قال : وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته ( اللهم إياك نعبد , ولك نصلي ونسجد , وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا , ونخاف عذابك الجد إن عذابك لمن عاديت ملحق ) ثم يكبر ويهوي ساجداً .
ما يقول في آخر الوتر :
ومن السنة أن يقول في آخر وتره ( قبل السلام أو بعده ) :
" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك , وأعوذ بك منك , لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
وإذا سلم من الوتر قال : سبحان الملك القدوس , سبحان الملك القدوس , سبحان الملك القدوس , ( ثلاثاً ) ويمد بها صوته, ويرفع في الثالثة .
ولمن أوتر أن يصلي بعد الوتر ركعتين ( بعد الوتر إن شاء ) , لثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً بل .. قال : " إن هذا السفر جهد وثقل , فإذا أوتر أحدكم , فليركع ركعتين , فإن استيقظ وإلا كانت له " وهاتان ركعتا الفجر في الغالب يصليهما إذا أذن لصلاة الصبح . والسنة أن يقرأ فيهما : ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) و ( قل يا أيها الكافرون ) والله أعلم .
مسح الوجه بعد دعاء القنوت :
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت أمر مشهور بين عامة الناس ولكن هذا الأمر مع شهرته وانتشاره وعمل كثير من الناس به لا يصح سند له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح رضي الله عنهم وإن قال به بعض الفقهاء .
قال الإمام النووي رحمه الله عند حديثة عن هذه المسألة أن فيها وجهين :
الأول : أنه يستحب وذكر جماعة من الفقهاء الذين قالوا بذلك ثم قال النووي :
الثاني : لا يسمح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين . المجموع 3/ 501 .
ثم ذكر كلام البيهقي التالي , وأنقله من سننه رحمه الله حيث قال : " فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم بالدعاء خارج الصلاة , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة.
وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس , فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق " السنن الكبرى 2/212 .
وجزا الله أئمتنا وعلماء نا خيراً فإنهم وقافون عند موارد النصوص فإن الخير كل الخير في الإتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع .
وأما الحديث الذي أشار إليه البيهقي فهو ما رواه أبو داود في سننه بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم ) قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضاً . عون المعبود 4/251.
وقد علق الشيخ الألباني رحمه الله على هذه الرواية " فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم " فقال : .. وعلى ذلك فهذه الزيادة منكرة ولم أجد لها حتى الآن شاهدا .. " ثم قال لا يصلح شاهداً للزيادة حديث ابن عمر مرفوعاً ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطها حتى يمسح بها وجهه ) لأن في سنده متهماً بالوضع – أي الكذب – وقال أبو زرعة : حديث منكر أخاف أن لا يكون له أصل . السلسلة الصحيحة 3/146 .
ورواه البيهقي بسنده عن علي الباشاني قال : سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه , قال : لم أجد له ثبتاً ، أي مستنداً .
وورد عن العز بن عبد السلام سلطان العلماء أنه قال " لا يمسح وجهه إلا جاهل " وبمناسبة الحديث عن دعاء القنوت أذكر بعض الأمور منها :
أولا ً: ما نراه من بعض المصلين من المبالغة برفع أيديهم فوق رؤوسهم وأرى أن هذا الأمر فيه مبالغة واضحة وأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين عند الدعاء تدل على مد اليدين وبسطهما ولا تدل على هذا الرفع المبالغ فيه .
قال الحافظ بن حجر عند كلامه على حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه , قال الحافظ : وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء .. إلى أن قال : وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله " حتى يرى بياض إبطيه " ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعها إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه "
فتح الباري 3/171.
لذلك فإني أرى ما يفعله بعض الناس من المبالغة الشديدة في رفع اليدين وجعلهما فوق الرأس لا أصل له وينبغي للمسلم تركه ورفع اليدين في الطلب رفعاً دون غلو وتنطع .(/8)
والأمر الثاني الذي أود التنبيه عليه وأذكر به إخواننا أئمة المساجد وهو التطويل في دعاء القنوت وغيره من الأدعية والأذكار والأفضل هو الاقتصار على الأدعية والأذكار الجامعة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زاد على ذلك فلا بأس به بشرط أن لا يكون الدعاء متكلفاً أو متضمناً مخالفة شرعية كالاعتداء والتكلف في السجع والتفصيل في الشرح والوصف .
قال الإمام النووي عند ذكره لآداب الدعاء " الخامس : أن لا يتكلف السجع وقد فسر به الاعتداء في الدعاء والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة فما كل أحد يحسن الدعاء فيخاف عليه الاعتداء " الأذكار ص342 .
وبعض أئمة المساجد من أجل أن يحافظ على السجع يأتي بأمور غير مقبولة في الدعاء كقول بعضهم مثلاً : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وفاكهتها وألبانها وعسلها وحورها وأسألك أن تسكنني في القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة وكقولهم في الاستعاذة من عذاب القبر وضيق اللحود ومراتع الدود وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت التراب والجنادل وحدنا فلو قال المسلم ما ورد في السنة وأعذنا من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات فقد شمل كل ذلك التفصيل والوصف الذي لا داعي له في الدعاء وقد يستحب ذكر ذلك في الوعظ والقصص لا في الدعاء .
والأفضل إتمام صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف ولو زاد على إحدى عشرة ركعة لأن الزيادة جائزة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :"من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليله.." رواه النسائي وغيره , ولقوله صلى الله عليه وسلم :"صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة " رواه السبعة وهذا لفظ النسائي .
ـ إذا زاد ركعة على وتر الإمام ليكمل بعد ذلك :
بعض الناس إذا صلى مع الإمام الوتر وسلم الإمام قام وأتى بركعة ليكون وتره أخر الليل فما حكم هذا العمل ؟ وهل يعتبر انصراف مع الإمام ؟
سئل عن هذا شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله فأجاب بقوله :
لا نعلم في هذا بأساً نص عليه العلماء ولا حرج فيه حتى يكون وتره في آخر الليل . ويصدق عليه أنه قام مع الإمام حتى ينصرف لأنه قام معه حتى انصراف الإمام وزاد ركعة لمصلحة شرعية . حتى يكون وتره آخر الليل فلا بأس بهذا ولا يخرج به عن كونه ما قام مع الإمام بل هو قام مع الإمام حتى انصرف لكنه لم ينصرف معه بل تأخر قليلاً . من كتاب الجواب الصحيح من أحكام صلاة الليل والتراويح للشيخ عبد العزيز بن باز ص41. وهذا هو الحق الذي فيه سعة وموافقة للشريعة والله اعلم .
3-أعمال يجب أن تستغلها في رمضان :
1-قيام رمضان قال صلى الله عليه وسلم " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه ويكون ذلك بقيام الليل بصلاة التراويح مع المسلمين في الجماعة وقراءة القران والذكر والدعاء والاستغفار .
2-كثرة الصدقة والإنفاق :
فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس , وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القران . وكان جبريل يلقاه كل ليله فيدارسه القران فالرسول صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.متفق عليه.
3-تفطير الصائمين :
فقد قال صلى الله عليه وسلم ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) رواه احمد وهو حديث صحيح .
4-الإكثار من قراءة القران وتلاوته ومدارسته مع الغير :
فقد قال صلى الله عليه وسلم (الصيام والقران يشفعان للعبد يوم القيامة , يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه . ويقول القران : منعته النوم بالليل فشفعني فيه , قال فيشفعان ) .رواه احمد بسند صحيح. وتقدم أن الرسول –صلى الله عليه وسلم – كان يدارس جبريل القران.
5- تحري ليلة القدر لما فيها من الأجر الكبير والخير العميم والفضل العظيم للمسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه . وقال صلى الله عليه وسلم ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
6-الاعتمار في رمضان لمن قدر على ذلك :
لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( عمره في رمضان تعدل حجة – أو قال حجة معي ) متفق عليه .
7-الاعتكاف وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم : في رمضان :
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم : يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله . وفي لفظ للبخاري ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام , فلما كان العام الذي قبض فيه أعتكف عشرين يوماً ) .
8- الإكثار من ذكر الله تعالى واستغفاره ودعائه :
قال صلى الله عليه وسلم ( ... إن لكل مسلم في كل يوم وليله –يعني في رمضان- دعوة مستجابة) رواه البزار وهو حديث صحيح ... وقال ( ثلاث دعوات مستجابات : دعوة الصائم , ودعوة المظلوم , ودعوة المسافر )رواة البيهقي بسند صحيح .(/9)
-الإكثار من العبادة والمبادرة إليها وخاصة الحرص على أداء الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين في بيوت الله , والمحافظة على السنن والرواتب , فقد قال صلى الله عليه وسلم ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة , فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم تؤت كبيرة , وذلك الدهر كله .
