أفضل من جملتهم)).. وقد جاء في فضله على سائر الأنبياء، ما أخرجه مسلم في صحيحه وفيه: (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة )).
-أما حديث: (( ولا تفضلوا بين أنبياء الله )). وحديث: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) المتفق عليهما فهما محمولان على التواضع منهـ صلى الله عليه وسلم ـ والنهي عن التخير في هذين الحديثين إذا كان على وجه الإزراء ببعضهم، والإخلال بحقوقهم.
- وخير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أن يكون عبداً ورسولا، أو يكون ملكاً نبيا (3)، فقال له جبريل عليه السلام ـ تواضع لربك يا محمد ـ قال/ (( بل عبداً ورسولا )).
(1 ) انظر الاختيارات ص (( 57 )).
(2) ص (( 57 ))
(3) رواه أحمد في مسنده ج2/231. وابن حبان في صحيحه رقم (( 2137)) موارد الضمان. والبزار وأبو يعلى ورجال الأولين رجال الصحيح)). والحديث سنده على شرط الشيخين.
وذي من أقسام الحديث عدة
- قوله: { وذي }. بمعنى هذه و( عدة ) خبر ( ذي )
- قوله { من أقسام الحديث عدة}.
- أقسام الحديث ثلاثة(1):
حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث ضعيف، وذهب بعضهم إلى تقسيم الحديث إلى قسمين: حديث صحيح، وحديث ضعيف، وقالوا إن الحسن يندرج تحت الصحيح، والموضوع تحت الضعيف، وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في الأمر فليس هنالك إلا صحيح أو ضعيف، كما قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ ولكن في إصلاح المحدثين فالمشهور هو الأول.
والحديث: ضد القديم في اللغة.
أما في الاصطلاح: فهو ما يشتمل على أقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى أفعاله وتقريراته.
(1 ) انظر هذا البحث محرراً في مقدمة ابن الصحاح ص ((18 ـ التقيد والإيضاح )) والباعث الحيث ص ((17)) والتقريب للنووي ج1/62 ـ تدريب الراوي)) وألفية العراقيج1/12 ـ التبصر والتذكرة)) وفتح المغيث للسخاوي ج1/14 ـ 15)). والمختصر في أصول الحديث للجرجاني ص((33 ـ 41 )) وكتاب الدرر حاشية نخبة الفكر..
وكل واحد أتى وحده
... ... أولها الصحيح وهو ما اتصل إسناده ولم يشذ أو يعل
_قواه [كل واحد أتى وحده] بمعنى:كل واحد من أقسام الحديث أتى وله حد 0فمثلاَ:
أولا:الصحيح(1)، وهو ما توافرت فيه خمسة شروط وهي:
1-عدالة الرواة
2-تمام الضبط
3-اتصال السند
4-عدم العلة(كالانقطاع،وكوقف موصول ،وكوصل مرسل ،و)0
5-عدم الشذوذ وهو:مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه 0
ـ مثال للصحيح : وهو عند البخاري حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال حدثنا شعبة قال عن عبد العزيز بن صهيب قال :سمعت أنساَ يقول :كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم –
إذا دخل الخلاء قال:(( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث))0خرجه السبعة والسند للبخاري(2).
(1)انظر:بحثه محرراً في المداخل إلى كتاب الإكليل للحاكم ص((29ــ35))0ومعالم
السنن للخطابي ج1/11، وشرح علل الترمذي لابن رجب ج2/576-577]
والموقظة للذهبي ص((24-26))والاقتراح لابن دقيق العيد ص((5)) والنكت على كتاب ابن الصلاح ج1/234))وانظر كتابي 0إيقاف اللبيب على حكم العمل بالحديث الضعيف والدرر حاشية نخبة الفكر))
(2) البخاري (( باب ما يقول عند الخلاء)) ج1242 ـ فتح الباري )). ومسلم ج4/70 شرح النووي)) وأبو داود ج1/21 ـ عون المعبود )) والترمذي ج1/42 ـ تحفة، والنسائي ج1/20)) وابن ماجه ج1/109)) وأحمد في مسندهج3/99)).
يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد ضبطه ونقله
والحسن المعروف طرقا وغدت رجاله لا كالصحيح اشتهرت
ثانياً: الحسن(1)، ويشترط في شروط الصحيح إلا أنه يكون أقل منه رتبه وسيأتي ـ إن شاء الله ـ.
مثال الحسن: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وأيضاً حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذان من ارفع الحديث الحسن.
وقد زعم بعضهم أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ضعيف بحجة أنه عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص، فجده الأدنى محمد وهو تابعي فيكون الحديث مرسلاً لأن المراد بجده هو محمد، وإن أراد جده عبدالله فشعيب لم يلقه فيكون منقطعاً)) قال الذهبي(2): (( هذا لا شيء لأن شعيباً ثبت سماعه من عبدالله وهو الذي رباه حتى قيل أن محمداً مات في حياة أبيه عبدالله فكفل شعيباً جده عبدالله، فإذا قال عن أبيه ثم قال عن جده، فإنما يريد بالضمير في جده أنه عائد إلى شعيب)).
وقد خرج البخاري لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في صحيحة (3 ) معلقاً بصيغة الجزم وهو أول حديث من كتاب اللباس.(/2)
قال النووي ـ رحمه الله ـ(4): ذهب أكثر المحدثين إلى صحة الاحتجاج وهو الصحيح المختار روى الحافظ عبدالغني بن سعيد المصري بإسناده أنه سئل أيحتج به، فقال رأيت أحمد بن حنبل و وعلي بنالمديني، والحميدي، وإسحاق بن راويه يحجون بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، وذكر غير عبدالغني هذه الحكاية ثم قال: قال البخاري من الناس بعدهم ))، وذكر الذهبي في الموقظة (5)، رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، (( في أعلى مراتب الحسن )) وقال في الميزان(6) (( هو من قبيل الحسن ))، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الفروسية(7):
ولقد أحسن الترمذي كل الإحسان إذ صحح حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأطال النووي ـ رحمه الله ـ الكلام على تحسين حديث عمرو بن شعيب في مقدمة المجموع (8) وهو الصواب الذي لا معدل عنه.
(1) انظر بحث محرراً في. معالم السنن ج1/11)) والتقريب للنوويج1/153 ـ 165 ـ تدريب الراوي))، والاقتراح لابن دقيق العيد ص(7 ـ 11) والموقظة للذهبي ص(26 ـ 33)) وكتابنا الدرر حاشية نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر.
(2) ميزان الاعتدال ج3/266.
(3) ج10/252 ـ فتح الباري )).
(4) المجموع شرح المهذب ج1/65.
(5) ص((32))
(6) ج3/268.
(7) ص (( 136 )).
(8) المجموع ج1/65 وانظر ميزان الاعتدال ج3/263 ـ 286)). وتهذيب التهذيب ج8/85 ـ 59)) وتنقيح التحقيق ج1/452، وج2/1381، والتنكيل ج2/116 ـ 118 )) وتعليق الشيخ أحمد شاكر على الترمذي ج2/140 ـ 144)).
وكل ما عن رتبة الحسن قصر فهو ضعيف وهو أقساماً كثر
مسألة:
أجمع العلماء على العمل بالحديث الصحيح، والحديث الحسن ولا يجوز معارضة الحديث إذا صح (( برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائناً كان ))(1)، ولا يجوز التوقف عن العمل به بحجة: (( لم يعمل به فلان، وفلان قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (( لا يعرف إمام من أئمة المسلمين البتة قال لا يعمل بحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى نعرف من عمل به ))(2).
الحديث الضعيف(1)
وهو ما قلت رتبته عن الحسن، وهو ما كان في السند أحد عشرة أشياء تتعلق بالضبط وخمسه تتعلق بالعدالة.
فالأشياء التي تتعلق بالضبط هي:
فحش غلطه.
غفلته.
سوء حفظه.
مخالفته.
وهمه.
وخمسة أشياء باقية تتعلق بالعدالة وهي:
فسقه وهذا القسم ينقسم إلى قسمين:
مخرج عن الملة كقوله ـ تعالى ـ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون )(2).
غير مخرج من الملة كقوله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا)(3).
كذب الراوي.
تهمته بذلك.
بدعة الراوي.
جهالة الراوي.
والحديث الضعيف له ثلاث حالات:
أن يكون ضعيفاً.
أن يكون شديد الضعف.
أن يكون موضوعاً.
* * أمثلة لقوم من الرجال أحاديثهم دائرة بين الضعف والضعف الشديد.
1- الحجاج بن أرطأة.
علي بن زيد بن جدعان.
رشدين بن سعد.
حميد الأعرج القاص.
عطية العوفي.
عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
أحاديث المدلسين الثقات إذا لم يصرحوا بالسماع واشتهروا بالتدليس، مثال الحديث الضعيف.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.....))(4)، الحديث في إسناده أبوبكر بن أبي مريم، وهو ضعيف الحديث، ولما قال الحاكم: هذا حديث صحيح تعقبه الذهبي بقوله: لا والله أبوبكر: (( بن أبي مريم )) واه، وقال عنهفي موضع آخر(5)((مجمع على ضعفه )).
2- وكذلك حديث: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) رواه الترمذي وغيره، وفي سنده أبو السمح.
عن أبي الهيثم، وأبو السمح صدوق ولكن روايته عن أبي الهيثم فيها ضعف.
- قوله { كثر}: يدخل في ذلك المنقطع والمعضل والمدلس.
(1) تهذيب السنن ج2/421 ـ عون المعبود)).
(2) انظر مراجعة ص15.
(3) السجدة آية 18.
* الحجرات آية6
(4) رواه الترمذي في صفة القيامة ج7/115 ـ تحفة الأحوذي)) وأحمد في المستدرك ج4/124)) وابن ماجه ج2/1423، والحاكم في مستدركه ج1/75)).
(5) المستدرك ج1/309.
{قوله ، وما أضيف.....}.
شرح المصنف ـ رحمه الله ـ يعر ف الحديث المرفوع سواء كن ظاهر الإتصال أم لا، فإذا أضيف إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو مرفوع ويدخل في ذلك المعضل والمنقطع والمرسل، وأما إن قيل هذا حديث مسند فيشترط فيه الإتصال وعدم الانقطاع فيخرج بذلك المرسل.
ومثال مرفوع كأن يقول أبو هريرة، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا من قبيل المرفوع.
المقطوع(1)
هو ما ينتهي إلى التابعي ومن دونه، كقول الحسن: (( لا يحل السحر إلا الساحر)). وفرق بين الحديث المنقطع والحديث المقطوع، فالمنقطع يتعلق بالسند والمقطوع يتعلق بالمتن، وقد استعمله الشافعي ـ رحمه الله ـ في المنقطع ولكن قيل وذلك قبل استقرار الاصطلاح، وقول التابعي ومن دونه يسمى مقطوعاً سواء كان أمراً غيببياً أم لا.
مثال لقول التابعي أمراً غيببياً:(/3)
عن سعيد بن جبير قال: (( من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة )). رواه بان أبي شبيه في المصنف ج5/36 ـ والإمام وكيع، وهل قول التابعي إذا كان لا مجال للاجتهاد فيه له حكم الرقع أم لا.
قولان لأهل العلم، أظهر ما عندنا، أنه ليس له حكم الرفع والله أعلم.
وأما قول التابعي بما ليس بأمر غيبي فهو كقول محمد بن سيرين: (( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)). رواه مسلم في مقدمة صحيحة.
وهناك حالة ثالثة لقول التابعي وهي أن يخبر أنهم كانوا يفعلون كذا
وكذا، مثاله: ما رواه ابن أبي داود وغيره عن إبراهيم النخعي قال: (( كانوا يتحبون أن يقرؤوا هؤلاء السور في كل ليلة ثلاث مرات: قل هو الله أحد والمعوذتين)) وسنده صحيح.
(1) مراجعة (( مقدمة ابن الصلاح ص66))، والتقييد والإيضاح، والتقريب للنووي ج1/194 ـ تدريب الراوي)) ونزهة النظر ص57 والنكت على كتاب ابن الصلاح ج2/514 وفتح المغيث ج1/ 110 ـ 111.
والمسند المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن
قوله { المسند }(1)
وهو ما اتصل على إسناده من مخرجه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا التعريف الذي جرى عليه الحاكم في معرفة علوم الحديث.
قوله { ولو لم يبن }: أي لم ينقطع، فإذا قيل هذا حديث حسن مسند خرج بذلك كل من المنقطع، والمعضل والمرسل،والمدلس الظاهر والموقوف، على ما تقدم تعريفه.
قال ابن حجر في النكت: ت(( والذي يظهر لي بالإستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم أن المسند عندهم ما إضافة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه بسند ظاهر الإتصال)).
(1) مراجعة الكفاية للخطيب ص58، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 17 ـ 19)). والتقريب للنووي ج1/182 ـ تدريب الراوي)) النكت للحافظ ابن حجر ج1/505 السخاوي ج1/104 والدرر الحاشية نخبة الفكر.
فصل
روى مسلم في مقدمة الصحيح(1) عن عبدالله بن المبارك أنه قال: (( الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)).
وقال سفيان الثوري: (( الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل))(2)، وقال شعبة: (( كل حديث ليس فيه سمعت قال ((سمعت)) فهو خل وبقل))(3)، والإسناد من خصائص هذه الأمة المحمدية، وهذا من حفظ الدين، ولذلك كانت الأمم السابقة ليس لها إسناد فبدلت شريعتهم وغيرت، أما هذه الأمة فحفظ لها دينها.
فإذا صح الإسناد فهو الغاية, عن لم يصح فلا يجوز عزوه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه من جملة الكذب عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(1) ج1/78 ـ نووي)).
رواه ابن حبان في المجروحين ج1/27)) والحاكم في المدخل إلى كتاب الإكليل ص24.
(3) رواه الخطيب في الكفاية ص454.
وهناك آداب يجب أن تراعى عند رواية الحديث بأقسامه وهي(4):
إذا روى حديثاً صحيحاً يجب أن يقول الراوي: قال أو فعل أو قضى أو حكم وذلك بصيغة الجزم لأنها تقضي بصحة الحديث، وإن كان الحديث ضعيفاً فيجب عليه أن يقول: قيل أو روي أو حكي وذلك بصيغة التمريض لأنها تقضي بضعف الحديث، وعدم صحته إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما الموضوع، فلا يجوز ذكره بالحال إلا مع بيان وضعه.
وهذه الآداب أخل بها الكثير من الفقهاء.
فضلاً عن غيرهم ويقولون فيما صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يروي أو روي بصيغة التمريض وفي الحديث الضعيف يقولون: قال أو لنا قوله ونحو ذلك من صيغ الجزم، وهذا خطأ يجب تداركه وتحاشيه، فعلى كل طالب علم أن يراعى المصطلحات العلمية التي وضعها المحدثون كي يسير على قواعدهم بينه وبرهان ويخرج عهدة الكذب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن من قال في الحديث الضعيف قال النبي بصيغة الجزم فقد كذب والله أعلم.
(4) راجع (( المجموع للنووي ج1/63))، ورسالتنا الإعلام بوجوب التثبت في رواية الحديث...) وأحكام أهل الذمة للعلامة ابن القيم ج1/20)).
وما بسمع كل راو يتصل إسناده للمصطفى فالمتصل
{ المتصل } (1):
والمتصل: هو الذي يسمعه كل راو إلى منتهاه. قال الذهبي: المتصل ما اتصل إسناده من الانقطاع ويصدق ذلك على المرفوع والموقوف، وقول الناظم: ( للمصطفى ) ظاهرة أن الموقوف لا يدخل فيكون المسند والمتصل متساويين في التعريف، ولكن قال الزقاني: (( وقد علمت مما قررنا أن (( المصطفى )) متعلق بمحذوف هو كان وأن قوله: (( يتصل إسناده )) متعلقه محذوف لا قوله (( للمصطفى )) لأن مطلق المتصل كما قال ابن الصلاح وغيره يقع على المرفوع، والموقوف)). ويمثل للمتصل بما لو قال البخاري مثلاُ. حدثنا عبدالله بن يوسف قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، فهذا الحديث متصل موقوف وهو من أقى أحاديث الإتصال، فليس في سنده اتصال.
فكل من رواته سمع من الآخر، علاوة على ذلك أنهم أئمة حفاظ ثقات، وللبخاري أحاديث بهذا السند في صحيحة مرفوعة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.(/4)
(1) مراجعه (( مقدمة ابن الصلاح ص65 ـ التقييد والإيضاح))، والموقظة للذهبي ص42 وفتح المغيث ج1/107)) وشرح الزقاني على البيقونية ص36 ـ 37)).
مسلسل قل ما على وصف أتى مثل أما والله أنبأني الفتى
{ المسلسل}(1):
وهو ما كان سنده على صفة واحدة من صيغ الأداء مثل لو قال البخاري مثلاً: حدثني عبدالله بن يوسف قائماً، قال حدثن مالك قائماً، وهكذا حتى ينتهي السند.
مثال ذلك: ما رواه أبو داود وغيره من طريق أبي عبدالرحمن الحلبي عن الصنابحي عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك قد حدثنيه قائماً أو بعد أن حدثني تبسما أخذ بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك فقال: (( أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
فمعاذ أوصى بذلك الصنابحي أوصى أبا عبدالرحمن الحبلي قال الحافظ العراقي تسلسل لنا بقول كل من رواته و أنا أحبك.
ومنهم مثلاُ من إذا حدث تبسم وكذلك الحال في كل من يحدث به بعده وهكذا، وقد يكون التسلسل صفات فعليه وقد يكون صفات قولية وقد يجتمعان. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: (( وعلامات المسلسلات واهية، وأكثرها باطلة، لكذب رواتها، وأقواها المسلسل بقراءة سورة الصف والمسلسل بالدمشقيين والمسلسل بالمصريين، والمسلسل بالمحمديين إلى ابن شهاب))(2).
(1) راجع معرفة علوم الحديث 29 ـ 34)) والتقييد والإيضاح ص276، والتقريب للنووي ج2/187 ـ تدريب الراوي)). والموقظة ص 34، والباعث الحثيث ص142 والنخبة لا بن حجر ص62، نزهة النظر)) وفتح المغيث ج3/75.
(2) الموقضة ص44.
عزيز مروي اثني أو ثلاثة مشهور مروي فوق ما ثلاثة
قوله { عزيز(1) مروي....}
العزيز الصواب فيه أنه لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين ويمثل له بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنس وأبو هريرة رواه أنس عن قتادة وعبدالعزيز بن صهيب ورواه عن عبدالعزيز بن إسماعيل بن عليه وعبدالوارث بن سعيد بن ذكوان، ورواه قتادة شعبة وسعيد.
وهذا المثال مثل به ابن حجر في نزهة النظر للعزيز، ولكني لم أجد لسعيد رواية عن قتادة في هذا الحديث(2)، فإن وجد لسعيد رواية عن قتادة، وإلا فلا يصح أن يمثل به للعزيز على التعريف الذي قدمناه والله أعلم.
وقال بعض أهل العلم: إن صورة هذا العزيز لا توجد ولكن أثبته الحافظ في النزهة وتقدم الكلام قبل قليل، والله أعلم.
(1) انظر (( التبصرة والذكرى للعراقي)) ج2/256)) ونزهة النظر ص25)) وتدريب الراوي ج2/181))، وفتح المغيث ج3/28 وشرح الزقاني على البيقونية ص40 والدرر حاشية نخبة الفكر.
(2) وأشار إلى هذا السخاوي في فتح المغيثج3/33)).
قوله { مشهور فوق }(1): فوق هنا زائدة، وإلا لو لم تكن زائدة لقلنا إن قوله فيه نظر لأن مفهومة أن ما رواه الثلاثة لا يسمى مشهوراً.
المشهور: هو أن يروي ثلاثة عن ثلاثة فأكثر ولم يبلغ حد التوتر ويطلق عليه بعضهم المستفيض وذلك لانتشاره, والمشهور من أخبار الآحاد قد يكون صحيحاً وقد يكون ضعيفاً بل قد يكون لا أصل له ومع ذلك يكون مشهوراً, ولكن يزداد بالاشتهار هنا ما اشتهر على الألسنة.
(1) مراجعة ( معرفة علوم الحديث للحاكم, ص92, والتبصرة للعراقي ج2/265 ـ 277, ونزهة النظر ص23, وفتح المغيث ج3/28, وتدريب الراوي ج2/173, والدرر حاشية نخبة الفكر, وشرح الزرقاني على البيقونية ص541.
معنعن كعن سعيد عن كرم
{ المعنعن}(1)
وهو ما يقال عن فلان عن فلان وله حالتان:
1- أن يكون المعنعن مدلساً فله حالات:
أ- أن يكون تدليسه نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
فهذا يغتفر له كما نص على ذلك ابن حجر في كتابة ( تعريف أهل التقديس ).
ب ـ أن يكون تدليسه قليلاً في جانب ما روى من الأحاديث الكثيرة فهذا قد احتمل الأئمة تدليسه كما نص على ذلك ابن حجر وغيره
جـ ـ أن يكون ثقة حافظاً ولكنه يكثر من التدليس فهذا لا يحتج من حديثه إلا بما صرح بالسماع وسواءً كان مدلساً تدليس التسوية أو غيره.
د ـ أن يجتمع فيه وصفان: التدليس والضعف، فهذا إذا عنعن يعظم الخطب، وإذا صرح بالسماع فهو ضعيف.
2- أن يكون غير مدلس ولكنه ثقة فهذا سواءً عنعن أم لم يعنعن فحديثه مقبولاُ مطلقاً. كعنعة مالك وأحمد وغيرهما من الثقات الذين لم يعرفوا بالتدليس.
(1) انظر بحثه محرراً في { مقدمة ابن الصلاح ص83ـ التقييد والإيضاح والتقريب للنووي ج1/214 ـ تدريب الراوي, والباعث الحثيث ص43، والموقظة للذهبي ص544 وجامع التحصيل للعلائي ص116, وفتح المغيث للسخاوي ج1/163.
{المبهم}(1)
كأن يقول: حدثني فلان أو يقول: حدثني من سمع فلاناً، ونحو ذلك، وحديث المبهم حديث ضعيف، وأما إبهام الصحابي فلا يضر، لأن الصحابة كل عدول، فلا تضر جهالتهم.(/5)
والمبهم حديثه ضعيف ولو جاء بلفظ التعديل كأن يقول حدثني الثقة، لأنه قد يكون ثقة عنده ولكن عند غيره ليس بثقة، والإبهام جهالة، فإذا كان الرجل إذا صرح باسمه وهو ضعيف لا يقبل فالإبهام أولى، ولأن من شروط قبول الحديث عدالة الرواة ، ومعرفة العدالة منتفية في المبهم والله أعلم.
واعلم أن المبهم سبب من أسباب الجهالة ولذلك ما ينبغي معرفته وعلمه أن نعلم أن الجهالة نوعان.
1- جهالة حال: وهي إذا روي عن الراوي اثنان فصاعداً ولم يوثق فهذا مجهول الحال.
2- جهالة عين: وهي أن يسمى المروي عنه ولكن ينفرد واحد بالرواية عنه.
وما يتعلق بقبول رواية المجهول جهالة عين وجهالة حال يراجع فيه المطولات.
(1) مراجعة { الكفاية للخطيب ص149} والتقريب للنووي ص 316 ـ 323، ج/1 تدريب الراوي، والباعث الحثيث ص77 ـ 83, ونزهة النظر ص49, وفتح المغيث ج3/301 وشرح الزرقاني على البيقونية ص46.
وكل ما قلت رجاله علا
{العالي}(1)
الحديث إذا قلت رجاله من مخرجه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا الإسناد العالي, وقد كان جماعة من السلف يحرصون على طلب الإسناد العالي, قال الإمام أحمد: إنه سنة.
ولكن محله إذا كان الحديث صحيحاً، أما إن كان الحديث ضعيفاً فلا يهتم به.
مثال الإسناد العالي: قال عبد بن حميد حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله)). أخرجه مسلم عن عبد بن حميد، فهو بالنسبة لعبد بن حميد إسنادٍ عال أعلى من مسلم.
ومثال ما كان أنرل ـ أي النازل ـ قال البخاري: حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التميمي أنه سمع علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( إنما الأعمال بالنيات ....))(2). وهذا الحديث نازل بالنسبة لحديث أنس المتقدم.
(1) راجع { معرفة علوم الحديث للحاكم ص5 ـ 12, ومقدمة ابن الصلاح ص257ـ التقييد والإيضاح)) والتقريب للنووي ج2/159/ تدريب الراوي)) والباعث الحثيث ص134, وفتح المغيث للسخاوي ج3/3 والدرر حاشية نخبة الفكر.
(2) البخاري ج1/9 فتح الباري، وروى الحديث مسلم والنسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بن حنبل وأبو عوانة وابن خزيمه والحميدي والبغوي في شرح السنة وغيره كثير....}.
وضده ذاك الذي قد نزلا
{النازل}(2)
وهو ما كثرت رجاله من مخرجه إلى النبي- صلى الله عليه واّله وسلم ـ ثم اعلم أن الإسناد العالي ينقسم إلى قسمين:
1- أن ينتهي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا يسمى العلو الملطق.
2- أ ينتهي إلى إمام ذي صفة عليّة كشعبة بن الحجاج وهذا يسمى العلو النسبي، ومثاله:
كقول البخاري حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة، أو كقول الإمام أحمد ثنا الشافعي ثنا مالك وهذا باب واسع قد اهتم به كثير من العلماء، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: (( وقد عظمت رغبة المتأخرين فيه حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الإشتغال بما هو أم منه))(3) اهـ.
وهو كما قال بعض أهل العلم: ولكن يهتم به مع الصحة أما مع الضعيف فلا يفرح به.
(2) انظر معرفة علوم الحديث ص12، والتبصرة للعراقي ج1/251 ـ 265، ونزهة النظر لابن حجر ص59، والباعث الحثيث ص134، وفتح المغي ج3/2 ـ 27، وشرح البيقونية للزرقاني ص51، والدرر حاشية نخبة الفكر.
(3) نزهة النظر ص58.
الثلاثيات
واهتم جماعة من العلماء بالثلاثيات في كتب مستقله، وأكثر كتب ثلاثيات هو مسند الإمام أحمد ويليه عبد بن حميد ثم الإمام البخاري في صحيحة، وأما أبو داود والنسائي فلا يوجد ثلاثيات عندهم بل أعلى ما يكون عندهم الرباعيات وأما الترمذي فعنده حديث واحد ثلاثي(1)، وأما ابن ماجه فعنده خمسة أحاديث وكذلك يوجد عند الدارمي والطبراني وغيرهما ثلاثيات والله أعلم.
(1) الترمذي ج6/538 ـ تحفة الأحوذي قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابن السيدي الكوفي أخبرنا عمر بن شاكر عن أمس بن مالك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم ... الحديث.
وما أضفته إلى الأصحاب من قول وفعل موقوب ركن
قوله {ما أضفته } أيها الرجل الذي ما أضفته إلى الصحابي من قول، مثل ما روى البخاري في صحيحة عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: (( حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)).
أو فعل (( وذلك كرفع اليدين في جميع تكبيرات الجنائز من فعل ابن عمر)). رواه البيهقي في السنن الكبرى.
فهو موقوف { زكن } أي علم.
وقول الصحابي تارة يكون أمراً غيبياً وله حالتان:
1- إن يحدث عن أهل الكتاب فلا يقبل حديثه.
2- إن كان لا يأخذ عن أهل الكتاب فله حكم الرفع.(/6)
- مثاله: عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كيف أنتم إذا لبستم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة إذا ترك منها شيء قيل تركت السنة. قالوا متى ذاك قال: إذا ذهبت علماؤكم، وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنياء بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين))..
رواه الدارمي والحاكم وسنده صحيح.
ومن وجه آخر ينقسم قول الصحابي إلى ستة أقسام:
1- أن يكون مخالفاً للمرفوع فهذا لا يحج به بالإجماع.
2- أن يكون مخالفاً لصحابي غيره(1)، فإن كان من غير الخلفاء الراشدين، فقد نقل ابن عقيل عدم الإحتجاج به بالإجماع، وإن كان من الخفاء الراشدين فله حالات:
أ- أن يخالف الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ فيطرح قوله لقولهم(2) عند جماعة من أهل العلم، وعند آخرين ليس قولهم حجة على غيرهم من الصحابة ورجح العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ القول الأول.
ب ـ أن يخالف قول أبي بكر وعمر، فذهب بعضهم إلى أنه يقدم قول أبي بكر وعمر على قوله، وذهب بعضهم إلى عدم ذلك ورجح ابن القيم
3- أن يقول الصحابي قولاً ليس له حكم الرفع فيشتهر عند الصحابي ثم لا ينكره أحد فهذا إجماع سكوتي وهو حجة على الصحيح.
4- أن يقول قولاُ ولا يعلم أنه اشتهر ولا يعلم كذلك أنه لم يشتهر فهنا ذهب ابن القيم ـ رحمه الله ـ في إعلام الموقعين إلى حجيته وذهب جمع من العلماء إلى جمع حجيته.
(1) وهذا وما سيأتي محله فيما لم يرد على المسألة من الكتاب والسنة.
(2) انظر إعلام الموقعين ج4/119 والمذكرة للشنقيطي ص 164 ـ 166)).
رحمه الله القول الأول(1).
ومرسل منه الصحابي سقط
المرسل هو: ما رواه التابعي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا هو التعريف الصحيح وعلى هذا لتعريف يكون تعريف المصنف فيه نظر!!؟
وجه هذا النظر: أننا إذا علمنا أن الصحابي هو الساقط يكون الحديث متصلاً صحيحاً، ولا وجه لجعله مرسلا.
(1) قال البغوي ـ رحمه الله ـ في شرح السنة ج1/207/ على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... الحديث)) قال فيه دليل على أن الواحد من الخفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه غيره من الصحابة كان المصير إلى قوله أولى, وإليه ذهب الشافعي في القديم)).
(2) راجع (( الكفاية للخطيب البغوي ص546 والتمهيد لان عبدالبر ج1/19، وشرح السنة للبغوي ج1/245، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص25 ومقدمة ابن الصلاح ص70 ـ التقييد والإيضاح، والمنهاج لشيخ الإسلام ابن تيمية ج4/117 والموقظة للذهبي ص38، والنكت على كتاب ابن الصلاح ج2/540، وفتح المغيث للسخاوي ج1/134، والمراسيل لابن أبي حاتم والمراسيل لأبي داود وجامع التحصيل للعلائي والدرر حاشية نخبة الفكر للمؤلف.
مسألة
اختلف العلماء في حكم المرسل على عدة أقوال وهي:
1- القول الأول أن يقبل مطلقاً.
2- القول الثاني أن يرد مطلقاً.
3- القول الثالث مراسيل سعيد بن المسيب تقبل ومراسيل غيره لا تقبل.
4- القول الرابع مراسيل من علم من حال أنه لا يرسل إلا عن ثقة))، قال شيخ الإٍسلام ابن تيمية في كتابة: ((المنهاج)) ج4/117.
مسألة
أوهى المراسيل هي مراسيل الحسن وعطاء، وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: (( لأنهما يأخذان عن كل واحد)).
*تنبيه: ذكر العراقي مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمرسل ولخص أقوالهم في بيتين فقال:
واحتج به مالك كذا النعمان وتابعوهما به ودانوا
ورده جماهير النقاد للجهل بالساقط في الإسناد
وقل غريب ما روى راوٍ فقط
قوله: { وقل غريب}(1) الغريب: هو ما انفرد به روا من الرواة من إحدى طبقات السند التي يدور عليها الإسناد ويبتدئ من الصحابي، ولو انفرد به راوٍ بأي طبقة من الطبقات.
مثاله: حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو حديث النية انفرد به عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وانفرد به عمر عن علقمة وانفرد به عمر عن علقمة محمد بن إبراهيم التميمي وانفرد به عن محمد يحيى ب سعيد الأنصاري ورواه عن يحيى جمع كثير من الأئمة الحافظ.
(1) انظر شرح العراقي لألفيته ج1/265، التبصر )) ونزهة النظر ص25. والباعث الحثيث ص141، وفتح المغيث ج3/128، والدرر حاشية نخبة الفكر..
فصل
قال غير واحد من أهل العلم: إن الغريب شر الحديث لذلك كان جماعة من السلف يحذرون من الغريب حتى إن الإمام مالكاً يقول: (( شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس)).
وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب مناكير وعامتها عن الضعفاء)).
ومع ذلك ربما يكون الحديث غريباً وتجتمع الأمة على صحته كحديث عمر بن الخطاب السابق.
قوله { إسناده منقطع}(1): الانقطاع عله من علل السند، والانقطاع لا يتوصل إليه في بعض الحالات إلا الأئمة الحذاق الذين يعلمون مواليد الرواة ووفياتهم لأنه قد يأتي حديث ظاهرة الاتصال وهو منقطع.(/7)
مثاله: روى الإمام مسلم في صحيحة من طريق عبده بن أبي لبابة عن عمر بن الخطاب أنه كان يستفتح بسبحانك اللهم ../ قال ابن حجر في البلوغ: رواه مسلم بسند منقطع.
قلت الانقطاع ( عبدة لم يسمع من عمر ) والأثر صحيح عن عمر من غير هذه الطريق.
(1) مراجع الحديث المنقطع ما يلي ( معرفة علوم الحديث ص27، والتبصرة للعراقي ج1/158، ومقدمة ابن الصلاح ص76 ـ التقييد والإيضاح، والموقظة ص40، والباحث الحثيث ص41، ونزهة النظر ص42، وفتح المغيث ج1/156 وغيرها كثير....).
وكل ما لم يتصل بحال إسناده منقطع الأوصال
قلت الانقطاع ( عبدة لم يسمع من عمر ) والأثر صحيح عن عمر من غير هذه الطريق.
قوله: {والمعضل}(1) هو ما سقط منه اثنان.
قال العراقي ـ رحمه الله ـ:
والمعضل الساقط من اثنان فصاعداً ومنه قسم ثان
حذف النبي والصحابي معاً ووقف متنه على من تبعا
فنستطيع أن نقول أن شطر البيت الأول للعراقي والله أعلم.
والمعضل قسم من أقسام الحديث الضعيف لأنه سقط منه رجلان أو أكثر على التوالي، فإن لم يكن السقط متوالياً فهو المنقطع. وقد تقدم الكلام عليه.
مثاله: قال مالك ما بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( للملوك طعامه وكسوته )).
وقد وصل من طريق آخر عن مالك خارج الموطأ فوجد أن الساقط اثنان(2).
(1) راجع (( معرفة علوم الحديث للحاكم ص36، وشرح ألفية للعراقي المسماه بالتبصرة ج1/159، ومقدمة ابن الصلاح ص81 ـ التقييد والإيضاح والتقريب للنووي ج1/211 ـ تدريب الراوي، والموقظة للذهبي ص40، ونزهة النظر ص42، والنكت للحافظ ابن حجر ج2/575، والباغث الحثيث ص43، والدرر حاشية نخبة الفكر)).
(2) انظر معرفة علوم الحديث للحاكم ص37.
قلت الانقطاع ( عبدة لم يسمع من عمر ) والأثر صحيح عن عمر من غير هذه الطريق.
قوله: {والمعضل}(1) هو ما سقط منه اثنان.
قال العراقي ـ رحمه الله ـ:
والمعضل الساقط من اثنان فصاعداً ومنه قسم ثان
حذف النبي والصحابي معاً ووقف متنه على من تبعا
فنستطيع أن نقول أن شطر البيت الأول للعراقي والله أعلم.
والمعضل قسم من أقسام الحديث الضعيف لأنه سقط منه رجلان أو أكثر على التوالي، فإن لم يكن السقط متوالياً فهو المنقطع. وقد تقدم الكلام عليه.
مثاله: قال مالك ما بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( للملوك طعامه وكسوته )).
وقد وصل من طريق آخر عن مالك خارج الموطأ فوجد أن الساقط اثنان(2).
(1) راجع (( معرفة علوم الحديث للحاكم ص36، وشرح ألفية للعراقي المسماه بالتبصرة ج1/159، ومقدمة ابن الصلاح ص81 ـ التقييد والإيضاح والتقريب للنووي ج1/211 ـ تدريب الراوي، والموقظة للذهبي ص40، ونزهة النظر ص42، والنكت للحافظ ابن حجر ج2/575، والباغث الحثيث ص43، والدرر حاشية نخبة الفكر)).
(2) انظر معرفة علوم الحديث للحاكم ص37.
وما أتى مدلساً نوعان
قوله {وما أتى مدلساً نوعان}:
التدليس قسم من أقسام الحديث الضعيف وهو ثلاثة أنواع(2):
1- تدليس الإسناد: وهو أن يروي المحدث حديثاً عمن لقيه ما لم يسمعه منه غير أنه يذكره بصيغة محتملة للسماع.
2- تدليس الشيوخ: وهو أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو يصفه بمال يعرف(3) كي لا يعرف.
3- تدليس التسوية، وهو شر وأقبح أنواع التدليس وممن يفعله كثيراً، الوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد.
قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: (( التدليس داخل في قوله ـ عليه السلام ـ: (( من غشنا فليس منا )). لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل وفيه انقطاع، هذا إن دلس عن ثقة فإن كان ضعيفاً فقد خان الله ورسوله.
قال شعبة: (( التدليس أخو الكذب)). رواه الخطيب في الكفاية وتدليس التسوية بم يذكره ابن الصلاح وقد ذكره العراقي وأشار إلى أنه وما يخالف ثقة فيه الملا فالشاذ والمقلوب تلا فقد سماه بذلك أبو الحسن القطان وغيره وصورته(4) أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها فيصير الإسناد لكنه ثقات ويصرح به هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه فلا يظهر حيئذٍ في الإسناد ما يقتضي إلى عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل)). وقد لا يسقط المدلس شيخه ولكن يصفه بأوصاف لا تعرف، فمثلاً يصف ابن لهيعة بما لا يعرف به فيأتي يصحح أحاديث المجاهيل فيقول ثقة ولو تبين له أنه ابن لهيعة لضعفه.
(1) إلى قوله:
الأول: الإسقاط للشيخ وأن ينقل عمن فوقه بمن وأن
والثاني: لا يسقط لكن يصف أوصافة بما لا ينعرف
(2) انظر التقييد والإيضاح ص95.
(3) قال الحافظ ابن حجر: ليس قوله بما لا يعرف به قيداً فيه بل إذا ذكره بما يعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً.
(4) انظر التقييد والإيضاح ص95، والنكت على كتاب ابن الصلاح ج2/616.(/8)
الحديث الشاذ
قوله: { فالشاذ }(1): (( وهو ما يخالف الثقة من هو أوثق منه ))، وهذا التعريف أدق من تعريف المصنف. لأن تعريف المصنف عام يدخل فيه الثقات والضعفاء ثم إن العلماء تختلف فهومهم فتارة يخالف الثقة من هو أوثق منه يقول بالشذوذ وبعضهم يقول الزيادة من الثقة مقبولة ويجعلها زيادة ثقة.
وأمثلته كثيرة ومنها:
1- حديث عبدالله بن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة من تكبيرات الجنائز كما روى البخاري في جزء رفع اليدين والدارقطني وجماعة من الثقات موثوقاً، وخالفهم عمر بن شبة فرواه من طريق يزيد بن هارون أنبأنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فرفعه شاذ على القول الصحيح(2) كما ذهب إليه الدارقطني ـ رحمه الله ـ.
2- المثال الثاني: قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه....)). الحديث زاد بن أبي شيبة((من الإثم))(3)، (( لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه )). فلفظة الاسم شاذة انفرد بها ابن أبي شيبة عن سائر رواة الحديث(4).
3- المثال الثالث: ما رواه البخاري والأربعة: (( من سمع النداء فليقل اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته))، زاد البيهقي في السنن الكبرى: (( إنك لا تخلف الميعاد)). وهذه الزيادة شاذة وبعضهم قال زيادة ثقة وسندها.
عند البيهقي لا مطعن فيه والله أعلم.
والشاذ قسم من أقسام الحديث الضعيف.
1- انظر بحثه محرراً في (( معرفة الحيث للحاكم ص ـ 111)) والتقييد والإيضاح للعراقي ص100، والتقريب للنووي ج1/232 ـ تدريب الراوي)) والموقظة ص42، والنكت على كتاب بان الصلاح ج2/652، وفتح المغيث للسخاوي ج1/169، والدرر حاشية نخبة الفكر)).
2- راجع فتح الباري ج3/190 ـ تعليق وسلسلة الأحاديث الضعيفة ج3/149.
3- المصنف ج1/253.
4- انظر فتح الباري ج1/585.
فالشاذ ب يتعلق بالمتون المقلوب قسمان تلا
قوله: { والمقلوب }(1) وهو قسمان:
1- قلب يتعلق بالإسناد وله صورتان.
2- قلب يتعلق بالمتن.
- مثال الأول ـ أي قلب الإسناد وله صورتان-:
أ- إما أن يكون القلب بتقديم أو البيهقي لا مطعن فيه والله أعلم.
أخير كمثل (( مرة بن كعب )) ينقلبوالشاذ بـ (( قسم من أقسام الحديث الضعيف.
كعب بن مرة )) وسعد بن سنان يقوله:نقلب { والمقلوب }بـ (( سنان بن(1): وهو قسمان:
سعد)).
ب ـ الصورة الثانية: أن يبدل الراوي راويا1- قلب ً.يتعلق بالإسناد وله صورتان
ب2- قلب يتعلق بالمتن.
- مثال الأول غيره لقصد الامتحان أو غيره كالإغراـ أي قلب الإسناد وله صورتان-:
ب فإن فعل للإغراب فقد قال الذهأ- إما أن يكون القلب بتقديم أو تأخير كمثل (( مرة بن كعب )) ينقلب بـ (( كعب بن مرة )) وسعد بن سنان ينقلب بـ (( سنان بن سعد)).
بي: (( فمن فعل ذلك خطأ فقريب ومن تعمد ذلك وركب متناً على إسناده وليس له فهو سارق الحديث وهو الذي يقال في حقه فلان يسرق )). وهب ذاـ الصورة الثانية: أن يبدل الراوي القسم من أقسام الموضوع وإن فعله راوياً بغيره لقصد الامتحان أو غيره كالإغراب فإن فعل للإغراب فقد قال الذهبي: (( فمن فعل ذلك خطأ فقريب ومن تعمد ذلك وركب متناً على إسناده وليس له فهو سارق الحديث وهو الذي يقال في حقه فلان يسرق )). وهذا القسم من أقسام الحديث الموضوع وإن فعله للإمتحان فيجوز للحاجة كما وقع البخاري ولكن يشترط أن لا يستمر بل ينتهي بانتهاء الحاجة، والله أعلم.
مثال قلب المتن: ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ
في الحديث المشهور وفيه: (( أما النار فينشئ الله لها أقواماً.....)) الحديث(2)، والصواب: (( أما الجنة فينشئ الله لها أقواماٌ)) كما هو في الصحيحين وممن قال ذلك لبليقي نقله عن ابن حجر(3) وابن القيم في الزاد لأنه: يخالف كثيراً من النصوص القرآنية أيضاً كقوله ـ تعالى ، (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )).
وقوله تعالى: (( ولا يظلم ربك أحدا )) والأدلة على ذلك كثيرة جداً
ومن الأمثلة أيضاً على ما قبل المتن: (( أن بلالاً يؤذن بالليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )). فانقلب إلى: (( أن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال))، قال بالقلب ابن القيم وسبقه إلى ذلك ابن عبدالبر وجماعة، وخالفهم الحافظ وقال: هو صحيح كما في الفتح ج2/102.
(1) انظر مقدمة ابن الصلاح ص134 ـ التقييد والإيضاح، والتبصرة للحافظ العراقي ج1/282، والتقريب للنووي ج1/291 ـ تدريب الراوي، والموقظة ص60، وزاد المعاد لان القيم ج1/226، والفتاوى لشيخ الإسلام، وفتح الباري ج13/437, وفتح المغيث ج1/272.
(2) صحيح البخاري ج13/234 ـ فتح الباري.
(3) الفتح ج13/473.
إبدال راوٍ ما براو قسم وقلب إسناد لمتن قسم
والفرد ما قيدته بثقة أو جمع أو قصر على رواية
قوله: { الفرد }(1): وهو قسمان:
1- مطلق: وهو نوعان:(/9)
أ) تفرد راو من الرواة بالحديث.
ب ) أن يتفرد أهل بلد بالحديث دون غيرهم.
2- نسبي: وهو المقيد كقولك لم يروه عن فلان إلا فلان ومثله لم يروه ثقة إلا فلان وله أنواع أخر.
ومثاله: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( دخل مكة وعلى رأسه المغفر )). قال غير واحد من الأئمة: انفرد به مالك عن الزهري ولكن قال الحافظ ابن حجر: فقول من قال من الأئمة إن هذا الحديث تفرد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه وإنما المراد به شرط الصحة أ هـ .
وما أحس ما قاله الترمذي عقب تخريجه: (( لا يعرف كبير أحد رواه عن الزهري غير مالك ومثله على ابن حبان)).
(1) راجع: (( معرفة علوم الحديث للحاكم ص96، والنكت على كتاب ابن الصلاح ج2/703، ونزهة النظر ص28، وشرح البيقونية للزرقاني ص72.
قوله: { وما بعلة غموض....}
المعلل (1): وهو من أصعب أنواع الحديث وأخطرها ولا يتكلم به إلا الأئمة الحفاظ الذين رزقوا الحافظة الواسعة والملكة القوية بمعرفة الأسانيد والمتون كالإمام أحمد وابن معين وابن أبي حاتم والبخاري، والدار القطني ومن بعدهم كالبيهقي ومن بعده كابن تيمية والذهبي والزيلعي ـ وهو من أقوى أهل زمانه بهذا الفن والحافظ بن حجر، رحمهم الله ـ تعالى ـ، قال ابن مهدي: لا أعرف علة حديث هو عندي أحب من أن أكتب حديثاً ليس عندي)).
والعلة تكون بوصل موقوف أو إرسال خفي أو إدخال حديث بحديث وانقطاع، ولا يدرك ذلك إلا بحفظ المواليد والوفيات وجمع الطرق وممارسة هذه الفتن.
والأحاديث المعللة كثيرة جداً منها: حديث عمر من طريق عبدة بن أبي لبابة الذي تقدم، وحديث عائشة الذي فيه: (( كان ينهى عن عقبة الشيطان )). رواه مسلم.
قال الحافظ فيه علة، قلت وعلته أن رواه عن عائشة ابن الجوزاء واسمه ( أوس بن عبدالله الربعي ) وقد رجح الأئمة الكبار منهم ابن عبدالبر النمري أنه لم يسمع من عائشة، ولكن ورد ما يدل على أن أبا الجوزاء عاصر عائشة فعلى هذا لا اعتراض على الإمام مسلم في إخراج هذا الحديث لأنه يشترط المعاصرة دون اللقى(2).
(1) انظر شرح بحثه محرراً في معرفة علوم الحديث ص12، ومقدمة ابن الصلاح ص115، التقييد والإيضاح، والتبصرة للعراقي ج1/224، والموقظة ص51 ـ 53، والنكت لابن حجر ج2/710، والباعث الحثيث ص53، وفتح المغيث ج1/224، وراجع الملل لابن أبي حاتم والعلل للدار القطني وشرح علل الترمذي لابن حجر)).
(2) راجع تهذيب التهذيب في ترجمة أبي الجوزاء، ج1/335.
وذو اختلاف سند أو متن مضطرب عند أهل الفتن
قوله { مضطرب(1) عند أهيل الفن }: والمضطرب الذي وقع في سنده اختلاف وقد يكون الاختلاف في المتن، ولكن وقوعه في الإسناد أكثر.
قال ابن حجر: (( الاختلاف الذي يؤثر قدحاً )) أما إذا لم يؤثر قدحاً فليس بمضطرب.
قال ابن حجر: واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر ذلك، لأنه إن كان ذلك الرجل ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من قبل اختلاف الثقاث في اسمه))(2).
والإضطراب علة من علل الحديث، ومن الإضطراب أن الراوي يروي حديثاً عن راو واحد بروايات مختلفة، ومنه أيضاً أن يرويه الراوي تارة موقوفا وتارة مرفوعاً وهذا ليس على إطلاقه لأن الراوي قد ينشط تارة فيرفعه، وبعض الأحيان يوقفه.
مثاله: ما روى الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إذا صلى أحدكم فليجعل لتقاء وجهه شيئاً ولا يدع أحداً أن يمر بين يديه....)). الحديث وفيه: (( فإن لم يجد فليخط خطاً))، هذا الحديث قال فيه العراقي: إنه مضطرب لاختلاف الرواة فيه(3)، وقد أبطل الحافظ في ( النكت ) دعوى الإضطراب ورد على من قال إنه مضطرب، وأشار إلى ذلك في بلوغ المرام وقال: (( لم يصيب من زعم أنه مضطرب ))، والظاهر بأنه يسلم للحافظ بأنه ليس بمضطرب.
ولكن الحديث فيه جهالتان تجعله ضعيفاً فعلى هذا نقول إن الحديث رومي بعلتين وهما:
الأولى: الإضطراب، وأثبت الحافظ عدم الإضطراب ولكن تبقى العلة الثانية: وهي الجهالة أي جهالة بعض الرواة فيه، فيتلخص عندنا ضعف الحديث لجهالة بعض الرواة.
(1) راجع مقدمة ابن الصلاح ص124 ـ التقييد والإيضاح، والتبصرة للعراقي ج1/240، والنكت لابن حجر ج2/272.
(2) وقال في نزهة النظر ص47 إن كانت المخالفة { بإبداله } أي الراوي (( ولا مرجح )) لإحدى الروايتين على الأخرى ( فهذا المضطرب ).
(3)ألفية العراقي ج1/240 وج2/237 فتح المغيث للسخاوي.
والمدرجات في الحديث ما أتت من بعض ألفاظ الرواة اتصلت
قوله { والمدرجات(1) في الحديث }:
المدرج: هو ما زاد أحد الرواة في الحديث كلمة أما مفسرة للفظة أو مبنية لمعنى وقد يأتي من بعد هذا الراوي فيروي هذه الكلمة متصلة بالحديث لتوهمه أنها منه(2).
ويحرم الإدراج إلا مع بيانه، ويجوز في تفسير كلمة ونحوها إذا ظهر الإدراج ولم يلتبس بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.(/10)
والإدراج له ثلاث حالات:
1- تارة يكون في أول الحديث.
ومثاله: قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( ويل للأعتاب من النار )). أخرجه البخاري، فقوله: أسبغوا الوضوء مدرج من قول أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
2- وتارة يكون الإدراج في وسط الحديث.
ومثاله: كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحنث في غار حراء ( وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد ).
فأدرج الزهري(3) في وسط الحديث كلمة (( التعبد )).
3- وتارة يكون الإدراج في آخر الحديث:
ومثاله: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( عن الشغار )) والشغار هو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق، وهذا الحديث متفق على صحته من حديث ابن عمر، وتفسير الشغار مدرج من بعض الرواة.
(1) راجع مقدمة ابن الصلاح ص127 التقييد والإيضاح، والتقريب للنووي ج1/268 ـ تدريب الراوي.
(2) ويدرك ذلك إما بورد الحديث من طريق أخرى بدونها وإما بنص الراوي على ذلك وإما باستحالة أن يكون ذلك من كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحديث (( للعبد المملوك أجران والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك )) فقوله: ((والذي نفسي بيده.......إلخ))مدرج من كلام أبي هريرة.
(3) قال ابن حجر في الفتح ج1/23 هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي لوم يذكر دليله، نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه ما يدل على الإدراج ا هـ.
* تنبيه
الإدراج له حالتان:
الحالة الأولى: لا يحتج به/ كما في آخر الحديث المتقدم والصواب إبطال الشغار مطلقاً سواء كان بصداق أو غير صداق.
الحالة الثانية: أن تكون موافقه للمعنى كتفسير المتقدم فهذا لا بأس به على التفصيل السابق.
قوله { مدبج }(1): وهو أن يروي كل قرين عن قرينه. وإما أن تشارك الراوي ومن روى عنه في أي أمر من الأمور المتعلقة بالرواية فهذا النوع المسمى بالأقران ( جمع قرين ).
والمدبج أخص من رواية الأقران فكل مدبج أقران ولا عكس وللدار القطني ـ رحمه الله ـ مصنف في المدبج.
ومثاله: رواية الإمام أحمد وعلي بن المديني كل منهما عن الآخر، قال ابن حجر: وإذا روى الشيخ عن تلميذه صدق أن كل منهما ـ يروي فيه عن الآخر فهل يسمى مدبجاً؟ فيه بحث ونظر لا، لأنه من رواية الأكابر عن الأصاغر والتدبيج مأخوذ من ديباجتي الوجه فيقتضي أن يكون ذلك مسوياً من الجانبين فلا يجيء فيه هذا اهـ.
(1) مقدمة ابن الصلاح ص333، التقييد والإيضاح، والتقريب للنووي ج2/246 تدريب الراوي، ونزهة النظر: ص60.
متفق لفظاً وخطا متفق وده فيما ذكرنا المفترق
قوله{ متفق والمفترق }(1): والمتفق ( هو أن يتفقا باللفظ والخط ) وفائدته عظيمة لا بد لطالب العلم منه وإلا وقع في التخليط بين الرواة، كما لو ورد عليه مثلاً: ( حماد ) هنا لا يدري هل هو ( حماد بن سلنه ) أم (حماد بن زيد ) أو غيرهما، فإذا كان الراويين ثقتين يقل الخطب، وإذا كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً فهنا يعظم الخطب، كما لو قال الراوي مثلاً حدثني ( الليث ) لا تدري هل هو ابن سعد أم ابن أبي سليم؟ لأنهما قد تعاصؤا، فهنا نحتاج إلى تحري وضبط بمعرفة شيوخ هذا من شيوخ هذا والمفترق أقسام غير ما مثلنا به:
منها: أن ننفق أسماؤهم وأسماء آبائهم.
ومنها: أن تتفق أسمائهم أسماء آبائهم وأجدادهم.
ومنها: أن تتفق أسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء آبائهم وأنسابهم.
وغير ذلك مما يراجع في المطولات لم أراد الزيادة.
(1) راجع مقدمة ابن الصلاح ص404، التقييد والإيضاح، والتقريب للنووي ج2/316 تدريب الراوي، ونزهة النظر ص66، والباعث الحثيث ص139، وفتح المغيث ج3/269.
مؤتلف متفق فقط وضده مختلف فاحش الغلط
قوله[مؤتلف]: والمؤتلف(هو أن يتفقا في الكتابة ويختلفا في النطق) وهذا كسابقه يحتاج أليه طالب العلم، ولكن ليس بمنزلة المتفق والمفترق في وجوب الضغط، وقد يتلقى الإئتلاف والإختلاف من أفواه الرجال.
وهناك قواعد أصلها العلماء في ضبط الرجال وهي: أن كل رجل من الرواة ينطق(عُمارة) بضم العين، إلا الصحابي فإنه (عمارة) بكسر العين وقيل بالضم، وقالوا مثل كل الرواة يقال لهم( حبان)بفتح الحاء غلا صاحب الصحيح فيقال لح حبان بكسر الحاء ولكن قد يقع نزاع في ذلك فمثلاَ (أن صحابي ضبط(عمارة) بضم العين وكذلك وجد من يقا لله(حبان) بكسر الحاء غير صاحب الصحيح .
وهناك كتب عظيمة في هذا الشأن منها على سبيل المثال:
1ـ الإكمال: لابن ماكولا (2).
2ـ (تبصير المنتبة في تحرير المشتبه) للحافط ابن حجر/ 4مجلدات.
3ـ (تهذيب الأسماء اللغات) للنووي/ 3مجلدات.
4ـ ( المعنى في ضبط أسماء الرجال) لمحمد طاهر الهندي؟
(1) انظر: مقدمة ابن الصلاح ص 381، التقليد والإيضاح، والتبصرة للعراقس ج3/128، والتقريب للنوويج2/297، الراوي، ونوهة النظر ص 66، والباعث الحثيث ص189، وفتح المغيث لليخاوي ج3/233.(/11)
(2) قالابن كثيرـ رحمه الله ـ: قد استدرم عليه الحافظ عبد الغني بن نقطة كتاباَ قريباَ من ألإكمال ـ فيه فوائد كثيرة)).
والمنكر الفرد به راو غدا تعديله لا يحمل التفردا
قوله: { والمنكر (1) الفرد }: عرف المنكر بتعريفات كثيرة أشهرها تعريفان أحدها ما اقله الحافظ بن حجر: ( هو الضعيف الذي يخالف الثقة ) وهذا التعريف هو الذي اعتمده الحافظ.
الثاني: تفرد الراوي بالحديث بحيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثة بالصحة بغير عاضد يعضده ولذلك كان جماعة من الأئمة يطلقون المنكر ويعنون به المتفرد بالحديث ممن تعديله لا يحمل التفرد وعلى هذا مشى صاحب النظم، وهناك بعض العلماء يطلق النكارة على الحديث وإن كان رواته كلهم ثقات إذا دلت قرينة على وهم الراوي بالحديث بحيث لا يكون التفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده ولذل كان جماعة من الأئمة يطلقون المنكر ويعنون به التفرد بالحديث ممن تعديله لا يحمل التفرد وعلى هذا مشى صاحب النظم، وهناك بعض العلماء يطلق النكارة على الحديث وإن كان رواته كلهم ثقات إذا دلت قرينة على وهد الراوي كما قال أبو داود على حديث همام عم ابن جريج عن الزهري عن أنس: ((كان النبيـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل الخلاء وضع خاتمه)).
قال عنه: هذا حديث منكر لم يروه إلاهمام مع أنه(ثقه حافظ) ولكن عندما تفرد همام به عن ابن جريج أطلق عليه النكارة ونوزع أبو داود في ذلك(2).
مثال منكر الحديث: معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، قال البخاري: منكر الحديث، ومن حديثه: (( إذا ظنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير)) رواه البزار والعقيلي في الضعفاء وغيرهما .
(1) أنظر: مقدمة ابن الصلاح ص105، التقييد والإيضاح، والتبصرة للعراقي ج1/197 والموقظة ص42، والنكت على كتاب أبن الصلاح ج2/674، ونزهة النظر ص35، وفتح المغيث ج1/201، والدرر حاشية نخبة الفكر.
(2) انظر لزاماَ كلام الحافظ أنب حجر في ذلك وسبب إطلاق النكارة عليه، النكت على كتاب ابن الصلاح ج2/ 677 .
متروكه ما واحد به انفرد
قوله[متروكة](1): ومن المهم أيضاَ معرفة المتركين ولذلك صنف الأئمة الحفاظ كيباَ في الضعفاء والمتركين وما ذالك إلا لأهميته ومن ذلك كتاب:
1ـ الضعفاء والمتركين/ للنسائي، و...
1ـ الضعفاء والمتركين/ للدارقطني، و...
3ـ المجروحين/ لابن حبان.
* مثال للمتركين: (عمر بن هارون)(2)، ومن حديثه: أن النبي ـ صلى الله وآله وسلم ـ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها)). رواه الترمذي وغيره ولا شك فيبطلانه.
ومنهم/ محمد بن مروان السدي الأصغر(3)،فهذا متروك الحديث بل قيل موضوع الحديث.
(1) انظر: نزهة النظر 45 وسائر الكتب المؤلفة في المتركين.
(2)في تقريب التهذيب ج2/64، متروك وكان حافظاَ، وفي الكاشفج2/179،واه اتهمه بعضهم.
(3) في تقريب التهذيب ج2/206ـ متهم بالكذب، وفي الميزا ج4/32 تركوه واتهمه بعضهم بالكذب .
وأجمعوا لضعفه فهو كرد
والكذب المختلق المصنوع على النبي فذلك الموضوع
قوله[ أجمعوا لضغفه فهو كرد]: أي أن العلماء اتفقوا ولم يختلفوا في ترك الحديث المتروك.
قوله[كرد]: أي كالموضوع في عدم الاستدلال به.
قوله[ فذلك الموضوع01)]: والموضوع بابه واسع يجب على طالب العلم أن يفرق بين الموضوع والصحيح ، فكان جماعة من السلف يهتمون بالتفريق بين الموضوع والصحيح حتى أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ حفظ ابنه(خمسة عشر ألف حديث) وقال: بابني هذه موضوعة فابدأ الآن بحفظ الصحيح.
ذكر ذلك صاحب شذرات الذهب(2).
أمثلة على الأحاديث الموضوعة:
1ـ(( الإيمان لا يزيد ولا ينقص))، قال البخاري/ من حدث به يستحق الضرب والحبس.
2ـ ومن ذلك:( لأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ابنه آخر الزمان )). رواه الطبراني وغيره وهو موضوع.
(1) انظر: ((مقدمة ابن الصلاحص130ـ التقييد والإيضاح، والتقريب للنووي ج1/274، تدريب الراوي والمنار المنيف لابن القيم ص43 وفتح المغيث ج1/252.
(2) ج2/ 203.
وقد أتت كالجوهر المكنون سميتها منظومة البيقوني
3ـ ويدخل في الموضوع الذي لا أصل له مثل: ((إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)). وهو لا أصل له، وكقول العوام وبعض طلبه العلم(( تكبيرة الإحرام من الدنيا وكما فيها )).
وقولهم عند تسوية الصفوف :)) استقيموا)) وهي غير ثابتة بل الثابت قوله:(( استووا ولا تختلفوا فتحتلف قلوبهم)) وقوله: (( أتموا الصفوف)) وقوله:((أقيموا صفوفكم ))، ثلاثاً وقوله: (( سووا صفوفكم ))، وقوله: (( حاذوا بين المناكب والأكعب))، وقوله: (( أقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة)).
قوله[كالجوهر المكنون ] أي المخفي .
البيقوني : هو طه بن محمد البيقوني، وقيل اسمه عمر بن محمد الدمشقي الشافعي المتوفى سنة(1080) هـ .
فوق الثلاثين بأربع أتت أبياتها تمت بخيرٍ ختمت
قوله: (([ فوق الثلاثسن بأربع أتت]:(/12)
يعني أبيات هذه المنظومة بلغت(34) بيتاً مع اختصار الشديد، وذكر الناظم فيها كثيراً مما تحتاج إليه طالب العلم وهي من أوجز المصطلحات الحديثية في النظم.
وطالب العلم يحسن في حقه حفظها، ولكن المعوم على(نخبة الفكر) لأنها شاملة لفوائد المطولات حافلة بالأقوال الصحيحة جامعة لغرر الفوائد يستغنى بها عن كثير من المطولات ولا يستغنى بكثير من المطولات عنها ولنا حاشية عليها والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين .(/13)
الأمة الأبية ...
...
24-05-2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن أمتنا هذه، أمةٌ أبيَّةٌ، لا ترضى الذل والهوان، إنها أمةٌ تقاوم الذي يريد الاعتداء على مقدساتها وعقيدتها، إن هذه الأمة فيها خيرٌ عظيم، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ] رواه الترمذي وأحمد، وقال الحافظ: حديث حسن .
فالخير باقٍ في هذه الأمة، كما كان من أولها، فكما أن الدين كان محتاجاً إلى أول هذه الأمة لإبلاغه، وكذلك هو محتاجٌ إلى القائمين به في آخر هذه الأمة، والفضل للمتقدم قطعاًَ.
قال شيخ الإسلام: ومعنى الحديث: أنه يكون في آخر الأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم، حتى يشتبه على الناظر أيهما أفضل؛ وذلك لأنه قال: [...لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ] . ومن المعلوم أن الله يعلم، أيهما خير، وهذا فيه بشارةٌ عظيمةٌ لنا، بأن الخير موجودٌ في هذه الأمة، إلى قيام الساعة، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ]رواه مسلم. فهذه الطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة، تنافح عن دين الأمة.. عن عقيدتها..عن شريعتها..عن أحكام ربها..عن مقدساتها، بالسنان واللسان، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم الساعة .
هذه الأمة لا يزال الله يغرس فيها غرساً إلى يوم القيامة، يظهر فيها من يظهر دينه:
قال عليه الصلاة والسلام: [ لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ] رواه ابن ماجة وأحمد، حديث صحيح .
وقال: [إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا]رواه أبوداود، حديث صحيح .
يحيي ما درس من الكتاب والسنة، يدافع وينافح، يبين الحق ويظهره، يرد على أهل البدعة، يرد على أعداء الدين، وهكذا ظهر في الأمة عمالقةٌ وجبال، كلما مات سيدٌ قام سيدٌ، وهكذا يتوالون، والحمد لله بلا انقطاع، وأنت ترى في هذا الزمان، ولله الحمد، من لا يزال ينافح عن الدين، يرد على الأعداء، ويصد كيدهم، إن الإسلام كالشمس، إن غربت من جهةٍٍ طلعت من أخرى، فلا تزال طالعة، وهذه الأمة، قادرة على الدفاع عن دينها:
إنهم يعملون بلا هوان:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران].
إنهم يشعرون بالعزة، التي تولدها فيهم هذا العقيدة:{...وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...[8]}[سورة المنافقون].
يستعلون على أعدائهم، ويستمدون من العلي سبحانه وتعالى، علوهم على غيرهم من أهل الأرض.
فأهل الحق ظاهرون على من ناوأهم، يكبتون من عاداهم، ويسكتون من أراد أن يخرج على دينهم، وكلما ظهرت بادرة من بوادر الشر، قام لها واحدٌ يتصدى فأكثر من المسلمين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشروكون، والكافرون، وعندما ظهرت فرق أهل الشرك في هذه الأمة، قام أهل العلم بالرد عليهم، وقامت الحركات التجديدية، وقام أهل الجهاد في هذه الأمة بالصد والرد, وهكذا تتوالى حلق الصراع بين الحق والباطل، وكل كيد الأعداء، في ظلال:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً[23]}[سورة الفرقان].
إن روح المقاومة في هذه الأمة، فعلاً روحٌ عجيبة، تدعو للإعجاب والفخر:
لقد قامت الشيوعية، والقومية، والاشتراكية، والوجودية، وأنواع الإلحاد، والحداثة، وقيض الله في هذه الأمة، من يقوم بالرد عليهم، وبيان كفرهم، وصريح باطلهم، ولم يكن الأمر خاصَّاً بالعلماء، بل من طلبة العلم والدعاة، بل من عامة الناس، يرفضون الأجنبي عن هذه العقيدة، وكل ما هو أجنبي عن هذا الدين، فالله سبحانه خلق البشر، وقسم الخليقة إلى قسمين: منهم المؤمن، ومنهم الكافر:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ...[2]}[سورة التغابن]. والذي يرفض تكفير الكافر، وهو يعلم كفره ويأبى ذلك، فإنه كافر مثله، ولابد أن يحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، والنصوص تدل على البراءة من الكفار كلهم، من حاربنا ومن لم يحاربنا.
وإن زَعْم البعض أن النصوص الشرعية، تدل على أن البراءة يكون فقط ممن كفر وحارب، وليس ممن كفر وسالم؛ فهذا القيد إنما جاء به من عند نفسه، وإن الله علق البراءة على الكفر مطلقاً:(/1)
قال تعالى:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ...[ 28]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...[22]}[سورة المجادلة]. وقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[23]}[سورة التوبة]، فأما الذين كفروا ولم يحاربونا، فإننا نبغضهم والله ونكرهم، بدا بيننا وبينهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده.
ولما كتبت الروايات في الهجوم على الدين، والتي فيها السب للذات الإلهية، والتي فيها التشكيك في الأحاديث النبوية، الروايات التي فيها نقد العبادات، قام علماء الإسلام والدعاة، والغيارى على الدين، بالرد عليها، وقام أهل الإسلام ببيان حكم الله في هؤلاء الذي يستهزءون بشريعته، إن سلمان رشدي، لما كتب الآيات الشيطانية وغيرها، ورجع إلى بلده بومبي قام المسلمون في بومبي، بالتظاهر ضده، وأعلنوا أنهم يريدون قتله، وأنه يستحق الشنق، حتى اضطر إلى الهرب سرًا، من فندق كان يقيم فيه مع عشيقته، فهرب لا يلوي على شيء.
إن هذه المقاومة، لهؤلاء الكافرين، وهذا الرفض، يدل على تأصل روح العقيدة في المسلمين، وأنهم لا يرضون أبداً، أن يسيروا على منهج الكفر.
ولما قام بعضهم بالهجوم على النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه من أهل العلم في الأزهر وغيره، وبينوا أن عقد زواجه باطل، وأنه يجب التفريق بينه وبين زوجته، فولى وهرب من بلده، وذهب إلى من يواليهم.
ولما كتب من أعطي جائزة نوبل للعهر والفساد ونشر الإنحلال، قام في المسلمين من يرد عليه، ويبينوا خطره، ورذيلته، فإن سب النبي عليه الصلاة والسلام فيه بالذات عقوبة عظيمة جداً في الدنيا قبل الآخرة، فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه العظيم 'الصارم المسلول على شاتم الرسول' أنه يجب قتله ولو تاب؛ لأن للنبي عليه الصلاة والسلام حق، ولما مات عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يتنازل عن حقه، فيقتل من سبه، ولو تاب، وتوبته لو كان صادقاً فيها تنفعه عند الله يوم القيامة، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ قَالَ فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْتُمُهُ فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ- سيف قصير - فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: [ أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ] فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[ أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ] رواه أبوداود وصححه الألباني.
ولما قام في المسلمين تشبهٌ بالكفار، بالأخذ عنهم، وتقليدهم، وأخذت أفلامهم، وألعابهم، وسرت أعيادهم، وحصل التشبه بهم في أشياء كثيرة، قام في المسلمون من يغير هذا.
ولما غزونا حتى في الألعاب، في البوكيمون وغيره؛ قام في المسلمين من يبين حقيقة هذه الأشياء.(/2)
لما غزونا بالبلنتاين وعيد الحب؛ قام في المسلمين من يبين، حكم هذه الأشياء، وأنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة، وأنه يشغل بالتفاهات، وأنه سبب فتح الباب الحرام، وتعرف الرجل الأجنبي من امرأة أجنبية، وأن فيه التشبه بالكفار، وأنه يحرم على المسلم الإعانة عليه، بأكل أو شرب، أو بيع أو شراء، أو صناعةٍ أو هدية ٍ، أو مواصلة، أو مراسلة، أو إعلان أو غير ذلك، وأنه لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود فيه، وما يعين على الإحتفال، لقوله تعالى:{...وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...[2]}[سورة المائدة] .
ولما قام بعض الأذناب بالوقوع في بعض شرائع الإسلام، مثل: تعدد الزوجات، وجعلوا يكتبون على صفحات مجلاتهم، من الخارج والأغلفة، نعم أو لا للزوجة الثانية- أيستفتى على الأحكام الشرعية المقررة المنتهية، التي أجمع عليها العلماء، المذكورة في كتاب رب العالمين، تقبل أو لا تقبل- قام العلماء يؤلفون في ذلك، وحكمة إباحة تعدد الزوجات، وفؤائد تعدد الزوجات، وتعدد الزوجات في إطار الضوابط الشرعية، وبين العلم والدين.
وهكذا لما قام في المسلمين، من ينادي بأخذ الحضارة الغربية، بِحُلْوِها ومُرِهَا، ويشكك في القرآن الكريم، وفي بلاغة القرآن الكريم، ومنهم المجرم 'طه حسين' كما فعل في كتاب الشعر الجاهلي، وقال:' للتوراة أتحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي من وجودهما التاريخي' إذاً عند طه حسين اسم إبراهيم وإسماعيل وجوده في القرآن لا يكفي في إثبات وجوده في التاريخ، ومعنى ذلك أنه يمكن أن يكون في القرآن أباطيل وخرافات، وأشياء غير حقيقة، فضلاً عن إثبات هذه القصة، التي تحدثها بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة، سبحان الله !
فقام العلماء بالرد عليه والأدباء كذلك، ومنهم مصطفى صادق الرافعي في 'تحت راية القرآن'، ونقض كتاب الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين، ومحاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب الشعر في الجاهلي للشيخ محمد الخضري، ونحو ذلك من الكُتَّاب المسلمين، من أهل العلم، والأدب والفضل، ونحو ذلك.
لقد قيض الله من يكتب من المسلمين ويرد على أمثال هؤلاء، ويبين حقيقة أمثال جمال الدين الأفغاني، وغيره، من المنحرفين، والباطنية، والمندسين، الذين أرادوا أن يفسدو الدين، وألّف محمد محمد حسين 'حصوننا مهددة من داخلها' في الرد على أهل الحداثة، وكان منهم، ثم تاب إلى الله، وألف كتابه هذا من باب توبته، لأن الله قال:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُواوَبَيَّنُوا...[160]}[سورة البقرة]. فمن كان منهم، ثم تاب إلى الله، فلا بد أن يرد عليهم، وهكذا كل من ذهب إلى هؤلاء العلمانيين والحداثيين، إذا تاب إلى الله لابد أن يرد عليهم، وأن يبين ما كتب إذا كان كتب شيئاً، أو نشر شيئاً، فيعلن توبته على الملأ، كما نشر الباطل على الملأ، فإنه لا يكفي أن ينشر الباطل على الملأ، ثم يتوب بينه وبين ربه، دون أن يبين؛ لأن الله قال:{وَبَيَّنُوا} .
وأيضاً: فإن هذه الأمة لم تنس من احتل شبراً من أراضيها، فقام عمر المختار، ضد هذه الحملات الصليبية على بلاده، وحافظ سلامة في بور سعيد في مصر ضد اليهود، وسليمان الحلبي الذي قتل كليبر، الفرنسي الذي جاء مع نابليون، وخرج نابليون ليترك كليبر حاكماً عسكرياً على مصر، وكان سليمان الحلبي أحد طلبة العلم في الجامع في الأزهر، وكان عمره لما أزال ذلك الطاغية من الحياة أربعة عشر عاماً.
وتقوم أحداث فلسطين، ويقوم هؤلاء اليهود بجرائمهم، قتلاً وسفكاً للدماء، وتدنيساً للمسجد الأقصى، فيقوم المسلمون بالرد عليهم، الأمة فيها خير.. الأمة فيها مقاومة عجيبة.. الأمة فيها صبر، إننا لنعجب فعلاً لهؤلاء المسليمن في فلسطين، أهم جن أم إنس، ، يقومون بالعمليات ضد اليهود، إنه عجبٌ عجاب والله!
وهكذا لا يزال المسلمون دائماً، كلما احتل الكفار يقومون بمقاومة الكفار، بل تظهر قضية المقاومة حتى في هذه المقاطعة، لبضائع الكفار حتى رصدوا انخفاض مبيعات إحدى الشركات الأجنية، في المشروبات الغازية، في بلد من البلدان العربية، 46%، وفي بلد آخر 20%، وإحدى شركات الوجبات السريعة الأجنبية خسرت35 %، وغيَّرة شركات أسمائها أيضاً، بل ربما غيرت أسماء المنتجات، وتراجع الإقبال على بعض ما ينتجه الكفار، في عدد من المواضع والأماكن، حتى صارت الخسائر بالمليارات حقيقةً.
إن هذه المقاومة، وهذا التتبع للمحتل، والمعتدي، إنه شيءٌ يسري في الأمة، منذ عهدها الباكر، وحتى الآن، ولنأخذ قصة سلمة بن الأكوع، رضي الله تعالى عنه، كيف تبين هذه القصة أن المسلم لا يرضى بالهوان، ولا يرضى بالاعتداء، وإنه يحارب ويطارد حتى النهاية .(/3)
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال:'قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وذكر الحديث وفيه: ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لَحْيَانَ جَبَلٌ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللَّيْلَةَ كَأَنَّهُ طَلِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ سَلَمَةُ فَرَقِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ وَقَتَلَ رَاعِيَهُ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ قَالَ ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا يَا صَبَاحَاهْ ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ وَأَرْتَجِزُ أَقُولُ أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ سَهْمًا فِي رَحْلِهِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ قَالَ قُلْتُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ رُمْحًا يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنْ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ فَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فُلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ يَعْنِي يَتَغَدَّوْنَ وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ قَالَ الْفَزَارِيُّ مَا هَذَا الَّذِي أَرَى قَالُوا لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ وَاللَّهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرْمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا قَالَ فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ قَالَ فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ قَالَ فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنْ الْكَلَامِ قَالَ قُلْتُ هَلْ تَعْرِفُونِي قَالُوا لَا وَمَنْ أَنْتَ قَالَ قُلْتُ أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي قَالَ أَحَدُهُمْ أَنَا أَظُنُّ قَالَ فَرَجَعُوا فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ قَالَ فَإِذَا أَوَّلُهُمْ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ عَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ قَالَ فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ قَالَ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ قُلْتُ يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَالَ يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ قَالَ فَخَلَّيْتُهُ فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ فَعَقَرَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ وَتَحَوَّلَ عَلَى(/4)
فَرَسِهِ وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ قَالَ فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ يَعْنِي أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً قَالَ وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ فِي ثَنِيَّةٍ قَالَ فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ قَالَ قُلْتُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ قَالَ وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ قَالَ فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيْءٍ اسْتَنْقَذْتُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنْ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنْ الْقَوْمِ وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنْ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبِعُ الْقَوْمَ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ فَقَالَ: [ يَا سَلَمَةُ أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا] قُلْتُ نَعَمْ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ فَقَالَ إِنَّهُمْ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا فَلَمَّا كَشَفُوا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا فَقَالُوا أَتَاكُمْ الْقَوْمُ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ قَالَ ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ قَالَ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا قَالَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَلَا مُسَابِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ قُلْتُ أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي وَأُمِّي ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ قَالَ: [إِنْ شِئْتَ] قَالَ قُلْتُ اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ قَالَ فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي ثُمَّ عَدَوْتُ فِي إِثْرِهِ فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ قَالَ فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ قُلْتُ قَدْ سُبِقْتَ وَاللَّهِ قَالَ أَنَا أَظُنُّ قَالَ فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ...' فهؤلاء إذاً، الذين كانوا لا يرضون أبداً، أن يسلب للمسلمين شيء.
وهكذا لما قالت امرأة هاشمية من بني هاشم:'وا معتصماه' وهي أسيرة في يد الروم لما أهانوها، بلغ ندائُها المعتصم، فقال: لبيك، ونهض من ساعته، وصاح في قصره النفير النفير، وجمع العساكر، وأحضر قاضي بغداد، ومعه ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على أمواله، فجعل ثلثاً لولده، وثلثا لله تعالى، وثلثاً لمواليه، ثم جاهد ففتح عموريه.(/5)
وعندما كتب نقفور إلى هارون الرشيد، يقول له:' من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق'- والرخ والبيدق حجران من حجارة الشطرنج، الرخ: القلعة، والبيدق: هو هذا الجندي في المقدمة، والبيدق ضعيف، والرخ أقوى، قال: الملكة التي كانت قبلي، من قومي، التي كانت تدفع لك مالاً، وجزية، ضعيفة، امرأة ضعيفة، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق- فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيق بحمل أمثالها أمثاله إليها، وهذه طبعاً كبيرة، يقول لهارون: أنت الأولى أن تحمل الجزية تدفعها لنا، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا، فاردد إليَّ ما حملت إليك من الأموال، وافتدي نفسك به وإلا فالسيف بيننا وبينك'.
فلما قرأ هارون الخطاب، أخذه الغضب الشديد، حتى لم يستطع أحدٌ أن ينظر إليه، ولا أن يخاطبه، وأشفق جلساؤه عليه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب:' بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام' .
ثم سار حتى نزل بباب هرقل، وفتحها وأخذ ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئاً كثيراً، وخرب وأحرق حتى طلب نقفور، الموادعة على خراج يؤديه إليه، في كل سنة، فأجابه الرشيد ورجع .
كانت المواقف سواءً على القدرة عند جهادهم، أو عدم القدرة؛ قوية، وابن تيمية رحمه الله، لما ذهب إلى قازان، ملك التتر، لمقابلته، وخرج معه جماعة من دمشق، من علمائها وكبرائها، لما دخل ابن تيمية رحمه الله، على قازان، ملك التتر، جعل يكلمه ويرفع صوته ويخفض ويعظ وينهى ويأمر، ويقول كيف أنت تدَّعي الإسلام، ومعك قاضٍ بزعمك، وإمام، ومؤذن، ثم تقتحم بلاد المسلمين، وتقتل، وتريد أن تقتحم دمشق، لما وضع الطعام، التتر لما وضعوا الطعام للوفد المسلم، أبى شيخ الإسلام أن يأكل، قالوا له: كل، قال: لا، قالوا لماذا ؟ قال: وهل هذا إلا ما سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم ؟ فإذا سلبتموه من غنم المسلمين وأموالهم، الآن تذبحوا لنا منه ونأكل، ما يجوز أكل المغصوب والمنهوب، ولا المسروق، وجعل يعظ ملك التتر، وقائد التتر.
حتى وقعت هيبة شيخ الإسلام في قلب الملك، وسأل عن اسمه من هذا ؟ وجعل أصحاب ابن تيمية يجمعون ثيابهم مخافة، قالوا: الآن يسقط رأس ابن تيمية، والدم ينضح علينا، فجعلوا يجمعون ثيابهم مخافة أن يصيبها دمه، ولكن الله عز وجل ألقى هيبة شيخ الإسلام ابن تيمية في نفس ملك التتر، فوعده خيراً وأنه لن يقتحم البلد، ورده مكرماً، قالوا: كدت والله أن تهلكنا، يقول الذي خرجوا معه الوفد، كدت والله أن تهلكنا، يعني على هذه المواقف الجريئة، والله لا نصحبك بعدها أبداً، قال: فذهبوا من طريق آخر، قال: فأما شيخ الإسلام، فسمع أهل دمشق بما فعل من أجلهم، وكيف أنه كان يأمر وينهى ملك التتر، فخرجوا إليه واستقبلوه، واجتمع عليه الناس، وأكرموه، حتى دخل دمشق، وأما نحن فخرج علينا جماعة من اللصوص، فشلحونا.
وكان في هذه الأمة والحمد لله، من يتصدى لواضعي الحديث النبوي، ولما جيء بذلك الزنديق الذي وضع أربعة ألاف حديث، فقال له الخليفة، يقرره بما فعل، قال: نعم وضعت على نبيكم، كذبت أربعة آلاف كذبة، صارت بين الناس، يعني الآن سواء قتلتني أو ما قتلتني، الأحاديث شاعت وانتشرت، فقال: وأين أنت من عبدالله بن المبارك، وأبي إسحاق الفزاري، وفلان وفلان، ينخلانها حرفاً حرفًا، يعني أن عندنا من علماء المسلمين، والمحدثين من يكشف هذه الأحاديث، ومن يبين أمرها للناس، وهكذا قاموا ببيان حال هذه الأحاديث، وتتبع المهدي رحمه الله، الزنادقه، حركة الزنادقة، وقام بتخليص المسلمين، من كثير من شرهم.(/6)
ولما قام في هذا الوقت، الآن، الهجوم على طريقة السلف، وعلى الدعوة السلفية المباركة، وعلى منهج إتباع القرآن والسنة، والأخذ بالأدلة الصحيحة من القرآن والسنة، وهي طريق السلف، ولزوم عقيدة السلف، بعيداً عن البدع، بعيداً عن التعصب، قام أعداء الإسلام الذين يعرفون الخطورة أين تكمن حقيقةً، وأن أشد الناس على أعداء الله أتباع طريقة السلف، قاموا يشنون الحملات، على هذه العقيدة السلفية، والطريقة السلفية، وعلى رموزها وقادتها وعلمائها، كشيخ الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبدالوهاب، وغيرهم، ولكن الله يقيض من هذه الأمة، من ينافح عن طريقة السلف، وعن عقيدة السلف، وعن منهج السلف، كتابةً وكلاماً وخطاباً في مجالات مختلفة، صحافةً وإذاعةً، وفي الفضائيات وغيرها، ولم يبق إلا السخفاء، الذين يلمزون ويطعنون، في هذه الدعوة السلفية المباركة، وفي علمائها، فهم أقزام يتزاحمون تحت أقدام شيخ الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبدالوهاب وغيرهم، من علماء الإسلام، ولا شك أن من علماء هذه الدعوة المباركة، الشافعي رحمه الله، ومالك، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي البيروتي، وغيرهم من أهل العلم، الذين ساروا على طريقة السلف.
لقد تعرضت هذه الأمة لمحن كثيرة، ومطاعن كثيرة،ولكن تأبى أن تلين أو تهون:
وكنا حين يأخذنا ولي ... بطغيان ندوس له الجبين
إن هذه الأمور العظيمة، التي يريد اليوم الغربيون جرنا إليها، وتحرير المرأة في زعمهم، والتركيز على قضية المرأة، ما لهم ولنسائنا، نحن نعرف كيف نتصرف ونتعامل، وعندنا قواعد في الشريعة، تحكم علاقة الرجال بالنساء، أفهم أعلم بمصالح نسائنا منا ؟ أو هم أغير على نسائنا منا، ولذلك فإن التصدي لهؤلاء، من أعظم القربات عند رب العالمين .
إن هذه الهجمات الشرسة التي تحدث اليوم، سواءً كانت مباشرة على المرأة المسلمة، سواء كان هؤلاء يشنونها صريحةً، أو ملفوفةً، إن التصدي لها من أعظم القربات عند رب العالمين، ولذلك فإنما يحدث اليوم، من إشاعة الإنحلال في بيوت المسلمين، عبر ما يسمى ببرامج ' ستار أكاديمي ' ' وستارز ' وغيرها من البرامج التي يريدون فيها إشاعة ثقافة الإنحلال، أكادمية الإنحراف والمجون والفسق والفجور والدعارة .
ولابد أن يكون في المسلمين، من يقوم ويتصدى لهذه الأشياء، ويتكلم، المسألة تتعلق بأعراضنا، تتعلق بعفة فتياتنا، وشبابنا، وإن مثل هؤلاء الذين يخرجون في هذه، اللقطات التي تبث لا حرمة لهم بمعنى، أن غيبتهم جائزة؛ لأنهم أعلنوا الفسق، والمعلن بالفسق كما نص العلماء عليه لا حرمة له ولا غيبة، ويشهر به، ويطعن فيه على الملأ، ولذلك لو ذكر باسمه ونص عليه، فاضحاً له، بما يعمله، فإن هذا صحيح، ولا ينكر؛ لأن المسألة الآن خرجت عن نطاق الإستخفاء، والإستسرار، إلى النطاق العملي .
من أدلة وجود الحياة في الأمة، ومقاومة هذه الأشياء، ما حدث في فرنسا مثلاً، في أزمة الحجاب، عندما أرادوا منع المسلمات من الحجاب، في المعاهد والكليات والمدارس والمنشآت التعليمية إلخ، لقد عمت العالم الإسلامي، مشاعر الغضب والاستياء، من هذه القضية، وقام أهل العلم وتكلموا، والدعاة، ومواقع الإنترنت، وحصل الإنكار حتى على الذين ينتسبون إلى الإسلام، ممن أقر ذلك، وصارت عاطفة حتى بعض السافرات، مع المرأة المسلمة في فرنسا.
ولما أراد أيضاً بعضهم، أن يجروا إلينا ويلات، مما يكون فيه مفاسد، من جهة سفور المرأة، وخروج المرأة، ونزع الحياء عنها، وجعلها تذهب طليقةً متمردةً على أهلها، لتكون سبباً في الفتنة، حتى وفي الزحام، قام في العلماء من يبين ذلك، وفي الدعاة وفي عموم الناس، والحمد لله القضية ليست مقتصرة على العلماء فقط، لقد تكلم عموم الناس في هذا الأمر، وكان في خطاباتهم، ورسائل جوالاتهم ، واتصالاتهم، حتى الإعلان بالإنكار، على القنوات وغيرها، وهذه من أعظم أبواب الأجر، والإحتساب في الإسلام، أن يقوم اليوم المتمكنون، بالإنكار والإتصال في القنوات، على هؤلاء الذين يروِّجون الفساد، للإنكار عليهم.
وإن الوسائل والحمد لله، كثيرة، فنسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين .
من 'الأمة الأبية' للشيخ/محمد بن صالح المنجد(/7)
الأمة الإسلامية .. طريق عزتها
الأمة الإسلامية في حالة غزو من أعدائها في الداخل والخارج، غزو في عقيدتها، غزو في أخلاقها، غزو في تصوراتها، غزو في تحريف مفاهيمها، وهذا الغزو يتطلب من كل مسلم إعداد العدة والأخذ بأسباب النصر التي بينها الله في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وحول كيفية النصرة لله وإعداد العدة كان هذا الدرس.
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعد،،،
فإن أعداء الإسلام قد غزوا هذه الأمة من كل وجه، فغزوها من جهة العقيدة والفكر، فغيروا العقائد، وحرفوا الأفكار، وهذا دأبهم قديماً وحديثاً، ولا ننسى أيضاً ما يقوم به أهل البدع والأهواء من غزو لمعتقد أهل السنة والجماعة، ومحاولة صرف وتغيير وتبديل لما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فيلبسون لباس أهل الإسلام، وهم في الحقيقة أعداؤه، ولكم أضروا بالمسلمين وبمعتقدهم وبسلوكهم، وكم أسالوا من دماء، وكم فرقوا الأمة، وكم شتتوا شملها، وكم أغروا العداوة والبغضاء بين أفرادها !!
فخطرهم عظيم، ولقد أشار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ إلى خطرهم في مواضع كثيرة، وأخبر أن هؤلاء أولى بالمحاربة والجهاد من العدو الظاهر: من العدو اليهودي، والنصراني، والمشرك، لأن أولئك عوارهم وعيبهم ظاهر لكل مسلم، والخوف كل الخوف من هؤلاء الذين يغزون الإسلام من الداخل، ويؤخرون الأمة عن النصر، وأنتم تعلمون إن الله قد تعهد بنصر الأمة المؤمنة العاملة العمل الصالح، ومن انحرف عن الإيمان، وانحرف عن التوحيد والعقيدة والمنهاج المستقيم، فإنه سيتأخر عن النصر بلا شك .
وغزا أعداء الله- أيضاً- المسلمين في أخلاقهم، وفي معاملاتهم، غزوا سلوكهم، فأفسدوا الأخلاق، وهدموا المثل العليا، ولم يزل به الأمر حتى نحوا شريعة الله عن حياة المسلمين، وزينوا لبعض أبناء المسلمين أن هذه العقيدة، وهذه الشريعة لا تصلح لمثل هذا الزمان، وإنما هي كانت لزمان ماض قد مضى وانمحى .
أيها الكرام: إن علينا أن نحذر دائماً، وأن نتنبه، ونتعرف على الداء لنعرف الدواء، يجب علينا أن نقف في نحور هؤلاء الأعداء جميعاً، ولاسيما العدو المستتر، ونستخدم في ذلك جميع مانقدر عليه من أسباب مادية ومعنوية، ولابد لنا من أسباب وشروط إن أخذنا بها سننتصر، وتكون لنا العزة والنهضة والقوة في الأرض إن شاء الله .
من أسباب وشروط النصر والعزة:
إخلاص العمل لله: أن ننوي بأعمالنا وجه الله، أن ننوي بدعوتنا وجهادنا بألسنتنا وأيدينا وأموالنا إعلاء كلمة الله في الأرض، وتحكيم شريعته، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، نية صادقة لا يشوبها رياء ولاسمعة، ولارغبة في الدنيا، ولا التفات إلى ما في أيدي الناس، وهذه من أعظم أسباب النصر للرسل وأتباعهم: { ...قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا...[90] } [سورة الأنعام]. كان الأنبياء يكررونها لأقوامهم: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ[109] } [سورة الشعراء]. فننوي الإخلاص لله بدعوتنا وجهادنا وعملنا وقولنا سرًا وجهرًا .
أن تكون لدينا العزيمة الصادقة القوية على تنفيذ أوامر الله: في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الصحة والمرض، في الفقر والغنى على كل حال، كما فعل سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونضرب لذلك بمثالين عظيمين يتجلى فيهما ماحصل لصحب النبي صلى الله عليه وسلم من الجهد والمشقة، والنصب والتعب .
• أولهما: في غزوة أحد: لما حصل لهم ما حصل من التعب والجهد والمشقة واستشهاد من استشهد منهم، ولما همّ المشركون بعد انصرافهم من أحد ليرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه زاعمين أنهم يريدون استئصال ما بقي منهم، ندب النبي صلى الله عليه وسلم صحبه إلى النهوض لقتال العدو مرة أخرى، فأجابوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما فيهم من الجراح والتعب والنصب، استجابوا لذلك طاعة لله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وابتغاء لفضل الله ورضوانه، ولقد ذكر الله ذلك في قرآن يتلى إلى يوم القيامة قائلًا: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ[172] } [سورة آل عمران].
وقد دحر الله عدوهم، و ألقى في قلبه الرعب، فرجع أبو سفيان، وكان إذ ذاك كافرًا ولم يمض لأمره؛ فقال تعالى: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ[174] } [سورة آل عمران]. فأثابهم الله حسنُ الثواب، وانقلبوا بطاعة الله ورسوله ورضوان من الله جل وعلا .(/1)
•والمثال الثاني: في غزوة الأحزاب: ماجرى للصحابة رضي الله عنهم التي طال فيها حصار المشركين، وهزمهم الله عز وجل، ورجع الصحابة إلى بيوتهم وأهليهم بعد طول الحصار والمشقة والتعب، رجعوا مقبلين على أهلهم طالبين للراحة، وللأهل:' فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ فَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ فَقَالَ: [ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ فَأَيْنَ] فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ' رواه مسلم .
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وندب الصحابة إلى الخروج، وانظروا إلى العزائم، عزائم الرجال، كيف استحابوا لله والرسول، قال صلى الله عليه وسلم عند ذلك:[لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ] رواه البخاري ومسلم . فخرج الصحابة، منهم من التزم ظاهر نصه صلى الله عليه وسلم ولم يصل إلا في بني قريظة، ومنهم من قال: أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد منا سرعة الخروج، فصلى في الطريق، ثم وصل إلى بني قريظة .
هكذا كان امتثال السلف والرعيل الأول من هذه الأمة، هكذا كان امتثالهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واتباعهم له بغير جدال، ولاتردد ولانقاش، وهكذا كان صدق عزائمهم مع الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك حقق الله لهم النصر المبين على عدوهم، فكانت العاقبة لهم، والعاقبة للمتقين .
اجتناب معصية الله: فإن معصية الله من أعظم أسباب الخذلان في الدنيا والآخرة، ومن أعظم أسباب تأخير النصر عن الأمة، فإذا أردنا النصر على عدونا فلنطع الله ورسوله، ولنخش الله تعالى، ونتقيه، فإن فعلنا؛ فإن الله تعالى ناصرنا على عدونا .
ولقد حصل من الصحابة مخالفة ومعصية في غزوة أحد، فمن جرّاء هذه المعصية الواحدة، وهي معصية تنظيمية، يعني ليس فيها شرب خمر ولا فعل فاحشة، قال لهم صلى الله عليه وسلم: [ إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ] رواه البخاري . فالصحابة الذين كانوا على جبل الرماة لما رأوا المسلمين قد هزموا المشركين تخلوا أو تخلى بعضهم عن هذا المكان الذي عينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدهم في تلك المعركة، فحصلت الهزيمة، قال الله تعالى: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[152] } [سورة آل عمران].
هذا ما حصل للمؤمنين من جراء معصية واحدة، فكيف بمن عصى الله في أمور كثيرة ؟! فكيف وفي العرب اليوم من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أو في إيمانه شك ؟! وكيف وفي المسلمين اليوم من يعتقد أن الشريعة والتزامها رجعية وتخلف؟! وكيف وفي المسلمين اليوم من لا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة ؟! وفي المسلمين من لا يصوم رمضان، ولا يعرف حج بيت الله الحرام ؟! وفي المسلمين اليوم من يشرب الخمر، بل في أسواق المسلمين إلا الندرة من بلاد المسلمين تباع الخمور علانية ! وتشرب علانية ! كيف ونساء المسلمين اليوم متبرجات، مائلات مميلات، فاتنات مفتونات !! وكيف وأسواق المسلمين اليوم تعج بمحاربة الله تبارك وتعالى بأكل الربا الذي أعلن الله الحرب على أصحابه؟! كيف وأسواق المسلمين اليوم تعج ببيع آلات الطرب والمعازف والغناء، وأشرطة الفيديو المحتوية على الخلاعة والمجون؟! كيف؟ وكيف؟ وكيف؟!
الصحابة رضي الله عنهم من جرّاء معصية واحدة حصل لهم ما حصل، فكيف يحصل النصر لأمة الإسلام اليوم وفيها مثل هذه الأدواء، وهذه البلايا التي يحار المرء بأيها يبدأ ؟!
ألا نعجب بأنفسنا: فإن الإعجاب بالنفس من أسباب تأخر النصر، ومن أسباب البعد عن العزة والكرامة التي يريدها الله لعباده المؤمنين، فإن الإعجاب بالنفس سبب للحرمان من فضل الله ونصره؛ لأن الإعجاب بالنفس معناه نسيان ربنا سبحانه وأن النصر منه كما قال: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126] } [سورة آل عمران] .(/2)
ولقد قال بعض الصحابة كلمة- وقد قيل إنها انطلقت أو خرجت من بعض مسلمة الفتح في غزوة حنين- لما رأى الكثرة المدججة بالسلاح، وهي تبلغ اثني عشر ألفاً، قال: لن نغلب اليوم من قلة، قال سبحانه: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ[26]ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[27] } [سورة التوبة].
فأخبر سبحانه وتعالى أن هذه الكلمة كانت سبباً في الهزيمة؛ لأن الإنسان إذا أعجب بنفسه نسي الله تبارك وتعالى وقوته، وأن النصر من عنده جل وعلا .
علينا أن نعد العدة لأعدائنا بما استطعنا: ونبدأ أولا بإعداد العدة المعنوية، وإصلاح الجبهة الداخلية التي هي مصدر القوة الخارجية، فإن الإنسان يجاهد أربعة أعداء:
• أولها: نفسه التي بين جنبيه
• ثانيها: هواه وشيطانه
فإن لم ينتصر على نفسه وهواه وشيطانه؛ لا نتوقع منه أن ينتصر على العدو الكافر، أو المنافق الفاجر، فلابد أن يبدأ الإنسان بإعداد العدة الروحانية، والانتصار على نفسه وهواه وشيطانه، وتطويع نفسه أي أن تكون مطيعة لله، تابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وأما الاستعجال وترك الإعداد الروحاني، والبناء النفساني؛ فإنه مذموم، قد ذمه الله وقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا[77] } [سورة النساء]. فهذه الآية تتحدث عن طائفة ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، كانوا يتوقون للجهاد والقتال، ويتمنون قتال أعداء الله من المشركين، لكن الله تعالى لم يأذن لهم بذلك؛ لأن في قتالهم لهم مفسدة كبرى، ولأنهم لم تكتمل أنفسهم، ولم يكتمل بناء أنفسهم، فأراد الله أن يكون ذلك في حينه، وقال أصحاب البيعة، بيعة العقبة الثانية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:' إن شئت منا أن نميل على أهل الوادي' يقصدون أهل منى في الموسم، فقال صلى الله عليه وسلم: [إِِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ] . فالاستعجال بهذا الباب يضر الأمة ولا ينفعها .
? فاصدقوا الله سبحانه وتعالى في عقائدكم، ونياتكم، وأقوالكم وأعمالكم، واعبدوه مخلصين له الدين، والتزموا شريعته، وأطيعوا رسوله، غير مغالين، ولا مفرطين، بل أمة وسطا كما أمركم الله، وانصروا الله تعالى بالانتصار على أنفسكم وأهوائكم وشهواتكم؛ ينصركم الله سبحانه، وانصروا الله بالغيرة على دينه، وتغيير المنكر بما استطعتم، وذودوا عن توحيد رب العالمين، وعن عقيدتكم التي هي سبب فلاحكم ونجاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة فإن الله يقول: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] } [سورة محمد] .ويقول جل وعلا: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21] } [سورة المجادلة]. وقال سبحانه وتعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41] } [سورة الحج] . ويقول جل وعلا: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55] } [سورة النور] . ويقول سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105] } [سورة الأنبياء] .(/3)
? فيا أمة القرآن.. يا أمة الإسلام.. يا أمة التوحيد والإيمان، هذه الآيات الكريمة تحمل موعوداً مؤكداً صادقاً من رب العالمين: إن نصرتموه؛ نصركم جل وعلا، فقد نصر الله نبيه وحزبه، فهو هازم الأحزاب، ومجري السحاب، ومنزل الكتاب، لا إله غيره ولا رب سواه، اعبدوا الله عز وجل ولاتشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وآمنوا بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم؛ لأن له عاقبة الأمور، وهو القوي العزيز، لا ترهبوا من أعدائكم ولا تخافوهم، وإنما قابلوا خططهم وعددهم بشجاعة وعدد هي أقوى، وإذا كانوا هم يمكرون ويتصرفون ويفكرون فأنتم لستم بأقل منهم قوة،ولا عقلاً، ولا مكراً بل أنتم بفضل الله أقوى وأعز .
اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وتذل الشرك والمشركين وتدمر أعداءك أعداء الدين الدين، وأن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير .
من محاضرة:'الأمة الإسلامية .. طريق عزتها' للشيخ / محمد الحمود النجدي(/4)
الأمة الإسلامية .. والهزائم الداخلية!!
فضيلة الدكتور/ عبد الوهاب الطرير
إننا لا يمكن أن نفهم أسباب الهزائم المتكررة، والانهيارات في بناء الأمة واستمراء الهوان والاستسلام إلا إذا عدنا إلى عمق الأمة، إلى الفكر الذي تحمله، إلى النهجِ الذي تسير عليه، لنرى حينئذ أسباباً لا تُنتجُ إلا هذه النتائج المريرة، ولنرى مساربَ ومسارات لا تنتهي إلا إلى هذه الهاوية المريعة.
تعدد المصادر من أسباب الهزيمة
لقد لقيت الأمةُ ما لقيت وصليت ما صليت يومَ تعددت مصادرُ التلقي بعد أن كان المصدرُ كتاب الله:
(كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين).
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).
فإذا بالأمةِ تمزجُ بين الوحي وأحكامِ البشر.
إنها أمة ذات أهدافٍ وذات رسالةٍ وذات تاريخ، وعلينا نحن أبناء هذه الأمة أن لا نسمح لأحدٍ أن يسلبنا شخصيتنا، وأن يملي علينا منهجه وقواعده في التفكير، فنحن لم نخلق لنجر من آذاننا.
ولا لنقول لأي مخلوق- كائنا من كان- سمعنا وأطعنا، ونترك خيرة الله لنا ونداءه إيانا يوم قال: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله).
ولن نستطيع أن نحرر أرضا ما لم نحرر أنفسَنا وأفكارنا.
شعوبُك في شرقِ البلادِ وغربِها****كأصحابِ كهفٍ في عميقِ سباتِ
بأيمانهم نوران، ذكرٌ وسنةٌ **** فما بالُهم في حالك الظلمات
محبة النبي صلى الله عليه وسلم أين هي؟
وصلت الأمةُ إلى ما وصلت إليه يوم انطفأت جذوةُ حب النبي صلى الله عليه وسلم والتفاني في إتباعه والذب عن سنته، وغاب ما كان حاضراً لدى أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، يوم قال عمرو بن العاصِ رضي الله عنه: (والله ما ملأت عيني من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمت إجلالاً له أن أنظر إليه).
يوم كان كل صحابي يصدّر حديثه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً "بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم".
فإذا جذوةُ الحماس لدينه صلى الله عليه وسلم تخبو، وإذا الالتزام بسنته يضعف، وإذا الغيرة على نهجه تتقاصر وتتطامن، وإذا في الساحة مع النهج المحمدي مناهج، ومع الهدي المحمدي طروحاتٌ وأفكارٌ أُخر.
العلماء وندرتهم
وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه يوم ندر فيها العلماء الربانيون، الأمناء على الجيل الأوفياء للأمة، الآخذون بحجزها أن تقع في النار، أو تتيه في متاهات الظلام. العلماء الذين استشهدهم الله على أعظم شهادة (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط….)
العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا علمهم وورثوا دورهم وورثوا مهمتهم على الأرض، فأصبح العلماء الربانيون العاملون أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدوا وجد في الأمة من يرميهم بالحجارة، يتتبعهم ويثير الفتنة من حولهم، فئام من الشاغبين وعلى من؟
على الدعاة الهداة، فئام ممن إذا قالوا تسمع لقولهم وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، فإذا نظرت إلى طروحاتِهم فإذا هي مزاحمة الدعاة والتشكيك في العلماء الهداة.
مكانة العلماء وقدرهم
هؤلاء العلماء أندر في الأمة من الكبريت الأحمر، فإذا وجدوا فينبغي أن يكون مقرهم سويداء القلوب وحدق المقل وأن يبوئوا المكانة التي بوئهم الله إياها، فتكون أعراضهم مصانة، وحرماتهم محفوظة، ومقامهم أسمى من مقام كل أمير، وأعلى من كل وزير، وأرفع من كل مسئول. لأن مقامهم في الأمة مقام محمد صلى الله عليه وسلم فيها، إذ هم ورثته وحملة رسالته والداعون بدعوته، فمن نوقِّر إذا لم نوقرهم؟ وعلى من نغار إذا لم نغر عليهم؟ وعن من ننافح إذا لم ننافح عنهم؟
ونتولى مسئولية الذب عن أعراضِهم وحماية ظهورهم من خلفهم، وأن لا يسلموا إلى من أعطوا بسطةً في المقال، أو بسطةً في اليد، أو تمكينا أو سلطانا ليكون لهم عليهم قول في مقال، أو استطالة بكلام، فضلاً عن أن يؤذوا أو يضايقوا، فضلاً عن أن يحجر على دعوتهم أو يضّيق على كلمتهم، أو تصادر المهمة التي يقومون بها في الأمة(/1)
الأمة الإسلامية حية لا تموت ...
بسم الله الرحمن الرحيم
من وسط ظلام دامس ، وهذا التقهقر الذي لم يشهد تاريخ المسلمين تقهقراً مثله ، وتلك الآلام التي تمزق قلوب المؤمنين ، وتملؤها حسرة ولوعة ، فإلى أي جهة تطلع المؤمن وجد التخاذل والاستسلام ، مما يزيد ذلك من ألمه ويكبر جرحه ويتبدد أمله .
يشع نور الفجر وتستشرق في الآفاق إرهاصات نصر مبين ، فإن هذه الأمة رغم آلامها وأحزانها وما تعانيه من غطرسة وتجبر الكافرين ، هي أمة ظاهرة قاهرة لعدوها ، فقد اصطفاها الله سبحانه من بين الأمم لتكون أمة حية تعمل على إنقاذ البشرية جمعاء ، وتخرجها من الظلمات إلى النور بإذن ربها سبحانه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) . (28) الفتح
فالله سبحانه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق من أجل أن يكون دينه ظاهراً على الدين كله ، ولا جرم أن ظهور الدين مستلزم لظهور أهله ، وأن الأمة الإسلامية مهما خبا نورها ، وضعفت عزيمتها ،فلا بد لها من النهوض رغم أنوف أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر ويكيدون لها ليل نهار ، فإن الكافر يسعى عبثاً ليطفئ نورها إذ إن نورها من نور دينها الذي هو نور ربها الحي الذي لا يموت الغالب الذي لا يغلب ، القاهر الذي لا يقهر قال تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) . (32) التوبة
فمهما سعى الكافر المجرم من أجل أن يطفئ نور الله ويبذل في ذلك المال والنفس ،فسيكون من الخاسرين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) . (36) الأنفال فسبحان الله العظيم ، أي إعجاز هذا ، وأي بلاغة تلك ، يبين الله سبحانه أن الكافرين ينفقون أموالهم ، وهي التي يعيشون لأجلها ، هي مبتغاهم من هذه الحياة الدنيا ، هي سبب ضلالهم وإغوائهم ، ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله ،ينفقونها ليكونوا منسلخين من كل قيم حميدة وأخلاق حسنة ، ينفقونها وإن كلفهم ذلك إزهاق أرواح أبرياء ،ينفقونها سعياً لإهلاك الحرث والنسل ، ولكن مهما بلغت نفقاتهم وعظم حرصهم واشتدت حربهم واستطار شررهم ، فالنتيجة أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، خزي وندامة وحرقة في قلوبهم ،ذلك بسبب عدم تحقيقها لمآربهم الخبيثة الماكرة الهادفة إلى قتل الخير وإظهار الشر وإيقاظ الفتنة والانحلال ، ولم تقف النتيجة إلى هذا الحد بأن تكون حسرة فقط ، بل سيغلبون ، أجل والله الذي لا إله إلا هو سيغلبون ثم بعد ذلك إلى جهنم يحشرون سيغلبون ويفرح يومئذ المؤمنون بنصر الله سبحانه ، سيفرح المؤمنون بنصر الله في الدنيا والآخرة ، أما عملاؤهم وأذنابهم المبهورون بحضارتهم الزائفة ، المروجون لبضاعتهم الفاسدة فيكون مصيرهم ما قال الله سبحانه : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) . (52) المائدة
فإن هؤلاء المجرمين لا يقاتلون منا زيداً وعمراً ، بل يقاتلون العقيدة في نفوس المؤمنين ولن تموت الأمة ، لن تموت الأمة ، لن تموت الأمة ، لأن حياة الأمة ليس بحياة فرد من أفرادها مهما بلغ قدره ، إنما حياة الأمة باعتصامها بكتاب ربها سبحانه وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) . (24) الأنفال فنجاة الأمة بتمسكها بكتاب ربها سبحانه وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم .(/1)
وعليه فإن هذه دعوة لكل مسلم من أجل أن يتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى تتدفق الحياة في الأمة من جديد ، فيعود للأمة عزها ومجدها وسؤددها وما ذلك على الله بعزيز ، ولكن : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) . (7) محمد وابشروا فإن ما يصيب الأمة إن هو إلا أمارات حياة جديدة لها فهي الأمة التي اجتباها الله من بين الأمم لتكون خير أمة أخرجت للناس ،فلا تجعلوا اليأس ينفذ إلى قلوبكم فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وأذكركم ونفسي بقول الله سبحانه : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) . (140) آل عمران
والله سبحانه ولي التوفيق
إبراهيم بن عبد العزيز
28 –صفر –1425 هـ
الموافق 18/4/2004 م(/2)
الأمة الإسلامية حية لا تموت
18-04-2004
بسم الله الرحمن الرحيم
من وسط ظلام دامس ، وهذا التقهقر الذي لم يشهد تاريخ المسلمين تقهقراً مثله ، وتلك الآلام التي تمزق قلوب المؤمنين ، وتملؤها حسرة ولوعة ، فإلى أي جهة تطلع المؤمن وجد التخاذل والاستسلام ، مما يزيد ذلك من ألمه ويكبر جرحه ويتبدد أمله .
يشع نور الفجر وتستشرق في الآفاق إرهاصات نصر مبين ، فإن هذه الأمة رغم آلامها وأحزانها وما تعانيه من غطرسة وتجبر الكافرين ، هي أمة ظاهرة قاهرة لعدوها ، فقد اصطفاها الله سبحانه من بين الأمم لتكون أمة حية تعمل على إنقاذ البشرية جمعاء ، وتخرجها من الظلمات إلى النور بإذن ربها سبحانه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) . (28) الفتح
فالله سبحانه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق من أجل أن يكون دينه ظاهراً على الدين كله ، ولا جرم أن ظهور الدين مستلزم لظهور أهله ، وأن الأمة الإسلامية مهما خبا نورها ، وضعفت عزيمتها ،فلا بد لها من النهوض رغم أنوف أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر ويكيدون لها ليل نهار ، فإن الكافر يسعى عبثاً ليطفئ نورها إذ إن نورها من نور دينها الذي هو نور ربها الحي الذي لا يموت الغالب الذي لا يغلب ، القاهر الذي لا يقهر قال تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) . (32) التوبة
فمهما سعى الكافر المجرم من أجل أن يطفئ نور الله ويبذل في ذلك المال والنفس ،فسيكون من الخاسرين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) . (36) الأنفال فسبحان الله العظيم ، أي إعجاز هذا ، وأي بلاغة تلك ، يبين الله سبحانه أن الكافرين ينفقون أموالهم ، وهي التي يعيشون لأجلها ، هي مبتغاهم من هذه الحياة الدنيا ، هي سبب ضلالهم وإغوائهم ، ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله ،ينفقونها ليكونوا منسلخين من كل قيم حميدة وأخلاق حسنة ، ينفقونها وإن كلفهم ذلك إزهاق أرواح أبرياء ،ينفقونها سعياً لإهلاك الحرث والنسل ، ولكن مهما بلغت نفقاتهم وعظم حرصهم واشتدت حربهم واستطار شررهم ، فالنتيجة أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، خزي وندامة وحرقة في قلوبهم ،ذلك بسبب عدم تحقيقها لمآربهم الخبيثة الماكرة الهادفة إلى قتل الخير وإظهار الشر وإيقاظ الفتنة والانحلال ، ولم تقف النتيجة إلى هذا الحد بأن تكون حسرة فقط ، بل سيغلبون ، أجل والله الذي لا إله إلا هو سيغلبون ثم بعد ذلك إلى جهنم يحشرون سيغلبون ويفرح يومئذ المؤمنون بنصر الله سبحانه ، سيفرح المؤمنون بنصر الله في الدنيا والآخرة ، أما عملاؤهم وأذنابهم المبهورون بحضارتهم الزائفة ، المروجون لبضاعتهم الفاسدة فيكون مصيرهم ما قال الله سبحانه : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) . (52) المائدة
فإن هؤلاء المجرمين لا يقاتلون منا زيداً وعمراً ، بل يقاتلون العقيدة في نفوس المؤمنين ولن تموت الأمة ، لن تموت الأمة ، لن تموت الأمة ، لأن حياة الأمة ليس بحياة فرد من أفرادها مهما بلغ قدره ، إنما حياة الأمة باعتصامها بكتاب ربها سبحانه وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) . (24) الأنفال فنجاة الأمة بتمسكها بكتاب ربها سبحانه وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم .(/1)
وعليه فإن هذه دعوة لكل مسلم من أجل أن يتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى تتدفق الحياة في الأمة من جديد ، فيعود للأمة عزها ومجدها وسؤددها وما ذلك على الله بعزيز ، ولكن : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) . (7) محمد وابشروا فإن ما يصيب الأمة إن هو إلا أمارات حياة جديدة لها فهي الأمة التي اجتباها الله من بين الأمم لتكون خير أمة أخرجت للناس ،فلا تجعلوا اليأس ينفذ إلى قلوبكم فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وأذكركم ونفسي بقول الله سبحانه : (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) . (140) آل عمران
والله سبحانه ولي التوفيق
إبراهيم بن عبد العزيز
28 –صفر –1425 هـ
الموافق 18/4/2004 م(/2)
الأمة الإسلامية والتحدي الكبير
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
إن قضية فلسطين كانت ولا تزال وستظل قضية المسلمين الأولى لا لكونها قضية وطن مُغْتصب، أو شعب مُضْطهد بل لأنها مع ذلك بل قَبْله قضية إسلام وإيمان فهي تُمثّل بؤرة الصراع العقائدي، وميدان المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه في أوضح وأقسى صورها، فالمسجد الأقصى أول مسجد بُني بعد البيت الحرام، وكان قبلة المسلمين الأولى، وأسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه ومنه عرج به إلى السماء، وخُصَّ مع الحرمين الشريفين بشد الرحال ومضاعفة أجور العبادة، وبشّر المصطفى صلى الله عليه وسلم بفتحه بعد موته وغير ذلك مما ثبت لبيت المقدس من الفضائل والخصائص التي وردت في آيات القران وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
وبعد :
فإننا اليوم في عالم القرية الصغيرة التي يعلم الجميع ما يجري في أي جزء من أجزائها في لحظة وقوع الحدث؛ لأن وسائل الإعلام والاتصال كسرتْ القيد، وقرّبتْ البعيد، ويضاف إلى ذلك أن أصحاب القوة في عالم اليوم - وبالذات بعد أحداث سبتمبر - أصبحوا أكثر وضوحاً في مواقفهم، وأكبر جرأة في ممارستهم، وإن شئت فإنهم أكثر صلفاً في عدوانهم، وأشد قبحاً في بغيهم، وإن أبرز مواطن إجرامهم، وأوسع ميادين ظلمهم أرض الإسراء فلسطين الحبيبة، فمنذ وعد بلفور الذي منح به من لا يملك من لا يستحق، إلى مساعدة العصابات الصهيونية القتالية المجرمة، ومروراً بدعم وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، إضافة إلى الاعتراف بالدولة المحتلة المعتدية، وانتهاء بالدعم اللا محدود سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في تحالف معلن يُوجه السياسة، ويًُسخّر الاقتصاد، ويُوفر الإمداد، وفي مقدمة الدول المتولية كِبْرَ ذلك كله أمريكا وبريطانيا ويجران خلفهما الدول المؤثرة من الدول الأوروبية.
وإن قضية فلسطين كانت ولا تزال وستظل قضية المسلمين الأولى لا لكونها قضية وطن مُغْتصب، أو شعب مُضْطهد بل لأنها مع ذلك بل قَبْله قضية إسلام وإيمان فهي تُمثّل بؤرة الصراع العقائدي، وميدان المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه في أوضح وأقسى صورها، فالمسجد الأقصى أول مسجد بُني بعد البيت الحرام، وكان قبلة المسلمين الأولى، وأسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه ومنه عرج به إلى السماء، وخُصَّ مع الحرمين الشريفين بشد الرحال ومضاعفة أجور العبادة، وبشّر المصطفى صلى الله عليه وسلم بفتحه بعد موته وغير ذلك مما ثبت لبيت المقدس من الفضائل والخصائص التي وردت في آيات القران وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
والآن يظهر التحدي الكبير بين أمة الإسلام وأعدائها الألداء المتمثلين في الصهاينة المعتدين وحلفائهم من الصليبين الإنجيليين المتطرفين، وتتلخص حلقات الجريمة الكبرى فيما يلي:
1- أمريكا وأوروبا أزعجت العالم كله والعالم الثالث على وجه الخصوص بالمطالبة بالديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والتأكيد على حق الشعوب في اختيار حكامهم، وعندما فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قلبوا ظهر المِجَن، وانقلبوا على ديمقراطيتهم المزعومة وصادروا حق الشعب الفلسطيني في اختياره، وأعلنوا بكل صفاقة وبجاحة معارضتهم لتولي (حماس) السلطة، وأخيراً أعلنوا قطع المساعدات الدولية من أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي في حصار جائر يُذكر بفعل أسلافٍ لهم مثلَهم من كفار قريش في حصار النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشِّعْب بمكة، ويجددون أهداف أعداء الدعوة الإسلامية في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } .
2- تنادي أمريكا وأوروبا بالحرية وحماية حقوق الإنسان، ثم تُعلن مصادرة حرية الشعب الفلسطيني بالمقاطعة والحصار الاقتصادي، وتتعدى على حق الإنسان الفلسطيني في الحياة الكريمة وذلك بسياسة التجويع والإفقار؛ حيث أمهلت الحكومة الأمريكية مواطنيها وشركاتها مدة شهر واحد فقط لإيقاف جميع تعاملاتهم التجارية مع فلسطين بشكل عام، ورغم ادعاءات الإنسانية والمناداة بمساعدة الشعوب المحتاجة ومحاربة الفقر وغير ذلك من الشعارات إلا أن الموقف في فلسطين يدلُّ وبوضوح على عكس ذلك، فقد تعرّت الحضارة الغربية ونزعت ورقة التوت، وكشفت تلك الحكومات عن مكنونات حقدها، وحقيقة خوفها وعدائها للإسلام والمسلمين.(/1)
3- العدالة والمساواة أبرز شعارات الحضارة الغربية المعاصرة، ولكن الممارسة - في شأن قضية فلسطين - على عكس ذلك تماماً، فالاعتراف بالكيان الصهيوني واجب على الفلسطينيين وعلى حكومة (حماس) والكيان الغاصب لا يُطالب حتى بتعيين حدود للأرض التي اغتصبها، وعلى الفلسطينيين التزام الشرعية الدولية وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، أما الدولة المُدَللة فتدوس على تلك الشرعية المزعومة ولا تعنيها القرارات الدولية المتتالية ، وتأتي قمة العدالة حينما تُمارِسُ الدولةُ المحتلة كل أنواع الجرائم من القتل وتدمير المنازل ومصادرة الأراضي وتجريفها وبعد كل ذلك ترفض أمريكا مجرد صدور قرار يُطالب الصهاينة بترك الإفراط في استخدام القوة، وأما إذا دافع الفلسطيني المظلوم عن حقه وانتقم ممن اعتدى عليه فهذا إرهاب وعمليات إرهابية تتسابق الدول على إدانتها.
وكل ما سبق متوقع من الأعداء بل لا يُنتظر غيره، إلا أن الأسف والألم يتعاظم من مواقف بعض بني جلدتنا المتكلمين بألسنتنا الذين يُوافقون بل يُسابقون الأعداء في تلك المواقف والمطالب، وقد شهدنا – للأسف الشديد – المواقف المتخاذلة المخزية لبعض الدول العربية، ليس بالتخلي عن الشعب الفلسطيني وترك مساعدته بل بالمظاهرة لأعدائه في حصاره، وزيادة معاناته، وتلفيق التهم الباطلة لحكومته، والأسوأ من ذلك كله موقف أقطاب (حركة فتح) وكثير من مسؤوليها الذين يعملون جاهدين على إفشال حكومة (حماس) المنتخبة، في مواقف وممارسات دنيئة وصلت إلى حد وصف العمليات الاستشهادية بأنها حقيرة.
وما ذُكر غيض من فيض، وصور من معاناة عظيمة شاملة دامت أكثر من سبعين عاماً وهي الآن تبلغ مداها في أبلغ صور البغي والعدوان التي لا تقتصر على فلسطين بل تشمل جميع المسلمين، وما فلسطين إلا ميدان المعركة فحسب، وما أهلها ومجاهدوها الأبطال إلا طلائع الأمة التي تُمثل صفوفها الأولى، وتقوم بالواجب نيابة عن البقية، وإن أمريكا وحلفاءَها يُعلنون اليوم التحدي الكبير للأمة الإسلامية، ويقولون بلسان الحال والمقال: سنهزم حكومة (حماس) الإسلامية وسنسقطها وسنصادر رغبة وخيار الشعب الفلسطيني، ونحن على ذلك قادرون، فماذا أنتم فاعلون؟.
إن الأمر ليس مجرد إطعام جائع أو علاج مريض أو إغاثة ملهوف، كلا بل هو نصر الإسلام وتثبيت المسلمين، إن الموقف هو:
أن نكون أصحاب غيرة إيمانية وحمية إسلامية أو نكون أصحاب دنيا وشهوات وملذات !
أن نكون أصحاب عزة وكرامة أو أصحاب ذلة ومهانة !
أن نكون أصحاب قوة وشجاعة أو أصحاب ضعف وجبن !
أن نكون أو لا نكون .. !
إن إسقاط حكومة (حماس) المنتخبة إسقاط للخيار الإسلامي الذي أعلنه الشعب الفلسطيني، وإلغاء لخيار المقاومة الذي صوت عليه الفلسطينيون، وهو بكل المقاييس إظهار لقدرة أعدائنا على هزيمتنا، وكأنهم يعلنون هزيمة 1300 مليون مسلم وليس خمسة ملايين مسلم في فلسطين.
إذا أدركنا هذا الوضع فإنه يجب علينا أن نقوم بواجبنا، وأن نتحمّل أمانتنا ومسؤوليتنا التاريخية، وذلك من خلال :
1- مطالبة الدول العربية والإسلامية بالقيام بواجبها في مساندة الشعب الفلسطيني ودعم حكومته المنتخبة، والعمل على الدفاع عن فلسطين والإسهام في فك الحصار الجائر عنها بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية الممكنة.
2- مطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي بالتحرك السريع في الأوساط الدولية لمواجهة هذا الحصار الجائر، والعمل على إنهائه، والاتصال بجميع الدول الإسلامية لممارسة دورها الواجب في نصرة فلسطين والدفاع عنها.
3- مراسلة البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في أمريكا وأوروبا وكذلك الأمم المتحدة لاستنكار هذا الحصار وبيان عدوان الصهاينة والدعم اللا محدود الذي يجدونه من الحكومات الغربية وذلك لتوعية الشعوب وللضغط على الحكومات والتأثير على الرأي العام بما يخدم القضية الفلسطينية.
4- مخاطبة العلماء وهيئات الإفتاء والمجامع الفقهية لإصدار الفتاوى والبيانات التي توضح خطورة الوضع والواجب الشرعي على المسلمين حكاماً ومحكومين تجاه نصرة فلسطين ومواجهة أعداء الإسلام والمسلمين .
5- مخاطبة أئمة وخطباء المساجد ليقوموا بدورهم في توعية وتعبئة المسلمين ليقوموا بدورهم وواجبهم الشرعي تجاه إخواننا في أرض الإسراء.
6- التعريف بالقضية الفلسطينية عموماً والأوضاع الحالية خصوصاً للأسرة والأبناء وفي كل الأوساط الاجتماعية، وتكثيف ذلك ليكون الهمّ المشترك الأول لجميع المسلمين من خلال كل الوسائل المتاحة.
7- التحرك لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق على مستوى العالم العربي والإسلامي تشمل الصحافة والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية للدفاع عن أرض الإسراء وفضح مؤامرات الأعداء، وذلك بالكتابة والمطالبة والتأثير على تلك الوسائل الإعلامية على غرار ما حصل في النصرة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(/2)
8- إطلاق حملة شعبية واسعة النطاق لجميع التبرعات العاجلة على مستوى العالم العربي والإسلامي، وحثّ الجميع بالمبادرة ببذل أقصى ما يستطاع لتثبيت إخواننا في أرض الرباط، وإفشال حصار المجرمين المستكبرين، والتعاون مع الجهات والمؤسسات الخيرية الموثوقة لتحقيق ذلك .
9- دوام التضرع والدعاء عموماً وفي أوقات الإجابة خصوصاً بأن يثبت الله إخواننا في فلسطين وأن يمكّن لحكومتهم الإسلامية حتى تتجاوز محنتها وتؤدي رسالتها.
10- العمل على التنسيق والتكامل بين الجهود المختلفة في نصرة إخواننا أرض الإسراء.
وينبغي أن نعلم أن نصرة أهل فلسطين وكفايتهم بالمال حتى يستغنوا عن الحاجة لغير المسلمين يُعد واجباً شرعياً وهو من أنواع الجهاد، إذ المعلوم أن الجهاد بالنفس والمال، وقد أخبرنا الله عن أعدائنا فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ، وقد أمرنا الله إزاء ذلك ببذل المال لنصرة دينه وإبطال كيد أعدائه وجَعلَ ذلك من الجهاد في سبيله فقال: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }، وقال صلى الله عليه وسلم : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه النسائي وأبو داود و" الْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب الْجِهَاد بِالنَّفْسِ وَهُوَ بِالْخُرُوجِ وَالْمُبَاشَرَة لِلْكُفَّارِ , وَبِالْمَالِ وَهُوَ بَذْله لِمَا يَقُوم بِهِ مِنْ النَّفَقَة فِي الْجِهَاد وَالسِّلَاح وَنَحْوه" « عون المعبود »، وعلى هذا فالبذل والتبرع ليس فضلاً ولا مِنَّة بل أداء واجب وإبراء ذمة.
وإن من الواجب شكر الحكومات العربية التي أعلنت موقفها الرافض لهذا الحصار الجائر وقامت بتقديم المساعدات المالية للحكومة والشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وقطر والجزائر، ومع هذا الشكر نطالب بالاستمرار والزيادة، مع مطالبة بقية الدول العربية والإسلامية بمثل هذه المواقف.
والله نسأل أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء، أرض الرباط والجهاد، وأن يدفع عنهم كيد الأعداء، ويكفيهم شر المنافقين والمخذلين، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.(/3)
الأمة الإسلاميّة والتحدي الكبير
د. علي بن عمر بادحدح * 9/4/1427
07/05/2006
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإننا اليوم في عالم القرية الصغيرة التي يعلم الجميع ما يجري في أي جزء من
أجزائها في لحظة وقوع الحدث؛ لأن وسائل الإعلام والاتصال كسرتْ القيد،
وقرّبتْ البعيد، ويُضاف إلى ذلك أن أصحاب القوة في عالم اليوم - وبالذات بعد أحداث سبتمبر - أصبحوا أكثر وضوحاً في مواقفهم، وأكبر جرأة في ممارستهم، وإن شئت فإنهم أكثر صَلَفاً في عدوانهم، وأشد قبحاً في بغيهم، وإن أبرز مواطن إجرامهم، وأوسع ميادين ظلمهم أرض الإسراء فلسطين الحبيبة، فمنذ وعد بلفور- الذي مُنح به مَن لا يملك ما لا يستحق- إلى مساعدة العصابات الصهيونية القتالية المجرمة، ومروراً بدعم وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، إضافة إلى الإعتراف بالدولة المحتلة المعتدية، وانتهاء بالدعم اللا محدود سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في تحالف معلن يُوجه السياسة، ويُسخّر الاقتصاد، ويُوفر الإمداد، وفي مقدمة الدول المتولية كِبْرَ ذلك كله أمريكا وبريطانيا ويجرّان خلفهما الدول المؤثرة من الدول الأوروبية.
وإن قضية فلسطين كانت ولا تزال وستظل قضية المسلمين الأولى لا لكونها قضية وطن مُغْتصب، أو شعب مُضْطهد بل لأنها -مع ذلك بل قَبْله- قضية إسلام وإيمان؛ فهي تُمثّل بؤرة الصراع العقديّ، وميدان المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه في أوضح وأقسى صورها؛ فالمسجد الأقصى أول مسجد بُني بعد البيت الحرام، وكان قبلة المسلمين الأولى، وأُسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، ومنه عرج به إلى السماء، وخُصَّ مع الحرمين الشريفين بشدّ الرحال، ومضاعفة أجور العبادة، وبشّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بفتحه بعد موته، وغير ذلك مما ثبت لبيت المقدس من الفضائل والخصائص التي وردت في آيات القران وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
والآن يظهر التحدي الكبير بين أمة الإسلام وأعدائها الألدّاء المتمثلين في الصهاينة المعتدين وحلفائهم من الصليبين الإنجيليين المتطرفين، وتتلخص حلقات الجريمة الكبرى فيما يلي:
1- أمريكا وأوروبا أزعجت العالم كله والعالم الثالث على وجه الخصوص بالمطالبة بالديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والتأكيد على حق الشعوب في اختيار حكامهم، وعندما فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قلبوا ظهر المِجَن، وانقلبوا على ديموقراطيتهم
المزعومة، وصادروا حق الشعب الفلسطيني في اختياره، وأعلنوا بكل صفاقة وبجاحة معارضتهم لتولي (حماس) السلطة، وأخيراً أعلنوا قطع المساعدات الدولية من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي في حصار جائر يُذكر بفعل أسلافٍ لهم مثلهم من
كفار قريش في حصار النبي -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم في الشِّعْب بمكة، ويجدّدون أهداف أعداء الدعوة الإسلامية في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ). [المنافقون:7]. 2- تنادي أمريكا وأوروبا بالحرية وحماية حقوق الإنسان، ثم تُعلن مصادرة حرية
الشعب الفلسطيني بالمقاطعة والحصار الاقتصادي، وتتعدى على حق الإنسان
الفلسطيني في الحياة الكريمة، وذلك بسياسة التجويع والإفقار؛ إذ أمهلت
الحكومة الأمريكية مواطنيها وشركاتها مدة شهر واحد فقط لإيقاف جميع تعاملاتهم التجارية مع فلسطين بشكل عام، وعلى الرغم من ادعاءات الإنسانية والمناداة بمساعدة الشعوب المحتاجة ومحاربة الفقر وغير ذلك من الشعارات إلا أن الموقف في فلسطين يدلُّ وبوضوح على عكس ذلك، فقد تعرّت الحضارة الغربية، ونُزعت ورقة التوت، وكشفت تلك الحكومات عن مكنونات حقدها، وحقيقة خوفها وعدائها للإسلام والمسلمين.
3- العدالة والمساواة أبرز شعارات الحضارة الغربية المعاصرة، ولكن الممارسة -
في شأن قضية فلسطين - على عكس ذلك تماماً، فالاعتراف بالكيان الصهيوني واجب على الفلسطينيين وعلى حكومة(حماس)، والكيان الغاصب لا يُطالب حتى بتعيين حدود للأرض التي اغتصبها، وعلى الفلسطينيين التزام الشرعية الدولية وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، أما الدولة المُدَللة فتدوس على تلك الشرعية المزعومة ولا تعنيها القرارات الدولية المتتالية، وتأتي قمة العدالة حينما تُمارِسُ
الدولةُ المحتلة كل أنواع الجرائم من القتل وتدمير المنازل ومصادرة الأراضي
وتجريفها، وبعد كل ذلك ترفض أمريكا مجرد صدور قرار يُطالب الصهاينة بترك
الإفراط في استخدام القوة، وأما إذا دافع الفلسطيني المظلوم عن حقه، وانتقم
ممن اعتدى عليه، فهذا إرهاب وعمليات إرهابية تتسابق الدول على إدانتها.
وكل ما سبق متوقع من الأعداء بل لا يُنتظر غيره، إلا أن الأسف والألم يتعاظم(/1)
من مواقف بعض بني جلدتنا المتكلمين بألسنتنا الذين يُوافقون بل يُسابقون
الأعداء في تلك المواقف والمطالب، وقد شهدنا – للأسف الشديد – المواقف
المتخاذلة المخزية لبعض الدول العربية، ليس بالتخلي عن الشعب الفلسطيني وترك مساعدته بل بالمظاهرة لأعدائه في حصاره، وزيادة معاناته، وتلفيق التهم
الباطلة لحكومته، والأسوأ من ذلك كله موقف أقطاب (حركة فتح) وكثير من
مسؤوليها الذين يعملون جاهدين على إفشال حكومة (حماس) المنتخبة، في مواقف وممارسات دنيئة، وصلت إلى حد وصف العمليات الاستشهادية بأنها حقيرة.
وما ذُكر غيض من فيض، وصور من معاناة عظيمة شاملة دامت أكثر من سبعين عاماً، وهي الآن تبلغ مداها في أبلغ صور البغي والعدوان التي لا تقتصر على فلسطين بل تشمل جميع المسلمين، وما فلسطين إلا ميدان المعركة فحسب، وما أهلها ومجاهدوها الأبطال إلا طلائع الأمة التي تُمثل صفوفها الأولى، وتقوم بالواجب نيابة عن البقية، وإن أمريكا وحلفاءَها يُعلنون اليوم التحدي الكبير للأمة الإسلامية،
ويقولون بلسان الحال والمقال: سنهزم حكومة (حماس) الإسلامية وسنسقطها وسنصادر رغبة وخيار الشعب الفلسطيني، ونحن على ذلك قادرون، فماذا أنتم فاعلون؟
أيها المسلمون الغيورون، إن الأمر ليس مجرد إطعام جائع أو علاج مريض أو إغاثة ملهوف، كلا بل هو نصر الإسلام وتثبيت المسلمين، إن الموقف هو:
أن نكون أصحاب غيرة إيمانية وحمية إسلامية أو نكون أصحاب دنيا وشهوات وملذات،أن نكون أصحاب عزة وكرامة أو أصحاب ذلة ومهانة !
أن نكون أصحاب قوة وشجاعة أو أصحاب ضعف وجبن !
أن نكون أو لا نكون!
إن إسقاط حكومة (حماس) المنتخبة إسقاط للخيار الإسلامي الذي أعلنه الشعب
الفلسطيني، وإلغاء لخيار المقاومة الذي صوّت عليه الفلسطينيون، وهو بكل
المقاييس إظهار لقدرة أعدائنا على هزيمتنا، وكأنهم يعلنون هزيمة (1300) مليون مسلم وليس خمسة ملايين مسلم في فلسطين.
إذا أدركنا هذا الوضع فإنه يجب علينا أن نقوم بواجبنا، وأن نتحمّل أمانتنا
ومسؤوليتنا التاريخية، وذلك من خلال :
1- مطالبة الدول العربية والإسلامية بالقيام بواجبها في مساندة الشعب
الفلسطيني ودعم حكومته المنتخبة، والعمل على الدفاع عن فلسطين والإسهام في فك الحصار الجائر عنها بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية الممكنة.
2- مطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي بالتحرك السريع في الأوساط الدولية لمواجهة هذا الحصار الجائر، والعمل على إنهائه، والاتصال بجميع الدول الإسلامية لممارسة دورها الواجب في نصرة فلسطين والدفاع عنها.
3- مراسلة البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في أمريكا وأوروبا، وكذلك الأمم المتحدة لاستنكار هذا الحصار، وبيان عدوان الصهاينة
والدعم اللا محدود الذي يجدونه من الحكومات الغربية، وذلك لتوعية الشعوب،
وللضغط على الحكومات، والتأثير على الرأي العام بما يخدم القضية الفلسطينية.
4- مخاطبة العلماء وهيئات الإفتاء والمجامع الفقهية لإصدار الفتاوى والبيانات
التي توضح خطورة الوضع والواجب الشرعي على المسلمين حكاماً ومحكومين تجاه نصرة فلسطين ومواجهة أعداء الإسلام والمسلمين .
5- مخاطبة أئمة وخطباء المساجد؛ ليقوموا بدورهم في توعية وتعبئة المسلمين
ليقوموا بدورهم وواجبهم الشرعي تجاه إخواننا في أرض الإسراء.
6- التعريف بالقضية الفلسطينية عموما،ً والأوضاع الحالية خصوصاً للأسرة
والأبناء وفي كل الأوساط الاجتماعية، وتكثيف ذلك ليكون الهمّ المشترك الأول
لجميع المسلمين من خلال كل الوسائل المتاحة.
7- التحرك لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق على مستوى العالم العربي
والإسلامي تشمل الصحافة والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية؛ للدفاع عن
أرض الإسراء، وفضح مؤامرات الأعداء، وذلك بالكتابة والمطالبة والتأثير على تلك الوسائل الإعلامية على غرار ما حصل في النصرة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
8- إطلاق حملة شعبية واسعة النطاق لجمع التبرعات العاجلة على مستوى العالم
العربي والإسلامي، وحثّ الجميع إلى المبادرة ببذل أقصى ما يستطاع لتثبيت إخواننا في أرض الرباط، وإفشال حصار المجرمين المستكبرين، والتعاون مع الجهات والمؤسسات الخيرية الموثوقة لتحقيق ذلك .
9- دوام التضرع والدعاء عموماً، وفي أوقات الإجابة خصوصاً بأن يثبّت الله
إخواننا في فلسطين، وأن يمكّن لحكومتهم الإسلامية حتى تتجاوز محنتها وتؤدي
رسالتها.
10- العمل على التنسيق والتكامل بين الجهود المختلفة في نصرة إخواننا في أرض الإسراء.
وينبغي أن نعلم أن نصرة أهل فلسطين وكفايتهم بالمال حتى يستغنوا عن الحاجة
لغير المسلمين يُعدّ واجباً شرعياً، وهو من أنواع الجهاد؛ إذ المعلوم أن الجهاد(/2)
بالنفس والمال، وقد أخبرنا الله عن أعدائنا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه)، وقد أمرنا الله إزاء ذلك ببذل المال لنصرة دينه، وإبطال كيد أعدائه، وجَعلَ ذلك من الجهاد في سبيله فقال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقال صلى الله عليه وسلم : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". رواه النسائي وأبوداود. والْحَدِيث دَلِيل عَلَى وُجُوب الْجِهَاد بِالنَّفْسِ وَهُوَ بِالْخُرُوجِ وَالْمُبَاشَرَة لِلْكُفَّارِ, وَبِالْمَالِ وَهُوَ بَذْله لِمَا يَقُوم بِهِ مِنْ النَّفَقَة فِي الْجِهَاد وَالسِّلَاح وَنَحْوه" « عون المعبود »،
وعلى هذا فالبذل والتبرع ليس فضلاً ولا مِنَّة، بل أداء واجب وإبراء ذمة.
وإن من الواجب شكر الحكومات العربية التي أعلنت موقفها الرافض لهذا الحصار
الجائر، وقامت بتقديم المساعدات المالية للحكومة والشعب الفلسطيني، وفي
مقدمتها المملكة العربية السعودية وقطر والجزائر، ومع هذا الشكر نطالب
بالاستمرار والزيادة، مع مطالبة بقية الدول العربية والإسلامية بمثل هذه
المواقف.
واللهَ نسأل أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء، أرض الرباط والجهاد، وأن يدفع
عنهم كيد الأعداء، ويكفيهم شر المنافقين والمخذلين، وأن ينصر الإسلام
والمسلمين، والحمد لله رب العالمين.
* المشرف العام على موقع إسلاميا(/3)
الأمة الواحدة
محمد بن حمد الدريهم 19/9/1425
02/11/2004
جلست أتأمل ملياً قوله تعالى : ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).[الأنفال:63] وقوله: (... تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى...).[الحشر:14] في الآية الأولى ترى المِنة الربانية والهبة الإلهية لعباده المؤمنين .. حيث تأليف القلوب وقربها واتفاقها واجتماعها .. وتذهب بك الآية مذهباً بديعا آسراً حيث تؤكد لك ولجميع أهل الأرض أن هذا التأليف والجمع للقلوب إنما هو برحمة من الله وفضل، وأنه لا كنوز الأرض ولا أموالها تقدر على زرع المحبة وجمع القلوب وإحداث المودة الصادقة.. بل إنما حصل هذا التأليف ببركة الإيمان بالله –تعالى- وتصديق رسوله وطاعته واتباعه..
في المقابل نجد حديث ربنا عن قوم آخرين.. حادوا عن طريق الهدى.. ولم يدخل الإيمان قلوبهم .. ويا لسحر هذا القرآن.. وعظيم بيانه.. وبديع إعجازه (تحسبهم جميعاً ) إنك حين ترمقهم لأول وهلة تُصاب بإعجاب وإكبار لهذا الاتحاد والائتلاف والاجتماع ..بينما الحقيقة التي عرّاها وأبانها القرآن (وقلوبهم شتى) فقلوبهم متفرقة لا أُلفة بينها ولا محبة ولا رحمة ..إن بينهم من الإحن والعداوات مالا يظهر في الخارج لكنه مستقر ومغروس في باطنهم ..فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة ..ولذا جاء في قراءة (وقلوبهم أشت )أي شديدة التفرق وبعيدة عن الاتفاق .
إن القلب هو ملك الجسد ..وهو الآمر الناهي عليها ..وبقية الأعضاء جنود له مطيعون له. ولذا فإنه إذا امتلأ محبة لإخوانه وحرصاً عليهم فإنه يسعى إلى تحقيق هذا المعنى العظيم ..إن روح الجماعة في الإسلام ؟؟وروح الجماعة في القرآن والسنة مما يطول بذكره المقام ولا يسعه ألف مقال ..إن الاجتماع والائتلاف هو أقسى ما يمكن أن يراه المبغضون لهذا الدين ..وإن الفرقة والبغضاء والشحناء والحسد والكراهية حين تنتشر في جسد الأمة فإنها تُفرح العدو وتجعله قادراً على التغلغل في جسد الأمة .
تأمل نصوص القرآن ..وطالع نصوص السنة النبوية ..ستجد مئات النصوص التي تحذر من الظلم والبغضاء والحسد والكراهية والظن السيئ والغيبة والنميمة والكذب ..
والقائمة لا حصر لها من السمات السيئة ..تأمل هذه الصفات جيداً .ستجد أنها كلها تساهم في إحداث الفرقة وزرع الإحن والشحناء.
إننا أحوج ما نكون فيه إلى زرع المحبة بيننا .. هذه المحبة المتفرعة من الإيمان بالله .. هذا الإيمان الذي يظللنا ويجمعنا تحت هذا المعنى العظيم .. وبتنا أيضا مطالبين فيه أكثر من أي زمن مضى بنزع فتيل الخلافات والعداوات التي لا تقدم خيراً لنا ولا للإسلام ..ما أجمل أن يكون المسلمون يداً واحدة وجسداً واحداً ..كما قال عليه الصلاة والسلام :"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
لم يكن الخلاف ..ولم تكن الفرقة في يوم لتحقق مجداً أو تحدث نصراً .بل الأمر بخلاف هذا ..فبقدر اختلافنا وفرقتنا تحدث المصائب ويتداعى علينا الخصوم .. يجب أن تعلو أصوات المخلصين الذين يسهمون في جمع الكلمة وتوحيد الصف قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة ) وقال تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).[الحشر:10] وقال صلى الله عليه وسلم :"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره" وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً".
إذا كانت المسألة متعلقة بأمور اجتهادية. فلِمَ تُضيّع الأعمار والأوقات في إثارة الجدل والخلاف حول مسائل لكل قائل بها دليله الذي يدين لله تعالى به، ولا إنكار في مسائل الخلاف .. لنبحث عن أمور هي أكثر نفعاً للأمة وللمجتمع وللحضارة وللإنسان ..
لنعوّد أنفسنا على خُلُق الرحمة والعدل والمرونة والسهولة واللين.. "فما خُيّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً" "وما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه".
ليكن تعاملنا مع إخواننا مبنياً على الرحمة والمحبة والمودة.. فلا التعنيف ولا الجدال يثمر أو ينتج شيئاً..
إن سفينة الأمة مرهون نجاتها بتضافر الجهود وتكاتف الأيدي .. وكل واحد منا يجب أن يستشعر أنه مطالب بتقديم شيء مما يمكنه من القدرات والمواهب لخدمة إخوانه ومجتمعه ودينه..(/1)
الأمة بين الإفراط والتفريط
محمد محمود عبد الخالق
</TD
لقد امتازت أمتنا بأنها أمة وسطا في كل شيء وكان ذلك من أهم ما يميزها عن الأمم وهذا ما قرره القرآن حين قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا .....) ولكن للأسف أن أمتنا في هذا الزمان تخلت عن تلك الميزة بعد أن كانت مطبقة في أوج عصور الحضارة الإسلامية فإذ بنا نجد أمتنا تنقسم بين إفراط وبين تفريط وهذا الإفراط والتفريط أصبح موجودا في كافة شئون حياتنا بصورة تدعو إلى الأنتباه وحتمية العودة إلى الوسطية من جديد .
وإذا أردنا أن نوضح ما ندعو إليه فإننا نضرب لذلك العديد من الأمثلة التي توضح بجلاء أننا نصبح إما مُفرِطين أو مُفَرطين ومن هذه الأمثلة :-
1) تربية الأبناء : فبدلا من أن يسلك الآباء سلوكا وسطا في تربية آبناءهم كما دعاهم القرآن والسنة إلى ذلك إذ بنا نجد الآباء ينقسمون بين إفراط في تربية أيناءهم على الإسلام وبين تفريط في تلك التربية ، فكثير من الأباء قد يدعوهم إلتزامهم غير المضبوط إلى تربية أبناءهم على الحق بصورة تتمثل في الأمر والنهي غير المناقش فيه بصورة تدعوا ألأبناء إلى كراهية الدين ومحاولة التمرد عليه في أقرب وقت ممكن إذ أن الأبناء لن يظلوا تحت أعين آباءهم في كل الأوقات فتربيتهم على الخوف فقط من الآباء لن يجعل الأبناء يلتزمون شريعة الإسلام ، وكم رأينا من شباب كانوا من أسر متدينه ولكن لتضييق آباءهم على حريتهم وللإلزامهم بالأمور دون نقاش أو حوار جعلهم حين يبتعدون عن آباءهم يفعلون كل ما يريدونه وما يرغبون فيه , وعلى الجانب الأخر نجد آباء لا يربون أولادهم ولا يهتمون بهم ويكون كل همهم في جمع المال وفي إعتلاء المناصب ظانين بذلك أنهم يوفرون لأبناءهم حياة سعيدة ولك للأسف أنها لا تكون كذلك ، فكما أن الآباء مطالبون بالسعي نحو المعيشة فإنهم مطالبون في الأساس بتربية آبناءهم على الحق وحمايتهم من الغواية والأنحراف ولقد رأينا وسمعنا كثيرا عن آباء تركوا أبناءهم للأنحراف لإنشغالهم بالسعي وراء المال ، ولعل هذا التفريط في التربية موجود بصورة كبيرة للغاية في أمتنا الإسلامية نظرا للأننا نعيش في زمن انشغل فيه بالسعي وراء المعيشة التي أصبحت صعبة وغير ميسرة نظرا للأننا نطبق أنظمة اقتصادية وضعية تقدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وتعاني من ظلم في توزيع الدخول بين الأفراد وعموما فإن الأفراط والتفريط أمران يرفضهما الإسلام بكل قوة لأنه يدعو إلى الوسطية في تربية الأبناء والتي من أهم سماتها على سبيل المثال لا الحصر :-
1) قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ..) فإسلامنا يدعونا إلى أن نقي أنفسنا وأهلينا نار جهنم وهذا لن يكون إلا بالتربية على الإسلام تربية سليمة .
2) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تكون على أساس الخشية من الله وليس من الأباء فقط فالأبن الذي تدرب وتعلم وتربى على الخوف من الله لن يرتكب ذنبا أو معصية سواء كان ذلك في حضور الأب أم في غيابه .
3) يقرر الإسلام بأن يكون هناك حوار دائم بين الأباء وأبناءهم في كافة الأمور وأن يكون الأقناع هو السبيل الوحيد للحوار والنقاش لا الإلزام مع ضرورة أن لا توضع الحواجز بين الأباء وأبناءهم والتي من شأنها لجوء الأبناء إلى غير آباءهم للسؤال عن أمور يتعرضون إليها ويكون من نتيجة ذلك الضلال خاصة عندما يكون السؤال موجها إلى جماعة من الفسقة وما أكثرهم في هذا الزمان .
4) يقرر الإسلام بأن تربية الأبناء يجب أن تأخذ منحنى في التدرج وأن تتناسب التربية المرحلة التي يمر بها الأبناء فتربية ذوي السبع سنيين ليست كتربية ذوي العشر سنين ولعل ذلك ملاحظ في قوله صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " فلعلنا نلاحظ تغير أسلوب التربية حيث كان الأمر بالصلاة على سبع سنين ثم إن لم يطبق وينفذ الأمر يكون الضرب غير المبرح ولكن لعشر سنين فتغيرت التربية بتغير المرحلة التي يمر بها الأبن كما أن تربية الأبن ليست كتربية البنت نظرا لما بينهما من إختلاف وهذا من جميل وعظيم أمر الإسلام .
وغير ذلك من السمات الوسطية التي تميز التربية في الإسلام .
2) الدعوة إلى الله :-
انقسم الناس إلا من رحم ربي إلى قسمين في الدعوة إلى الله فنجد :-
1) قسم أفرط في الدعوة إلى الله فتجده يصرف كل وقته في الدعوة ولكن على غير علم فيضل ويُضل فنجده يفتي هنا وهناك ويتحدث عن الدين هنا وهناك آخذا بالظاهر من الدين دون أن يتعمق في مقاصد الشريعة وما تسموا إليه فنجده يحرم ما أحله الله وتجده يتشدد في أمور يسرها الدين فيفر الناس منه ومن دعوته وهذا بسبب قلة فهمه وعلمه وسوء تطبيقه .(/1)
2) فسم فرط في الدعوة إلى الله فنجده يعيش ويحيا لا يتعلم العلم الشرعي ولا يدعو إلى الله ولو بأية أو حديث أو حتى بحسن أخلاقه وجميل عبادته فهو يعيش ليأكل ويتمتع ولا هم له إلا الدنيا وآخر ما يخطر بباله أمر هذا الدين وواقعه فيموت ولا أثر له يذكره به الناس وبذلك يكون ممن خذل الإسلام في حياته وما أكثر تلك الطائفة من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وهذا الإفراط والتفريط في الدعوة إلى الله أمرا غير مرغوب فيهما أيضا فإن دعوتنا يجب أن تتسم بالوسطين من حيث الشكل والمضمون والأشلوب فيجب على المسلم أن يتعلم دينه تعليما صحيحا ويأخذه عن العلماء الثقات ويحسن فهم الدين ويعرف مقاصد الشريعة ثم يدعوا الناس بالحكمة والموعظة الحسنة دون تغليظ أو قسوة أو إكراه بل بيسر وود ومحبة ورغبة في الخير وبهذا يستطيع أن بقطف ثمار دعوته ويحقق غايته من الدعوة إلى ربه فإسلامنا قضية رابحة تحتاج إلى محام ناجح يحسن عرضها وإيصالها إلى الناس .
وغير ذلك من الأمور التي أبتعدت عنها الوسطية كالتعامل مع المرأة والعلاقة مع غير المسلمين وغير ذلك .(/2)
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل (1/5)
د. علي بن عمر با دحدح عضو هيئةالتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة 8/4/1425
27/05/2004
لماذا يتحمس الشباب؟
وهل الحماس في الشباب عيب؟ أو شيء طارئ أو أمر غريب؟
نقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي لعناصر كثيرة منها:
1. الحيوية والقوة
أن الشباب فيه حيوية وقوة والله سبحانه وتعالى كما جاء في التقديم قال:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}(الروم: 54).
فالشباب قوة بين ضعفين وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما وحتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما يزال الخلايا والأعضاء تزيد وتنمو وتعظم وتتكاثر وهذا أمر بين وإذا رجعنا حتى إلى اللغة تسعفنا هذه المعاني بشكل واضح لأن الاشتقاق اللغوي لأصل شب وهو أصل الشين والباء في اللغة يدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطيعة الشباب ومن ذلك قولهم: شبت النار أو شببت الحرب ثم كما يقول ابن فارس ثم اشتق الشباب منه وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته ولذلك نرى هذا الأمر واضحا وأن من طبيعة الشباب الفطرية بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيولوجية أي الطبيعية الفيزيائية أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة وشيء مما يزداد قوة ويزداد ..
ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تطلب لأسبابها بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.
2- الإرادة والتحدي :
جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر وهو قضيةالإرادة والتحدي: من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية من خصائص الشباب قبول التحدي بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه ولو أننا أردنا أن نأخذ أمثلة والأمثلة اعذروني ستكون دائما محدودة لأننا لو تشعبنا فيها يضيق المقام عن ذكر ما وراء ذلك.
قصة لابن مسعود وأنتم تعرفون ابن مسعود كان من صغار الصحابة وشبابهم وكان إلى ذلك نحيل الجسم دقيق الساقين كان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتداولون فيما بينهم من يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في نوادي قريش وهي عملية تحد كبيرة وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن يقرؤها بين ظهرانيهم وإذا به كما هو متوقع ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم بل كان يعرف ما يترتب على ذلك عمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح ولعلنا نقول بعد هذا الحدث أنه قد أخذ درسا كافيا لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها) فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي لأن نفس الشاب دائما فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو أن تهادن أو أن تتراجع بل تريد دائما أن تثبت نفسها وأن تظهر قوتها وأن تصر على رأيها وأن تثبت على مبدئها وأن تكون نموذجا ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمور بها النفس وكذلك:
3-الأمل والطموح:(/1)
لأن الشباب في مقتبل العمر فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعا قد يرسم طريقا في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم وأنه سيحصل فيه وأن سيكون له كذا وكذا وكذا وقد يرسم طريقا في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية لكن لو أننا تصورنا المرأة في الخمسين أو في الستين لا شك أن الأمل موجود لكنه قطعا سيكون محدودا ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا كذلك هذه الأمثلة في فتى الرابعة عشر الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس وكيف يذكي تلك الآمال وكيف يشحذ تلك الهمم ربيعة بن كعب الذي مان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام فأراد النبي أن يكرمه كما هو معروف في قصته فقال: (يا ربيعة سلني ما شئت؟) والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة فقال: انظرني يا رسول الله، وعندما نقول الآن للشباب ماذا تريد؟ ما هو أملك؟ ما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويطون رهن إشارتك وبين يديك؟ فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشؤونها لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظام لربما قصروا عن أن يصيبوا مثل ما قال فأوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فلم يسأل الله الجنة بل سأل مرافقة الرسول في الجنة ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتدا والطموح متواصلا (أعني على نفسك بكثرة السجود) ونعلم قوله لعبد الله بن عمر يوم أول رؤياه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) والأمر في هذا واضح وجلي وكثير.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكل ما كان يناسبه حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله كما هو معروف في الحديث لذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة وذكر في كل منهم خصيصة يتميز بها قال: (أقرؤهم أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام.
4- تنوع الخيارات:
مازال في مقتبل العمر هل يتزوج الآن؟ هل يكمل دراسته؟ هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة وربما نرى نحن أننا نضيق الآن المجال فلا يبقى مساحة إلا لكم معاشر الشباب الذين تدخلون في جميع التعريفات أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه يبدأ تضييق الدائرة عليه كما قلنا فلذلك لما كانت هذه الحماسة من طبيعة الشباب فنحن نرحب بها ولا نعارضها ولا نقول إنها شيء شاذ أو أمر غريب ولكننا نوصل أيضا في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها ليكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.
ثمرات الحماسة :
الحماسة تورث خلالا كثيرة وسمات عديدة:
1- الهمة والعزة:
فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية والعزيمة ماضية والعزة أبية والروح فتية بحيث أن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تعد من مظاهر القوة الإيجابية ليس في الشباب رخاوة وليس في الشباب ضعف وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا قد جعلت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء ولكننا نقول إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائما في قصب السبق والتقدم كما سيأتي في المراحل التالية ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في سير الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأمثلة محدودة كما قلت بحكم الوقت هذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج عند البخاري في الصحيح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة) فقال: بلى يا رسول الله، هذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو انظروا إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر ولا ينام ليله ويختم في كل ليلة نعم رده النبي النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال المعروف في الحديث لكن الشاهد عندنا هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
2- العمل والإنتاج:(/2)
الهمة والعزة تتحول إلى عمل مثمر وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود ولا يرضى بالكسل والخمول ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه ولذلك نرى كيف كان شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كيف كانوا دائما يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة حتى في مجالات مختلفة لعلي أذكر مثالا في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو الذي كان غلاما صغيرا في نحو السادسة عشر من عمره فقال له النبي النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد: (اقرأ حرف يهود) يعني حتى يقرأ له أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة حتى يقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه عفوا فتعلم السريانية في بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوما فكان يقرأ للرسول وكان يكتب له وفي بعضها في سبعة عشر يوما وبالمناسبة أيضا زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جعل من مؤهلاتها الشباب في صحيح البخاري الحديث المشهور في جمع القرآن (قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: إنك شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأول هذه الخصائص أنه شاب مهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة تحتاج إلى عمل متواصل أسندت إلى هذا الشاب الفتي مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته ومع أن الذي كان يحدثه أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره وهما أفضل الصحابة وأكبرهما سنا إلى غير ذلك مع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشباب قال: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة وأعانه عمر ووضع الشروط والضوابط والشهادة المطلوبة على كل وهو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمتن صوة ما كانت لتكون لولا هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب والأمر في هذا كما قلنا يطول الحديث عنه.
3- الثبات والإصرار:(/3)
كثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن ومع استمرارية العمل وذو النفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالبا ما ينقطع نفسه وينقطع عمله وينقطع بعد ذلك أثره ويطوى خبره لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير من مزايا الشباب في الحماسة: أنها تعطيهم قوة وثباتا بشكل منقطع النظير أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرئ القرآن في مسجدها أربعين عاما كل يوم وهو أمير وهو يتولى الحكم لكنه كان في صفته وسمته يدل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل ليست قضية ردود أفعال ولا سحابة صيف تنقشع ولا أمرا أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها ونرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات لعاطفية وخاصة نحن في عصر عولمة وإعلام وكوكبة وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثا كبيرا وحبيب بن زيد رضي الله عنه وهو من أمثلة الشباب كيف ثبت لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يقول مسيلمة: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله يقول: لا أسمع لا أسمع وإذا بمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه يقطع أذنه يجدع أنفه ويقطع إربا إربا وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتى أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة ولم يتغير له موقف ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنواتا طوالا بعد مصعب بن عمير رضي الله عنه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائما في يوم خميس وأتي له بطعام الإفطار وكان فيه صنفين من الطعام نوعين من الطعام فقط نوعين فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتعجب الناس قالوا: ما يبكيك؟ قال: ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدا قدماه وإن غطينا قدماه بدا رأسه وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا، بقي موقف مصعب في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه فقطعت فضمها بعضديه حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ .
4- نجدة وإعانة :
وينتج عن هذه الحماسة في الجلة أيضا نجدة وإعانة لأن المتحمس يأبى أن يرى الضيم ويسكت يأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون وإلى أن يسابق وإلى أن يكون في الصفوف الأول في كل هيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة ولعل قصة حنظلة بن أبي عامر غيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهدا في سبيل الله ناسيا أن يغتسل من جنابته حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
5- امتنان وانتفاع :
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء وانتفاع من حولهم بهم بدلا من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.
حسرات الحماسة :
هنا انعطافة لننظر إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المخلفة لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائما أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه بالعكس الإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد نحن لا نريد ولا ينبغي أن نفرح عنما نجد من يطبطب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك من هو الذي نحبه ونأنس به؟ هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول ويسايرنا في كل ما نعمل ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا أو حتى توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات لوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك لا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة عما سبق أول هذه الحسرات.
1- الفتور والإحباط :(/4)
عندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم وغير مستوعبة للواقع ولا مدركة للإمكانيات ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الإندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور يترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم تعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساسا للإنطلاق أو العمل ولعلي أضرب مثالا يدور أو يفع في صفوف الشباب كثيرا في بعض الجوانب الحياتية على سبيل المثال ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم وتأتي هذه النصوص وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة وإذا به ولم تكن له سابق تجرة ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة يندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها فإذا به لا يلوي على شيء ذكر البغوي في كتاب العلم شرح السنة عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة، وهذه طبيعة ونحن نرى كيف يقبل كثير وهذه ظاهرة موجودة الشباب يقبلون ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم ويحفظ هذا المتن اندفاعة ليست متكاملة فكثيرا ما يؤول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله أو حتى في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت ثم يرجع إلى ما وراء ذلك ونجد في هذا كما قلت من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة والتجربة فيه واضحة حتى نستطيع إنشاء الله أن نواصل هذه المعاني.