التسامح والإعراض عن الجاهلين لأنه المقصود من الصيام في تعلم الصبر والعفو والمسامحة والإحسان لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ... وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب , فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم ) . متفق عليه وقال ( ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه ) رواة البخاري.
مناقشة لمن منع الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة قيام رمضان
-أخطاء يقع بها الناس في قيام رمضان
-التراويح في الحرمين الشريفين عبر التاريخ
-وقفات رمضانية
مناقشة لمن منع الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة قيام رمضان
يذهب المانعون لزيادة التراويح على إحدى عشرة ركعة إلى الاستدلال على ما ذهبوا إليه في المنع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عاش عشرين سنة وهو لا يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة (2) وهو حديث عائشة المشار إليه فيما تقدم ومن الخطأ الكبير جزمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على ذلك وقد وصل بهم المكابرة والتحكم أنهم إذا صلوا بالحرم أو غيره من مساجد المسلمين مع الإمام وسلم من التسليمة الرابعة جلسوا ينتظرونه حتى يصلي الوتر أو ينصرفون زاعمين أن الزيادة لا دليل عليها مع أنا قد قدمنا ما يهدم هذا المذهب من قواعده من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة من الزيادة أحياناً ومن النقص أحياناً وقوله لمن سأله عن صلاة الليل فقال له صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت طلوع الفجر فأوتر ولو كانت الزيادة أو النقصان لا تجوز أو مخالفه لهدية لقال للسائل صل ثمان ركعات مثنى مثنى ثم أوتر بثلاث لأن هذا من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وكان يجب عليه أن يبين للسائل ذلك لأنه قد علم أن السكوت عن البيان عند الحاجة لا يجوز , والذي يتتبع أحوال السلف وفقهاء الأمصار لا يجد أحداً من السلف والخلف منع الزيادة في قيام رمضان على إحدى عشرة ركعة , بل الذي شاع بين المسلمين الخلاف في الزيادة والنقصان وأيهما أفضل والجمهور يصلون ثلاثا وعشرين ركعة وهو الذي استقر عليه العمل في الحجاز والحرمين الشريفين واليمن وغيرها من أقطار الإسلام كمصر والشام والعراق إلى يوم الناس هذا في العشر الأول من رمضان ويزاد عشر ركعات في العشر الأواخر ,ويكفي في الرد على هذا الرأي حديث البخاري (3) :" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما صلى " وأما من قصره على إحدى عشرة ركعة محتجاً بحديث عائشة :" ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة " رواه البخاري (4) فليس فيه حجه له لأن كلام عائشة هذا يحمل على ما رأته وحفظته أو على غالب أمره صلى الله عليه وسلم لأنه صح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" لا توتروا بثلاث تشبهوا المغرب , ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك "رواه ابن حبان وابن المنذر والحاكم والبيهقي من طريق عراك عن أبي هريرة (5) وقد جاء من حديث عائشة – رضي الله عنها – ما يدل على الزيادة كما تقدم .
ومما يرده ما شاع وتواتر في عصر السلف أن أهل المدينة كانوا يقومون بست وثلاثين وكان أهل مكة يقومون بثلاث وعشرين وكانوا يطوفون بين كل أربع ركعات فأراد أهل المدينة أن يعوضوا عن الطواف الذي زاده أهل مكة أربع ركعات ولم ينكر عليهم ذلك بتحريم شيء مما فعله الفريقان , وعملهم هذا مستنده الحديث الصحيح " صلاة الليل مثنى، مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما صلى " (6).
ومما يرد هذا الكلام ما رواه الخلعي من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الليل ست عشرة ركعة قال الحافظ العراقي " إسناده جيد .(/10)
ويرد عليه أيضاً ما رواه البخاري (7) من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "صلاة الليل مثنى، مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بركعة " فإن فيه دليلاً صريحاً على جواز قيام رمضان بأقل من إحدى عشرة ركعة وبأكثر منها بلا تحديد وذلك حجة لما قاله الشافعي " لا حد لعدد ركعات قيام رمضان وما كان أطول قياماً أحب إلي " نقل ذلك عنه الحافظ أبو زرعة العراقي في شرح التثريب (8) ونقله غيره عنه وقد أحدث هذا الفريق بلبلة بين المسلمين بنفيهم جواز قيام رمضان إلا بإحدى عشرة ركعة في كثير من بلاد المسلمين في عصرنا . وهو عمل فيه افتيات على أهل الحديث الذين رووا بسند صحيح : " إن عمر جمع الناس على قيام رمضان فكانوا يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة " (9) فقالوا : إن هذه الرواية ضعيفة والصحيحة رواية إحدى عشرة , فشذوا بذلك وخالفوا قاعدة المحدثين أن التصحيح والتضعيف للحفاظ فقط , وهذه القاعدة من لم يعرفها قد فصلها السيوطي في تدريب الراوي كما فصلها غيره وفي شرح السيوطي : "أن الصحيح يعرف بتصحيح حافظ من الحفاظ أو بوجوده في كتاب التزم مؤلفه الحافظ الاقتصار على الصحيح وسلم له الحفاظ والمحدثون بذالك .
وهذه الرواية لم يطعن في صحتها حافظ بل رجح الحافظ ابن عبد البر رواية " ثلاث وعشرين" على رواية " إحدى عشرة " بل اعتبرها وهماً, وابن عبد البر معدود في الحفاظ, فليس تضعيف غيره بأولى منها رواية ثلاث وعشرين.
فمن عرف هذه الحقيقة عرف أنه لا عمدة ولا اعتماد على هذا القول ولا ينظر إلى من قصر السنة عليه وترك غيره.
بل الصواب ما ذهب إليه الأئمة المجتهدون من علماء الإسلام كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره مما قدمناه من نقل عنهم وهو ما ذهب إليه مشايخنا الذين يعتمد عليهم كالإمام ابن باز والإمام ابن عثيمين ومشايخنا رحم الله من مات منهم ونفع المسلمين بمن بقي منهم . وعلى من تبنى ذلك ودافع عنه ودعا إليه وبدع وأنكر من اختار غيره عليهم أن يتقوا الله وعليهم أن يلموا بقول أهل الحديث : في التصحيح والتضعيف وأنه من خصائص الحفاظ والباحثين والمختصين , وهذا نشأ من قصورهم عن فهم علم الحديث درايةً كما ينبغي , لأن شرط الصحيح والحسن السلامة من الشذوذ والعلة , ومعرفة ذلك استقلالاً لا يقوم به إلا الحافظ لأن مبنى ذلك على تتبع الطرق .
فائدة : شاع في بعض كتب أهل العلم أن التراويح لا تصح إلا ركعتين، ركعتين إلى ثلاث وعشرين لا يجوز حمل هذا الكلام على مطلق قيام رمضان لأن اسم صلاة التراويح لم يرد منصوصاً عليه إنما هو عرف طارئ حتى صارت كلمة التراويح عبارة عن ثلاث وعشرين على هذا الوجه أن تكون ركعتين ركعتين ثم ثلاث ركعات الوتر موصولة أو مفصولة , وقصد أولئك أن من ينوي التراويح يجزئه إلا هذه الكيفية , ولا يقصدون أنه لو لم يقصد التراويح بل قصد قيام رمضان لا يصح فيه إلا بثلاث وعشرين وهذا محمل كلامهم و أما حقيقة الأمر فهو الرجوع إلى حديث :"صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بركعة , ومعناه أن الأفضل في كيفية صلاة الليل أن تكون ركعتين ,ركعتين وليس المراد حصر الجواز في هذه الكيفية لأنه ثبت في الصحيح أن عائشة رضي الله عنه قالت في بيان صلاته صلى الله عليه وسلم " يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً "رواه البخاري (10)هذه عظه وعبرة لمن يعتبر ولعلها جعلتها أربعاً أربعاً لأنه كان يستريح بعد الأربع لكنه يصليهن ركعتين ركعتين فإذ استراح قام إلى الأربع الأخرى فصلاهن ركعتين ركعتين ثم يستريح ثم يقوم إلى الوتر فجعلت كل مجموعة استراح فيها أربعا و أن صلاهن ركعتين ركعتين .
وحديث" صلاة الليل مثنى مثنى " أقوى من حديث عائشة المذكور إسنادا وشهرة. ومما يرد دعوى الزاعمين ان الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة ما رواه ابن حبان في صحيحة من روايات عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فقال " عن عائشة قالت " كان النبي صلى الله عليه يصلي من الليل تسع ركعات " (11)
وروى أيضا عن أبي سلمة , قال : أخبرتني عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثمان ركعات ويوتر بواحدة ثم يركع ركعتين وهو جالس " (12)
وروى أيضا عن مسروق أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت " كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل , ثم إنه كان يصلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين ثم قبض صلى الله عليه وسلم حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات آخر صلاته من الليل والوتر , ثم ربما جاء الى فراشي هذا فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة " (13)(/11)
وروى ابن حبان أيضا عن ابن عباس انه قال : بت عند خالتي ميمونة ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندها تلك الليلة فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام يصلي ركعتين فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة , ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفخ وكان إذا نام نفخ , ثم أتاه المؤذن فخرج وصلى ولم يتوضأ , قال عمرو: حدثت بهذا بكير ابن الاشج فقال : حدثني كريب بذلك "(14) .
وروى ابن عباس انه بات عند خالته ميمونه فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل قال : فقمت فتوضأت ثم قمت عن يساره فجرني حتى اقامني عن يمينه ثم صلى ثلاث عشرة ركعة قيامه فيهن سواء "(15)
وعن الحسن بن سعد بن هشام أنه سأل عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء تجوز بركعتين ثم ينام وعند رأسة طهوره وسواكه فيقوم فيتسوك ويتوضأ ويصلي ويتجوز بركعتين , ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوي بينهن في القراءة ثم يوتر بالتسعة , ويصلي ركعتين وهو جالس , فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم و أخذه اللحم (16) جعل الثمان ستاً ويوتر بالسابعة ويصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما (( قل يا أيها الكافرون )) {سورة الكافرون } و (( إذا زلزلت )) {سورة الزلزلة (1) } (17).
ومعنى " ويصلي ركعتين وهو جالس" أي ركعتي الفجر وليستا من قيام الليل لان الرسول كان يجعل آخر صلاته بالليل وترا فلا يصلي بعد ذلك إلا ركعتي الفجر أي سنة الصبح وروى مسلم وغيره (18) عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة " وروى البخاري (19) عن ابن عباس أيضا قال :"كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة –يعني الليل-.
وهذه الروايات دليل على ما رواه البخاري عن عائشة من انه ما كان يزيد في رمضان وغيره في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة محمول على انهار رأت ذلك .
فإن قال قائل هذه الأحاديث التي ذكر فيها الرسول زاد على إحدى عشرة ركعة معارضة لحديث عائشة المتقدم فما خالفة فهو ضعيف فيكون حديثها الراجح وتكون تلك الروايات مرجوحة لا يحتج بها.
قيل قد علم من أقوال أهل العلم أن الترجيح لا يصار إليه ما أمكن الجميع بين الروايتين وهنا الجمع ممكن سهل , وذلك بأن يقال إن عائشة لما حدثت ذلك الحديث لم يكن لها اطلاع على غير ذلك القدر , ولم تشاهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى على إحدى عشرة ركعة ولا يمنع ذلك أن يكون غيرها كابن عباس شاهد منه ما يزيد على ذلك لان عائشة ما كانت تراه صلى الله عليه وسلم كل ليلة بين تسع ليال في بعض الزمن الذي عاشت معه صلى الله عليه وسلم . والدليل على ذلك أنها روت عنه صلى الله عليه وسلم أنه آخر عمر ه كان يقوم بأقل من ذلك رأته قام بتسع ركعات ويمكن أيضا الجمع بأنها تحدثت مع السائل عن غالب حاله صلى الله عليه وسلم وغالب أيامه ثم ذكرت لغيره انه زاد ولآخر انه نقص .
ومما يدل على ما ذكرنا ما ذكره الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير ونصه (20):"حديث أم سلمة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر ثلاث عشرة ركعة فلما كبر وضعف أوتر بتسع , رواه احمد و الترمذي والنسائي والحاكم وصححه من طريق عمرو بن مره عن يحيى بن الجزار عنها , قوله :لم ينقل زيادة على ثلاث عشرة كأنه أخذه من رواية أبي داود الماضية عن عائشة ولا بأكثر من ثلاث عشرة , وفيه نظر , ففي حواشي المنذري : قيل : اكثر ما روى في صلاة الليل سبع عشرة وهي عدد ركعات اليوم والليلة وروى ابن حبان وبن المنذر والحاكم من طريق عراك عن أبي هريرة مرفوعاً أوتروا بخمس او سبع او بتسع او بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك "انتهى .
ثم قال (21) " حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن رواه مسلم بلفظ "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الأخيرة منهن " وللبخاري من حديث ابن عباس في صلاته في بيت ميمونة " ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن "اهـ
وقد حدى التعصب للرأي لمن التزم بإحدى عشرة ركعة ومنع غيرها أن تجرأ فكتب قوله " إن عمر لم يأمر بالقيام بثلاث وعشرين ركعة وان كان امر بذلك فهو من الذين يدخلون تحت هذه الآية { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله (21)} [سورة الشورى] فقد جعل هذا الجاهل عمر داخلاً تحت هذه الآية وهذا غض كبير وتنقيص عظيم من منزلة عمر رضي الله عنه , وهو امر يجب هجره وهجر قائله.
ويكفي في الرد على مثل هذا التعصب والتصلب ما رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أرت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت "(22)(/12)
وفيه دليل على أن صلاة الليل ليس لها عدد بركعات محدودة وهذا أيضا ناقض للقول بتحريم ما زاد على إحدى عشرة ركعة أو نقص فعنده إذا لم يثبت عن رسول الله إلا هذا فما نقص وما زاد فهو حرام.
أخطاء يقع بها الناس في قيام رمضان
1- التهاون في أداء صلاة التراويح بحجة إنها سنة وليست واجبة فترى الرجل يقضي وقته في الأسواق وأمام التلفاز , ويضيع هذه السنة العظيمة .
ولاشك أن هذا غبن عظيم وخسارة عظيمة ينبغي التنبيه لها فصلاة التراويح وان كانت سنة من السنن إلا أن إتيانها والمسارعة في فعلها ,مما يقرب العبد الى ربه , ولا سيما في شهر رمضان المبارك الذي تتضاعف فيه الأجور والدرجات فليحرص المسلم على أداء هذه السنة العظيمة حتى إذا خرج الشهر كان قد حصل له ثواب كثير واجر جزيل .
2- ومن أخطاء الناس في قيام رمضان اقتصار بعض الأئمة على قصار السور من الضحى فما دون طلبا للعجلة وسعياً وراء الدنيا والأفضل أن يقرأ المصحف كاملا في الصلاة أحياناً , فإن اقتصر على بعضه جاز على الصواب ولا دليل على انه كان يقرأ القرآن كاملا في زمن معين في الصلاة .
3-ومن أخطاء البعض في قيام رمضان مواصلة القيام الى قريب الفجر أو السهر على غير طاعة ثم النوم عن صلاة الفجر في جماعة وربما نام حتى فاتته وقت الصلاة وهذا خطأ كبير إذ القيام سنة وصلاة الفجر في وقتها واجب ولا يشتغل بالسنة إذا كان في الاشتغال بها تضييع الواجب فينبغي للمسلم أن ينتبه لذلك .
4-ومن الأخطاء التي تقع من البعض في قيام رمضان اشتغالهم بالكلام في المساجد عن الصلاة مع المصلين وتشويشهم على إخوانهم في صلاتهم.
التراويح في الحرمين الشريفين عبر التاريخ :
التراويح في الحرمين نموذج لصلاة التراويح في العالم الإسلامي
صلاة التراويح عند المسلمين
غني عن التحدث عن واقع التراويح المشاهد الملموس في الحرمين الشريفين ولكن الذين لم يقدر لهم حضور رمضان ولا جزءاً منه بالحرمين لا شك انهم يتطلعون الى كل شيء في المسجدين ولا سيما هذا العمل الفاضل , القيام في شهر الصيام وفي المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم , ومن الذي يستطيع تصوير ذلك كما ينبغي ولكنا نحاول التحدث عنه حسب ما نشاهده و بقدر ما يمكن إعطاء الفكرة عنه ومعلوم أن الكتابة لا تصل حد المشاهدة , فليس كالعين في النظر ولا الأذن في السماع ولا كن بقدر المستطاع وان كان الناس يشاهدونه على الشاشات فليس النظر في الشاشات كالمشاركة في الساحات والقيام في الصفوف بين المسلمين في الحرمين :
أولا : وقتها معلوم أن وقتها بعد صلاة العشاء وصلاة العشاء في الحرمين في غير رمضان يؤذن لها بعد غروب الشمس بساعة ونصف أي تسعين دقيقة وتصلى بع ربع الساعة من الأذان .
أما في رمضان فلا يؤذن للعشاء إلا في تمام الساعة الثانية بعد الغروب مراعاة للمصلين الذين يحضرون أولا لتناول ما يفك صيامهم في الحرمين من تمرات خفيفات, ثم يصلون المغرب ثم ينصرفون الى بيوتهم لتناول وجبة الإفطار، ثم يعودون للحرم لصلاة العشاء والتراويح .