2- تعطيل إعاقة :
كثيرا ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما لأن الإندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يفعل ردود أفعال كثيرة وهذه ردود الأفعال سوف تكون تعطيل ومنع وإعاقة وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضا فيه أمثلة كثيرة من ذلك ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الإندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيرا بدلا من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيرا وكثيرا من الخير عليه وعلى آلاف مؤلفة من ورائه ولعلنا أيضا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها واختلت فيها الموازين وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضا ذكر بعضه فيما نأتي به في هذه النقاط:
3- موت وإتلاف:
يعني قد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحيانا قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة ولا الشعور ولا ردود الأفعال ولا الانتصار للذات الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها:
الأول: هو حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما كان واجبا أمضيناه وما كان محرما تركناه ويلحق به ويكمله
الثاني : مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر فإن من الأمور ما قد يكون واجبا أو قد يكون مباحا لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم وقد يكون فعله في هذا الموطن محرما وإن كان في أصله واجبا وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل: (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها ولعلي هنا أيضا أركز في هذا المعنى لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف ولا تكاد تفهم حقائق النصوص وإذا تأملنا في هذا الجانب ثمة أمر مهم نحن نذكره لأنه من دين الله ولابد أن نفقه ديننا وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل وأنه لابد لنا أن نتأمل في حكمة الشارع لأن الشارع معصوم سواء كان ذلك في كتاب الله أو ما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولعلي أخص هنا موضعا محددا من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين.(/5)
طائفة كبيرة كثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم وكيف يكون التعامل في هذا الشأن ولعلي وأنا أستطرد هنا قليلا لا أقول إن هذا الحديث وهذه المحاضرة قد أعدت من قبل وإن كانت متطابقة ربما مع أحداث مؤسفة ومحزنة وقعت البارحة وفي الفترات الماضية، نقول الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ليست القضية كما قلت عاطفية يذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام هذه الأحاديث فيها ضبط شديد وفيها تحوط كبير وفيها ربما في صورتها الظاهرة كأنما تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون فيقول على سبيل المثال عليه الصلاة والسلام في بعض ما صح من هذه الأحاديث قال: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر) وفي رواية أخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله) وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتنة قال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث يعني قال لرسول الله: أرأيت إن أتي به إلى الصفين قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني فليتلف سيفه حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها ربما بعض الناس على أنها سلبية مطلقة وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عوميات أخرى في دين الإسلام ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذا قال يعني في مثل هذه الأوامر قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة وكبرت البلية وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجودا بمثل هذا الأمر ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية كلا دين الله عز وجل واضح لا يضيعه أحد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله وذلك من فضل الله ونعمته علينا فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع وانظروا إلى هذه الأمثلة:
حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب لما طلب منه النبي أن يذهب ليرى خبر القوم الأحزاب أبو سفيان ومن معهم من قريش والقبائل فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة ويصف هو يقول: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي إلا أني ذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحدث شيئا حتى ترجع) أبو سفيان رأس الكفر وهو قائد الأحزاب وكان في مرمى سهمه ونباله لكنه امتثل ذلك الأمر والأمر قطعا كانت فيه حكمة وهو إرشاد ووحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:3،4).
ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد وأتته رسالة بعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض نفقي فيه ماء فانتدب قال سعد لمجزأة: انظر لي رجلا من قومك خفيفا جريئا شجاعا، قال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير ، وقال له: لا تحدث شيئا، قال: وخلصت حتى رأيت الهرمزان ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قول سعد فرجع وأخذ ثلاثمائة وكلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا من الداخل، ليست القضية اندفاعات عاطفية وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولوية ينبغي أن نعرفها.
4- الضياع والخسارة:
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يرمون على شيء لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، وتنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة وذلك أيضا كما قلت حتى لا نطيل يزيد في الأمر ولعلي أضرب مثالا في قضية العلم مرة أخرى:
بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويتحدث بها، فلان مخطئ فلان كذا ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهو لم يعرف الصحيحة بعد ولم يحفظها ولم يكون من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز بعد ذلك الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله كما ورد في الفوائد قال: من تتبع شواذ المسائل يعهني التي فيها الخلافات فقط يتتبعها، يقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم قال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل وهو يقول عن تجربة: وقل من رأيته يفلح في هؤلاء، ما يصل إلى ثمرة لأنه إذا صح التعبير يأخذ من كل بحر قطرة وينتهي بعد ذلك إلى ولا قطرة، ليست هناك يعني هذه الصورة الإيجابية التاي بتجميع هذه الجهود نصل إلى ثمرة هناك ضياع وخسارة.
5- التضخيم والاختلال:(/6)
هناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى وهي مئات أضعاف حجمها من حماسة الناس أحيانا إذا تحمس لأمر جعله هو كل شيء هو مبتدأ الأمر ونهايته وهو أوله وغايته وهو الذي لايمكن أن ينشغل أحد بسواه وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور وهكذا تندفع العاطفة تماما هي العاطفة بطبيعتها حتى لو اندفعت العاطفة كما نعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب كما قال المجنون ولا بأس أن يكون هذا التفريع للشباب، يقول:
إذا قيل للمجنون: ليلى تريد *** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها *** أحب لنفسي وأشفى لبلواها
يقول ابن الجوزي معلقا: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.
فالمسألة الاندفاعية في العاطفة هذه قضية عظيمة ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل: من أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب أما علمه فغزير وأما رأيه فسديد وأما منطقه ففصيح وأما تصرفه فحكيم، كأنما لم يكن فيه عيب مطلق ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر وهو الذي ينبغي أن يكون … أين هذا من ذلك الاتزان حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويقول: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) يعني يجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى ولذلك مما رواه أبو هريرة وهو من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته فإذا أقبل علينا لم نقم له لأنا نعرف كراهيته لذلك.
وأحيانا إذا انتقصنا إنسانا وكان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وهذه قضية واضحة ونعرف الأمثلة في هذا قصة سلمان رضي الله عنه ولا أريد أن أطيل.
إذن هل نحن الآن مع الحماسة؟ وإلا فترت حماستنا للحماسة والمتحمسين لكننا نقول: لا للتهور، الحماسة التي قلناها باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.
الحماسة المتهورة :
ثم نمضي مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة: ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها فالوقاية خير من العلاج أول هذه الأسباب:
1- قصور في العلم:
مشكلة الجهل هي آفة الآفات ومن الجهل: جهل بسيط وجهل مركب كما تعلمون، الجهل الذي نقصده هناك غياب كثير من الأصول العلمية المهمة:
معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، معرفة القواعد الشرعية كما قلت التي هي خلاصة إستقراء للأدلة النصية ، معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايت هذا الدين وأهدافه، معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين قضايا كثيرة لابد أن ندركها ونعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل:
{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } (فاطر: من الآية43).
لابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني حتى لا نندفع مع العاطفة بعيدا عن هذه الأصول العلمية المهمة وكما قلت الأمثلة قد تطول ولكنني أذكر عندما نتلو قول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (محمد: من الآية7).
عندما نقول:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود: من الآية49).
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} (الروم:60).
هذه معاني مهمة النبي عليه الصلاة والسلام طبقها والصحابة على سبيل المثال بعض الأمثلة.
في سنن أبي داود نفر من الصحابة كانوا في سفر شج أحدهم أصابته الجنابة استفتى أصحابه، قالوا: لا لابد أن تغتسل الجو بارد والرجل مشجوج، قالوا: لابد أن تغتسل، فاغتسل فمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، أ فلا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال) كم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها ويفتي فيها ويعطي القول الحاسم والجازم ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي وإنما هي عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيج من هذه التجاذبات التي تجتمع لدى هذا أو ذاك وكما قلت المسائل كثيرة.
2- النقص في الوعي:(/7)
والوعي هو: إدراك المسائل من جميع جوانبها ومعرفتها من كل وجوهها، كثيرا ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفقوا هل رأوا الفيل؟ فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث فكل عندما وصف إنما وصف الجزئية التي رآها وكان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح معرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل وهذه مسألة طويلة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فصولا نفيسة في هذه المسألة وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالما بالشرع وبصيرا بالواقع حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك نقص لوعي لما وراء هذه الأمور وم يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية إذا غابت فإنها في غالب الأحوال يقع لها يعني بها مثل ذلك الذي أشرنا إليه.
3- الضعف في التربية:
كثيرة أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية كثيرون منا كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا أو ربما لقد كنا سرنا في طرق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك ثم بعد ذلك عدنا أو كانت لنا ثقافات خليطة ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة هذا الخليط فيه ضعف في التربية ليس فيه تعود على منهجية متكاملة على سير واضح على تخطيط بين على صبر وانضباط كثيرا ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية وكثيرا ما نرى الجوانب المتضادة فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن تمر أو بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط وهذا مشاهد في كثير من الجوانب.
4- إحباط في الشعور:
وهو لعله من أخطرها وأكثرها تأثيرا في الشباب الذين يتهورون وهو: الإحباط في مشاعرهم من نواح عدة أول هذه النواحي:
تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع بل وبلاد الأمة الإسلامية في عجز فاضح وتخاذل واضح وسلبية مؤلمة ومحزنة:
هذه عند الشباب المتحمس يرى ذلك فتغلبه عاطفته وتتقد حماسته وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية وطيش العقل وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح وهذا نحن نعرف واقعه ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها ليس لسنة ولا سنتين ولا لعقد ولا عقدين بل لما هو أكثر من ذلك ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات المسلمين على مستويات عدة بل على المستويات الحضارية والعلمية وهذا عند من تتقد نفسه غيرة وحمية لابد أن يكون لها أثر فإذا زاد حجم هذه القوة حجم هذا العدوان وحجم هذه الهزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه فيخرج إلى غير حد اعتدال وإلى غير تصرف الاتزان وهذا أمره أيضا واضح.
الأثر الثاني في إحباط الشعور: أيضا كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل:
نحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات كم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، كم فيها مما هو مخالف لشرع الله ويمنع شرع الله ويبيح ما يخالف شرع الله وهذ قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها وتغلي نفسه ويشتعل قلبه حزنا وألما ورغبة في أن لا يكون مثل ذلك لكن عندما تفقد بعض هذه الصور يكون أيضا ما ذكرناه.
وجانب ثالث: وهو سوء المعاملة والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب:
سواء كان في بيئة التعليم من أساتذتهم أو من قد يكونون في موقع التربية ولا يجدون منهم إلا تخطئتهم وإتهامهم بالنزق والطيش أو كذا أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه وربما كذلك أحيانا في المعالجات والمعاملات الأمنية عل مستوى الدول كثيرا ما كانت هذه هي بذور لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير وهذه قضية مهمة.
5- رداءة في الاستيعاب:
هذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ أين مجالها الصحيح؟ كيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة عندنا أمران: إما أنها مسنفذة في أمور تافهة وضائعة فكم مستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال، كم من حماسة وقوة وربما صراع وربما أعصاب ويعني قدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة أو في جوانب أخرى أيضا ليست في الاستثمار الصحيح الرياضة جيدة ربما حتى التشنيع في أصله ليس على هذا ليس شيئا مذموما لكن هذه المبالغات تجعل في آخر الأمر أنها لا تقنع وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر ، وإما أيضا: أنه هناك غياب وقلة وندرة في المحاضر الاستيعابية لطاقة هؤلاء الشباب وحماستهم.
حماسة الأكياس:(/8)
لعلي أصل إلى نقطة أخيرة وإنها نقطة مهمة وكما قلنا لا للتهور نقول: لا للمتهورين وتسألون الآن: ما الذي تريد؟ وأين سنصل؟ ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها وهنا نكمل بالشق الثاني لعنواننا ونقف هذه الوقفة الأخيرة في: حماسة الأكياس:
1- التعقل والاتزان :
وطبعا ليست الأكياس الأكياس إنما الأكياس من ذوي العقول، هنا جمعنا بين الأمرين نريد هذه الحماسة والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية في الحقيقة هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي بطبيعته هو حيوي والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان في الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان ثم هو بعد ذلك يكون خاملا وقاعدا وكسولا هذا لا يتطابق لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت الحماسة الإيجابية هي التي نمدحها ونريدها وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصف لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة أو كما ذكر في كلمات جميلة الأستاذ البنا يقولا: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة.
وهي كلمات جميلة تبين أننا نحتاج لمزج ذلك العقل الذي دائما يتحفظ يتحفظ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض القيود العقلي حتى يرشدها فلذلك التعقل والاتزان مهم جدا الاتزان لا يجعل هناك طغيان جانب على جانب كما قلنا ونستحضر كما قلنا في قصة سلمان وأبي الدرداء: لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء، قالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا وكذا وإنما هو صائم نهاره أو قائم ليله فنزل ضيفا عليه أراد أن يصلي قال: لا، كان صائما وقدم لسلمان الطعام قال: كل معي، قال أنا صائم قال: أفطر وجعله يفطر ثم أراد لما جاء الليل أن يصلي قال: نم ، ثم قام يريد أن يصلي، قال: نم، حتى انتصف الليل قال: قم فصلي، ثم جادله في ذلك فلما بلغ الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا "لضيوفك يعني " وإن لنفسك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه).
موقف أيضا لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان في فترة خلافته تعرفون ما بدأ بعض المرجفين يشيعونه من انتقادات على عثمان رضي الله عنه فلما جاء موسم الحج كان عثمان رضي الله عنه من أخيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقولونه ويفند فقال: لأقومن في الناس مقاما لا أدع شاردة وواردة إلا أتيت عليها يريد أن يبين للناس، قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير، عقول لا تستوعب عامة الناس تذكر قضايا وإذا بها بعد ذلك تتطيش وهذا يأخذها يمينا وذاك يأخذها يسارا وهذا يفهمها على وجه وذاك يفهمها على وجه آخر الكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة وجعل الكلام في غير موضعه جعله من البدع كما ذكر ذلك في الاعتصام استدلالا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي عند البخاري: حدثوا الناس بما يعرفون أ تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وحديث ابن مسعود في مسلم قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، وهذا أمره واضح.
في الحديبية موقف جميل للنبي عليه الصلاة والسلام لما أرادوا أن يكتبوا قال: (اكتب محمد رسول الله) قال: سهل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما جادلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولما قال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا، لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب باسمك اللهم، الرسول يقول لعلي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير قابل لهذا يعني لا يرى ذلك المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع نظرا وعقلا دع هذه الصغيرة من الأمور فقال: (اكتب) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرينيها؟) فمسحها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بنفسه، قال لعلي: (اكتب) دعك من هذه القضية الصغيرة فإن هناك ما هو أكبر منها لا تجعل هذه المسألة أكبر من حجمها وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية فتستنفذ أو تقيم فيها معركة ضخمة هائلة كما نرى من بعض الشباب الآن عندما يذكرون أمرا من الشرع وسنة من السنن لكن يجعلون النفير عليها كأنها أصل الدين كله وربما جعلوا من ذلك كما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير من غير مثل هذا الذي ننبه الناس إليه.
2- الضبط والإحكام :
وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جدا ولعلنا نستحضر مثالا واحدا:(/9)
في بيعة العقبة بعد أن بايع الصحابة رضوان الله عليهم بل قبل أن يبايعوا انظروا كيف كانت روح الحماس جاء أبو التيهان وفي رواية غيره قال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن يفاصلهم وينبههم وأن يستشعر حميتهم، فبايعوه فقال العباس بن عبيد بن نضلة رضي الله عنه: قال: يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا في منى هذا الكلام في الفترة المكية، قال: لو تريد غدا أن نناجز القوم ونقاتلهم انتهى قال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك) ولما جاءه الخباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ قال: (إنه كان في من كان قبلكم من يحفر في الأرض ثم يوضع فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى ينفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه وإنه كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون).
3- التدرج والاستثمار:
لهذه العاطفة: لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا نحصل أكثر مما نحصل بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان وإمكانياته من أحسن الأمثلة في هذا:
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما تولى أبوه الخلافة ونعرف عمر كيف كان عندما تولى الخلافة ورعا وزاهدا وكان يعني يأخذ بالجد في الأمور، جاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل وفي هذا كذا وكذا، فقال له: ألا ترضى أن لا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة، ذاك الشاب يريد أن يغيرها كلها في يوم واحد، وهذا لحكمته وأيضا قوة إيمانه وحماسته يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب.
ونعرف ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام: في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية، ولم يشتمها ولم يتعرض لها أبدا لأن له مجال آخر بعد عام واحد فقط في العام الثامن فتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى ويقول:
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } (الإسراء:81).
كل شيء بأوانه الإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير ويستعين بالله عز وجل ويستخير ولكن هذا التعجل لا ينبغي أن يكون .
4- الدوام والاستمرار :
هو طبيعة ذلك التدرج (خير الأعمال أدومها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة) وحتى النية لكي نحافظ على هذه الحماسة تأتينا ثمرتها نحن الآن لانريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر.
ابن عباس يذكر قصة له مع صاحب من الأنصار في سنه، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نطلب العلم، قال له: ومن ينظر إليك يابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وفلان، قال: فانطلقت وتركته وضللت أتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم وتدرج وتدرج حتى أصبح ابن عباس بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
والنبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلا متدليا كما في الصحيح، قال: (ما هذا؟ ) قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا تعبت تعلقت به، قال: (مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد) خذ أمرا تستطيع أن تواصل فيه .
5- التنامي والانتشار :
وهذا أيضا من الأمور المهمة وينتج عن هذا لو أننا أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي ولعلنا وقد تجاوزنا الوقت نقول:
إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة نحن نقول: لا للتهجين والترويض ولكننا أيضا نقول: لا للإثارة والتهييج، نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية بعكسه إيجابيا:
علم بالشرع وبصر بالواقع وصبر في المعالجة وعدالة في المواقف وأناة في الممارسة والله سبحانه وتعالى قال:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } (الكهف:58).
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [2/5]
عمر بن عبد الله المقبل (*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(/10)
فإن مثل هذه التساؤلات، والآهات التي تنفثها صدور كثير من شباب الأمة، لهي والله بشير خير، كيف لا؟ وقد أتى على أكثر شباب قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريباً، ولا هم لهم إلا الحديث عن الفن والكرة ونحوها من الأمور التي شغلوا بها ردحاً من الزمن!
لقد مرّت فترة على أكثر الشباب ،وأحدهم ربما بكى لأن فريقه الكروي انهزم ، أو مطربه المفضل مات، واليوم نرى كثيراً من شبابنا -ولله الحمد-ترتقي همهم ،ليكون بكاؤها على ما يستحق البكاء.. ألا وهو البكاء على ما يحل بالمسلمين من ظلم وقتل واغتصاب من قبل أعدائهم.
وفرحتنا بهذا التحول في الاهتمامات ،وبهذه التساؤلات والآهات -لكي تكتمل -يجب أن نستثمرها استثماراً إيجابياً حتى لا تفتر هذه العزمات المتطلعة لنصر الأمة.
أما النواح والبكاء دون عمل، فليس هذا من هديه – صلى الله عليه وسلم -، ولك أن تعلم مقدار حزنه العظيم الذي كاد يفلق كبده على شهداء أحد، ومع ذلك لم يمنعه ذلك المشهد - الذي بقي معه إلى أن مات- من الاستمرار في الجهاد لهذا الدين، وتبليغه.
وإذا تحدثنا عن أهمية استثمارها ، فإننا نؤكد على أهمية ترشيد هذه التساؤلات حتى لا يساء استخدامها في أمور قد يُظَن أنها نافعةٌ وليست كذلك، والسبيل إلى ذلك إنما يكون بترشيدها، وهذا يمكن تحقيقه بعدة أمور:
1- يجب أن لا نغفل ـ في زحمة الأحداث، وشدة وطأتها على قلوبنا ـ عن السنن الإلهية في ابتلاء أهل الإيمان، فلقد ابتلي من هومنا، وكم في الإبتلاءات من الألطاف الخفية لربنا تعالى ،والتي قد تعجز عقولنا عن تصورها،فضلاً عن الإحاطة بها.
أين أنت أخي عن قوله تعالى لخير جند مشوا على وجه الأرض : محمد – صلى الله عليه وسلم - وصحابته؟ الذين قيل في حقهم -لما ابتلوا بما ابتلوا به يوم أحد -: "وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" قال غير واحد من السلف: أي: ليختبر الذين آمنوا، حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم.
وقيل لهم أيضاً: "وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ"، أي : يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال .
أخي: كم في الأمة من العلل؟ وكم فيها من الدخلاء ؟ وكم فيها ممن يدعي الحرقة والأمر ليس كذلك؟!
هل نسيت أيها المبارك ما وقع لنبيك – صلى الله عليه وسلم- يوم أحد ؟ أو يوم الأحزاب؟!.
إن هذه الأحداث التي أقلقتك وأزعجتك ، إنها تحت سمع الله وبصره، والله –تعالى- أغير من خلقه أن تنتهك حرمات عباده ،وتغتصب نساء أوليائه ،ويُعرض عن دينه ،ويحارب حزبه ،ولكنها السنن - أيها الأخ الكريم - التي ربّى النبي – صلى الله عليه وسلم- عليها أصحابه حين اشتكوا إليه شدة ما يلقون من المشركين ، ومنهم خباب - كما في البخاري - قال: شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وهذه الجملة الأخيرة، يجب ألا تغيب عن الأذهان، ونحن نبحث ونتلمس النصر لهذا الدين..
ويجب ألا تغيب ونحن نسمع أو نعلم عن إخوان لنا في السجون قد يموت أحدهم في سبيل الله ، ويجب أن ندرك أن الأمر كما قال الشاعر:
فتلك سبيلٌ ، لست فيها بأوحد
2 ـ ومع استحضار سنة الابتلاء، فإننا يجب أن نتذكر أن هذا الطغيان والاستبداد الذي تراه من أمم الكفر، هو أيضاً لا يخرج عن سنة أخرى من سنن الله تعالى في الأمم، وهي أن هذا في الحقيقة تمهيد لمضي سنة أخرى من سنن الله تعالى، ألا وهي محق الكفار.
يقول ابن القيم -رحمه الله - وهو يتحدث عن العبر من غزوة أحد في (زاد المعاد)(/11)
(3/222): ومنها ـ أي من دروس غزوة أحد ـ أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها - بعد كفرهم - : بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم، وتقوية نفوسهم، وإحياءِ عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم، فقال: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم؟! فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر يقسمها دولاً بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي: أن يتميز المؤمنون من المنافقين ، فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة ، بعد أن كانوا معلومين في غيبه.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة " انتهى.
وكان قال قبل ذلك ـ رحمه الله ـ مقرراً هذا الأصل (3/18): والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلةٌ ظالمةٌ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية" اهـ .
3- علينا -أيضاً- أن ندفع هذه السنة بسنة أخرى، وهي سنة العمل للدين، فإن الله تعالى قادرٌ أن ينصر دينه بأيسر الأسباب ،ولكن اقتضت حكمته أن لا يتم النصر إلا على أيدي رجالٍ ينذرون أنفسهم لنصرة دينهم بالغالي والنفيس، وبكل ما يقدرون عليه.
ألم تر -أخي الكريم- كيف ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم، بل أخرجوا منها رغماً عنهم، وقبلوا بذلك، وما أرخصه إذا كان الثمن رضوان الله والجنة، فأعقبهم الله تعالى- بعد سنوات من الدعوة والجهاد- بأن عادوا إليها فاتحين، وقبل ذلك وبعده أن الله تعالى رضي عنهم، وعن إخوانهم من الأنصار.
إذن، نحن بحاجة إلى أن نخرج من دائرة النواح والبكاء، لننزل إلى ميادين العمل، وما أكثرها في هذا الزمن!
ومن المهم –أيضاً- في هذا المقام أن لا نختصر مجالات النصرة، وسبل رفع الذلة عن هذه الأمة في عملٍ واحد، فإن نبينا – صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالتوحيد، هو الذي أمر بإماطة الأذى عن الطريق، وهو الذي أمر بالإحسان إلى الحيوان ويجب أن لا نستهين بأي عملٍ فاضل، وأن لا يعيب المشتغل بالعلم تعلماً وتعليماً من نذر نفسه في ميادين الدعوة إلى الله، أو في ساحات الجهاد ، والعكس صحيح، فإن الجميع يكمل بعضهم بعضاً، ولا غنى للأمة عن أي عملٍ صالح.
نعم! ليست الميادين في تأثيرها وقوتها بدرجة واحدة، لكن مقصودي هو التحذير من اختزال أسباب النصر في سبب واحدٍ أو سببين، فإن الله تعالى قال: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
فلنسع إلى نصرة ديننا جهدنا، ولنكن ممن لبى نداء ربه الذي قال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ".
وقد سألت أيها الفاضل عن كيفية السعي لنصرة هذا الدين؟ وسأل آخر عن كيفية القيام بواجبه الدعوي؟ ومن الصعب في مثل هذه العجالة أن أفصل لك ماذا تعمل، لكن يمكنك الانطلاق من خلال الخطوات التالية:
1- قم بحصر للمنكرات في محيطك الذي حولك.
2-ابدأ بعلاج المنكر الأكبر ، فإن لم تستطع فانتقل للذي بعده.
3- تواصل وتشاور مع أهل العلم والدعاة ـ إن وجدوا في بلدك ـ لبحث كيفية علاج هذه المنكرات أو التخفيف منها، وإلا فانتقل للذين بعدهم وهكذا، وأرجح ألا تبتعد في السؤال عن أهل بلدك، لأنهم أعلم بحال بلدك من غيرهم، فإن عدموا ـ ولا أظن ذلك ـ فبإمكانك أن تتواصل مع غيرهم.(/12)
4- ديننا قائم على: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع ممارسة النهي عن المنكر، يجب أن نقدم للمجتمع المعروف، بل البدء به هو الأصل، فليس صحيحاً ألا يسمع المجتمع منا إلا نبرة الإنكار فقط، بل من نشر المعروف، بالدروس والمواعظ، أو على الأقل عن طريق خطب الجمعة، كل ذلك بحسب الطاقة.
فإن منعنا من ذلك كله، فلن نعجز أن نري المجتمع منا صدقاً في الالتزام بهذا الدين، نتمثله بالصدق في أقوالنا وأفعالنا ، فتلك –وربي- ليست بهينة ، فقد كسب بها النبي ج أنصاراً لدينه بسبب صدقه وأمانته، وشمائله الطيبة التي جعلت الناس يقولون: ما كان هذا ليكذب على ربه وهو لا يكذب في حديث الناس.
4- ونحن نرى ما نرى من الإبتلاءات والشدائد، يجب أن نفتح أعيينا على الجوانب المشرقة التي تحققت للأمة في العقدين الأخيرين، على مستوى الشعوب على الأقل؟!
فمن ذا الذي ينكر هذا الخير العميم الذي انتشر في بلاد الإسلام؟
ومن الذي يكابر في هذه الأفواج الكبيرة العائدة إلى الله، أو الداخلة في دين الله تعالى؟!
كم هم حفظة القرآن؟ كم هم المشتغلون بحفظ السنة؟.
ألم تر عينك أفواج الشباب التي تعتكف في الحرمين في العشر الأواخر من رمضان؟
ألم تسمع عن أخبار المجاهدين الذين رووا أرض الجهاد بدمائهم في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والعراق؟!
متى كان الشباب يعلنون أن أغلى أمانيهم أن يموت أحدهم شهيداً؟!
كم هن النساء اللاتي عدن إلى الحجاب، وهن في وسط الفتن، رغم قوة الصوارف والمغريات؟!
إن هذه -أخي الفاضل- مكاسب كبرى، يجب أن تكون رافعةً لهمتنا، ومبشرةً لنا بأن عمل من سبقنا من المصلحين - رغم ضعف إمكانياتهم، وقلة اتصالاتهم- آتى ثماراً يانعة.
إن بشائر النصر تلوح في الأفق، وهي -بمقياس الزمن الطويل- ليست ببعيدة بإذن الله، ولكننا -أحياناً - نستعجل، وربنا لا يعجل لعجلتنا.
يقال هذا، وتذكر هذه البشائر، ونحن جميعاً نعلم أن في الأمة جوانب كثيرة، تحتاج إلى إصلاح، نعم ..لكن لماذا نستمر في جلد ذواتنا ،وتحطيمِ ما شُيِّد من جهود كبيرة، وكأننا لا نملك أي بصيص من الأمل ؟!
5- قلب نظرك -أخي - في صفحات التاريخ ، فستجد أن الأمة مر بها أنواع من الفتن والإبتلاءات، أضعفتها، وأنهكتها فترة من الزمن، ولكنها عادت بعد ذلك قويةً.
وحسبي هنا أن أشير إلى إحدى الإبتلاءات الكبار التي تعرضت لها الأمة، وهي غزو التتار، وسأسوق لك كلام عالمين أرّخا ورصدا مشاعر الأمة في تلك الفتنة العمياء الصماء، أحدهما أدرك أولها، والآخر أدرك آخرها.
أما الذي أدرك أولها فهو العلامة ابن الأثير ـ في كتابه "الكامل" 10/399 -حيث يقول -في أحداث سنة 617هـ: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها،كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
وهذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يدرك تلك الفاجعة العظمى والنكبة الكبرى لسقوط بغداد، ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى.(/13)
يقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام، وما تبع ذلك من مآس ومصائب، والتي وصفها إمام آخر وقف على أحداثها، يصفها ويشخص فيها أحوال الناس، ويصور مشاعرهم ومواقفهم بدقه وخبرة، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: " فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع وينصرم، ودارُ المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنْ ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامه مختصرة من القيامة الكبرى... وفرّ الرجل فيها من أخيه، وأمه وأبيه، إذْ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسِه... وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل "انتهى كلامه رحمه الله.
6 ـ لا بد أن نعلم أن من حكم الابتلاء: تمحيص الصفوف، تكفير الذنوب، وهذا أمرٌ بين، فكم هم الدخلاء على الصف الإسلامي، الذين لا يعرفهم إلا الندرة من الناس، فإذا جاءت مثل هذه المحن والابتلاءات ميّزت الطيب من الخبيث، وشرح ذلك يطول جداً.
7 ـ هذا دين الله الذي تكفّل بنصره، وأمرنا بأن نسعى لذلك، ولم يكلفنا أن نحصد ثمرة النصر، بل هذه لم تطلب من النبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام..
تأمل أخي.. لقد مات النبي – صلى الله عليه وسلم - وهو لم يفتتح من بلاد الإسلام القائمة اليوم إلا ما يشكل الربع تقريباً أو أقل، ولكن تابع أصحابه والتابعون لهم بإحسان الفتوحات، فوصلوا إلى حدود الصين شرقاً، وإلى جنوب فرنسا غرباً، وكل ذلك محسوب ومضاف إلى رصيده.
فالواجب علينا أن نتبنى مشروعات دعوية، تقوم على العمل المؤسسي ـ إن أمكن ـ لأن ذلك أدعى لاستمرارها وبقائها، إذ لن يؤثر عليها موت شخص أو سجنه، بل هي تسير وفق خطة وسياسة واضحة، يتلقها اللاحق عن السابق، وما منظمة حماس إلا نموذج حي للعمل المؤسسي الذي لا يتوقف بموت قائد أو مؤسس.
7- إني لأعجب من مسلم يقرأ قوله تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" كيف يدب اليأس إلى قلبه؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ـ فيما نقله عنه ابن عبدالهادي في "اختيارت ابن تيمية ص(70-71) ـ: ((وهذا يشكل على بعض الناس، فيقول: الرسل قد قتل بعضهم، فكيف يكونون منصورين؟
فيقال: القتل إذا كان على وجهٍ فيه عزة الدين وأهله كان هذا من كمال النصر، فإن الموت لا بد منه، فإذا مات ميتةً يكون بها سعيداً في الآخرة، فهذا غاية النصر، كما كان حال نبينا ج، فإنه استشهد طائفة من أصحابه فصاروا إلى أعظم كرامة، ومن بقي كان عزيزاً منصوراً، وكذلك كان الصحابة يقولون للكفار: أخبرنا نبينا أنّ من قتل منا دخل الجنة، ومن عاش منّا ملك رقابكم.
فالمقتول إذا قتل على هذا الوجه كان ذلك من تمام نصره، ونَصْرِ أصحابه.
ومن هذا الباب حديث الغلام ـ الذي رواه مسلمٌ ـ لما اتبع دين الراهب، وترك دين الساحر، وأرادوا قتله مرة بعد مرة، فلم يستطيعوا حتى أعلمهم بأنه يقتل إذا قال الملك: باسم الله رب الغلام، ثم يرميه، ولما قتل آمن الناس كلهم، فكان هذا نصراً لدينه)) انتهى كلامه:.
8- في ظل هذه الفتن، وتتابع هذه المصائب، يجب ألا تشغلنا هذه الفتن عن عباداتنا الخاصة بيننا وبين ربنا، فالضرورة تتأكد بوجوب العناية بإصلاح القلب، وهذا يتحقق بأمور:(/14)
أ ـ التعلق بالله -عز وجل- دائماً، واللجأ إليه، وكثرة الإلحاح عليه بالدعاء، فإن الله تعالى نعى على قومٍ أصيبوا بالضراء، فلم يكن ذلك سبباً في تضرعهم، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".
فما أحوجنا إلى اللجأ، والتضرع إلى ربنا في كشف ضرنا، وإصلاح أحوالنا، والاستغاثة به في طلب النصر، وكبت العدو وخذلانه.
ب- لا بد لكل واحدٍ منا من عبادة يلازمها، ويكثر منها، مع العناية ببقية العبادات، فإن للعبادة أثراً عظيماً في سكون القلب، واستقرار النفس.
ولئن كان هذا مطلوباً في كل حين، فهو في أوقات الفتن آكد وأعظم، فإن النبي ج يقول -كما روى ذلك مسلمٌ في صحيحه من حديث معقل بن يسار س -: "العبادة في الهرج، كهجرةٍ إليَّ".
وسبب ذلك -والله أعلم - أنه في زمن الفتن يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه، ومعاشه، ونفسه وما يتعلق به.
فمن فتح عليه في نوافل الصلوات، أو في الصيام، أو في الصدقة، أو في قراءة القرآن، أو في غيرها من العبادات، فليلزمها، وليكثر منها، فإنها من وسائل الثبات بإذن الله تعالى.
ج - الإقبال على قراءة القرآن بتدبر، وقراءته قراءة المستشفي به، الطالب للهدى منه، المحرك لقلبه به، فإن ذلك من أعظم الأدوية وأنفعها للقلب خصوصاً في هذه الأزمنة التي انفرط عقد الفتن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [3/5]
د. رياض بن محمد المسيميري(7) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أحصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل... بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته تعالى تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال سبحانه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله – سبحانه-.(/15)
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله –تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها – صلى الله عليه وسلم- مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله تعالى فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال سبحانه: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [4/5]
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي(*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وبعد:
سؤالك -أخي الكريم- يدل على قوة في إيمانك، وغيرة على دين الله وحرمات المسلمين، وإحساسك بوجوب العمل لنصرة هذا الدين، جعلنا الله وإياك من أنصار دينه:
أما ما ينصح به تجاه هذه الأزمة التي تمر بها الأمة:
1 – أن تدرك أن الله لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها، وهل تكون أغير من الله على دينه وعباده؟ فمادام أنه قد حيل بينك وبين نصرة إخوانك المسلمين بهذه الحدود والسدود، ومحاولة النصرة فحسب قد تدفع بالجهات المسؤولة في بلادك لتعذيبك وأذاك إلى حد القتل أو الجنون أحيانا، فإن الله لم يكلفك ما لا تطيق، فأربع على نفسك، وهدئ من روعك، وقم بما تستطيع من العمل الصالح، ولن يسألك الله إلاّ ما تستطيع من العمل، وأنت تعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشاهد المؤمنين يعذبون بأنواع العذاب في مكة ويمر عليهم ولا يملك إلا أن يوصيهم بالصبر .
2- الارتباط بأهل العلم والدعوة في بلادك ممن عرف بالعلم بالدين والعمل به إذ يوجد في كل بلد من بلاد المسلمين عدد وافر من أهل العلم المتصفين بالعلم والغيرة والرغبة الصادقة في نصرة هذا الدين مع التزام الحكمة في القول والعمل، ويلتف حولهم عدد من الناس يستفيدون منهم ويحضرون دروسهم ويسترشدون بتوجيهاتهم، ومثل هؤلاء غالبا، لا يحصل لمن يتصل بهم أذى جسدي أو سجن وتعذيب؛ لكونهم معروفين لدى السلطات بعدم تبنيهم مبدأ العنف في التعامل مع الدولة، فمثل هؤلاء بإمكانك الاتصال بهم وحضور دروسهم و محاضراتهم، وعرض ما يمر بك من مشكلات عليهم، والحرص على طلب العلم الشرعي والاستمرار في ذلك .(/16)
3- المساهمة بما يمكنك في الإصلاح والدعوة في بلادك بما لا يترتب عليه أذى لا تستطيع احتماله، ومن ذلك أن تكون قدوة في الاستقامة على الخير محافظا على الصلوات، مجتنبا للكبائر، مستغفرا من الصغائر، صاحب أخلاق عالية، متحليا بالصبر، كاظما للغيظ، قدوة في علمك وعملك، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ساعياً في صلاح من حولك من المسلمين.
4- ألا تحتقر الدعوة والإصلاح للأفراد والمجتمع، فإن ذلك من أعظم ما ترغم به أعداء الدين، فإن أعظم أهدافهم وأقصى أمانيهم رد المسلمين عن دينهم؛ كما قال تعالى عنهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".
5 - إدراك أن ما يحدث بقدر الله وأنه نوع من الابتلاء يرفع به الله المؤمنين درجات ويعذب به الكافرين، وهذا الابتلاء سنة ماضية، فقد قتل عدد من الأنبياء على يد كفرة بني إسرائيل قال تعالى: "ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون"، وليس المجاهدون في فلسطين بأكرم على الله من أنبيائه – عليهم السلام- وقد قتلوا زكريا بنشر رأسه وقدم لبغي زانية من زواني بين إسرائيل، و أن أهل الكتاب من بني إسرائيل عاشوا تحت قهر فرعون وجنوده وهم مؤمنون بالله وفرعون ملحد يدعي الألوهية، ولهذا قال بنوا إسرائيل لموسى: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".
و نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واجهوا أنواعا من الأذى والتعذيب على مدى عشر سنوات أو تزيد وهم مؤمنون، والمعذبون لهم مشركون، ومع ذلك لم يقدموا على عمل تكون مضرته أكثر من منفعته، وكان بإمكانهم أن يغتالوا أباجهل أو أبا سفيان أو غيرهما من زعماء المشركين في مكة، بل حين بايع الأنصار بيعة العقبة قال بعضهم للنبي -صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لم نؤمر بذلك").
فالحاصل أن القيام بأعمال غير مسؤولة من باب الغيرة والحماس ليست من منهج الأنبياء وأهل العلم والحكمة.
6 - ويمكنك أن تقدم ما تستطيع من الدعم المادي إخوانك في فلسطين والعراق عن طريق بعض المشايخ الموثوقين الذين يستقبلون التبرعات، أو الهيئات الموثوقة إن وجدت في بلادك.
7 – أكثر من الدعاء الصادق لإخوانك المسلمين المستضعفين بالنصر والتمكين وأن يكف الله عنهم بأس الذين كفروا .
8- إعداد نفسك وتحصينها بالعلم وكثرة العبادة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".
9- الإكثار من الدعاء بالثبات فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
10- إن استطعت الهجرة للعمل في بلد أقل مشكلات من بلدك كالسعودية أو بعض دول الخليج ففي ذلك عون لك في دينك ودنياك .
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلام
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [5/5]
د. خالد بن عبد الله القاسم 22/4/1425
10/06/2004
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية وسبل مواجهتها
أولاً: القوة العسكرية
عانت الأمة الإسلامية هجمات عسكرية ظالمة استهدفت الأمة بثقافتها الإسلامية ففي السابق الحروب الصليبية الشرسة التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرن من الزمان.
ثم الهجرة التتري على العراق والشام وإسقاط الخلافة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرن الماضي ومحاولته لمسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة لمصلحته.
ثم الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في القرن الماضي في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب في قلب العالم الإسلامي شرذمة من اليهود اجتمعت من أ،حاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسياً في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم لعدم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل وتجاوز العدوان على البلدان العربية حتى غير المجاورة حيث دمر المفاعل النووي العراقي، وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهماً في تأخر الأمة وإشغالها.
وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية ظاهرة فقد دمرت أفغانستان وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل ومات آلاف الأبرياء ونفس الأمر في العراق بحجج أسلحة الدمار الشامل الذي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.(/17)
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها هي أيضاً بالإرهاب (مع أنها أوضح وسائل المجتمع المدني الذي ينادون به في الدول الإسلامية)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات العسكرية لن تقضي على دين الله –تعالى- فقد أخبر المولى سبحانه "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة:33].
وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة".
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا " وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21].
كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات " ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" [العنكبوت:1-2] إنها تنقي الصف وتكشف المافقين "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، بل وأجدى منه غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين، ويتحقق ذلك بوسائل متعددة منها:
(1) تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
(2) مهاجمة اللغة العربية تشجيع اللهجات المحلية في مسعى لإضعاف اللغة العربية التي اختارها الله لكتابه "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2].
(3) تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القومية، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة، فنادى العرب بالقومية العربية، والأتراك بالتركية الطورانية، ونادى الأكراد بالكردية، وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها، وقد كان ظهور هذه الدعوات سبباً في إزالة الخلافة العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية، والدعوة إلى البابلية، والآشورية.. وغيرها(1).
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من دعا إلى عصبية) إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
إن الرابطة الحقيقة بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها كرابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
(4) إقصاء الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأسلوب تذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر، وقد أقنعوا به كثيراً من الحكام في الديار الإسلامية، وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيراً من القوانين الكافرة، وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية، باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(2).
(5) منع الإسلام من الانتشار ومحاربة الجمعيات الخيرة الإسلامية ورميها بالإرهاب ومصادره ممتلكاتها في الوقت الذي تعثو فيه الجمعيات التنصرية في كثير من بلاد المسلمين.(/18)
(6) استخدام وسائل الإعلام حيث استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام، حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابياً والمحتل مدافع عن نفسه ونظرة سريعة إلى وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا، سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه، وسبل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام، وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء تمجد الجريمة ، وتدعو إلى الفسق والفجور، وتكره في الحياة المستقيمة الفاضلة، وتتهكم بالمسلمين والمسلمات، وتتخذ الدين هزواً، وتعرض ما حرّم الله : الرقص الفاضح، وشرب الخمر، والكذب والدجل، وقد قامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
(7) إفساد التعليم حيث يهدف الأعداء من مستشرقين ومن مستغربين كلما سنحت لهم الفرصة إلى إضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة لتعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(4).
(8) الاستشراق، وهو دراسة للغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة شتى، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين(5).
ومن أهم نتائج المستشرقين في القرن العشرين (دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاصاً للعقيدة الإسلامية (6).
وهو أمر ظاهر باعتراف كثير من المستشرقين ، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية (7).
بل إن المستشرقين كانوا أداة للاستعمار تخلو عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان سفير ألمانيا في الغرب وقد هداه الله للإسلام: "والحق أن معظم المستشرقون عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل"(8) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكيين مع مراكز الدراسات الاستشراقية، لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط (9)الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة بل إن المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية وقد ساق إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني رغم أنه نصراني ولكنه منصف الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
(9) التنصير؛ على الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية، وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم، إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا، وقد رصدوا لذلك مئات الملاينن من الدولارات، وأرسلوا البعثات التبشيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله، وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم، إلا أنهم ماضون في هذا الطريق، وهم يصطادون المسلمين الجهلة، وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين، حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم (10).
(10) إفساد المرأة؛ وقد حرص الكفار على إفساد المرأة، لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج، فأخرجوها من بيتها، وهتكوا حجابها، وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب، وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا (11) وأفغانستان مثال حي حيث عندما احتلت لم ينقلوا لنا التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.
(11) العولمة الثقافية والتغريب؛ وللعولمة وجوها مفيدة في التقنية والاتصال، ولكن له وجوهاً خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية .(/19)
نجد أن الغرب لا يسعى قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمرنيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث... الخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(12) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، ومراهقين ومراهقات، فادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(13) .
وها هو المستشرق الألماني هاملتون جب يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(14).
إن هدف عدونا ذوبان الشخصية وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والإنحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، فبناء أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي.
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والإنسياق معهم فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِين" [آل عمران:100]، وأنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة إنما باتباع ما مهم عليه "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة:120].
سبل مواجهة التحديات الثقافية
سبل مواجهة التحديات الثقافية تأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها : تعزيز الهوية بأقوى سلاح، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون:8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران:173].
ثانيها: ثانيها: العناية بثقافتنا الإسلامية، وباللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً، واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، وعلينا أن نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله -سبحانه وتعالى- " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [سورة الرعد:11].
خامسها: مواجهة التحديات بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوباً وجماعات بالاعتصام بكتاب الله –عز وجل- "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103]، ثم التعامل معها إن وجدت إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.(/20)
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المضبطة بضوابط الشرع(15).
ثامنها: أن نتعرف على الآخرين وثقافاتهم، والكشف على مواطن القوة والضعف في الثقافات المختلفة لا سيما الغربية، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(16).
وأن يواكب ذلك عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب، ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته(17).
تاسعها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
عاشرها: أن يقوم بتعزيز الهوية وكشف العولمة والتغريب، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم، والمهارات، والمعارف، والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، وتقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(18).
حادي عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(19). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما تراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من عقيدة وقيم وتراث وتقاليد اجتماعية عريقة(20).
ثاني عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطاءها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله –تعالى- من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد التحديات الثقافية، لذا لا نستعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات الأعداء، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق ومحاربة أنشطتها وتشويه سمعتها وتجفيف مواردها.
________________________________________
(1) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(2) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(3) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:62-64.
(4) انظر: غزو غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية،
1405هـ، ص: 200.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25
(6) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 30-50.
(7) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(8) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(9) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان – الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:63-64.
(11) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان – الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:62-63.
(12) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.(/21)
(13) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية ، الفصل الثامن الفقرات 31-35، نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27
(14) أنور الجندي، شبهات التغريب، المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان، 1398هـ،
ص:12.
(15) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التيميم، الطبعة الأولى 1422هـ -2001م، ص: 263.
(16) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(17) العالم من منظور غربي، د. عبد الوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253.
(18) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت. ص: 30.
(19) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور/ حسين علوان حسين بعنوان: العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(20) انظر: صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.(/22)
الأمة وأمريكا!
من يتابع الأحداث على الساحة في هذه الأيام يكاد يصعق مما يشاهد من تداعي الكفار على بلاد المسلمين، وانتقائهم الدول التي يريدون احتلالها بعناية فائقة ورسم خطط إقامة الحرب عليها, والتصريح بذلك في وسائل إعلامها وإزجاء التهم الفاجرة المزورة المبررة لحربهم على تلك الدول الإسلامية لكونها إسلامية فحسب .... ونحن ولله الحمد كأهل الكهف تحسبنا أيقاظا ونحن رقود ! تاركين لهم تنفيذ خططهم ضدنا ولا نحرك ساكنا وإذا حركناه فلإعانتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله .
كل ما يهمنا هو التشبث بقشة من دنيانا والرضاء بالدون منها نمسك عليها بمخالبنا وأطراف أسناننا والاستماتة – هذه الأيام - في سبيل البقاء عليها من طرق حلّت أم حَرُمّت ! وتهافتت أمتنا على تقليد الكفار ومتابعتهم والاستلام لهم ؛ تقليد المغلوب للغالب في كل شيء ؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلوه .
افتُعلت قضية أبراج أمريكا، والأيام حبلى بهذه القضية وستلد حقيقتها ومن صاحب التخطيط لها وما إذا كان المنفذ مستحمرا فيها أم مخطئا في حساباتها, وما إذا كان مجموعة الموتى المسلمين الذين عُلقت صورهم في كل مكان من مطارات العالم بكونهم هم من قاموا بها، واهتز العالم كله لهذا الحدث، وحوقل العقلاء منا توقعا أن تُقْدم القوى الرعناء على غزو بلاد الإسلام .. وعلموا ما لم يعلم السذج الأغبياء والمغفلون منا .. فكان ما توقعوه .. فقامت دولة عادٍ فضربت أفغانستان والحصيلة .. خمسون ألف قتيلٍ مسلمٍ .. دمهم هدر لأنه أريق بأيدٍ كُتب عليها " أمريكا" ! ، التي يجوز لها ما يحرم على غيرها .. ووجد فينا من يصفق لها نفاقاً أو غباءً أو بلاهةً أو جبناً وخوراً .. ثم انقلبت أمريكا الرعناء على من صنعته على عينها ، حاكم العراق .. _ الذي أمرته قبل أربعة عشر عاماً بغزو الكويت لتدخل رغماً عن أنوف من لهم أنوف يرغبون أن يشمخوا بها ! وتعقد مع الكويت اتفاقية حماية لمائه عام _ وخاب من استرعى الذئب على الغنم ! ... انقلبت عليه فكالت ضده التهم حتى أقنعت الناس بأن يناموا ويطأ طئوا رؤوسهم إذا ضُرب العراق .. وضُربَ العراقُ .. وسالت أنهار الدماء ولازالت حتى هذه الساعة ! وعدنا نحن إلى لهونا وغفلتنا وعاد الماجنون إلى مجونهم والعابثون إلى عبثهم .. وعادُ عُبَّادُ أمريكا إلى السجود لها ! والتسبيح بحمدها والدفاع عنها ..! ثم .. قرأنا بالأمس القريب وبالتحديد يوم 7/ شوال / 1426هـ في أول صفحة في ( عكاظ ) " رامسفيلد يضع خطةً عسكرية لضرب سوريا منذ أكثر من سنة " .. يخطط القوم لأهدافهم، و يخططون لضرب الإسلام باسم الإسلام ! وكلٌ في فلك يسبحون ..ثم يتكلم الرئيس السوري اليوم بكلام رصين _ مع التحفظ على بعضه _ فقامت الدنيا ولم تقعد .. لماذا أيها الرئيس لا تقف مكتوف اليدين .. وتقول آمين ! على كل ما نقوله ونتهمك به ؟ ! ..
لقد نجحت أمريكا في الإيقاع بين سوريا ولبنان نجاحاً لم تحلم به من قبل .. جاءت نتائجه أسرع من سنا البرق ! .
قتلوا القتيل ووضعوا دمه في عنق من حركتهم أياديهم وجعلتهم مسمار جحا .. أتدرون ما مسمار جحا ؟! إنها قصه لطيفة اسألوا جداتكم عنها لتعلموا ما يعني ! .
ثم .. كأننا بالطائرات والدبابات والقاذفات من كل حدب وصوب تنهال على سوريا حتى تمحى من الخريطة .. فتصبح – مكانها - لبنانَ ( أمريكيةً ) كبيرةً !! .
والله لن يتحرك أحدٌ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم خوفاً من أتباع المسيح عليه السلام ... على صفاء منهجا ، ونسخه لمنهجهم وخبث منهجهم وتلوثه بتحريفات اليهود وقذارتهم ، والخوف كل الخوف من غزو الدولة التي ستلي سوريا في قائمة أمريكا !! اللهم واحمنا !. لكننا نقول لو حلمت أمريكا مجرد حلم في منامها !! وأحلامها حقيقة لا كأحلام العرب والمسلمين أضغاث أحلام ! لو حلمت باستهداف من وضعتها في المرتبة الثالثة في حربها الصليبية _ كما صرح زعيم كفرها بذلك _ فأنني أقسم بالله الذي رفع السموات بلا عمدٍ ، قسماً لا أستثني فيه أن نهايتها ستكون عند استيقاظها من حلمها ، فلدينا أناس يحبون بل يعشقون الدفاع عن الإسلام ومقدساته كعشق المدمنين من أولئك لما أدمنوه ! { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }هود81" ..
إن إجابةً على السؤال الضخم الذي يسأله الأغبياء ! والعقلاء منا توضح معالم الطريق الذي غشيه الضباب .. لماذا تفعل أمريكا هذه الأفاعيل الكبيرة الفاجرة .. رغم هشاشة ذرائعها وأدلتها ؟ ما السبب الذي ضربت لأجله أفغانستان ؟ ما السبب الذي ضربت لأجله العراق ؟ ما السبب الذي ستضرب لأجله سوريا ؟ لماذا فرضت عقوبتها على السودان ؟ ما سر اهتمامها بدرافور ؟ ما سر ترحيبها بعلاقات باكستان مع دولة اليهود ؟ ما سر هذا الاهتمام الكبير بلبنان على كثرة مشاكلها ؟ ما سر اهتمامها بالهند ؟ .. ما .. و ما .. ..
أسئلة كثيرة يضمها سؤال واحد .. لماذا فعلت أمريكا كل هذا ؟!(/1)
الجواب " نبؤات توراتية تلمودية .. تنص على ذلك ، ترمي إلى حماية إسرائيل صاحبة المفاعل النووي والرؤوس النووية الكثيرة . وأمريكا هي حامية الحمى اليهودي المقدس ، وحق لنا أن نسأل نحن أيضاً ..
كانت أمريكا فيما مضى تخجل من التصريح بعنايتها ببنتها اللقيطة إسرائيل ، أما اليوم فدفاعها عنها أصبح مشهوراً رغم أنوفنا .. ألديكم اعتراض ؟! .
أيهما أخطر أسلحة صدام الوهمية التي أقامت الحرب على العراق والتي لا يوجد لها حقيقة إلاَّ في رؤوس الأمريكان ؟ أم مفاعل ديمونة الإسرائيلي الهدية القيمة التي قدمتها فرنسا لإسرائيل ؟! .
أين تهديدات أمريكا لكوريا الشمالية ؟ لم نعد نسمع لها صدى منذ أكثر من عام ؟! ألآن كوريا التي لا عقيدة لها أرغمت أنف أمريكا وداستها تحت أقدامها ومسحت الأرض بشموخ أمريكا المزعوم ؟ حتى ركضت نحوها تخطب ودها ! عجيب ..
غضبت أمريكا من تصريحات بشار الأسد التي يدافع فيها عن بلاده أن يصيبها ما أصاب العراق ؛ فانتفضت أمريكا .. وفرنسا .. وهيئة " الأمم ".. انتفضت غضباً من هذا الكلام البري المسكين ؟ .
على أن أطول لسان _ في نظري والله تعالى أعلم _ يتطاول على أمريكا هو لسان الأعجوبة " شافيز" في فنزويلا !! حتى أنه اليوم تعهد بأن يجعل اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي تبنتها أمريكا موءودة لا ذكر لها ! في حين كانت _ تلك الاتفاقية _ كليلة القدر بالنسبة للعرب فرحوا بها حتى تشققت أشداقهم من شدة الفرح بها .. وسيدفعون ثمنها غالياُ جداً !
لِمَ لمْ تَقطع أمريكا لسان (شافيز ) الطويل الذي يسيل باللعنات على أمريكا كلما سنحت له فرصة وقوف أمام الميكرفون في وسائل إعلامه ؟!
ألم تعلم بأن أمريكا صنيعة الصهيونية العالمية .. وأيدي اليهود ألم تعلم بجرائمها التي ارتكبتها عبر التاريخ .. :_ !
(كان يظن كثير من الناس بسبب الإعلام المزيف لسنوات عديدة بأن أمريكا هي فعلاً دولة الديمقراطية ودولة الحرية وأنها راعية السلام ، فتبين ولله الحمد من خلال غزوها الصليبي لبلاد العراق كذب ذلكم الادّعاء ، وتبين زيف ديمقراطيتها وحريتها .
وقد آن الأوان أن نقلب بعض أوراق التاريخ ونُخرج ما يجهله الكثيرون عن هذه الدولة الطاغية المعتدية من خلال عرض سريع لبعض جرائمها عبر التاريخ .
إن أمريكا داعية الديمقراطية أصيبت بجنون البقر من الانتخابات الفلسطينية فهل وعت أمتنا حقيقة ديمقراطية أمريكا مجازر إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني شبه يومية تقتل النساء والشيوخ والأطفال وآخرها مجزرة ساحل غزة كيف تقومها أمريكا وما تسميها، الحصار على الشعب الفلسطيني واستنفار العملاء والخونة لهذا الغرض ماذا تسميه أمريكا متى تصحوا أمتنا وترفع رأسها إلى السماء
إن أمريكا عدوّة الإنسانية، ليس المسلمين فحسب بل لكل الشعوب، اسألوا:
أفريقيا السوداء .واسألوا اليابان. واسألوا أمريكا الجنوبية، الذين يجزّرون بعشرات الملايين .أرقامٌ خيالية ، وأعداد مذهلة ،ووفيات فوق حسابات البشر ( قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ).
طريقة القتل عند الأمريكان :
طريقتهم طريقة وحشية وليست إنسانية فهم يصبون وابلاً من أطنان القنابل على الأبرياء وكأنهم يصبونها على جبال صماء، وصدق الله حيث يقول ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) .
.. في اليابان :
في ليلة من ليالي عام 1366هـ في الحرب العالمية الثانية دمرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعاً من طوكيو، بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت مائة ألف شخص في يوم واحد، وشردت مليون نسمة، ولاحَظَ أحدُ كبار الجنرالات بارتياح أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أُحرقوا، وتم غليُهم وخَبزُهم حتى الموت، وكانت الحرارة شديدة جداً حتى إن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان، وذابت الهياكل المعدنية ، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب وتعرضت أثناء الحرب حوالي أربعٍ وستين64 مدينة يابانية للدمار ، واستعملوا ضدهم الأسلحة النووية ولذلك فإن اليابان لا تزال حتى اليوم تعاني من آثارها . وألقت قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما ونجزاكي، وقال بعدها الرئيس الأمريكي هاري ترومان وهو يكنّ في ضميره الثقافة الأمريكية: "العالم الآن في متناول أيدينا".
.. وفي الصين وكوريا وفيتنام وكمبوديا :
وما بين عام 1371هـ وعام 1392هـ ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي وكمبودي وتشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية، وكثير منهم قتلوا في الحرائق العاصفة في بيونغ يانغ ومدن رئيسة أخرى .
وفي منتصف عام 1382هـ سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص ، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص ، واغتصاب 31 ألف امرأة ، ونُزعت أحشاء 3.000 شخص وهم أحياء ، وأحرق 4.000 حتى الموت ، وهوجمت ستٍ وأربعين 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة .
هذه هي أمريكا وهذه بعض أفعالها لمن يجهلها .
.. وجرائم, وجرائم :(/2)
وأدى القصف الأمريكي "لهانوي" في فترة أعياد الميلاد عام 1391هـ إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم. وقتل الجيش الأمريكي المدرب في غواتيمالا أكثر من 150 ألف فلاح ما بين عام 1385هـ و عام 1406هـ. وقاموا بإبادة ملايين الهنود الحمر يصل عددهم في بعض الإحصائيات إلى أكثر من مائة مليون وهم السكان الأصليون لأمريكا وبعدها أصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه و50 جنيه مقابل فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل، هذه هي الحضارة الأمريكية. وأصدرت بعد ذلك قانوناً بإزاحة الهنود من أماكنهم إلى غربي الولايات المتحدة وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين وكان ذلك عام 1245 هـ، وهُجّر إلى المناطق الجديدة أكثر من 70.000 ألف هندي فمات كثير منهم في الطريق الشاق الطويل، وعرفت هذه الرحلة تاريخياً برحلة الدموع.
وفي عام 1763م أمر قائد أمريكي برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين، ونتج عن ذلك شبه فناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية.
إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، ونُشر مرض الجدري من جراء أسلحة الحرب الجرثومية وكان أخطر ما فيه أنه لم يكن لهذا المرض أي وجود في القارتين الأمريكتين، والمجرمون الذين استخدموا هذه الأسلحة الجرثومية يعلمون بأنه سيفتك إلى حد الإبادة بالهنود الحمر ورغم ذلك استخدموه فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل ضد الهنود الحمر . وفي إحدى المعارك قتلت أمريكا فيها خلال ثلاثة أيام فقط خمسةً واربعين45.000 ألفاً من الأفريقيين السود ما بين قتيل وجريح ومفقود وأسير.
أمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل :
فقد استخدمت الأسلحة الكيماوية في الحرب الفيتنامية وقتل مئات آلاف من الفيتناميين. وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة الهيدروجينية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة النيوترونية. لماذا هذا التصنيع إنها لن تتورع في استعماله أبدا
هذه جرائم الطاغية الباغية رأس الكفر أمريكا في حق غير المسلمين، وهذا مامارسته أمريكا من جرائم ضد البشرية، وهذه بعض جرائمها وأرقامها الخيالية فهي لا تراعي لذي حَرم حرمته، ولا لحر حريته، ولا للإنسان إنسانيته.
أما جرائمهم في دماء المسلمين فحدث ولا حرج :
فملفاتهم سوداء من دماء المسلمين، ودم المسلم دم وحشي في قاموس أمريكا، ليس له حرمة البتة، بل هو في نظر أمريكا أخس من الكلاب النجسة، ولذلك فإنهم يصورون الإسلام بأبشع الصور فالإسلام عند أمريكا عبارة عن نتوء شاذ ليس من المعتقدات القديمة ولا الجديدة، بل هو من ظلمات البيئة العربية. وقد ثبت أنهم يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رجل شاذ، وتزوج عدة مرات للوصول إلى السلطة، ومثل هذه الادعاءات الملعونة تدرس لديهم في مناهجهم الدراسية وقد أنتجوا أكثر من 700 فيلم يسئ للإسلام والمسلمين، ويزيف دور المرأة في الإسلام، ومن ذلك إلحاق أعمال الإرهاب والعنف بالعرب والمسلمين فقد قاموا مؤخراً بإنتاج فيلم عدائي تكلفته 150 مليون دولار، يلحق الكثير من التهم بالمسلمين ويكيلها لهم كيلاً، ويرى الرئيس السابق نيكسون أنه ليس هناك من شعب حتى ولا الصين الشعبية له صورة سلبية في ضمير الأمريكيين بالقدر الذي للعالم الإسلامي.
وهذه بعض جرائم أمريكا الديمقراطية في قتلهم الوحشي الشنيع ضد المسلمين :
لقد قُتل أكثر من مليون طفل عراقي، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق وحصارها الظالم له خلال أكثر من عشر سنوات وأصيب الآلاف من الأطفال الرضع في العراق بالعمى لقلة الأنسولين، وهبط عمر العراقيين 20 سنة للرجال و11 سنة للنساء، بسبب الحصار والقصف الأمريكي، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي. وقد رفع أحد المحامين النصارى الأمريكيين دعوى على الرئيس الأمريكي جورج بوش – الأب – يطالب فيها بمحاكمته على أنه مجرم حرب، بسبب ما أحدثه في العراق من قتل وتدمير. وارتكب الأمريكان المجازر البشعة في حرب الخليج الثانية ضد العراق فقد استخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري وهو سلاح زنته 1500 رطل. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب أربعين طناً، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60 إلى80 ألف قنبلة قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي .
وقتل الآلاف من اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في المجازر التي قامت بها إسرائيل بحماية ومباركة أمريكية .
وما بين تاريخ 1412و1414هـ قتل الجيش الأمريكي الآلاف من الصوماليين أثناء غزوهم للصومال .(/3)
وفي عام 1419هـ شنت أمريكا هجوماً عنيفاً بصواريخ كروز على السودان وأفغانستان، وقصفوا خلاله معمل الشفاء للدواء في السودان، وقتلوا أكثر من مائتين وحتى هذه الساعة لا يوجد سبب واحد ومعلن للفجوة بين أمريكا والسودان غير الإسلام والقضاء على السودان، بصفته كيانا عربياً أفريقياً إسلامياً موحداً، ولأجل ذلك كثفت أمريكا جهودها وسعت للالتقاء بجميع المعارضين "الميرغني والصادق المهدي وجون قارنق" وألّبت جميع جيرانها ضدها، ودعمت حركة التمرد وبعض الدول المحيطة بها، والعجيب أن أمريكا تسعى بكل طاقاتها للضغط على العرب من أجل السلام مع إسرائيل، وفي نفس الوقت تقف بكل إمكانياتها في عرقلة السلام في السودان من خلال توظيف النصارى في الجنوب، والذي تصل نسبتهم إلى 5% من السكان فقط، ويأتي القرار الأمريكي المشئوم يدين السودان، ثم تأتي الصواريخ الأمريكية لتقصف مصنع الشفاء للأدوية، وهي لا تملك أدلة تستدل بها، وهل يقبل المنطق أن هذا المصنع يهدد الأمن الأمريكي ؟ إن الهدف الحقيقي لضرب السودان هو العنجهية الأمريكية، وإضعاف السودان اقتصادياً والضغط عليها سياسياً.
وقتل في أفغانستان خلال ثلاثة أشهر فقط نتيجة القصف الأمريكي ما لا يقل عن 50.000 أفغاني جُلّهم- إن لم يكونوا كلهم - من المدنيين. وتسبب حصارهم لأفغانستان في قتل أكثر من 15.000 طفل أفغاني.
وحصارها على ليبيا، إذ أدى هذا الحصار الغاشم إلى كوارث كبرى، وفواجع عظمى، إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية الحظر الجوي والحصار، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار.وقتل عسكريو إندونيسيا أكثر من مليون شخص بدعم أمريكي.
وأما معاملتهم للأسرى فأسوء معاملة، فالإنسانية معدومة لديهم، والقيم الأخلاقية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وقد تمثلت في أمريكا أعظم أنواع الإرهاب المنظم وبلغ فيهم الاضطهاد والإرهاب مبلغاً لم يشهد مثله في عالمنا الحاضر، بل وعلى مر التاريخ المتقدم، لقد خالفوا الأديان والشرائع بل والقوانين الوضعية . لقد حرص الأمريكيون على إظهار التشفي من هؤلاء الأسرى في (غونتناموا )في كل مناسبة حتى بلغ بهم الحال أن يتركوا هؤلاء الأسرى في مقاعدهم لأكثر من يوم ونصف بلا أي حراك، ومن دون تمكينهم من استخدام دورات المياه، ثم يعلنون ذلك لمجرد التشفي والتهكم والسخرية من هؤلاء الأسرى، كما توضح الصور أن الأمريكيين حرصوا على تعطيل كافة الحواس: السمع والبصر بل وحتى الفم والأنف وضع عليها أغطية كثيفة، والمتأمل للصور يشعر بأن الأسرى يفتقدون حتى الإحساس بالمكان وربما الزمان ومن الواضح خلال تصريحات المسئولين الأمريكيين أنهم لن يترددوا في استخدام أي وسيلة يتم من خلالها إهانة وتحطيم هؤلاء الأسرى. فهم بذلك خالفوا كل الأديان والشرائع وخالفوا أيضاً القوانين الوهمية فإن من الاتفاقات القانونية أن إجبار أسير الحرب على الإدلاء باعترافاته هو عمل إرهابي.
هذه هي أمريكا لمن لا يعرفها وهذه بعض إنجازاتها.
أين أمة المليار من هذه الثيران الهائجة والوحوش الشريرة والمواقف الفضيعة ؟ أين العقلانية ؟ أين الإنسانية ؟ أين القيم الأخلاقية ؟ بل أين القوانين الدولية والأعراف المرتسمة ؟ أليس فيهم رجل رشيد ؟
حقاً إن هذه جرائم وحشية ! وأفعال شيطانية ! وتصرفات حيوانية صامته.
إن أمريكا لا تلتزم لا بقانون ولا بأعراف ولا بمواثيق، وإنما تسعى لمصالحها الذاتية وهيمنتها الشخصية دون مراعاة لروابط دولية، فهي كانت تنادي بالديمقراطية ولما وقعت عليها الهجمات في الحادي عشر من سبتمبر تلاشت الديمقراطية المزعومة. إن أمريكا تدعي مكافحة الإرهاب ! وقد سبق ذكر القوائم في أعمالها ومشاريعها الإرهابية، وقد اتخذت أمريكا من هذا المصطلح وهو ما تسميه هي مكافحة الإرهاب غطاء لها في ضرب المسلمين ومنشئاتهم تحت هذا المسمى. لقد بلغت خسائر العراق حسب ماتحدث عنها خبير عسكري عراقي قبل ثلاث سنوات أربع مائة مليار في ضربها البنية التحتية للعراق وأبناء المتعة يصفقون لأمريكا حدثونا عن ضرب الفلوجة والرمادي ومجازر أمريكا في كل العراق ماذا تسميها مع أذنابها, فكم خسائر العراق الآن.
ولذلك فإن قانون الإرهاب، وضع على المسلمين وبالتالي امتد إلى الإسلام، والعجيب أن الإحصائيات الرسمية وتقارير الخارجية الأمريكية تذكر أن أخطر أحداث الإرهاب والتخريب هو ما وقع في أوكلاهوما الذي قتل وأصيب فيه 700 شخص ونسب هذا العمل أولاً إلى إرهابيين في الشرق الأوسط ثم ظهر أن الجانين وليس الإرهابيين ! اثنان من الأمريكيين البيض المسيحيين الأصوليين ونشرت أسماؤهما .(/4)
إن أمريكا تتسم بالأحادية والطمع والهمجية والتدخل الساخر في شؤون الدول الداخلية وغير احترام لدينهم بل وقوانينهم، فهي تُشرّع بالغداة وتنسخ بالعشي ليس لديها قانون منضبط، فهي تنتهك القوانين والاتفاقيات، فلسان حالها يقول لا نُسأل عما نفعل وهم يسألون ! ونأخذ ما نشاء وندع ما نشاء وننتهك حقوق من نشاء، ولا معقب لحكمنا، يقول ممثل إحدى الولايات في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو يلقي خطابه قال فيه: "إن الله لم يهيئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة، وبدون هذه القوة، ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته".
وإنه لمن الأمر المرير والجرم الكبير، ما قامت به السياسة الأمريكية الغاشمة والتي أسست على الإرهاب والعنف والتطرف، من قصف وحشي على إخواننا في العراق هذه الأيام والأيام الماضية، والتي أهلكوا فيها الحرث والنسل وأبادوا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، بل وحتى الحيوان البهيمي بل وحتى اليابس والأخضر.
إن قتل الإبادة جريمة كبرى وبلية عظمى، وحتى القانون الدولي لا يقره بل يعتبره جريمة، ولكن المشكلة أن منظمة الأمم يسيطر عليها اليهود الأمريكيون، وسيطرتهم عليها قديمة ولا تحتاج إلى أدلة وبراهين).
وإنه من الواجب علينا ان ندركه .. أن الله تعالى لن ينصرنا أبداً إلاَّ إذا رجعنا إلى ديننا دون خجل واعتززنا به وبحمله وجاهرنا بدعوة الناس إليه وإلا إذا رجعنا إلى احتضان القرآن الكريم وضمه إلى صدورنا وقراءة آياته قراءة شغوف بها يرجوا الامتثال لأوامر منزله سبحانه وتعالى وإن كلفنا ذلك زهق أرواحنا!!
وإذا كان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أهلنا وأموالنا وأنفسنا ومن الدنيا جميعا ومن الماء البارد على الظمأ وإذا أطعنا من ولاّه الله أمرنا في طاعة الله وشددنا أزره ورغبنّاه في الآخرة وأنها خيرٌ وأبقى .. وأشعرناه أنَّا جنوده الذين يحبون الموت في سبيل من خلق السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء .. يؤتي الملك من يشاء ويينزعه ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء .. بيده الخير .. وهو على كل شيء قدير .. عندها .. يحق لنا أن نرفع الرأس ، ونستبشر بنصر الله تعالى ؛ لأننا حينئذٍ نستحقه .. فـ{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }النساء40.. لكننا .. و أقروا ما يصّور حالنا اليوم بالحرف الواحد .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ».
اللهم نصرنا الذي وعدتنا .. كف عنا كف المعتدي واحم ديار المسلمين، وبلاد الحرمين خاصة يا جبار السموات والأرض .(/5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد ورد في فضله من الأجر العظيم والثواب الجزيل ؛ ما جعل أصحابه هم العاملون وبالدين قائمون ولبيضة الإسلام يحمون .
قال تعالى : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل عمران : 104]
قال تعالى : {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [سورة آل عمران : 113-114]
قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [سورة التوبة : 71]
بل من أعظم أساب اللعن والطرد عدم الأمر بالمعروف .
قال تعالى : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة : 78-79]
قال تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} [سورة الأعراف : 165]
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ , وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ , وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا , لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ . ( 1)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ مِنْ النَّاسِ . ( 2)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ , فَقَالُوا : مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا ؛ نَتَحَدَّثُ فِيهَا , قَالَ : فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ ؛ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا , قَالُوا : وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ , قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ , وَكَفُّ الْأَذَى , وَرَدُّ السَّلَامِ , وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ , وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ . (3 )
عن أبي مسلم الخولاني أن كعب الأحبار قال له : كيف تجد لك قومك يا أبا مسلم ؟ قال : أجدهم يا أبا إسحاق يجلوني ويكرموني , فقال له كعب : ما هكذا تقول التوراة يا أبا مسلم , فقال أبو مسلم : وكيف تقول التوراة يا أبا اسحاق ؟ فقال كعب : يا أبا مسلم إن التوراة تقول إن أعدى الناس بالرجل الصالح قومه , يخاصمه الأقرب فالأقرب لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر , قال أبو مسلم : وصدقت التوراة . ( 4)
من يأمر ومن ينهى ؟!
الأمر بالمعروف له فقه لابد أن ينزل منازله , فليس أمر العامة كأمر الحكام والأمراء , وليس أمر العالم كالجاهل .
فهذا فرعون على عتوه وطغيانه , أرسل الله إليه موسى وهارون وأمرهما سبحانه وتعالى بلين القول , وخفض الجناح حتى يستمع لحجتهما , بخلاف ما لو أمراه ونهياه وزجراه ؛ إذ لو تم ذلك لسد باب السماع والبيان .
قال تعالى : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [سورة طه : 43-44]
فالله عز وجل يعلم أن فرعون لن يؤمن , ورغم ذلك أمر موسى باللين معه ليكون أبلغ في قبول الحجة .
ولذلك قال سبحانه مخاطبا لهما : {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [سورة طه 20/47]
فتدرجا في البيان والطلب حتى استمع فرعون إلى الحجة كاملة .(/1)
عن الوليد بن مسلم قال سفيان الثوري : لا يأمر السُّلطان بالمعروف إلا رجلٌ عالم بما يأمر ؛ عالم بما ينهى ، رفيق فيما يأمر ؛ رفيق فيما ينهى ، عدل فيما يأمر عدل فيما ينهى . ( 5)
وكذلك الجاهل يعامل بخلاف من عنده علم , كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ . (6 )
قال ثابت : إن صلة بن أشيم وأصحابه مر بهم فتى يجر ثوبه , فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا , فقال صلة دعوني أكفكم أمره , فقال يا ابن أخي إن لي إليك حاجة , قال وما حاجتك قال أحب أن ترفع إزارك , قال : نعم ونعمى عين , فرفع إزاره فقال صلة لأصحابه : هذا كان أمثل مما أردتم , لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم . (7 )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ لا يجب على كلِّ أحدٍ بعينه , بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد مِن تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك , فإذا لم يقم به مَن يقوم بواجبه أثم كلُّ قادرٍ بحسب قدرته , إذ هو واجبٌ على كلِّ إنسانٍ بحسب قدرته , كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَان"ِ . (8 )
وإذا كان كذلك فمعلوم أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد ؛ هو مِن أعظم المعروف الذي أمرنا به , ولهذا قيل : " ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر" ، وإذا كان هو مِن أعظم الواجبات والمستحبات , فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة , إذ بهذا بُعثت الرسل ونَزلت الكتب { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } بل كلُّ ما أمر الله به فهو صلاحٌ . وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ }وذم المفسدين في غير موضع , فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته ؛ لم تكن مما أمر الله به , وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم , إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم .
وهذا معنى قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب , فإذا قام المسلم بما يجب عليه مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره مِن الواجبات ؛ لم يضرَّه ضلال الضُلاَّل , وذلك يكون تارة بالقلب , وتارة باللسان , وتارة باليد , فأما القلب فيجب بكل حالٍ إذ لا ضرر في فعله , ومَن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم " وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " وقال " وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ "
وقيل لابن مسعود : مَنْ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ ؟ فَقَالَ : الَّذِي لا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً ولا يُنْكِرُ مُنْكَراً . ( 9) وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان.
وهنا يغلط فريقان مِن النَّاس : فريقٌ يترك ما يجب مِن الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه في خطبته " إنكم تقرؤون هذه الآية { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وإنكم تضعونها في غير موضعها , وإني سمعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوه أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ". (10 )(/2)
والفريق الثاني : مَن يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا ؛ مِن غير فقهٍ وحلمٍ وصبرٍ ونظرٍ ؛ فيما يصلح مِن ذلك ومالا يصلح ، وما يَقدر عليه ومالا يَقدر كما في حديث أبى ثعلبة الخشني سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ , فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ" ، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيعٌ في ذلك لله ورسوله ؛ وهو معتدٍ في حدوده كما انتصب كثيرٌ مِن أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهى والجهاد على ذلك , وكان فسادُه أعظمَ مِن صلاحه , ولهذا أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة , ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال : "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ" ( 11) وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .
ولهذا كان مِن أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة , وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة , فيروْن القتال للأئمة مِن أصول دينهم , ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة (التوحيد) الذي هو سلب الصفات , و (العدل) الذي هو التكذيب بالقدر , و (المنزلة بين المنزلتين) , و (إنفاذ الوعيد) , و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة.
وقد تكلمتُ على قتال الأئمة في غير هذا الموضع , وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات , أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت , والمصالح والمفاسد , وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهى , وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ , فينظر في المعارض له ؛ فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل مِن المفاسد أكثر ؛ لم يكن مأموراً به بل يكون محرَّما , إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير والمصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة , فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها , وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر , وقلَّ أن تعوز النصوص مَن يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروفٍ ومنكرٍ بحيث لا يفرقون بينهما , بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً , لم يجز أن يَأمروا بمعروفٍ ولا أن يَنهوا عن منكرٍ , بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أَمر به , وإن استلزم ما هو دونه مِن المنكر , ولم يَنه عن منكرٍ يستلزم تفويتَ معروفٍ أعظمَ منه , بل يكون النهي حينئذ مِن باب الصدِّ عن سبيل الله , والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله , وزوال فعل الحسنات . وإن كان المنكر أغلب ؛ نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه مِن المعروف , ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكرٍ وسعياً في معصية الله ورسوله , وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ؛ لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارةً يصلح الأمر , وتارةً يصلح النهي , وتارةً لا يصلح لا أمرٌ ولا نهي ؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين , وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما مِن جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً , وينهى عن المنكر مطلقاً , وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة , يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها , ويحمد محمودها , ويذم مذمومها , بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه , أو حصول منكر فوقه , ولا يتضمن النهى عن المنكر حصول أنكر منه , أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن ؛ حتى يتبين له الحق , فلا يقدم على الطاعة إلا بعلمٍ ونيةٍ , وإذا تركها كان عاصياً فترك الأمر الواجب معصية , وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية , وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومِن هذا الباب إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى وأمثاله مِن أئمة النفاق والفجور , لما لهم مِن أعوانٍ , فإزالةُ منكره بنوعٍ مِن عقابه مستلزمةٌ إزالة معروفٍ أكثر مِن ذلك , بغضب قومه , وحميتهم , وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه , ولهذا لما خاطب النَّاس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه , وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه , حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.(/3)
وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف , وبغضه للمنكر وإرادته لهذا وكراهته لهذا موافقة لحب الله , وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين , وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته , فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها , وقد قال { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[سورة التغابن : 16] فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته ؛ فينبغي أن تكون كاملةً جازمةً , لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته , ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة , وفعل العبد معها بحسب قدرته , فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل , كما قد بيناه في غير هذا الموضع . ( 12) أهـ
{ من كتاب العبادة واجتهاد السلف للشيخ }
________________________________________
( 1) رواه البخاري (7199) مسلم (1709)
(2 ) إسناده صحيح : ابن ماجة (4017) ابن حبان (16/7368)
( 3) رواه البخاري (2465) مسلم (2121)
( 4) أبو نعيم "حلية الأولياء" (2/128)
( 5) أبو نعيم "الحلية" (6/379)
(6 ) مسلم (285)
(7 ) حلية الأولياء (2/238)
( 8) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد
( 9) تذكرة الحفاظ (1/375)
( 10) أحمد (1-17) أبو داود (4338) إبن ماجة (4005)
(11 ) رواه البخاري (7052) مسلم (1847) من حديث ابن مسعود
( 12) "مجموع الفتاوى"(28/126-131)(/4)
الأمريكيون بين شيعة الصدر وسنة الفلوجة
أحمد فهمي
كانت الأمور تسير بوتيرة هادئة نسبيا ، ورغم عمليات المقاومة المستمرة إلا أن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من اعتبار الأوضاع إيجابية في العموم للدرجة التي جعلت الرئيس الأمريكي جورج بوش يصرح لشعبه في حديثه الأسبوعي : " عندما ينظر الرجال والنساء في كافة أنحاء الشرق الأوسط إلى العراق يرون لمحة لما يمكن أن تكون عليه الحياة في بلد حر " ..