والكثيرون منهم يحضرون من أماكن بعيدة فروعت ظروفهم وتيسير حضورهم فإذا مضت الساعتان وأذن للعشاء أقيمت الصلاة بعد عشر دقائق فقط ويصليها أحد الأئمة المعينين في الحرمين وبعدها يصلي الناس سنة العشاء الأخيرة ثم تبدأ التراويح على الكيفية الآتية :
كيفية أدائها :
تبدأ بعد أداء السنة الراتبة يبدأها أحد أئمة الحرمين الحفاظ المعينين في كل مسجد , فيصلي عشر ركعات في خمس تسليمات وتستغرق نصف ساعة تقريباً ثم يبدأ فضيلة الشيخ الثاني في العشر ركعات الأخرى مباشرة يصليها بخمس تسليمات ثم يصلي الوتر ثلاث ركعات مفرقة ومجموع القراءة في كل ليلة من كل منها معاً جزء كامل.
ومن الملاحظ أن صلاة كل منها متساوية في الزمن والأداء نصف ساعة لكل عشر ركعات بنصف جزء تقريباً فيكون العشرون ركعة ساعة كاملة بجزء كامل .
وقد بلغ حرص المسلمين من داخل المدينتين الشريفتين وخارجهما على حضور التراويح بالحرمين الشريفين حتى أصبحت التراويح كالجمعة لكثرة الزحام ووفرة القادمين من أطراف المدينتين ومن المدن والقرى القريبة من أحد الحرمين لتوفر وسائل النقل السريعة فينتظر كثيرون في الحرم ويبقون إلى بعد التراويح ثم يعودون وهكذا الزائرون من خارجها ,وهذا العدد يتضاعف والزحام يشتد ليلة تسع وعشرين , ليلة الختم , لما فيه من الدعاء ويكثر الزوار والعمار من الأقطار الإسلامية .
الوتر في التراويح :
أما الوتر ففي التراويح فيما قبل العشر الأواخر يصليه أحد أئمة الحرمين في نهاية التراويح بعد الخمس تسليمات الأخيرة التي يصليها في الغالب من يصلي فيهم التسليمات الخمس الثانية من التراويح ويوقعه بثلاث ركعات منفصلة يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة مفردة ويقنت جهراً بعد الرفع من الركوع .
أما في العشر الأواخر من الشهر المبارك والتي يكون فيها القيام آخر الليل يكون الوتر كالتالي :(/13)
1ـ يترك أحد الأئمة الوتر في صلاة التراويح ليؤديه مع صلاة القيام آخر الليل لحديث : " اجعلوا أخر صلاتكم بالليل وترا ".
ولا يوقعه أول الليل لحديث : لا وتران في ليلة " ويوتر أول الليل أحد الأئمة على النحو المتقدم , هذا عمل الجماعة العامة لجميع المصلين .
وقد كان الأحناف لا يوترون مع الإمام بل ينفردون به بإمام منهم طيلة الشهر وذلك بعد فراغ الإمام الراتب أو نائبه من الوتر بعد التراويح ويوقعونه ثلاثاً مجتمعات كالمغرب , حتى جاء العهد السعودي فقضى على ظاهرة التفرق في الجماعات , وتقسيم الحرمين مقامات بين أتباع المذاهب وهذا لعمر الله من حسنات هذه الدولة الكثيرة في إصلاح مظاهر الدين على الكتاب والسنة .
ودعاء القنوت :
اللهم اهدنا فيمن هديت , وعافنا فيمن عافيت , وتولنا فيمن توليت , وبارك اللهم لنا فيما أعطيت , وقنا واصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك , إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت , تباركت ربنا وتعاليت , اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك , ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا .
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا , واجعله الوارث منا , واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا و ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا , ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا .
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمارنا خواتيمها , وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك , وعزائم مغفرتك , والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار , ونسألك الجنة وما قرب منها من قول وعمل , ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً لنا يارب العالمين .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا, وزدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا,وارزقنا وارض عنا
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا ..
اللهم اجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوما واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوما ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً .
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين .
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك , ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا انك أنت التواب الرحيم , وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
هذا هو الذي يدعى به في الحرمين في عصرنا وقد يزيد بعض الأئمة في الدعاء بما يراه مناسباً لأحوال المسلمين وهذه الألفاظ أدعية كلها وردت في السنة وهي من جوامع الدعاء المأثور والغالب أن أئمة الحرمين لا يطيلون في دعاء القنوت مراعاة لحال الناس .
صلاة القيام آخر الليل في الحرمين :
كان أهل المدينة منذ القرون المتقدمة من عهد أبي زرعة رحمه الله إذا فرغوا من التراويح يرجعون إلى المسجد في ثلث الليل الأخير لصلاة الست عشرة وذلك طيلة ليالي الشهر كله يصلون ست عشرة ركعة وكانوا ينادون لها على المنارة لاجتماع الناس إليها وكانت ست عشرة ركعة مع عشرين أول الليل تتمة ست وثلاثين على مذهب الإمام مالك رحمه الله لأنهم جعلوها عوضاً عن طواف أهل مكة بالبيت الحرام بعد كل أربع ركعات كانوا يطوفون بالبيت وقت الاستراحة ثم يعودون للصلاة , ولكن في هذا العهد لا يصلي من آخر الليل شيء في أول الشهر وإنما يقتصر على عشرين ركعة مع الوتر كالمسجد الحرام .
فإذا كان العشر الأواخر ابتداء من ليلة إحدى وعشرين فإن المصلين يعودون الى المسجدين من دون نداء على المنابر فإذا كان ثلث الليل الأخير حضر الإمام ونائبه وقد تجمع جم غفير من أنحاء الحرمين رجالاً ونساء وشيباً وشباباً ترى على الوجوه سمة الخير ووقار السكينة وإشراقة التهجد .
فيقوم الإمام في مصلاه ,فإذا بدأ الصلاة وافتتح القراءة ساد شعور لا يمكن وصفة ولا تصويره من جلال وإجلال ورغبة ورهبة , وتلاحق في الذهن الماضي المشرق لشروق الدعوة الإسلامية في هذين الحرمين .
وتراءت صور المصلين عبر القرون الماضية , وأحسست بخيوط من الإشعاع تربطك بالسلف وهبات من نسيم الرحمة تبلل جفاف القلوب وتحيي مواته وتمس شغافه فتزكي شعوره وتوقظ انتباهه وتملك زمامه .
فإذا قرأ الإمام ورتل اجتذب المسامع واستصغى الأفئدة وهناك يمضي الوقت ولا يكاد يحسب من العمر أو يعد من الحياة لأنه أسمى ساعات العمر وفوق لحظات الحياة يصلي الإمامان وقد كان إلى وقت قريب في عصرنا يقرأ في كل ليلة ثلاثة أجزاء ويوتر أحد الأئمة بثلاث ركعات ويقنت كما تقدم ويطيل قنوته وهكذا الليالي التسع .
فإذا كانت الليلة الأخيرة وهي ليلة تسع وعشرين والتي يقع فيها الختم فإن الصلاة تكون فيها كالتالي :(/14)
أولاً : في التراويح تكون قراءة الختمه الأولى قد بلغت إلى جزء (عم) فيصلي الإمام التراويح كلها عشرين ركعة فإذا كان في الركعة الأخيرة وقرأ : { قل أعوذ برب الناس } دعا بدعاء ختم القران الكريم قبل أن يركع , وأطال في الدعاء واجتهد في الإنابة إلى الله والضراعة إليه والمصلون معه يؤمنون ويبتهلون وما أن يسترسل الإمام في دعائه وتظهر رقته في صوته إلا ويجهش الجميع بالبكاء ويضج المسجد بالدعاء إلى أن ينهي الإمام دعاءه ثم يركع ويكمل الركعة الأخيرة, ثم يترك الوتر للإمام الآخر ,فإذا كان في القيام من آخر الليل عمر المسجدان بالمصلين وأطلقت مباخر الطيب وكان في السابق إلى عهد قريب عهد الشيخ عبد العزيز بن صالح, والشيخ الخليفي, وعهد الملك خالد وأوائل عهد الملك فهد بن عبد العزيز كانت القراءة في تلك الليلة قد وصلت جزء (قد سمع) فيبدأ الإمام الصلاة كالمعتاد ويتناوب معه نائبه وتكون الركعتان الأخيرتان لأحد الأئمة المتفقين فيما بينهم كما تقدم فإذا كان في الركعة الأخيرة كما تقدم وقرأ سورة (الناس) رفع يديه وبدأ الختم المبارك على النحو المتقدم , فإذا فرغ منه أتم صلاته ثم أوتر وقنت .
ولعظم شأن هذا الختم في الحرمين الشريفين وشدة روعته توافد الناس من حول الحرمين ومن خارج المملكة,إلا أنه في الفترة الأخيرة قد اقتصر العلماء على ختمة واحدة ليلة الثلاثين لما يقرأ في صلاة التراويح وخفف على الناس في صلاة آخر الليل وذلك نزولا عند حاجة ورغبة أحوال الناس .
-وقفات رمضانية
الوقفة الأولى : فضل الصيام
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كل عمل ابن ادم له الحسنه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف , قال الله عز وجل إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به , ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي للصائم فرحتان , فرحة عند فطره , وفرحة عند لقاء ربه , ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ...).
الوقفة الثانية : تلازم الصيام والصبر
الصيام من الصبر والصبر طاعة لله , وقد قال تعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) وورد عن النني عليه الصلاة والسلام انه سمى شهر رمضان شهر الصبر , وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم ( الصوم نصف الصبر ) خرجه الترمذي , والصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله , وصبر عن محارم الله , وصبر على أقدار الله المؤلمة , وتجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله , وصبراً على ما حرم الله على الصائم من الشهوات , وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن والصبر نصف الإيمان وقد قال تعالى "إن الله مع الصابرين" .
الوقفة الثالثة : خصوصية الصيام
لقد خص الله سبحانه الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال , في قوله : الصوم لي وأنا أجزي به لأن الصيام فيه ترك لحظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام , ثم إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره سبحانه فذلك كان الجزاء من الله عليه كبيرا .
الوقفة الرابعة : كيف تصوم
قال بعض السلف : أهون الصيام ترك الشراب والطعام ,وقال جابر رضي الله عنه : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم , ودع أذى الجار , وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء " انتهى.
وقال أخر :
إذا لم يكن في السمع مني تصاون***وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما***فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
الوقفة الخامسة : أفراح الروح للصائم
قوله عليه السلام : للصائم فرحتان , فرحة عند فطره , وفرحه عند لقاء ربه , أما فرحة الصائم عند فطره , فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه .فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعا , والصائم عند فطره كذلك , وأما فرحه عند لقاء ربه , فما يجده عند الله عز وجل من ثواب الصيام مدخراً فيجده أحوج ما كان إليه.
الوقفة السادسة : ختم القران في قيام رمضان
كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال . وبعضهم في سبع , منهم قتادة رحمه وبعضهم في عشر منهم أبو رجاء العطاردي رحمه الله .(/15)
وكان السلف يتلون القران في شهر رمضان في الصلاة وغيرها, كان الأسود رحمه الله يقرأ القران في كل ليلتين في رمضان , والنخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر خاصة , وكان للشافعي رحمه الله في رمضان ستون ختمة , وهو أمر ممكن وإنما كانوا يستغلون فضل الزمان ويعرفون حق رمضان وإن كانوا لا يداومون على ذلك في غيره من الشهور وقد عرفنا بعض مشايخنا يقرأ في الساعة خمسة أجزاء منهم شيخنا العلامة الشيخ / عبد الله الغديان وغيره , والقران يمر على ألسنتهم كالماء قراءة حدرية لا خلل فيها ولا نقص فلله در تلك الوجوه والصدور .
الوقفة السابعة : رمضان وأبواب الجنة
يا معشر المسلمين ابشروا , فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت وأبواب الجحيم كلها لأجلكم مغلقه وأقدام إبليس وذريته من أجلكم موثقة .
الوقفة الثامنة : جائزة رمضان
ورد أن من أتى عليه رمضان صحيحاً مسلماً , فصام نهاره وصلى ورداً من ليله وغض بصره وحفظ فرجة ولسانه ويده وحافظ على صلاته جماعة وبكر إلى الجمعة , فقد صام الشهر واستكمل الأجر وفاز بجائزة الرب التي لا تشبه الجوائز الأخرى .
الوقفة التاسعة : قوافل الصالحين في رمضان
كانت امرأة حبيب رحمها الله تقول له بالليل : قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا , فأين نساؤنا من هذا في ليالي رمضان وقد حولنه إلى ميدان للتسوق والضياع في ميادين المدن والتنقل من سوق إلى سوق فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
يا نائم الليل كم ترقد***قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته***ورداً إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله***لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى*** قنطرة العرض لكم موعد
الوقفة العاشرة : وداع رمضان
قال سعيد عن قتادة رحمهم الله كان يقال : من لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر له ؟ ومن رد في ليلة القدر متى يقبل ؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان , ومتى يصلح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان .
ترحل شهر الصبر والهفاه وانصرفا***واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسراً***مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما***تراه يحصد إلا الهم و الندم
-العشر الأواخر من رمضان:
-قراءة القران
-فضل قراءة القرآن
-آداب تلاوة القرآن
-كيفية قراءة القرآن
-أركان القراءة الصحيحة
-مراتب قراءة القران الكريم
-هل يمكن أن يستفاد من مدارسة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان أفضلية ختم القرآن ؟
-ختم القرآن في رمضان
-دعاء ختم القرآن
-وعن موضع دعاء ختم القرآن وهل هو قبل الركوع أم بعد الركوع
-عمل الختم في الحرمين الشريفين
-بعض نصوص الدعاء التي يدعى بها عند ختم القرآن في الحرمين
العشر الأواخر من رمضان:
في العشر الأواخر من رمضان يتوافد على بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف .والمسجد الأقصى وبيوت الله في أنحاء المعمورة ملايين المسلمين لأداء الشعائر الدينية في شهر التوبة التي تفتح فيه القلوب ضارعة إلى السماء من أجل التوبة والاستغفار والأوبة .مع أن باب التوبة مفتوح كل وقت غير أن هذا النداء الرباني يرتفع ويشتد مع أيام الصيام وليالي القيام , فقد جاء في القران الكريم ( وقال ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا )
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس توبة واستغفارا , ويروي أبو هريرة رضي الله عنه كما
في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله " والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في يوم أكثر من سبعين مرة ..")0 وعن الأغر بن يسار في صحيح مسلم " يأيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً )
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره فإذا دخل العشر الأواخر شد مئزره , وأحيى ليله , وأيقظ أهله .متفق عليه .
ففي هذا الشهر وبخاصة في العشر الأواخر منه يلتزم المسلمون بالإفادة من أوقات الصلاة والصيام . وتنظيم هذه الأوقات ليتدرب المسلمون على أحوال المسلمين وشؤونهم وشجونهم لتنقية النفوس والوصول بها إلى منزله رفيعة . وينتهي المسلمون في هذه العشر من أعمالها الصالحة إلى الإكثار من الإنفاق ويختمونها بدفع زكاة الفطر امتثالا لقول الرسول الكريم .
" زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمه للمساكين " لأنها تقدم الخير والمنفعة للمسلمين المحتاجين والمعوزين وما أكثرهم في عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف . لأن الفقهاء يرون أن من ملك قوت يوم العيد , وليلته فعليه أن يتصدق بما زاد عن ذلك , وهذه الصدقة واجبه قبيل صلاة العيد وقد حثنا الرسول على ذلك .(/16)
ويكثر المسلمون في هذه الأيام للاستماع إلى وعظ الخطباء والدروس الدينية ويعكفون على قراءة القران الكريم في المساجد ويحرصون على البحث عن أحاديث السنة للاسترشاد بها في مواقع الإحسان والخير والتقرب إلى الله العلي القدير .
فالمطلوب من المسلمين الاهتمام بهذه الليالي العشر , في تلاوة القران والصلاة والذكر والدعاء والاستغفار . وخاصة في مساجد الرحمن , فقد جاء في الحديث الشريف " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"
ففي شهر رمضان يعظم الأجر , وفيه يجزل الله العطاء ويفتح أبواب الخير والبركات , وهو شهر أُنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .. فهذا الشهر محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
وجاء الحديث الشريف " الصلوات الخمس و الجمعة إلي الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفران ما بينهن ما اجتنبت الكبائر "
وما أحوجنا أن نعمر هذا الشهر العظيم , بقلوب خاشعة ضارعة إلى الله بالهداية والمغفرة والتوبة النصوح والاقتداء برسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث قال: جاءكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء .. ينظر إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله ". وينبغي للمسلم إذا شغل في العشرين الأول أن لا يفوت على نفسه العشر الأخيرة من رمضان لما فيها من الخير الكبير ولأن ليلة القدر ترجى في لياليها وهي أفضل ليالي رمضان فيها فضل كبير وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على إقامتها كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا , غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
وأرجى ليلتها في الإفراد من العشر الأواخر : فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى رؤيا كم قد تواطأت في السبع الأواخر , فمن كان متحريها , فاليتحرها في السبع ألأواخر ).متفق عليه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان , ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ) متفق عليه .