ولكن فجأة اشتعلت العراق " الحرة " ، وفي الفلوجة لم يكن أمام الأمريكيين خيارات كثيرة متاحة ، وكانت الرغبة عارمة في لملمة الكرامة التي مُسحت بها أرض الفلوجة ، وذلك على طريقة رامسفيلد الأولى في غزو العراق : الصدمة والترويع ، " سنؤدبهم ثم نعود أدراجنا سريعا " ، ولكن كانت الصدمة من نصيب إدارة بوش والترويع من نصيب جنوده .. وفي وقت مماثل تقريبا حرَض مقتدى الصدر أتباعه على تنظيم حركة احتجاج واسعة النطاق تأخذ شكل ثورة ضد الاحتلال الأمريكي وإن كانت في حقيقتها ليست كذلك ، وما يعنينا هنا هو البحث المقارن بين أسلوب التعامل الأمريكي مع الفلوجة المقاومة ، ومع شيعة الصدر الثائرين ، لماذا تعمَد الجيش الأمريكي ذبح المئات من الأهالي أغلبهم من النساء والأطفال في الفلوجة ، بينما لم يقتل الأمريكون إلا عناصر مسلحة من جيش المهدي ، وما سوى ذلك كان خطأ غير مقصود ؟ ولماذا هدمت المدينة السنية على رؤوس ساكنيها وقُصفت بكل أنواع الطائرات ، بينما لم يتعرض الصدريون للقصف الجوي إلا عن طريق الأباتشي فقط بعض الأحيان ؟ .. هناك عدة فروقات ونتائج مهمة يمكن استخلاصها من المقارنة بين طريقة الأمريكيين في التعامل مع الأزمتين
أولا :
في الفلوجة كان أهل المدينة يمثلون بيئة خصبة للمقاومة وإن كانوا ليسوا كلهم يمارسونها ، وأصبحت الفلوجة رمزا للمقاومة السنية كان ينبغي تحطيمه ، بينما التيار الصدري في الأساس يتمحور حول شخص مقتدى الصدر فقط ، الذي تمكن من تجميع عناصر تابعة له لتحقيق أهداف خاصة به وليس بهم ، وعاونه في ذلك أطراف داخلة وخارجية معروفة ، ولم يفلح في التحول إلى رمز تجميعي على مستوى شيعة العراق ..
ثانيا :
المقاومة في الفلوجة كانت مؤيدة من أهالي المدينة ، فكان الموقف واحدا لذا كان العقاب شاملا ، بينما تيار الصدر وإن تواجد في عدة مدن إلا أن تأييده جزئي ، وفيما عدا مدينة الصدر لا توجد منطقة أخرى يحظى فيها بأغلبية ، وحتى مدينة الصدر مشكوك في تأييد غالبيتها له ، وفي النجف وكربلاء تتنامى مشاعر رفض وكراهية لتواجد أتباعه في المدينتين ..
ثالثا :
كان أداء المقاومة في الفلوجة واضحا اقترانه بهدف طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال ، ولكن بالنسبة للصدر لم يكن ذلك واضحا وإن رفع كشعار ، وكان الأداء العسكري لجيش المهدي وأنصار الصدر مشتتا وعشوائيا وإن كان التحريض منظما ، ففي البداية مُورست أعمال شغب واسعة في مدن عديدة في وقت واحد ، وهذه نقطة هامة لمن يريد أن ينفذ ثورة أو تمرد ، لابد من حشد زخم قوي في البداية ، وهذا ما فعله أتباع الصدر الذين قاموا باحتلال عدد كبير من الهيئات والمقار الحكومية والأمنية ورفعوا شعاراتهم وصور الصدر عليها وطردوا من فيها ، ولكن بعد ذلك اضطروا إلى الانسحاب المذل منها مع تباين الفرق الواضح في موازين القوى مع الاحتلال ، وتحصن أتباع الصدر في أماكن مختلفة ، وتمركز وجودهم مؤخرا في النجف وكربلاء والكوفة حيث يعتمدون على تقديس الشيعة لهذه الأماكن ، وبذلك يكون تيار الصدر قد انتقل من مرحلة الثورة والتمرد إلى مرحلة الهروب والبحث عن منقذ ..
نقطة أخرى مهمة في هذا الصدد ، وهي أن جيش المهدي لم يمارس أسلوب حرب العصابات إلا في عمليات موجهة ضد كوادر البعث السابقة ، يعني ضد السنة في العموم ، ولكنه لم يمارس هذا الأسلوب إلا نادرا ضد الاحتلال الامريكي ..
رابعا :
عناصر المقاومة السنية يقاتلون من أجل قضية واضحة ولهذا لم ينسحبوا أو يفروا في مواجهة الاحتلال ، وفي النهاية أجبروا الأمريكيين على الانسحاب ولم يتحقق شرط من شروطهم الأساسية ، أما تيار الصدر فرغم تفاوت المعلومات عن تعداد جيشه ما بين 3000 إلى 15000 مقاتل والحديث عن تلقيهم تدريبا عالي المستوى على أيدي قوات الحرس الثوري الإيراني وتسليحهم القوي ، إلا أننا لم نر أداءا عسكريا يتناسب مع هذا الوصف ، وعادة ما يكون ذلك لاحقا بالميلشيات التي يغلب علي عناصرها صفة " الارتزاق " فعندما تشعر هذه العناصر بميل واضح في موازين القوى في غير صالحها ، وعندما لا تجد المقابل المادي الذي وُعدت به ، تبدأ في الهروب والتسلل ، وهذا ما حدث مع عناصر كثيرة من جيش المهدي كما ذكرت التقارير ..
خامسا :(/1)
النقطة الأهم في هذا الحديث ، أنه يجب التنبه إلى فرق هام بين السنة والشيعة في الرؤية الأمريكية ، فالسنة في العموم شعب مقاوم ، والمقاومة ضمن مفردات ثقافته الأساسية ، ولن يرضوا بالهزيمة وإن طالت ، ولكن قد تظهر بين فئات السنة فئة منافقة مستسلمة تقبل بالاحتلال وتتعاون معه .. أما الشيعة فهم شعب مهادن للمحتلين في العموم وليست المقاومة من صفاته- حزب نصر الله حالة خاصة ويمكن الإطلاع على مقالات في الموقع تفسر حقيقة مقاومته - ولكن قد تكون بين الشيعة فئة غير مستأنسة لم ترض بالقسمة الأمريكية لمراكز النفوذ والقوى .. هذا فارق هام يمكن أن يحل لنا إشكالية تغاير التعامل المعقد بين السنة والشيعة في الرؤية الأمريكية ، وهي إشكالية ذات مستويات تحليلية متعددة أغلبها خادع ، ويقع كثيرون في أسر مستوى تحليل أولي يحصر مؤشرات التعامل في بيانات إحصائية محدودة مثل تعداد أعضاء مجلس الحكم أو الوزراء في الحكومة الحالية والمقبلة ، وهذه المؤشرات هامة لا شك في ذلك ، ولكنها قاصرة عن تقديم تفسير أو تقويم مقنع للتعامل الأمريكي مع السنة والشيعة في مراحل تالية ، فليس تعداد العضوية فقط هو المؤشر الوحيد ، فقد يقدم الأمريكيون تنازلا واضحا للسنة ويقومون بتقليص نفوذ الشيعة بطريقة بينة دون حدوث أي تغيير في المناصب أو تعدادها ، وهناك مثالان واضحان على ذلك : أولهما الفقرة (ج ) المثيرة للجدل في قانون إدارة الدولة الذي اعتبره الشيعة محابيا للأكراد السنة على حسابهم واعترضوا على تقليص نفوذهم الذي يسترونه بدعوى الأغلبية السكانية ، وثانيهما : القرار الأمريكي بعودة آلاف البعثيين إلى مناصبهم ووظائفهم في الإدارات الحكومية والجيش العراقي الجديد ، وهو لطمة قوية للشيعة إذ يُقوض جهود عام كامل لإدارة اجتثاث البعث التي يترأسها أحمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني الشيعي ..
نعم نستطيع القول إن الشيعة في العموم هم : " شعب أمريكا المختار " إلا أن ذلك لا يمنع من وجود مرونة واضحة في تطبيق هذا المبدأ ، فأمريكا تتبع مصالحها الخاصة وهي ليست محددة بشعوب معينة ، ولكنها قد تتوافق مع شعوب أكثر من غيرها لكن ليس طول الوقت ، ولو تبين للأمريكيين أن مصالحهم مع السنة دون الشيعة ، لأبعدوا الأخيرة دون تردد ، لذا الضابط هنا هو المصلحة الأمريكية ، وليس المشاعر أو العواطف تجاه الشيعة ..
وسلطات الاحتلال حاليا لها مصلحة في تقديم بعض التنازلات المحسوبة للسنة لإضعاف دوافع المقاومة لديهم ، ولتفتيت التأييد الشعبي للمقاومة ، ولا يشترط أن يتم ذلك بالتلاعب في تركيبة المحاصصة الطائفية ، وإن كانت عودة قيادات عسكرية سنية قديمة لتسلم مناصب في الجيش الجديد يمكن أن تندرج في قائمة المؤشرات الرقمية ..
ونُذكر هنا بما كررناه في مقالات سابقة : " مفهوم قطعة الجبن " الذي يفسر طريقة التعامل الأمريكي مع القوى النافذة في العراق ، فهي لا تهدف إلى تأسيس وضعية ثابتة ومستقرة تتوازن فيها القوى بعيدا عن أي تأثير ، ولكنها تسعى دوما لتشكيل معادلة التوازن الخاصة بها – وهي مائلة دوما - لكي تستفرغ من خلالها الطاقة السياسية العراقية .. ويجب علينا لاستيعاب هذه المتغيرات التخلي عن قوالب التحليل الأولية التي تقتصر على عدد محدود من المتغيرات ولا قابلية لها لاستيعاب الواقع ، ونقصد الاقتصار على بعض البيانات الإحصائية ، وإلا فليُجب حاذق على سؤال : من يحكم لبنان ؟ فالمناصب موزعة طائفيا حسب محاصصة أقرها اتفاق الطائف الشهير : رئاسة الدولة للمارونيين ، ورئاسة الوزراء للسنة ، ورئاسة مجلس النواب للشيعة ، وهذه قسمة واضحة لا لبس فيها ، ولكن هل يعطينا هذا البيان صورة واضحة عن : من يحكم لبنان ؟ كلا .. أين النفوذ السوري في هذه المحاصصة ، أليست سوريا هي اللاعب والمؤثر الأول في الساحة اللبنانية ؟ ولها أنصارها الذين تؤيدهم في التركيبة اللبنانية ؟ ..
خلاصة القول أن تيار الصدر الثوري تيار شاذ بين الشيعة المسالمين ، وأن الأمريكيين يبحثون حاليا عن تيار شاذ مسالم بين السنة المقاومين .. ولهذا كان الخلاف في التعامل الأمريكي بين أزمة الفلوجة وأزمة الصدر ..(/2)
الأمريكيون والبحث عن ثقافة الدفء
08-3-2006
بقلم يحيان أصيل
"...أمريكا ليست مكانا حضاريا، إذ لم تقم فيها أية حضارة من قبل، وهذا خلق في الشخصية الأمريكية إحساسا حادا بعدم الانتماء، كما خلق فيها برودا حضاريا زائدا، لم يستطع أي شيء أن يبعث الحرارة فيه ،حتى مع كونها قوة عظمى
..."
لماذا تسعى أمريكا للاحتلال ؟ وهل هناك أسباب تحت السطح ، تجعل الأمريكيين يواضبون على غزواتهم في ربوع العالم ، من كوريا إلى فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق إلى ...؟ هل سئموا من العالم الجديد ، فأسرجوا حاملات طائراتهم وعادوا إلى عالمهم القديم ، بحثا عن حضارة أخرى ؟
هناك عاملان أساسيان يمكنهما أن يقدما إجابة عن هذه الأسئلة :
أولهما :
أن الأمريكيين يؤمنون إيمانا راسخا بالقوة ، ويقدمون أنفسهم على هذا الأساس ، أي كالأبطال العائدين توا من الحرب ، الذين يبحثون عمن يغدق عليهم ورود النصر وألقاب النصر ، وفي أفلامهم نجد أن أجمل لحظة لديهم ، هي تلك التي يعودون فيها مكللين بالنصر ، سواء من بلاد متخلفة ، أومن الفضاء ، بعد أن يقضوا بطبيعة الحال على العدو .
إن هذا العدو يتطور في المخيلة الأمريكية باستمرار ، حيث يتخذ أشكالا متعددة ومتباينة ، ولكنه يتوفر دائما على ميزة مهمة ، هي القدرة على خلق التهديد للأمريكيين والحياة الأمريكية ، لذلك يضخم الأمريكيون أعداءهم المفترضين بصورة لا تصدق ، ليكونوا ندا حقيقيا لهم ، ومبررا لاستخدام القوة ضدهم بشكل مفرط ، كما يحصل في أفلامهم ، وكما حصل في العراق ويحصل في إيران ، هذا مع الحفاظ على الضمير خاليا من التأنيب الذي يمكن أن يسببه هذا الاستخدام المفرط للقوة . وسواء كان الشعور بالتهديد هو الذي يؤدي بالأمريكيين إلى استخدام القوة، أم أن التهديد ما هو إلا المبرر النفسي لاستخدام القوة كهدف رئيسي وغاية أساسية، فإن الحقيقة ، هي أن الأمريكيين يسعون إلى ملأ منطقة باردة في نفوسهم .
لماذا يشعر الأمريكيون بالتهديد ؟
لقد استغل بوش الثقافة الأمريكية التي تقوم على الشعور بالتهديد لشن حرب على عدو خطير متوهم يتصور أنه موجود حتى في مخدعه ، أي بن لادن وصدام حسين ، غير أنه وعلى العكس مما يجب أن يحدث ، لم يعد بالنصر المؤزر إلى قومه ، وإنما عاد بمزيد من الويلات ، ليس على الأمريكيين الذين لا يزالون خائفين في نظر بوش ، وإنما على الأعداء المفترضين الذين كانوا في أفغانستان ، ثم في طورا بورا ، ثم في العراق ، ثم في سوريا وإيران ولبنان ،ثم …
لو بحث بوش في ذهنه لوجد العدو المفترض ، ولكنه لا يفعل ذلك ، بل يتجه إلى الخارج دائما ، لأن هذا الخارج هو الذي بإمكانه أن يخلق شعورا وطنيا لدى الأمريكيين ، هم بأمس الحاجة إليه .
وهنا نصل إلى بيت القصيد ، إن فراغ الأمريكيين من الشعور الحضاري ، يجعلهم يخلقون الأعداء المفترضين لكي يحسوا بانتمائهم . إن هناك لعنة تاريخية تطاردهم ، ولكنها ليست لعنة الهنود الحمر وحدهم ، وإنما لعنة المكان الذي استعمروه .
إن مفهوم المكان الحضاري له أهميته القصوى هنا، والمقصود به ، المكان الذي تداولت عليه الحضارات وسعت للقيام فيه، وهو يقدم للمنتمي إليه الشعور بالمكان و الإحساس بالانتماء ،كما يقدم له المبرر النفسي للوجود ، والطاقة والرغبة في الاستمرار، وأمريكا ليست مكانا حضاريا ، إذ لم تقم فيها أية حضارة من قبل ، مما يعني أنه لم يكن للأمريكيين أية جذور يمكنهم أن يستندوا إليها طوال تقدمهم في التاريخ ، وهذا خلق في الشخصية الأمريكية إحساسا حادا بعدم الانتماء ، كما خلق فيها برودا حضاريا زائدا، لم يستطع أي شيء أن يبعث الحرارة فيه ،حتى مع كونها قوة عظمى .
ومن هنا اتجه الأمريكيون إلى خلق التهديد الأمني الخارجي الذي يمكنهم من الشعور بالدفء والإحساس بالوحدة، وكما قضوا على الهنود الحمر ليستعمروا الأرض وليحوزا على المكان ، يواصلون نفس الدور اليوم في العراق وأفغانستان والعالم بأكمله ، ليحوزا على دفء المكان ، فكل ما يفعلونه اليوم ، ليس بغرض احتلال أرض أخرى ، وإنما لترسيخ وجودهم في موطنهم ، وخلق نوع من الثقافة الدافئة بينهم ، وجعل الأمريكيين ، يحسون بأنهم في أرض حضارية حقيقية ، لم يغتصبوها ولم يستعمروها .
هذه الحقيقة ، هي التي تقود التطور الأمريكي في العراق اليوم وفي سائر الأرض، تماما كما قادته مع صراعه ضد الاتحاد السوفياتي سابقا، وهو ما علينا أن نفهمه بشكل واضح ، واتجاههم إلى ضرب العراق والحضارة الإسلامية عموما ، يحمل هذه المعاني ، ويحيل إلى الحاجة الأمريكية الماسة في الإحساس بكونهم شعبا متحضرا ، خاصة عندما يختلقون مفهوما مضادا للحضارة ، هو الإرهاب ، ويوظفونه لذات الغرض ، أي تدنيس الآخر لتنقية الأنا .(/1)
لقد اتجه الأمريكيون في تطورهم واحتلالهم من المكان إلى الثقافة ، حيث لم تعد الحرب التي يشنونها تتعلق باحتلال مكان معين للاستقرار فيه ، بقدر ما تتعلق بالهيمنة على الثقافة التي ترتبط بذلك المكان ، وطوال بحثهم الدؤوب ، لم يجدوا مكانا حضاريا كالعراق ، فلقد قاموا باحتلال فيتنام ، ثم الصومال ، ولكن بما أنهما ليسا مكانين حضاريين ، فقد خرج الأمريكيون منهما بسرعة ، بعكس العراق الذي اختلقوا كل الأسباب ليحتلوه ، فهو بالاظافة إلى كونه مكانا حيويا في منطقة حيوية ، هو أيضا مكان حضاري قامت فيه حضارة عظيمة ، غير أن أمريكا لا تحتله لتستقر فيه أو لتحس فيه بالانتماء ، ولكنها تحتله لتبرز تخلفه وعدم حضارته ، مما سيعود بفائدة مهمة للأمريكيين أنفسهم ، أهمها الارتباط أكثر بمكانهم ، والتوحد به ، والإحساس بأنهم شعب متحضر وأفضل من الآخرين .
عامل آخر :
وعدا عن هذا ، هناك العوائد المادية التي لا يستطيع الأمريكيون الاستغناء عنها في منطقة كالعراق ، ومع كل محاولاتهم لفرض أنفسهم كحضارة وثقافة على النمط الحديث ، تكشفهم استغلاليتهم وأنانيتهم العميقة .
قد يبدوا هذا متعارضا مع بحثهم عن الدفء والمكان الحضاري ، ولكن العكس هو الصحيح ، إذ أن ارتباط المكان الحضاري تاريخيا بما يحويه من عوائد مادية له أهميته القصوى في الإحساس بالانتماء ، وبدونه لا تنشأ الحضارة أبدا، ومع أن أمريكا غنية جدا بمواردها ، إلا أنها لم تستطع أن تقدم للأمريكيين الدفء الذي ينشدونه ، ذلك أن المكان خال من أي حضارة أخرى سابقة ، والجشع الدائم الذي كان أيضا وراء بروزهم كقوة عظمى ، كان سببا مهما في فشلهم في فرض ثقافتهم كثقافة حضارية ، فهم عندما يحتلون الآخر بحثا عن خلق الدفء بينهم ، سرعان ما يفضحهم جشعهم المادي ، لأنهم يحسون بأن ماديتهم هذه تتغلب على هدفهم الأصلي الذي يبحثون عنه ، أي خلق وحدة حضارية بينهم ، وهذا يساهم أكثر في تأجيج شعورهم بعدم الانتماء ، مما يبرز حقيقتهم لأنفسهم قبل غيرهم ، فيقعون في أسر هذه الازدواجية ، ولا يستطيعون التغلب عليها ، ولا تحديد ما يبحثون عنه بالضبط ، ولنذكر انهم عندما هاجروا إلى العالم الجديد ، كانت الرغبات المادية هي التي تدفعهم نحو البحر ، و هي لا تزال تدفع بهم في رحلة العودة !(/2)
الأمل في حياة المسلم محمد الحبر يوسف*
للعقيدة الإسلامية آثار عظيمة على سلوك معتقديها، ولا شك أن من أعظم هذه الآثار ما تبعثه العقيدة في النفس الإنسانية من طمأنينة ورضا، وما تسكبه من أمل ورجاء؛ (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)؛ فالمؤمن الحق مطمئن النفس، هادئ البال، لا يستبد به القلب، ولا يستسلم لوساوس اليأس مهما اشتدت الخطوب أو تداعت النوازل، بل يتعامل مع صروف الدهر وتقلباته بنفس مطمئنة؛ لأنه يعلم أن هذا الكون لا يقع فيه شيء إلا بقدر من الله؛ (إنا كل شيء خلقناه بقدر).. وقد تواترت الآيات في تأكيد هذا المعنى وبيان أن ما شاء الله له أن يكن كان؛ (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم)، (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم)، وكان من دعاء نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك).
وقضاء الله على العباد يجري وفق سنن لا تتخلف في نظام هذا الكون، ومن أحسنَ فقهَ هذه السنن وراعاها تفتحت أمامه آفاق الرجاء والأمل الفسيح. ومن هذه السنن سنة التداول؛ قال تعالى (وتلك الأيام نداولها بن الناس)؛ فأحوال البشر في هذه الحياة لا تستقر على حال واحد، بل صعود وهبوط، وفقر وغنىً، وعافية ومرض، وحياة وموت، وهزيمة ونصر.. والقرآن الكريم حينما يقرر هذه الحقيقة لا يذكرها مجردة، وإنما يسوق لها الأدلة، ويضرب لها الأمثال حتى تكون يقينًا عند الموحدين؛ لا يتطرق إليها شك، أو يمازجها ريب.. فمن فكم من مكروب نجاه الله!، وكم من مريض شفاه الله!، وكم من ضال هداه الله!، وكم من عائل أغناه الله!؛ (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر)، (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه)، (ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين)، وقال تعالى عن نوح عليه السلام (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر).
وما يقال عن الأفراد في هذا الباب ينطبق على الأمم والجماعات، وقد قص علينا القرآن الكريم أخبار الأولين، وذكر لنا أحوال الأمم السالفة؛ فرأينا أممًا عمرت الأرض، وبلغت الغاية في القوة والعمران، ثم مضت فيها سنة الله، وأخذها بعد أن فشا فيها الفساد؛ (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)، وحدثنا القرآن عن أمم مستضعفة سامها الطواغيت سوء العذاب، واستعبدوا شعبها أيما استعباد، ولكن ببركة الرسل والرسالات أذن الله لهذه الأمم أن تنهض من كبوتها وضعفها؛ وما هي إلا سنوات حتى نهضت، وقوى سلطانها، واستبحر عمرانها، ومن هذه الأمم أمة بني إسرائيل الذين أخبر الله عن نكال فرعون بهم؛ (يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين)، ثم أخبرنا عن مِنَّتِه عليهم، وعنايته التي أدركتهم؛ (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).(/1)
إن القرآن الكريم يقص علينا هذه القَصَصَ حتى نعتبر بسردها، ومن أعظم هذه العبر الثقة في الله، والبراءة إليه من اليأس والقنوط؛ قال تعالى (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكمن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلاَّ الضالون)، وفي قصة يوسف عليه السلام نقرأ قوله سبحانه! (يا بَنِيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، وإذا كان هذا اليأس مذمومًا في كل موقف لأنه ينافي الدين، ويعطل نظام الحياة فإن أسوأ ما في هذا اليأس أن يتحول من حالة فردية تنحصر في آحاد الناس إلى حالة جماعية تصاب بها الأمة؛ فتنهار قواها، وينفرط عقدها.. وواقع المسلمين يشهد أن الأم تخللتها فترات دب فيها اليأس واستحكم حتى انقطع رجاء المصلحين في الإصلاح، واستسلمت الأمة – حكامًا ومحكومين، ودعاة ومدعوين – لطالعها النكد، ووجد الخصم الفرصة مواتية؛ فجاسوا خلال الديار.. ولعل الفترة التي سبقت سقوط الخلافة العثمانية تجسد هذه الحالة بوضوح، وليست المصيبة في انهزام الأمة أمام جحافل الأعداء؛ فهذا أمر مكرور في التاريخ الإنساني، والهزيمة في ميدان المعركة على مرارتها أهون على الأمم من أن تنهزم في تصوراتها، ومقومات وجودها، وبقاءها، وأهون عليها من أن تستسلم للمنعطفات، وأن تظن في نفسها أن هذه هي نهاية المطاف، وقاصمة الظهر.
ولذلك جاءت آيات القرآن الكريم تنهي الجماعة المسلمة عن الوهن، والشعور بالضعف حتى في أوقات التراجع والانكسار، وتعقيب القرآن الكريم على غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون جاء مشحونًا بالآيات التي تستنهض الهمم، وتقوى العزائم، وتذكر المستأخرين بأخلاق المستقدمين؛ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين)، (وكأيِّن من نبي قاتل مع ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
إن تحرير الأفراد والأمم من اليأس هو البداية الصحيحة للتغيير، والخطوة الأولى في طريق النصر، والجماعة التي تتربى على الثقة بالغيب، وتنظر إلى المستقبل بتفاؤل واستبشار، قادرة بتوفيق من الله أن تحول مجرى التاريخ؛ فتجعل من الهزيمة نصرًا، ومن الشتات قوة، ومن الضعف ثورة، وهذا ما قذفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفس أصحابه منذ اللحظات الأولى لتنزيل الرسالة؛ فكان يقول لهم: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)؛ فيسمع الصحابة هذه البشارات؛ فترتفع النفوس من شكوى الفاقة، وقطع الطريق، وقلة الناصر..
وما أحوج الأمة في تاريخها المعاصر إلى أولئك الدعاة المهرة؛ ليعززا ثقتها بالغد المشرق، والمستقبل العزيز؛ (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم).(/2)
الأمم المتحدة والمرأة المسلمة
د. ست البنات خالد*
يتبنى النظام العالمى الجديد برامج موجهة للمرأة المسلمة والعربية بالذات، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات وورش العمل ويتم تشكيل لجان لمتابعة تنفيذ توصيات تلك اللقاءات في البلدان الاسلامية ويرى القائمون عليها أنها تساعد المرأة في النهوض بدورها، وتساعدها على اجتياز العقبات التي تواجها في مجتمعها.
فما الذي تعرفه المرأة المسلمة عن هذه البرامج، وما مدى معرفتها بأهدافها ؟ وهل تتوافر لدى المرأة الثقة في هذه البرامج أو في اللجان المنبثقة عنها لمتابعة لتنفيذها؟ وهل هذه البرامج تصب في مصلحة المرأة المسلمة ؟ أم لها أهداف أخرى بعيدة المدى ؟..
هنالك ثقافة ضئيلة جدا بهذه البرامج ومدى خطورتها حيث ان الامم المتحدة نفسها يجب ان ترعى هذه الورش والسمنارات عبر اجهزتها الموجودة في كل دول العالم وتفعيلها والانفاق عليها هذا اذا كانت النوايا صادقة ولكن لان الامم المتحدة تعلم تماما عدم مقدرتنا في الدولالاسلامية للوقوف والتفاعل مع هذه الانشطة سواء بالرفض او الرد او الحوار لان اعلامنا ضعيف والمراة المسلمة غالبا لم تؤهل لذلك الاجدر بنا ادخال هذه البرامج التي تطرح في مقرراتنا لكي نعلم اين مصلحتنا وماهي الاهداف وراء تلك الاتفاقيات ولا اكون مبالغة اذا قلت ان نصف الفتيات المتعلمات لا يعلمن حتى الان معني اتفاقية سيداو وغيرها من المؤتمرات و الورش والسمنارت التي توجه بغرض اثبات ضعف المراة المسلمة وهوانها .
تعقد الأمم المتحدة العديد من المؤتمرات الإقليمية والعالمية من أجل مناقشة قضايا المرأة والتي تهتم بها بشكل واسع، وعلى وجه الخصوص قضايا المرأة المسلمة و التي تختصرها الأمم المتحدة في مجموعة من القضايا التي تعكس وجهة النظر الغربية في أحوال المرأة المسلمة بغض النظر عن الرأي الحقيقي للمرأة المسلمة..
لكن بعض أصحاب الرؤى الأخرى ممن يؤمنون بالنموذج الغربي للمرأة بغض النظر عن مدى مناسبته لظروف مجتمعاتنا ذات الهوية المختلفة يعتقدون أن أوضاع المرأة العربية فعلا تحتاج إلى تغيير؛ نظرا لتزايد حالات العنف التي تمارس بحق المرأة في عالمنا العربي، لكن تبقى في النهاية القضايا التي تثيرها هذه المؤتمرات ذات أهمية لفريق من المهتمين بمجال حقوق المرأة في مجتمعاتنا..
فقضية المرأة هي قضية الأمس واليوم وغداً وسوف تستمر هذه القضية لأن أعدائنا عرفوا من أين تؤكل الكتف ومن أين يمكنهم اختراق الجدار القويم للأسرة الإسلامية ومن عام 1979م بدأت المؤتمرات وبدأ التركيز على المرأة المسلمة والعربية المظلومة(( اتفاقيةُ القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة \"السيداو\"، )) .. و لا بد من أن نعرف أن المرأة المسلمة لو اعتبرت نفسها أنها مظلومة فيجب أن تعلم أن الرجل ليس الوحيد المسئول عن هذا الظلم لأنها هي الأم التي قامت على تربيته ولأنها لا تعرف حقوقها لكي تدافع عنها ولا تدرس شريعتها التي تمنحها حتى الحق لأن تقف أمام القاضي وتدافع عن حقوقها بالحجة والشرع .
عندما نقرأ ما يكتبه هؤلاء – المتغربون - في أي بلد إسلامى، تجده منقولاً بأمانة عمّا يقدّم لهم هناك في المؤتمرات التي تعقد حول المرأة، فهي تتهجّم على المسلمين. لكن مؤتمر بكين بصورة خاصة، كان متّجها إلى المسلمين، وكأنّ مشكلة المرأة في العالم هي مشكلة المرأة المسلمة.
أن مخطط الأمم المتحدة الذي يتناول أوضاع المرأة في البلاد العربية والإسلامية، مخطط تجزيئي، يُجزّئ القضية الواحدة، ويعالجها بمعزل عن الوضع الاجتماعي العام فليس هناك فصل بين أفراد الأسرة في ديننا وتلك هي الصورة السليمة التي تكوّن أطفالاً سليمي السلوك والتصرّف، فالله تعالى أعطى للمرأة حقها كاملاً.
إن الحداثيين هم الذين جاؤوا بفكرة الفصل داخل الأسرة وتبنّتها المنظمات الدولية وتوسّعت فيها وآلياتها في ذلك هي تلك المؤتمرات المتكررة، وأعتقد أن هناك مؤامرة قد يكون مخططا لها أو لا، في تجزئة الموضوعات وإلهاء الناس بقضايا تافهة أو جزئية أو هامشية، لتمرير فكر معيّن، ولنصبح كلنا في يد من يتحكّم في العالم لأنه لو كان هناك صراع داخل الأسرة، وبين الأجيال، فإن الفوضى تعمّ المجتمع. لذلك ترى الأنانية مستشرية.
تحطيم الأسرة
هذه المؤتمرات والوثائق تسعى إلى تحطيم الكيان الأسري وفرض أنماطٍ للحياة الغربية على المجتمعات، والتي ثبت فشلُها في مجتمعاتهم التي أذابت معالم البيت والأسرة وحرمة الحياة الزوجية، وانتشر الشذوذ والأمراض الخطيرة وزادت معدلات الجريمة والانتحار، وتلك هي تداعيات نظم اجتماعية فاشلة لا تحترم إنسانية الإنسان أو تعزز من قيم الخير التي فُطر عليها {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة: 138).(/1)
ونحذر المرأة من مثل هذه المؤتمرات؛ حتى لا تتسلل إلينا هذه المفاهيم الخاطئة، وتؤكد أن هذا لا يعني عدم المشاركة فيها، بل يجب المشاركة والتصدي لكل ما يخالف قيمَنا وأخلاقَنا، وتكوين قاعدة عريضة من الأصوات؛ حتى لا تُفرض علينا مثل هذه القوانين تحت دعوى المساواة بين الرجل والمرأة، إلى التدرج في مفهوم المساواة من المساواة في الحقوق الإنسانية إلى المساواة في النوع، وإلغاء الفروق التكوينية بين الجنسين..!!
أما عن خطورة اتفاقية السيداو فمن المخالفات الصريحة للشريعة الإسلامية والتي تحفَّظت عليها العديد من الدول الإسلامية في بعض بنودها، خاصةً المادة الثانية والسادسة عشرة من الاتفاقية، والتي تستهدف قوانين الأحوال الشخصية والعمل على تغيير الدساتير وسن التشريعات، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق هذه البنود، ثم يعاقَب دوليًّا من يخالف أي فقرة من فقرات هذه الاتفاقية ولا يعمل بها..!! بالإضافة إلى تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة (المساواة المتماثلة)- الذي تسعى لتحقيقه الاتفاقية - يعني حصول المرأة على نفس حقوق الرجل وأخطرها على الإطلاق، القضاء على قوامة الرجل في الأسرة، وحق الزوجة كالزوج في اتخاذ أصدقاء وأخلاَّء كما هو معمول به في الغرب، وتقييد الزواج بزوجة واحدة كما هو معمول به اليوم في بعض الدول الإسلامية، والسفر بدون إذن الزوج، وحرية المرأة في جسدها وهو حق تسعى لتحقيقه ينطوي على كثير من القيم الغربية البعيدة على الإسلام، وغير ذلك من المخالفات الصريحة للشريعة الإسلامية..!!
تدمير الأسرة
إن الولايات المتحدة تخطط منذ مؤتمر مكسيكو 1975 للسكان مرورا ببكين 1995 إلى مؤتمر نيويورك 2000 لتدمير الأسرة العربية والإسلامية بمكوناتها الأساسية (الزوج والزوجة والأولاد) مضيفا أن مؤتمرات المرأة والطفولة العالمية تهدف إلى تدمير الأسرة العربية والإسلامية القائمة على علاقات مستمدة من التشريع الإسلامي، و أن هذه المؤتمرات يقوم خلف ستارها الشواذ جنسيا لإخراج المرأة والرجل عن فطرتهم الطبيعية وتحويلهم إلى \"فطرة بعيدة عن الإسلام تصل بهم إلى الحيوانية\" .(/2)
الأمور التي ينبغي على الإمام مراعاتها تجاه المأمومين في نصحهم وإرشادهم أخي الحبيب :
يخطئ كثير من الناس حينما يظن أن مسئولية الإمام هي الصلاة بالمأمومين وقراءة بعض الأحاديث عليهم أدبار الصلوات والحقيقة أن مسئولية الإمام أكبر من هذا ، فهو من الرعاة الذين يسألون عن رعاياهم وهو حلقة وصل وربط بين جماعته وأهل حيه يوجههم وينصحهم ويحل ما يستطيع من مشاكلهم وهو من الداعين إلى الله الذين هيئت لهم منابر الدعوة وشغلها عن غيره ..وانطلاقا من هذه المسئولية فإليك أخي الإمام بعضا من الأمور التي ينبغي لك مراعاتها :
1- دروس العصر ( كتاب رياض الصالحين وما شابهه - العشاء مختصر تفسير ابن كثير وصور من حياة الصحابة - والتابعين ) .
2- خطبة الجمعة والتركيز على أهمية الصلاة بين فترة وأخرى وعدم إهمال هذا الموضوع مع موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3- بعض الدوريات في الأحياء وتكون الاستفادة من هذه الدورية على النحو التالي :
أ- توزيع بعض الأشرطة في بعض المواضيع المهمة كالصلاة مثلاً .
ب- توزيع بعض الرسائل والنشرات عن الصلاة وغيرها .
ج- قراءة موضوع معين وتحريك القلوب لأهمية النصح وتحمل المسئولية كل مسلم عن نفسه ومن تحت يده وجيرانه ..الخ .
د- دراسة ومناقشة بعض الأمور التي تهم أهل الحي مثل معرفة المتخلفين عن الصلاة وحصرهم وعمل زيارات لهم من بعض الجماعة أو غيرهم .
ه- حث أولياء الأمور على تسجيل أبنائهم للحضور في دروس القرآن إذا كان هناك مدرس قرآن بالمسجد .
و- أن يؤتي في الدورية ببعض طلبة العلم لإلقاء كلمات خفيفة وتشجيع جماعة المسجد على هذا الاجتماع .
ز- تكوين علاقات مع أئمة مساجد الحي لغرض تبادل الآراء والحلول لبعض المشاكل التي تهم كل مسلم .
ح- أن يحرص على اكتساب الأخيار من طلبة العلم المجاورين للمسجد وإشراكهم في المسئولية إما لمساعدته في الزيارات أو الاستشارة حتى لا يكون المجهود فرديا ويكون المجهود مثمرا .
ط- أن يكون على رأس كل كلمة أو ندوة لتجديد حماس جماعة المسجد .
وأخيراً فإن المعلومات وحدها لا تكفي بل لابد من ترجمة واقعية لها وإن أهم ما يعين الإنسان على أداء ما تحمل بعد التجرد لله تعالى هو استشعاره هذه المسئولية وما تمليه عليه من واجب .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ....(/1)
الأمومة الإيجابية ... هل أنت أم ناجحة ؟
إلى ماذا يحتاج الإنسان في رحلة حياته من الطفولة إلى الرشد, وما بعد سن الرشد ؟
أجاب عالم النفس الشهير عن هذا السؤال, وكانت الإجابة في شكل هرم, وهو ما يُسمى بهرم الحاجات لماسلو ونذكرها فيما يلي:
1- الحاجات الفسيولوجية: مثل الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم .
2- الحاجات النفسية: مثل الحاجة إلى الأمن الحسي والمعنوي.
3- الحاجة إلى الحب والانتماء والتفاعل: مثل الحاجة إلى الجماعة والأصدقاء .
4- الحاجة إلى المكانة والتقدير واحترام الذات: يحتاج أن يشعر أنه يُحترم ويقدر داخل الجماعة.
5- يحتاج إلى تحقيق الذات: يمارس الإنسان ما يحبه ويجد نفسه فيه .
6- الحاجات الجمالية وهو التأنق في كل شيء .
والسؤال الأن ما علاقة هرم الحاجات لماسلو بالأم الناجحة والأمومة الإيجابية ؟
إن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الصغيرة التي تمنح الطفل الحب والأمن والرعاية, والأم هي العنصر الأول والأساسي في الأسرة التي تقوم بهذا الدور .
الأم ينبوع الحنان والشعور بالدفء والأمن, وهي العطاء المتدفق بلا حدود ودون انتظار مقابل، وهي مصدر إشباع حاجات الطفل منذ ولادته إلى ما شاء الله .
أمومة متشابهة:
هل رأيتِ عزيزتي القارئة في عالم الحيوان كيف تحنو الأم على وليدها بعد الولادة فتمسحه بلسانها وتنظفه وترضعه وتحيطه بكل حب ورعاية وحنان ؟ .. هذه هي الأم بفطرتها التي فطرها الله عليها.
ويتشابه الإنسان أيضاً في ذلك مع الكائنات الثديية الأخرى.
ويؤكد علماء النفس أن رعاية الطفل والعناية به جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية, والسنوات الأولى من عمر الطفل هي حجر الأساس لبناء الشخصية لكي تضمن له نمواً سليماً في حياته المستقبلية.
فإذا نشأ الطفل في جو عائلي يسوده العطف والحب والحنان والطمأنينة البشرية؛ كان إنساناً صحيحاً يتمتع بالصحة الجسمية والنفسية .
ومن المعروف أن الأم تلعب دوراً هاماً في مرحلة الطفولة الأولى, فإن الطفل يبدأ حياته بنوع من العلاقات البيولوجية الحيوية التي تربطه بالأم، وتقوم هذه العلاقة في جوهرها على أساس اشباع حاجات الطفل العضوية، ثم تتطور هذه العلاقة إلى علاقة نفسية قوية، وتتسع دائرة تكوين علاقات أخرى مع أفراد آخرين غير الأم, كالأب والأخوة والأخوات, وتتسع الدائرة ليتصل بالمجمتع المحيط به .
يقول الشاعر جلال الدين الرومي:
[[ إذا احتضنت الأم طفلها لترضعه, فليس لدى الطفل وقت ليسألها عن إقامة البرهان على أمومتها ]].
فالأم تحقق للطفل وظيفة نفسية هامة وهي الأشباع النفسي, فما تقدمه الأم للطفل منذ نعومة أظفاره له آثارة على النمو النفسي السوي وغير السوي، فهو الذي يحدد من البداية إذا كان الطفل سينمو نمواً نفسياً سليماً أو غير سليم .
وأيضاً الأم تقدم للطفل الحماية والرعاية اللازمة بكل أشكال الحماية, مثل الحماية الجسمانية والأقتصادية والنفسية، وغالباً ما يأخذ الأب على عاتقه الحماية الأقتصادية وخلاصة القول: أن الطفل يحتاج إلى الأمومة بكل ما تحتوي هذه الكلمة من معانٍ .
وقد أوضح بولبي في التقرير الذي أعده وقدمه إلى منظمة الصحة العالمية أن الحرمان من الأم له أضراره البالغة على الطفل, وقد أشار إلى ضرورة منح الطفل الحب والأمن فقال:
[ إن الحرمان من حب الأم ورعايتها بالنسبة لصحة الطفل يكاد يعادل خطورة الحرمان من البروتينات والفيتامينات بالنسبة للصحة الجسمية ]
أوفر حباً:
يقول عدنان حسن صالح:
[للأم وظيفة هامة في التربية النفسية للطفل الصغير خاصة ، إذ أن بناءها الجسمي والنفسي مهيأ لتحمل أعباء التربية والهناء والاعتناء بالطفل.
فلا يستطيع الرجل أن يسد مكان الأم ودورها في التربية ، وأقرب مثل لهذا الموضوع ما يشاهد في عالم الحيوان، إذ ينتهي دور الذكر بالتلقيح في معظم الحيوانات، أما الأم فلا ينتهي عملها ووظيفتها التربوية حتى يكتمل البناء الجسمي للصغير، ويصبح معتمداً على نفسه في جميع شؤونه.
أما في الإنسان فالقضية أعمق، إذ ليس دور الأم فقط تأمين الغذاء للولد ورعاية بدنه وملابسه فحسب، بل إن دورها الأكبر والأعظم هو ذلك الحب المتدفق من قلبها على الولد، وذلك الحنان الذي يشعر الولد فيه بالأمن والسعادة فينمو بدنه وعقله ونفسه نمواً متكاملاً، أما الطفل الذي يُحرم من أن يُحِب ويُحَب في باكورة حياته نتيجة لعزله بعيداً عن أمه؛ يتأخر نموه البدني والعقلي واللغوي والاجتماعي، وتُصاب شخصيته بضرر بالغ، بحيث لو زاد انعزاله عن أمه أكثر من ثلاثة أشهر إلى أن يصل خمسة أشهر، فإن نموه العاطفي يختل عن أقرانه من الأطفال.(/1)
وتعد فترة الطفولة المبكرة خاصة في الفترة من تسعة أشهر إلى ثمانية عشر شهراً أقصى مراحل الخطر الذي يمكن أن يحدث للطفل من جراء عزله عن أمه, لهذا يحذر الأب من أن يتخذ قرار الانفصال في فتره كهذه، بل عليه أن يصبر ويحتسب، ويوقع طلاقه على زوجته في الوقت المناسب المشروع بعد الأخذ بأسباب الإصلاح].
المرأة أحق بولدها ما لم تزوج:
ونظراً لأهمية دور الأم بالنسبة للطفل الصغير ، فإن من محاسن الشريعة الإسلامية أن قدَّمت النساء على الرجال في رعاية الأطفال ، لأنهم أخبر بأمور الحضانة والتربية فهم ، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: [[ المرأة أحق بولدها ما لم تزوج ]] سنن الدارقطني .
ويصف الماوردي رحمه الله الأم مع أولادها فيقول:
[[ الأمهات أكثر إشفاقاً، وأوفر حباً، لما باشرن من الولادة وعاينه من التربية، فإنهن أرق قلوباً، وألين نفوساً.
لهذا فإن وجودها في الأسرة وقيامها بواجباتها في التربية والرعاية, يُعد من أهم دعائم الأسرة المسلمة، ومن أعظم أسباب استقرارها النفسي والاجتماعي ]].
عزيزتي الأم المسلمة:
ماذا نقصد بالحنان والرحمة بالأبناء ؟
وما آثار القسوة أو التدليل الزائد ؟
وهل يمكن أن ترفض امرأة الزواج بخير خلق الله من أجل ابنائها ؟
وما النماذج والأمثلة على حنان ورحمة الأم بأبنائها ؟ وهل هناك برنامج عملي للأم الحنون ؟
هذا ما سنعرفه في المقال التالي فتابعي معنا أحبك الله ورعاكِ
[[ أحناه على ولدٍ في صغره ]] .(/2)
الأمومة هدية الأرض للسماء*
شعر: أسمى طوبى
وأطل ربّ العرش من أعلى علاه
فرآى البدائع والجمال
وكل ما صنعت يداه
سبحانه خلق السحرْ
خلق الضيا.. خلق القمر
أهناك حسن في الدنى
ما أبدعته يد الإله ؟
ودعا ملاكاً.. قال: طرْ
واهبط إلى دنيا البشرْ
واحمل هدية.. فرحةً للقلبِ
روحاً للنظرْ
هبط الملاك وما أطلّ
على الدنى حتى انتشى
زهرٌ.. أريجٌ.. جنةٌ
تسبي النهى أنى مشى
كان الربيع وما الربيعُ
سوى الجمال.. سوى الزهورْ
وسوى الطيوب تفوح منها
تملأ الدنيا بخورْ
جمع الملاك من الورودِ
البيض كالخد النديّ
والأحمر القاني رسول الحبّ
للقلب الخليّ
ألوان من أغنى عطاءِ
الأرض عطر مخملي
وضم باقته الملاكْ
نشر الجناح لكي يطيرْ
وإذا بعصفور صغيرْ
إذا بطفل في سريرِ
يرغو.. يترغلُ.. يرفع الأنظار
يهفو للملاكْ
وعلى المحيا بسمة عذراء
تزري بابتسامات الملاكْ
هتف الرسولْ
يا طيبها خير الهدايا
للسماء من الدنى
وإلى الورود أضاف
بسمات الطفولةِ
طافحاتٍ بالهنا
نشر الملاك جناحهُ
وإذا بكوخ فيه أم
تجثو أمام المهد حانيةً
تقبل طفلها الغالي.. تضمُّ
وحبيبها تشويه حمَّى كاللهيبْ
وفؤادها الملتاع أضناه النحيب
وقف الملاك ومرت الساعات
ما ملت جثواً
فكأنما تحنانها قد زادها جلَداً
وقوهْ
دهش الاملاك
أفي الدنى هذي المحبهْ.. ؟
يا طيبها من تحفةٍ
يحبو بها المخلوق ربّه
حمل الملاك من الهدايا
باقة الورد النضير
ومحبة الأم العظيمةِ
بسمةَ الطفل الغريرِ
ومضى يحلق بالسماءِ
وتحت شمس الخالقِ
وإذا الأزاهر ذابلاتْ
فرمى بها من حالقِ
والبسمة العذراء باتتْ
دمعة حرّى لتهدى
دمعةٌ للخالقِ
نظر الملاك إلى حنان الأمِّ
ظلّ أم انتهى
فيعود دون هديةٍ
يختال مزهواً بها
فإذا حنان الأم يزخرُ
لم تغيره العوادي
لا الشمس لا طول المسافةِ
لا أعاصير البوادي
وضع الملاك أمام باري الكون
تحنان الأمومهْ
قد جئت يا رب السما
بهدية مثلي عظيمهْ
بالخالد السامي الذي
ما بدلته يد الغِيَرْ
هذا حنان الأم يا رباه
أطهر ما أطهُرْ
هذا حنان الأم أسمى
ما حوت دنيا البشرْ
الهامش:
*حبي الكبير: ص64 ـ 70.(/1)
الأمويون في ميزان التاريخ
ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي بنو أمية مع بني هاشم، وكان بنو عبد مناف يتمتعون بمركز الزعامة في مكة، لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش.. وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهم الرياسة عليها(1).
وكانوا وحدة واحدة في اقتسام السلطة في مكة مع بني عمهم عبد الدار بن قصي، الذي فضله والده على سائر أبنائه، رغم شرفهم عليه، وجعل له الحجابة واللواء والسقاية والرفادة..
وكان زعيمهم في هذه المحاولة هو عبد شمس، أبو أمية، إذ كان أسن بني عبد مناف، وتفرقت قريش على ذلك بين فريقين، عبد مناف وعبد الدار..
ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسراً (2).. وهكذا كانت السلطة في مكة عبارة عن مراكز نفوذ تقررها الأهمية الاقتصادية، دون أن يكون لأسرة ما أو زعيم ما السيادة الكاملة على غرار ما كان لقصي زعيم قريش الأول (3) .
وكذلك اشترك بنو عبد مناف معاً في جهودهم لتنظيم التجارة بين مكة وما حولها (4)، وصاروا يداً واحدة تتحرك في تفاهم وتآلف، فلما ماتوا رثاهم الشعراء معاً، دون تفريق بينهم تماماً كما كانوا يمتدحونهم معاً (5)..
وهكذا تقتضي طبيعة الحياة العربية في الجاهلية أن يتناصر أبناء الأب الواحد، وأن تجتمع كلمتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا (6).
وأما الروايات التي تزعم وجود عداء مستحكم بين بني هاشم وبني عبد شمس وأميه قبل الإسلام، فهي واهية الأسانيد، لا تثبت، فهي تروي أن هاشماً وعبد شمس ولدا ملتصقين ففصل بينهما بالسيف، فكان بين أبنائهما الدماء لأجل ذلك (7) ، فهذه رواية لقيطة ليس لها راوي، تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال، ويكذبها ما رواه ابن اسحاق من أن عبد شمس كان أسن بني عبد مناف (8) والروايات التي تروي أن منافرات حدثت بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وبين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية (9)، وكلتا الروايتين ترويان عن هشام الكلبي وهو راوية شيعي كذاب يرويهما كلتهما عن رجال مجهولين لا يعرف أسماءهم (10).
وهذه الروايات رغم سندها المعتل , ومتنها المصطنع كانت صدى لكل ما شيع من صراع بين بني أمية وبني هاشم , هذا الصراع الذي حاول الرواة أن يجعلوا له سنداً تاريخياً ثابتاً، رغم أن العلاقة بين القبيلتين كانت طيبة , يقول ابن خلدون : كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدة والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش: وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم هما جميعاً ينتمون لعبد مناف، وينتسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم (11) ..
يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد سئل: أيكم كان أشرف أنتم أم بنو هاشم؟ فأجاب: كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب , ولم يكن فينا مثله، فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف (12)؟ .
وهذا الكلام يفهم منه وجود نوع من التنافس بين الجانبين قبل الإسلام، في ضوء ما نعرف من طبيعة الحياة العربية في مكة قبل الإسلام، ولكنه تنافس يحدث بين الإخوة أحياناً، وبين أبناء الأب الواحد، غير أنه لم يتطور ليصبح تربصاً وعداء كما يزعم المتزيدون (13).
ولدينا من شواهد التاريخ ما يدل على قوة العلاقة بين بني هاشم وبني أمية، فقد كان عبد المطلب بن هاشم ـ زعيم الهاشميين في عصره ـ صديقاً لحرب بن أمية ـ زعيم الأمويين ـ كما كان العباس بن عبد المطلب بن هاشم صديقاً حميماً لأبي سفيان بن حرب بن أمية.
والغريب أن المقريزي الذي ألف كتاباً خاصاً عن علاقات الهاشميين والأمويين وجعل محوره النزاع والتخاصم ، يعترف بالصداقة الوطيدة التي كانت بين العباس وأبي سفيان (14)، فإذا كانت الصداقة الوطيدة قائمة، ووطيدة بين زعماء البيتين ـ الأموي والهاشمي ـ وهما أبناء أب واحد، وهو عبد مناف بن قصي، فإن الحدس بتأصيل النزاع بينهما بعد الإسلام والرجوع به إلى ما قبل الإسلام لا سند له من تاريخ (15) .
وكل ما جاء في كتاب " النزاع والتخاصم " من أن العداوة مستحكمة بين بني أمية وهاشم وأنها قديمة لا يثبت أمام البحث العلمي النزيه.(/1)
والذين ينظرون إلى تاريخ بني أمية من خلال موقف أبي سفيان من الإسلام في مكة , ومن خلال ما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من حروب يبنون على ذلك ـ كما فعل العقاد ـ أوهاماً من صراع تاريخي قبل الإسلام وبعده , بين بني هاشم وبني أمية وتلك أوهام ليس لها من التاريخ إلا رواية ملفقة أو أحداثاً عارضة لا تمثل قط صراعاً بين هذين الفرعين الكريمين من بني عبد مناف , وهما ذروة الشرف في قريش(16)، والذي يظهره البحث العلمي النزيه ـ وبعد ترك الروايات والأساطير الساقطة ـ هو أن العلاقة بين البطنين كانت طبيعية مثلها مثل العلاقة بين باقي بطون قريش..
لقد كان تعامل الأمويين مع الدعوة الناشئة هو نفس تعامل بقية بطون قريش للدعوة الجديدة من أمثال بني مخزوم وبني هاشم وغيرهم , ولنأخذ على ذلك مثالاً وهو كيفية تعامل بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب بطون قريش إليه مع الدعوة، لقد كان منطق العصبية السائد في الجاهلية يقتضي أن يتلقف بنو هاشم الدعوة الجديدة التي تحقق لهم العزة والشرف بالإيمان والنصرة , وأن يقفوا خلف النبي الهاشمي بالتأييد والبذل، وقد وقفوا إلى جواره فعلاً في بعض المواقف ولعل أشهرها حصار الكافرين لهم في شعب بني هاشم، ولكنهم في النظرة الشاملة انقسموا عليه بين مؤيد ومعارض , ومؤمن وكافر، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من قبائل مكة..
والمثال المشهور لكفار بني هاشم هو أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول من جهر بعداوة الإسلام لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، ولم يكتف بالمعارضة الصريحة بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس صور شتى تعذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصد الناس (17) عنه، وكانت معه زوجته أم جميل بنت حرب الأموية، وابنيه عتبة وعتيبة اللذين طلقا بنتي النبي رقية وأم كلثوم ليشغلا محمداً (18) ببنتيه، وكان ابنه عتبة يشارك في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى دعا عليه فنهشه أسد في بعض أسفاره(19)..
بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب بني هاشم لما حاصرتهم قريش (20) فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر استأجر بدلاً منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم (21)..
وقد كان أبو لهب في كفره وعناده مثالاً مشهوراً , ولكنه لم يكن الهاشمي الوحيد الذي كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وجهد في إيذائه وحربه، فقد كان في أسرى المشركين يوم بدر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب , ونوفل بن الحارث، وحليفهم عتبة بن عمرو بن جحدم، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم فداءهم فيمن افتدى من أسرى قريش (22)، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ممن شهد قتال يوم بدر مع المشركين ونجا من القتل والأسر (23) , وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم , وأخوه من الرضاعة ـ أرضعتهما حليمة السعدية أياماً ـ وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان له ترباً , فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه عداوة لم يعادها أحد قط، ولم يدخل الشعب مع بني هاشم وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان من المجاهرين بالظلم له صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به قبل الهجرة (24).
إن أعظم النصرة والتأييد لقيهما النبي صلى الله عليه وسلم من عمه أبي طالب الذي تحمل في سبيل ذلك ضغوطاً هائلة من قريش , ولكنه ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته وفياً لدين آبائه، فمات على ملة الأشياخ من قومه (25)، وظل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم الآخر في مكة، واشترك مكرهاً ضده في غزوة بدر وأسر بها، ولكنه لم يهاجر إلى المدينة , ويعلن إسلامه إلا والرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه لفتح مكة (26)..
وقد أسلم في مكة نفر من بني هاشم , وبذلوا في سبيل الدعوة الكثير مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم , ولكنهم كانوا يشاركون غيرهم من غير بني هاشم في ذلك , كأبي بكر وعمر وعثمان، ولم يكن بذلهم لأنهم هاشميون بل لأنهم مسلمون، ويظل إيمانهم دليلاً على صدق القول باختلاف استجابة الأفراد للدعوة الإسلامية بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية (27).
وبالنسبة لبني أمية وموقفهم من الإسلام فإن مؤرخينا لا يتحدثون عنهم كبطن مستقل من بطون قريش , وإنما يتحدثون عنهم مع غيرهم من بني عبد شمس والد أمية، فيعدونهم وحدة واحدة (28) ، وقد كانوا أبناء أب واحد , وتربطهم علاقات التصاهر والترابط الاجتماعي , ولذلك فإنهم عند حديثهم عن عداء بني أمية للرسول صلى الله عليه وسلم يذكرون اسمي عتيبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس، ورغم أنهما ليسا من بني أمية..(/2)
ويذكرون معهما أيضاً أبا سفيان بن حرب , وعقبة بن أبي معيط، فأما عقبة بن أبي معيط هذا فقد كان من مردة قريش، فقد تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورمى عليه صلى الله عليه وسلم سلا جزور وهو يصلي، وخنقه بثوب في عنقه حتى دفعه أبو بكر الصديق (29)..
وقد نال جزاءه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله بعد أسره يوم بدر، والغريب أنه كان يذكره بما بينهما من رحم (30) ، ومثل هذه النماذج الطائشة لم ينفرد بها بنو أمية أو عبد شمس في مكة آنذاك (31) .
وأما معارضة عتبة وشيبة ابني ربيعة فمعلومة ومشهورة , ومع هذا لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف , وصده عنها أهلها , وتبعه الصبيان والغلمان يرمونه ويصيحون به لجأ إلى حائط ابني ربيعة عتبة وشيبة، فلما رأياه على هذا الحال تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له عداس، فقالا له: خذ قطعاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب إلى ذلك الرجل , فقل له يأكل منه (32).
وإذا جارينا نهج المؤرخين في الحديث عن بني أمية وبني عبد شمس معاً، فإننا نرى منهم جماعة كانوا من السابقين إلى الإسلام، فمنذ المرحلة السرية للدعوة وقبل الجهر بها كان قد أسلم كل من عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق في أيام الإسلام الأولى (33)، وكذلك كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وقد أسلم في هذه المرحلة السرية التي دامت حوالي ثلاث سنين (34) ـ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (35) ، كما أسلم في مرحلة مبكرة حليفان لبني أمية وهما عبد الله بن جحش بن رئاب , وأخوه أبو أحمد بن جحش , وهما ابنا عمة النبي صلى الله عليه وسلم فأمهما أميمة بنت عبد المطلب (36).
وفي الهجرة الأولى إلى الحبشة شارك نفر من مسلمي بني أمية مثل عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو (37)، كما كان لبني أمية مشاركة في الهجرة الثانية , ومعهم بعض حلفائهم ، وقد ساهمت نساء بني أمية وعبد شمس في صنع مسيرة الإسلام , وفي إعطاء الأسوة , وضرب المثل في نبل التضحية , وعزيز العطاء، فقد أسلمت رملة بنت شيبة بن ربيعة زوجة عثمان بن عفان , وهاجرت معه إلى المدينة , وثبتت معه على دينه , رغم مقتل أبيها وعمها (38).
وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة في الهدنة التي كانت بين النبي والمشركين في الحديبية
على أن الصورة الأزهى والنموذج الأرقى في ذلك المجال هو إسلام أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، فقد أسلمت مبكراً (39)، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة.
لم يكن إذن بين بني هاشم وبني أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين ونسجوا الأساطير والقصص حولها، وإنما الحقيقة التاريخية تقول، بأن علاقتهم كانت علاقة أبناء العمومة والإخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير، والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان..
فبنو أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام , وكلهم استقوا من عين واحدة , ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يضرب بها الأمثال (40) ، كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده , وكان على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي زوج بناته الثلاثة من الأربعة من بني أمية.
المصدر : كتاب الدولة الأموية للدكتور علي الصلابي
-------------
الهوامش :
1- النجوم العوالي للعصامي (3/2) .
2- السيرة النبوية ابن هشام (1/137 ـ 138 ، 141) .
3- الحجاز والدولة الإسلامية ص 87 .
4- تاريخ الطبري (2/252) .[1][1]
5- السيرة النبوية ابن هشام (1/144 ـ 148) .
6- الدولة الأموية المفترى عليها ص 122 .
7- النزاع والتخاصم للمغريزي ص 181 .
8- السيرة النبوية ابن هشام (1/137).
9- النزاع والتخاصم ص 181، الدولة الأموية شاهين ص 122 .
10- الدولة الأموية المفترى عليها ص 122 .
11- تاريخ ابن خلدون (3/2) .
12- البداية والنهاية (8/138) .
13- الدولة الأموية المفترى عليها ص 123 .
14- العالم الإسلامي في العصر الأموي ص 2 .
15- المصدر نفسه ص 5 .
16- المناهج الإسلامية لدراسة التاريخ د. محمد رشاد خليل ص 24 .
17- السيرة النبوية لابن هشام (2/64 ـ 65) ، والسيرة للصَّلابي (1/404) .
18- السيرة النبوية لابن هشام (2/219) ، الدولة الأموية شاهين ص 125 .
19- أنساب الأشراف (1/130 ـ 131) .
20- السيرة النبوية ابن هشام (1/339) .
21- السيرة النبوية ابن هشام (2/183) .
22- تاريخ الطبري (2/465 ـ 466) .
23- المصدر السابق (2/462) .(/3)
24- في اختصار المغازي والسير ، لابن عبد البر ص 44 .
25- زاد المعاد (2/46) السيرة النبوية لابن هشام (1/256) .
26- السيرة النبوية لابن هشام (4/12) .
27- الدولة الأموية المفترى عليها ص 127 .
28- السيرة النبوية ابن هشام (3/70 ـ 71) .
29- البخاري ، رقم 3687 ، 3856 .
30- السيرة النبوية لابن هشام (2/212) .
31- الدولة الأموية المفترى عليها ص 127 .
32- السيرة النبوية (1/292 ـ 293) .
33- السيرة النبوية ابن هشام (1/260) .
34- تاريخ الطبري (2/318) .
35- السيرة النبوية ابن هشام (1/263) .
36- المصدر نفسه (1/262) .
37- المصدر نفسه (1/315) .
38- نسب قريش ص 104 ـ 105 .
39- تبيين في أنساب القرشيين ص 209 .
40- الشيعة وأهل البيت ص 141 .(/4)
الأناجيل نظرة طائر 1
إلى القُمّص المنكوح:
الأناجيل: نظرة طائر
أ.
د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
تأتينى كل يوم رسائل تعلّق على ما أكتب فى هذا الموضوع، وبعض هذه الرسائل يثنى على ما أكتب، وبعضها يخطئنى، وبعض ثالث يشتم ويصفنى بأننى "آتٍ من وراء الجاموسة" ويبشّرنى بأن "محمدا سوف يأخذنى معه إلى الهاوية"، أى الجحيم، وأخرى يؤكد صاحبها أنه يحترق بحبى ويحرص على تنويرى وهدايتى ويقول، كنوع من التدليل على محبته لى، إن محمدا أخذ الشعراوى وديدات إلى الجحيم، وسوف يأخذنى معه هناك كما أخذهما من قبل، ورسالة يقول كاتبها إنهم يتبعون المسيح الإله الحى الباقى، أما نحن فنمشى وراء شخص قد مات وأنتنت جثته... وشتائم أخرى من هذا النوع المقذع الذى يبدو أن أصحابه يفهمون أن السيد المسيح قد وصى به فى العبارة التالية المنسوبة إليه فيما يسمَّى بـ"الأناجيل": "أحبوا أعداءكم! باركوا لاعنيكم! من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر"، فضلا عما أخذ كثير من المهجريين بالذات يرددونه من وجوب خروج المسلمين من مصر وعودة الإسلام إلى بلاد العرب البدوية المتخلفة التى جاء منها. وأنا، حين أفكر فى هذه الرسائل بناء على رد الفعل الطبيعى، وكذلك بناء على ما ينصحنى به بعض أصحابها من إعادة النظر فى إيمانى بما أتى به محمد ("الشيطان" كما يسمونه)، لا أستطيع أن أجد فى الإسلام شيئا يَثْنِينى عن مواصلة الإيمان به والافتخار بأننى واحد من أتباعه، وإلا فما الذى فى دين هذا الرسول الكريم مما ينبغى إدانته؟
هل هو التوحيد النقى الذى يرفض كل ألوان الوثنية والشرك وعبادة الأصنام والأوثان والبشر الذين يتبولون ويخرأون؟ هل هو الصلاة لله سبحانه وتمجيده وعبادته؟ هل هو الحض على الرأفة بالفقراء والمساكين، لا كلاما جميلا فقط دون فاعلية، بل بتشريع الزكاة والصدقات تشريعا محددا ملزما؟ هل هو المبادئ الإنسانية التى تقول إنه لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح، وإن التقوى ليست فى الشعائر فى حد ذاتها بل فى إخلاص القلب والتوجه بهذه الشعائر إلى الله سبحانه والتصرف بمقتضاها فى سلوكنا اليومى وعلاقاتنا بالآخرين وبعيدا عن الرياء والجرى وراء السمعة بين الناس؟ هل هو دعوته إلى طلب العلم وفرضه على كل مسلم ومسلمة وإعلاؤه من شأن العقل حتى فى الاعتقاد، بعكس ما تدعو به بعض الأديان الأخرى من وجوب التسليم دون بحث أو نقاش؟ هل هو إقراره مبدأ المسؤولية الفردية وعدم توريث الخطيئة الأولى لعموم البشرية ظلما وغبنا، مما استوجب قتل الله، أستغفر الله؟ هل هو إعطاؤه الأجر على مجرد الاجتهاد حتى لو أخطأ صاحبه؟ هل هو فتحه باب التوبة والغفران دائما على مصراعيه أمام الناس جميعا دون تعقيدات أو وثنيات؟ هل هو موازنته العبقرية بين المثال والواقع فى تشريعاته ومتطلباته؟ هل هو فى اتجاهه للبشرية كلها لا إلى بنى إسرائيل وحدهم من دون الخلق جميعا؟هل هو رفعه لقيمةِ العمل وإتقانِه إلى سماء سامقة وإعلاء الأجر عليه إلى الحد الذى يؤكد فيه أن هناك ذنوبا لا يكفّرها إلا العمل؟ هل هو حَثُّه على النظافة فى كل الأمور حتى فى تنظيف الأسنان وجعلها من الإيمان، فى الوقت الذى تضع فيه بعض الأديان تلك القيمة فى تعارض مع صحيح الاعتقاد؟ هل هو نجاحه المذهل الذى لم يستطعه أى دين آخر فى تنفير أتباعه من أم الخبائث تنفيرا يُضْرَب به المثل، على حين تحتل معجزة تحويل الماء إلى خمرٍ البند "رقم واحد" فى قائمة معجزات "س" من الأديان؟ هل هو اهتمامه بالجمال والتنبيه إلى أن الله جميل يحب كل شىء جميل؟ هل هو اعترافُه بحدود القدرة البشرية ومراعاتُه لطبيعة الإنسان فى تشريعاته بحيث لا تجىء تهويماتٍ مثاليةً ساذجةً مستحيلةَ التنفيذ، ومن ثم لا تصلح إلا لترديدها على ألسنة المشقشِقين المغرمين بالكلام الكبير الفارغ دون أن يكون لها أى أثر فى قلوبهم أو تصرفاتهم؟ هل هو دفاعه المجيد عن السيد المسيح وأمه من الاتهامات السافلة الكافرة التى يرددها اليهود وملاحدة الغرب وبعض من يزعمون أنهم من أتباعه؟ هل هو تحذيره من شهوات النفس ووسوسات الشيطان؟ هل هو حرصه على أن يكون عمل الخير خالصا لوجه الله بعيدا عن الرياء؟ هل هو حملته على النفاق والمنافقين؟ هل هو تشديده النهى على أتباعه أن يَجْرِمهم شَنَآن قوم على ألا يَعْدِلوا؟ هل هو جعْله التعاون على البر والتقوى مبدأً من مبادئه؟ هل هو فضحه المتاجرة بالدين وكشفه عن جشع فريق كبير من الأحبار والرهبان وأكلهم أموال الناس بالباطل وصدهم عن سبيل الله وقيادتهم جمهور أتباعهم من أنوفهم وراءهم دون عقل أو تفكير؟ هل هو إماطته اللثام عن حقيقة ما تم من عبث وتحريف فى التوراة والإنجيل؟ هل هو دفاعه العظيم عن الأنبياء والمرسلين وتبرئتهم من تهم الزنا والقتل والزواج بالمحارم وتسهيل عبادة الأوثان التى يتهمهم بها مؤلفو الكتاب المقدس؟(/1)
أما القول بأن الإسلام ليس بدين مصرى فكذلك النصرانية ليست بدين مصرى، وأما ما يردده بعض من طمس الشيطان بصائرهم من أن المسلمين فى مصر ليسوا مصريين بل وافدين من الجزيرة العربية فهو كلام يدل على جهل وغباء أو على استبلاه واستحماق، لأن كلا من المسلمين والنصارى فى مصر هم بوجه عام مصريون أبًا عن جَدّ، اللهم إلا القليل هنا وهناك مما لا يخلو منه بلد. ولم يحدث قط أن قال مسلم فى مصر إن على النصارى أن يرحلوا، فلماذا يقولها بعض الناس من الطرف الآخر؟ هذه أول مرة نرى فيها "أقلية الأقلية" تقول هذا الكلام الغريب. وأقول: "أقلية الأقلية" لأنه ليس كل النصارى (فيما أفهم) يقولون ذلك، إنما هى أقلية صغيرة بينهم، وإلا فهى الكارثة!
إننى والله فى حيرة من أمرى، ولا أدرى ماذا يمكن أن يصنع الإنسان فى الرد على هذه السفالات؟ أحد الإخوة من عقلاء المهجر (وما أقلهم!) رجانى أن أهمل الرد على القُمّص إياه وقال إننى ينبغى ألا أهتم بما يردده من اتهامات للإسلام جائرة، وإنه يعرف أن دين محمد دين عظيم، أو شيئا بهذا المعنى لأن نص كلامه ليس أمامى الآن. إلا أننى، بعد شكره الجزيل على هذا الكلام حتى لو كان مجرد مجاملة لا أكثر، أتساءل: ما دام ذلك الأخ الكريم يعتقد بهذا فلم لا يوجه مثل هذا النداء لذلك القُمّص وأشياعه؟ أمن المعقول أن آتى للمُعْتَدَى عليه وأطالبه بالسماح، ولا أكلّف نفسى بمحاولة لفت نظر المُعْتَدِى إلى سوء ما يفعل؟ إننا لا يمكن أن ننال من السيد المسيح ولا من أمه الطاهرة ولا حتى من الحواريين، بل إننا لنردّ على ما جاء فى العهد الجديد مما يمكن أن يُتَّخَذ تُكَأَة فى الإساءة إلى أى منهم، فلم التسافُه والتباذؤ مع سيّد الخلق إذن؟ لا يا أخى الكريم، لن نسكت على قلة الأب، وسنرد بكل قوة، لكن مع احترام السيد المسيح وأمه وتلاميذه، لا من باب المجاملة، بل من باب الإيمان بمحمد عليه السلام، الذى يوجب علينا دينه العبقرى النبيل الراقى المتحضر أن نؤمن بكل الأنبياء، والذى يُعْلِى من شأن مريم وابنها عليهما السلام كل الإعلاء مع رفض كل تأليه لأى منهما تماما.
والآن نمضى فى الرد على السخافات المهجرية وقلة العقل والغفلة والبذاءة والسفالة التى هى حجة الصايع الضايع الذى لم يربّه أهله فتربّيه الأيام والليالى وتقوّم اعوجاجه بالصرمة القديمة، وذلك من خلال التحليل العلمى للأناجيل بغية توضيح موقفنا العقيدى ولتوجيه نظر من عنده بقية من نظر إلى عظمة ما عندنا وعبقريته، وكل إنسان حر بعد هذا فى اتخاذ الموقف الذى يراه واعتناق الرأى الذى يعتقد فى صحته، ونحن بحمد لله نردد من كل قلوبنا ما قاله ربنا فى قرآنه المجيد ونؤمن به أتم الإيمان: "لا إكراه فى الدين، قد تبين الرُّشْد من الغَىّ. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفضام لها. والله سميع عليم" (البقرة/ 256)، "ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا. أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟" (يونس/ 99)، " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين إلا مَنْ رَحِمَ ربك، ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين" (هود/ 119)، "وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرَادِقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمُهْل يشوى الوجوه" (الكهف/ 29)، "كذلك زَيَّنّا لكل أمة عملهم، ثم إلى ربهم مَرْجِعهم فينبئّهم بما كانوا يعملون" (الأنعام/ 108)... إلخ.(/2)
أما الجاموسة والإتيان من وراء الجاموسة فماذا فيه؟ إن للجاموسة منافع كثيرة: فقد كانت أيام أن كنت أمشى وراءها (رغم أن أهلى ليسوا من أصحاب الأرض بل تجارا، لكنى كنت أحب أن أرافق زملائى من أولاد جيراننا الفلاحين إلى حقولهم التى أعشق التجوال فيها وما زلت عشقًا والِهًا عجيبًا)، أقول: كانت الجاموسة تجر المحراث والنورج وتدير الساقية، وكانت وما زالت تعطينا "لبنا سائغا خالصا للشاربين" كما يقول القرآن، ويُؤْكَل لحمها الطيب الذى لا رائحة له منتنة كرائحة لحم الخنزير ورائحة أفواه وأدبار من يحبونه، كما أن فى رَوْثها فائدة كبيرة للأرض الزراعية، وكذلك لتلطيخ وجه القُمّص المذكور، وجهه فقط لا دبره لأن على حوافى دبره، والحمد لله، من الفضلات المنتنة كرائحة فمه وعقله وقلبه ما يلطّخ وجوه السفلة المتطاولين على سيد الأنبياء والمرسلين على بَكْرَة أبيهم وأمهم أيضا ويملأ أفواههم جميعا حتى يشبعوا ويكُظّوا كروشهم دون الحاجة إلى "تزويدة" من رَوْث الجاموسة التى نحن آتون من ورائها! بالله ماذا فى الإتيان من وراء الجاموسة؟ أليس ذلك أفضل من الإتيان من وراء زيكو، وأنتم تعرفون ماذا يعنى الإتيان من وراء زيكو، وزيكو لا يُؤْتَى إلا من ورائه؟ ليست المشكلة فى الإتيان من وراء الجاموسة يا جاموسة أنت وهو وهى، بل المشكلة كل المشكلة فى أن يكون البعيد جاموسة يا من تخفيت وراء اسم امرأة، ثم لا حصّلت أن تكون امرأة ولا رجلا، بل جاموسة، وأدنى من الجاموسة لأن الجاموسة، يا أدنى من الجاموسة، لا تشرك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أو تعبد معه صنما أو وثنا أو بشرا. إن الجاموسة (التى هى جاموسة) قد فهمت هذا، فهل فهمت أنت يا أدنى من الجاموسة؟ ثم إن للجاموسة، يا أدنى من الجاموسة، فضلاً آخر لا أدرى كيف نسيتُه، ألا وهو أنها بعد أن تُذْبَح وتُسْلَخ نأخذ جلدها وندبغه ونصنع منه جِزَمًا نلبسها فى أقدامنا، وبعد أن تصبح هذه الجزم صُرَمًا قديمة نستخدمها فى صفع زيكو على وجهه القبيح وقفاه العريض ودبره المنتن وضميره الخرب المظلم، وأنا على يقين أنه سيستزيدنا من هذه الأنواع المختلفة كلها من الضرب كرامةً لنوع واحد فقط منها هو ضربه على دبره وما يجده ذلك المازوكىّ فى هذا الضرب من لذة شاذة! هل وصلت الرسالة؟ أم هل أعيدها من أول وجديد يا أدنى من الجاموسة؟ والله إن فى مقارنتك أنت وأمثالك بالجاموسة إساءة إلى الجاموسة يا أدنى من الجاموسة! وأنا هنا، أيها القراء الكرام، لا أدافع عن نفسى، فليست المسألة بينى وبين هؤلاء مسألة شخصية، إذ لا أحد منا يعرف الآخر، بل هم يشتمون لأننى أدافع عن محمد بن عبد الله (عليه وعلى أخيه عيسى بن مريم الصلاة والسلام) ضد سفالاتهم وإجرامهم رغم أن هذا الدفاع تأخر كثيرا جدا على أمل أن يفيقوا أو ينصحهم عقلاؤهم بالإفاقة من نوبة السفالة التى اعترتهم فجأة، لكنهم انهالوا علىّ برسائلهم النجسة مثلهم، والتى سبق أن أهملت كثيرا منها من قبل حين لم يكن لها علاقة بالتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنى لا أعد نفسى شيئا ذا بال على الإطلاق، ولم أكن لأهتم بما يقولون لو كان الأمر خاصا بى، أمّا والتطاول على الرسول هو المراد فالأمر يختلف جدا جدا جدا...(/3)
وعجيب أن يكون الحب الذى يكنونه لى، حسبما كتب إلىّ "فلان المحب" (كما سمى نفسه)، سببا فى كيل هذه الشتائم والبذاءات والسفالات لنا، مما يجعلنا نتساءل: إذا كان هذا هو ما يؤدى إليه الحب، فما الذى يمكن أن يؤدى إليه الكره إذن؟ إن المخبول الذى يتطاول على أشرف الأنبياء والمرسلين ويقول إنه قد مات وأنتن يعتقد بجهله وغبائه وقلة عقله وضيق أفقه وتحجر عقيدته أننا نعبد الرسول الكريم كما يعبد هو السيد المسيح، غافلا (لأنه مغفل من الطراز الأول) أننا لا نعتقد فيه أكثر مما يقوله المنطق والعقل وما أكده هو ذاته عليه صلوات الله وسلامه، وعلى من يمسه بأية كلمة بذيئة لعنات الله والرسل، والمسيح على رأسهم، والملائكة والناس أجمعين، ألا وهو أنه عبد الله ورسوله. فنحن إذن لا نعبد ميتا كما يفعل ذلك الحمار الغبى الجهول وأشباهه، بل نعبد الحى الذى لا يموت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، الذى لا يهينه عباده ولا يبصقون فى وجهه أو يصفعونه على خديه أو يطعنونه بالحربة فى جنبه أو يضعونه على الخشبة التى لا يوضع عليها إلا كل ملعون بنص العهد القديم، ولا يوصف بالخروف ولا يصرخ من الألم وما من مغيث، ولا يفقد أعصابه فيَعْنُف بأمه ويناديها بـ" يا امرأة" لا بـ" يا أمى"كما يفعل كل من يحبون أمهاتهم ويحترمونهن، ولا يُذِلّ الكنعانيات المسكينات إذلالا ما بعده إذلال ويسميهن هن وسائر البشر من غير بنى إسرائيل بـ"الكلاب"، ولا يتهم الحواريين دائما بأنهم ضعفاء الإيمان شياطين، ولا يعمل كما يعمل كل الناس، ومعروف ما يفعله كل الناس فى دورات المياه، يا عيب الشؤم، ولا يأمرنا بتطليق الدنيا والاحتفاء بالموت والعدم! أما الموت فهو لا يختص بالرسول الكريم الذى لم يشأ أن يضلل أتباعه عن حقيقته فلم يقل لهم (ولم يقولوا هم بدورهم عنه) إنه ابن الله، بل قال بكل بساطة وعظمة وتواضع حقيقى إنه ميت مثلما كل البشر ميتون، بما فيهم السيد المسيح، عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. أما الرسالة التى وصلتنى الآن من "النعمة"، وفيها تلك العبارة: "I am sending this message again because I love u & I want u to know who is going to save u from Hell in the last day which is coming very soon as the prophecies say!"، فيبدو أن صاحبها قد نسى أنه يخوفنى بشىءٍ المفروضُ، حسب نص الكلام الذى ينسبونه للمسيح عليه السلام، أنه قد وقع من زماااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااان (منذ نحو ألفى عام)، إذ قال، طبقا لما رَوَوْه عنه، إن ملكوت السماوات سوف يأتى قبل أن يموت أصغر واحد من الموجودين معه، أو شيئا من هذا القبيل. يعنى: نحن الآن فى الملكوت، أو فى الباى باى!
والآن، وبعد هذه التوطئة التى أرجو أن تكون قد وضعت الأمور فى نصابها فأَوْلَجَتِ "الألف" فى "ميم" زيكو، "أَلِجُ" أنا فى الموضوع فأقول إن المقارنة بين الأناجيل الأربعة تكشف لنا عن أشياء مذهلة. ولا أود أن أستبق الأحداث بل أترك النصوص تتحدث بنفسها، حاصرًا دورى فى التعليق عليها ولفت النظر إلى ما أظنه يستحق الالتفات فيها، والله المستعان، ومنه التوفيق، وعليه التُّكَلان، وباسمه تعالى نبدأ المقارنة والتحليل، لكن بعد أن أرجو السادة القراء ألا يقفزوا فوق النقول التى أستشهد بها إذا ما طالت حتى يتحققوا من صحة ما أقول أو خطئه، والخطأ واردٌ فى كل حال، وجارٍ على كل إنسان:(/4)
فمتّى فى بداية الإصحاح الأول منه يقول إن المسيح عليه السلام هو ابن داود بن إبراهيم، أى أنه من سلالة بشرية: "1 كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ: 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ". هذا ما قاله متى، على حين يقول لوقا فى أول فقرة من أول إصحاح فيه: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ"، أى أنه من سلالة إلهية، لكنه فى موضع آخر يورد نسبه على النحو التالى: "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ ، بْنِ هَالِي،24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي ، بْنِ مَلْكِي ، بْنِ يَنَّا ، بْنِ يُوسُفَ،25بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ عَامُوصَ ، بْنِ نَاحُومَ ، بْنِ حَسْلِي ، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ ، بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ شِمْعِي ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يَهُوذَا،27بْنِ يُوحَنَّا ، بْنِ رِيسَا ، بْنِ زَرُبَّابِلَ ، بْنِ شَأَلْتِئِيلَ ، بْنِ نِيرِي،28بْنِ مَلْكِي ، بْنِ أَدِّي ، بْنِ قُصَمَ ، بْنِ أَلْمُودَامَ ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي ، بْنِ أَلِيعَازَرَ ، بْنِ يُورِيمَ ، بْنِ مَتْثَاتَ ، بْنِ لاَوِي،30بْنِ شِمْعُونَ ، بْنِ يَهُوذَا ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يُونَانَ ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ،31بْنِ مَلَيَا ، بْنِ مَيْنَانَ ، بْنِ مَتَّاثَا ، بْنِ نَاثَانَ ، بْنِ دَاوُدَ،32بْنِ يَسَّى ، بْنِ عُوبِيدَ ، بْنِ بُوعَزَ ، بْنِ سَلْمُونَ ، بْنِ نَحْشُونَ،33بْنِ عَمِّينَادَابَ ، بْنِ آرَامَ ، بْنِ حَصْرُونَ ، بْنِ فَارِصَ ، بْنِ يَهُوذَا ، 34بْنِ يَعْقُوبَ ، بْنِ إِسْحَاقَ ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، بْنِ تَارَحَ ، بْنِ نَاحُورَ،35بْنِ سَرُوجَ ، بْنِ رَعُو ، بْنِ فَالَجَ ، بْنِ عَابِرَ ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ ، بْنِ سَامِ ، بْنِ نُوحِ ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ ، بْنِ أَخْنُوخَ ، بْنِ يَارِدَ ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ ، بْنِ قِينَانَ،38بْنِ أَنُوشَ ، بْنِ شِيتِ ، بْنِ آدَمَ ، ابْنِ اللهِ".
وكما ترى فهذه السلسلة تختلف إلى حد بعيد عن سلسلة متى، سواء فى عدد حلقاتها أو فى ترتيبها، وهو أمر مضحك، إذ ليس من المعقول أن يجهل القوم سلسلة نسب ربهم. فيا له من رب! وياله من نسب! ولا تظن أيها القارئ أنى أتهكم حين أقول: "سلسلة نسب ربهم"، فقد قالوها هم بأنفسهم رغم أنى كتبت ما كتبت قبل أن أرى ما كتبوا، بل رجعت إليه فيما بعد. وهذا مثلا ما كتبه محررو "تفسير الكتاب المقدس": "إن غرض تتبع سلسلة نسب ربنا والرجوع به إلى داود هو أن يظهر أن المواعيد التى أعطيت لداود إنه سيصير سلفا للمَسِيّا قد تحققت فى يسوع المسيح" (تأليف مجموعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس دافدسون/ ط2/ دار منشورات التفسير/ بيروت/ 5/ 1990م/ 14). بل إن الشخص المذكور فى هذه السلسة على أنه ابن الله ليس هو المسيح بل آدم، أما المسيح فهو، حسبما كان يقول الناس، ابن يوسف! أما سلسلة متى فهى صريحة فى أنه ابن يوسف، أستغفر الله، إذ ليس هناك من معنى للقول بأنه ابن يوسف إلا معنى واحد لا أستطيع أن أنطق به!(/5)
وهو ما يؤكده النص التالى المأخوذ من مطلع إنجيل توما (أحد الأناجيل غير القانونية): "And a certain Jew when he saw what Jesus did, playing upon the Sabbath day, departed straightway and told his father Joseph: Lo, thy child is at the brook, and he hath taken clay and fashioned twelve little birds, and hath polluted the Sabbath day. "، إذ يقول المؤلف إن أحد اليهود الغيارى على الشريعة الموسوية، حين رأى عيسى الصغير يصنع يومَ سبتٍ من الطين طيرًا، ذهب من فوره إلى "أبيه يوسف" وشكا له ما صنع الغلام من الاعتداء على حرمة اليوم المقدس. ومثله قول المؤلف فى موضع آخر إن عيسى ذهب ذات يوم لزراعة القمح مع "والده" فى حقلهم: "Again, in the time of sowing the young child went forth with his father to sow wheat in their land: and as his father sowed, the young child Jesus sowed also one corn of wheat"... وغير ذلك من المواضع التى وُصِف فيها يوسف بأنه "أبوه". بل إننا لنقرأ أن يوسف، تعجُّبًا من المعجزات التى كان يعملها عيسى الصغير، قد دعا ربه شاكرا أنْ أعطاه طفلا مثله: " Happy am I for that God hath given me this young child".
وعَوْدًا إلى ما كنا بسبيله أرجو ألا تضحك، عزيزى القارئ، من حكاية نسب ربنا هذه، ذلك أن الكلام ليس عن الإله الذى نعرفه، رب العالمين، بل عن إله مجهول الهوية يراد تحديد أسرته ومكان إقامته ومهنته وتاريخ ميلاده وصحيفة أحواله المدنية حتى نعرف من هو، ومن أين أتى، وإلى أين هو ذاهب، وأين يسكن، ومن وَلِىّ أمره... إلخ. ويا حبذا لو اطّلعنا أيضا على رخصة قيادة السيارة (أو بالأحرى: رخصة ركوب الأتان والجحش ابنها)، فكل شىء من هذه الوثائق من شأنه أن يطمئننا على أننا ماشُون فى الطريق السليم وأننا لا نتعامل مع شخص لا نعرف له مرجعا ولا مكان عمل أو سكن. ونحن نعرف أن الناس هذه الأيام لا يبعثون على الاطمئنان، وأن ابن الحرام لم يترك لابن الحلال حاجة، فـ"بردون: pardon" يا عزيزى. آه! هذه أشياء لا تُغْضِب، أو ينبغى ألا تُغْضِب، أحدا. وهذا الإله لم نسمع به من قبل، وقد كثرت الآلهة، ولم يعد هناك شىء موثوق به، فالأفضل الأخذ بالأحوط!
وبعد قليل يقول الكاتب السابق: "يُرَجَّح أن سلسلة النسب هذه (يقصد سلسلة النسب المذكورة فى متّى) لا تتبع التسلسل الطبيعى (الذى تجده فى لوقا...)، بل الملكى والشرعى الذى بفضله كان المسيح وارثا لعرش داود" (نفس المرجع والصفحة). يا حلاوة! هناك إذن نسب طبيعى متسسل، ونسب كده وكده (نسبًا مضروبًا يعنى)، نسب يُذْكَر فى الأوراق الرسمية حتى تكون مهمة مجلس الوصاية على ولى العهد سهلة فلا يتلكّك أحد لأعضائه بحجة الرسميات وختم النسر، فكل شىء كما ترى جاهز، وتستطيع بعد ذلك أن تضع إصبعك فى عين أى موظف يشاغبك ويتحجج بلوائح الروتين، فنحن الذين خَرَمْنا التعريفة ودهنّا الهواء دُوكُو كما يقول المصريون الخائبون!(/6)
والله عال! عشنا وشفنا الآلهة لها نسب، وأى نسب؟: 1- نسبٌ طبيعى، وهذا نعرفه فيما بيننا، لكن لا يصح أن نظهره لأنه كفيل بإفساد الخطة الخاصة بوراثة العرش. 2- ونسبٌ أىّ كلام لزوم وراثة العرش عن داود وعشيقته (التى صارت زوجته فيما بعد) بَتْشَبَع: إى نعم، داود وبتشبع الزانيين القراريّين كما تكلم عنهما الكتاب المقدس ذاته ولست أنا والله العظيم! وأنطسّ فى نظرى لو كنت قلت هذا أو شيئا من هذا أو أرضى بهذا أو لا ألعن سنسفيل جدود من قال هذا، عليه وعلى من يرضى بهذا لعنات الله والملائكة والرسل والمسيح والناس أجمعين خالدين فيها إلى يوم يبعثون! ولا أظنك قد نسيت حكايتهما ولا السطح والطست والكوز والحركات إياها التى كانت تأتيها المستحمة العارية فى قلب الحوش المكشوف جنب القصر خبط لزق وهى تغنى أغنية "الطشت قال لى" مع الحفاظ على حقوق الأداء العلنى لورثة المرحومة عايدة الشاعر! ولقد كان الشدياق يداعب امرأته كلما نشزت عليه فيقول لها: "بحق السطح" فتلين فى الحال. ويبدو أنه كان بينهما شىء خاص وقع فوق السطح، فهو يذكّرها به فتتذكر، أو ربما كان يشير إلى الواقعة الغرامية بين داود وبتشبع. ولم أكن أعلم أن للسطوح سرا باتعا بهذا الشكل! ولأن الشىء بالشىء يُذْكَر فقد كنا ونحن صغار (وكان ذلك فى منتصف الخمسينات من القرن الماضى) نتجمع ليلا على إحدى المصاطب قريبا من بيوتنا فى ضوء القمر ثم يحكى البارعون منا فى الكلام حواديت، وكان من بيننا ولد عفريت يمتهن مع زوج أمه مهنة صنع الغرابيل والمناخل، فكان يحكى لنا دائما حدوتة واحد من أصحاب هذه المهنة كان يعاكس النساء وهو ينادى على بضاعته، فيرفع عقيرته صائحا أمام البيوت التى يمر بها: "يا ستى يا اللى فوق السطوح! آجِى واللا ارُوح؟ يا اللى عاوزة المنخل"! فهذه ثلاثة شواهد على مدى أهمية السطوح فى حياة البشر، ولو بحثتم عن شواهد أخرى فأنا موقن أنها متوفرة بغزارة! لكن الذين ذكروا هذا النسب الـ"أى كلام" نَسُوا للأسف أنه هو نسب يوسف النجار. يا ألطاف الله! يعنى: الحكاية مطيَّنة من الناحيتين: فهو أولا نسب مزوَّر وملخبط، وثانيا نسب مريب يسىء للسيد المسيح، الذى نجلّه نحن المسلمين ولا نرضى أن تناله شبهة إساءة، فهو نبى من أنبياء الله الأطهار، عليه أفضل الصلوات وأزكى السلامات، ولعن الله كل من تسوِّل له نفسه النجسة الإساءة إليه ولو بالتلميح من بعيد!
لكن نعود للنسبين: الإلهى والبشرى، ونتساءل: لماذا هذا الاختلاف بين الكاتبين فلم يذكر كل منهما النسبين فيريح ويستريح؟ سيقولون إن كلا منهما ركز على جانب من جانبى السيد المسيح. لكن السؤال هو: ولماذا لم يكن كل منهما واضحا فى هذه المسألة التى تقوم عليها الديانة التى ينتمى إليها فيقول بصريح العبارة إنه قد ركز على جانب واحد من الأمر وترك الجانب الآخر من أجل كذا وكذا؟ كما أن ثمة سؤالا آخر فى غاية الخطورة: ترى هل معنى تركيز متّى على الجانب البشرى فى المسيح أن ينسبه، وفى بداية الإصحاح الأول منه، إلى يوسف النجار، الذى كان كثير من اليهود وما زالوا يتهمون به مريم عليها السلام؟ إن أقل ما يقال فى متّى أنه قد أعطى بذلك أعداء المسيح صلى الله عليه وسلم السكين لطعن شرفه وعِرْض أمه الكريمة الطاهرة التى رفعها القرآن الكريم فوق نساء العالمين، إن لم نقل فيما فعله ذلك المؤلف أكثر من هذا! وهاهو ذا متّى يؤكد أنه ابن يوسف ومريم معا فى أكثر من موضع، إذ يصفهما مثلا بأنهما: "أَبَوَاهُ" (2/ 41)، "وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ..." (2/ 27)، كما تقول مريم مخاطبة عيسى الصغير وهى تشير إلى يوسف ونفسها:"يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَ ذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" (2/ 48).(/7)
كذلك يقول لوقا فى ذات الفصل إن الملاك قد ظهر لمريم مبشرا إياها أنها ستلد ولدا اسمه يسوع، قائلا لها مرة إنه سوف يُدْعَى: "ابن العَلِىّ"، ومرة أخرى: "ابن الله"، أما متّى فيقول فى نفس الفصل أيضا إنه سيُدْعَى: "عِمّانوئيل"، أى "الله معنا". فهذا تناقض فيما قاله الملاك، فضلا عن أنه فى رواية متّى لم يقل هذا لها هى، بل ليوسف، وهو تناقض آخر! وهاتان هما الروايتان على الترتيب: "30فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. 31وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. 32هَذَا يَكُونُ عَظِيماً ، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،33وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَد، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة .34فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ 35فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ (هكذا وردت فى طبعة المشباك التى رجعتُ إليها، والصواب: "لها"): اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ ،وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ ، فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ"، "20وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هَذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. 21فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ . لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم . 22وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ : 23 هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً ، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيل الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا".
وحين يولد عيسى بن مريم عليه السلام يحكى لنا متّى (ف 2) حكاية فى منتهى الطرافة تخالف العقل من كل ناحية نظرت إليها وبأى معنى حاولت أن تفهمها. ولنسمع أولا الحكاية ثم نفصل القول فيها بعض التفصيل حتى يتضح وجه طرافتها ومجانبتها للعقل: "1وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ 2قَائِلِينَ:«أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». 3فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. 4فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ:«أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» 5فَقَالُوا لَهُ:«فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: 6وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».7حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. 8ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ:«اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ». 9فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. 10فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. 11وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. 12ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ".(/8)
والآن إلى تحليل الحكاية الطريفة المجانبة للعقل: أول كل شىء أن المجوس يتحدثون عن مَلِك لليهود. فأين ذلك المَلِك؟ لقد وُلِد المسيح عليه السلام فى مِذْوَد، لا فى قصر ملكى، وكان ولى أمره نجارا لا قيصرًا ولا كسرًى ولا فرعونًا من الفراعين. كما أنه لم يصر ملكا فى يوم من الأيام بأى معنى من المعانى. الشىء الثانى أن هؤلاء المجوس الآتين من المشرق قد أخذوا يسألون عن ملك اليهود، وهو ما يدل على أنهم كانوا بحاجة إلى من يسألونه عن مكان هذا المَلِك المزعوم لا أنهم كانوا يعرفونه. لكننا بعد قليل سوف نسمع "الراوى يا سادة يا كرام" يقول إن النجم المذكور سوف يظهر لهم ويسير أمامهم، ثم يجىء ويقف فوق بيت الملك المزعوم. فأى الروايتين نصدق بالله عليكم؟ وثالثا فإن "الراوى يا سادة يا كرام" يتحدث عن تحرك النجم أمام هؤلاء المجوس وكأنه كان يمشى بنفس إيقاع حركتهم، فهل هذا معقول؟ وهل كان يتوقف نهارا حتى يستطيعوا استئناف رؤيتهم له ليلا فلا يضلوا عنه بعد أن يكون قد سبقهم فى سماء الله الواسعة؟ أعطونى عقلكم من فضلكم أتصبر به! اللهم إلا إذا قالوا إنه نجم "نونو" كان لا يزال فى اللفّة، فلم يكن قد تعلم المشى بعد، دَعْكَ من الجرى بسرعة لا تطولها سرعة الصاروخ ولا فى الأحلام، بل كان يحبو على أربع، وكانت أمه النجمة الكبيرة (نجمة حقيقية من نجوم السماء لا من بتوع السينما) تصفق له وقد أدارت له شريط أحلام: "تاتا خَطِّ العتبة! تاتا حَبّة حَبّة!"، فإن كان كذلك فإنى أسلِّم من الآن وأغلق فمى فلا أفتحه أبدا! وهذا النجم هل يمكن أن نصدق أنه قد انخلع من مداره ولم يسقط مع ذلك فى الفضاء السحيق مثل أى نجم يخرج عن فَلَكه؟ ثم ما معنى قول الراوى عن النجم إنه "جاء ووقف فوق"، أى فوق البيت الذى كان فيه الملك الرضيع المزعوم؟ والسؤال هو: جاء من أين؟ من السماء طبعا؟ وإلى أين؟ إلى تحت طبعا بحيث يكون قريبا من المذود الذى كان فيه الطفل الرضيع. أليس هذا هو ما نفهمه من النص بدون أى تكلف؟ فهل هذا ممكن، ونحن نعرف أن النجم أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة؟ أما ما يقال من أن هؤلاء المجوس كانوا يحملون بعض الآلات الهندسية التى يمكنهم أن يحددوا عن طريقها مكان المذود مع الاستعانة بالنجم، كبيرة كانت هذه الآلات أم صغيرة، فأمر يبعث على الضحك لأن النص لم يقل ولا يمكن أن يقول شيئا عن هذا، ذلك أنهم لم يكونوا فلكيين، وإلا ما فاتت هذه متّى ولشنّف آذاننا بها. وقد رأينا المجوس فى البداية لا يعرفون كيف يستدلون على المكان، فكانوا يسألون الناس. ولو كانت معهم آلات فلكية ما كانوا بحاجة إلى مثل هذا السؤال أصلا! أليس كذلك؟ ثم كيف يا ترى استطاعوا التفاهم مع مريم ويوسف، وهم من غير أهل البلاد، أى لم يكونوا يتكلمون لغة الأم وخطيبها؟ وثالث عشر (أو رابع عشر، لا أدرى بالضبط): من أى كتابٍ أو فمٍ عَلِمَ أولئك المجوسُ بأمر ذلك النجم؟ بل لماذا يهتم المجوس بذلك الأمر أساسا، وهم ليسوا من اليهود؟ ولماذا ينبغى أن يشعروا أنهم لا بد لهم من السجود لملك بنى إسرائيل؟ ترى بأى كتاب أم بأية سنة وجب عليهم هذا؟ وبعد أن رَأَوْا ملك اليهود لماذا لم يَبْقَوْا إلى جانبه ما داموا قد تكلفوا مشاق ذلك السفر الطويل الذى يهدّ القُوَى؟ أو على الأقل لماذا لم يظهروا ثانية فى حياة السيد المسيح حين كبر وأعلن دعوته وشرع يبشر بملكوت السماوات؟ وهو نفس السؤال الذى يصدق على جماعة الرعاة فى حكاية لوقا المقبلة بعد قليل، فاستعدوا لها.
وثمة أسئلة كثيرة أخرى لا أريد أن أرهق القارئ بها فأكتفى بهذه، وأنبه إلى أن هذه الحكاية هى من اختراع متّى وإحدى بُنَيّات خياله: سجلها باسمه ببراءة اختراع خاصة به، ولهذا لا نجدها فى أقاصيص الأناجيل الثلاثة الباقية، بل نجد بدلا منها قصة مخترعة أخرى عند لوقا، الذى رأى أنه لا يصح أن يكون أقل مقدرة على اختراع القصص الشائقة (الشائقة على ما بها من ثغرات كثيرة مزعجة رغم طرافتها)، فأورد حكاية مختلفة عن جماعة من الرعاة ظهرت لهم الملائكة وهى تترنم مبشرة بولادة عيسى عليه السلام... إلى آخر ما قاله فى الفصل الثانى من إنجيله عن أولئك الرعاة المساكين الذين لا لهم فى الثور ولا فى الطحين، لكن لوقا أكرههم على الظهور فى حكايته إكراها. ولهذا لا نراهم، بل لا نسمع بهم أو عنهم مجرد سماع بعد ذلك أبدا بما يدل على أن مؤلف القصة يفتقر إلى القدرة على إحكام الحبكة الفنية وأنه إنما أراد ألا يتأخر عن متّى فى التأليف والاختراع. ثم لماذا تظهر الملائكة لجماعة من الرعاة ليس لهم فى حياة السيد المسيح عليه السلام أى دور يؤدونه ولا حتى دور الكومبارس؟(/9)
وهذه هى الحكاية الشائقة: "1وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. 2وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. 3فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. 4فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، 5لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. 6وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. 7فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. 8وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، 9وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. 10فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: 11أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. 12وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». 13وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: 14«الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».15وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ». 16فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. 17فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. 18وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. 19وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. 20ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ".
وحينما سألتْ يحيى، عليه السلام، الجموعُ التى أتت لتتعمد على يديه هل هو نفسه المسيح، جاء رده على النحو التالى فى الأناجيل المختلفة: "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ ، وَلَكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي ، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (لوقا/ 1/ 169)، " أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلَكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ.27 هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِه" (يوحنا/ 1/ 26- 27)، "11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ ، وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي ، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 12الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ" (متى/ 3/ 11- 12)، "يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُس" (مرقس/ 1/ 7- 8). وبنظرة سريعة نستطيع أن نتبين الاختلاف الموجود بين نص كلام يحيى فى الأناجيل الأربعة ما بين أنه لا يستحق أن يحل سيور حذاء المسيح أو أنه لا يستحق حمل الحذاء أو سكوت القصة عن هذه النقطة أصلا، وكذلك الاختلاف فى أن المسيح سوف يعمدهم بالروح القدس والنار أو بالروح القدس فقط... إلى آخر الاختلافات بين نصوص الأناجيل الأربعة.(/10)
ونسمع يحيى فى إنجيل لوقا (الفصل الأول) يشتم الجموع كلها التى أتت لتتعمد على يديه: "7وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ الَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي ، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. ولاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ : إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْرَاهِيمَ. 9وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّار. 10وَسَأَلَهُ الْجُمُوعُ قَائِليِنَ : فَمَاذَا نَفْعَلُ؟ 11فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ : مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هَكَذَا "، على حين أن شتائمه فى لوقا (الفصل الثالث) تقتصر من هذه الجموع على الفَرِّيسيّين والصَّدُّوقيّين وحدهم: "7فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي ، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ". أما فى مرقس ويوحنا فلا ذكر لتلك الشتائم!
وفى متّى (4/ 15) أن الملائكة جاءت وصارت تخدم المسيح بعد أن فشل الشيطان فى أن يُغْوِيَه أثناء الأيام الأربعين التى قضاها عليه السلام فى البَرِّّية صائما فانصرف عنه: "12ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ"، أما فى مرقس (1/ 13) فكانت الملائكة تخدمه فى الوقت الذى كان يجرَّب فيه من الشيطان: "13وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ". وهذا تناقض لا أدرى كيف نحلّه!(/11)
أما بالنسبة لأول لقاء تم بين المسيح عليه السلام وسمعان وأندراوس (تلميذان من تلاميذه) فهكذا يحكيه لنا يوحنا (الفصل الأول) :"35وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 36 فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ ! . 37 فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟ 39فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَانْظُرَا . فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ. 40كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. 41 هَذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ . 42فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ . 43 فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي . 44 وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. 45فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَة". فإذا يممنا وجوهنا نحو متّى (الفصل الرابع) راعنا أن القصة مختلفة بما لا يمكن التوفيق بينها وبين رواية يوحنا: "18وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 19فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاس. 20فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا ، فَدَعَاهُمَا. 22فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ"، ومثلها رواية مرقس (الفصل الأول):"14وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ 15وَيَقُولُ: قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيل .16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاس . 18فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ". فها نحن أولاء إزاء روايتين مختلفتين فى موضوع واحد اختلافا لا يمكن تجاهله والمرور فوقه دون اهتمام بمغزاه، وهو مغزى خطير بالنسبة لعصمة الكتاب المقدس كما لا بد أن يخطر فى بال القارئ! فأين يا ترى تم ذلك اللقاء الأول بين المسيح وتلميذيه؟ هل لَقِىَ السيد المسيح الأخوين المذكورين عند أبيهما بجوار القارب؟ أم هل فى حلقة يحيى يستمعان إلى مواعظه؟ مشكلة كبيرة لا سبيل لحلها!(/12)
وهناك ما يسمَّى بـ"موعظة الجبل"، فهل كانت فعلا فوق جبل كما يقول متّى، وهل كانت على النحو التالى:"5 1 وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. 2 فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً : 3 طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 4طُوبَى لِلْحَزَانَى ، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. 5طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 6طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ ،لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. 7طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. 8طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ. 9طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ. 10طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 11طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ ، مِنْ أَجْلِي ،كَاذِبِينَ. 12اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ. 13 أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ ، وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. 14أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ ، 15وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ ،بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ ،لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 17 لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا ،يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ ،فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.20فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. 21 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. 22وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. 23فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ ،24فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ ،وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. 25كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ ،لِئَلا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي ، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. 26اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ! 27 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا ، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 31 وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ . 32وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي ، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي. 33 أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. 34وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ(/13)
لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ ، 35وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. 36وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. 37بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ. 38 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. 39وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. 40وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. 41وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. 42مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. 43 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ ، 45لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. 46لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ 47وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟48فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. 6 1 اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ ، وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ ،4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 5 وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ ،فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ ،لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ. 9 فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. 10لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 11خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. 12وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ ، لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ ، وَالْقُوَّةَ ، وَالْمَجْدَ ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. 14فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاّتِكُمْ. 16 وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ ،18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ(/14)
عَلاَنِيَةً. 19 لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ ،وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ ،فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً ، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً ، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!24 لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ. 25لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26 اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ،وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟27وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ : إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ،يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا ، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. 33لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ. 7 1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا ،2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ 5يَا مُرَائِي ، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ ،وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! 6لاَ تُعْطُوا الْقَُدْسَ لِلْكِلاَبِ ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ ، لِئَلا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ. 7 اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 8لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. 9أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً ، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ 10وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً ،يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ 11فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! 12فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ. 13 اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ ،لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! 14مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! 15 اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ ، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! 16مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ(/15)
الشَّوْكِ عِنَباً ، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ 17هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً ، 18لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً ، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. 19كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 20فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.21 لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 22كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا ، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! 24 فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا ،أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. 25فَنَزَلَ الْمَطَرُ ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. 26وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا ، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. 27فَنَزَلَ الْمَطَرُ ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً! . 28فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، 29لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ".(/16)
وهل كانت بهذا اللفظ حرفيا وبنفس هذا الطول؟ أم هل كانت أقصر وبلفظ مختلف على نحو ما وألقاها المسيح فى سَهْلٍ لا فوق جَبَلٍ حسبما جاء عند لوقا (الفصل الخامس): "17وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ،18وَالْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. 19وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ.20وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. 21طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. 22طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. 23اِفْرَحُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا ، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ. 24وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. 25وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى ، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. 26وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ. 27 لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ،28بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. 29مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً ، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً. 30وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. 31وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هَكَذَا. 32وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا. 34وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. 35بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً ، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. 36فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ. 37وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. 38أَعْطُوا تُعْطَوْا ، كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُم .39وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ الاِثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ 40لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. 41لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 42أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي ، دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِكَ ، وَأَنْتَ لاَ تَنْظُرُ الْخَشَبَةَ الَّتِي فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. 43لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيّاً ، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. 44لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ تِيناً ، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ الْعُلَّيْقِ عِنَباً. 45اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ(/17)
الصَّلاَحَ ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ. 46وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ 47كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ 48يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً ، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذَلِكَ الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. 49وَأَمَّا الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً ، وَكَانَ خَرَابُ ذَلِكَ الْبَيْتِ عَظِيماً"؟
وحين ننتقل معه، صلى الله عليه وسلم، إلى كفرناحوم بعد تجريب الشيطان له فى البرية لمدة أربعين يوما كما تقول الأسطورة نفاجأ أن لدينا فى الأناجيل ثلاث روايات مختلفة لما حدث آنئذ: ففى لوقا: "31وَانْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ ، مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي السُّبُوتِ. 32فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. 33وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: 34 آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ ؟أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ ! . 35فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: اخْرَسْ ! وَاخْرُجْ مِنْهُ !. فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسْطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. 36فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ ؟لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ ! . 37وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ".
وفى يوحنا: "12 وَبَعْدَ هَذَا انْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتلاَمِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً 13 وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ،14 وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. 15 فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. 16وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ ! . 17فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي .18فَأَجَابَ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ : أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟ 19أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُه . 20فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ 21وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. 22 فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.23 وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. 24 لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. 25وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ".(/18)
وفى مرقس: "21ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ فَصَرَخَ24قَائِلاً: آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ! 25فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: اخْرَسْ ! وَاخْرُجْ مِنْهُ! 26فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ! 28فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ".
والآن أعتقد أن الروايات الثلاث تتحدث بنفسها ولا تحتاج لمن يستطلع خبرها، إذ هى واضحة وضوح الشمس: فلوقا يقول إن المسيح عليه السلام كان يذهب كل سبت إلى المجمع فيعلم أهل كفر ناحوم، وإنه أخرج ذات مرة شيطانا من أحد المصروعين كان يشغب عليه فى دروسه، وإن الناس عجبوا لما حدث وذاع صِيتُه بسبب ذلك فى المنطقة المحيطة. وغَنِىٌّ عن القول إننا، وإن آمنّا بأن المسيح كان يشفى المرضى، لا نصدق أن الشياطين التى تسكن الأجساد (إن كانت شياطين فعلا) تتكلم وتتحدى من يحاول إخراجها من جسد المصروع. أما يوحنا فلم يتعرض لما حدث منه أو له فى كفرناحوم، بل انتقل سريعا إلى أورشليم وأورد غضبه من تحول الهيكل على يد الكهنة والتجار والصيارفة إلى مكان للبيع وصرف النقود وحظيرة للبهائم، وسَوْقه، صلى الله عليه وسلم، كل ذلك أمامه إلى خارج المكان بالسوط، وفى ذات الوقت لم يذكر شيئا عما وقع منه من شفاء بعض المرضى. وتتبقى رواية متى، وخلاصتها أن قائدا من قواد المائة اعترض طريق المسيح طالبا منه أن يشفى غلاما له، ولما تهيأ عيسى للذهاب معه إلى منزله علّق القائد قائلا إنه ليس بحاجة إلى الانتقال معه إلى البيت حيث الغلام المريض، بل كل ما يحتاجه منه أن يقول كلمة فيُشْفَى المريض على الفور، فعَدّ عيسى هذا منه إيمانا قويا لا يتوفر لأى إنسان من بنى إسرائيل، وكانت النتيجة أن برأ الغلام لوقته وهو فى الدار.
ولا أظن القارئ إلا تنبه لاستجابة المسيح السريعة لقائد المائة، إذ أبدى استعداده للذهاب معه فى الحال لبيته ليشفى له غلامه، على عكس سلوكه مع المرأة الكنعانية التى كانت لها ابنة مريضة وأخذت تتذلل وتسجد له وتلح عليه، على حين يردّ هو على لهفتها بكلمات قارصة مذلة بحجة أنه لم يُرْسَل إلا لخراف بنى إسرائيل الضالة (رغم أن قائد المائة هو أيضا أممى مثلها، أى من غير بنى إسرائيل)، حتى استجاب لها أخيرا، ولَمّا يَكَدْ! أتراه فعل هذا لأن الرجل قائد عسكرى، بينما هى مجرد امرأة مسكينة لا حول لها ولا طول؟ إننا لا نقصد بأى حال أن السيد المسيح قد فعل ذلك حقا، بل نقصد أن متّى (أقصد من ألف هذا الإنجيل، وهو ليس متى الحوارى بأى حال، وأغلب الظن أنه لا يسمى: "متّى" أصلا) قد عكس نفسه وأخلاقه على المسيح، ورسول الله من مثل ذلك السلوك براء!(/19)
ثم عندنا معجزة الخبز والسمك، وكل من مؤلفى الأناجيل يكتبها بطريقته التى تتفق مع ما قاله غيره فى أشياء، وتختلف فى أشياء: فمثلا هل كانت الجموع قد مكثت مع عيسى عليه السلام عدة أيام قبل أن يفكر فى مشكلة الطعام وكيفية تدبيره لهم؟ أم هل كان ذلك فى أول يوم؟ وإذا كان فى أول يوم، فهل كان ذلك بعد الوعظ؟ أم هل كان بمجرد أن رفع بصره ورآهم مقبلين نحوه؟ كما أن بعض الروايات تقول إنه "خرج" ليقابل تلك الجموع، فما المقصود بالخروج هنا، وهو إنما كان فى موضعٍ خلاء؟ ثم كيف يا ترى تم التفكير فى مشكلة الطعام؟ هل الحواريون هم الذين لفتوا نظره إليها؟ أم هل هو الذى فكر فيها ابتداء وطلب منهم أن يفكروا معه فى حلها؟ وهل هم الذين عرضوا عليه أن يذهبوا فيشتروا الطعام؟ أم هل هو الذى عرض عليهم ذلك؟ هنا تختلف الروايات، وإن اتفق الأربعة على أن هناك معجزة طعامية قد وقعت أشبع فيها السيد المسيح عدة آلاف من البشر، لا ندرى أهم أربعة آلاف أم خمسة؟ وهل كانوا رجالا فقط حسبما يُفْهَم من بعض الروايات أو كان هناك نساء وأطفال أيضا كما نصّت بعض الروايات الأخرى؟ وماذا كان عدد الأرغفة؟ أكانت خمسة أرغفة أم كانت سبعة؟ والسمكات: هل كانت سمكتين تحديدا؟ أم المقصود أنها كانت قليلة العدد جدا، والسلام؟ والأرغفة التى تبقت بعد أن أكلت الجموع وشبعت: هل ملأت سبع سلال (أو قُفَّة. واختر ما يعجبك، فإنها لا تفرق كثيرا)؟ أم هل ملأت اثنتى عشرة قُفَّة (أو سَلَّة)؟ ثم هل بقيت أسماك بعد الأكل أو لم يتبقّ إلا الخبز فقط؟ وماذا كان مصير ذلك الخبز؟ هل تركوه وراءهم على أساس أن المسيح موجود فى كل حين يستطيع أن يتكفل لهم بالطعام والشراب دون تعب منهم أو مشقة؟ أم هل تقاسموه بينهم تحسّبا للمفاجآت؟ على كل حال نترك القارئ مع الروايات المختلفة للحكاية:
متى: "13فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ.14فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. 15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاما . 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا . 17فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا هَهُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَان . 18فَقَالَ: ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا . 19فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ . ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. 20فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. 21وَ?لآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ".(/20)
مرقس: "8(إلى9 :1) 1فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 2((إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. 3وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيد.((مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟ 5فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ . 6فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا ، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. 8فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا . ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. 9وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ.11فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ.12فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!. 4((مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟ 5فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ . 6فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا ، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. 8فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا . ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. 9وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ.11فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ.12فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً"!
يوحنا: "61 بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. 2وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي الْمَرْضَى. 3فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. 4 وَكَانَ الْفِصْحُ، عِيدُ الْيَهُودِ، قَرِيباً. 5 فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟ 6 وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. 7أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيرا . 8 قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: 9 هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟ 10فَقَالَ يَسُوعُ: اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُون . وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. 11 وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ، وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. 12 فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: اجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَي ْء . 13 فَجَمَعُوا وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ، الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ. 14فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ! 15 وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ".(/21)
لوقا: "10وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا ، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. 11فَالْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. 12فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاِثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً ، لأَنَّنَا هَهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَء . 13فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَاماً لِهَذَا الشَّعْبِ كُلِّه. 14لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِين . 15فَفَعَلُوا هَكَذَا، وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ. 16فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. 17فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً".
ونفس الاضطراب نجده فى أسماء الرسل الاثنى عشر الذين يقال إن عيسى بن مريم عليه السلام أرسلهم للتبشير بملكوت السماوات بين بنى إسرائيل، فهناك روايتان تذكران تداوس، وهناك رواية تذكر بدلا منه يهوذا أخا يعقوب (يعقوب من؟ لا ندرى لأن لدينا يعقوبين لا يعقوبا واحدا). وبطبيعة الحال لا نستطيع أن نعرف أىٌّ هى الصحيحة، إن كانت هناك رواية صحيحة أصلا، فكل شىء فى الأناجيل مُشْكِل إلا القليل. ويقول محررو "تفسير الكتاب المقدس" إن يهوذا وتداوس قد يكونان شخصا واحدا (5/ 107)، وهو توجيه سخيف وكلام فارغ يبدو أن صاحبه قد كتبه وهو سكران، وإلا أفلا يعرف أن تداوس لم يُذْكَر أنه أخ ليعقوب (سواء كان يعقوب بن حلفى أو يعقوب بن زبدى) على عكس ما قيل عن يهوذا ذاك وعن غيره؟ فضلا عن أن تداوس كان له اسم آخر هو لباوس، فلا يعقل أن يكون له ثلاثة أسماء، وإلا كانت الحكاية سِيبَة! المهم أن هؤلاء الشراح واعون بهذه الكارثة، وإن حاولوا بخفة واستهتار أن يقدموا لها حلا مضحكا لا يقنع الطفل الصعير! وإلى القارئ الكريم لائحة التلاميذ الاثنى عشر كما وردت فى الأناجيل الثلاثة:
متى (الفصل العاشر): "101ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا ، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. 2وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هَذِهِ: الأَََوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي ، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. 3فِيلُبُّسُ ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا ، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى ، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. 4سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. 5هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا ، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ".
مرقس (الفصل الثالث): "13ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. 14 وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، 15وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. 16وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. 17 وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ . 18 وَأَنْدَرَاوُسَ ، وَفِيلُبُّسَ ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ ، وَمَتَّى وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ ، وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، 19وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ".(/22)
لوقا (الفصلان السادس والتاسع): "12وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ لِلَّهِ.13وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضاً رُسُلا : 14سِمْعَانَ الَّذِي سَمَّاهُ أَيْضاً بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. 15مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ الَّذِي يُدْعَى الْغَيُورَ. 16يَهُوذَاأَخَا يَعْقُوبَ ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي صَارَ مُسَلِّماً أَيْضاً... 91دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، 2وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى. 3وَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ : لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً ، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. 4وَأَيَُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا ، وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. 5وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ ، وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِم . 6فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِع ".
ولقد قرأنا فى ذيل قائمة متّى الخاصة بأسماء الحواريين ما قاله المسيح لهؤلاء التلاميذ، وهذا نصه مرة أخرى من باب التذكرة: "5هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ"، وهو ما يدل أيضا على أن رسالته إنما هى لبنى إسرائيل وحدهم كما قال هو نفسه أكثر من مرة حسبما رأينا من قبل، ومن ثم فهو لم يأت للتكفير عن الخطيئة الأولى للبشرية جمعاء عكس ما يقال! وهذه مشكلة كبيرة لا أدرى كيف يمكن التغلب عليها! ومع ذلك فلسوف ينطلق هؤلاء التلاميذ فيمضون إلى الأمم ويتركون بنى إسرائيل، فمن أذن لهم بهذا بعد كل النهى الذى نهاهموه ربهم (كما يقولون عنه، أستغفر الله العظيم من كل ذنب وكفر، أو نبيهم كما نقول نحن)؟ هذه مشكلة أو بالحَرَى: كارثة أخرى! استر يا ستار! ليس ذلك فقط، بل إن المسيح نفسه قد قام بشفاء ابنة امرأة سامرية، وكان من نتيجة هذا أن آمن به، عليه السلام، كثير من السامريين ودَعَوْه إلى بيوتهم فاستجاب لهم وعاش بينهم يومين كاملين، وكان تعليقهم على ذلك أن "هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم"، أى ليس مخلص بنى إسرائيل وحدهم: "39فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْت. 40فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ.41فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ. 42وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَم" (يوحنا/ ف 4). كما أنه استجاب لامرأة كنعانية وشفى لها بنتها، وإن كانت قد أُذِلّت أولا إذلالا كثيرا قبل أن يستجيب لها، وبالمثل نزل على رجاء أحد الضباط الرومان وشفى له غلامه رغم أنه أعلن مرارا أنه لم يرسل إلا لخراف بنى إسرائيل!(/23)
آه، لكنك يا حضرة الكاتب (الذى هو أنا) قد نَسِيتَ فيما يبدو أن المسيح نفسه قد عاد فى كلامه (ومن منا لا يعود؟ فلا تكن إذن حنبليا هكذا!) فأَمَرَهم أَمْرًا أن يذهبوا إلى الأمم الأخرى من غير بنى إسرائيل ويدعوهم بدعوته. أما تعليقى على هذا (أنا حضرة الكاتب) فهو أن ذلك حدث بعد أن مات المسيح (حسب كلامهم) ثم قام من القبر (أيضا بناء على كلامهم)، والمعروف أنه بعد العيد لا يُفَتَّل كعك! فليس من المعقول أن تنتهى حياته عليه السلام على الأرض ولا يتذكر مثل هذا التشريع إلا بعد أن يتم الصلب والقتل ولم تعد تربطه بالأرض رابطة. أما لو أصررتم على أن هذا تشريع صحيح، فعليكم أن تقرّوا أن هذا هو النسخ بعينه، وهو ما تشنِّعون به على الإسلام كيدًا رخيصًا مضحكًا. لكنه يظل مع ذلك نسخا غريبا غير مقنع، إذ إن الموضوع الذى بين أيدينا لا يقبل بطبيعته الدخول فى ميدان النسخ، فالمفروض أن المسيح عليه السلام إنما جاء منذ البداية خِصِّيصًا بغرض التكفير عن البشرية كلها لا عن بنى إسرائيل وحدهم، وهذه ليست مسألة تشريعية يُرَاعَى فيها التدرج والنسخ من ثَمَّ. ولقد جاء فى "إنجيل الولادة" (The Gospel of The Nativity of Mary) ما نصه من كلام الملاك الذى أتى ليوسف النجار فى المنام حينما لاحظ أن مريم خطيبته حامل وشرع الشك والقلق ينهشان قلبه: "For she alone of all virgins shall bring forth the Son of God, and thou shalt call His name Jesus, that is, Saviour; for He shall save His people from their sins. "، وهو ما يعنى بصريح العبارة أن الخلاص الذى أتى به المسيح إنما هو لبنى إسرائيل فحسب، ولا يتعداهم إلى ما وراءهم من أمم العالم. وبالمناسبة فقد نسخ المسيح أشياء أخرى من شريعة موسى رغم أنه كان قد وعد ألا يغير منها شيئا، ثم جاء بطرس وبولس فجاءا بدُرَفها، والحمد لله الذى لا يحمد على المجىء بالدُّرَف سواه! وهذا هو النص الذى أورده مرقس وحده مناقضًا به بقية مؤلفى الأناجيل الأربعة:
"14أَخِيرًا ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15وَقَالَ لَهُمُ:«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئًا مُمِيتًا لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ».19ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ. 20وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَة"ِ.
وبالنسبة لما قام به عيسى بن مريم من معجزات شاعت واستفاض ذِكْرها وما قاله هيرودس تعليقا على هذا نجد أن لدينا فى القصص المسماة بالأناجيل أكثر من رواية، وبعض ما جاء فى هذه الروايات واحد، وبعضه مختلف أو متناقض. وهذه هى الروايات ليقرأها القارئ بنفسه ويحكم لنفسه:
متى (الفصل الرابع عشر): "14 1 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ، 2فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ! وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّات . 3 فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، 4لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَك . 5وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. 6ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ ، رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسَطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. 7مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. 8فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: أَعْطِنِي هَهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان . 9فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ. وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى. 10فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. 11فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ ، فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا.12فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ".(/24)
مرقس (الفصل السادس): "14فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّات . 15قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيلِيَّا . وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ . 16وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ! 17لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. 18لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ)) 19 فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، 20لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيراً ، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. 21وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ ، 22دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَك . 23وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي . 24فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: مَاذَا أَطْلُبُ؟ فَقَالَتْ: رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان . 25فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ . 26فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. 27فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. 28فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. 29وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ".
لوقا (الفصل التاسع): " 7فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ ، وَارْتَابَ ، لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَات . 8وَقَوْماً: إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَر . وَآخَرِينَ: إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الْقُدَمَاءِ قَام . 9فَقَالَ هِيرُودُسُ: يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا؟ وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ".
ففى الراويتين الأُولَيَيْن نسمع هيرودس نفسه يقول: "هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!"، ومعنى ذلك أنه كان مطمئنا إلى أن المسيح هو يوحنا، الذى كان هو ذاته قد قتله: قام من القبر وعاد للحياة كرة ثانية. ومع ذلك ففى رواية لوقا نجد كلاما آخر. إنه غير مطمئن إلى شىء، وليس هو الذى قال إن المسيح هو يوحنا قام من الأموات، بل غيره هو الذى قال ذلك، وهناك آخرون قالوا شيئا ثالثا. هذه واحدة، أما الثانية فقول إحدى الروايات إن هيرودس كان يؤمن أن يوحنا نبى، ولهذا لم يشأ فى البداية أن يقتله، أما فى الروايتين الأُخْرَيَيْن فتقولان إنه إنما تردد فى قتله فى البداية مراعاة لمشاعر الناس، إذ كانوا يؤمنون بنبوته، أما هو فلا. وهاتان مشكلتان كبيرتان تحتاجان إلى حل، لكن هذا الحل غير متوفر للأسف!(/25)
ولدى سؤال التلاميذ لمعلمهم عمن يكون الخائن الذى سيسلمه لأعدائه ليقتلوه (كبرت كلمة تخرج من أى فم يقول إن عيسى بن مريم قد قُتِل وصُلِب!) يجيب المسيح عليه السلام حسب رواية يوحنا (الفصل الثالث عشر) بأن الخائن هو الذى سيغمس لقمته معه فى نفس الطبق: "26أَجَابَ يَسُوعُ: هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ! فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ. 27فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَة. 28وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه، 29لأَنَّ قَوْماً، إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا، ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ، أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ "، بخلاف ما جاء فى الفصل السادس عشر من متّى، الذى يقول: "20وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. 21وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي . 22فَحَزِنُوا جِدّاً ،وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟ 23فَأَجَابَ وَقَالَ : الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي! 24إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ ،وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ! . 25فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ : هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ لَهُ: أَنْتَ قُلْت"، وهو نفسه ما قاله مرقس (الفصل الثانى عشر): "18وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ قَالَ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي! 19فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِداً فَوَاحِداً: هَلْ أَنَا؟ وَآخَرُ: هَلْ أَنَا؟ 20فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!". أما رواية لوقا (الفصل الثانى والعشرون) فتقول شيئا مختلفا عن هذا وذاك جميعا: "17ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ ، 18لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ الله . 19وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي . 20وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. 21وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. 22وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ! . 23فَابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟". فأى هذه الروايات الثلاث هى التى ينبغى أن نصدّق إن كان لنا أن نصدق؟ نحن المسلمين بطبيعة الحال لا نصدق البتة شيئا من هذا، لكننا نحب أن نلفت النظر إلى الاضطراب والتناقض فيما يقوله مؤلفو الأناجيل!(/26)
وحينما دنت ساعة الموت (حسبما تقول الأناجيل) نقرأ عند متّى (ف 26) ومرقس (ف 14) أنه، صلى الله عليه وسلم، كان حزينا مكتئبا، وكان يصلى ويلحّ فى الدعاء أن يجنبه الله شرب تلك الكأس المرة، ثم لما جاء رجالُ الشرطة وخَدَمُ رؤساء الكهنة ليقبضوا عليه فرّ عنه التلاميذ هاربين، وإن انفرد متّى بأنه عليه السلام عندما قبّله يهوذا قبلة الخيانة كان تعليقه: "يا صاحبى، لماذا جئت؟"، مثلما انفرد مرقس بأن الشرطة قد حاولت القبض على أحد الشبان الذين تبعوه وأمسكته من إزاره فخلعه عن نفسه وتركه لهم وجرى عريانا. أما فى لوقا (ف 22) فليس فيها شىء عن فرار التلاميذ ولا عن الشاب الذى هرب عريانا، كما أن العبارة التى قالها المسيح ليهوذا تختلف عما سمعناه فى رواية متى، إذ قال له هنا: " أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟ "، بل إن لوقا لم يذكر هل قبّله يهوذا فعلا أو لا، إذ الموجود عنده هو: "فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. 48فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا ، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟"، على حين أن يوحنا (ف 18) لا يعرف شيئا عن حكاية القبلة هذه التى ضُرِب بها المثل، بل كل ما هنالك أن يوحنا كان واقفا معهم، فضلا عن أن وقائع القبض على المسيح تختلف عما فى الروايات الأخرى اختلافا شديدا، فتلك الروايات تتحدث عن قوله مقرّعا القادمين للقبض عليه: "أعَلَى لصٍّ خرجتم؟" ثم تقدُّمهم وإلقائهم القبض آنذاك عليه، أما هنا فإنه ما إن يقول: "أنا هو"، حتى نفاجأ بهم يتراجعون للخلف ويسقطون على ظهورهم. أما التلاميذ فلم يفرّوا بل هو الذى طلب من المهاجمين أن يَدَعوهم ينصرفون بسلام. وهذه كلها مصائب متلتلة كان الله فى عون من يحاول أن يداوى شروخها التى تنذر بسقوط البناء كله!
فإذا تحولنا إلى مشهد المحاكمة راعنا أيضا الاختلاف بين الروايات: فرواية تقول إن عيسى، لما سئل: "هل قلت إنك المسيح ابن الله؟"، قد أجاب: "أنا هو"، ورواية تقول إنه اكتفى بعبارة : "أنت قلت"، وثالثة لا يجيب بنعم أو لا، بل نسمعه يقول: "إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ، 68وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي" . كما أن بعض الروايات تتحدث عن أن الضرب واللطم ابتدأ بعد أن تمت إدانته، وبعضها يذكر ذلك منذ البداية، ورواية تذكر الجَلْد، وبقية الروايات لا تذكر هذا، ورواية لا تذكر من كل ذلك سوى أن أحد الخدم صفع عيسى عليه السلام على وجهه قرب نهاية المحكمة على ما عَدَّه جرأة منه فى مخاطبة رئيس الكهنة. أما يوحنا فقد سكت فلم يورد طبيعة السؤال الذى سُئِلَه عيسى عليه السلام، وكل ما هناك أنهم سألوه عن الأمور التى كان يدعو بها، وأنه قد أجاب بأنه إنما كان يدعو بما عنده علانية لا فى الخفاء، فليسألوا إذن أولئك الذين كان يعلمهم، فعندهم الجواب:
متى (ف 26): " 7وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ ،حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. 58وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ ،فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. 59وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، 60فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ ،لَمْ يَجِدُوا. وَلَكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ 61وَقَالاَ: هَذَا قَالَ : إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ ،وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيه . 62فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟ 63وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ : أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟ 64قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ ،وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاء . 65فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! 66مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَأَجَابُوا وَقَالوُا: إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْت . 67حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ 68قَائِلِينَ: تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟" .(/27)
مرقس (ف 65): "53فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ، وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا 56لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: 58 نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَاد . 59وَلاَ بِهَذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قَائلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟ 61أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ 62فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ . 63فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟ فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: تَنَبَّأ . وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ".
لوقا (ف 22): "63وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، 64وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِليِنَ : تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟ 65وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ.66وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ 67قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ ، فَقُلْ لَنَا! . فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ، 68وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. 69مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ الله . 70فَقَالَ الْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُو . 71فَقَالُوا: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِه" .
يوحنا (18): "19فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ. 20أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. 21لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا .22وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً ، قَائِلاً: أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟ 23أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ 24وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ".(/28)
فإذا بلغنا ندم يهوذا على ما ارتكب من غدر وخيانة ألفينا أمامنا هاتين الروايتبن: فالأولى، وهى موجودة لدى كتاب الأناجيل، تقول إنه ذهب فردَّ الثلاثين فضة التى كان قد أخذها من الكهنة لقاء خيانته وغدره بمعلمه، ثم ثنّى بشنق نفسه: "27 1 وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ ،2فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي. 3حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ ،نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ 4قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئا . فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! 5فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ،ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. 6فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَم . 7فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. 8لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ حَقْلَ الدَّم إِلَى هَذَا الْيَوْمِ" (متى/ 27، وبقية الأناجيل تنحو نفس المنحى)، أما الرواية الثانية فنعثر عليها فى "أعمال الرسل"، وفيها أنه قد انشق بطنه فى الحقل ولم ينتحر: ""18فَإِنَّ هَذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. 19وَصَارَ ذَلِكَ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ حَتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا» (أَيْ: حَقْلَ دَمٍ). 20لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آَخَرُ" (أعمال الرسل/ 1/ 18- 19). والآن أترك القارئ يحاول أن يزيل هذا التناقض براحته! المهم أنى قلت ما عندى، والسلام!
والآن إلى محاكمة بيلاطس للمسيح عليه السلام حسبما كتب مؤلفو الأناجيل. ولسوف نورد النصوص أولا ثم نثنِّى بتحليلها ومقارنة بعضها ببعض لنرى مدى اتساقها أو اختلافها أو تناقضها، وها هى ذى النصوص المذكورة:(/29)
متى (ف 27): "11فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلاً : أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُول . 12وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. 13فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ 14فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ،حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدّاً.15وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَاداً فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيراً وَاحِداً،مَنْ أَرَادُوهُ. 16وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. 17فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ 18لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 19وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ ،لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِه . 20وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. 21فَأَجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُمْ : مَنْ مِنْ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: بَارَابَاسَ! . 22قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: لِيُصْلَبْ! 23فَقَالَ الْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ! 24فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ ،أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ ! . 25فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَقَالوُا : دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا . 26حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ ،وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. 27فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، 28فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً، 29وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ ،وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ ،وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ ،نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ".(/30)
مرقس ( ف 15- 16):"15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ. 7وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. 9فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 10لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 11فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12فَأَجابَ بيِلاطُس ُأيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ 13فَصَرَخُوا أَيْضاً: اصْلِبْهُ! 14فقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: اصْلِبْهُ! 15فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ َنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. 16فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ.17وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 19وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ".(/31)
لوقا (ف 15- 16): "15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ. 7وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. 9فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 10لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 11فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12فَأَجابَ بيِلاطُس ُأيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ 13فَصَرَخُوا أَيْضاً: اصْلِبْهُ! 14فقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: اصْلِبْهُ! 15فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ َنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. 16فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ.17وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 19وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ".(/32)
يوحنا (ف 18- 19): "28ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. 29فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟ 30أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ! 31فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُم . فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا . 32لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.33ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ 34أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟ 35أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟ 36أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا .37فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي . 38قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ . وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. 39وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 40فَصَرَخُوا أَيْضاً جَمِيعُهُمْ قَائِليِنَ: لَيْسَ هَذَا بَلْ بَارَابَاسَ! وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصّاً. 191فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. 2وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوانٍ، 3وَكَانُوا يَقُولُونَ: السّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! . وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ. 4فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ: هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَة . 5فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ! . 6فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْخُدَّامُ صَرَخُوا قَائِليِنَ: اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّة . 7أَجَابَهُ الْيَهُودُ: لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّه . 8فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفاً. 9فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً. 10فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟ 11أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَم . 12مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِليِنَ : إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ! .13فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْبَلاَط وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ جَبَّاثَا . 14وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ ، وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: هُوَذَا مَلِكُكُمْ! . 15فَصَرَخُوا: خُذْهُ! خُذْهُ ! اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟ أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ: لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرَ! . 16فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ".(/33)
ومن خلال القراءة لنصوص الأناجيل فى هذه الواقعة يتبين لنا الآتى: أن ثمة تناقضا بين رواية يوحنا من جهة وروايات المؤلفين الثلاثة الآخرين من جهة أخرى، فعلى حين يتفق هؤلاء الثلاثة فى أن عيسى بن مريم لم يجب الوالى بأى شىء، اللهم سوى رده بكلمة "أنت قلت" على سؤاله: "أنت ملك اليهود؟"، نراه عليه السلام فى إنجيل يوحنا يناقش الوالى ويجادله ويشرح له موقفه وعقيدته وكيف أنه أتى إلى العالم من أجل مهمة محددة لولا هى لسارع إلى إنقاذه من سماهم: "خُدَّامِى". وها هما ذان النصان، وهما يدلان على أننا أمام روايتين لا يمكن التوفيق بينهما بحال مهما كان الموفِّق أكروباتيًّا عبقرىَّ الأكروباتيّة. وسوف أكتفى، من الروايات الثلاث المتفقة، برواية مرقس لأنها، فيما يخص كلام السيد المسيح فى رده على الوالى بيلاطس وصَمْته التام فيما عدا عبارة "أنت قلت"، لا تختلف عن الروايتين الأُخْرَيَيْن فى شىء، وهذه هى أولا: "15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ"، ثم ها هى ذى رواية يوحنا: ""28ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. 29فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟ 30أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ! 31فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُم. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا . 32لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.33ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ 34أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟ 35أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟ 36أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا .37فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي . 38قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ . وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. 39وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟". ولست أحسب الأمر الآن إلا قد اتضح تماما بحيث لا يمكن أن يخطر فى ذهن عاقل، أو حتى مجنون، أن هناك شبهةَ إمكانيةٍ للتوفيق بين الحكايتين. لو أن الأمر اقتصر على أن بعض الروايات قد أَوْجَزَتْ، وبعضها الآخر قد فَصَّل لما كانت هناك مشكلة لأن هذا لا يكون بالضرورة تناقضا، أما أن تقول بعض الروايات إنه لم يردّ على أى سؤال وجهه له بيلاطس، وتقول رواية أخرى إنه أجاب على كل أسئلة الوالى، فمن المؤكد أن ثمة خللا كبيرا وشيئا فاسدا يحتاج إلى الشعور بالخجل من الزعم بأن هذه اللخبطات هى وحى إلهى.(/34)
كذلك هناك مشكلة باراباس: فهل كان لصا كما تقول بعض الروايات أم هل كان أحد المشاركين فى الفتنة وأعمال القتل طبقا لما ورد فى رواية أخرى؟ هذه أيضا مشكلة! وفوق هذا فلدينا فى رواية لوقا أن بيلاطس لم يحكم على السيد المسيح ابتداءً، بل انتهز معرفته، أثناء مداولاته مع اليهود، إلى أنه من الجليل فحوّله إلى هيرودس، الذى يقول لوقا إنه كان متشوقا لرؤية المسيح لعله يستطيع أن يصنع أمامه آية. أما فى الروايات الأخرى فقد حكم عليه بيلاطس منذ البداية دون الرجوع لهيرودس. فكيف نحل هذه أيضا؟ الواقع أَنْ ليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فى التوفيق بين الروايات فى هذه النقطة بأى حال أو على أى وضع!
وفى روايات الصلب نجد ذات العجب: ففى بعض الروايات أن الذى حمل الصليب الخاص بصلِب المسيح رجل من القيروان (القيروان التى لم تُبْنَ إلا بعد ذلك بنحو ألف عام!) اسمه سمعان، أما عند يوحنا فالذى حمل صليب المسيح هو المسيح ذاته وليس شخصا آخر لا من القيروان ولا من الظهران ولا من أم درمان. ثم عندنا الرجلان اللذان صُلِبا معه: واحد عن يمينه، والآخر عن يساره، واللذان تقول بعض الروايات إنهما كانا يعيّرانه ويتهكمان عليه مع المتهكمين، على حين يقول يوحنا إن مصلوبا واحدا هو فقط الذى كان يسخر به، أما الآخر فكان يقرِّع زميله الساخر ويدافع عن عيسى عليه السلام، بل ويناديه: "يا ربى"، طالبًا منه أن يتذكره فى ملكوت السماوات، فيرد عليه المسيح مؤكدا له أنه سوف يكون معه فى الفردوس! والآن: أنت أيها القارئ من أى الشيعتين؟ عليك أن تضرب الودع كى تعرف الحقيقة وسط هذا الركام من الخيوط المتشابكة المعقدة، ثم تعال قابلنى!
أتعرف، أيها القارئ الكريم، أن كثيرا من الباحثين والعلماء الغربيين ينكرون وجود شخص اسمه عيسى، ويؤكدون أنه ليس سوى خرافة؟ وكل هذا بسبب تلك الروايات المضطربة التى تحير العقل وتستعصى على المنطق وتتناقض كذلك فيما بينها تناقضا لا يمكن القفز فوقه بأى حال! فإذا قلنا لهم إن كتابكم قد حُرِّف وأصابه عبث شديد شتموا سيد الأنبياء والمرسلين، ولا أدرى لماذا، مع أنه هو الوحيد الذى دافع عن المسيح وأمه، فضلا عن أن القرآن الذى نزل عليه من عند الله الواحد الأحد قد أسبغ على المسيح صفات البركة والحنان والبر والرحمة واحترام الأم وتبجيلها، نافيا عنه بذلك عار ما جاء فى الأناجيل مما يشينه شينا كبيرا، إذ يصوره كتبة تلك الأناجيل عصبيا جافيا خشنا شتاما عيابا متكبرا على المسحوقين ناظرا إليهم من عَلٍ متهما جميع الناس حتى حوارييه أنفسهم بقلة الإيمان لامزًا أمه عليها السلام هى وإخوته حين قال عنهم إنهم ليسوا أمه وإخوته، بل أمه وإخوته هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها، بما يعنى أنهم لم يكونوا كذلك! كما أنكر أشد الإنكار ما نُسِب إليه من أنه كان يدعو إلى الثالوث ويطلب من الناس اتخاذه إلها!
ثم مَنْ أولئك النسوة اللاتى كن واقفات على مقربة منه وشاهدنه يُصْلَب؟ هنا تختلف الروايات: فإحداها (وهى الرواية الموجودة فى الإنجيل الذى يحمل اسم يوحنا) تذكر مريمين معينتين هما أمه وخالته، أما الروايات الباقيات فلا تذكر أيا من هاتين المريمين، بل تذكر مريمين أخريين! وعجيب غريب غاية العجب والغرابة ألا يأتى ذكر الأم والخالة فى الروايات التى تدور فى هذا السياق تحت أى اعتبار! واضح أن هناك تخليطا بسبب اسم مريم. وثَمّ اختلاف آخر فى الأسماء يستطيع القارئ أن يدركه بنفسه دون مساعدة من أحد. وبالمثل فإن رواية يوحنا هى الرواية الوحيدة التى تتحدث عن توصية المسيح أحد تلاميذه أن يأخذ باله من أمه، على حين لم تقل أية رواية أخرى شيئا من هذا، ذلك أن مريم ليس لها وجود فى تلك الروايات كما لاحظنا. وبالمناسبة فقد كان المسيح لا يزال، حتى وهو على الصليب، جافا جافيا مع أمه لا يترك شكاسته معها، إذ بدلا من مناداته لها بـ"يا أمى الحبيبة" مثلا نجده يقول لها: "يا امرأة"! أيمكن أن يكون هذا هو عيسى الذى أثنى القرآن عليه وعلى بره بأمه؟ كذلك تختلف الروايات حول الكلمات التى قالها الضابط ومن معه حين شاهدوا الظلمة والزلازل وانشقاق حجاب الهيكل وبعثرة القبور وخروج الموتى منها إلى الدنيا عند صلب المسيح، فهل قال ذلك الضابط: "حقا كان هذا ابن الله"؟ أم هل كان ما قاله هو: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًّا"؟ لاحظ أنه لا سبيل للتوفيق بين العبارتين، فبينهما من التباعد فى المعنى والمغزى والاعتقاد مسافة تقدَّر بملايين السنين الضوئية!(/35)
كذلك هل قال عيسى بن مريم، حسبما تقول الأناجيل المؤلفة بأيدى البشر: "إِيلِي ،إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي؟"؟ أم هل كانت صيحته: "إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ (أى "يا إلهى، لماذا تركتنى؟")؟ أم هل قال: "يَا أَبَتَاهُ ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي"؟ أم هل كل ما قاله هو: "أنا عطشان"، وبعدما بَلَّ ريقه من إسفنجة الخل التى قُدِّمَتْ له قال: "قد أُكْمِِل"، ثم فارق الحياة؟ إن معنا هاهنا أربع روايات بأربع عبارات مختلفة، وليس من أمل فى التوفيق بينها، فى أمرٍ هو أهم الأحداث فى حياة المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى سيد النبيين والمرسلين أصدق الصلوات وأحسن التساليم، فهل يليق بل هل يصح هذا؟ أترك هذه الكارثة لك لتتأملها على أقل من مهلك يا عزيزى القارئ!
ثم خذ عندك أيضا حكاية الدفن: فهل الذى قام بالدفن هو يوسف الرامىّ وحده، أم هل كان معه نيقوديموس؟ هنا روايتان لا رواية واحدة. فهيا شمر عن ساعد التفكير والحيرة وحاول أن تحل ذلك اللغز أيضا بالمرة! ثم هل قام يوسف الرامىّ هذا بتطييب جسد المسيح قبل دفنه بمائة مَنٍّ من مزيج المر والعود، وكأنه كان سيطيب أجساد الموتى كلهم؟ أم هل اكتفى يا ترى بلفّه فى كتان، ثم ذهبت أمه فأعدت الأطياب، وإن لم تمكنها الفرصة لتطييبه بسبب قيامه قبل ذلك من الأموات حسبما كتب مؤلفو الأناجيل؟ وقبل ذلك كله هل الإله يحتاج إلى طيب، وهو خالق الطيب والعطور التى فى الدنيا كلها؟ بل لماذا يُطَيَّب أصلا؟ أترى الآلهة تُنْتِن؟ هنا أيضا مشكلة فى حاجة إلى نظرة من أم العواجز!
ولو تركنا وراء ظهورنا هذه المشكلة إلى أن يجد أحد لها حلا، وهذا مستحيل، وانتقلنا إلى موضوع آخر هو موضوع الحَجَر الذى زُحْزِح من فوق فوهة القبر المدفون فيه المسيح لوجدنا مشكلة أعقد، وكل ما فى تلك الديانة معقد تعقيدا لم تتعقده أية قضية أخرى: فهل كانت مريم أمه وخالته هما اللتين ذهبتا إلى القبر؟ أم هل كانت مريم المجدلية ومريم الأخرى؟ أم هل كانت المجدلية وحدها؟ وهل كان ذلك فى غلس الظلام؟ أم هل كان عند الفجر؟ أم هل كان بعد بزوغ الشمس؟ وهل دخلت مَنْ ذهبتْ هناك إلى القبر أو لم تدخله وانصرفت كما جاءت؟ وهل كان هناك ملاك واحد أو اثنان أو شابّ أو لم يكن هناك ملائكة ولا ناس بالمرة؟ وهل كل الذى قيل هو أن يسوع قام من الأموات وينتظر تلاميذه فى الجليل؟ أم هل قيل كلام أكثر من ذلك؟ وهل أتى بعض التلاميذ للقبر ليتأكدوا مما حدث أو لا؟ وهل لمست مريم المسيح كما جاء فى الرواية التى تقول إنها ورفيقتها أمسكتا بقدميه وسجدتا له؟ أم هل منعها عليه السلام من لمسه بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى السماء، وكأنها بعد صعوده للسماء ستراه مرة أخرى وتلمسه كما تحب؟ والمضحك أنه بعد كل ما قاله لها عن "أبيه وأبيهم وإلهه وإلههم" نسمعها تقول إنها قد رأت "ربّها"! يعنى: على رأى سعد زغلول "ما فيش فايدة"! غطِّيه إذن يا صفيه والْطِمِى! وها هى ذى النصوص أضعها أمام القارئ ليقارن بينها ويتحقق من الأمر بنفسه:(/36)
متى (ف 27- 28): "62وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ 63قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ ،قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. 64فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ،لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ،فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى! 65فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُون. 66فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. 28 1 وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ.2وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ،لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ ،وَجَلَسَ عَلَيْهِ. 3وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ ،وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. 4فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. 5فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ،لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. 7وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ : إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا . 8فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ ،رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. 9وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا . فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. 10فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي".
مرقس (ف 16): "16 1وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. 2وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. 3وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ 4فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. 5وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ. 6فَقَالَ لَهُنَّ: لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. 7لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُم . 8فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. 9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا".(/37)
لوقا (ف 24): "24 1ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ، أَوَّلَ الْفَجْرِ ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ، 3فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. 4وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ ، قَالاَ لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ، لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ 7قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُوم . 8فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ، 9وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ. 10وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ ، اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ. 11فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ ، فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ".
يوحنا (ف 20): "20 1وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. 2فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 3فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. 4وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، 5وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. 6ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، 7وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. 8فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، 9لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا. 11أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، 12فَنَظَرَتْ مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. 13فَقَالاَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 14وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. 15قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُه . 16قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَم فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: رَبُّونِي! الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ. 17قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُم . 18فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا".
ويتبقى لنا المشهد الأخير من قصة المسيح، وهو الخاص بظهوره لحوارييه بعد قيامه من الأموات على ما يقول القوم لا على ما نقول نحن. وسوف أورد أولاً ما قاله كل من مؤلفى الأناجيل ثم أعقب عليه بملاحظاتى تاركا كل قارئ يكوّن رأيه فيما بينه وبين نفسه:(/38)
متى (ف 28): "16وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ ،حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. 17وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ ،وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. 18فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، 19فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.20وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر. آمِينَ". وهنا نلاحظ أن عيسى بن مريم عليه السلام قد قابل أحد عشر حواريا فقط لا غير، فعدد الحواريين قد نقص واحدا بعد سقوط يهوذا، الذى لا أدرى لماذا استُبْعِد، مع أنه كان ينبغى أن يكون أقربهم الآن إلى معلمه وأحظاهم لديه لو كانت الأمور هنا تسير على منطق العقل، إذ لولا أنه ساعد اليهود على القبض عليه وصلبه فكيف كانت الخطة الإلهية لغفران الذنوب البشرية المتلتلة تتم؟ ما علينا، المهم أنه قابل تلاميذه وأنهم سجدوا له، وإن كان بعضهم شك فيه، وأن عيسى أخبرهم أنه قد أخذ كل سلطان فى السماء والأرض، بما يعنى أن الآب قد تنازل له عن صلاحياته جميعا لأن المثل يقول: "إنْ كَبِرَ ابنُك خاوِه"، مع أن الأمر الآن ليس مخاواة، بل سلبا لجميع السطات من البابا وشطبه بأستيكة، ولكنهم لم يقولوا لنا هل كان ذلك بتدبير الماما أو لا. ويبدو أن هذه المنطقة مغرمة بسلب الأبناء الحكم من الآباء من زمان! فلننتقل الآن إلى السيد مرقس لنرى ماذا قال هو أيضا.
مرقس (ف 16): "9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا. 12وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاِثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. 13وَذَهَبَ هَذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ. 14أَخِيراً ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُون. 19ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. 20وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ".(/39)
ومن الواضح أن الكلام هنا غيره هناك، فالحواريون هنا لم يسجدوا ولا صدّقوا، بل شكّوا كلهم، على عكس ما سمعناه من السيد متّى، الذى قال إن الشك كان من بعضهم فقط. كما أن المسيح هنا قد وبخهم للمرة اللاأدرى كم، وكأنه كان يتلذذ بتسفيههم وتحقير إيمانهم فى كل فرصة تسنح، وهو ما يدفعنا للقول بأنه إذا كان الحواريون أنفسهم قليلى الإيمان وقساة القلوب إلى هذا الحد، فكيف يكون حال المؤمنين العاديين؟ لا شك أن رأيه عليه الصلاة والسلام فيهم لا يسر عدوا ولا صديقا. لكننا لن نقف أمام هذه النقطة طويلا رغم خطورتها. وبالمثل فنحن هنا نسمع شيئا جديدا لم نسمعه هناك، فعيسى بن مريم يبشرهم أن كل مؤمن سيكون عنده المقدرة على شفاء جميع الأمراض، والتعرض للحيّات دون خوف عليه، وكذلك شرب السم دون أن يؤثر فيهم. حواة يعنى ورفاعية، وهذا النوع من البشر متوفر فى مصر، والواحد منهم (فيما أسمع) على استعداد لإخراج ما شئت من ثعابين من شقوق جدران بيتك! وكان منهم عم شاهين بياع الجاز (على العربية أم حصان) بالقرية فى طفولتنا، وكان يحمل معه دائما مخلاة فيها عدد من الثعابين يفتحها كلما خَفَّتْ أرجل الزبائن ويخرجها ويلعب بها أمامنا، وكنا ننظر له مبهورين، وكنت أنا بالذات أحسده (أو قل: "أغبطه" إذا كرهتَ كلمة "حسد")، وأتمنى أن أكون مثله، ولم أكن أعلم وقتها أنه يصنع ما يصنعه تلاميذ المعلم دون كرازةٍ ولا أَخْذِ سلطانٍ من الرب ولا دياولو، بل حاجة ع الماشى كده! وكلما تذكرت عم شاهين ومخلاته تلذعنى الحسرة على أننى لم أصبح مثله رغم أننى ألاعب الآن حيات البشر الذين يلدغون الضمائر ويقتلون العقول لو استطاعوا، وأثرّم لهم أسنانهم وأفرّج عليهم الأطفال والكبار على السواء وأجعل الذى لا يشترى يتفرج، وكله ببلاش لوجه الله تطلعا لما عند أبى وأبيكم السماوى، وطمعا فى تذوق ألوان النعيم فى ملكوت السماوات!(/40)
وهنا نتوقف وننتقل إلى ما كتب السيد لوقا (ف 24):"13وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً ، اسْمُهَا عِمْوَاس . 14وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ. 15وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ ، اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. 16وَلَكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. 17فَقَالَ لَهُمَا: مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟ 18فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا ، الَّذِي اسْمُهُ كَِلْيُوبَاسُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟ 19فَقَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ ، الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. 20كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. 21وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ. 22بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ، 23وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. 24وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ ، فَوَجَدُوا هَكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْه . 25فَقَالَ لَهُمَا: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ 26أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ 27ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ.28ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا ، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. 29فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: امْكُثْ مَعَنَا ، لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَار . فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. 30فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا ، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا ، 31فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، 32فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟ 33فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ ، وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ 34وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ! 35وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ. 36وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ! 37فَجَزِعُوا وَخَافُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً. 38فَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ 39اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا ، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي . 40وَحِينَ قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. 41وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ ، وَمُتَعَجِّبُونَ ، قَالَ لَهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟ 42فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. 43فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ.44وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ : أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِير . 45حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. 46وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، 47وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ.(/41)
48وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ. 49وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي . 50وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. 51وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. 52فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ ، 53وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ. آمِين"َ.
وفى هذا النص نقرأ أن الذى قابله أولا وأخبر التلاميذ بقيامه من الأموات هو هذان الرجلان لا مريم. هذه واحدة، والثانية أن هذين الرجلين وصفا عيسى، وعلى مسمع منه، بأنه" "إنسان نبى"! يسلم فمك يا رجل أنت وهو! إن هذا ما نقوله من الصبح، لكن القوم يشتمون رسولنا ويكتبون لنا فى محبة وتواضع رسائل من نوعية "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم! إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، واشتم النبى محمدا وقل فى نهاية الرسالة: من فلان المحب". حَبَّك بُرْص يا بعيد منك له له، بل حَبَّك ثعبان من النوع الأقرع الذى يشغل المسلمين فى هذا المنعطف التاريخى من حياتهم، المنعطف الذى سوف يشهد اندحار الإمبريالية العالمية على يد الحرامية ووعيهم بالكفاح "الطبقى": (نسبةً إلى "طبق" حرامى نجيب محفوظ الذى خطف "الطبق"! لا إلى "الطبقة" التى كثيرا ما أزعجَنا بها الشيوعيون الأوساخ الذين استداروا هذه الأيام وتوسخوا وساخة أمريكية بدل الوساخة السوفييتية!). أرجو من القراء ألا يأخذوا فى بالهم من هذا الكلام الذى لا معنى له والذى اضطرنى إليه هذا الفكر السقيم الذى لا معنى له أيضا، والذى علىّ برغم ذلك أن أتناوله كما أتناول أى موضوع جاد!
والثالثة أن المسيح يطلب منهما أن يجسّاه حتى يطمئنا إلى أنه هو المسيح، مع أنه سبق أنْ نهى أمه عن لمسه مجرد لمس بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى أبيه الذى فى السماوات. طيب، فهو حتى الآن لم يصعد أيضا إلى أبيه الذى فى السماوات، فلماذا هذه التفرقة؟ يبدو أن هناك سرا يدفعه إلى معاملة والدته بهذه الطريقة الخشنة. فما هو يا ترى؟ والرابعة أنه رغم قوله لهم إنه لم يعد من لحم ودم نراه لا يجد طريقة يؤكد لهما من خلالها أنه هو المسيح إلا أن يناولاه بعض الطعام فيأكله، مع أن هذا الدليل هو فى نظرى آخر دليل يمكن أن يصلح هنا، إذ الروح لا تستطيع أن تأكل أكلنا ولا أن تشرب شرابنا. وهذا هو ما يعترضون به على جنة الإسلام رغم أن الإسلام لم يقل قط إن طعام الجنة أو شرابها أو نساءها ستكون كمثيلاتها فى الدنيا، بل ستكون شيئا آخر لا عين رأته من قبل ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر. آه يا أبا الزيك الوغد أنت والسفلة تبعك! هذا هو المسيح يفضح نفاقكم، وفى كتابكم المقدس نفسه. ما رأيك أيها المنكوح، ذا الدبر المقروح؟ والخامسة أن السجود للمسيح إنما تم بعد صعوده للسماء وليس أول ما رأوه عند خروجه من القبر. ودعنا من مسألة التناقض، وإلا فلن ننتهى إلى الأبد! والسادسة أننا هنا أمام حدوتة مختلفة تماما، وهى حدوتة تليق بعشاق "ألف ليلة وليلة" وما فيها من خيال عجائبى خِصْب من النوع الذى يسمى هذه الأيام بـ"الواقعية السحرية"! والسابعة أنه أمرهم أن يَبْقَوْا فى أورشليم حتى يفيض الله عليهم نعمته ويعطيهم القدرة على التحكم فى الشياطين والمقدرة على شفاء الأمراض، وهذا عكس ما فعل مع التلاميذ فى رواية متى ومرقس. وبالمناسبة فمن الواضح أنه نسى أنه كان أعطاهم هذا السلطان من قبل فى حياته. ولكن معلهش، فزيادة الخير خيران، والتكرار يعلّم الشطار، وكذلك الحمار!(/42)
وهنا يأتى دور يوحنا (ف 20- 21)، فلنسع روايته هو أيضا: "19وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ ، وَقَالَ لَهُمْ: سلاَمٌ لَكُمْ! . 20وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ. 21فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا . 22وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. 23مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَت . 24أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. 25فَقَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ! . فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِن .26وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: سلاَمٌ لَكُمْ! . 27ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنا . 28أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُمْ: رَبِّي وَإِلَهِي! . 29قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا .30وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. 31وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ. 21 1بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هَكَذَا: 2كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. 3قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّد . قَالُوا لَهُ: نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَك . فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً. 4وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التَّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. 5فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟ . أَجَابُوهُ: لاَ! 6فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا . فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ. 7فَقَالَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ الرَّبُّ! . فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ. 8وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ. 9فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. 10قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآن .11فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً ، مِئَةً وَثلاَثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ. 12قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلُمُّوا تَغَدَّوْا! . وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التَّلاَمِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ. 13ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ. 14هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 15فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي . 16قَالَ لَهُ أَيْضاً(/43)
ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي . 17قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي. 18اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاء . 19قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي . 20فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟ 21فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا ، قَالَ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، وَهَذَا مَا لَهُ؟ 22قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ!. 23فَذَاعَ هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذَلِكَ التِّلْمِيذَ لاَ يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لاَ يَمُوتُ، بَلْ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ ، فَمَاذَا لَكَ؟ .24هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.25وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ".