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) رواه البخاري .
وعنها رضي الله عنها قالت : كان رسول الله عليه وسلم ( إذا دخل العشر الأواخر من رمضان , أحيا الليل , وأيقظ أهله , وجد وشد المئزر ) متفق عليه .
قولها "شد المئزر" كناية عن تجنب النساء انشغالاً بالعبادة .
وعنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره , وفي العشر الأواخر منه , ما لا يجتهد في غيره ) رواه مسلم .
وعنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة، ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال : (قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
قراءة القران
لقد سماه الله بالقرآن والفرقان والعظيم والعزيز والحكيم والروح والكريم والنور والهدى والتذكرة والذكرى والرحمة والشفاء والكتاب المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم والحق اليقين والقصص الحق والموعظة الحسنة والآيات البينات المبينات والبيان والتبيان والبينة وحبل الله وصراط الله و غيرها من الأسماء العلية والصفات الجليلة .
ونوه بذكر حملته من حفظته ورفع من شأنهم فقال عز من قائل :"كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " فالربانيون أخص نسبة ينسب به العبد إلى مولاه من بعد النبوة ومعناه : كونوا علماء حكماء بتعليمكم الكتاب ودرسكم إياه .
وجعلكم مغبوطين في الأنبياء والسالفة من الأمم قبل أن ظهروا ومحسودين في أهل الكتاب والمشركين ثم في الأمة بعد أن ظهروا واستظهروا .
وفوض إليهم الإمامة والأمارة وولى من عملوا العلو في الدنيا والشفاعة في الآخرة.
وجعلهم خير الأمة وأفضلهم وخيارهم وأشرافهم .(/17)
وقد بلينا في عصرنا بقوم ناشئة لا يعبئون بكتاب الله ولا بحفظه فلا يعبأ الله بهم قاصرين عنه حاجزين مفترين على غيرهم مزهدين فيه ملقبين حملته بالقراء على النبز والازدراء دون المدح والإطراء ما بين المترسمين بالعلم والمتوسمين بالنسك جل كلامهم:أن حفظ القرآن يصلح للمعلمين والصبيان,ولم يقرأ إلا عند المرضى وفي المقابر وأكثر فتياهم أنه يكفي من القرآن ما يسقط به الفرض والعجب أن تنبت نابتة ممن يزعمون الاهتمام بالسنة ويهملون حفظ القرآن ومعرفة أحكامه وآدابه, مع أنه أولى بالعناية والمدارسة والحفظ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وهؤلاء الأغرار عندما يحدثوك بحكم وترد عليهم من القرآن قلما يفهمون أو يصدقون لأنهم كانوا عنه معرضين وإلى غيره قاصدين .
وقد تربى على الحفظ والتحفظ الصدر الأول ومن بعدهم فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سنا وسابقة فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره , ولا المقربون منهم عن العلم بما لم يسعهم جهله منه غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم ففاتهم في طراوتهم وحداثتهم طلب حفظ القران في أوانه , ولحقهم العجز والبلادة في سنيهم من غير أن يكون لهم أنس بتلاوة كتاب ربهم ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه فعوقبوا بحرمانه وإثارة الجدل والنطاح الذين يؤديان إلى تفريق الأمة وتمقيت بعضهم إلى بعض وصار ذلك أروج لهم في المجالس التي لا يذكر فيها اسم الله إلى قليلاً والله زين لهم ذلك فقال عز وجل :" كذلك زينا لكل أمة عملهم " ومع ذلك فإنهم لا تدركهم الحسرة والكمد والتأسف على ما فاتهم من بركة حفظ كتاب الله الكريم ولا يظهر ذلك عليهم إلا عند الطعن في السن أو الإشراف على الفوت أو لتغرغر بالموت لكنهم في الحال يستهترون حفظ القرآن ويزرون بأهله ويلقبونهم بما تقدم من النبز وقد أصبنا في مؤسساتنا التعليمية بزهد المنتسبين إليها عن حفظ مقررات القران وهو زهد يحرم أهله الخير .
فضل قراءة القرآن
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الذي يقرأ القران وهو ماهر فيه مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ وهو يتتعتع وهو عليه شديد فله أجران ) متفق عليه.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل الذي يقرا القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب, والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها , ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ,ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها)متفق عليه, والأترجة ثمرة طيبة الرائحة والمذاق .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول "الم" حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) انفرد به الترمذي
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند أخر أية تقرأ بها ) رواه الترمذي وأبو داود .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من قرأ القرآن وحفظة أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار)رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه .
وعن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل و آناء النهار ) متفق عليه .
وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) رواه البخاري
وعن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقرءوا القران ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه ) متفق عليه .
آداب تلاوة القرآن
-الطهارة من الحدثين الأصغر بالوضوء والأكبر بالغسيل , واستقبال القبلة.
-السواك ونظافة الثوب والبدن .
-الإصغاء والإنصات وحضور القلب والخشوع والتدبير .
-اجتناب ما يخل بالمقصود من نحو اللهو واللغو والضحك والعبث.
-قراءته بتؤدة وترتيل وتحسين الصوت لأن ذلك أعون على الفهم .
-الابتعاد عن الأصوات المنكرة والألحان الهزيلة والآلات الموسيقية .
-إذا مر بأية عذاب استغفر الله واستعاذ , وإذا مر بأية رحمه طلبها من الله تعالى ودعا.
-أن يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه , فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن .
-المتابعة والتعاهد للقرآن في ورد يومي حتى لا يكون هاجراً للقرآن .
كيفية قراءة القرآن
قال الله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا } سورة المزمل آية "4"(/18)
والمراد: قراءته بتؤدة وطمأنينة وتدبر ذلك برياضة اللسان والمداومة على القراءة بترقيق المرقق وتفخيم المفخم وقصر المقصور ومد الممدود وإظهار المظهر وإدغام المد غم وإخفاء المخفي وإخراج الحروف من مخارجها وعدم الخلط بينها,كل ذلك دون تكليف أو تمطيط ..
قال الله تعالى :{وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً }سورة الإسراء آية (106) .
أي على مهل وبترسل فذلك اقرب إلى الفهم , والواقع أن ذلك لايتحقق إلا بالمحافظة على أحكام التجويد المستمدة من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي ثبتت عنه بالتواتر.
ثبت أن أنس بن مالك سئل كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال :(كانت قراءته مدا ثم قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم) , يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم ، رواه البخاري.
أركان القراءة الصحيحة
- موافقتها لوجه من الوجوه اللغة العربية , ولو كان ضعيفاً.
- موافقتها للرسم العثماني ( المقصود الكتابة كما هي في مصحف عثمان رضي الله عنه.
- صحة سندها ( كما هو الحال في المصحف الذي بين أيدينا اليوم .
مراتب قراءة القران الكريم
للقراءة مراتب ثلاثة ( طرق قراءة القرآن الكريم ):-
1– الترتيل : القراءة بتؤدة وطمأنينة مع مراعاة تدبر المعاني ومراعاة أحكام التجويد وهي أفضل المراتب .
2– التدوير : وهي القراءة بحالة متوسطة بين السرعة والاطمئنان مع مراعاة الأحكام .
3– الحدر : وهو القراءة السريعة مع المحافظة على أحكام التجويد .
وكلها يجوز القراءة بها في صلاة التراويح وقيام الليل , وقراءة القرآن وهي في الأفضلية مرتبة بحسب ما تقدم.
هل يمكن أن يستفاد من مدارسة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان أفضلية ختم القرآن ؟
يستفاد منها المدارسة وأنه يستحب للمؤمن أن يدارس القرآن من يفيده وينفعه , لأن الرسول عليه الصلاة السلام دارس جبرائيل للاستفادة , لأن جبرائيل هو الذي يأتي من عند الله جل وعلا بالوحي , وهو السفير بين الله والرسل فجبرائيل لا بد أن يفيد النبي أشياء من جهة الله عز وجل , ومن جهة إقامة حروف القرآن ومن جهة معانية التي أرادها الله , فإذا دارس الإنسان من يعينه على فهم القرآن ومن يعينه على إقامة ألفاظه فهذا مطلوب . كما دارس النبي جبرائيل , وليس المقصود أن جبرائيل أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام , لكن جبرائيل هو الرسول الذي أتى من عند الله فيبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمره الله به من جهة القرآن ومن جهة ألفاظه ومن جهة معانية , فالرسول عليه الصلاة والسلام يستفيد من جبرائيل من هذه الحيثية , لا أن جبرائيل أفضل منه عليه الصلاة والسلام بل هو أفضل البشر وأفضل من الملائكة عليه الصلاة والسلام , لكن المدارسة فيها خير كثير للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة , لأنها مدارسة لما يأتي به من عند الله وليستفيد مما يأتي به من عند الله عز وجل , وهناك فائدة في طلب العلم وهي أن الفاضل يأخذ من المفضول والكبير يأخذ من الصغير ما عرف إتقانه واختص به ولهذا كان العلماء يأخذون من القراء المختصين ولا يأخذون من بعضهم السنة .