ونحن هنا مع حدوتة أخرى، ولم لا، والتسلية لا تضر، وبخاصة هذه الأيام التى رَبَّتْ فيها أمريكا لنا الرعب، ويشاركها فى ذلك إخواننا البعداء الذين يهددوننا بها، وفى ذات الوقت يشنّفون أسماعنا بـ"أحب أعداءك! بارك لاعنيك! أما مع الرسول الكريم فكن قليل الأدب سافلا سفيها، وخنزيرا قذرا، وتطاولْ على سيد البشر والأنبياء والرسل أجمعين، وتَلَوَّ من الحقد والبغضاء التى تأكل كبدك وقلبك، ودبرك فوق البيعة، يا أبا الزِّيك، يا ذا الدبر الهَتِيك"؟ فها هو ذا المسيح يأتى بنفسه دون سابق إنذار فيقف بين التلاميذ ويعرّفهم بنفسه. والثالثة أن المسيح قد أخذ يد توما وجعله يَجُسّ يده وجنبه حتى يطمئن ويؤمن، ثم لم يتركه دون أن يغمزه غمزة من إياها فينعته بضعف الإيمان كالعادة!(/44)
هذه بعض الملاحظات التى عَنَّتْ لنا بعد تفحصنا للأناجيل الأربعة، وهذه الأناجيل (كما ينبغى أن نعرف) ليست هى الإنجيل الذى أنزله الله على المسيح والذى جاء فى بعض هذه الكتب التى بين أيدينا أنه عليه السلام كان يبشّر به، بل هى مجرد تآليف بشرية لا يضبطها فى معظم الأحيان من العقل ضابط، ولا يربطها بالمنطق رابط! وبعد فإننا لم نكتب هذا الكلام لنعتدى به على أحد، فقد كنا وما زلنا نعيش فى مصرنا العزيزة سويا فى مودة ويحترم كل من الطرفين اعتقاد الآخر رغم مخالفته إياه فيه، ولم يحدث ولا يمكن أن يحدث أن يفكر أى مسلم مجرد تفكير فى الإساءة للسيد المسيح ولا لوالدته ولا لحوارييه، بيد أننا فوجئنا بجماعة من السفلة المجرمين الذين يعيشون فى الخارج يتصورون أن ضعف حكومات المسلمين الحالى يخوّل لهم التباذؤ على رسول الله وصحابته وزوجاته ويشتموا ويسبّوا على هواهم محتمين وراء ماما أمريكا، ونَسُوا الحكمة القائلة بأنه إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الجبال الشُّمّ الرواسى بالحجارة كما يفعل الأطفال الأغرار، فاضطرونا أن نفضح زيفهم ونرد على قلة أدبهم، لكن دون المساس بنبى الله عيسى وأمه الطاهرة البتول وصحابته الكرام ودون أن نقلب ظهر المجنّ لإخواننا وجيراننا فى الوطن الذين لا يشاركون هؤلاء السبّابين فى شىء مما يجترحونه فى حق الرسول العظيم. وكل عام والجميع، بمناسبة عيد الميلاد المجيد وعيد الأضحى المبارك، بخير ومودة وتعاون من أجل صالح الوطن الذى يسع من "الحبايب" لا ألفا بل مليارا بمشيئة الله إذا صحت العزائم وصلحت النيات وساد الحب، أو على الأقل: المجاملة، وانصرف كل إلى أداء واجبه وجوّد عمله وأتقنه وتنافسنا جميعا فى الخيرات كما أمرنا القرآن الكريم. أقول هذا تعقيبا على رسالة الأستاذ الذى أشرت إليه فى أول المقال وذكرت ثناءه على الإسلام، وأقوله من أعماق قلبى، وشاهدى عليه أننى على يقين من أن أحدا من إخوان الوطن لا يمكنه أن يتذكر وقوع إساءةٍ منى إليه أو افتئاتٍ على حقه: طالبا كان أو زميلا أو صديقا أو جارا أو بائعا، بل لا يمكنه أن يتذكر أننى فتحت معه ولا مع غيره فى أى يوم من الأيام نقاشًا حول اختلاف دِينَيْنَا. لكن هذا شىء، والسكوت على الإساءات الجلفة إلى سيدنا رسول الله شىء آخر لا علاقة له بالمجاملات المطلوبة بين المعارف والجيران والأصدقاء. ولا أظن أن فى هذا الكلام شيئا يمكن أن يعاب على أحد، أما إذا كنت مخطئا فليسامحنى الله سبحانه وتعالى، وهو المسامح الكريم!(/45)
الأناجيل نظرة طائر
إلى القُمّص المنكوح: الأناجيل: نظرة طائر
أ.د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
تأتينى كل يوم رسائل تعلّق على ما أكتب فى هذا الموضوع، وبعض هذه الرسائل يثنى على ما أكتب، وبعضها يخطئنى، وبعض ثالث يشتم ويصفنى بأننى "آتٍ من وراء الجاموسة" ويبشّرنى بأن "محمدا سوف يأخذنى معه إلى الهاوية"، أى الجحيم، وأخرى يؤكد صاحبها أنه يحترق بحبى ويحرص على تنويرى وهدايتى ويقول، كنوع من التدليل على محبته لى، إن محمدا أخذ الشعراوى وديدات إلى الجحيم، وسوف يأخذنى معه هناك كما أخذهما من قبل، ورسالة يقول كاتبها إنهم يتبعون المسيح الإله الحى الباقى، أما نحن فنمشى وراء شخص قد مات وأنتنت جثته... وشتائم أخرى من هذا النوع المقذع الذى يبدو أن أصحابه يفهمون أن السيد المسيح قد وصى به فى العبارة التالية المنسوبة إليه فيما يسمَّى بـ"الأناجيل": "أحبوا أعداءكم! باركوا لاعنيكم! من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر"، فضلا عما أخذ كثير من المهجريين بالذات يرددونه من وجوب خروج المسلمين من مصر وعودة الإسلام إلى بلاد العرب البدوية المتخلفة التى جاء منها. وأنا، حين أفكر فى هذه الرسائل بناء على رد الفعل الطبيعى، وكذلك بناء على ما ينصحنى به بعض أصحابها من إعادة النظر فى إيمانى بما أتى به محمد ("الشيطان" كما يسمونه)، لا أستطيع أن أجد فى الإسلام شيئا يَثْنِينى عن مواصلة الإيمان به والافتخار بأننى واحد من أتباعه، وإلا فما الذى فى دين هذا الرسول الكريم مما ينبغى إدانته؟
هل هو التوحيد النقى الذى يرفض كل ألوان الوثنية والشرك وعبادة الأصنام والأوثان والبشر الذين يتبولون ويخرأون؟ هل هو الصلاة لله سبحانه وتمجيده وعبادته؟ هل هو الحض على الرأفة بالفقراء والمساكين، لا كلاما جميلا فقط دون فاعلية، بل بتشريع الزكاة والصدقات تشريعا محددا ملزما؟ هل هو المبادئ الإنسانية التى تقول إنه لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح، وإن التقوى ليست فى الشعائر فى حد ذاتها بل فى إخلاص القلب والتوجه بهذه الشعائر إلى الله سبحانه والتصرف بمقتضاها فى سلوكنا اليومى وعلاقاتنا بالآخرين وبعيدا عن الرياء والجرى وراء السمعة بين الناس؟ هل هو دعوته إلى طلب العلم وفرضه على كل مسلم ومسلمة وإعلاؤه من شأن العقل حتى فى الاعتقاد، بعكس ما تدعو به بعض الأديان الأخرى من وجوب التسليم دون بحث أو نقاش؟ هل هو إقراره مبدأ المسؤولية الفردية وعدم توريث الخطيئة الأولى لعموم البشرية ظلما وغبنا، مما استوجب قتل الله، أستغفر الله؟ هل هو إعطاؤه الأجر على مجرد الاجتهاد حتى لو أخطأ صاحبه؟ هل هو فتحه باب التوبة والغفران دائما على مصراعيه أمام الناس جميعا دون تعقيدات أو وثنيات؟ هل هو موازنته العبقرية بين المثال والواقع فى تشريعاته ومتطلباته؟ هل هو فى اتجاهه للبشرية كلها لا إلى بنى إسرائيل وحدهم من دون الخلق جميعا؟هل هو رفعه لقيمةِ العمل وإتقانِه إلى سماء سامقة وإعلاء الأجر عليه إلى الحد الذى يؤكد فيه أن هناك ذنوبا لا يكفّرها إلا العمل؟ هل هو حَثُّه على النظافة فى كل الأمور حتى فى تنظيف الأسنان وجعلها من الإيمان، فى الوقت الذى تضع فيه بعض الأديان تلك القيمة فى تعارض مع صحيح الاعتقاد؟ هل هو نجاحه المذهل الذى لم يستطعه أى دين آخر فى تنفير أتباعه من أم الخبائث تنفيرا يُضْرَب به المثل، على حين تحتل معجزة تحويل الماء إلى خمرٍ البند "رقم واحد" فى قائمة معجزات "س" من الأديان؟ هل هو اهتمامه بالجمال والتنبيه إلى أن الله جميل يحب كل شىء جميل؟ هل هو اعترافُه بحدود القدرة البشرية ومراعاتُه لطبيعة الإنسان فى تشريعاته بحيث لا تجىء تهويماتٍ مثاليةً ساذجةً مستحيلةَ التنفيذ، ومن ثم لا تصلح إلا لترديدها على ألسنة المشقشِقين المغرمين بالكلام الكبير الفارغ دون أن يكون لها أى أثر فى قلوبهم أو تصرفاتهم؟ هل هو دفاعه المجيد عن السيد المسيح وأمه من الاتهامات السافلة الكافرة التى يرددها اليهود وملاحدة الغرب وبعض من يزعمون أنهم من أتباعه؟ هل هو تحذيره من شهوات النفس ووسوسات الشيطان؟ هل هو حرصه على أن يكون عمل الخير خالصا لوجه الله بعيدا عن الرياء؟ هل هو حملته على النفاق والمنافقين؟ هل هو تشديده النهى على أتباعه أن يَجْرِمهم شَنَآن قوم على ألا يَعْدِلوا؟ هل هو جعْله التعاون على البر والتقوى مبدأً من مبادئه؟ هل هو فضحه المتاجرة بالدين وكشفه عن جشع فريق كبير من الأحبار والرهبان وأكلهم أموال الناس بالباطل وصدهم عن سبيل الله وقيادتهم جمهور أتباعهم من أنوفهم وراءهم دون عقل أو تفكير؟ هل هو إماطته اللثام عن حقيقة ما تم من عبث وتحريف فى التوراة والإنجيل؟ هل هو دفاعه العظيم عن الأنبياء والمرسلين وتبرئتهم من تهم الزنا والقتل والزواج بالمحارم وتسهيل عبادة الأوثان التى يتهمهم بها مؤلفو الكتاب المقدس؟(/1)
أما القول بأن الإسلام ليس بدين مصرى فكذلك النصرانية ليست بدين مصرى، وأما ما يردده بعض من طمس الشيطان بصائرهم من أن المسلمين فى مصر ليسوا مصريين بل وافدين من الجزيرة العربية فهو كلام يدل على جهل وغباء أو على استبلاه واستحماق، لأن كلا من المسلمين والنصارى فى مصر هم بوجه عام مصريون أبًا عن جَدّ، اللهم إلا القليل هنا وهناك مما لا يخلو منه بلد. ولم يحدث قط أن قال مسلم فى مصر إن على النصارى أن يرحلوا، فلماذا يقولها بعض الناس من الطرف الآخر؟ هذه أول مرة نرى فيها "أقلية الأقلية" تقول هذا الكلام الغريب. وأقول: "أقلية الأقلية" لأنه ليس كل النصارى (فيما أفهم) يقولون ذلك، إنما هى أقلية صغيرة بينهم، وإلا فهى الكارثة!
إننى والله فى حيرة من أمرى، ولا أدرى ماذا يمكن أن يصنع الإنسان فى الرد على هذه السفالات؟ أحد الإخوة من عقلاء المهجر (وما أقلهم!) رجانى أن أهمل الرد على القُمّص إياه وقال إننى ينبغى ألا أهتم بما يردده من اتهامات للإسلام جائرة، وإنه يعرف أن دين محمد دين عظيم، أو شيئا بهذا المعنى لأن نص كلامه ليس أمامى الآن. إلا أننى، بعد شكره الجزيل على هذا الكلام حتى لو كان مجرد مجاملة لا أكثر، أتساءل: ما دام ذلك الأخ الكريم يعتقد بهذا فلم لا يوجه مثل هذا النداء لذلك القُمّص وأشياعه؟ أمن المعقول أن آتى للمُعْتَدَى عليه وأطالبه بالسماح، ولا أكلّف نفسى بمحاولة لفت نظر المُعْتَدِى إلى سوء ما يفعل؟ إننا لا يمكن أن ننال من السيد المسيح ولا من أمه الطاهرة ولا حتى من الحواريين، بل إننا لنردّ على ما جاء فى العهد الجديد مما يمكن أن يُتَّخَذ تُكَأَة فى الإساءة إلى أى منهم، فلم التسافُه والتباذؤ مع سيّد الخلق إذن؟ لا يا أخى الكريم، لن نسكت على قلة الأب، وسنرد بكل قوة، لكن مع احترام السيد المسيح وأمه وتلاميذه، لا من باب المجاملة، بل من باب الإيمان بمحمد عليه السلام، الذى يوجب علينا دينه العبقرى النبيل الراقى المتحضر أن نؤمن بكل الأنبياء، والذى يُعْلِى من شأن مريم وابنها عليهما السلام كل الإعلاء مع رفض كل تأليه لأى منهما تماما.
والآن نمضى فى الرد على السخافات المهجرية وقلة العقل والغفلة والبذاءة والسفالة التى هى حجة الصايع الضايع الذى لم يربّه أهله فتربّيه الأيام والليالى وتقوّم اعوجاجه بالصرمة القديمة، وذلك من خلال التحليل العلمى للأناجيل بغية توضيح موقفنا العقيدى ولتوجيه نظر من عنده بقية من نظر إلى عظمة ما عندنا وعبقريته، وكل إنسان حر بعد هذا فى اتخاذ الموقف الذى يراه واعتناق الرأى الذى يعتقد فى صحته، ونحن بحمد لله نردد من كل قلوبنا ما قاله ربنا فى قرآنه المجيد ونؤمن به أتم الإيمان: "لا إكراه فى الدين، قد تبين الرُّشْد من الغَىّ. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفضام لها. والله سميع عليم" (البقرة/ 256)، "ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا. أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟" (يونس/ 99)، " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين إلا مَنْ رَحِمَ ربك، ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين" (هود/ 119)، "وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرَادِقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمُهْل يشوى الوجوه" (الكهف/ 29)، "كذلك زَيَّنّا لكل أمة عملهم، ثم إلى ربهم مَرْجِعهم فينبئّهم بما كانوا يعملون" (الأنعام/ 108)... إلخ.(/2)
أما الجاموسة والإتيان من وراء الجاموسة فماذا فيه؟ إن للجاموسة منافع كثيرة: فقد كانت أيام أن كنت أمشى وراءها (رغم أن أهلى ليسوا من أصحاب الأرض بل تجارا، لكنى كنت أحب أن أرافق زملائى من أولاد جيراننا الفلاحين إلى حقولهم التى أعشق التجوال فيها وما زلت عشقًا والِهًا عجيبًا)، أقول: كانت الجاموسة تجر المحراث والنورج وتدير الساقية، وكانت وما زالت تعطينا "لبنا سائغا خالصا للشاربين" كما يقول القرآن، ويُؤْكَل لحمها الطيب الذى لا رائحة له منتنة كرائحة لحم الخنزير ورائحة أفواه وأدبار من يحبونه، كما أن فى رَوْثها فائدة كبيرة للأرض الزراعية، وكذلك لتلطيخ وجه القُمّص المذكور، وجهه فقط لا دبره لأن على حوافى دبره، والحمد لله، من الفضلات المنتنة كرائحة فمه وعقله وقلبه ما يلطّخ وجوه السفلة المتطاولين على سيد الأنبياء والمرسلين على بَكْرَة أبيهم وأمهم أيضا ويملأ أفواههم جميعا حتى يشبعوا ويكُظّوا كروشهم دون الحاجة إلى "تزويدة" من رَوْث الجاموسة التى نحن آتون من ورائها! بالله ماذا فى الإتيان من وراء الجاموسة؟ أليس ذلك أفضل من الإتيان من وراء زيكو، وأنتم تعرفون ماذا يعنى الإتيان من وراء زيكو، وزيكو لا يُؤْتَى إلا من ورائه؟ ليست المشكلة فى الإتيان من وراء الجاموسة يا جاموسة أنت وهو وهى، بل المشكلة كل المشكلة فى أن يكون البعيد جاموسة يا من تخفيت وراء اسم امرأة، ثم لا حصّلت أن تكون امرأة ولا رجلا، بل جاموسة، وأدنى من الجاموسة لأن الجاموسة، يا أدنى من الجاموسة، لا تشرك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أو تعبد معه صنما أو وثنا أو بشرا. إن الجاموسة (التى هى جاموسة) قد فهمت هذا، فهل فهمت أنت يا أدنى من الجاموسة؟ ثم إن للجاموسة، يا أدنى من الجاموسة، فضلاً آخر لا أدرى كيف نسيتُه، ألا وهو أنها بعد أن تُذْبَح وتُسْلَخ نأخذ جلدها وندبغه ونصنع منه جِزَمًا نلبسها فى أقدامنا، وبعد أن تصبح هذه الجزم صُرَمًا قديمة نستخدمها فى صفع زيكو على وجهه القبيح وقفاه العريض ودبره المنتن وضميره الخرب المظلم، وأنا على يقين أنه سيستزيدنا من هذه الأنواع المختلفة كلها من الضرب كرامةً لنوع واحد فقط منها هو ضربه على دبره وما يجده ذلك المازوكىّ فى هذا الضرب من لذة شاذة! هل وصلت الرسالة؟ أم هل أعيدها من أول وجديد يا أدنى من الجاموسة؟ والله إن فى مقارنتك أنت وأمثالك بالجاموسة إساءة إلى الجاموسة يا أدنى من الجاموسة! وأنا هنا، أيها القراء الكرام، لا أدافع عن نفسى، فليست المسألة بينى وبين هؤلاء مسألة شخصية، إذ لا أحد منا يعرف الآخر، بل هم يشتمون لأننى أدافع عن محمد بن عبد الله (عليه وعلى أخيه عيسى بن مريم الصلاة والسلام) ضد سفالاتهم وإجرامهم رغم أن هذا الدفاع تأخر كثيرا جدا على أمل أن يفيقوا أو ينصحهم عقلاؤهم بالإفاقة من نوبة السفالة التى اعترتهم فجأة، لكنهم انهالوا علىّ برسائلهم النجسة مثلهم، والتى سبق أن أهملت كثيرا منها من قبل حين لم يكن لها علاقة بالتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنى لا أعد نفسى شيئا ذا بال على الإطلاق، ولم أكن لأهتم بما يقولون لو كان الأمر خاصا بى، أمّا والتطاول على الرسول هو المراد فالأمر يختلف جدا جدا جدا...(/3)
وعجيب أن يكون الحب الذى يكنونه لى، حسبما كتب إلىّ "فلان المحب" (كما سمى نفسه)، سببا فى كيل هذه الشتائم والبذاءات والسفالات لنا، مما يجعلنا نتساءل: إذا كان هذا هو ما يؤدى إليه الحب، فما الذى يمكن أن يؤدى إليه الكره إذن؟ إن المخبول الذى يتطاول على أشرف الأنبياء والمرسلين ويقول إنه قد مات وأنتن يعتقد بجهله وغبائه وقلة عقله وضيق أفقه وتحجر عقيدته أننا نعبد الرسول الكريم كما يعبد هو السيد المسيح، غافلا (لأنه مغفل من الطراز الأول) أننا لا نعتقد فيه أكثر مما يقوله المنطق والعقل وما أكده هو ذاته عليه صلوات الله وسلامه، وعلى من يمسه بأية كلمة بذيئة لعنات الله والرسل، والمسيح على رأسهم، والملائكة والناس أجمعين، ألا وهو أنه عبد الله ورسوله. فنحن إذن لا نعبد ميتا كما يفعل ذلك الحمار الغبى الجهول وأشباهه، بل نعبد الحى الذى لا يموت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، الذى لا يهينه عباده ولا يبصقون فى وجهه أو يصفعونه على خديه أو يطعنونه بالحربة فى جنبه أو يضعونه على الخشبة التى لا يوضع عليها إلا كل ملعون بنص العهد القديم، ولا يوصف بالخروف ولا يصرخ من الألم وما من مغيث، ولا يفقد أعصابه فيَعْنُف بأمه ويناديها بـ" يا امرأة" لا بـ" يا أمى"كما يفعل كل من يحبون أمهاتهم ويحترمونهن، ولا يُذِلّ الكنعانيات المسكينات إذلالا ما بعده إذلال ويسميهن هن وسائر البشر من غير بنى إسرائيل بـ"الكلاب"، ولا يتهم الحواريين دائما بأنهم ضعفاء الإيمان شياطين، ولا يعمل كما يعمل كل الناس، ومعروف ما يفعله كل الناس فى دورات المياه، يا عيب الشؤم، ولا يأمرنا بتطليق الدنيا والاحتفاء بالموت والعدم! أما الموت فهو لا يختص بالرسول الكريم الذى لم يشأ أن يضلل أتباعه عن حقيقته فلم يقل لهم (ولم يقولوا هم بدورهم عنه) إنه ابن الله، بل قال بكل بساطة وعظمة وتواضع حقيقى إنه ميت مثلما كل البشر ميتون، بما فيهم السيد المسيح، عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. أما الرسالة التى وصلتنى الآن من "النعمة"، وفيها تلك العبارة: "I am sending this message again because I love u & I want u to know who is going to save u from Hell in the last day which is coming very soon as the prophecies say!"، فيبدو أن صاحبها قد نسى أنه يخوفنى بشىءٍ المفروضُ، حسب نص الكلام الذى ينسبونه للمسيح عليه السلام، أنه قد وقع من زماااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااان (منذ نحو ألفى عام)، إذ قال، طبقا لما رَوَوْه عنه، إن ملكوت السماوات سوف يأتى قبل أن يموت أصغر واحد من الموجودين معه، أو شيئا من هذا القبيل. يعنى: نحن الآن فى الملكوت، أو فى الباى باى!
والآن، وبعد هذه التوطئة التى أرجو أن تكون قد وضعت الأمور فى نصابها فأَوْلَجَتِ "الألف" فى "ميم" زيكو، "أَلِجُ" أنا فى الموضوع فأقول إن المقارنة بين الأناجيل الأربعة تكشف لنا عن أشياء مذهلة. ولا أود أن أستبق الأحداث بل أترك النصوص تتحدث بنفسها، حاصرًا دورى فى التعليق عليها ولفت النظر إلى ما أظنه يستحق الالتفات فيها، والله المستعان، ومنه التوفيق، وعليه التُّكَلان، وباسمه تعالى نبدأ المقارنة والتحليل، لكن بعد أن أرجو السادة القراء ألا يقفزوا فوق النقول التى أستشهد بها إذا ما طالت حتى يتحققوا من صحة ما أقول أو خطئه، والخطأ واردٌ فى كل حال، وجارٍ على كل إنسان:(/4)
فمتّى فى بداية الإصحاح الأول منه يقول إن المسيح عليه السلام هو ابن داود بن إبراهيم، أى أنه من سلالة بشرية: "1 كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ: 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ". هذا ما قاله متى، على حين يقول لوقا فى أول فقرة من أول إصحاح فيه: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ"، أى أنه من سلالة إلهية، لكنه فى موضع آخر يورد نسبه على النحو التالى: "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ ، بْنِ هَالِي،24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي ، بْنِ مَلْكِي ، بْنِ يَنَّا ، بْنِ يُوسُفَ،25بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ عَامُوصَ ، بْنِ نَاحُومَ ، بْنِ حَسْلِي ، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ ، بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ شِمْعِي ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يَهُوذَا،27بْنِ يُوحَنَّا ، بْنِ رِيسَا ، بْنِ زَرُبَّابِلَ ، بْنِ شَأَلْتِئِيلَ ، بْنِ نِيرِي،28بْنِ مَلْكِي ، بْنِ أَدِّي ، بْنِ قُصَمَ ، بْنِ أَلْمُودَامَ ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي ، بْنِ أَلِيعَازَرَ ، بْنِ يُورِيمَ ، بْنِ مَتْثَاتَ ، بْنِ لاَوِي،30بْنِ شِمْعُونَ ، بْنِ يَهُوذَا ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يُونَانَ ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ،31بْنِ مَلَيَا ، بْنِ مَيْنَانَ ، بْنِ مَتَّاثَا ، بْنِ نَاثَانَ ، بْنِ دَاوُدَ،32بْنِ يَسَّى ، بْنِ عُوبِيدَ ، بْنِ بُوعَزَ ، بْنِ سَلْمُونَ ، بْنِ نَحْشُونَ،33بْنِ عَمِّينَادَابَ ، بْنِ آرَامَ ، بْنِ حَصْرُونَ ، بْنِ فَارِصَ ، بْنِ يَهُوذَا ، 34بْنِ يَعْقُوبَ ، بْنِ إِسْحَاقَ ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، بْنِ تَارَحَ ، بْنِ نَاحُورَ،35بْنِ سَرُوجَ ، بْنِ رَعُو ، بْنِ فَالَجَ ، بْنِ عَابِرَ ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ ، بْنِ سَامِ ، بْنِ نُوحِ ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ ، بْنِ أَخْنُوخَ ، بْنِ يَارِدَ ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ ، بْنِ قِينَانَ،38بْنِ أَنُوشَ ، بْنِ شِيتِ ، بْنِ آدَمَ ، ابْنِ اللهِ".
وكما ترى فهذه السلسلة تختلف إلى حد بعيد عن سلسلة متى، سواء فى عدد حلقاتها أو فى ترتيبها، وهو أمر مضحك، إذ ليس من المعقول أن يجهل القوم سلسلة نسب ربهم. فيا له من رب! وياله من نسب! ولا تظن أيها القارئ أنى أتهكم حين أقول: "سلسلة نسب ربهم"، فقد قالوها هم بأنفسهم رغم أنى كتبت ما كتبت قبل أن أرى ما كتبوا، بل رجعت إليه فيما بعد. وهذا مثلا ما كتبه محررو "تفسير الكتاب المقدس": "إن غرض تتبع سلسلة نسب ربنا والرجوع به إلى داود هو أن يظهر أن المواعيد التى أعطيت لداود إنه سيصير سلفا للمَسِيّا قد تحققت فى يسوع المسيح" (تأليف مجموعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس دافدسون/ ط2/ دار منشورات التفسير/ بيروت/ 5/ 1990م/ 14). بل إن الشخص المذكور فى هذه السلسة على أنه ابن الله ليس هو المسيح بل آدم، أما المسيح فهو، حسبما كان يقول الناس، ابن يوسف! أما سلسلة متى فهى صريحة فى أنه ابن يوسف، أستغفر الله، إذ ليس هناك من معنى للقول بأنه ابن يوسف إلا معنى واحد لا أستطيع أن أنطق به!(/5)
وهو ما يؤكده النص التالى المأخوذ من مطلع إنجيل توما (أحد الأناجيل غير القانونية): "And a certain Jew when he saw what Jesus did, playing upon the Sabbath day, departed straightway and told his father Joseph: Lo, thy child is at the brook, and he hath taken clay and fashioned twelve little birds, and hath polluted the Sabbath day. "، إذ يقول المؤلف إن أحد اليهود الغيارى على الشريعة الموسوية، حين رأى عيسى الصغير يصنع يومَ سبتٍ من الطين طيرًا، ذهب من فوره إلى "أبيه يوسف" وشكا له ما صنع الغلام من الاعتداء على حرمة اليوم المقدس. ومثله قول المؤلف فى موضع آخر إن عيسى ذهب ذات يوم لزراعة القمح مع "والده" فى حقلهم: "Again, in the time of sowing the young child went forth with his father to sow wheat in their land: and as his father sowed, the young child Jesus sowed also one corn of wheat"... وغير ذلك من المواضع التى وُصِف فيها يوسف بأنه "أبوه". بل إننا لنقرأ أن يوسف، تعجُّبًا من المعجزات التى كان يعملها عيسى الصغير، قد دعا ربه شاكرا أنْ أعطاه طفلا مثله: " Happy am I for that God hath given me this young child".
وعَوْدًا إلى ما كنا بسبيله أرجو ألا تضحك، عزيزى القارئ، من حكاية نسب ربنا هذه، ذلك أن الكلام ليس عن الإله الذى نعرفه، رب العالمين، بل عن إله مجهول الهوية يراد تحديد أسرته ومكان إقامته ومهنته وتاريخ ميلاده وصحيفة أحواله المدنية حتى نعرف من هو، ومن أين أتى، وإلى أين هو ذاهب، وأين يسكن، ومن وَلِىّ أمره... إلخ. ويا حبذا لو اطّلعنا أيضا على رخصة قيادة السيارة (أو بالأحرى: رخصة ركوب الأتان والجحش ابنها)، فكل شىء من هذه الوثائق من شأنه أن يطمئننا على أننا ماشُون فى الطريق السليم وأننا لا نتعامل مع شخص لا نعرف له مرجعا ولا مكان عمل أو سكن. ونحن نعرف أن الناس هذه الأيام لا يبعثون على الاطمئنان، وأن ابن الحرام لم يترك لابن الحلال حاجة، فـ"بردون: pardon" يا عزيزى. آه! هذه أشياء لا تُغْضِب، أو ينبغى ألا تُغْضِب، أحدا. وهذا الإله لم نسمع به من قبل، وقد كثرت الآلهة، ولم يعد هناك شىء موثوق به، فالأفضل الأخذ بالأحوط!
وبعد قليل يقول الكاتب السابق: "يُرَجَّح أن سلسلة النسب هذه (يقصد سلسلة النسب المذكورة فى متّى) لا تتبع التسلسل الطبيعى (الذى تجده فى لوقا...)، بل الملكى والشرعى الذى بفضله كان المسيح وارثا لعرش داود" (نفس المرجع والصفحة). يا حلاوة! هناك إذن نسب طبيعى متسسل، ونسب كده وكده (نسبًا مضروبًا يعنى)، نسب يُذْكَر فى الأوراق الرسمية حتى تكون مهمة مجلس الوصاية على ولى العهد سهلة فلا يتلكّك أحد لأعضائه بحجة الرسميات وختم النسر، فكل شىء كما ترى جاهز، وتستطيع بعد ذلك أن تضع إصبعك فى عين أى موظف يشاغبك ويتحجج بلوائح الروتين، فنحن الذين خَرَمْنا التعريفة ودهنّا الهواء دُوكُو كما يقول المصريون الخائبون!(/6)
والله عال! عشنا وشفنا الآلهة لها نسب، وأى نسب؟: 1- نسبٌ طبيعى، وهذا نعرفه فيما بيننا، لكن لا يصح أن نظهره لأنه كفيل بإفساد الخطة الخاصة بوراثة العرش. 2- ونسبٌ أىّ كلام لزوم وراثة العرش عن داود وعشيقته (التى صارت زوجته فيما بعد) بَتْشَبَع: إى نعم، داود وبتشبع الزانيين القراريّين كما تكلم عنهما الكتاب المقدس ذاته ولست أنا والله العظيم! وأنطسّ فى نظرى لو كنت قلت هذا أو شيئا من هذا أو أرضى بهذا أو لا ألعن سنسفيل جدود من قال هذا، عليه وعلى من يرضى بهذا لعنات الله والملائكة والرسل والمسيح والناس أجمعين خالدين فيها إلى يوم يبعثون! ولا أظنك قد نسيت حكايتهما ولا السطح والطست والكوز والحركات إياها التى كانت تأتيها المستحمة العارية فى قلب الحوش المكشوف جنب القصر خبط لزق وهى تغنى أغنية "الطشت قال لى" مع الحفاظ على حقوق الأداء العلنى لورثة المرحومة عايدة الشاعر! ولقد كان الشدياق يداعب امرأته كلما نشزت عليه فيقول لها: "بحق السطح" فتلين فى الحال. ويبدو أنه كان بينهما شىء خاص وقع فوق السطح، فهو يذكّرها به فتتذكر، أو ربما كان يشير إلى الواقعة الغرامية بين داود وبتشبع. ولم أكن أعلم أن للسطوح سرا باتعا بهذا الشكل! ولأن الشىء بالشىء يُذْكَر فقد كنا ونحن صغار (وكان ذلك فى منتصف الخمسينات من القرن الماضى) نتجمع ليلا على إحدى المصاطب قريبا من بيوتنا فى ضوء القمر ثم يحكى البارعون منا فى الكلام حواديت، وكان من بيننا ولد عفريت يمتهن مع زوج أمه مهنة صنع الغرابيل والمناخل، فكان يحكى لنا دائما حدوتة واحد من أصحاب هذه المهنة كان يعاكس النساء وهو ينادى على بضاعته، فيرفع عقيرته صائحا أمام البيوت التى يمر بها: "يا ستى يا اللى فوق السطوح! آجِى واللا ارُوح؟ يا اللى عاوزة المنخل"! فهذه ثلاثة شواهد على مدى أهمية السطوح فى حياة البشر، ولو بحثتم عن شواهد أخرى فأنا موقن أنها متوفرة بغزارة! لكن الذين ذكروا هذا النسب الـ"أى كلام" نَسُوا للأسف أنه هو نسب يوسف النجار. يا ألطاف الله! يعنى: الحكاية مطيَّنة من الناحيتين: فهو أولا نسب مزوَّر وملخبط، وثانيا نسب مريب يسىء للسيد المسيح، الذى نجلّه نحن المسلمين ولا نرضى أن تناله شبهة إساءة، فهو نبى من أنبياء الله الأطهار، عليه أفضل الصلوات وأزكى السلامات، ولعن الله كل من تسوِّل له نفسه النجسة الإساءة إليه ولو بالتلميح من بعيد!
لكن نعود للنسبين: الإلهى والبشرى، ونتساءل: لماذا هذا الاختلاف بين الكاتبين فلم يذكر كل منهما النسبين فيريح ويستريح؟ سيقولون إن كلا منهما ركز على جانب من جانبى السيد المسيح. لكن السؤال هو: ولماذا لم يكن كل منهما واضحا فى هذه المسألة التى تقوم عليها الديانة التى ينتمى إليها فيقول بصريح العبارة إنه قد ركز على جانب واحد من الأمر وترك الجانب الآخر من أجل كذا وكذا؟ كما أن ثمة سؤالا آخر فى غاية الخطورة: ترى هل معنى تركيز متّى على الجانب البشرى فى المسيح أن ينسبه، وفى بداية الإصحاح الأول منه، إلى يوسف النجار، الذى كان كثير من اليهود وما زالوا يتهمون به مريم عليها السلام؟ إن أقل ما يقال فى متّى أنه قد أعطى بذلك أعداء المسيح صلى الله عليه وسلم السكين لطعن شرفه وعِرْض أمه الكريمة الطاهرة التى رفعها القرآن الكريم فوق نساء العالمين، إن لم نقل فيما فعله ذلك المؤلف أكثر من هذا! وهاهو ذا متّى يؤكد أنه ابن يوسف ومريم معا فى أكثر من موضع، إذ يصفهما مثلا بأنهما: "أَبَوَاهُ" (2/ 41)، "وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ..." (2/ 27)، كما تقول مريم مخاطبة عيسى الصغير وهى تشير إلى يوسف ونفسها:"يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَ ذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" (2/ 48).(/7)
كذلك يقول لوقا فى ذات الفصل إن الملاك قد ظهر لمريم مبشرا إياها أنها ستلد ولدا اسمه يسوع، قائلا لها مرة إنه سوف يُدْعَى: "ابن العَلِىّ"، ومرة أخرى: "ابن الله"، أما متّى فيقول فى نفس الفصل أيضا إنه سيُدْعَى: "عِمّانوئيل"، أى "الله معنا". فهذا تناقض فيما قاله الملاك، فضلا عن أنه فى رواية متّى لم يقل هذا لها هى، بل ليوسف، وهو تناقض آخر! وهاتان هما الروايتان على الترتيب: "30فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. 31وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. 32هَذَا يَكُونُ عَظِيماً ، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،33وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَد، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَة .34فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ 35فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ (هكذا وردت فى طبعة المشباك التى رجعتُ إليها، والصواب: "لها"): اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ ،وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ ، فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ"، "20وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هَذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ، لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. 21فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ . لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم . 22وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِلِ : 23 هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً ، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيل الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا".
وحين يولد عيسى بن مريم عليه السلام يحكى لنا متّى (ف 2) حكاية فى منتهى الطرافة تخالف العقل من كل ناحية نظرت إليها وبأى معنى حاولت أن تفهمها. ولنسمع أولا الحكاية ثم نفصل القول فيها بعض التفصيل حتى يتضح وجه طرافتها ومجانبتها للعقل: "1وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ 2قَائِلِينَ:«أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». 3فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. 4فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْب، وَسَأَلَهُمْ:«أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» 5فَقَالُوا لَهُ:«فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ. لأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: 6وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ».7حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. 8ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ:«اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضًا وَأَسْجُدَ لَهُ». 9فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. 10فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. 11وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا. 12ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيق أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ".(/8)
والآن إلى تحليل الحكاية الطريفة المجانبة للعقل: أول كل شىء أن المجوس يتحدثون عن مَلِك لليهود. فأين ذلك المَلِك؟ لقد وُلِد المسيح عليه السلام فى مِذْوَد، لا فى قصر ملكى، وكان ولى أمره نجارا لا قيصرًا ولا كسرًى ولا فرعونًا من الفراعين. كما أنه لم يصر ملكا فى يوم من الأيام بأى معنى من المعانى. الشىء الثانى أن هؤلاء المجوس الآتين من المشرق قد أخذوا يسألون عن ملك اليهود، وهو ما يدل على أنهم كانوا بحاجة إلى من يسألونه عن مكان هذا المَلِك المزعوم لا أنهم كانوا يعرفونه. لكننا بعد قليل سوف نسمع "الراوى يا سادة يا كرام" يقول إن النجم المذكور سوف يظهر لهم ويسير أمامهم، ثم يجىء ويقف فوق بيت الملك المزعوم. فأى الروايتين نصدق بالله عليكم؟ وثالثا فإن "الراوى يا سادة يا كرام" يتحدث عن تحرك النجم أمام هؤلاء المجوس وكأنه كان يمشى بنفس إيقاع حركتهم، فهل هذا معقول؟ وهل كان يتوقف نهارا حتى يستطيعوا استئناف رؤيتهم له ليلا فلا يضلوا عنه بعد أن يكون قد سبقهم فى سماء الله الواسعة؟ أعطونى عقلكم من فضلكم أتصبر به! اللهم إلا إذا قالوا إنه نجم "نونو" كان لا يزال فى اللفّة، فلم يكن قد تعلم المشى بعد، دَعْكَ من الجرى بسرعة لا تطولها سرعة الصاروخ ولا فى الأحلام، بل كان يحبو على أربع، وكانت أمه النجمة الكبيرة (نجمة حقيقية من نجوم السماء لا من بتوع السينما) تصفق له وقد أدارت له شريط أحلام: "تاتا خَطِّ العتبة! تاتا حَبّة حَبّة!"، فإن كان كذلك فإنى أسلِّم من الآن وأغلق فمى فلا أفتحه أبدا! وهذا النجم هل يمكن أن نصدق أنه قد انخلع من مداره ولم يسقط مع ذلك فى الفضاء السحيق مثل أى نجم يخرج عن فَلَكه؟ ثم ما معنى قول الراوى عن النجم إنه "جاء ووقف فوق"، أى فوق البيت الذى كان فيه الملك الرضيع المزعوم؟ والسؤال هو: جاء من أين؟ من السماء طبعا؟ وإلى أين؟ إلى تحت طبعا بحيث يكون قريبا من المذود الذى كان فيه الطفل الرضيع. أليس هذا هو ما نفهمه من النص بدون أى تكلف؟ فهل هذا ممكن، ونحن نعرف أن النجم أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة؟ أما ما يقال من أن هؤلاء المجوس كانوا يحملون بعض الآلات الهندسية التى يمكنهم أن يحددوا عن طريقها مكان المذود مع الاستعانة بالنجم، كبيرة كانت هذه الآلات أم صغيرة، فأمر يبعث على الضحك لأن النص لم يقل ولا يمكن أن يقول شيئا عن هذا، ذلك أنهم لم يكونوا فلكيين، وإلا ما فاتت هذه متّى ولشنّف آذاننا بها. وقد رأينا المجوس فى البداية لا يعرفون كيف يستدلون على المكان، فكانوا يسألون الناس. ولو كانت معهم آلات فلكية ما كانوا بحاجة إلى مثل هذا السؤال أصلا! أليس كذلك؟ ثم كيف يا ترى استطاعوا التفاهم مع مريم ويوسف، وهم من غير أهل البلاد، أى لم يكونوا يتكلمون لغة الأم وخطيبها؟ وثالث عشر (أو رابع عشر، لا أدرى بالضبط): من أى كتابٍ أو فمٍ عَلِمَ أولئك المجوسُ بأمر ذلك النجم؟ بل لماذا يهتم المجوس بذلك الأمر أساسا، وهم ليسوا من اليهود؟ ولماذا ينبغى أن يشعروا أنهم لا بد لهم من السجود لملك بنى إسرائيل؟ ترى بأى كتاب أم بأية سنة وجب عليهم هذا؟ وبعد أن رَأَوْا ملك اليهود لماذا لم يَبْقَوْا إلى جانبه ما داموا قد تكلفوا مشاق ذلك السفر الطويل الذى يهدّ القُوَى؟ أو على الأقل لماذا لم يظهروا ثانية فى حياة السيد المسيح حين كبر وأعلن دعوته وشرع يبشر بملكوت السماوات؟ وهو نفس السؤال الذى يصدق على جماعة الرعاة فى حكاية لوقا المقبلة بعد قليل، فاستعدوا لها.
وثمة أسئلة كثيرة أخرى لا أريد أن أرهق القارئ بها فأكتفى بهذه، وأنبه إلى أن هذه الحكاية هى من اختراع متّى وإحدى بُنَيّات خياله: سجلها باسمه ببراءة اختراع خاصة به، ولهذا لا نجدها فى أقاصيص الأناجيل الثلاثة الباقية، بل نجد بدلا منها قصة مخترعة أخرى عند لوقا، الذى رأى أنه لا يصح أن يكون أقل مقدرة على اختراع القصص الشائقة (الشائقة على ما بها من ثغرات كثيرة مزعجة رغم طرافتها)، فأورد حكاية مختلفة عن جماعة من الرعاة ظهرت لهم الملائكة وهى تترنم مبشرة بولادة عيسى عليه السلام... إلى آخر ما قاله فى الفصل الثانى من إنجيله عن أولئك الرعاة المساكين الذين لا لهم فى الثور ولا فى الطحين، لكن لوقا أكرههم على الظهور فى حكايته إكراها. ولهذا لا نراهم، بل لا نسمع بهم أو عنهم مجرد سماع بعد ذلك أبدا بما يدل على أن مؤلف القصة يفتقر إلى القدرة على إحكام الحبكة الفنية وأنه إنما أراد ألا يتأخر عن متّى فى التأليف والاختراع. ثم لماذا تظهر الملائكة لجماعة من الرعاة ليس لهم فى حياة السيد المسيح عليه السلام أى دور يؤدونه ولا حتى دور الكومبارس؟(/9)
وهذه هى الحكاية الشائقة: "1وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. 2وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. 3فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. 4فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، 5لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. 6وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. 7فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. 8وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، 9وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. 10فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: 11أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. 12وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». 13وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: 14«الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».15وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ». 16فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. 17فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. 18وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. 19وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. 20ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ".
وحينما سألتْ يحيى، عليه السلام، الجموعُ التى أتت لتتعمد على يديه هل هو نفسه المسيح، جاء رده على النحو التالى فى الأناجيل المختلفة: "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ ، وَلَكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي ، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (لوقا/ 1/ 169)، " أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلَكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ.27 هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِه" (يوحنا/ 1/ 26- 27)، "11أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ ، وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي ، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. 12الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ" (متى/ 3/ 11- 12)، "يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُس" (مرقس/ 1/ 7- 8). وبنظرة سريعة نستطيع أن نتبين الاختلاف الموجود بين نص كلام يحيى فى الأناجيل الأربعة ما بين أنه لا يستحق أن يحل سيور حذاء المسيح أو أنه لا يستحق حمل الحذاء أو سكوت القصة عن هذه النقطة أصلا، وكذلك الاختلاف فى أن المسيح سوف يعمدهم بالروح القدس والنار أو بالروح القدس فقط... إلى آخر الاختلافات بين نصوص الأناجيل الأربعة.(/10)
ونسمع يحيى فى إنجيل لوقا (الفصل الأول) يشتم الجموع كلها التى أتت لتتعمد على يديه: "7وَكَانَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ الَّذِينَ خَرَجُوا لِيَعْتَمِدُوا مِنْهُ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي ، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. ولاَ تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ : إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْرَاهِيمَ. 9وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّار. 10وَسَأَلَهُ الْجُمُوعُ قَائِليِنَ : فَمَاذَا نَفْعَلُ؟ 11فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ : مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هَكَذَا "، على حين أن شتائمه فى لوقا (الفصل الثالث) تقتصر من هذه الجموع على الفَرِّيسيّين والصَّدُّوقيّين وحدهم: "7فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي ، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ 8فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ". أما فى مرقس ويوحنا فلا ذكر لتلك الشتائم!
وفى متّى (4/ 15) أن الملائكة جاءت وصارت تخدم المسيح بعد أن فشل الشيطان فى أن يُغْوِيَه أثناء الأيام الأربعين التى قضاها عليه السلام فى البَرِّّية صائما فانصرف عنه: "12ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ"، أما فى مرقس (1/ 13) فكانت الملائكة تخدمه فى الوقت الذى كان يجرَّب فيه من الشيطان: "13وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ". وهذا تناقض لا أدرى كيف نحلّه!(/11)
أما بالنسبة لأول لقاء تم بين المسيح عليه السلام وسمعان وأندراوس (تلميذان من تلاميذه) فهكذا يحكيه لنا يوحنا (الفصل الأول) :"35وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 36 فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ ! . 37 فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟ 39فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَانْظُرَا . فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ. 40كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. 41 هَذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ . 42فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ . 43 فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي . 44 وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. 45فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَة". فإذا يممنا وجوهنا نحو متّى (الفصل الرابع) راعنا أن القصة مختلفة بما لا يمكن التوفيق بينها وبين رواية يوحنا: "18وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 19فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاس. 20فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا ، فَدَعَاهُمَا. 22فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ"، ومثلها رواية مرقس (الفصل الأول):"14وَبَعْدَ مَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ 15وَيَقُولُ: قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيل .16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاس . 18فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ". فها نحن أولاء إزاء روايتين مختلفتين فى موضوع واحد اختلافا لا يمكن تجاهله والمرور فوقه دون اهتمام بمغزاه، وهو مغزى خطير بالنسبة لعصمة الكتاب المقدس كما لا بد أن يخطر فى بال القارئ! فأين يا ترى تم ذلك اللقاء الأول بين المسيح وتلميذيه؟ هل لَقِىَ السيد المسيح الأخوين المذكورين عند أبيهما بجوار القارب؟ أم هل فى حلقة يحيى يستمعان إلى مواعظه؟ مشكلة كبيرة لا سبيل لحلها!(/12)
وهناك ما يسمَّى بـ"موعظة الجبل"، فهل كانت فعلا فوق جبل كما يقول متّى، وهل كانت على النحو التالى:"5 1 وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. 2 فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً : 3 طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 4طُوبَى لِلْحَزَانَى ، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. 5طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. 6طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ ،لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. 7طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. 8طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ. 9طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ. 10طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. 11طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ ، مِنْ أَجْلِي ،كَاذِبِينَ. 12اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ. 13 أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ ، وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ. 14أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ ، 15وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ ،بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ ،لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 17 لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا ،يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ ،فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.20فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ. 21 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. 22وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. 23فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ ،24فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ ،وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. 25كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ ،لِئَلا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي ، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. 26اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ! 27 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا ، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 31 وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ . 32وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي ، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي. 33 أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. 34وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ(/13)
لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ ، 35وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. 36وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. 37بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ. 38 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. 39وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. 40وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. 41وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. 42مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. 43 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ ، 45لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. 46لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ 47وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟48فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ. 6 1 اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ ، وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ ،4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 5 وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ ،فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ ،لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ. 9 فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. 10لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 11خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. 12وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ ، لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ ، وَالْقُوَّةَ ، وَالْمَجْدَ ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. 14فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاّتِكُمْ. 16 وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ ،18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ(/14)
عَلاَنِيَةً. 19 لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ ،وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ ،فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً ، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً ، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!24 لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ. 25لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26 اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ،وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟27وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ 28وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ : إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ،يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا ، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. 33لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ. 7 1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا ،2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ 5يَا مُرَائِي ، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ ،وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! 6لاَ تُعْطُوا الْقَُدْسَ لِلْكِلاَبِ ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ ، لِئَلا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ. 7 اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 8لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. 9أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً ، يُعْطِيهِ حَجَراً؟ 10وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً ،يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ 11فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! 12فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ. 13 اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ ،لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! 14مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! 15 اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ ، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! 16مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ(/15)
الشَّوْكِ عِنَباً ، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ 17هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً ، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً ، 18لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً ، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. 19كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 20فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.21 لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 22كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا ، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! 24 فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا ،أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. 25فَنَزَلَ الْمَطَرُ ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. 26وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا ، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ ، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. 27فَنَزَلَ الْمَطَرُ ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً! . 28فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، 29لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ".(/16)
وهل كانت بهذا اللفظ حرفيا وبنفس هذا الطول؟ أم هل كانت أقصر وبلفظ مختلف على نحو ما وألقاها المسيح فى سَهْلٍ لا فوق جَبَلٍ حسبما جاء عند لوقا (الفصل الخامس): "17وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ ، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ،18وَالْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. 19وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ ، لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ.20وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. 21طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. 22طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. 23اِفْرَحُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا ، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ. 24وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. 25وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى ، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. 26وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ. 27 لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ،28بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. 29مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً ، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً. 30وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. 31وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هَكَذَا. 32وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا. 34وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضاً يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ الْمِثْلَ. 35بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئاً ، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيماً وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ ، فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. 36فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ. 37وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. 38أَعْطُوا تُعْطَوْا ، كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُم .39وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً: هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ الاِثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ 40لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. 41لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 42أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي ، دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِكَ ، وَأَنْتَ لاَ تَنْظُرُ الْخَشَبَةَ الَّتِي فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. 43لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً رَدِيّاً ، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَراً جَيِّداً. 44لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ تِيناً ، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ الْعُلَّيْقِ عِنَباً. 45اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ(/17)
الصَّلاَحَ ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ. 46وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ ، يَا رَبُّ ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ 47كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ 48يُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتاً ، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذَلِكَ الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ. 49وَأَمَّا الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ ، فَيُشْبِهُ إِنْسَاناً بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً ، وَكَانَ خَرَابُ ذَلِكَ الْبَيْتِ عَظِيماً"؟
وحين ننتقل معه، صلى الله عليه وسلم، إلى كفرناحوم بعد تجريب الشيطان له فى البرية لمدة أربعين يوما كما تقول الأسطورة نفاجأ أن لدينا فى الأناجيل ثلاث روايات مختلفة لما حدث آنئذ: ففى لوقا: "31وَانْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ ، مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي السُّبُوتِ. 32فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. 33وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: 34 آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ ؟أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ ! . 35فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: اخْرَسْ ! وَاخْرُجْ مِنْهُ !. فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسْطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. 36فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ ؟لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ ! . 37وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ".
وفى يوحنا: "12 وَبَعْدَ هَذَا انْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتلاَمِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً 13 وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ،14 وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. 15 فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. 16وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ ! . 17فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي .18فَأَجَابَ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ : أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟ 19أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُه . 20فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ 21وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. 22 فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.23 وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. 24 لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. 25وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ".(/18)
وفى مرقس: "21ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ فَصَرَخَ24قَائِلاً: آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ! 25فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: اخْرَسْ ! وَاخْرُجْ مِنْهُ! 26فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: مَا هَذَا؟ مَا هُوَ هَذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ! 28فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ".
والآن أعتقد أن الروايات الثلاث تتحدث بنفسها ولا تحتاج لمن يستطلع خبرها، إذ هى واضحة وضوح الشمس: فلوقا يقول إن المسيح عليه السلام كان يذهب كل سبت إلى المجمع فيعلم أهل كفر ناحوم، وإنه أخرج ذات مرة شيطانا من أحد المصروعين كان يشغب عليه فى دروسه، وإن الناس عجبوا لما حدث وذاع صِيتُه بسبب ذلك فى المنطقة المحيطة. وغَنِىٌّ عن القول إننا، وإن آمنّا بأن المسيح كان يشفى المرضى، لا نصدق أن الشياطين التى تسكن الأجساد (إن كانت شياطين فعلا) تتكلم وتتحدى من يحاول إخراجها من جسد المصروع. أما يوحنا فلم يتعرض لما حدث منه أو له فى كفرناحوم، بل انتقل سريعا إلى أورشليم وأورد غضبه من تحول الهيكل على يد الكهنة والتجار والصيارفة إلى مكان للبيع وصرف النقود وحظيرة للبهائم، وسَوْقه، صلى الله عليه وسلم، كل ذلك أمامه إلى خارج المكان بالسوط، وفى ذات الوقت لم يذكر شيئا عما وقع منه من شفاء بعض المرضى. وتتبقى رواية متى، وخلاصتها أن قائدا من قواد المائة اعترض طريق المسيح طالبا منه أن يشفى غلاما له، ولما تهيأ عيسى للذهاب معه إلى منزله علّق القائد قائلا إنه ليس بحاجة إلى الانتقال معه إلى البيت حيث الغلام المريض، بل كل ما يحتاجه منه أن يقول كلمة فيُشْفَى المريض على الفور، فعَدّ عيسى هذا منه إيمانا قويا لا يتوفر لأى إنسان من بنى إسرائيل، وكانت النتيجة أن برأ الغلام لوقته وهو فى الدار.
ولا أظن القارئ إلا تنبه لاستجابة المسيح السريعة لقائد المائة، إذ أبدى استعداده للذهاب معه فى الحال لبيته ليشفى له غلامه، على عكس سلوكه مع المرأة الكنعانية التى كانت لها ابنة مريضة وأخذت تتذلل وتسجد له وتلح عليه، على حين يردّ هو على لهفتها بكلمات قارصة مذلة بحجة أنه لم يُرْسَل إلا لخراف بنى إسرائيل الضالة (رغم أن قائد المائة هو أيضا أممى مثلها، أى من غير بنى إسرائيل)، حتى استجاب لها أخيرا، ولَمّا يَكَدْ! أتراه فعل هذا لأن الرجل قائد عسكرى، بينما هى مجرد امرأة مسكينة لا حول لها ولا طول؟ إننا لا نقصد بأى حال أن السيد المسيح قد فعل ذلك حقا، بل نقصد أن متّى (أقصد من ألف هذا الإنجيل، وهو ليس متى الحوارى بأى حال، وأغلب الظن أنه لا يسمى: "متّى" أصلا) قد عكس نفسه وأخلاقه على المسيح، ورسول الله من مثل ذلك السلوك براء!(/19)
ثم عندنا معجزة الخبز والسمك، وكل من مؤلفى الأناجيل يكتبها بطريقته التى تتفق مع ما قاله غيره فى أشياء، وتختلف فى أشياء: فمثلا هل كانت الجموع قد مكثت مع عيسى عليه السلام عدة أيام قبل أن يفكر فى مشكلة الطعام وكيفية تدبيره لهم؟ أم هل كان ذلك فى أول يوم؟ وإذا كان فى أول يوم، فهل كان ذلك بعد الوعظ؟ أم هل كان بمجرد أن رفع بصره ورآهم مقبلين نحوه؟ كما أن بعض الروايات تقول إنه "خرج" ليقابل تلك الجموع، فما المقصود بالخروج هنا، وهو إنما كان فى موضعٍ خلاء؟ ثم كيف يا ترى تم التفكير فى مشكلة الطعام؟ هل الحواريون هم الذين لفتوا نظره إليها؟ أم هل هو الذى فكر فيها ابتداء وطلب منهم أن يفكروا معه فى حلها؟ وهل هم الذين عرضوا عليه أن يذهبوا فيشتروا الطعام؟ أم هل هو الذى عرض عليهم ذلك؟ هنا تختلف الروايات، وإن اتفق الأربعة على أن هناك معجزة طعامية قد وقعت أشبع فيها السيد المسيح عدة آلاف من البشر، لا ندرى أهم أربعة آلاف أم خمسة؟ وهل كانوا رجالا فقط حسبما يُفْهَم من بعض الروايات أو كان هناك نساء وأطفال أيضا كما نصّت بعض الروايات الأخرى؟ وماذا كان عدد الأرغفة؟ أكانت خمسة أرغفة أم كانت سبعة؟ والسمكات: هل كانت سمكتين تحديدا؟ أم المقصود أنها كانت قليلة العدد جدا، والسلام؟ والأرغفة التى تبقت بعد أن أكلت الجموع وشبعت: هل ملأت سبع سلال (أو قُفَّة. واختر ما يعجبك، فإنها لا تفرق كثيرا)؟ أم هل ملأت اثنتى عشرة قُفَّة (أو سَلَّة)؟ ثم هل بقيت أسماك بعد الأكل أو لم يتبقّ إلا الخبز فقط؟ وماذا كان مصير ذلك الخبز؟ هل تركوه وراءهم على أساس أن المسيح موجود فى كل حين يستطيع أن يتكفل لهم بالطعام والشراب دون تعب منهم أو مشقة؟ أم هل تقاسموه بينهم تحسّبا للمفاجآت؟ على كل حال نترك القارئ مع الروايات المختلفة للحكاية:
متى: "13فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ.14فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. 15وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاما . 16فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا . 17فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا هَهُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَان . 18فَقَالَ: ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا . 19فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الْعُشْبِ . ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. 20فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. 21وَ?لآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ".(/20)
مرقس: "8(إلى9 :1) 1فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 2((إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. 3وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيد.((مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟ 5فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ . 6فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا ، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. 8فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا . ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. 9وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ.11فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ.12فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً!. 4((مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هَؤُلاَءِ خُبْزاً هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟ 5فَسَأَلَهُمْ: كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟ فَقَالُوا: سَبْعَةٌ . 6فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا ، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هَذِهِ أَيْضاً. 8فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا . ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَلٍ. 9وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ.11فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ.12فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هَذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هَذَا الْجِيلُ آيَةً"!
يوحنا: "61 بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. 2وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي الْمَرْضَى. 3فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. 4 وَكَانَ الْفِصْحُ، عِيدُ الْيَهُودِ، قَرِيباً. 5 فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟ 6 وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. 7أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيرا . 8 قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: 9 هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟ 10فَقَالَ يَسُوعُ: اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُون . وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. 11 وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ، وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. 12 فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: اجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَي ْء . 13 فَجَمَعُوا وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ، الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ. 14فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ! 15 وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ".(/21)
لوقا: "10وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا ، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. 11فَالْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. 12فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاِثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً ، لأَنَّنَا هَهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَء . 13فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا. فَقَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَاماً لِهَذَا الشَّعْبِ كُلِّه. 14لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِين . 15فَفَعَلُوا هَكَذَا، وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ. 16فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. 17فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً".
ونفس الاضطراب نجده فى أسماء الرسل الاثنى عشر الذين يقال إن عيسى بن مريم عليه السلام أرسلهم للتبشير بملكوت السماوات بين بنى إسرائيل، فهناك روايتان تذكران تداوس، وهناك رواية تذكر بدلا منه يهوذا أخا يعقوب (يعقوب من؟ لا ندرى لأن لدينا يعقوبين لا يعقوبا واحدا). وبطبيعة الحال لا نستطيع أن نعرف أىٌّ هى الصحيحة، إن كانت هناك رواية صحيحة أصلا، فكل شىء فى الأناجيل مُشْكِل إلا القليل. ويقول محررو "تفسير الكتاب المقدس" إن يهوذا وتداوس قد يكونان شخصا واحدا (5/ 107)، وهو توجيه سخيف وكلام فارغ يبدو أن صاحبه قد كتبه وهو سكران، وإلا أفلا يعرف أن تداوس لم يُذْكَر أنه أخ ليعقوب (سواء كان يعقوب بن حلفى أو يعقوب بن زبدى) على عكس ما قيل عن يهوذا ذاك وعن غيره؟ فضلا عن أن تداوس كان له اسم آخر هو لباوس، فلا يعقل أن يكون له ثلاثة أسماء، وإلا كانت الحكاية سِيبَة! المهم أن هؤلاء الشراح واعون بهذه الكارثة، وإن حاولوا بخفة واستهتار أن يقدموا لها حلا مضحكا لا يقنع الطفل الصعير! وإلى القارئ الكريم لائحة التلاميذ الاثنى عشر كما وردت فى الأناجيل الثلاثة:
متى (الفصل العاشر): "101ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا ، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ. 2وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاِثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هَذِهِ: الأَََوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي ، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. 3فِيلُبُّسُ ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا ، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى ، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. 4سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. 5هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا ، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ".
مرقس (الفصل الثالث): "13ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. 14 وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلْيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، 15وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ. 16وَجَعَلَ لِسِمْعَانَ اسْمَ بُطْرُسَ. 17 وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ . 18 وَأَنْدَرَاوُسَ ، وَفِيلُبُّسَ ، وَبَرْثُولَمَاوُسَ ، وَمَتَّى وَتُومَا، وَيَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى، وَتَدَّاوُسَ ، وَسِمْعَانَ الْقَانَوِيَّ، 19وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي أَسْلَمَهُ. ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ".(/22)
لوقا (الفصلان السادس والتاسع): "12وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ لِلَّهِ.13وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضاً رُسُلا : 14سِمْعَانَ الَّذِي سَمَّاهُ أَيْضاً بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. 15مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ الَّذِي يُدْعَى الْغَيُورَ. 16يَهُوذَاأَخَا يَعْقُوبَ ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي صَارَ مُسَلِّماً أَيْضاً... 91دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، 2وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى. 3وَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ : لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً ، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. 4وَأَيَُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا ، وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. 5وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ ، وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِم . 6فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِع ".
ولقد قرأنا فى ذيل قائمة متّى الخاصة بأسماء الحواريين ما قاله المسيح لهؤلاء التلاميذ، وهذا نصه مرة أخرى من باب التذكرة: "5هَؤُلاَءِ الاِثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ"، وهو ما يدل أيضا على أن رسالته إنما هى لبنى إسرائيل وحدهم كما قال هو نفسه أكثر من مرة حسبما رأينا من قبل، ومن ثم فهو لم يأت للتكفير عن الخطيئة الأولى للبشرية جمعاء عكس ما يقال! وهذه مشكلة كبيرة لا أدرى كيف يمكن التغلب عليها! ومع ذلك فلسوف ينطلق هؤلاء التلاميذ فيمضون إلى الأمم ويتركون بنى إسرائيل، فمن أذن لهم بهذا بعد كل النهى الذى نهاهموه ربهم (كما يقولون عنه، أستغفر الله العظيم من كل ذنب وكفر، أو نبيهم كما نقول نحن)؟ هذه مشكلة أو بالحَرَى: كارثة أخرى! استر يا ستار! ليس ذلك فقط، بل إن المسيح نفسه قد قام بشفاء ابنة امرأة سامرية، وكان من نتيجة هذا أن آمن به، عليه السلام، كثير من السامريين ودَعَوْه إلى بيوتهم فاستجاب لهم وعاش بينهم يومين كاملين، وكان تعليقهم على ذلك أن "هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّص العالم"، أى ليس مخلص بنى إسرائيل وحدهم: "39فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْت. 40فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ.41فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ. 42وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَم" (يوحنا/ ف 4). كما أنه استجاب لامرأة كنعانية وشفى لها بنتها، وإن كانت قد أُذِلّت أولا إذلالا كثيرا قبل أن يستجيب لها، وبالمثل نزل على رجاء أحد الضباط الرومان وشفى له غلامه رغم أنه أعلن مرارا أنه لم يرسل إلا لخراف بنى إسرائيل!(/23)
آه، لكنك يا حضرة الكاتب (الذى هو أنا) قد نَسِيتَ فيما يبدو أن المسيح نفسه قد عاد فى كلامه (ومن منا لا يعود؟ فلا تكن إذن حنبليا هكذا!) فأَمَرَهم أَمْرًا أن يذهبوا إلى الأمم الأخرى من غير بنى إسرائيل ويدعوهم بدعوته. أما تعليقى على هذا (أنا حضرة الكاتب) فهو أن ذلك حدث بعد أن مات المسيح (حسب كلامهم) ثم قام من القبر (أيضا بناء على كلامهم)، والمعروف أنه بعد العيد لا يُفَتَّل كعك! فليس من المعقول أن تنتهى حياته عليه السلام على الأرض ولا يتذكر مثل هذا التشريع إلا بعد أن يتم الصلب والقتل ولم تعد تربطه بالأرض رابطة. أما لو أصررتم على أن هذا تشريع صحيح، فعليكم أن تقرّوا أن هذا هو النسخ بعينه، وهو ما تشنِّعون به على الإسلام كيدًا رخيصًا مضحكًا. لكنه يظل مع ذلك نسخا غريبا غير مقنع، إذ إن الموضوع الذى بين أيدينا لا يقبل بطبيعته الدخول فى ميدان النسخ، فالمفروض أن المسيح عليه السلام إنما جاء منذ البداية خِصِّيصًا بغرض التكفير عن البشرية كلها لا عن بنى إسرائيل وحدهم، وهذه ليست مسألة تشريعية يُرَاعَى فيها التدرج والنسخ من ثَمَّ. ولقد جاء فى "إنجيل الولادة" (The Gospel of The Nativity of Mary) ما نصه من كلام الملاك الذى أتى ليوسف النجار فى المنام حينما لاحظ أن مريم خطيبته حامل وشرع الشك والقلق ينهشان قلبه: "For she alone of all virgins shall bring forth the Son of God, and thou shalt call His name Jesus, that is, Saviour; for He shall save His people from their sins. "، وهو ما يعنى بصريح العبارة أن الخلاص الذى أتى به المسيح إنما هو لبنى إسرائيل فحسب، ولا يتعداهم إلى ما وراءهم من أمم العالم. وبالمناسبة فقد نسخ المسيح أشياء أخرى من شريعة موسى رغم أنه كان قد وعد ألا يغير منها شيئا، ثم جاء بطرس وبولس فجاءا بدُرَفها، والحمد لله الذى لا يحمد على المجىء بالدُّرَف سواه! وهذا هو النص الذى أورده مرقس وحده مناقضًا به بقية مؤلفى الأناجيل الأربعة:
"14أَخِيرًا ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15وَقَالَ لَهُمُ:«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئًا مُمِيتًا لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ».19ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ. 20وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَة"ِ.
وبالنسبة لما قام به عيسى بن مريم من معجزات شاعت واستفاض ذِكْرها وما قاله هيرودس تعليقا على هذا نجد أن لدينا فى القصص المسماة بالأناجيل أكثر من رواية، وبعض ما جاء فى هذه الروايات واحد، وبعضه مختلف أو متناقض. وهذه هى الروايات ليقرأها القارئ بنفسه ويحكم لنفسه:
متى (الفصل الرابع عشر): "14 1 فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ، 2فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ! وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّات . 3 فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، 4لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَك . 5وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ خَافَ مِنَ الشَّعْبِ ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ. 6ثُمَّ لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ ، رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسَطِ فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. 7مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ يُعْطِيهَا. 8فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ: أَعْطِنِي هَهُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان . 9فَاغْتَمَّ الْمَلِكُ. وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى. 10فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ. 11فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ ، فَجَاءَتْ بِهِ إِلَى أُمِّهَا.12فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ".(/24)
مرقس (الفصل السادس): "14فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذَلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّات . 15قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيلِيَّا . وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ . 16وَلَكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ! 17لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. 18لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ)) 19 فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، 20لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيراً ، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. 21وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ ، 22دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَك . 23وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي . 24فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا: مَاذَا أَطْلُبُ؟ فَقَالَتْ: رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان . 25فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ . 26فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدّاً. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. 27فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. 28فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. 29وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ".
لوقا (الفصل التاسع): " 7فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ ، وَارْتَابَ ، لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَات . 8وَقَوْماً: إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَر . وَآخَرِينَ: إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الْقُدَمَاءِ قَام . 9فَقَالَ هِيرُودُسُ: يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا؟ وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ".
ففى الراويتين الأُولَيَيْن نسمع هيرودس نفسه يقول: "هَذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!"، ومعنى ذلك أنه كان مطمئنا إلى أن المسيح هو يوحنا، الذى كان هو ذاته قد قتله: قام من القبر وعاد للحياة كرة ثانية. ومع ذلك ففى رواية لوقا نجد كلاما آخر. إنه غير مطمئن إلى شىء، وليس هو الذى قال إن المسيح هو يوحنا قام من الأموات، بل غيره هو الذى قال ذلك، وهناك آخرون قالوا شيئا ثالثا. هذه واحدة، أما الثانية فقول إحدى الروايات إن هيرودس كان يؤمن أن يوحنا نبى، ولهذا لم يشأ فى البداية أن يقتله، أما فى الروايتين الأُخْرَيَيْن فتقولان إنه إنما تردد فى قتله فى البداية مراعاة لمشاعر الناس، إذ كانوا يؤمنون بنبوته، أما هو فلا. وهاتان مشكلتان كبيرتان تحتاجان إلى حل، لكن هذا الحل غير متوفر للأسف!(/25)
ولدى سؤال التلاميذ لمعلمهم عمن يكون الخائن الذى سيسلمه لأعدائه ليقتلوه (كبرت كلمة تخرج من أى فم يقول إن عيسى بن مريم قد قُتِل وصُلِب!) يجيب المسيح عليه السلام حسب رواية يوحنا (الفصل الثالث عشر) بأن الخائن هو الذى سيغمس لقمته معه فى نفس الطبق: "26أَجَابَ يَسُوعُ: هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ! فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ. 27فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَة. 28وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ لِمَاذَا كَلَّمَهُ بِه، 29لأَنَّ قَوْماً، إِذْ كَانَ الصُّنْدُوقُ مَعَ يَهُوذَا، ظَنُّوا أَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْعِيدِ، أَوْ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئاً لِلْفُقَرَاءِ "، بخلاف ما جاء فى الفصل السادس عشر من متّى، الذى يقول: "20وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. 21وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي . 22فَحَزِنُوا جِدّاً ،وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟ 23فَأَجَابَ وَقَالَ : الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي! 24إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ ،وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ! . 25فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ : هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ لَهُ: أَنْتَ قُلْت"، وهو نفسه ما قاله مرقس (الفصل الثانى عشر): "18وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ قَالَ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي! 19فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِداً فَوَاحِداً: هَلْ أَنَا؟ وَآخَرُ: هَلْ أَنَا؟ 20فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!". أما رواية لوقا (الفصل الثانى والعشرون) فتقول شيئا مختلفا عن هذا وذاك جميعا: "17ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ ، 18لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ الله . 19وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي . 20وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. 21وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. 22وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ ، وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ! . 23فَابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟". فأى هذه الروايات الثلاث هى التى ينبغى أن نصدّق إن كان لنا أن نصدق؟ نحن المسلمين بطبيعة الحال لا نصدق البتة شيئا من هذا، لكننا نحب أن نلفت النظر إلى الاضطراب والتناقض فيما يقوله مؤلفو الأناجيل!(/26)
وحينما دنت ساعة الموت (حسبما تقول الأناجيل) نقرأ عند متّى (ف 26) ومرقس (ف 14) أنه، صلى الله عليه وسلم، كان حزينا مكتئبا، وكان يصلى ويلحّ فى الدعاء أن يجنبه الله شرب تلك الكأس المرة، ثم لما جاء رجالُ الشرطة وخَدَمُ رؤساء الكهنة ليقبضوا عليه فرّ عنه التلاميذ هاربين، وإن انفرد متّى بأنه عليه السلام عندما قبّله يهوذا قبلة الخيانة كان تعليقه: "يا صاحبى، لماذا جئت؟"، مثلما انفرد مرقس بأن الشرطة قد حاولت القبض على أحد الشبان الذين تبعوه وأمسكته من إزاره فخلعه عن نفسه وتركه لهم وجرى عريانا. أما فى لوقا (ف 22) فليس فيها شىء عن فرار التلاميذ ولا عن الشاب الذى هرب عريانا، كما أن العبارة التى قالها المسيح ليهوذا تختلف عما سمعناه فى رواية متى، إذ قال له هنا: " أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟ "، بل إن لوقا لم يذكر هل قبّله يهوذا فعلا أو لا، إذ الموجود عنده هو: "فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. 48فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا ، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟"، على حين أن يوحنا (ف 18) لا يعرف شيئا عن حكاية القبلة هذه التى ضُرِب بها المثل، بل كل ما هنالك أن يوحنا كان واقفا معهم، فضلا عن أن وقائع القبض على المسيح تختلف عما فى الروايات الأخرى اختلافا شديدا، فتلك الروايات تتحدث عن قوله مقرّعا القادمين للقبض عليه: "أعَلَى لصٍّ خرجتم؟" ثم تقدُّمهم وإلقائهم القبض آنذاك عليه، أما هنا فإنه ما إن يقول: "أنا هو"، حتى نفاجأ بهم يتراجعون للخلف ويسقطون على ظهورهم. أما التلاميذ فلم يفرّوا بل هو الذى طلب من المهاجمين أن يَدَعوهم ينصرفون بسلام. وهذه كلها مصائب متلتلة كان الله فى عون من يحاول أن يداوى شروخها التى تنذر بسقوط البناء كله!
فإذا تحولنا إلى مشهد المحاكمة راعنا أيضا الاختلاف بين الروايات: فرواية تقول إن عيسى، لما سئل: "هل قلت إنك المسيح ابن الله؟"، قد أجاب: "أنا هو"، ورواية تقول إنه اكتفى بعبارة : "أنت قلت"، وثالثة لا يجيب بنعم أو لا، بل نسمعه يقول: "إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ، 68وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي" . كما أن بعض الروايات تتحدث عن أن الضرب واللطم ابتدأ بعد أن تمت إدانته، وبعضها يذكر ذلك منذ البداية، ورواية تذكر الجَلْد، وبقية الروايات لا تذكر هذا، ورواية لا تذكر من كل ذلك سوى أن أحد الخدم صفع عيسى عليه السلام على وجهه قرب نهاية المحكمة على ما عَدَّه جرأة منه فى مخاطبة رئيس الكهنة. أما يوحنا فقد سكت فلم يورد طبيعة السؤال الذى سُئِلَه عيسى عليه السلام، وكل ما هناك أنهم سألوه عن الأمور التى كان يدعو بها، وأنه قد أجاب بأنه إنما كان يدعو بما عنده علانية لا فى الخفاء، فليسألوا إذن أولئك الذين كان يعلمهم، فعندهم الجواب:
متى (ف 26): " 7وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ ،حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. 58وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ ،فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. 59وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، 60فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ ،لَمْ يَجِدُوا. وَلَكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ 61وَقَالاَ: هَذَا قَالَ : إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ ،وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيه . 62فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟ 63وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ : أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟ 64قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ ،وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاء . 65فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! 66مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَأَجَابُوا وَقَالوُا: إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْت . 67حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ 68قَائِلِينَ: تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟" .(/27)
مرقس (ف 65): "53فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَكَانَ جَالِساً بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ، وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا 56لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُوراً قَائِلِينَ: 58 نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَاد . 59وَلاَ بِهَذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قَائلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟ 61أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتاً وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضاً وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ 62فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ . 63فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟ فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: تَنَبَّأ . وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ".
لوقا (ف 22): "63وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، 64وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِليِنَ : تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟ 65وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ.66وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ 67قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ ، فَقُلْ لَنَا! . فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ، 68وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. 69مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ الله . 70فَقَالَ الْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُو . 71فَقَالُوا: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِه" .
يوحنا (18): "19فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ. 20أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. 21لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا .22وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً ، قَائِلاً: أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟ 23أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟ 24وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ".(/28)
فإذا بلغنا ندم يهوذا على ما ارتكب من غدر وخيانة ألفينا أمامنا هاتين الروايتبن: فالأولى، وهى موجودة لدى كتاب الأناجيل، تقول إنه ذهب فردَّ الثلاثين فضة التى كان قد أخذها من الكهنة لقاء خيانته وغدره بمعلمه، ثم ثنّى بشنق نفسه: "27 1 وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ ،2فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي. 3حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ ،نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ 4قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئا . فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! 5فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ،ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. 6فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَم . 7فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. 8لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ حَقْلَ الدَّم إِلَى هَذَا الْيَوْمِ" (متى/ 27، وبقية الأناجيل تنحو نفس المنحى)، أما الرواية الثانية فنعثر عليها فى "أعمال الرسل"، وفيها أنه قد انشق بطنه فى الحقل ولم ينتحر: ""18فَإِنَّ هَذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. 19وَصَارَ ذَلِكَ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ حَتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا» (أَيْ: حَقْلَ دَمٍ). 20لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آَخَرُ" (أعمال الرسل/ 1/ 18- 19). والآن أترك القارئ يحاول أن يزيل هذا التناقض براحته! المهم أنى قلت ما عندى، والسلام!