وفيه فائدة أخرى وهي أن المدارسة في الليل أفضل من النهار لأن هذه المدارسة كانت في الليل ومعلوم أن الليل أقرب إلى اجتماع القلب وحضوره والاستفادة أكثر من المدارسة نهاراً .
وفيه توجيه لطالب العلم أن يتحرى أوقات اجتماع القلب وبعده عن المشاغل عند التعلم .
وفيه أيضاً من الفوائد : شرعية المدارسة وأنها عمل صالح حتى ولو في غير رمضان , لأن فيه فائدة لكل منهما ولو كانوا أكثر من اثنين فلا بأس أن يستفيد كل منهم من أخيه ويشجعه على القراءة وينشطه , فقد يكون لا ينشط إذا جلس وحده لكن إذا كان معه زميل له يدارسه أو زملاء كان ذلك أشجع له مع عظم الفائدة فيما يحصل بينهم من المذاكرة والمطالعة فيما قد يشكل عليهم كل ذلك فيه خير كثير .
ويستحسن أن يطلب الأخ من أخيه القراءة عليه ويستمع منه ويدارسه كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي وكما طلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن .
ويمكن أن يفهم من ذلك أن قراءة القران كاملة من الإمام على الجماعة في رمضان نوع من هذه المدارسة لأن في هذا إفادة لهم عن جميع القرآن , ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يحب ممن يؤمهم أن يختم بهم القرآن وهذا من جنس عمل السلف في محبة سماع القرآن كله , ولكن ليس هذا موجبا لأن يعجل ولا يتأنى في قراءته, ولا يتحرى الخشوع والطمأنينة بل تحري هذه الأمور أولى من مراعاة الختمة .
ختم القرآن في رمضان
اعتاد الناس أن يصلوا في رمضان التراويح ويقرءوا القرآن من أوله وينهوه غالباً ليلة تسع وعشرين خاصة في الحرمين الشريفين , ولا شك أن في ذلك خير كثير للمسلمين حيث يسمعون القرآن كاملاً في شهرهم وفي بعض البلدان الإسلامية يجتمع الناس في المساجد أو مجالس خاصة ويتدارسون القرآن ويختمونه خارج الصلاة .(/19)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ختم القرآن في رمضان للصائم ليس بأمر واجب ولكن ينبغي للإنسان في رمضان أن يكثر من قراءة القرآن كما كان ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان عليه الصلاة والسلام يدارسه جبريل القرآن كل رمضان .إهـ.
فهو من المسنونات في شهر رمضان وقد كان السلف الصالح إذا دخل شهر رمضان جلسوا في المساجد ودعوا بالمصاحف ويقرؤون القرآن ويتركون غيره من العلم لما في رمضان من فضل الزمان ومن هنا كان أحدهم يختم في رمضان أكثر من ختمه في اليوم وخاصة في الحرمين وفي رمضان لما في ذلك من فضل الزمان والمكان .
دعاء ختم القرآن
وبما أن العمل في مكة وفي المسجد النبوي ومن الإمام الراتب له أهميته وقيمته في العالم الإسلامي كله وقد كان عمل أهل المدينة حجة عند إمام دار الهجرة مالك بن انس رحمه الله بناء على أنهم توارثوه عن السلف وأنها منبع السنة .
وهكذا اليوم لمكة والمدينة في نفوس المسلمين قدسية في قلوبهم وإمامة في أنظارهم فمكة منبع الرسالة والمدينة دار الهجرة وموطن التشريع .
وعمل الختم في نهاية التراويح والتهجد في رمضان بالحرم المكي والمسجد النبوي في هذه الآونة طبقت أخباره الآفاق والأمصار ويشاهده الناس على الشاشات المرئية ويسمعونه من الإذاعات المسموعة على الهواء مباشرة من فم القراء والأئمة ويفد لحضوره عدد من جميع الأقطار ومن هنا أثير على الساحة الإسلامية عن أصل مشروعيته وهذا السؤال ليس جديداً بل هو قديم وقد سأل عبد الله بن احمد بن حنبل أباه حين سمعه يذكر عمل الختم فقال له : إلى أين تذهب في ذلك أي ما هو دليلك فيه ؟ فأجابه بما عنده فيه وسيأتي قريباً إن شاء الله .
وقد ظهر على الساحة قولان في مشروعية دعاء الختم وخاصة في صلاة التراويح : القول الأول : يرى عدم مشروعيته وربما تشدد فرآه من البدع التي يجب أن تترك ويستندون على أدلة يذكرونها ومخالفات يسردونها لتأييد ما ذهبوا إليه وابرز أدلتهم مايلي :
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح كاملة في رمضان ولم يقرأ القرآن كله في تراويح ولا في تهجد وعليه فلم يدع بهذا الدعاء ولا محل له عنده لأنه لم يوقع الختم الذي يدعو بعده فمن أين إذا أصل المشروعية ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ونحن وإن كنا نوقن عدم تعمد أحد من المسلمين مخالفة السنة لكننا نتصور أنه يحدث ذلك إما لجهل الناس أو لغفلة لعدم وجود المستند الشرعي لذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من صحابته كما قال الشيخ بكر أبو زيد ليس هناك حرف واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم يفيد مشروعية الدعاء في الصلاة بعد الختم قبل الركوع أو بعده لإمام أو منفرد وقد أطال النفس الشيخ في ذلك وأيده على قوله الشيخ محمد بن صالح العثيمين فقال رحمة الله لا أعلم لدعاء ختم القرآن في الصلاة أصلاً صحيحا يعتمد عليه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل أصحابة .
2- دعاء ختم القرآن من العبادات الجهرية التي توفرت الدواعي لنقلها إلينا فلما لم تنقل ولم تذكر في كتب الرواية دل على عدم مشروعيتها .
3- دليل من ذهب إلى اعتماده عمل التابعين في مكة والمدينة وهو عمل غير متصل في عصر الصحابة بل منقطع على متأخري التابعين في مكة والمدينة وصغارهم وتوارث العمل لا يكون حجة إلا إذا اتصل بعصر التشريع ولا يكون حجه عند جماعة من الفقهاء والمحدثين والأصوليين حتى يعضده حديث ضعيف تلقته الأمة بالقبول وهنا منتفي الاتصال بعصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم وليس له عاضد من الحديث في الباب تلقته الأمة بالقبول .
4- وينقض عمل التابعين أيضا بكراهة مالك بن انس وهو عالم المدينة في زمانه للدعاء بعد الختم مطلقا وقوله ما هو من عمل الناس فآل القول إلى قاعدة العبادات من وقفها على النص ومورده ولا نص فيبقى الأمر على البراءة الأصلية وعدم المشروعية وأيضا لم يؤثر شيء عن أبي حنيفة والشافعي في دعاء ختم القرآن لا داخل الصلاة ولا خارجها وهما ممن أدركا أواسط التابعين ممن لهم الاتصال بعصر الصحابة .
5- وإذا كان عمل أهل مكة لعدم اتصاله بعمل الصحابة ليس حجة فمن باب أولى وبالأحرى دعاء أهل الحرمين بعد الختم في صلاة القيام في هذا العصر .
6- كما أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحبه الكرام صيغ معينه للدعاء كما قد خصص له ادعيه ومؤلفات تقرأ عند الختم .
وقد ذكروا أيضا مخالفات مصاحبة لختم القران ودعائه منها :(/20)
1- لو سلمنا أن الدعاء عقب ختم القرآن مرغوب فيه للفرد والجماعة وسلمنا انه من مواطن استجابة الدعاء لكنه يصحبه تطويل للدعاء وسجع فيه , ومما هو معلوم أن التطويل الممل والسجع المتكلف والخشوع المصطنع مما ليس ممدوحا ولا محبوبا شرعا فكيف إذا قيد بدعاء معين التزم به في كل ختمه وإلزام الناس به .
2- ومن المخالفات التأليف في صيغ دعاء ختم القران حيث ظهرت العديد من المؤلفات في صيغ دعاء ختم القرآن منها ما أفرد في مؤلفات خاصة ومنها ما ورد ضمن مؤلف عام و نسبت تلك التأليفات إلى العلماء كعبد القادر الجيلاني وغيره حتى ذكر بعض الكتاب لفهارس المخطوطات مؤلفاً يحويه أربعاً وعشرين ختمه وقد بلغ بعضها صفحات كثيرة ومنه الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وقد نفى الشيخ بكر أبو زيد صحة نسبته إليه .