والآن إلى محاكمة بيلاطس للمسيح عليه السلام حسبما كتب مؤلفو الأناجيل. ولسوف نورد النصوص أولا ثم نثنِّى بتحليلها ومقارنة بعضها ببعض لنرى مدى اتساقها أو اختلافها أو تناقضها، وها هى ذى النصوص المذكورة:(/29)
متى (ف 27): "11فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلاً : أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُول . 12وَبَيْنَمَا كَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. 13فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تَسْمَعُ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ؟ 14فَلَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ،حَتَّى تَعَجَّبَ الْوَالِي جِدّاً.15وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَاداً فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيراً وَاحِداً،مَنْ أَرَادُوهُ. 16وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسَ. 17فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: مَنْ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ 18لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 19وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قَائِلَةً: إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ ،لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِه . 20وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخَ حَرَّضُوا الْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. 21فَأَجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُمْ : مَنْ مِنْ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: بَارَابَاسَ! . 22قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: لِيُصْلَبْ! 23فَقَالَ الْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ! 24فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئاً، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ ،أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ ! . 25فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَقَالوُا : دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا . 26حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ ،وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. 27فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ، 28فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيَّاً، 29وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ ،وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 30وَبَصَقُوا عَلَيْهِ ،وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ. 31وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ ،نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ".(/30)
مرقس ( ف 15- 16):"15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ. 7وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. 9فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 10لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 11فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12فَأَجابَ بيِلاطُس ُأيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ 13فَصَرَخُوا أَيْضاً: اصْلِبْهُ! 14فقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: اصْلِبْهُ! 15فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ َنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. 16فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ.17وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 19وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ".(/31)
لوقا (ف 15- 16): "15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ. 7وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقاً مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِماً يَفْعَلُ لَهُمْ. 9فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 10لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً. 11فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12فَأَجابَ بيِلاطُس ُأيْضاً وَقَالَ لَهُمْ: فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ 13فَصَرَخُوا أَيْضاً: اصْلِبْهُ! 14فقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدّاً صُرَاخاً: اصْلِبْهُ! 15فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ َنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. 16فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ.17وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! 19وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ".(/32)
يوحنا (ف 18- 19): "28ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. 29فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟ 30أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ! 31فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُم . فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا . 32لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.33ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ 34أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟ 35أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟ 36أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا .37فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي . 38قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ . وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. 39وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟ . 40فَصَرَخُوا أَيْضاً جَمِيعُهُمْ قَائِليِنَ: لَيْسَ هَذَا بَلْ بَارَابَاسَ! وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصّاً. 191فَحِينَئِذٍ أَخَذَ بِيلاَطُسُ يَسُوعَ وَجَلَدَهُ. 2وَضَفَرَ الْعَسْكَرُ إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبَ أُرْجُوانٍ، 3وَكَانُوا يَقُولُونَ: السّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! . وَكَانُوا يَلْطِمُونَهُ. 4فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ: هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَة . 5فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ الشَّوْكِ وَثَوْبَ الأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: هُوَذَا الإِنْسَانُ! . 6فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْخُدَّامُ صَرَخُوا قَائِليِنَ: اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّة . 7أَجَابَهُ الْيَهُودُ: لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّه . 8فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ خَوْفاً. 9فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً. 10فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟ 11أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَم . 12مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِليِنَ : إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ! .13فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ هَذَا الْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْوِلاَيَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْبَلاَط وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ جَبَّاثَا . 14وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ ، وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: هُوَذَا مَلِكُكُمْ! . 15فَصَرَخُوا: خُذْهُ! خُذْهُ ! اصْلِبْهُ! قَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟ أَجَابَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ: لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرَ! . 16فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ".(/33)
ومن خلال القراءة لنصوص الأناجيل فى هذه الواقعة يتبين لنا الآتى: أن ثمة تناقضا بين رواية يوحنا من جهة وروايات المؤلفين الثلاثة الآخرين من جهة أخرى، فعلى حين يتفق هؤلاء الثلاثة فى أن عيسى بن مريم لم يجب الوالى بأى شىء، اللهم سوى رده بكلمة "أنت قلت" على سؤاله: "أنت ملك اليهود؟"، نراه عليه السلام فى إنجيل يوحنا يناقش الوالى ويجادله ويشرح له موقفه وعقيدته وكيف أنه أتى إلى العالم من أجل مهمة محددة لولا هى لسارع إلى إنقاذه من سماهم: "خُدَّامِى". وها هما ذان النصان، وهما يدلان على أننا أمام روايتين لا يمكن التوفيق بينهما بحال مهما كان الموفِّق أكروباتيًّا عبقرىَّ الأكروباتيّة. وسوف أكتفى، من الروايات الثلاث المتفقة، برواية مرقس لأنها، فيما يخص كلام السيد المسيح فى رده على الوالى بيلاطس وصَمْته التام فيما عدا عبارة "أنت قلت"، لا تختلف عن الروايتين الأُخْرَيَيْن فى شىء، وهذه هى أولا: "15 1وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. 2فَسَألَه بِيلاَطُسُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ تَقُول . 3وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيراً. 4فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضاً قائِلاً: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ انْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ! 5فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضاً بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيراً وَاحِداً، مَنْ طَلَبُوهُ"، ثم ها هى ذى رواية يوحنا: ""28ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. 29فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟ 30أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ : لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ! 31فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُم. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدا . 32لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.33ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ 34أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟ 35أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟ 36أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا .37فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي . 38قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ . وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً. 39وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟". ولست أحسب الأمر الآن إلا قد اتضح تماما بحيث لا يمكن أن يخطر فى ذهن عاقل، أو حتى مجنون، أن هناك شبهةَ إمكانيةٍ للتوفيق بين الحكايتين. لو أن الأمر اقتصر على أن بعض الروايات قد أَوْجَزَتْ، وبعضها الآخر قد فَصَّل لما كانت هناك مشكلة لأن هذا لا يكون بالضرورة تناقضا، أما أن تقول بعض الروايات إنه لم يردّ على أى سؤال وجهه له بيلاطس، وتقول رواية أخرى إنه أجاب على كل أسئلة الوالى، فمن المؤكد أن ثمة خللا كبيرا وشيئا فاسدا يحتاج إلى الشعور بالخجل من الزعم بأن هذه اللخبطات هى وحى إلهى.(/34)
كذلك هناك مشكلة باراباس: فهل كان لصا كما تقول بعض الروايات أم هل كان أحد المشاركين فى الفتنة وأعمال القتل طبقا لما ورد فى رواية أخرى؟ هذه أيضا مشكلة! وفوق هذا فلدينا فى رواية لوقا أن بيلاطس لم يحكم على السيد المسيح ابتداءً، بل انتهز معرفته، أثناء مداولاته مع اليهود، إلى أنه من الجليل فحوّله إلى هيرودس، الذى يقول لوقا إنه كان متشوقا لرؤية المسيح لعله يستطيع أن يصنع أمامه آية. أما فى الروايات الأخرى فقد حكم عليه بيلاطس منذ البداية دون الرجوع لهيرودس. فكيف نحل هذه أيضا؟ الواقع أَنْ ليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فى التوفيق بين الروايات فى هذه النقطة بأى حال أو على أى وضع!
وفى روايات الصلب نجد ذات العجب: ففى بعض الروايات أن الذى حمل الصليب الخاص بصلِب المسيح رجل من القيروان (القيروان التى لم تُبْنَ إلا بعد ذلك بنحو ألف عام!) اسمه سمعان، أما عند يوحنا فالذى حمل صليب المسيح هو المسيح ذاته وليس شخصا آخر لا من القيروان ولا من الظهران ولا من أم درمان. ثم عندنا الرجلان اللذان صُلِبا معه: واحد عن يمينه، والآخر عن يساره، واللذان تقول بعض الروايات إنهما كانا يعيّرانه ويتهكمان عليه مع المتهكمين، على حين يقول يوحنا إن مصلوبا واحدا هو فقط الذى كان يسخر به، أما الآخر فكان يقرِّع زميله الساخر ويدافع عن عيسى عليه السلام، بل ويناديه: "يا ربى"، طالبًا منه أن يتذكره فى ملكوت السماوات، فيرد عليه المسيح مؤكدا له أنه سوف يكون معه فى الفردوس! والآن: أنت أيها القارئ من أى الشيعتين؟ عليك أن تضرب الودع كى تعرف الحقيقة وسط هذا الركام من الخيوط المتشابكة المعقدة، ثم تعال قابلنى!
أتعرف، أيها القارئ الكريم، أن كثيرا من الباحثين والعلماء الغربيين ينكرون وجود شخص اسمه عيسى، ويؤكدون أنه ليس سوى خرافة؟ وكل هذا بسبب تلك الروايات المضطربة التى تحير العقل وتستعصى على المنطق وتتناقض كذلك فيما بينها تناقضا لا يمكن القفز فوقه بأى حال! فإذا قلنا لهم إن كتابكم قد حُرِّف وأصابه عبث شديد شتموا سيد الأنبياء والمرسلين، ولا أدرى لماذا، مع أنه هو الوحيد الذى دافع عن المسيح وأمه، فضلا عن أن القرآن الذى نزل عليه من عند الله الواحد الأحد قد أسبغ على المسيح صفات البركة والحنان والبر والرحمة واحترام الأم وتبجيلها، نافيا عنه بذلك عار ما جاء فى الأناجيل مما يشينه شينا كبيرا، إذ يصوره كتبة تلك الأناجيل عصبيا جافيا خشنا شتاما عيابا متكبرا على المسحوقين ناظرا إليهم من عَلٍ متهما جميع الناس حتى حوارييه أنفسهم بقلة الإيمان لامزًا أمه عليها السلام هى وإخوته حين قال عنهم إنهم ليسوا أمه وإخوته، بل أمه وإخوته هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها، بما يعنى أنهم لم يكونوا كذلك! كما أنكر أشد الإنكار ما نُسِب إليه من أنه كان يدعو إلى الثالوث ويطلب من الناس اتخاذه إلها!
ثم مَنْ أولئك النسوة اللاتى كن واقفات على مقربة منه وشاهدنه يُصْلَب؟ هنا تختلف الروايات: فإحداها (وهى الرواية الموجودة فى الإنجيل الذى يحمل اسم يوحنا) تذكر مريمين معينتين هما أمه وخالته، أما الروايات الباقيات فلا تذكر أيا من هاتين المريمين، بل تذكر مريمين أخريين! وعجيب غريب غاية العجب والغرابة ألا يأتى ذكر الأم والخالة فى الروايات التى تدور فى هذا السياق تحت أى اعتبار! واضح أن هناك تخليطا بسبب اسم مريم. وثَمّ اختلاف آخر فى الأسماء يستطيع القارئ أن يدركه بنفسه دون مساعدة من أحد. وبالمثل فإن رواية يوحنا هى الرواية الوحيدة التى تتحدث عن توصية المسيح أحد تلاميذه أن يأخذ باله من أمه، على حين لم تقل أية رواية أخرى شيئا من هذا، ذلك أن مريم ليس لها وجود فى تلك الروايات كما لاحظنا. وبالمناسبة فقد كان المسيح لا يزال، حتى وهو على الصليب، جافا جافيا مع أمه لا يترك شكاسته معها، إذ بدلا من مناداته لها بـ"يا أمى الحبيبة" مثلا نجده يقول لها: "يا امرأة"! أيمكن أن يكون هذا هو عيسى الذى أثنى القرآن عليه وعلى بره بأمه؟ كذلك تختلف الروايات حول الكلمات التى قالها الضابط ومن معه حين شاهدوا الظلمة والزلازل وانشقاق حجاب الهيكل وبعثرة القبور وخروج الموتى منها إلى الدنيا عند صلب المسيح، فهل قال ذلك الضابط: "حقا كان هذا ابن الله"؟ أم هل كان ما قاله هو: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًّا"؟ لاحظ أنه لا سبيل للتوفيق بين العبارتين، فبينهما من التباعد فى المعنى والمغزى والاعتقاد مسافة تقدَّر بملايين السنين الضوئية!(/35)
كذلك هل قال عيسى بن مريم، حسبما تقول الأناجيل المؤلفة بأيدى البشر: "إِيلِي ،إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي؟"؟ أم هل كانت صيحته: "إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ (أى "يا إلهى، لماذا تركتنى؟")؟ أم هل قال: "يَا أَبَتَاهُ ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي"؟ أم هل كل ما قاله هو: "أنا عطشان"، وبعدما بَلَّ ريقه من إسفنجة الخل التى قُدِّمَتْ له قال: "قد أُكْمِِل"، ثم فارق الحياة؟ إن معنا هاهنا أربع روايات بأربع عبارات مختلفة، وليس من أمل فى التوفيق بينها، فى أمرٍ هو أهم الأحداث فى حياة المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى سيد النبيين والمرسلين أصدق الصلوات وأحسن التساليم، فهل يليق بل هل يصح هذا؟ أترك هذه الكارثة لك لتتأملها على أقل من مهلك يا عزيزى القارئ!
ثم خذ عندك أيضا حكاية الدفن: فهل الذى قام بالدفن هو يوسف الرامىّ وحده، أم هل كان معه نيقوديموس؟ هنا روايتان لا رواية واحدة. فهيا شمر عن ساعد التفكير والحيرة وحاول أن تحل ذلك اللغز أيضا بالمرة! ثم هل قام يوسف الرامىّ هذا بتطييب جسد المسيح قبل دفنه بمائة مَنٍّ من مزيج المر والعود، وكأنه كان سيطيب أجساد الموتى كلهم؟ أم هل اكتفى يا ترى بلفّه فى كتان، ثم ذهبت أمه فأعدت الأطياب، وإن لم تمكنها الفرصة لتطييبه بسبب قيامه قبل ذلك من الأموات حسبما كتب مؤلفو الأناجيل؟ وقبل ذلك كله هل الإله يحتاج إلى طيب، وهو خالق الطيب والعطور التى فى الدنيا كلها؟ بل لماذا يُطَيَّب أصلا؟ أترى الآلهة تُنْتِن؟ هنا أيضا مشكلة فى حاجة إلى نظرة من أم العواجز!
ولو تركنا وراء ظهورنا هذه المشكلة إلى أن يجد أحد لها حلا، وهذا مستحيل، وانتقلنا إلى موضوع آخر هو موضوع الحَجَر الذى زُحْزِح من فوق فوهة القبر المدفون فيه المسيح لوجدنا مشكلة أعقد، وكل ما فى تلك الديانة معقد تعقيدا لم تتعقده أية قضية أخرى: فهل كانت مريم أمه وخالته هما اللتين ذهبتا إلى القبر؟ أم هل كانت مريم المجدلية ومريم الأخرى؟ أم هل كانت المجدلية وحدها؟ وهل كان ذلك فى غلس الظلام؟ أم هل كان عند الفجر؟ أم هل كان بعد بزوغ الشمس؟ وهل دخلت مَنْ ذهبتْ هناك إلى القبر أو لم تدخله وانصرفت كما جاءت؟ وهل كان هناك ملاك واحد أو اثنان أو شابّ أو لم يكن هناك ملائكة ولا ناس بالمرة؟ وهل كل الذى قيل هو أن يسوع قام من الأموات وينتظر تلاميذه فى الجليل؟ أم هل قيل كلام أكثر من ذلك؟ وهل أتى بعض التلاميذ للقبر ليتأكدوا مما حدث أو لا؟ وهل لمست مريم المسيح كما جاء فى الرواية التى تقول إنها ورفيقتها أمسكتا بقدميه وسجدتا له؟ أم هل منعها عليه السلام من لمسه بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى السماء، وكأنها بعد صعوده للسماء ستراه مرة أخرى وتلمسه كما تحب؟ والمضحك أنه بعد كل ما قاله لها عن "أبيه وأبيهم وإلهه وإلههم" نسمعها تقول إنها قد رأت "ربّها"! يعنى: على رأى سعد زغلول "ما فيش فايدة"! غطِّيه إذن يا صفيه والْطِمِى! وها هى ذى النصوص أضعها أمام القارئ ليقارن بينها ويتحقق من الأمر بنفسه:(/36)
متى (ف 27- 28): "62وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ 63قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ ،قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. 64فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ،لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ،فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى! 65فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُون. 66فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. 28 1 وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ.2وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ،لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ ،وَجَلَسَ عَلَيْهِ. 3وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ ،وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. 4فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. 5فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ،لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. 7وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ : إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا . 8فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ ،رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. 9وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا . فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. 10فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي".
مرقس (ف 16): "16 1وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. 2وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. 3وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ 4فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. 5وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ. 6فَقَالَ لَهُنَّ: لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. 7لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُم . 8فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. 9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا".(/37)
لوقا (ف 24): "24 1ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ، أَوَّلَ الْفَجْرِ ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ، 3فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. 4وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ ، قَالاَ لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ، لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ 7قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُوم . 8فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ، 9وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ. 10وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ ، اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ. 11فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ ، فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ".
يوحنا (ف 20): "20 1وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. 2فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 3فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. 4وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، 5وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. 6ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، 7وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. 8فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، 9لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا. 11أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، 12فَنَظَرَتْ مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. 13فَقَالاَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 14وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. 15قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُه . 16قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَم فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: رَبُّونِي! الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ. 17قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُم . 18فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا".
ويتبقى لنا المشهد الأخير من قصة المسيح، وهو الخاص بظهوره لحوارييه بعد قيامه من الأموات على ما يقول القوم لا على ما نقول نحن. وسوف أورد أولاً ما قاله كل من مؤلفى الأناجيل ثم أعقب عليه بملاحظاتى تاركا كل قارئ يكوّن رأيه فيما بينه وبين نفسه:(/38)
متى (ف 28): "16وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ ،حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. 17وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ ،وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. 18فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، 19فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ.20وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْر. آمِينَ". وهنا نلاحظ أن عيسى بن مريم عليه السلام قد قابل أحد عشر حواريا فقط لا غير، فعدد الحواريين قد نقص واحدا بعد سقوط يهوذا، الذى لا أدرى لماذا استُبْعِد، مع أنه كان ينبغى أن يكون أقربهم الآن إلى معلمه وأحظاهم لديه لو كانت الأمور هنا تسير على منطق العقل، إذ لولا أنه ساعد اليهود على القبض عليه وصلبه فكيف كانت الخطة الإلهية لغفران الذنوب البشرية المتلتلة تتم؟ ما علينا، المهم أنه قابل تلاميذه وأنهم سجدوا له، وإن كان بعضهم شك فيه، وأن عيسى أخبرهم أنه قد أخذ كل سلطان فى السماء والأرض، بما يعنى أن الآب قد تنازل له عن صلاحياته جميعا لأن المثل يقول: "إنْ كَبِرَ ابنُك خاوِه"، مع أن الأمر الآن ليس مخاواة، بل سلبا لجميع السطات من البابا وشطبه بأستيكة، ولكنهم لم يقولوا لنا هل كان ذلك بتدبير الماما أو لا. ويبدو أن هذه المنطقة مغرمة بسلب الأبناء الحكم من الآباء من زمان! فلننتقل الآن إلى السيد مرقس لنرى ماذا قال هو أيضا.
مرقس (ف 16): "9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا. 12وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاِثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. 13وَذَهَبَ هَذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هَذَيْنِ. 14أَخِيراً ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُون. 19ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. 20وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ".(/39)
ومن الواضح أن الكلام هنا غيره هناك، فالحواريون هنا لم يسجدوا ولا صدّقوا، بل شكّوا كلهم، على عكس ما سمعناه من السيد متّى، الذى قال إن الشك كان من بعضهم فقط. كما أن المسيح هنا قد وبخهم للمرة اللاأدرى كم، وكأنه كان يتلذذ بتسفيههم وتحقير إيمانهم فى كل فرصة تسنح، وهو ما يدفعنا للقول بأنه إذا كان الحواريون أنفسهم قليلى الإيمان وقساة القلوب إلى هذا الحد، فكيف يكون حال المؤمنين العاديين؟ لا شك أن رأيه عليه الصلاة والسلام فيهم لا يسر عدوا ولا صديقا. لكننا لن نقف أمام هذه النقطة طويلا رغم خطورتها. وبالمثل فنحن هنا نسمع شيئا جديدا لم نسمعه هناك، فعيسى بن مريم يبشرهم أن كل مؤمن سيكون عنده المقدرة على شفاء جميع الأمراض، والتعرض للحيّات دون خوف عليه، وكذلك شرب السم دون أن يؤثر فيهم. حواة يعنى ورفاعية، وهذا النوع من البشر متوفر فى مصر، والواحد منهم (فيما أسمع) على استعداد لإخراج ما شئت من ثعابين من شقوق جدران بيتك! وكان منهم عم شاهين بياع الجاز (على العربية أم حصان) بالقرية فى طفولتنا، وكان يحمل معه دائما مخلاة فيها عدد من الثعابين يفتحها كلما خَفَّتْ أرجل الزبائن ويخرجها ويلعب بها أمامنا، وكنا ننظر له مبهورين، وكنت أنا بالذات أحسده (أو قل: "أغبطه" إذا كرهتَ كلمة "حسد")، وأتمنى أن أكون مثله، ولم أكن أعلم وقتها أنه يصنع ما يصنعه تلاميذ المعلم دون كرازةٍ ولا أَخْذِ سلطانٍ من الرب ولا دياولو، بل حاجة ع الماشى كده! وكلما تذكرت عم شاهين ومخلاته تلذعنى الحسرة على أننى لم أصبح مثله رغم أننى ألاعب الآن حيات البشر الذين يلدغون الضمائر ويقتلون العقول لو استطاعوا، وأثرّم لهم أسنانهم وأفرّج عليهم الأطفال والكبار على السواء وأجعل الذى لا يشترى يتفرج، وكله ببلاش لوجه الله تطلعا لما عند أبى وأبيكم السماوى، وطمعا فى تذوق ألوان النعيم فى ملكوت السماوات!(/40)
وهنا نتوقف وننتقل إلى ما كتب السيد لوقا (ف 24):"13وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً ، اسْمُهَا عِمْوَاس . 14وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ. 15وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ ، اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. 16وَلَكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. 17فَقَالَ لَهُمَا: مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟ 18فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا ، الَّذِي اسْمُهُ كَِلْيُوبَاسُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟ 19فَقَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ ، الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. 20كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. 21وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ. 22بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ، 23وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. 24وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ ، فَوَجَدُوا هَكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْه . 25فَقَالَ لَهُمَا: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ 26أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ 27ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ.28ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا ، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. 29فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: امْكُثْ مَعَنَا ، لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَار . فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. 30فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا ، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا ، 31فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا، 32فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟ 33فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ ، وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ 34وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ! 35وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ. 36وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ! 37فَجَزِعُوا وَخَافُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً. 38فَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ 39اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا ، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي . 40وَحِينَ قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. 41وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ ، وَمُتَعَجِّبُونَ ، قَالَ لَهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟ 42فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. 43فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ.44وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ : أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِير . 45حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. 46وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، 47وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ.(/41)
48وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ. 49وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي . 50وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. 51وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. 52فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ ، 53وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ. آمِين"َ.
وفى هذا النص نقرأ أن الذى قابله أولا وأخبر التلاميذ بقيامه من الأموات هو هذان الرجلان لا مريم. هذه واحدة، والثانية أن هذين الرجلين وصفا عيسى، وعلى مسمع منه، بأنه" "إنسان نبى"! يسلم فمك يا رجل أنت وهو! إن هذا ما نقوله من الصبح، لكن القوم يشتمون رسولنا ويكتبون لنا فى محبة وتواضع رسائل من نوعية "أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم! إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، واشتم النبى محمدا وقل فى نهاية الرسالة: من فلان المحب". حَبَّك بُرْص يا بعيد منك له له، بل حَبَّك ثعبان من النوع الأقرع الذى يشغل المسلمين فى هذا المنعطف التاريخى من حياتهم، المنعطف الذى سوف يشهد اندحار الإمبريالية العالمية على يد الحرامية ووعيهم بالكفاح "الطبقى": (نسبةً إلى "طبق" حرامى نجيب محفوظ الذى خطف "الطبق"! لا إلى "الطبقة" التى كثيرا ما أزعجَنا بها الشيوعيون الأوساخ الذين استداروا هذه الأيام وتوسخوا وساخة أمريكية بدل الوساخة السوفييتية!). أرجو من القراء ألا يأخذوا فى بالهم من هذا الكلام الذى لا معنى له والذى اضطرنى إليه هذا الفكر السقيم الذى لا معنى له أيضا، والذى علىّ برغم ذلك أن أتناوله كما أتناول أى موضوع جاد!
والثالثة أن المسيح يطلب منهما أن يجسّاه حتى يطمئنا إلى أنه هو المسيح، مع أنه سبق أنْ نهى أمه عن لمسه مجرد لمس بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى أبيه الذى فى السماوات. طيب، فهو حتى الآن لم يصعد أيضا إلى أبيه الذى فى السماوات، فلماذا هذه التفرقة؟ يبدو أن هناك سرا يدفعه إلى معاملة والدته بهذه الطريقة الخشنة. فما هو يا ترى؟ والرابعة أنه رغم قوله لهم إنه لم يعد من لحم ودم نراه لا يجد طريقة يؤكد لهما من خلالها أنه هو المسيح إلا أن يناولاه بعض الطعام فيأكله، مع أن هذا الدليل هو فى نظرى آخر دليل يمكن أن يصلح هنا، إذ الروح لا تستطيع أن تأكل أكلنا ولا أن تشرب شرابنا. وهذا هو ما يعترضون به على جنة الإسلام رغم أن الإسلام لم يقل قط إن طعام الجنة أو شرابها أو نساءها ستكون كمثيلاتها فى الدنيا، بل ستكون شيئا آخر لا عين رأته من قبل ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر. آه يا أبا الزيك الوغد أنت والسفلة تبعك! هذا هو المسيح يفضح نفاقكم، وفى كتابكم المقدس نفسه. ما رأيك أيها المنكوح، ذا الدبر المقروح؟ والخامسة أن السجود للمسيح إنما تم بعد صعوده للسماء وليس أول ما رأوه عند خروجه من القبر. ودعنا من مسألة التناقض، وإلا فلن ننتهى إلى الأبد! والسادسة أننا هنا أمام حدوتة مختلفة تماما، وهى حدوتة تليق بعشاق "ألف ليلة وليلة" وما فيها من خيال عجائبى خِصْب من النوع الذى يسمى هذه الأيام بـ"الواقعية السحرية"! والسابعة أنه أمرهم أن يَبْقَوْا فى أورشليم حتى يفيض الله عليهم نعمته ويعطيهم القدرة على التحكم فى الشياطين والمقدرة على شفاء الأمراض، وهذا عكس ما فعل مع التلاميذ فى رواية متى ومرقس. وبالمناسبة فمن الواضح أنه نسى أنه كان أعطاهم هذا السلطان من قبل فى حياته. ولكن معلهش، فزيادة الخير خيران، والتكرار يعلّم الشطار، وكذلك الحمار!(/42)
وهنا يأتى دور يوحنا (ف 20- 21)، فلنسع روايته هو أيضا: "19وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ ، وَقَالَ لَهُمْ: سلاَمٌ لَكُمْ! . 20وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ. 21فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا . 22وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. 23مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَت . 24أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. 25فَقَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ! . فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِن .26وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: سلاَمٌ لَكُمْ! . 27ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنا . 28أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُمْ: رَبِّي وَإِلَهِي! . 29قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا .30وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. 31وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ. 21 1بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هَكَذَا: 2كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ، وَابْنَا زَبْدِي، وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. 3قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّد . قَالُوا لَهُ: نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَك . فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً. 4وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التَّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. 5فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟ . أَجَابُوهُ: لاَ! 6فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا . فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ. 7فَقَالَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: هُوَ الرَّبُّ! . فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ، اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ. 8وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ. 9فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. 10قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآن .11فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً ، مِئَةً وَثلاَثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ. 12قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلُمُّوا تَغَدَّوْا! . وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التَّلاَمِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ. 13ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ. 14هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 15فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي . 16قَالَ لَهُ أَيْضاً(/43)
ثَانِيَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي . 17قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّك . قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي. 18اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاء . 19قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي . 20فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَقَالَ: يَا سَيِّدُ ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟ 21فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا ، قَالَ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، وَهَذَا مَا لَهُ؟ 22قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ!. 23فَذَاعَ هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذَلِكَ التِّلْمِيذَ لاَ يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لاَ يَمُوتُ، بَلْ: إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ ، فَمَاذَا لَكَ؟ .24هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.25وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ".
ونحن هنا مع حدوتة أخرى، ولم لا، والتسلية لا تضر، وبخاصة هذه الأيام التى رَبَّتْ فيها أمريكا لنا الرعب، ويشاركها فى ذلك إخواننا البعداء الذين يهددوننا بها، وفى ذات الوقت يشنّفون أسماعنا بـ"أحب أعداءك! بارك لاعنيك! أما مع الرسول الكريم فكن قليل الأدب سافلا سفيها، وخنزيرا قذرا، وتطاولْ على سيد البشر والأنبياء والرسل أجمعين، وتَلَوَّ من الحقد والبغضاء التى تأكل كبدك وقلبك، ودبرك فوق البيعة، يا أبا الزِّيك، يا ذا الدبر الهَتِيك"؟ فها هو ذا المسيح يأتى بنفسه دون سابق إنذار فيقف بين التلاميذ ويعرّفهم بنفسه. والثالثة أن المسيح قد أخذ يد توما وجعله يَجُسّ يده وجنبه حتى يطمئن ويؤمن، ثم لم يتركه دون أن يغمزه غمزة من إياها فينعته بضعف الإيمان كالعادة!(/44)
هذه بعض الملاحظات التى عَنَّتْ لنا بعد تفحصنا للأناجيل الأربعة، وهذه الأناجيل (كما ينبغى أن نعرف) ليست هى الإنجيل الذى أنزله الله على المسيح والذى جاء فى بعض هذه الكتب التى بين أيدينا أنه عليه السلام كان يبشّر به، بل هى مجرد تآليف بشرية لا يضبطها فى معظم الأحيان من العقل ضابط، ولا يربطها بالمنطق رابط! وبعد فإننا لم نكتب هذا الكلام لنعتدى به على أحد، فقد كنا وما زلنا نعيش فى مصرنا العزيزة سويا فى مودة ويحترم كل من الطرفين اعتقاد الآخر رغم مخالفته إياه فيه، ولم يحدث ولا يمكن أن يحدث أن يفكر أى مسلم مجرد تفكير فى الإساءة للسيد المسيح ولا لوالدته ولا لحوارييه، بيد أننا فوجئنا بجماعة من السفلة المجرمين الذين يعيشون فى الخارج يتصورون أن ضعف حكومات المسلمين الحالى يخوّل لهم التباذؤ على رسول الله وصحابته وزوجاته ويشتموا ويسبّوا على هواهم محتمين وراء ماما أمريكا، ونَسُوا الحكمة القائلة بأنه إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الجبال الشُّمّ الرواسى بالحجارة كما يفعل الأطفال الأغرار، فاضطرونا أن نفضح زيفهم ونرد على قلة أدبهم، لكن دون المساس بنبى الله عيسى وأمه الطاهرة البتول وصحابته الكرام ودون أن نقلب ظهر المجنّ لإخواننا وجيراننا فى الوطن الذين لا يشاركون هؤلاء السبّابين فى شىء مما يجترحونه فى حق الرسول العظيم. وكل عام والجميع، بمناسبة عيد الميلاد المجيد وعيد الأضحى المبارك، بخير ومودة وتعاون من أجل صالح الوطن الذى يسع من "الحبايب" لا ألفا بل مليارا بمشيئة الله إذا صحت العزائم وصلحت النيات وساد الحب، أو على الأقل: المجاملة، وانصرف كل إلى أداء واجبه وجوّد عمله وأتقنه وتنافسنا جميعا فى الخيرات كما أمرنا القرآن الكريم. أقول هذا تعقيبا على رسالة الأستاذ الذى أشرت إليه فى أول المقال وذكرت ثناءه على الإسلام، وأقوله من أعماق قلبى، وشاهدى عليه أننى على يقين من أن أحدا من إخوان الوطن لا يمكنه أن يتذكر وقوع إساءةٍ منى إليه أو افتئاتٍ على حقه: طالبا كان أو زميلا أو صديقا أو جارا أو بائعا، بل لا يمكنه أن يتذكر أننى فتحت معه ولا مع غيره فى أى يوم من الأيام نقاشًا حول اختلاف دِينَيْنَا. لكن هذا شىء، والسكوت على الإساءات الجلفة إلى سيدنا رسول الله شىء آخر لا علاقة له بالمجاملات المطلوبة بين المعارف والجيران والأصدقاء. ولا أظن أن فى هذا الكلام شيئا يمكن أن يعاب على أحد، أما إذا كنت مخطئا فليسامحنى الله سبحانه وتعالى، وهو المسامح الكريم!(/45)
الأنقياء
يتناول الدرس موضوعا في غاية الأهمية وهو سلامة الصدر وقدم له بثلاثة أمور مهمة ثم ذكر دعوة القرآن لبراءة القلب من الغل وذكر صورا مشرقة من صفاء القلب ثم تناول تكامل الشخصية في حياة السلف وذكر مثالين على ذلك ثم تناول نتائج سلامة الصدر وآثاره، و أسباب امتلاء الصدر وغل القلب ثم كيف السبيل إلى سلامة الصدر؟ ثم ختم بثلاثة أمور مهمة قبل النهاية .
الأنقياء أو إن شئت قل : سلامة الصدر :
ومنبع هذا الموضوع هو حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ: [ كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ] قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ]رواه ابن ماجه، وقال البوصيري في الزوائد: بإسناد صحيح ورجاله ثقات ورواه الطبراني في معجمه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي، وذكره الألباني في صحيح الجامع . ومعنى مخموم: خممت البيت أي: كنسته؛ ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن النقي: هو الذي [لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ] .وما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة النزاع، والخلاف والفرقة؛ فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور .
عناصر هذا الموضوع:
ثلاثة قبل البداية، القرآن يدعوك، صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء، تكامل الشخصية في حياة السلف، نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره، أسباب امتلاء الصدر وغل القلب، كيف السبيل لسلامة الصدر وتنقية القلب، ثلاثة قبل النهاية .
ثلاثة قبل البداية:
الأولى: راجع نفسك بعد سماع هذه الكلمات: واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك، ولا تبرئ ساحتك من التقصير، واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله، فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله؛ لأبره، فلا تنظر إلى نفسك بنظرة الفخر والارتفاع .
الثانية:سلامة الصدر، وتنقية القلب: مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه، وسلوك طريقه متعين، ولكن لا تنس أن الناس بشر، وأن النفس ضعيفة، فلابد من الخطأ، ولابد للنفس أن تتأثر، فانتبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه، ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله:' إنه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه؛ وهب نقصه لفضله'
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
الثالثة:لست بالخب ولا الخب يخدعني: هذا لاينافي سلامة القلب، والأخذ بالظاهر، ولكنه يعنى الحيطة والحذر، فإن هناك من يستدرج الناس، ويستغفلهم، ويلبس عليهم، فعليك أن تكون فطنًا، منتبهًا، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: } خُذُوا حِذْرَكُمْ[71]{“سورة النساء” ويقول سبحانه وتعالى: }وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[60]{“سورة الروم” .
القرآن يدعونا:
فالقرآن يا أخي الكريم يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا: } رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا[10]{“سورة الحشر” والقرآن يدعوك، فيقول: } خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199]{ “سورة الأعراف” والقرآن يدعوك، فيقول: }فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [109]{“سورة البقرة” والقرآن يدعوك، فيقول:} فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[13]{“سورة المائدة” والقرآن يدعوك، فيقول: } وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[14]{ “سورة التغابن”والقرآن يدعوك، فيقول:} وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ[85] {“سورة الحجر” والقرآن يدعوك، فيقول:} قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ[263]{“سورة البقرة” والقرآن يدعوك، فيقول:}وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[134]{“سورة آل عمران” والقرآن يدعوك، فيقول:}يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[88] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89]{“سورة الشعراء” وأخيراً القرآن يدعوك، فيقول: }وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [22]{“سورة النور” بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع سخاء نفسه، وسلامة صدره، ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا ؟! }أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[24]{“سورة محمد” .
صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء:(/1)
قبل أن أبدأ بذكر هذه الصور لا ننسى أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب، وسلامة الصدر كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ يجدها مليئة بل يجد هذه الدرجة بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد مثله صلى الله عليه وآله وسلم .
الصورة الأولى: وهى التي لا نطيق: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: [كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: [يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ] رواه أحمد. أرأيت يا أخي كيف أن تنقية القلب والصدر من الغل والأحقاد، ومن الغش للمسلمين كانت سببًا لدخول هذا الرجل الجنة!
الصورة الثانية : أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ؟! روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ] قَالُوا: وَمَنْ أَبُو ضَمْضَمٍ؟ قَالَ: [رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وقال الألباني في الإرواء عن هذا الحديث: والمحفوظ عن قتادة وإسناده صحيح إلى قتادة . أرأيت صفة أبي ضمضم؟! قال ابن القيم:'والجود عشر مراتب- ثم ذكرها إلى أن قال- السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضى الله تعالى عنهم- ثم ذكر الحديث السابق، ثم قال:- وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه' ' مدارج السالكين 2/295' .
الصورة الثالثة : ما عندي إلا عرضي: عن كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده:' أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يومًا على الصدقة، فقام علبة بن زيد، فقال: ما عندي إلا عرضي، فإني أشهدك يا رسول الله أنى تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أين علبة بن زيد] قالها مرتين أو ثلاثًا، فقام علبة، فقال: [ أنت المتصدق بعرضه، قد قبل الله منك] رواه البزار:” كتاب الزكاة، باب: فيمن تصدق بعرضه” وقال الهيثمي:' رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف'. فانظر إلى حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يتصدقون بأعراضهم: يعفون، ويصفحون عمن سبهم وشتمهم، وضربهم واغتابهم، أو ذكرهم بشيء لا يرضونه، فماذا نقول نحن لأنفسنا أيها الأحبة؟!(/2)
الصورة الرابعة: بئس ما قلتَ والله ما علمنا إلا خيراً : هذه الكلمات حكاها كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، فقال:' وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: [مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ] قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ' رواه البخاري ومسلم . أرأيت هذا الموقف؟! لقد كان بإمكان معاذ رضى الله عنه السكوت، ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم سكوته، ولكنه أعلن الحق الذي امتلئ به قلبه، فلم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات في أخيه كعب، فأعلن الحق الذي في قلبه انتصاراً لكعب بن مالك رضي الله عنهما جميعًا، إنه الدفاع عن عرض أخيك ... وكم نسمع في مجالسنا من يذكر فلاناً وعلاناً من إخواننا من المسلمين، ممن يصلي ويصوم، ويشهد أن لا إله إلا الله، فمن منا وقف مثل هذا الموقف؟ بل ربما بعضنا- والعياذ بالله- يتلذذ، ويسمع، ويأنس بمثل هذه الكلمات.
ولكن صحابة رسول الله تربوا على هذا المنهج، سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ] رواه مسلم . فعلموا حرمة ذلك . وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه أحمد والترمذي، وإسناده صحيح. فإذا أردنا أن نرص الصفوف في وجوه أعدائنا؛ فليكن كل فرد منا محاميًا عن أعراض المسلمين في كل مكان، في أي مجلس كان، وأمام من كان مهما بلغ من المرتبة والشرف مادام أنه تجرأ على عرض أخ من إخواننا المسلمين .
الصورة الخامسة: سررتني سرّك الله: هذا موقف نسوقه للنساء، ذكر الذهبي في 'السير' عن عوف بن الحارث أنه قال: سمعت عائشة تقول دعتني أم حبيبة- أي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم- عند موتها، قالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، قالت عائشة:فقلت غفر الله لك كله، وحلّلك من ذلك، فقالت أم حبيبة: سررتني سرك الله ] تقول عائشة: 'وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك' انظر انتصاف قلوب النساء ! ما أحلى هذه القلوب إذا اجتمعت على المحبة، وإذا حرصت على تنقية هذا القلب من الغل والحقد والحسد . وكم نسمع نساءنا يتحدثن في المجالس عن فلانة وعلانة، ولربما كالت لها كثيرًا من الشتم والسب، وكأنها تتكلم عن كافرة من الكفار، لا تشعر أنها تتكلم عن مسلمة، ولا تعلم قول عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: [ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. فهل عقل مثل هذا الأمر نساؤنا، وعلمن أنهن يخضن كثيراً في أعراض كثير من المسلمات، وكم من الحسنات تذهب في مثل هذه الكلمات .
الصورة السادسة: إذن تقع في الشغل: صورة قصيرة لكنها كبيرة في المعنى، قال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك- يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، هذا الرجل يهدد عمرو بن العاص، فماذا كان رد عمرو بن العاص؟ اسمع للعلم كيف ينير القلوب- فقال عمرو بن العاص: [ إذن تقع في الشغل] نعم ... فإن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغًا أبداً إنما يشغله نفسه، وحقده يشغله بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هنا هو الصواب. لأن صاحب القلب الذي تعلق بالانتقام من الناس، والتشفي منهم، هذا القلب مشغول دائماً. أما القلب الذي أخلى روحه من هذه الأمور، وامتلأ بسلامة الصدر، وحب الناس، وجمع القلوب؛ أصبح قلباً سليماً صافياً لا يفكر إلا فيما ينفعه، فهو إما في علم، أو في طلب علم، أو في عمل خير.(/3)
الصورة السابعة:ما عرفني إلا أنت: موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه: في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهم جميعًا أن رجلاً زاحمه في منى، فالتفت الرجل مغضبًا، فقال لسالم:إني لأظنك رجل سوء . فبماذا أجاب سالم؟ قال:' ما عرفني إلا أنت' فسبحان الله! هكذا كان ازدراؤهم لأنفسهم مع سعة علمهم، وكثرة عبادتهم وجهادهم، وخوفهم من الله إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضوان الله عليهم. أين العجب والغرور الذي يصيب أنفسنا إذا فعل الإنسان منا عبادة، أو قام بعمل خير؛ أعجبته نفسه، وأصبح عند نفسه زاهدًا من الزهاد !
الصورة الثامنة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: في ترجمة الإمام البخاري في' السير' قال الذهبي: وكان كثير من أصحابه يقولون له- أي للبخاري- : إن بعض الناس يقع فيك، فيقول البخاري:'إن كيد الشيطان كان ضعيفا ويتلو قوله تعالى: }وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [43]{“سورة فاطر” ' هذا والله هو الفقه، وهذه والله هي البصيرة والحكمة ولكن من يؤتى هذه البصيرة، ولذلك نقول: تعلموا واقرءوا في سير الرجال واستفيدوا منها، ففي النظر لحياتهم وتراجمهم؛ نور لهذه القلوب. فإذا سمعت الناس يغتابونك، أو يذكرونك بسوء، فاعف واصفح، وسترى أثر ذلك، ومن كاد لك؛ فإن الله سبحانه يكفيك، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
الصورةالتاسعة :إن كنت صادقا فغفر الله لي: كان بين حسن بن الحسن، وبين علي بن الحسين- يعني زين العابدين- بعض الأمر، فجاء ابن الحسن إلى علي بن الحسين وهو مع أصحابه في المسجد، فما ترك حسن شيئًا إلا قاله له- ما ترك سبًا ولا شتمًا إلا قاله لزين العابدين وهو جالس مع أصحابه- وعلي ساكت، سهم- أي يسمع كلام الحسن فيه وهو ساكت- فانصرف حسن، فلما كان من الليل أتاه في منزله، فقرع عليه بابه، فخرج إليه، فقال له زين العابدين:' يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي؛ فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا؛ فغفر الله لك، السلام عليك' فإذا بالحسن يتبعه، ويلتزمه من الخلف، ويبكي بكاء شديداً حتى رثى زين العابدين لحاله، فقال الحسن لزين العابدين:' لا جرم لا عدت في أمر تكرهه' فقال زين العابدين:' وأنت في حل مما قلت لي' فانظر قيمة حبس النفس، و الصبر، وحسن الخلق، وكيف يكون الإنسان قدوة لغيره بدون أن يشعر .
والخلاف يحدث بين الناس حتى وإن بلغوا ما بلغوا من العلم، فهذه نفوس بشر، ولذلك حدث ماحدث بين الحسن وبين علي بن الحسين، ولكن انظر للإنصاف، فعندما ترجم الذهبي في السير لابن حزم قال: 'قد أخذ المنطق .. وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولى أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة، وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه، وسعة علومه' فرحم الله الذهبي، وقد وجدت له كثيراً من الإنصاف في كتابه العظيم:' سير أعلام النبلاء' وهكذا يكون الرجل الحق، الذي يأتمر بأمر الله:} وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [152]{ “سورة الأنعام” فهلاّ اقتدى شبابنا بسلفهم الصالح .
أيها الشباب: لا تبخسوا جهود بعضكم بعضاً، لا تحتقروا أعمال بعضكم بعضًا، فكل منكم على ثغر، وكل منكم على خير، والميدان يتسع للجميع، بل هو بأمس الحاجة لكل عمل، لكل جهد أياً كان صاحبه فهلا عقلنا، وتدبر هذا الموقف جيدًا وكم نحن بحاجة إليه قال الذهبي: قال الحافظ ابن عبد البر في 'التمهيد':' هذا أكتبه من حفظي وغاب عني أصله: أن عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم ولم يفتح له في الصدقة، وآخر فتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر'. فيا شباب الأمة: نحن بحاجة للجميع، فهذا يحفظ القرآن ويعلمه، وهذا يطلب العلم وينشره، وهذا يعظ الناس في المساجد والقرى، وهذا ينكر المنكرات في الأسواق وفى الأماكن العامة، وهذا على منبره، وذاك بقلمه، والآخر بماله، وهذا بتوزيع الشريط والكتاب، وذاك بتوزيع الطعام واللباس، وهذا بالرحلات والمخيمات، وهذا بالدعوات الصادقات، ولا يخلو الجميع أبداً من خطأ، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فهذا يصحح لهذا، وهذا يوجه هذا، وهذا يعين هذا، بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، مع التماس الأعذار والعفو والصفح هكذا يجب أن نكون، وهكذا يجب أن نتعامل .(/4)
الصورة العاشرة: لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة : قال يحي بن معين:' إنا لنطعن على أقوام- يقصد في الجرح والتعديل في الحديث والطعن في الجرح والتعديل أمر مندوب إليه ومأجور من يفعل ذلك فهو نصر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة' قال ابن مهرويه- أحد الرواة- فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب' الجرح والتعديل' فحدثته بهذا، فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيد الحكاية' يقول الذهبي معلقاً على هذا الموقف:' أصابه على طريق الوجل، وخوف العاقبة، وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح في دين الله، والذب عن السنة' وهو أمر مطلوب منهم، ومأجور عليه، فماذا نقول نحن؟! ونحن نسمع من كثير من إخواننا عافاهم الله وصفح عنهم وغفر لهم ما يذكرونه في كثير من المشايخ والعلماء وطلبة العلم بل والصالحين، سبحان الله! ما وجدنا إلا الصالحين، والعلماء نخوض في أعراضهم ونتكلم عنهم؟! أين أنت من المنافقين؟ وأين أنت من اليهود والنصارى؟ أين أنت من الذين يكيدون للدين ليل نهار؟! لم تجد إلا أعراض إخوانك حتى تتكلم فيها؟!
تكامل الشخصية في حياة السلف: ذكرنا صوراً ومواقف متناثرة وإليك في هذا العنصر وقفة سريعة في حياة علمين فاضلين، أقف وإياك للنظر في جانب سلامة الصدر فقط، وطهارة القلب في حياة هذين الرجلين: أحمد بن حنبل، وابن تيمية رحمهما الله، وفي حياتهما مثل أعلى للعاملين والدعاة المصلحين، والعباد المخلصين، فمع كثرة الأذى لهما، والنيل منهما، وسجنهما، وجلدهما، والتعرض للفتن بل، والتكفير والتفسيق والتبديع، ومع ذلك كله كانت قلوبهم سليمة:
أحمد بن حنبل
عن أبي علي الحسين بن عبد الله الخرقي قال: بت مع أحمد بن حنبل ليلة لم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت يا أبا عبد الله: كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ قال أحمد: ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي بالدرس قوله تعالى } وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[40]{“سورة الشورى” فسجدت وأحللته من ضربي في السجود' رحم الله الإمام أحمد هكذا والله القلوب، وهكذا التعلق بالله جل وعلا، والتدبر لهذا الكتاب!
جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي، فقال:' إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمّن يكون ذلك' قالها مرارا يكررها. قال الرجل: إنه يتكلم فيك، فقال أحمد رحمه الله :'رجل صالح ابتلي فينا، فما نعمل' وما أعجب مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، اقرأ هذا الكتاب 'محنة الإمام أحمد بن حنبل' وانظر مواقفه مع من عاداه، ومع من ضربه، ومع من سبه وشتمه، فرحم الله الإمام أحمد.
ابن تيمية
ومن مواقفه مع مخالفيه بالرغم من إيذائهم له وتعديهم عليه بالباطل إلا أنه لم يقابل ذلك إلا بالإحسان فها هو يقول:' وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها- يعني: الفتنة- وفي غيرها وإقامة كل خير, وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي , مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين . ولو كنت خارجاً لكنت أعلم بماذا أعاونه , لكن هذه مسألة قد فعلوها زورًا والله يختار للمسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم ودنياهم' ' الفتاوى3/271'
ويقول رحمه الله أيضًا:' فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم . وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي . والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي . وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ; لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له . وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم . وأنتم تعلمون هذا من خلقي' 'الفتاوى 28/55' .
فكرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم في مواقفهم، وفى حياتهم، وفى أحوالهم مع من عاداهم، أو حتى كفرهم، أو فسقهم، أو بدّعهم، أو آذاهم، هكذا تكون القلوب المؤمنة، الراجية من الله العفو والصفح.
نتائج سلامة الصدر وآثاره:
سبب لدخول الجنة: كما ذكرنا في أنس:'كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ]...الخ الحديث .(/5)
الطمأنينة وراحة البال لصاحب هذا القلب: ولو لم يكن إلا هذا الأمر لكفى به شرفاً ونتيجة، فصاحب القلب الذي لا يتشفى، ولا يحقد، ولا يحسد؛ مطمئن مرتاح هادئ،ولا ينشغل إلا بطاعة أو بعمل خير .
أسباب امتلاء الصدر وغل القلب:
أسباب مباشرة:
وعلى رأسها الشيطان: إن الفرقة والخلاف، وملء الصدور بالشحناء؛ غاية من غاياته، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ] رواه مسلم. وعَنْ جَابِرٍأيضاً قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ] رواه مسلم . [وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ]بالخصومات، والحروب والفتن، وغيرها ،انظروا لأحوال المسلمين اليوم من جميع الجهات؛ تجدوا أن الشيطان يقوم بالتحريش بين المسلمين في كل مكان .
أمراض القلب بأنواعها: بدءاً بسوء الظن، والحسد، والنجوى، والغرور، والهوى، وغيرها كثير مما تعلمون من أمراض القلب، وجماع ذلك: الغفلة عن القلب، وإهماله .
وأما الأسباب غير المباشرة:
الاختلاف في وجهات النظر وطريقة سير العمل: فقد يؤدى الخلاف في الآراء والتصورات إلى اختلاف قلوبهم، وليس شرطًا يا أخي الحبيب أن يوافقك الناس في كل ما تريد المهم: أن نتفق في الأصول أما الفروع، والاختلاف فيها، واختلاف وجهات النظر، وطريقة العمل، فهذا يدعو إلى كذا وذاك يدعو إلى ذاك الأمر، فهذا لايدعو أبدًا إلى أن تمتلئ قلوبنا بغضاً، وحقداً، وشحناء على بعضنا، بل ننصح أخانا وننبهه على ما وقع فيه من خطأ، هذا هو واجبنا أما أن نبغضه ونحقد عليه ونهجره فلا . قال يوسف الصدفي: ما رأيت أحدًا أفضل من الشافعي ناظرته يومًا في مسألة، وافترقنا، ولقيني، ثم أخذ بيدي، ثم قال:' يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة' . ألا يسعنا ما وسعهم؟!
وقال أحمد بن حنبل:'لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً' فالخلاف في المسائل الفرعية لا يفسد للود قضية أبداً .
التنافس: ولا شك أن التنافس أمر محمود، ولكنه قد يتعدى ذلك إلى الحسد، والغل على الآخرين خاصة بين الأقران ولذلك يقول الذهبي في الأقران:' استبق وجهك، وسل ربك العافية، فكلام الأقران هو في بعض الأمر عجيب، وقع فيه سادة رحم الله الجميع' ويقول أيضًا:' كلام الأقران يطوى ولا يروى' .
التناصح:فبعض الناس لا يحتمل النصيحة، فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبثها، ويحاول الانتقام لأنك ذكرت شيئًا من أخطائه .
التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى] رواه البخاري وابن ماجه والترمذي وأحمد .
كيف السبيل إلى سلامة الصدر؟
الدعاء : تدعو الله بصدق وإلحاح أن يرزقك قلباً سليماً، محباً للآخرين، فقد كان في دعائه صلى الله عليه وسلم: [وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا] رواه أحمد والترمذي والنسائي . وردد يا أخي } رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا[10]{“سورة الحشر” واسأل الله حسن الخلق، فإن العبد ليدرك بحسن الخلق درجه الصائم، القائم ،وما وصل أولئك الرجال إلى ما وصلوا إليه إلا بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح .
احذر الغفلة عن القلب، وراقبه مراقبة جيدة: واعلم أن تنقية القلب من الغل والحقد يحتاج إلى ترويض نفس، وطول مجاهدة ومراقبة، فإذا وجدت في قلبك على أحد، فابحث عن الأسباب، وصارح نفسك، ولا تستجب لداعي الهوى فيها، وعليك هضم النفس، واسأل الله العون والتوفيق .
أحسن الظن بالآخرين والتمس لهم الأعذار: فان لم تجد فقل لعلي أجد عذرًا لا أعلمه .
الصبر والتحمل: فإن الاحتمال مقبرة المتاعب فتمثل قول الشاعر:
إذا أمست قوارصة الفؤاد صبرت على أذاهم وانطويت
وجئت إليكم طلق المحيا كأني ما سمعت ولا رأيت(/6)
العفو والصفح: } فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[40]{“سورة الشورى” ومن علامته:الدعاء لإخوانك خاصة من كان بينك وبينه بغضاء، أو من كان بينك وبينه شحناء، حاول أن تدعو له مع أنني أعلم أن هذا لا يطاق، ولكن جرب .
ثلاثة قبل النهاية:
الأولى :إن ما تقدم لا يعني أننا ننهى عن تصحيح الأخطاء، وتقويم الآراء، بل إننا نطالب بذلك، ولكن بالضوابط الشرعية المقررة عند سلفنا الصالح وعلمائنا الأفاضل رحمهم الله تعالى
الثانية: هذا الموضوع رسالة إليكم جميعًا، وإلى العلماء، وإلى المشايخ، وإلى طلاب العلم والمدرسين والآباء، والمربين، لتربية الشباب، وتربية الأجيال، وتربية النفوس على صفاء النفس، وطهارة القلب، وصدق العمل، وتقدير العلماء والدعاة، وإن من أساليب التربية هي القدوة الحسنة.
الثالثة: إن هذا الموضوع دعوة عامة لطهارة القلب، وسلامة الصدر، ووفاء النفس، فهو أمانة: نشره وبثه بين الناس في كل طبقاتهم، وفى مختلف أحوالهم، ولنتحدث به كثيراً؛ ليحصل الحب والمودة وجمع القلوب، وتوحيد الكلمة بين المسلمين فيسقط بذلك أعداء الإسلام من المنافقين، وغيرهم فبادر بنشره، وليكن حديث مجالسنا، ومدارسنا، ورب مبلغ أوعى من سامع، اللهم إني بلغت اللهم فاشهد } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23]{“سورةالأعراف” } رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]{“سورة آل عمران” } رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[89]{ “سورةالأعراف”} رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[47]{“سورةالأعراف”} رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ[126]{ “سورةالأعراف”.
من محاضرة: الأنقياء للشيخ/ إبراهيم الدويش(/7)
الأنواع الثلاثة من الأمهات .. الصداقة بين الأم والفتاة
في عيادة الصحة النفسية:
جلست هذه الفتاة تحكي للطبيبة المعالجة كمًا من الأخطاء التي لا حصر لها وخلاصة هذا الحديث أنها فعلت كل الأخطاء التي يتخيلها عقلها والتي لا يتخيلها وهي الآن تعاني من الإدمان .. وعند سؤالها عن علاقتها بأهلها. قالت إن السبب فيما تعاني من مشكلات هو أهلها وبالتحديد الأم بسبب إهمالها الشديد وترك الحبل على الغارب فهي لا تسأل ابنتها متى تخرج ؟ ومتى ترجع ؟ ومع من ؟ وتتصور أنها بذلك تمنحها الحرية المطلوبة لهذا السن.
والنتيجة: تعاني الفتاة من الأمراض النفسية والانحرافات الأخلاقية والإدمان وهذا مرجعه الأساسي إلى نوع من التربية الخاطئة وهو النوع المتساهل.
عزيزتي الأم الصديقة:
يمكننا تصنيف طرق التعامل مع الأبناء إلى ثلاثة أنواع:
1] المتسلط [الديكتاتوري].
2] المتساهل [الفوضوي].
3] الديمقراطي.
1ـ النوع الأول المتسلط:
ويقصد به تسلط الوالدين وفرض نظم وقيود جامدة على تصرفات الأبناء ويترتب على ذلك الخضوع والجبن وفقدان الثقة، هذا في الطفولة، أما في مرحلة المراهقة فتظهر مشاعر الاستياء والتهور والقلق وسوء التوافق.
وقد يؤدي العقاب الجسمي الزائد إلى انحراف الأحداث. ونحن نقول أحيانًا تحتاج الأبناء إلى وقفة وقد تكون قسوة لمصلحة الأبناء كما قال الشاعر:
ومن كان ذا قلب رحيم فليقسُ أحيانًا على من يرحمُ
ولكن إذا استعملت الأم القسوة تعود وتلاطف ابنتها وتهتم بشئونها، وتخبرها بالأسباب التي دعتها إلى ذلك بأسلوب هادئ متفهم، وأن هذه القسوة لمصلحتها مع التأكيد الدائم على محبة الأم لابنتها واحترام شخصيتها واهتمامها بها.
أما استعمال القسوة فقط من أجل القسوة والتسلط وممارسة الفوقية على المراهق فهذا من شأنه أن يعقد الأمور ويقضي على الثقة المتبادلة والحب أيضًا.
وهذا موقف الأقرع بن حابس عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حفيده الصغير [الحسن أو الحسين] فقال له: إن لي عشرة من الولد لم أقبل واحدًا منهم. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم: [[ أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟]].
2- النوع الثاني: المتساهل:
وفيه تمارس الأسرة دورًا هامشيًا إذا فعلت ذلك أصلاً وتجد التساهل الشديد مع الأبناء مما يؤدي إلى شخصية غير سوية، وعدم تقدير المسئولية وفي هذه الأسر لا يحترم المراهق الآباء، ويلومونهم عندما يحدث خطأ أو مشاكل لأن الأهل لم يقدموا لهم النصح والتوجيه الصحيح. وهذا ما قرأناه في مشكلة الفتاة في مقدمة المقال.
3ـ النوع الثالث: الديمقراطي:
وفيه يشجع الوالدان الأبناء على المناقشة، ومعاونتهم على اتخاذ القرارات مع ترك حرية الاختيار لهم في حدود الشرع وحرية التعبير عن أرائهم، وهذا الجو يتميز بالتسامح وتجنب أساليب العقاب والثقة بالنفس والقدرة على مواجهة مواقف الحياة.
والأسلوب الديمقراطي له تأثير ونتائج مرضية على شخصية المراهق وتطورها، حيث يتم الأخذ برأيه في الأمور الأسرية، كما يعطي قدرًا لا بأس به من الاستقلال في الرأي.
وهنا يظهر الأهل العلاقة الدافئة الآمنة والتفاهم مع المراهق حيث يشعر المراهق بالنضج والاستقلالية والمساواة وتكون العلاقات الأسرية منسجمة ومتناسقة. ويتضح أثر هذا الأسلوب أيضًا في إعلاء قيمة الذات لدى المراهق والقبول الاجتماعي.
وقد ثبت أن الأسلوب الأمثل وأفضل الأجواء التربوية هي الأجواء الديمقراطية. وأسوأها هي المتساهلة [الفوضوية] والمتسلطة [الديكتاتورية].
وهكذا في معاملة المراهق فلا يبالغ في تحميل المراهق المسؤوليات وعقابه على كل صغيرة وكبيرة ولا نترك له الحبل على الغارب فيعجز ويتصرف بالخطأ نتيجة عدم خبرته.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع هذه المرحلة بما يشعرهم بالقيمة والمسئولية وبما يبث فيهم الثقة والطمأنينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'مر على غلمان فسلم عليهم'.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أتى بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا فتلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده'.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفهم ويدرك نفسيات الشباب وصغار السن من الصحابة وبالتالي يستطيع التأثير عليهم. وقد كان يخاطب علي بن أبي طالب وهو صغير ويكلفه بالمسؤوليات ما يشعره بالقبول والقيمة عنده وغيره من الصحابة.
عزيزتي الأم الصديقة:
إن فهم الفتاة حق عليك تجاه ابنتك، عليك أن تتعلمي وتتفهمي شخصية ابنتك لتتعاملي معها، لأن أسلوب معاملة المراهق يؤثر بشكل كبير عليه وينعكس على سلوكه وتصرفاته. ومن المهم أن نفهم أن المراهقة السليمة هي التي تهيئ لنضوج سليم قوي ومتوازن.
وإذا لم يحصل المراهق على الحنان والاهتمام به يحدث له أحد أمرين:(/1)
1ـ الأول: يصبح انسحابيًا منطويًا على ذاته.
2ـ الثاني: يصبح عدوانيًا مشاكسًا.
وفي النهاية الأسرة لها الدور الأكبر في صحة أبنائها النفسية أو السبب في الأمراض النفسية والمشاكل الانحرافية(/2)
الأنوثة رأس جمال الزوجة...
مفكرة الإسلام : تختلف آراء الرجال حول المرأة التي يرغبونها زوجة، لكنهم يتفقون في شيء واحد هو أن تكون أنثى، هذه الأنوثة هي رأس جمال المرأة وأهم ما يميزها. فإذا ما استهانت بها المرأة فأخفتها، أو تجاهلت أهميتها فإنها سوف تفقد مكانتها عند الزوج... فهي السحر الحلال الذي يحرك مشاعر الزوج ليجعل منه محبًا... وليس شرطًا للأنوثة أن تكون المرأة جميلة الخلقة، ولكن الأنوثة تحمل معاني كبيرة وأساسها أنها امرأة بمعنى الكلمة امرأة ظاهرًا وباطنًا... بشكلها... ونطقها... ودقات قلبها.. بروحها التي تتوارى داخل جسدها... امرأة تتقن فن الأنوثة.
وإذا تساءلنا لماذا يتزوج الرجل؟
لقد كان الزوج قبل زواجه يأكل ويشرب وينام وتُغسل له ملابسه وتُقضى له حوائجه في منزل أسرته... إذن لابد أنه يحتاج شيئًا آخر غير ذلك يبحث عنه، تكبد له كل المشاق والتكاليف ليصل إليه. إنه يتزوج لكي يستمتع بمحاسن المرأة وحنانها وأنوثتها، وما تمتاز به من دفء وعذوبة، وليجد من يشاركه حياته الخاصة والعامة، ويتمنى كل رجل أن يكون له ولد يحمل اسمه في الدنيا وبعد رحيله عنها، ولن يكون ذلك إلا بالزواج، فالزواج هو السر في بقاء النوع الإنساني ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [[تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة]].
فالزواج رسالة مقدسة تحقق حكمة الشرع والدين، وهو الأمل المنشود والحلم لكل من الذكر والأنثى، وفي كنفه يتحقق الأمن والطمأنينة للأزواج، قال تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
الرجل يريد الزواج ليستمتع بالحياة الدنيا في ظل الشرع والمرأة هي الدنيا والحياة, كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [[ الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ]].
ومن حكمة الله الخبير اللطيف العالم بأحوال عباده أن شرع لهم الزواج وشرّع لهم الاستمتاع بالحلال فقد قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14].
فلا تصادم بين فطرة الإنسان وبين ما شرعه الله تعالى, لذلك نجد أن المرأة مهما تقدم بها العمر ومهما بلغت من العلم وحازت على المناصب تبقى في نظر زوجها أنثى، وهو دائمًا يريدها كذلك.
ومن مظاهر الأنوثة كما شرعها الإسلام:
يعتني الإسلام بمحافظة الأنثى على مظاهر أنوثتها، فحرّم عليها التشبه بالرجال في أي مظهر من لباس أو حديث أو أي تصرف, وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، وفي الطبراني: أن امرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسًا، فقال: [[ لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ]].
وقد ذكر ابن القيم أن من الكبائر ترجل المرأة وتخنث الرجل.
وقد أباح لها الإسلام أن تتخذ من وسائل الزينة ما يكفل لها المحافظة على أنوثتها فأحل ثقب أذنها لتعليق القرط فيه. يقول الفقهاء: [ لا بأس بثقب أذن النساء، ولا بأس بثقب آذان الأطفال من البنات لأنهم كانوا يفعلون ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إنكار ], ويقول ابن القيم: الأنثى محتاجة للحلية فثقب الأذن مصلحة في حقها.
ويُباح لها التزين بلبس الحرير والذهب دون الرجال لأنه من زينة النساء, فقد روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [[ حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وحل لإناثهم ]].
وإذا تساءلنا لماذا كل هذا الاهتمام من الشرع بزينة المرأة وإبراز أنوثتها ولمن أيضًا هذه الأنوثة؟
قال ابن قدامة مجيبًا عن تساؤلنا:
[ أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل عنده، وكذلك يجوز لها أن تخضب يديها، وأن تعلق الخرز في شعرها، ونحو ذلك من ضروب الزينة ].
السيدة عائشة... والاهتمام بالأنوثة:
[ دخلت بكرة بنت عقبة على أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور. وسألتها عن الحفاف أي إزالة الشعر فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعتِ أن تنتزعي مقلتيك فتضعيهما أحسن مما هما فافعلي ].
هكذا ينبغي أن تكون الزوجة. ومن العجيب أننا نرى بعض النساء مهملات ومتساهلات في زينتهن لأزواجهن. ثم نجدها أجمل الجميلات مع الرفيقات والصويحبات وخارج المنزل ونجد أيضًا رائحة المطبخ والمأكولات تفوح من الزوجة في بيتها، أما في خارج البيت فحدث ولا حرج عن الروائح الفواحة الصارخة من بعض النساء في الطرقات والأسواق....
فمن الأولى بهذا الاهتمام الزوج أم الصديقة أم المعارف والأقارب.
من أخطاء الزوجات:(/1)
من الأخطاء القاتلة التي تقع فيها الزوجات إهمال الزينة والتجمل وإهمال إبراز أنوثتها لزوجها, ونحن في هذا العصر نواجه المرأة في كل مكان في الفضائيات والشوارع وأماكن العمل, ونرى أيضًا فتاة الإعلان والمذيعات وما يسمى بالفيديو كليب... كل ذلك تظهر فيه المرأة في كامل أنوثتها وجمالها مما يفسد الحياة على الزوجة العادية في بيتها فضلاً عن المهملة لنفسها.
وانظروا معي إلى هذا الموقف الغريب:
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأزواج عند عودتهم من السفر أن يعودوا ليلاً، لماذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: [[لا يطرقن أحدكم أهله ليلاً حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة ]] وتستحد المغيبة يعني: تحلق شعر العانة، والمغيبة: أي التي غاب عنها زوجها.
ماذا نفهم من هذا الحديث ؟
والواضح من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد من الأزواج أن يرى أحدهم زوجته في صورة رثة، شعثة الشعر أو غير مهتمة بنظافتها الشخصية وغير مهتمة بأنوثتها؛ لأن ذلك يجعل الزوج يزهد في زوجته وينصرف عنها.
ولقد أوصت تلك المرأة الحكيمة أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس عند زواجها فقالت:
[ فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح ]
الأنوثة من صفات المرأة الصالحة:
المرأة الصالحة هي التي تهتم بأنوثتها وجمالها. إذا نظر إلهيا زوجها سرته كما جاء في الحديث:
[[ ألا أخبركم بخير ما كنز المرء: المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرته أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ]].
وعن رسولنا الحبيب صلي الله عليه وسلم أيضًا: [[إن الله جميل يحب الجمال]].
ونحن هنا لا نركز على جمال الشكل فحسب؛ لأن الجمال نسبي وله أنواع مختلفة، ومن جمال المرأة جمال الطبع والصفات. فقال قال عليه الصلاة والسلام:
[[ فمن السعادة المرأة الصالحة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسك ومالك، ومن الشقاء المرأة تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك ]] رواه ابن حبان(/2)
الأنوثة في نصوص الوحيين (1/2)
أ.د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي * 7/4/1425
26/05/2004
اقتضت حكمة الخالق جل شأنه أن تكون الخلائق مركبة من زوجين، والزوجية تقتضي الاختلاف بينهما، إما اختلاف تضاد أو اختلاف تشابه وتنوع.
ولذا قال الحق تعالى: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الذاريات: 49].
قال مجاهد بن جبر فيما رواه عنه الطبري: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ" الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجن.
والزوجية هنا تشمل المعنويات كالهدى والضلال، والخير والشر، والمحسوسات كالليل والنهار، والذكورة والأنوثة.
وقد أوضح ذلك الراغب الأصفهاني بقوله: "الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجه زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضاد زوج.. وقوله: "خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ" فبين أن كل من في العالم زوج من حيث إن له ضداً أو مثلاً ما أو تركيباً ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب، وإنما ذكر هاهنا زوجين تنبيهاً أن الشيء وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركيب جوهر وعرض وذلك زوجان" [المفردات/ صـ216].
والذكورة والأنوثة هما صورة من صور الزوجية المشار إليها؛ فما علاقة الأنوثة بالذكورة؟
هذا هو محور الحديث هنا، ونقصر الحديث على جنس البشر.
وذلك في النقاط التالية:
أولاً : أصل الخلقة:
جاءت نصوص الوحيين بإشارات كثيرة لا يخلو أكثرها من التفصيلات في شأن (بدء الخلق).
قال سبحانه: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ 4 يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ 5 ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 6 الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ 7 ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ 8 ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ" [السجدة:4-9].
هكذا خلق آدم عليه السلام، ثم إن الله تعالى قدر أن يوجد له مخلوقاً يأنس به ويسكن إليه، فخلق منه زوجه حواء، كما أشارت إلى ذلك الآية الأخرى "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" [الأعراف:189].
وجاء توكيد ذلك في أول سورة النساء "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً".
وجاء في الأحاديث الصحيحة أن حواء خلقت من ضلع آدم، كما في حديث: (استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) [البخاري برقم 3331].
وهذا يفيد أمرين:
الأول: أن المرأة إنسان كالرجل:
الثاني: أنها جزء من الرجل وفرع منه.
ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة قوله عليه السلام: (إنما النساء شقائق الرجال) [رواه أبو داود/ 236].
قال الخطابي في معالم السنن 1/79: "أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شققن من الرجال".
وعلى هذا لا فرق في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة، بل هما متساويان فيها، مما يجعلهما مشتركان في جملة الفضائل الإنسانية، التي أشارت إليها نصوص القرآن الكريم.
كقوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" [الإسراء: 70].
وقوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" [البينة:4].
ثانياً: خصائص الأنوثة:
وبرغم تلك المساواة في القيمة الإنسانية أو أصل التكوين إلا أنه مما تقتضيه الحكمة الإلهية، والخلقة الطبيعية أن يكون الزوجان ـ الذكر والأنثى ـ مختلفين في بعض الخصائص والمكونات، كما تقتضيه الحال في كل زوجين من النبات والحيوان، فضلاً عن المتضادات كالخير والشر، والنفع والضر، والحب والبغض..إلخ.
ولو كان الرجل والأنثى سواء في كل شيء لم يكن في التعددية فائدة، لذلك لابد أن يقول العقل ومنطق الأشياء: إن بينهما اختلافاً في مجالي: الخلق والتكوين والخُلق والطبع.(/1)
وقد يكون من غير الممكن هنا تفصيل ذلك عند علماء الطب والتشريح، أو عند علماء النفس والأخلاق، لكنني أشير إلى ماله صلة وثيقة بالتشريع، وهو علم اللغة الذي عني أصحابه بالموضوع عناية واضحة وبالغة.
فابن سيده في (المخصص) بدأ بخلق الإنسان، وذكر اسم كل جزء فيه، ثم كل نعت فيه، بما يشمل الذكر والأنثى، ثم جاء بعنوان آخر هو: كتاب النساء، حيث أورد ما فيهن من خصائص وسمات، ثم نعوت وصفات، مما يحمد أو يذم.
وسبق ابن سيده علماء آخرون من أهل اللغة والأدب مثل الجاحظ وابن قتيبة، كما يلحظ ذلك في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، حيث خص النساء بكتاب مستقل سماه (كتاب النساء).
بل إن الأصل اللغوي لكل من لفظتي (الذكر، والأنثى) تعطي أبعاداً للمفاهيم، فالذكر: مأخوذ من الذكرة، وهي القطعة من الفولاذ، ويقال: حديد ذكر: أي يابس شديد، ورجل ذكر: قوي شجاع.
أما الأنثى، فمأخوذ من الأنوثة وهي الليونة، يقال: أنّث في الأمر: لان ولم يتشدد، وأرض أنيثة: سهلة منبات. ينظر: المعجم الوسيط. مادتا: أنث وذكر.
ولعل من المناسب أن نتوقف عند بعض الخصائص التي وردت في الوحيين، والتي لا يختلف عليها مسلم يؤمن بالله و اليوم الآخر؛ لإيمانه وتسليمه بالوحي أولاً، ثم لكون الخصائص هذه حقائق أكيدة ثانياً.
1- أن المرأة محل الزينة والجمال: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ" [آل عمران: 14].
وفي الحديث: (حبب إلي من الدنيا النساء والطيب) [رواه النسائي/ 3941]، وهو ما عبرت عنه تلك الشاعرة بقولها:
إن النساء رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين
2- والمرأة محل الحرث: "نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" [البقرة: 223].
والجنين منذ مرحلة النطفة حتى ساعة الميلاد وهو يعيش في رحم أمه، وهو معنى الحرث.
3- وهي عرضة للطمث، والحمل والولادة والرضاع: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ" [البقرة: 222]. "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ" [لقمان: 14]. "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا" [الأحقاف: 15].
4- وفي جنس النساء نقص أكثر منه في جنس الذكور: ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في يوم العيد إلى المصلى فمر على النساء فوعظهن وقال: (يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار) فقلن: وبم يا رسول الله، قال: (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها) [رواه البخاري/304 ، ومسلم برقم 132].
وهذا النقص أمر نسبي، في كل من الرجل والمرأة، ولكن في المرأة أكبر نسبة.
ومما يؤكد وجود النقص في الرجل، قوله عليه الصلاة والسلام: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) [رواه البخاري /3411، ومسلم /2431].
فإذا كان كثير من الرجال قد كمل، فإنه يقابلهم كثير آخرون ناقصون.
5- ومما يؤكد وجود خصائص في كل من الذكر والأنثى: قول الحق تعالى في سياق قصة مريم عليها السلام: "إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" [آل عمران: 35-36].
والشاهد هنا هو قوله تعالى :" وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى" وهو من تتمة كلام امرأة عمران، بعد الجملة الاعتراضية "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ" وهي من كلام الرب تعالى.
قال الطبري: "فتأويل الكلام إذًا والله أعلم من كل خلقه بما وضعت، ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت ـ اعتذاراً إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحررته لخدمة ربها (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى)، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس".(/2)
6- والنساء لهن خصيصة في اللباس تختلف عن الرجال: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ ُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ" [النور:31].
ثالثاً: المسؤولية والتكليف: خلق الله الإنس والجن لعبادته، والقيام بالأمانة والعدل. "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"الأحزاب: 72. "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56].
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة:21].
والإنس، والناس، والإنسان، كلها أسماء جنس يدخل فيها جميع عقلاء البشر من الذكور والإناث ممن يفهم الخطاب.
وجاءت نداءات متكررة ومتنوعة في القرآن الكريم تتضمن تكليفات إلهية. مثل: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الناس، يا بني آدم، يا أيها الإنسان. وهي خطابات للذكور والإناث، والقاعدة الشرعية في الخطاب أنه عام للذكور والإناث إلا ما جاء مستثنى.
لكن هل يدخل النساء في الخطاب بأصل الوضع، أم يدخلن بالتغليب؟ خلاف بين الأصوليين.
قال ابن القيم في رده على نفاة القياس عندما قالوا: "إن الإسلام سوَّى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج، وفي العقوبات كالحدود، ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة".
فعلق ابن القيم على هذه المقولة بقوله: "هذا من كمال شريعته وحكمتها، ولطفها؛ فإن مصلحة العبادات البدنية ومصلحة العقوبات، الرجال والنساء مشتركون فيها، وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة الصنف الآخر، فلا يليق التفريق بينهما، نعم فرقت بينهما في أليق المواضع بالتفريق، وهو الجمعة والجماعة.. وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها، وسوت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته، وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة.." [أعلام الموقعين 2/145].
وابن القيم يفصل هنا مواطن التسوية والتفرقة بين الجنسين.
والنصوص الشرعية واضحة وقاضية في كلا الأمرين والمقام لا يتسع لإيراد التفصيلات، لكن نشير إلى أهم مواطن الاختلاف بين الجنسين مما لا نزاع فيه بين أهل العلم في الجملة.
ففي نظري أن القضايا والأحكام ذات العلاقة لها أنواع:
1- تخفيف الحكم على المرأة من الوجوب إلى ما دونه، مثل: صلاة الجمعة، والجماعة، والجهاد.
2- إسقاط الحكم التكليفي عنها، مثل: عدم قضاء الصلاة بسبب الحيض والنفاس، وعدم النفقة على الزوج والأولاد.
3- تأجيل الحكم التكليفي وتأخيره، مثل: صيام رمضان بسبب الحيض والنفاس.
4- تمييز المرأة بأحكام تتعلق بأنوثتها: كالحجاب، وإباحة التحلي بالذهب والحرير، وعدم حلق شعر الرأس، وإرضاع الأطفال وتربيتهم.
5- وضع أحكام احتياطية لصالح المرأة، مثل: عدم السفر إلا مع ذي محرم، وعدم الخلوة بالرجل الأجنبي إلا مع ذي محرم، وعدم التبرج، و عدم الاختلاط في غير مواطن الحاجة.
6- إسناد الأعمال القيادية للرجل دون المرأة، مثل:
أ- قوامة الرجل على المرأة، ولزوم طاعة الزوج بالمعروف.
ب- ولاية النكاح.
ج- الولايات العامة للمجتمع (كالإمامة، والإمارة، والوزارة).
7- تحديد أنصبة أقل من الرجل، في الميراث، والديات والشهادة.
8- منحها حقوقاً مادية مثل: المهر، والنفقة.
وكل هذه الأحكام الخاصة بالمرأة، والتي تميزت بها عن الرجل هي عند التدقيق عين الحكمة ومقتضى العقل الصحيح ومساحة هذه المقالة لا تتسع للتفصيل.
رابعاً : الجزاء:
لا تكاد تختلف المرأة عن الرجل في مجال (الجزاء) دنيوياً كان أو أخروياً.
فالثواب والعقاب يستوي فيه الجنسان.
قال سبحانه: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [النحل: 97].(/3)
يقول الطاهر بن عاشور: قوله: "مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى" تبيين للعموم الذي دلت عليه (من) الموصولة، وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء، عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين".
وقد ثبت أن جبريل عليه السلام قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (اقرأ على خديجة السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب) [البخاري رقم/3820].
ولما قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله، مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يُذكرن أنزل الله: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" [الأحزاب: 35].
الأنوثة في نصوص الوحيين (2/2)
أ.د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي * 13/4/1425
01/06/2004
خامساً: المرأة والعلم:
الخطاب الشرعي الحاث على التعلم والتحصيل، عام يشمل الذكور والإناث، ومن أمثلة هذا الخطاب:
أ- قوله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" محمد:19.
قال البخاري فبدأ بالعلم.
والخطاب وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو متناول لأمته، كما يقول ابن حجر.[ فتح الباري/ 1/160].
والأمة: اسم جنس يشمل الذكر والأنثى اتفاقاً.
ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) [البخاري رقم/71].
فـ (من) شرطية وهي تعم الذكور والإناث، بلا نزاع يذكر. [ينظر شرح الكوكب المنير(3/240)].
"وإذن فلا خلاف في مشروعية تعليم الأنثى، لكن في الحدود التي لا مخالفة فيها للشرع" [الموسوعة الفقهية الكويتية 7/77].
ومن المحذورات هنا: اختلاط الطلاب والطالبات، وخلع الحجاب، والتبرج، وتعليم الأنثى ما لا يليق بها كرياضة الأجسام، والموسيقى، والعلوم العسكرية.
وكان كثير من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة عالمات فاضلات، مجيدات لكثير من فنون العلم.
وكما قال أحمد شوقي:
هذا رسول الله لم ... ...
ينقص حقوق المؤمنات
العلم كان شريعة ... ...
لنسائه المتفقهات
ردن السياسة والتجارة ... ...
والشؤون الأخريات
سادساً: المرأة والعمل:إذا كانت للأنثى تلك الخصائص السابقة، ولها تلك الاستثناءات التي أوردناها، فالنتيجة المنطقية أن يكون مجال العمل متناسباً معها.
وإذا كان كثير من الأعمال مشتركاً بين الرجل والمرأة فلا يمنع ذلك وجود أعمال أخرى لها خصوصية ذكورية، أو أنثوية.
والقاعدة هنا: أنه بقدر ما يشترك الجنسان في المعاني الإنسانية، يكون العمل مشتركاً بينهما، وبقدر ما بينهما من الفروق يكون اختصاص العمل.
وإذا كان من خصائص الرجل القوة والشدة والمغامرة فإن كل عمل يحمل هذه الخصائص لا يتحمله سوى الرجل في الغالب.
وإذا كان من خصائص الأنثى النعومة والعاطفة فإن كل عمل يحمل هذه الخصائص لن يتناسب إلا مع المرأة في الغالب أيضاً، وبهذا التكامل تستقر الحياة وتقوم على سوقها.
أما إذا ا فترضنا عدم صحة تلك القاعدة، وأسندت كل الأعمال إلى الرجل، أو إلى المرأة، فلابد أن يكون الخلل والقلق والفوضى لمصادمة الفطرة، والواقع، والشرع.
أما من حيث الفطرة، فلو قيل للرجل: أمامك ثلاثة مجالات للعمل، لتختار واحداً منها، وهي:
1- حضانة الأطفال.
2- قبالة النساء (توليدهن).
3- العمل في مجال العسكرية والأمنية.
ترى أي المجالات سيختار؟
أعتقد أنه لا محل للتردد هنا، بل سيختار المجال الثالث.
وهكذا بالنسبة للمرأة لو خيرت بين تلك الأعمال فإنها قد تختار الأول أو الثاني أما الثالث فلا.
وأما من حيث الواقع، فإن المرأة والرجل مازال كل منهما يمارس الأعمال التي تناسب شخصيته عند أمم الشرق والغرب.
وبرغم المناداة بتحرير المرأة، وتحرر نساء الغرب في الجملة، إلا أن السلوك الاجتماعي يفرض التنوع، ويملي على كل من الرجل والمرأة أعمالاً ومجالات محددة، ويفرض عليها فروضاً لا ينفكان عنهما.
وأما من حيث الشرع فهو محور الحديث هنا، وعرضنا ما وسعنا عرضه.
وبناء على ما تقدم فهل يمكننا أن نفهم أو نفسر طبيعة الحياة بين الجنسين بأنها تجنح إلى المنافسة على مجالات العمل، أو وجود التعارض بين متطلبات كل منهما ومصالحه؟
أظن أن النتيجة هنا واضحة، وهي أنه لا تعارض بين مصالح المرأة ومصالح الرجل، بل كل منهما يكمل الآخر.
ولعل مما يؤكد هذه الحقيقة، هو طبيعة العلاقة الخاصة (الجنسية)، حيث تقوم على حاجة كل منهما للآخر، وعدم إمكان الاستغناء عنه، عقلاً، وفطرة، وواقعاً.(/4)
حيث لا يمكن تصور مجتمع مكون من رجال فقط، أو من نساء فقط، كما لا يمكن تصور وجود أسرة مكونة من رجال فقط، أو نساء فقط، اللهم إلا في حالات خاصة وعارضة، فقد لا يوجد في البيت إلا رجال، أو نساء لأسباب قاهرة، كالكوارث ونحوها.
وصدق الله العظيم إذ يقول: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الروم:21].
وما شرع الزواج إلا لتلك الأغراض، كيما تسير الحياة وفق نظام سليم ومحكم.
فلا جرم أن ذلك كله يفيد شدة حاجة كل من الجنسين إلى الآخر، وأن في كل منهما نقصاً يكمله الآخر.
وأن العلاقة بينهما هي علاقة تكامل ليس إلا، نظراً إلى وجود التشابه بينهما.
إنها الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها.
والقول بغيرها لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن تكون العلاقة بينهما علاقة ندية.
الثاني: أن يكونا متطابقين ومتماثلين.
هذا هو التقسيم المنطقي في هذه المسألة.
ولو قيل: إن العلاقة بينهما علاقة الند لنده، لأصبح بينهما من التنافر والتنافس والمشاحة ما يصعب معه التعايش إلا بالمجاملات والمعاهدات، كما يلحظ ذلك في طبيعة العلاقة بين التجار، والطلاب، والأمم والحضارات.
ولو قيل:إنهما متطابقان لم يكن أحدهما محتاجاً إلى الآخر، بل تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين الرجلين، أو بين المرأتين.
فلم يبق إذن إلا أن تكون العلاقة بينهما علاقة تكامل نظراً للتشابه الكبير بينهما.
والآية السابقة، تؤكد هذه الحقيقة "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً".
يقول محمود الألوسي (ت. 127هـ) عند هذه الآية خلق لكم أي من أجلكم، "مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم... فمِن تبعيضيةٌ، والأنفس بمعناها الحقيقي، ويجوز أن تكون مِن ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس، أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل، وهو الأوفق بقوله تعالى: "لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا" أي لتميلوا إليها، يقال: سكن إليه: إذا مال، فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر. [روح المعاني 21/30].
و على هذا فإن إقحام المرأة في ميدان الرجل الذي لا يليق إلا به، هو تكليف للمرأة بمالا يناسبها، بل ربما لا تطيق.
سابعاً: المرأة والإغراء: أشرنا من ذي قبل إلى أن من خصائص المرأة الليونة والنعومة والتجمل، وهذا يجعلها محط اهتمام الرجل وميوله إليها، وتعلق قلبه بها، ما لم تكن من محارمه، وهي حقيقة لا مرية فيها؛ ولأجلها جاءت النصوص الشرعية المحذرة من الفتنة بالنساء، والتعلق بهن بالطرق غير المشروعة.
ومن هذه النصوص:
أ- قوله عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) [البخاري رقم/ 5096 ومسلم رقم/ 2740] ، فالمرأة فتانة بلا شك، وهو ما أشار إليه جرير بقوله:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركاناً
ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) [مسلم /رقم 2742].
ومعنى (اتقوا النساء) أي احذروهن بأن تميلوا إلى المنهيات بسببهن وتقعوا في فتنة الدين لأجل الافتتان بهن. [مرقاة المفاتيح لملا علي قاري 6/190].
وعلى هذا فليس معنى اتقاء النساء اعتزالهن بترك الزواج وتكوين الأسرة، بل المقصود اتقاء الفتنة المؤدية إلى المحظور، وهو معنى اتقاء الدنيا أيضاً.
ج- ما جاء في الحديث (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان). [الترمذي /رقم 1173، وقال: حديث حسن غريب]، ومعنى "عوره" كما في المفردات للراغب: "العورة: سوأة الإنسان، وذلك كناية، وأصلها من العار، وذلك لما يلحق في ظهوره من العار أي الذمة، ولذلك سمي النساء عورة".أ.هـ.
د- قوله عليه السلام: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) [مسلم /رقم 1403].
قال النووي: "قال العلماء معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها لما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والتلذذ بالنظر إليهن، وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له" [شرح صحيح مسلم 9/178].
قلت: وصورة الشيطان ليست لها جاذبية، بل هي مكروهة للنفس السوية، بعكس المرأة، فلعل المقصود الصورة المعنوية الجاذبة للشهوة.
وبناء على ما تقدم فالمرأة لديها الجاذبية للرجال، وهي محط أنظارهم ورغباتهم، والأمر الذي يفرض واجبات على كل من الرجل والمرأة، تحول بينهما وبين الجريمة.(/5)
أما الرجل فواجبه أن يغض البصر، ويحذر الخلوة بالمرأة، أو يدخل على النساء بدون استئذان، أو يكن في حال من التبرج والزينة، وألا يتعامل مع النساء إلا بحشمة ووقار، سواء في كلامه، أو في تصرفاته.
وأما المرأة فواجبها ألا تخرج متبرجة أو متطيبة أو تبدي زينتها لغير محارمها، أو تخضع بالقول للرجل، وألا تختلط بالرجال إلا في المواضع الضرورية.
بل إن الإسلام احتاط للمرأة بأكثر من ذلك، فأسند أمر الولاية والمحرمية إلى الرجل (القوي بطبيعته) ليكون راعياً وسنداً لها في كل مواطن الخطر أو الريبة، مثل السفر، والخلوة بالرجل.
ففي الحديث الصحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وأني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: (انطلق فحج مع امرأتك) [البخاري /رقم 1862 ومسلم /رقم 1339].
ولنتخيل المرأة وهي تواجه مثل هذه المأزق، كيف يكون وضعها؟
وكيف تستطيع الخلاص ـ وهي وحيدة أو معها امرأة مثلها ـ من براثن المجرمين العابثين؟
الحقيقة أنها في وضع لا يحسد عليه، وشواهد الحال أكثر مما يخطر في البال.
ولله در تلك المرأة الشريفة التي كانت تطوف بالبيت وكانت جميلة، فأبصر بها عمر بن أبي ربيعة الشاعر المشهور، فجعل يكلمها ويتابعها، فقالت لزوجها: إني أحب أن أتوكأ عليك إذا رحت إلى المسجد، فراحت متوكئه على زوجها، فلما رآها عمر بن أبي ربيعة ولى، فقالت: على رسلك يا فتى، ثم أنشدت:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... ...
وتتقي مربض المستثفر الحامي
[ينظر: عيون الأخبار المجلد الرابع 109].
ثامناً: آراء متباينة نحو المرأة:
المرأة مخلوق عجيب، احتار الرجال من سائر الأمم والأجيال في معرفة كنهه وطبيعته، ومن ثم التعامل معه.
وليس غرضنا هنا تتبع هذه النظرات والنظريات والفلسفات عند الأمم وأهل الملل والنحل، ولكن المهم أن نتوقف عند آراء ونظرات أهل ملتنا وبني جلدتنا، فذلك ما ينسجم مع طبيعة هذا البحث.
وفي تقديري أن هذه الآراء أو المواقف يمكن إجمالها في ثلاثة:
الأول: الموقف المتشدد:
الذي ينظر إلى المرأة نظرة مطبوعة بالارتياب والحقارة، والتشاؤم، فبالارتياب يعامل المرأة بالشك وسوء الظن، حتى لو كانت من صالحات الأقارب والجيران.
وكأن القاعدة لديه: الاتهام حتى تثبت البراءة.
وبالحقارة يعامل المرأة كأنها مخلوق دنيء، لا صلة له بالإنسانية، فهو يتحاشى ذكر المرأة في أحاديثه، أو ذكر اسمها أو أن ترافقه في المناسبات والاجتماعات، ولو كانت أماً أو زوجة، وهو لا يعرف من المرأة إلا أنها ناقصة وسفيهة، وقرينة الكلب والحمار.
وبالتشاؤم يعامل المرأة كأنها شيطان، ويرى أن كل معصية أو مصيبة في الدنيا فسببها المرأة؛ لأنها حبالة الشيطان، ويروون في ذلك أثراً غير معروف (النساء حبائل الشيطان).
الموقف الثاني: الموقف المتساهل الجافي: الذي ينظر إلى المرأة بإحدى رؤيتين:
أولاهما: الرؤية المادية (الجنسية).
الثانية: الرؤية الفلسفية القائمة على المساواة مع الرجل.
أما الرؤية الأولى؛ فهي تنظر إلى المرأة نظرة متعة جنسية ليس إلا، وكأنها خلقت لا لشيء إلا لاستمتاع الرجل وقضاء وطره، بأي أسلوب كان، مشروعاً أو غير مشروع.
وعلى المجتمع أن يتسامح في ذلك، فلا يلزم المرأة بحجاب، ولا يمنعها من مخالطة الشباب، ولا يخشى على عفتها أو بكارتها أو سمعتها.
وأما الرؤية الثانية: فإنها لا تختلف كثيراً عن الأولى، إلا أنها تنظر بعين العقل المجرد من وحي السماء، فالمرأة إنسان كالرجل، والإنسان جنس واحد لا يجوز التمييز بين عناصره.
فإذا كان لا يجوز التمييز بين الأسود والأبيض؛ فكذلك لا يجوز التمييز بسبب الجنس، ولا بسبب الدين.
وأظن أن النتيجة عند هؤلاء منطقية، فما دام الدين لا أثر له في المفاضلة بين الناس، بحيث يتساوى المسلم مع غير المسلم، أيا كانت ديانته يهودية أو نصرانية، أو بوذية، أو إلحاداً...الخ.
فالناس سواسية في الحقوق عند أصحاب هذا المبدأ، وإن كان مبدأ نظرياً لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، بل إن أصحابه أول من يخرق هذا المبدأ، فيقدمون المتأخر، ويؤخرون المتقدم، ويفاضلون بحسب أهوائهم ويقربون من شاءوا ويُقْصون من شاءوا، فيقعون في التناقض.
والدليل على ذلك أنهم في الوقت الذي يحتفون به بأصحاب الشذوذ الفكري ويجعلون منهم نماذج مثالية، فهم في الوقت نفسه يقصون أهل الاستقامة ويزدرونهم ويسفهون آراءهم، وإن كانوا نساء.
الموقف الثالث: الذي توسط في هذه القضية، بين أهل الغلو، وأهل الجفاء.
فينظر إلى المرأة نظرة تقدير واحترام، وأنها شقيقة الرجل، ولها حقوقها الكاملة المتناسبة مع أنوثتها.
وأن الأنوثة ليست صفة ذم، بل وليست صفة نقص، فإن العرب تقول: امرأة أنثى: أي كاملة.
[الفيروز آبادي ص210].(/6)
وأما النقص الموجود فيها، فهو نسبي، أي بالنسبة إلى الرجل.
وليس المقصود أن كل رجل هو أكمل من كل امرأة وأفضل منها، كلا؛ بل المقصود أن جنس الرجال أكمل من جنس النساء.
وإلا فقد يوجد من النساء من هو أكمل من آلاف الرجال.
وهل تقاس مريم ابنة عمران، أو آسية امرأة فرعون أو خديجة أو عائشة أو أم سلمة بأمثال فرعون وهامان وقارون وأبي جهل وأمية بن خلف؛ بل أمم الكفر والضلال؟ اللهم لا.
بيد أن التشريعات الإلهية إنما تنظر إلى الأعم الأغلب.
ودين الإسلام وهو يضع الأنصبة في مكانها فإنه لا يقر الدعاوى الفارغة التي تستغل عواطف المرأة وتسوقها إلى براثن الرذيلة، تحت ذرائع المساواة والتحرير، والحرية.
وإذا جاز أن يقع ذلك في مجتمعات لا تؤمن بالله واليوم الآخر، ومن قبل دعاة الإلحاد والإباحية فإنه لا عذر للمجتمعات المسلمة، ولا لأي مسلم أو مسلمة أن ينخدع بتلك الدعاوى المزخرفة والمزيفة.
وأخيراً، أوجه نظر الباحث المنصف، الذي ينشد الحق والحقيقة، إلى أنه لا يمكن فهم المنهج الإسلامي نحو الأنوثة إلا بالوقوف على جملة النصوص الشرعية وشروحاتها وبياناتها اللغوية المتصلة بالموضوع، وعند ذلك تكتمل الرؤية، وتتضح الصورة.
أما أخذ بعض النصوص دون بعض وانتقاء بعضها فذلك منهج خداج لا يعطي الصورة الصحيحة عن الإسلام.
والله ولي التوفيق..
*الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء(/7)
الأولويات الدعوية في رمضان
عبد الحميد الكبتي
ما أحوجنا إلى هذا الترتيب الدعوي ، الذي يدل على إعمال الفكر ، وترتيب الإحداثيات المهمة فيه ، كي يكون العمل أنفع ، وأجدى ؛ ففي معرفة فروض الوقت ونوافله ، بركة من السماء ، فيكون ثمة القبول والتوفيق من عنده سبحانه وتعالى .
إن غياب هذا الفقه الجميل العالي ( فقه الأولويات ) يكون له آثار وخيمة ، سواء في الدعوة وهمومها ، أو فيما تؤول إليه ، وهذا الفقه محل غياب عند كثير من الدعاة الأماجد ، فضلاً عن عموم الأمة المباركة .
يقول الشيخ القرضاوي حفظه الله عن غياب هذا النوع من الفقه : " هذا الخلل الكبير الذي أصاب أمتنا اليوم في معايير أولوياتها ، حتى أصبحت تُصغِّر الكبير ، وتُكبِّر الصغير ، وتُعظّم الهيّن ، وتُهَوّن الخطير ، وتؤخر الأول ، وتقدم الأخير ، وتهمل الفرض وتحرص على النفل ، وتكترث للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختلف فيه ، وتصمت عن تضييع المتفق عليه .. كل هذا يجعل الأمة اليوم في أمَس الحاجة ، بل في أشد الضرورة إلى فقه الأولويات لتُبدئ فيه وتعيد ، وتناقش وتحاور ، وتستوضح وتتبين ، حتى يقتنع عقلها ، ويطمئن قلبها ، وتستضيء بصيرتها ، وتتجه إرادتها بعد ذلك إلى عمل الخير وخير العمل " . فقه الأولويات للقرضاوي.
ولو أننا مزجنا هذا الطرح الراقي ، مع نفحات رمضان، التي أُمرنا بالتعرض لها ، وما فيه من بركات ، نخلص إلى رباعية مائدة مباركة عالية ، يحرص كل داعية نبيل أن يعرضها ، إذ هو داعية لله تعالى على بصيرة .
أولاً: الدعوة إلى التقدم نحو القرآن الكريم ، تقدماً بفقه ونضج .
{ شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن هُدًى للنَّاس وبيِّنات من الهدى والفرقان } .
هذا هو المعلم الأول، هداية الناس، والحرص على تبيان الهداية لهم، وربطهم بمصدر هذه الهداية الربانية - القرآن الكريم - ومصدر الفرقان في كل شيء، في الأفكار والقيم، وفي النفس والروح، وفي عالم الضمير والسلوك.
إن هذا القرآن ليفرق بين المرء ونفسه بتلك الأنوار الهداية، وما فيه من مرافئ الفرقان في شواطئ الحياة المتلاطمة بالناس، وهو القرآن الذي أوجد هذه الأمة المباركة، وهو محفوظ لها من ربها، لتتكفل هي بالعمل به، وصبغ الحياة به، وهذا دور الداعية الأول الذي ينبغي أن يبرز له، شهر ينزل فيه القرآن، يكون للقرآن نصيب أوّلي فيه :
- بدءًا من تلاوة لكل حرف، فيها من الأجر عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء، إذ هو سبحانه واسع عليم .
- وصعودًا إلى تدبر وتمعن في الخطاب الرباني لهذه الأمة المباركة.
- ودعوةً للناس إلى حسن النهل من هذا المعين الذي لا ينضب، أفرادًا وجماعات، وتقديم الأسس المنهجية للتفقه في حسن التلقي من ربنا سبحانه وتعالى.
- وترسيخًا لمبدأ الصلة القوية بهذا القرآن الكريم، بأنواع من الإبداع يتناولها الداعية.
ثانياً : إحياء وزرع معنى ( التقوى ) في نفوس الناس .
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
إذ واقع الناس بشكل فردي، أو جماعي، أو كل أمتنا المباركة، ليحتاج من نفحات رمضان المبارك أن نعمق هذا المعنى، هذا المعنى الذي يحقق للمؤمنين النجاة في الآخرة، ويضمن التماسك في سفينة المجتمع الذي يعيشون فيه، سواء المجتمع الكبير، أو في أضيق فهم له "الأسرة"، ولا يكونن طرح الداعية طرحًا وعظيّا حماسيّا آنيّ التأثير والتأثر، وإنما بطرح عميق، وفقه من حركة الحياة، وسنن الله تعالى التي بثها كسنن ثابتة لا تتغير، ومع توضيح هذه السنن، يكون طرح الأسس الهامة لنتائج "التقوى"، كمعايير للقياس.
قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } ، هذه سنة من سنن الله لا تتبدل ولا تتغير، فمن بعد الإيمان التقوى، لتكون البركات مفتحة الأبواب لأهل القرى المؤمنين.
وقال ربنا الحكيم: { ولباس التقوى ذلك خير } ، قاعدة ربانية تدعو الداعية لعرض هذا اللباس المبارك، الذي فيه الخير كل الخير، في بعد عن تبرج المعاصي والفساد، هذا اللباس المبارك، وذاك السفور المنفر، ينمو في حس كل مسلم حتى يُكوِّن مفهومًا عامّا لدى المدعوين.
و قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } هذا هو المعيار في تقييم الناس، وهذا هو المحدد الرئيس الذي تذوب معه الألوان والانتماءات الأخرى، وهو أساس التعارف، وأساس التقديم والتأخير، من بعد ظهور ملامحه في صور من العمل تترَى.
وبذا تشيع روح الإخاء الإيماني على قاعدة التقوى، و يلمس الناس هذا المعيار عند إسقاطه على الذين يقودون الأمة اليوم، وتُترَك لهم المقارنة، ويترك لهم تقييم المسار من بعد ذلك، بناء على البركات التي تُنزَّل، أو النكبات التي تصعّد، ولكل منها في حس الداعية توجيه وإرشاد.(/1)
وهي الزاد: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }التقوى زاد في الحركة بهذا الدين يمنحه قدرة على السبق والفوز والمسارعة: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } ، { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } وزاد في الآخرة حيت تُبَلى السرائر.
ويُتمّم هذا المفهوم بسُنَّة أخرى بثها ربنا سبحانه وتعالى في الحركة بهذا الدين: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } ، فلن تكون التقوى بغير صلاح وإصلاح.
إن الحديث حول "سفينة المجتمع" والسنن التي تحكم مسيرتها سلبًا وإيجابًا، لهو من أولويات الدعوة المهمة لدى الداعية، إذ الشهر المبارك يلبسه، ليلبس هو لباسًا للتقوى والصلاح والإصلاح.
ثالثاً : عرض فقه التغيير الذكي .
فالناس كل الناس تسعى للتغير من أنماط حياتها، ومن رُزِق منهم الإخلاص، قد يعوزه بعض وعي ننثره عليه في هذا الشهر الكريم، إن إعداد منهج للتغيير يقوم على الصعود إلى العمق النفسي في كل حناياه، وقد تكفل ربنا بهذا التشريع - الصوم - تكفل سبحانه بكتم جانب الشهوات في الإنسان، ليكون منه مزيد من المحاكاة النفسية التي تقوم عليها فلسفة الصوم في نفس المسلم، فيكون التغيير.
وربنا سبحانه غير سنناً كونية في رمضان ، ففتح لنا سبحانه أبواب الجنة ! ، وأغلق عز وجل أبواب أبواب النار ! ، وصفّد لنا الشياطين ! ، وليس هذا إلا تغييراً في رمضان ونفحات من رمضان ..
يقول الله عز وجل: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، هذا هو التغيير الذكي في جانبه الإيجابي، جانب العطاء، وقال سبحانه: { ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } قال أهل التفسير: إن الله لا يسلب قومًا نِعَمَه حتى يغيروا ما بأنفسهم فيعملوا بمعصيته.
إن تحريك الفاعلية والإيجابية في نفس المسلم، وهو في عبادة هي كلها لله تعالى - الصوم لي وأنا أجزي به - سيكون له أثر كبير مضاعف بحول الله تعالى، وهو التغيير الذكي الذي نعني، وعند طرحه على الناس بقواعده وأسسه ومقدماته ونتائجه، سيكون الذكاء في التغيير هو الباب الكبير الذي تلج منه الأمة إلى أمجادها، تغييرًا في النفس والروح، وتغييرًا في الفكر والوعي، وتغييرًا في الآفاق والآمال، وتغييرًا في اللباس والزاد.
لقد توارد معنى الإيجابية، وتكرر في القرآن الكريم بصور شتى وأساليب متنوعة، ليتركز مفهوم فردية التكليف، و بالتالي ذاتية العمل، وما ينعكس عن ذلك من تثبيت مفهوم إيجابية الداعية في العمل والمثابرة، ومنها أوضح آية في كتاب الله تعالى، تحدد معنى الإيجابية، ألا وهي قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلَّف إلا نفسك وحرض المؤمنين } ، والمعنى واضح في أمر الله تعالى لنبيه في عدم تكليف أحد إلا نفسه، وألا ينتظر إعانة من أحد، رغم أن المعلوم من الشريعة أن الأمة كلها مكلفة بالجهاد، ولكن المعنى أن يفترض كل مسلم من الأمة - والقدوة في ذلك نبيها صلى الله عليه وسلم - أنه وحده المكلف بالأداء، وأن الله قادر على نصره، وينحصر واجبه في تحريض المؤمنين.
ولينطلق كل فرد من المدعوين بصور من التفاعل مع مجتمعه، ومساعدة الناس وحل مشكلاتهم، ونُعلّم الناس الإبداع، في ضرب مثال بذاك الصحابي الجليل الذي أبدع في مواجهة حال المسلمين في معركة القادسية، يقول القرطبي في تفسيره : " وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أُقتَل ويُفتَح للمسلمين " . .
ونرسخ في الناس تخطيط هذه الإيجابية من خلال عرض الدوائر الثلاث في نفس كل مسلم :
* دائرة الذات :
فهمًا وتطويرًا وعلمًا وعملاً ، وحياةً في ظلال قرآن كريم ، واقتداءً دائمًا متحركًا بنبي كريم وصحب أماجد . . المرء منا مسؤول عن نفسه أولاً عن قلبه عن روحه عن عقله وفكره ووعيه ، وعلى هذا سوف يسأل ابتداء ... { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } ، { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } . { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
فتقدم له ولنفسه البرامج التي يهتم بها ، ويلتزم بها خلال الشهر الكريم ، كي يكون في مستوى قريب من رحمة الله تعالى ، وعتق رقبته من النار .
* دائرة التأثير:(/2)
في المحيط الدعوي لكل مسلم مع من حوله، كلٌ بحسب حاله وواقعه، تبدأ الدائرة من البيت والأهل، { قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة }.
وتتسع الدائرة :
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) متفق عليه ( .
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في مال الزوج ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه (.
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه ) .
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربة فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة ) رواه مسلم (.
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، ( .
ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به ) رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح( .
يا أبا ذر، إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف ) رواه مسلم. (
إن الإيجابية الحق أن يعيش المسلم أكثر من عمره ، بل يعيش بأعمار الآخرين الذين يسعى لهم في أمورهم ، ويفرج عن كروبهم ، وينفس عن همومهم ، ويدخل الفرحة على قلوبهم ، ومن أجمل القرب لله تعالى " إدخال سرور على بيت مسلم " ، ولا يلتفت المسلم لوسوسة شيطان رجيم يقول له : إن الكل يحرص على نفسه فلا تهتم !؟ . وما هذا القول وأمثاله إلا حالة من الضعف النفسي لم تكن يوما في أصالة مجتمعنا الليبي ولا أخلاقياته !
دائرة الاهتمام:
بشئون الأمة العامة والخاصة، وفق تصور ناضج، قد يصل إلى دائرة التأثير ويرتقي لها،{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } ، ( من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح و لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) رواه الحاكم وصححه السيوطي.
ووفقا لهذه الإيجابية، وهذه الدوائر التربوية يكون العطاء المنهجي العالي ، من غير تقيد بطبخة أو أكلة ترسل لجار ، وهذا حق ، إنما الحصيف من يبدع بما يقتضيه الحال !
رابعاً : آمال الأمة والحرص على الوطن .
ففي شهر رمضان المبارك العديد من الأحداث الهامة في تاريخ أمة الإسلام المباركة ، ففيه بدر الكبرى ؛ يوم الفرقان ، وفيه الفتح الأكبر ؛ فتح مكة ، وفيه فتح الأندلس ، وفيه عيون المعارك ؛ عين جالوت .
والداعية الفقيه لا يعرض هذه الأحداث سردًا قصصياً ، يداعب به نفوس الناس ، ويجعلهم يعيشون مع دغدغة التاريخ وأمجاده ، كلا ، بل يربط بين حال المسلمين في أيام التتار ، وما وصل إليه حالهم في تلك الفترة، وسبب ذلك التراجع ، وكيف نهضت الأمة ، وزيحت عنها الغُمة المغولية ، وكيف دخل معظم التتار في دين الله تعالى ، من خلال قوة المسلمين ، ومن خلال حسن التعامل معهم ، هذا ، مع التغول الحالي لقوى الظلم والقهر اليوم ، ومهما وصل الحال ، ومهما ضاق الأمر على الأمة، سيكون لها عين كعين جالوت ، تتجلى فيها نفوس المؤمنين التقية ستارًا لقدرة الله بنصرة دينه سبحانه وتعالى.
ولن يكون الفرقان لهذه الأمة لتشق طريقها في الحياة والممات ، إلا بذلة لله تعالى وأوبة له وفرار إليه : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ، فلا هو الإعداد المادي فحسب ، بل يقدم عليه إعداد النفوس لتكون أهلاً للفرقان في حياتها .
فقد نشر المسلمون العلوم في أندلس جميلة وأشاعوا فيها العدل والعلم ، وأسسوا المنابر للدنيا كلها ، دون احتكار أو هيمنة، هذا ، وبعد أن تفشت الخلافات ، ونزلت الاهتمامات عند قادة المسلمين ، سلب منهم كل شيء ، تلك دروس يطول بسطها ها هنا ، ولكل داعية عالي الوعي مزيد علم ونضج يبثه للناس .
نربط ذلك كله بما يجري اليوم على الساحة الإسلامية، وما يعصر قلب المؤمن من ألم فيها ، غير أننا ندفعه بأمل في تحقيق تلك الأمة للقوانين والسنن ، مع تفاعل معها الآن ، إذ نحن حملة الأشرعة البيضاء ، مهما جرت الرياح بما لا نشتهي .
إن الداعية الحق هو الذي يتحرك من خلال واقعه ويسعى لنقل هذا الواقع بما يرضي الله عز وجل ، ويدقق في أمر من حوله ، ويعرف مواطن الخلل وكيفية العلاج ، ويضرب في بلده ووطنه وبيئته المثل الفصيح في العمل الوطني الجاد ، الذي يحركه أولا رضوان الله عز وجل ، ثم مصلحة الوطن الحبيب ، ولا يتردد المرء لحظة في بيان الحق : ( وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) .(/3)
إن المجتمع الذي يخلو من القدوات الصادعة بالحق لهو مجتمع يخشى عليه من عقاب جماعي من رب العالمين ؛ روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن أول ما دخل النقض على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقل : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ثم قال : كلا ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ) .
وضرب القلوب في هذا العقاب ـ نسأل الله السلامة ـ إن هو إلا التخبط والحيرة وكثرة الفساد وتيه الناس عن الجادة والتفكك الاجتماعي والأخلاقي والنفسي ... ألخ
وما أقساها من عقوبة !!
علينا - أيها الدعاة - أن نُفعّل هذه الموضوعات في تيار عام نصنعه ، ونعطي الناس الخبر الصحيح في فقهها ، وكيفيه نصرتها ، وفضح كل ظالم ومتعاون وصامت ، ورفع الأيادي في القنوت في جماعة المسلمين بالدعاء لإخواننا جميعاً ، وأمر الدعاء لا يستهان به ، فقد زلزل الروس في غزوهم للشيشان ، وطلبوا منعه ، فنكثر منه على الملأ ، ونحرض الأمة على الإخلاص فيه، فهذا أقل ما يجب ، فضلاً عن مال وزكوات ، وضغط إعلامي ، ونشر لهذه القضايا ولو بشق كلمة !!
ومن المهم أن نقرر في أذهان الناس أنه مهما تكالبت علينا الأمم ، ومهما كثر الظلم وعم القهر: { لن يضروكم إلا أذى } ، وهم { أحرص الناس على حياة } ، { ويمكرون ويمكر الله } ، وحقيقة : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } لكن إيماننا قوي لأن: { وعند الله مكرهم } .
هذه قوانين ربانية تتعلمها الأمة من الداعية إذ هو يدلها على أبواب الصعود بذكاء.
أيها الداعية، إن إشاعة الحب الوثيق بكافة أنواعه لهو بدء الأمر، حبّا لله تعالى ولرسوله ، ولهذا الدين المبارك ، وما يحمل هذا المعنى من القرب لله تعالى في صنوف شتى ، وتأسياً بنبي كريم عليه الصلاة والسلام ، وتعميقاً للولاء لهذا الدين ، ولو كره الكافرون ، ولو كره الخانعون ، ولو كره الظالمون !
حبّا للناس والاقتراب منهم ، ولمس مشكلاتهم ، وحلها بلغة العمل الفصيح ، وتفريج الكربات عنهم ، من بعد تعلميهم سنن الله وقوانين حركة الحياة ، والدلالة على ضروب الذكاء الاجتماعي ، ومنها التغيير ، وربطهم بكتاب أُنزل لهم في رمضان .
وفي رمضان نفحات ومعانٍ يراد لها بسط ، غير أن تلك الرباعية أراها الدرجات الأُوَل على سلم الأولويات ، والله وليّ السداد لداعية فقيه ، أنار عقله فقاد ، وبكى في محرابه وانقاد .
ولكل داعية نبيهٍ ألف تحية وسلام ..(/4)
الأولويات في الإسلام ( 1 )
د.فواز القاسم / سورية
fawaz_alkassim@yahoo.com
إن من أهم الخصائص التي تميز ديننا الإسلامي الحنيف هي : الواقعية الحركية . فهو دين يهتم بالواقع ، ويتحرك مع الحياة فيعالج مشكلاتها ، ويتفاعل مع أحداثها ، ويعطي لكل حالة من حالات الواقع التي يعيشها المسلمون ما يكافئها من النصوص والأحكام ، ويتعامل مع كل مرحلة من المراحل التي يمرّ بها المسلمون بما يناسبها من البرامج والحلول ...
ومن يتعمق في دراسة المسيرة الإسلامية منذ لحظة نزول الوحي على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحتى هذه اللحظة ، يجدها قد مرت بمراحل متعددة ، ويجد لكل مرحلة خصائصها وملامحها التي تتميز بها، فالمرحلة المكية ، هي غير المرحلة المدنية . والخلافة الراشدة ، هي غير الخلافة الأموية .
وهي قطعاً غيرها في المرحلتين العباسية والعثمانية ... وهكذا ...
وعلى العاملين للإسلام اليوم من أبنائه ، الذين ينشدون إعادة النشأة الإسلامية إلى ظهر هذا الكوكب ، بعد أن غُيّبت عنه لعقود ، أن يعوا هذه الحقائق جيداً ، وأن يعملوا بمقتضياتها ، إذا أرادوا لجهودهم أن تتكلل بالنجاح،إذ لا تكفي النيات الطيبة وحدها – على أهميتها – بل لابد أن تقترن بالفهم الصحيح والعمل المجدي .
ولعل أول وأهم خطوة في الاتجاه الصحيح هي : أن نحدد مكاننا – نحن في هذا الجيل – على خارطة المسيرة الإسلامية ، وأن نتعرف بدقة على موقعنا الحقيقي على خط الدعوة البياني ، لكي نتعامل مع ذات النصوص التي تعامل معها أبناء المرحلة المطابقة لمرحلتنا …
فلو أخذنا مثلاً المرحلة المكية التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، والتي سأطلق عليها مرحلة الاستضعاف ، لوجدناها تتصف بصفات معينة ، وتتميز بسلم محدد من الأولويات ، قد يكون في أعلاها : الدعوة إلى الله ، وبناء القاعدة الصلبة المؤهلة لحمل تبعات هذا الدين .
لكن لم يكن مطروحاً في هذه المرحلة موضوع الجهاد مثلاً – على أهميته – ولا موضوع العلم ، أو الفقه( بمعناه الذي يتعارف عليه الناس اليوم )، ولا حتى إقامة العبادات بتفاصيلها المعروفة ، إلا بما يخدم الأهداف الأساسية لهذه المرحلة ، وعلى رأسها بناء الشخصية الدعوية الربانية التي تفهم الإسلام وتصبر على تكاليفه.
ليس لان مثل هذه الأمور غير ذات أهمية في مسيرة الدعوة الإسلامية ،بل لان فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، اقتضى مثل هذه الجدولة في سلم الأولويات والأسبقيات .
ولما جاءت المرحلة المدنية ، والتي سأطلق عليها مرحلة التمكين ، تغيرت المعطيات بتغير الزمان والمكان والظرف . فمع استمرار الدعوة والبناء ، برزت حاجة المرحلة للجهاد في سبيل الله ، وذلك لحماية الدعوة الناشئة ، والذود عن الدولة الوليدة .
ولذلك فقد جاءت النصوص والأحكام والتوجيهات ، منسجمة مع هذا الواقع الجديد ، ومنظمةً له أيما تنظيم.
وتدور عجلة الزمن ، وينتقل الرسول الكريم ( ص ) إلى الرفيق الأعلى ، وتتعمق حركة الفتح ، وتتقدم الدولة الاسلامية على كافة المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية . وتبسط أجنحتها على القسم الأكبر من الأرض المعمورة في ذلك الوقت ، فتظهر الحاجة الى حركة العلوم ، والتأليف ، والتدوين، والترجمة ، بما يوازي ذلك التقدم الهائل ، ويستوعب ذلك التوسع الشاسع . عندها عكف الآلاف من أصحاب الطاقات ، الذين لم يجدوا باباً يصرفون فيه طاقاتهم – بعد أن كُفوا الدعوة والدولة والجهاد- إلا في طلب العلم ، فعكفوا عليه، وأبحروا في لججه ، وغاصوا في أعماقه ، يستخرجون ما طاب لهم من كنوزه ودرره .
فهذا يؤلف متناً مختصراً في باب من أبواب العلم . ويأتي من بعده من يشرحه . ثم يأتي آخر فيضع له حاشيةً . ثم يأتي من يعلق على الحاشية . ثم يفطن آخر لاختصاره من جديد ...
ومنهم من أستنفد القضايا المعروفة في عصره ، فبدأ يتصور قضايا أخرى ليست موجودة أصلاً ، ليضع لها الحلول المناسبة ، وهم الذين أطلق عليهم (الأرأيتيون) .! وهكذا ...
حتى وصل إلينا ذلك التراث الهائل من علوم الفقه والحديث والفلسفة والكلام وغيرها …
ومع استقرار الدولة الاسلامية وبطرها ، وانفتاح أبواب الدنيا على المسلمين ، ظهرت المزيد من الأصوات المخلصة ، التي تحذر الأمة من مغبة الركون الى الدنيا . وتدعو المسلمين الى العودة الى النبع الصافي ، والتمسك بالمنهج الأصيل ، والعمل للآخرة والرغبة في الزهد والعزلة .
ولقد أطلق هذه الصيحات في وقتها نخبة من خيرة أبناء الامة ، ومجموعة من أفضل علمائها في تلك المرحلة، من أمثال : الحارث المحا سبي ، والجنيد البغدادي ، وعبد القادر الكيلاني ، وغيرهم الكثير رضوان الله عليهم.(/1)
وتدور عجلة الزمن ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً ، ويختلط العجم بالعرب ، وتبدأ إفرازات ذلك الاختلاط على شكل رواسب و دواخل عقائدية وسياسية . وتظهر الحركات الباطنية والمنحرفة والهدامة التي بدأت تنخر في جسد الامة .
وهنا ينبري كبار علماء الأمة وربانيوها ، من أمثال : الإمام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، وغيرهم ، رضوان الله عليهم .
وتدور رحى معركة فكرية هائلة ، تخلف لنا ذلك التراث الضخم من العلوم والكتب والمؤلفات، التي ترد على تلك الفرق الضالة وتعرّيها ...
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ، والذي نستطيع من خلال الإجابة عليه أن نضبط كل أقوالنا وأفعالنا وتحركاتنا على منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الأعلام رضوان الله عليهم هو : أين موقعنا نحن اليوم – في هذا الجيل الذي يدلف إلى القرن الحادي والعشرين الميلادي- من هذا الخط البياني للأمة ؟
وأهمية الإجابة على مثل هذا التساؤل المهم ، تكمن في تمكيننا من تحديد موقعنا ، ومعرفة مرحلتنا، لنتمكن من الاستفادة من ذات النصوص والتعليمات ، ونحتكم لنفس الأوامر والتوجيهات ، التي استفاد منها الرعيل الأول ، الذي عاش نفس ظرفنا ، ومر بنفس مرحلتنا ، .
وتمكيننا أيضاً من تحديد أسبقياتنا ، وترتيب أولوياتنا ، ومعرفة فروض أوقاتنا ، لمقتضيات المرحلة ذاتها، بما يمكننا بعون الله ، من تحقيق أهدافنا والوصول الى غاياتنا، في أسرع وقت ، وأقل جهد ، وأخف تضحيات ممكنة …
فإذا اتفقنا مثلاً ، على أن مرحلتنا التي يمر بها جيلنا اليوم ، مشابهة لمرحلة الأحزاب من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوم اجتمع الكفر كلّه لملاقاة الإيمان كلّه ، ورمت قوى الكفرٍ المسلمينَ عن قوس واحدة، فيجب أن نفقه بمنتهى العمق والدراية ، ظروف وملابسات تلك المرحلة ، ويجب أن نعي جيداً ، النصوص والتعليمات والتوجيهات ، الربانية والنبوية، التي قادت تلك المرحلة . ونستخرج بفقه حقيقي وبراعة اجتهادية ، الدروس والعبر والعظات المستنبطة منها . ونحدد بوضوح تام جدول الأولويات الذي سار عليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الميامين رضوان الله عليهم فيها .
فإذا كانت أولويات تلك المرحلة تركز على الجهاد في سبيل الله ، وبذل الأنفس والأموال والأولاد للدفاع عن العقيدة المهدّدة في المدينة المنوّرة المجتاحة والمحاصرة ، فكيف يجرؤ شخص ، كائنا من يكون ، ممن ينتمي الى هذه الأمة ، ويدّعي محبة رسولها ، وفهم سيرته الشريفة ، أن يخرج على هذا المنهج ، ليصرف الأمة عن واجبات مرحلتها الحقيقية ، وفروض أوقاتها المقدّسة ، إلى دعوات قميئة ، ك(السلام ) و ( الصلح ) و ( التطبيع ) ...إلخ .
وإذا وجد _ في غير العراق المحتل _ من تسوغ له اجتهاداته الشخصيّة مثل هذا التصرف الخطير، بدعوى ( الواقعية ) و ( العقلانية ) و ( الموضوعية ) والانبطاحية والانهزامية والاستسلامية ... !!!
فهل يجوز لعراقي نشمي ، رضع لبان عراقية ماجدة ، وأكل من ثمار نخيل البصرة ، وشرب من مياه دجلة والفرات ، وتسمى بأسماء ( ...الراوي ) و ( ... السامرائي ) و ( ... الكبيسي ) وغيرهم ( ولا عليك بالأسماء العجمية ) ...هل يجوز له ، وهو يرى عراقه الحبيب يُذبح من الوريد إلى الوريد في كل لحظة ، وحرائره تغتصب ، ومقدّساته تهان ، ومدنه تدمّر ، وأمواله تسرق ، في واحدة من أفظع الجرائم الخسيسة التي تزلزل عرش الله ، أن يشغل العراقيين والأمة بمحاضرات باردة ، وندوات تافهة ، وبرامج مقززة تثير الإشمئزاز والتقيؤ ، عن ( إعجاز الضوء ) ، و( سحر الكون ) ، و(عظمة الفضاء) ، و(تناهي صغر الذرة) أو عن ( الزهد )و ( التسامح ) و ( العقّة ) و ( جلاء أدران القلوب )..!؟
أي والله ، هذا ما أشاهده على بعض الفضائيات العراقية والعربية ، وأنا في طريقي لتتبع أخبار العراق المذبوح والأمة المبطوحة ، ولطالما انعقدت لديّ مقارنة لا إرادية ، ولكنها كانت مقزّزة ، بين لقطة ( الدماء)و ( الأشلاء ) و ( النساء منثورات الشعور ) و( المنازل المدمّرة ) !!!
وبين ثلة من المعمّمين وأصحاب اللحى ، المتحلّقين حول مائدة مستديرة ، يتدارسون ويتناقشون ويتبارون لساعات وأيام وليالي عن خصائص ( الضوء ) و ( السكون ) و ( الهدوء ) ...!!! أي والله ...!!!!!!!!!
ما أود أن أخلص إليه من هذه الدراسة هو :
1. إن أمتنا عموماً ، وبعض أجزائها على وجه الخصوص ، كالعراق مثلاً ، تمر في حالة حرجة للغاية ، حالة إسعافية ( باستخدام مصطلحاتنا الطبية ) .(/2)
2. وفي الحالة الإسعافية تتوجه جهود المسعفين والمنقذين إلى الحالات الخطيرة ، وبحسب أهميتها لحياة المريض ، ومن العيب الشنيع ، والخطأ القاتل (fatal mistake ) أن يتوجه الطبيب المسعف في مثل تلك الحالات الحرجة لتضميد الجروح البسيطة ، قبل أن يطمئن على القلب والدوران والتنفس ، التي هي من أهم أجهزة حياة الإنسان ، ومن يفعل ذلك في عرفنا الطبي ، ليس طبيباً ، وتسحب منه شهادة مزاولة المهنة .!!!
3. إن أفكار الأمم أهم من أبدانها ، وما ينطبق على الطب في أمتنا ينطبق على الدعوة والتربية فيها ، والأمة اليوم في حالة حرجة للغاية ، ولقد رمتها الصهيونية والصليبية والمجوسية في عقيدتها وأرضها وثرواتها عن قوس واحدة .
4. وللأمة أولويات ، ولعل من أهم أولوياتها اليوم أن تشتغل بفقه جهاد الدفع ، وما يتصل به من أحكام ، وفقه الوحدة والقوة والوطنية والشجاعة والبذل والإيثار ... وعشرات العناوين الفقهية المشابهة ، لتوحد شملها وترد الغادرين والحاقدين والمتكالبين عليها ، وكل عمل خارج هذا النطاق ، فهو عبث ومضيعة للوقت ، وتخدير للجماهير ، ما لم يخدم بطريقة ما فقه إنقاذ الأمة ...
5. من وجد في نفسه الكفاءة لهذا الفقه فليتقدم ، ومن لم يجد فليرح الأمة بصمته ، ولا يجوز لمنابر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهون إلى الحد الذي يحق فيه لكل جاهل ومرائي أن يدنسها ، فيعكر مزاجنا، ويضيّع أوقاتنا ، ليرضي بعضاً من غروره وجهله ...!!!
6. ليس كل من وضع عباءة على كتفه صار شيخاً ، وليس كل من لبس عمامة في رأسه صار فقيهاً ، وليس يحق للجهلة أن يتصدوا لمنابر الدعوة ، فلقد قال تعالى بأمره الصريح : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) وأهل العربية يعرفون جيداً أن ( أدعُ ) هو أمر ، والأمر من الله واجب الطاعة ، ومن أبسط معاني الحكمة ، معرفة فروض الأزمنة والأمكنة ، لتضع الشيء المناسب في المكان والزمان المناسب، فمن جهل ذلك فلا يجوز له بأمر الله أن يتصدّر منابر الدعوة ( تحرم عليه الدعوة ، لأن إفساده يكون أكثر من نفعه ) ... ((تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )) !!!؟.
7. أمتنا في أمس الحاجة إلى ( الفقهاء ) من أهل الحكمة ، وليست بحاجة إلى المزيد من ( الخطباء ) الجهلة، الذين يفتقرون إلى أبسط مبادئ الدعوة ، ويسيؤون إلى أهل الذوق من المستمعين بتكسيرهم للقرآن الكريم واللغة العربية والشعر والأدب والبلاغة وأصول الوقف والابتداء والخفض والرفع وعشرات الأصول الأخرى ، أكثر بكثير مما يفيدوا ...
8. لنفترض أن شخصاً ما ساقته الأقدار والظروف الى مواقع المسؤولية والقدوة والقرار والدعوة والإرشاد ، وهو غير مؤهل لهذا الموقع ، أي أنه لا يمتلك القدر الكافي من الصفات والخصائص القيادية والدعويّة ، بشقيها الموروث والمكتسب _ بسبب ظروف استثنائية تمر بها الأمة _ فهل يعفيه جهله هذا من المسؤولية أمام الله والأمة .!؟ الجواب قطعاً لا ... بل عليه أن يبذل كل ما يستطيع من جهد ، للارتقاء بنفسه ، وطاقاته الى المستويات المطلوبة . ولا يعفيه ضعفه هذا ، من المسؤوليات الشرعيّة ، والأدبيّة ، والتاريخيّة ، ما لم يبذل الجهد ، ويستنفد الوسع ، ويمحض النصح ، ويعذر الى الله ...
فإذا ما فعل ذلك ، فإن خطأه ، بعد ذلك لا قبله ، يمكن أن يكون مقبولاً ، وذنبه مغفوراً . أما إذا اكتفى بالقليل وأخلد الى الكسل ، ورضي بالأمر الواقع . ثم قاد الجماعة أو الأمة ، بجهله وتقصيره الى الهزائم والفشل .! فعندها لا مفر من عقاب الله وحساب الأمة ...
وصدق الله القائل : (( ومن يؤت الحكمة ، فقد أوتى خيراً كثيراً ، وما يذكّر إلا أولوا الألباب )) صدق الله العظيم .(/3)
الأيام العشرمشروع لاستدراك العمر
مواقع أخرى*
هي الفرصة تعود من جديد لكل من تدنست صحيفته بعد رمضان.
ها هي الفرصة تعود من جديد لكل من كبا فاسودت صحيفته بعد أن كانت بيضاء.
إنها فرصة للتطهير والغفران، إنها فرصة للتخلص من الذنوب والأوزار... فرصة لعودة الصحف نقية كما كانت.
فالله عز وجل يلاحق الناس بمغفرته ورضوانه؛ فيشرع لهم موجبات الرحمة، وعزائم المغفرة؛ فما أن ينصرم رمضان إلا وتأتي أيام الخير والبركة التي يفضل العمل فيها العمل في شهر رمضان نفسه.
وما أن ينصرم النهار، ويقبل الليل البهيم حتى يلاحق الله الناس بمغفرته قائلا ومتوددا لعباده: "هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه".
ومن أسرف على نفسه ليلا ففاته طلب الرضوان والمغفرة في ساعات السحر؛ فالله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وهكذا يتقلب الإنسان بين الرحمة والمغفرة والرضوان، فخاب وخسر من أعرض عن ذلك كله حتى لقي الله وهو عليه غضبان.
فضل الأيام العشر
وأعظم هذه المواسم الأيام العشر، فقد روى البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله لم يرجع من ذلك بشيء".
وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس سعيد بن جبير، وكان من خبره حين سمعه أنه كان إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر".
إنها دعوة لتدارك العمر كله؛ فالركعة بركعات، والتسبيحة بتسبيحات، والصدقة بصدقات، والقربة بقربات.
إن المسلم إذا كان في المسجد الحرام فإنه يقوم يصلي، فإذا فتر وتعب، وأراد أن يستريح تذكر أن الركعة بمائة ألف ركعة فيقوم متحفزا للصلاة، فيتجافى جنبه عن المضجع، وكلما تعب سلى نفسه بقوله: إن من وراء الموت نوما طويلا، فاصبري، كيف تنامين عن ركعة بمائة ألف ركعة، لئن زهدت في هذا، فوالله لا أراك تنشطين بعدها أبدا، وهكذا يستحث نفسه على السير إلى الله لما فيه خيره وفلاحه.
فإذا كانت الركعة في المسجد الحرام بمائة ألف، وكانت العبادة في هذه الأيام أفضل من العبادة في المسجد الحرام في غير هذه الأيام فبكم عساها تكون الركعة... إنها ركعة بمئات الألوف، وتسبيحة بمئات الألوف... إنه استدراك العمر.
الفوز في السباق!
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله انطلق زوجي غازيا، وكنت أقتدي بصلاته إذا صلى، وبفعله كله، فأخبرني بعمل يبلغني عمله حتى يرجع. قال لها: أتستطيعين أن تقومي ولا تقعدي، وتصومي ولا تفطري، وتذكري الله تعالى ولا تفتري حتى يرجع؟ قالت: ما أطيق هذا يا رسول الله! فقال: "والذي نفسي بيده لو أطقته ما بلغت العشر من عمله" رواه أحمد، وصححه الألباني.
ٍوعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
فالذي يريد أن يدرك فضل المجاهد عليه أن يصوم فلا يفطر، وأن يقوم مصليا فلا يفتر حتى يعود المجاهد، فإن أفطر من الصيام، وإن استراح من الذكر فقد خسر السباق، ومن يستطيع ذلك؟!!.
لكنك اليوم تستطيع أن تفوز في السباق؛ فالعبادات من صلاة وصيام، وذكر واستغفار، وتسبيح وتهليل، وإعانة للمحتاجين، وإغاثة للملهوفين... هذه العبادات في هذه الأيام -وفي هذه الأيام فقط- أثقل في الميزان من الجهاد في سبيل الله.
فإلى كل ثقيل لا يتحرك... إلى كل بطيء لا ينشط... إلى كل مقتصد لا يجتهد... إلى كل من كان يريد فيعجز... إلى كل من أضاع عمره فبنى في الدنيا، وخسر الآخرة أو كاد... ها هي الفرصة لاستدراك العمر!.
----------------------------------------
****بقلم الشيخ حامد العطار نقلا عن موقع اسلام اونلاين(/1)
الأَمْرُّ بِالمَعْرُّوفِ
لفضيلة الشيخ/ الدكتور
ياسر بن حسين برهامي
الدعوة السلفية
Omar_rahal84@hotmail.com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء
{ ياَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (18) سورة الحشر.
...
أما بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد:
فإن الأمة الإسلامية إنما نالت الخيرية بكونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر مع إيمانها بالله عز وجل.
قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران.
وعلق سبحانه الفلاح للمؤمنين إذا كانوا قائمين بهذه المهمة العظيمة فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران
وهذا يدل على أنه لا تفلح الأمة ولا تنجح إذا ضيعت هذا الواجب ، وبين سبحانه أنه من صفات المؤمنين والمؤمنات اللازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة.
ويفهم من هذا أن الإيمان الواجب لا يحصل إلا لمن هذه صفته ، ويفهم منه أيضاً أن الرحمة لا تحصل إلا لمن قام بهذه الأمور جميعاً ، وتدل الآية الكريمة على أن واجب الحسبة والدعوة ليس خاصاً بل هو عام للرجال والنساء كل حسب قدرته وعلمه.
وأخبر سبحانه أن من أسباب لعن الأمم المتقدمة من بني إسرائيل خاصة تركهم هذه الفريضة تحذيراً من الاتصاف بصفتهم أو أن نفعل مثل فعلهم فنستحق مثل جزائهم فقال سبحانه وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون (79) تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}سورة المائدة.
فلما صار المنكر بين المسلمين لا يتناكر ولا يستغرب بل أصبح هو المعروف ، وصار المعروف منكراً عندهم مستغرباً ووالوا أعداء الله الذين كفروا خاصة اليهود والنصارى حل بهم من سخط الله ونقمته مالا يخفى على متأمل من تسلط أعدائهم وإنتهاك حرماتهم وإذلال أممهم وشعوبهم وإصابة الأمة فى مقدساتها كالمسجد الأقصى وغيره نسأل الله تفريج كربات المسلمين.
وعودة المسلمين إلى عزهم و كرامتهم لا يحدث إلا بسلوك السبيل الشرعى الذى سلكه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهو السبيل الذى بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالأمر بأعظم معروف وهو التوحيد والنهي عن أعظم منكر وهو الشرك بالله.
فكان هذا هو الطريق وهذا هو السبيل الذى علينا أن نسلكه إذا أردنا أن يرتفع ما بنا من أنواع الذل والهوان .
وقد جعل الله النجاة في الدنيا والآخرة لمن نهى عن الفساد وفي الأرض قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } (116) - سورة هود .
وقال تعالى في قصة أصحاب السبت: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } (165) سورة الأعراف.(/1)
ولما بدأت الأمة بعد رقدتها وبدأ شبابها يعود إلى العمل بالإسلام والعمل من أجله ، كثر الخوض في مسائل هذا الباب واشتد الخلاف بين أبناء الدعوة في بعض الصور هل هى من الواجب والمشروع أو من المحرم وغير المشروع ؟ .
لهذا كان لا بد من فهم صحيح وعلم نفهم به هذا الأمر من خلال الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ولكون المشاركة فى الدعوة من أهم الواجبات ، بل مما لا يسوغ للمسلم أن يقيم بالبلاد التى فيها المنكرات من غير نية صالحة وعمل صحيح فى مجال الدعوة .
ومع التفرق فى الفهم عن أهل العلم والاختلاف في التطبيق على الواقع ، وقع انقسام بين أبناء الأمة إلى ثلاث طوائف :
الطائفة الأولى :-
تسعى إلى ما تزعم أنه إزالة للفتنة وهم يقعون فى الفتنة كالخوارج ومن سلك سبيلهم .
فمثلاً الذين خرجوا يزعمون أنهم خرجوا يريدون إزالة الفتنة وهم رأس الفتنة الذين حذر منهم النبى - صلى الله عليه وسلم - أمروا ونهوا بطريقة منكرة ، ولم يبتعدوا فى فهمهم عن المنكر فكان أمرهم ونهيهم منكراً .
فقتلوا من لا يستحق القتل ، وسفكوا دماء الأبرياء ، وأخذوا أموالاً بغير حق وكفروا المسلمين والعياذ بالله فكانت فتنة عظيمة .
الطائفة الثانية :-
زعمت أنها تبتعد عن الفتنة بترك الواجب عليها ، فتركت هذا الواجب ، وصاروا كمن قال :
{ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} (49) سورة التوبة.
قال الله عز وجل عن هؤلاء: { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } (49) سورة التوبة.
وذلك لأنهم تركوا الواجب عليهم ، بزعم أنهم يخافون الفتنة ولا يريدونها فكان تركهم لما
يلزمهم هو الفتنة .
الطائفة الثالثة :-
هي التي أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر فكان أمرها موافق لشرع الله ، وإلتزام بما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أجمع عليه أهل العلم .
ووسط هذا كله كان لا بد لنا من علم صحيح وعمل صحيح وممارسة ومشاركة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه مفتاح العلاج إن شاء الله .
فلا يكفي أبداً أن يقف الإنسان موقف المتفرج , ولا حتى المشجع في الدعوة إلى الله .
ولا الناقد الذى ليس له هم إلا النقد ، ليس غرضه النصح والإرشاد والبيان ، ولكن غرضه انتقاص الآخرين وذكر عيوبهم .
ولن يجنى المسلمين الخير إلا بالعلم والعمل وبالدعوة إلى الله فبهذا يتحقق لهم ما وعد الله به من النصر والتمكين .
ولهذا كانت هذه الورقات التى صيغت عباراتها باختصار مع ذكر الدليل من الكتاب والسنة والإجماع.
موضحاً بكلام العلماء وأقيستهم بغير استطراد أو استقصاء ليكون بذلك كالمنهج لإخواننا الأحباء المشاركين في الدعوة لنسير جميعاً على الصراط المستقيم .
نسأل الله أن ينفعنا وإخواننا والمسلمين ، ويغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا إنه هو التواب الرحيم .
مشروعية الأمر بالمعروف
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم قواعد الدين وهو المهمة التي ابتعث الله بها النبيين أجمعين .
قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان ".(1)
وهذا أمر إيجاب بإجماع الإمة
نقل الإجماع على وجوبه الجصاص والغزالى وابن حزم والنووى وغيرهم .
ومقصودهم فى ذلك الوجوب أن الأمر بالمعروف الواجب(2) واجب وأن النهي عن المنكر المحرم واجب , والأمر بالمعروف المستحب(3) مستحب ، والنهي عن المنكر المكروه مستحب .
ـــــــــــــ
(1) رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)كالذي يخطىء في صلاته فلا يقيم صلبه فيما بين الركوع والسجود لأنه ما صلى , لهذا وجب على من رآه أن ينصحه وأن يبين له الخطأ .
(3) كالذى ترك رفع اليدين من الركوع والرفع منه فيستحب أن ينصح ويبين له الخطأ. وهذا يجوز أن يترك نهيه إذا كان يؤدى إلى نفروه وبعده عن طلب العلم بالكلية .
لأن المقصود أصلاً هو فعل الواجب وترك المحرم . وفى المستحب و المكروه يمكن تركه مصلحة أكبر أو كان فى فعله مفسدة أعظم .
هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟
قالت طائفة قليلة من أهل العلم هو فرض عين على كل مسلم وقال جمهور علماء المسلمين أنه فرض كفاية على الأمة(1).
إذا قام به البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط عن الباقين وإلا أثم كل قادر (2) بحسب قدرته من القيام به بنفسه أو المعاونة على القيام به أو أمر القادرين بذلك .
ويلاحظ أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في ظروفنا الحاضرة متعين بالقلب للجميع . وباللسان في كثير من الأحوال وباليد أحياناً بالشروط الشرعية لعموم المنكرات وعدم من يأمر وينهى.
... ـــــــــــــ(/2)
(1) والدليل قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } (104) سورة آل عمران .
وظاهر قوله ((منكم)) أنها للتبعيض . وعلى قول من يجعلها زائدة أى بمعنى ((لتكونوا)) فإن ذلك متحقق بوجود الطائفة التى تأمر و تنهى فهو كالجهاد.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة.
(2) هذا هو الحكم فى سائر فروض الكفاية و هو أنه إذا لم يقم بها البعض أثم كل قادر .
و إطلاق البعض من أهل العلم الأثم على الجميع مراعاة الغالب فإن أحداً لا ينفك غالباً عن نوع من القدرة إما بنفسه أو بالتعاون مع غيره , أو أمر القادرين.
وإلا فلو فعل إنسان كل ما يقدر عليه لم يؤاخذ بما تركه الآخرون { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } (286) سورة البقرة.
متى يصبح فرض الكفاية فرض عين ؟
وقد يصبح فرض الكفاية فرض عين فى بعض الأحوال :
(1) كالقادر الذى لم يقم به غيره لعجز أو تقصير (1) كمن كان فى موضع يطمس فيه المعروف أو يرتكب فيه المنكر لا يعلم به إلا واحد (2) ، أو احتاج إلى جدال لمناقشة ولا يصلح لذلك إلا واحد .
(2) وكذا من تعينه الدولة الإسلامية لذلك .
****
ــــــــــــــ
(1) المقصود أن غيره لم يقم به لكونه عاجزاً أو كان الغير مقصراً أيضاً مع قدرته فيأثمان جميعاً لكون فرض الكفاية قد صار فرض عين على كل منهما.
(2) إما لا يعلم بوجوده إلا هو : كصاحب المنزل ، والزوج مع زوجته ، والأب مع أولاده و نحوه .
أو لا يعلم بكونه منكراً إلا هو كمن يعلم حرمة المعازف مثلاً وسط مجموعة من الناس لا يعلمون بذلك لجهلهم بالحديث وكلام أهل العلم.
تغيير المنكر بالقلب
والتغيير بالقلب واجب على كل إنسان ، وذلك لأنه متعين فى كل حال يوجد فيه المنكر .
وهذا فرض كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي أرسله الله قبلى إلا كان له حواريون يهتدون بهديه ، و يستنون بسنته ، ثم أنه تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون مالا يفعلون ، و يفعلون مالا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " رواه مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه .
ونفى الإيمان فى الحديث على معنيين :
الأول : أنه فى المستحل فيكون نفي الإيمان عنه بالكلية مستلزماً لكفره فمن جحد المعلوم من الدين بالضرورة أو رأى أنه لا يلزمه فعل الواجب ولا ترك المحرم فإنه كافراً باتفاق أهل العلم .
الثانى : أنه المقصود فى هذا الحديث من رضي بالمنكر وفرح به وأقره وإن لم يستحله . وهذا لا يكفر كفراً ناقلاً عن الملة .
ومعنى: " ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" :
أي فى عمله ذلك أي من غير المنكر بقلبه وهو قادر على أن يغيره بلسانه أو بيده فقد قصر وأثم ولكن فعله هذا وهو التغيير بالقلب بكراهية المنكر وبغضه له وتمنى زواله فيه شيء من الإيمان , أما من لم يكره المنكر بل رضي بوجوده وفرح بنيل شهوته وهواه من خلاله ليس فى هذا الفعل شيء من الإيمان ولا يلزم أن لا يكون فى قلبه شيء من الإيمان فى أمور أخرى كتصديق الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والالتزام إجمالاً بالشرع وإن كان الالتزام التفصيلى غير موجود فى هذه المعصية .
فمن ترك الواجب عليه من التغيير و لو بالقلب فهذا قد يكون معه إيمان مجمل ، وليس معه الإيمان الكامل الواجب .
معنى المعروف وصوره
المعروف: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات .
صوره
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله :
(( ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراءها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله مثل شرائع الإسلام وهى الصلوات الخمس فى مواقيتها ، وكذلك الصدقات المفروضة والصوم المشروع وحج البيت الحرام .
ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره .
ومثل الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك . ومثل ما أمر الله به ورسله من الامور الباطنة والظاهرة ، مثل: إخلاص الدين لله والتوكل على الله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه والصبر لحكم الله والتسليم لأمر الله .(/3)
ومثل صدق الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانات إلى أهلها ، وبر الوالدين وصلة الأرحام والتعاون على البر والتقوى والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك .
والعدل فى المقال والفعال ثم الندب إلى مكارم الأخلاق مثل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك .
ومن الأمر بالمعروف كذلك الأمر بالائتلاف والاجتماع ، والنهي عن الفرقة والاختلاف وغير ذلك .
المنكر
معناه : هو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه .
صوره
قال شيخ الإسلام بن تيمية :
" المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ، أعظمه الشرك بالله وهو أن يدعو مع الله إلهاً آخر كالشمس والقمر والكواكب أو كملك من الملائكة أو نبياً من الأنبياء أو رجل من الصالحين أو أحد من الجن أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم أو غير ذلك مما يدعى من دون الله أو يستغاث به أو يسجد له فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله ، ومن المنكر كل ما حرمه الله كقتل النفس بغير حق وأكل أموال الناس بالباطل بالغصب أو الربا أو الميسر والبيوع والمعاملات التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
كذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وتطفيف الكيل والميزان والإثم والبغي بغير الحق .
وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم - "( الفتاوي28/126) .
فيتضح لك من هذا الكلام النفيس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل الدعوة إلى الإيمان والإسلام ومحاربة الكفر والشرك والبدع والمعاصي كما يشمل الجهاد في سبيل الله وهو من أعظم المعروف الذي أمرنا به ويشمل إصلاح الأمة وتربيتها وتبليغ الشرع وتأليف الكتب الشرعية ونصيحة الإخوان ، وأن يبذل كل جهد مستطاع لنشر الدين و نصره وتمكينه ، وليست الحسبة محصورة في صورة معينة كتكسير أماكن الفساد أو تحريقها ومن لم يفعل ذلك فهو مضيع هذه الفريضة كما يظنه البعض بل هذه الأمور ، عند توافر شروطها كما سيأتي هي بعض صور هذه الفريضة ولا ينفي عداها فضلاً عن تحقيره والاستهانة به (( ورأس المعروف توحيد الله ورأس المنكر الشرك بالله)) وإنما يعرف المعروف والمنكر بأدلة الشرع سواء جرت به عادة الناس أم لا لأن إعطاء هذا الوصف هو حكم شرعي والحكم لله وحده ولا عبرة بعرف الناس إذا خالف الشرع وإنما العرف المعتبر هو ما لا يخالف النصوص ـ وقد تغير عرف الناس حتى أنكروا المعروف وأقروا المنكر وعرفوه فكيف يكون ميزاناً لمعرفة الحق .
شروط المحتسب
1- الإسلام :
فالإسلام شرط للمخاطبة به في الدنيا وكذا في صحته وقبوله عند الله .
ولكن لو أن كافراً رأى مسلماً يزني فنهاه عن لك لوجب على المسلم قبول ذلك لحق الله تعالى .
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: لأبي هريرة رضي الله عنه (1) عندما نصحه الشيطان قال له- صلى الله عليه وسلم -: " صدقك وهو كذوب "
وذلك لأن الحق يقبل من كل قائل به ولو كان أكفر الكفار ، وليس هذا استجابة لأمر الله تعالى .
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في صلح الحديبية عن المشركين " والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها " (2) .
فهذه طاعة لأمر الله لا لأمر الكافر ولا متابعة لهم ولكنه انقياد للحق الواجب .
ولكن لا يجوز تولية الكافر ولاية الحسبة ولا الشرطة ولا نحوها مما فيه سلطة على مسلم .
قال تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (141) سورة النساء ،
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ارجع فلن أستعين بمشرك " (3)
وهذا مجمع عليه .
ــــــــــــــ
(1) رواه البخارى فى صحيحه عن أبو هريرة رضى الله عنه .
(2) رواه البخارى فى صحيحه ضمن حديث طويل عن المسرور بن مخرمة رضى الله عنه .
(3) رواه مسلم فى صحيحه من حديث عائشة رضى الله عنها .
2-التكليف :
وهو شرط وجوب: فالاحتساب واجب على العقلاء البالغين وليس معنى ذلك أن يمنع من كان من أهل القرية كالصبي المميز من القيام بالأمر والنهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع "(1) .
بل ينبغى تربية الأبناء على ذلك . قال تعالى فى وصية لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان.
مثال ذلك :- أن يقال للصبي ذي السبع سنين أن يأمر زملائه بالصلاة وينهاهم عن السب والبذاء مثلاً .
وينبغى أن يكون ذلك فى الأمور المعلومة المشهورة لدى الجميع ، لئلا يحتاج الأمر إلى فقه وضوابط معينة فيقع الصبي في خلافها ويكون تحت إشراف من يراقبه ليعلم إنضباطه في هذا الباب وبهذا يتربى الأبناء على القيام بهذا الأمر .
ــــــــــ(/4)
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وصححه الشيخ/ الألباني في صحيح الجامع برقم 5868 .
هل تشترط العدالة في المحتسب ؟
العدالة: هي هيئة كامنة في النفس توجب على الإنسان اجتناب الكبائر والصغائر من الذنوب والمعاصي ، والتعفف عن بعض الأمور المباحة التي ليس على فعلها ثواب ولا عقاب مما قد يخالف حسن الخلق وجميل العادة .
والعدالة لا تشترط في المحتسب على الراجح من أقوال العلماء إذ أن الإحتساب فرض كسائر الفروض لا يتوقف القيام به على أكثر مما يتطلبه هذا الفرض وترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها .
قال بعض أهل العلم (( فرض على شاربي الكئوس أن يتناهو فيما بينهم )).
وأما قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } (44) سورة البقرة.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) سورة الصف.
فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم به .
وقد يكون في ترك الحسبة من مرتكب المنكر إقراراً به وتلبيساً على العوام _ مثل عالم يعلم حرمة التدخين _ لا ينكر هذا المنكر لكونه يدخن فيحتج العوام بفعله على جواز التدخين . وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق أقتابه (أى أمعاؤه) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بامعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه"(1) متفق عليه .
ــــــــــ
(1) رواه البخارى و مسلم من حيث أسامة بن زيد رضي الله عنه .
فتعذييه لأمرين: فعله المنكر وتدليسه على الناس أنه من أهل التقوى والصلاح .
ومن علم أن قوله لا يقبل لعلم الناس بفسقه ففي سقوط الوجوب عليه بذلك وجه وهذا في القول فقط وأما الحسبة بالقوة من قبل المعين لذلك من قبل الإمام فلا يشترط فيها ذلك .
ولا شك أن العدالة من آداب الحسبة وأسباب نجاح الدعوة ولكن لا تشترط العصمة بالإجماع في الاحتساب .
****
هل يشترط تولية الإمام أو إذنه ؟
عدم اشتراط الولاية أو إذن الإمام هو مذهب جماهير العلماء لعموم الأدلة وعدم المخصص ثم إجماع المسلمين في الصدر الأول .
أما عموم الأدلة فلأن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة الإسلامية كأمة بهذا الواجب فقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ } (104) سورة آل عمران.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً أمته: " من رأى منكم منكراً فليغيره "
وكذا يغيير المنكر وجهاد من خالف سنته .
قال - صلى الله عليه وسلم -: " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ".
فكيف يكون الأذن مشترطاً في مجاهدتهم ؟
وإن كان لا يلزم من جاهدهم الخروج عليهم فإن ذلك معلوم من سنته عليه الصلاة والسلام ، فإن - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخروج على من لم يظهر الكفر البواح (1) منهم من أجل المفاسد في ذلك .
ولكن كما قال أهل العلم يغير منكراتهم كإراقة خمورهم ومنعهم من الظلم لمن قدر على ذلك ويزيله إن أمكنه ذلك وذلك في إطار مراعاة المصالح والمفاسد )) (2).
فإذا كان سيترب على الأمر مفسده أعظم لم يدفع فساد بأفسد منه .
وأما الإجماع فقد نقله إمام الحرمين فقال في عدم اشتراط الولاية أو إذن الإمام: (( والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول ، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية )) أ.ه .
ــــــــــــــ
(1) رواه البخارى ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ولفظه ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )) . (2) سيأتى فصل المصالح والمفاسد .
ومما يدل على أن هذا هو فهم السلف قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث : "من رأى منكم منكراً فليغيره " إنما كان في التغيير على مروان بن الحكم حينما بدأ بالخطبة قبل صلاة العيد .
فحاول أبو سعيد منعه من الخروج للخطبة قبل الصلاة في العيد ، فلم يستجب فقام رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة .
فقال مروان: قد ترك ما هنا لك .
فقال أبو سعيد: أما هذا ( يقصد الرجل ) فقد أدى ما عليه .
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره "(1) وذكر الحديث .
وفي بعض الروايات أن أبا سعيد حاول منع مروان من الخطبة قبل الصلاة فلم يمكنه .
فدل ذلك على تغيير منكرات الأئمة أنفسهم .
وإنما يشترط استئذان الإمام المسلم إذا كانت الحسبة تؤدي إلى فتنة أو قتال فيلزم الإذن لرفع الضرر لا لمجرد الإذن .
3- العلم :(/5)
ويشترط العلم في القائم بالحسبة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
قال النووي: إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهي عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام فيه مدخل ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء .
ــــــــــــ
(1) راجع الحديث والقصة في صحيح مسلم .
العلم المشترط في الحسبة يشمل :-
1- العلم بخطاب الشارع: أي بأن الشرع أمر بكذا أو نهى عن كذا -والتمكين من هذا العلم شرط في التكليف بالحسبة وغيرها .
2- ويشمل العلم بالواقع لكي لا ينكر ما ليس بمنكر – فمثلاً العلم بتحريم الشرع للخمر شرط في الاحتساب على شاربها – والعلم بأن ما في هذه الكأس خمر شرط في قيام المحتسب بالحسبة .
سؤال : هل يجوز لغير العالم أن يأمر وينهى بناء على فتوى عالم ؟
الجواب :
أولاً: كل المسلمين علماء بالمحرمات المشهورة والواجبات الظاهرة كما بينه الإمام النووي .
ثانياً : مالم ينتشر العلم به بين المسلمين فالناس فيه على ثلاثة أقسام : 1- العالم المجتهد: الذي حصل مرتبة الاجتهاد وهذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمقتضى علمه بالشرع وبما يشرع فيه الإنكار .
2_ طالب العلم المميز: الذي يستطيع التمييز بين أقوال العلماء وله نظر فى معرفة الأدلة وطرق الاستدلال لكنه لم يحصل مرتبة الاجتهاد – فهذا له الترجيح بين أقوال العلماء وعليه اتباع ما ظهر له فيها الدليل الشرعي وإذا جمع أدلة مسألة مع علمه بطرق الاستدلال والترجيح فهو بها عالم وما لم يجمع أدلته أو عجز عنه من المسائل فهو ملحق فيه بالعوام .
3- العوام: وهؤلاء عليهم سؤال علمائهم والأخذ بما يفتونهم به ، وإذا اختلف على العامي فتاوي العلماء اتبع أوثقهم في نفسه كالأعمى إذا خفيت عليه القبلة واختلفوا عليه قلد أوثقهم وأصدقهم في نفسه ، فهذا النوع لا ينكر إلا إذا أفتاه العالم أن هذه المسألة متفق عليها أو أن المخالف فيها مخالف لنص أو إجماع أو قياس جلى ولذا فلا يسوغ خلافه ، وإن لم يفته العالم بذلك بل قال له فقط هذا الشيء منكر وهو لا يدري هل هو متفق عليه أو مختلف فيه ونحو ذلك لم يجز له الإنكار ولكن ينصح وينقل ما سمعه من العالم للخروج من الخلاف .
4- القدرة: وذلك لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (16) سورة التغابن ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .
وهذا يدل على أن شرط القدرة إنما هو في تغيير المنكر باليد واللسان .
أما الإنكار بالقلب فيجب أن يكون كاملاً ودائماً وهو متعين إذا هو مستطاع لكل أحد .
ومن معنى حصول القدرة: غلبة الظن بالسلامة من الأذى والمكروه لنفسه وغيره من المسلمين .
قال الغزالي: (( لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسى (2) ، بل يلحق به ما يخاف عليه من مكروه يناله فذلك فى معنى العجز )) (3) .
ويلاحظ هنا أن العجز الحسى يسقط التكليف بالكلية وهو مثل الإكراه الملجئ مثل امرأة قيدت واغتصبت قهراً فهذه لم يقع منها فعل ولا يوصف ما وقع لها في حقها بإباحة ولا كراهة لأن العجز هنا عجز حسى كامل.
أما العجز المعنوي فإنه لا يسقط التكليف بالكلية ولكنه يسقط الوجوب في الواجب ويصبح مستحباً أو مباح الترك وقد يوصف بالتحريم إذا كان فيه ضرر متعدٍ لغيره إذا كان يترتب عليه منكراً أعظم وكذا يسقط التحريم في المحرم ويصبح مكروهاً أو مباح الفعل .
ــــــــــــ
(1) رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه .
(2)العجز الحسي: كالأخرس مثلاً لا يجب عليه التغيير بالسان لعجزه ، وكالمشلول اليد لا يجب عليه التغيير باليد ، ولا يوصف الأمر فى حق العاجز بالاستحباب أو بالإباحة أو غيرها من أحكام التكليف لأنه خارج عن التكليف .
(3) العجز المعنوي: وهو أن يصيب الإنسان أذى معتبر فى الإكراه يزول عنه الحكم من الوجوب أو التحريم .
وهو مثل الإكراه غير الملجئ الذي يظل المكره معه له نوع قدرة وإرادة ، ولكن مع مشقة عظيمة وعسر كبير لوجود الأذى المعتبر فى الإكراه .
لما كانت الشريعة الإسلامية قد جاءت برفع الحرج أباح الله للأمة عند حصول هذا النوع من الإكراه ترك الواجب وفعل المحرم ولو كان كفراً عند وجود الإكراه المعتبر بشروطه .
قال تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} (106) سورة النحل.(/6)
وقال تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (33) سورة النور . والآيتان الإكراه فيهما من النوع الثاني ، أي الذي يبقي معه التكليف فإن نطق اللسان لا يتصور فيه الإكراه الملجىء.
وسبب النزول في الآيتين يوضح أنه في الإكراه غير الملجئ فإن البغاء لا يتصور فيه إلا المطاوعة .
ولما كان التعذيب اللاحق على الرفض عظيماً سقط إثم الزنا وحَدُّه .
****
الإكراه
قال النووي في (( روضة الطالبين ))(1): "وأعلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع " وكذا قال ابن مفلح واطلق القاضي وغيره سقوط الأمر بالمعروف بخوف الضرب والحبس .
واسقطه أيضاً بأخذ المال اليسير ...
قال الإمام أحمد رحمه الله: ((من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف ))(2) قال ابن دقيق العيد (3): " وفي الحديث دليل على أن من خاف القتل أو الضرب سقط عنه التغيير وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك " .
قال القرطبي (4): قال ابن عطية: (( والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض على من أطاقه وأمن القدر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه .
وقال النووي(5): قال ابن بطال: (( النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل قوله وأمن على نفسه المكروه فإن خشى أذى فهو في سعة )) .
وقال ابن رجب: (( ومن هذا من خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفى أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم )) .
وأدلة أهل العلم الذين سبق كلامهم هي أدلة اعتبار الإكراه قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (106) سورة النحل.
ــــــــــــــ
(1) ج 10 ص 231 . (2) الآداب 1/355 .
(3) فتح المبين / 90 . (4) القرطبى /225 . (5) مسلم شرح النووى 1/54 .
وفي حديث عمار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن عادوا فعد " (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2) [حديث حسن ] وقال عمر: (( ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب )) وعنه: (( أربع كلهن كره السجن والضرب والوعيد والقيد )) راجعه تفسير القرطبي .
قال ابن حجر الهيثمي في الرد على من قال يجب الإنكار على كل حال (( وإن قتل المنكر ونيل منه أنه غلو مخالف لظاهر الحديث إلى أن قال ولا حجة لهم فى خبر: (( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول الله تعالى: " ما منعك إذا رأيت كذا وكذا أن تنكره فيقول رب خشيت الناس فيقول الله تعالى إياى كنت أحق أن تخشى".(3)
لأن المراد بالخشية فيه مجرد رعايتهم مع القدرة إذ لو وجب الإنكار مطلقاً لم يتأت قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( فإن لم يستطع )) وإذا جاز التلفظ بالكفر عند الخوف والإكراه كما في الآية فليجز ترك الإنكار بالأولى لأن الترك دون الفعل في القبح .
قال ابن رجب: (( قال ابن شبرمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد و يجب على الواحد أن يصابر فى الإثنين ويحرم عليه الفرار منهما ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك فإن خاف السب أو سماع الكلام السيء لم يسقط عنه الإنكار _ نص عليه أحمد – وإن احتمل فهو أفضل )) أ.ه .
ـــــــــــــ
(1) حديث عمار رواه أبو نعيم في الحلية[ ج1 ص 140 ] وابن سعد في طبقاته [ج3ص178] و ابن جرير في تفسيره [ج14ص182] كلهم عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر.
(2) رواه البيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجاحع برقم 7110 وفي إرواء الغليل برقم 82 .
(3) رواه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1818 وفي السلسلة برقم 929 .
فإن قال قائل: المنكر الحاصل أمر مقطوع به والأذى أمر مظنون فكيف نترك المقطوع به للمظنون ؟
قيل له: المقصود بالخوف المعتبر غلبة الظن بحصوله ولا عبرة بالشك والتوهم وإمكان حصول الأذى ولو صح تطبيق هذا الكلام لا نسد باب الإكراه أصلاً إذ مبناه على غلبة الظن فالتهديد بالقتل والسجن والتعذيب كل ذلك مما أجمع العلماء على اعتباره في الإكراه في الجملة وهو من أمور المستقبل وليس قطعياً بالمعنى الاصطلاحي ولكن الشرع وضع غلبة الظن محل العلم وجريان العادة في الواقع المشهود والتجربة كاف في حصول غلبة الظن ولذا فينطبق على هذه مسألة - خوف الضرر- شروط الإكراه المعتبر كما ذكرها ابن حجر رحمه الله في الفتح .
الأول: أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.(/7)