3- التوسع في الدعاء بهدف اجتماع الناس لشهود ختم القرآن وهي من المخالفات التي توسع فيها مما لم يدرج عليه السلف في الدعوة واستدعاء الناس والإعلان لشهود ختم القرآن وان حصل من السلف شيء من ذلك لم يكن بالصورة التي نراها اليوم .
4- إن الناس طيلة شهر رمضان وحضورهم التلاوة وسماعهم لها يكونون في هدوء تام وحسن إصغاء وصمت وعند دعاء الختم تعتريهم حالات الضراعة والبكاء والابتهال وهذا فيه نوع من التصنع والشهرة و إلا فكيف يكون الدعاء أعظم من تأثير القرآن الذي هو كلام الله.
هذه أبرز ما استند عليه الفريق وأبرز ما ذكروها من مخالفات للدعاء عند ختم القرآن .
القول الثاني : يرى مشروعيته واستحبابه عند الختم مطلقاً سواء في الصلاة أو في خارجها واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة من أبرزها وأظهرها ما يأتي :
1- عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال :قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة ." قال الهيثمي وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف .
2- وعن ثابت أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم . قال الهيثمي : ورجاله ثقات .اهـ
فهنا حديث مرفوع بسند ضعيف وأثر موقوف على صحابي رجاله ثقات فيعضد أحدهما الأخر وفي رسالة للشيخ حسين مخلوف ما نصه( يسن الدعاء عقب الختم)وساق حديث العرباض المتقدم وقال : رواه الطبراني وغيره .
3- وعن انس مرفوعاً " من قرأ القرآن وحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر ربه , فقد طلب الخير مكانه" رواه البيهقي في الشعب وكان عند ختم القرآن يجمع أهله ويدعو .
فقد وجدنا حديث العرباض رواه الطبراني وغيره ووجدنا أثراً موقوفا ومرفوعاً عند البيهقي ومؤيداً بعمل الصحابي الذي رواه مرفوعاً .
4- وعند المروزي في كتاب ( قيام الليل ) قال : كان رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس يجعل عليه رقيباً فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه : قوموا حتى نحظر الخاتمة "
5- وروى عن مجاهد أنه قال : تتنزل الرحمة عند ختم القرآن ويقولون الرحمة تنزل "
فهذه نصوص عامه في الدعاء عقب ختم القرآن مطلقاً من غير قيد في الصلاة أوغيرها.
والى هذا ذهب عامة فقهاء الأمصار منهم الإمام احمد : وقد وجدنا عند ابن قدامة تفصيلاً كاملا في خصوص هذا العمل لأحمد رحمه الله قال في المغنى ج2 ص171 :"فصل في ختم القرآن قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله فقلت : ختم القرآن أجعله في الوتر أم في التراويح قال : اجعله في التراويح لكي يكون لنا دعائين اثنين , قلت كيف أصنع ؟ قال : إذا فرغت من آخر القران فارفع يديك قبل أن تركع وادع لنا ونحن في الصلاة وأطل القيام , قلت : بم أدعو ؟ قال بما شئت . قال ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه " فقد فصل لنا هذا النص عن أحمد كيفية العمل في الختم وبين لنا محله وعموم الدعاء فيه .
قلت وهكذا روى الحربي عنه بنحو رواية الفضل .
وروى حنبل قال : سمعت أحمد يقول في ختم القرآن : إذا فرغت من قراءة {قل أعوذ برب الناس } فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع . قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا ؟ قال : " رأيت أهل مكة يفعلونه , وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة " فالأمام أحمد استند في عمله إلى عمل أهل مكة وبينهم العلماء والفقهاء والمحدثين ومنهم إمام عصره في السنة ابن عيينة , رحمه الله .
قال العباس بن عبد العظيم :" وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة " ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً وذكر عن عثمان بن عفان , والعباس بن عبد العظيم من أكابر علماء الحديث و أهل العلم الموثوقين وشيوخ السلف عقيدة وعملاً .
فأنت تجد الفضل بن زياد يسأل أحمد لا عن مشروعية الدعاء عند الختم , بل عن موضعه من الصلاة وكيفية العمل فيه وأقره أحمد رحمه الله وبين له الكيفية والموضع مما يدل على أن أصل المشروعية معلوم لهم وإنما البحث في موقعه .(/21)
فلا غرو أن يقع التساؤل اليوم عن مشروعية هذا العمل , وقد وقع من قبل بين حنبل وأحمد رحمهما الله قال له : إلى أين تذهب في ذلك ,أي هل إلى دليل عليه؟
وأحاله أحمد رحمه الله على ما عنده فيه مما رآه بالفعل من عمل أهل مكة وقع الإمام الجليل سفيان بن عيينة مع أهل مكة .
وقد نقل عن أهل المدينة , فاجتمع العمل عليه في الأمصار الثلاثة الرئيسية البصرة ومكة والمدينة مناطق العلم ومواطن الاقتداء آنذاك بالإضافة إلى مستند أهل المدينة في ذلك على ما رووه عن عثمان رضي الله عنه وكذلك ما رأينا عن ابن عباس رضي الله عنهما فظهر من هذا كله مستند مشروعية الدعاء عقب ختم القرآن سواء على الإطلاق أو في التراويح مع بيان الكيفية عن أحمد رحمه الله .
وهي في مجموعها كافية لمثل هذا العمل بناء على أن ما كان مشروعا بأصله فهو جائز بوصفه فأصل الدعاء مشروع وكونه متصفا بصورة الختم لا تنفي مشروعيته ومثله القنوت والدعاء في الصلاة .
ومهما يكن من شيء فإن ما تقدم من عرض ما ورد عن السلف يكسب طمأنينة ويورث ارتياحا لمشروعية هذا العمل وأن فيه اقتداءً بسلف الأمصار الثلاثة البصرة ومكة والمدينة هذا هو مذهب أئمة أهل السنة والجماعة الحريصين على العمل بما صح نصاً أو وصل بعمل السلف جيل عن جيل .
وقد قال كثير من أهل العلم غير من تقدم بمشروعية الدعاء عقب ختم القران وأنه مرغوب فيه للأفراد والجماعات وحرروا أنه من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء.
قال الإمام النووي رحمه الله ( ويستحب الدعاء عند الختم استحباباً مؤكدا ) وهو المنصوص عليه في مذهب الشافعية والعمل جاري عليه في جميع الأمصار وعند جميع علماء الشافعية إليه ذهب الحنفية رحمهم الله كما في فتاوى ( قاضيخان ) من : استحسان الدعاء عقب الختم واليه استقر مذهب المالكية . قال القرطبي في التذكار واستحب متأخروا المالكية كذلك استحباب الدعاء عند الختم .وذكر ابن القيم في الوابل الصيب أن الدعاء عقب الختم من أكد مواطن الدعاء والإجابة وهذا ما ذهب إليه مشايخنا في العصر الحديث وفي مقدمة الجميع العالم الرباني القدوة بقية السلف الصالح عالم السنة النبوية مجتهد عصره ووحيد دهره وفريد مصره سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمة الله حيث أجاب عن سؤال عن حكم دعاء ختم القرآن فقال لم يزل السلف يختمون القران و يقرؤون دعاء الختمة في صلاة رمضان ولا نعلم في هذا نزاعا بينهم فالأقرب في مثل هذا انه يقرأ لكن لا يطول على الناس ويتحرى الدعوات المفيدة والجامعة مثل ما قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب جوامع الدعاء ويدع ما سوا ذلك فالأفضل للإمام في دعاء ختم القرآن والقنوت تحري الكلمات الجامعة وعدم التطويل على الناس يقرأ ( اللهم اهدنا فيمن هديت ) الذي ورد في حديث الحسن في القنوت ويزيد معه ما تيسر من الدعوات الطيبة كما زاد عمر رضي الله عنه ولا يتكلف ولا يطول على الناس ولا يشق عليهم وهكذا في دعاء ختم القرآن يدعو بما يتيسر من الدعوات الجامعة يبدأ ذلك بحمد الله والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام ويختم فيما تيسر من صلاة الليل أو في الوتر ولا يطول على الناس تطويلا يضرهم ويشق عليهم .
وهذا معروف عن السلف تلقاه الخلف عن السلف وهكذا كان مشايخنا مع تحريهم للسنة وعنا يتهم بها يفعلون ذلك تلقاه أخرهم عن أولهم ولا يخفى على أئمة الدعوة ممن يتحرى السنة أو يحرص عليها فالحاصل إن هذا لا بأس به إن شاء الله ولا حرج فيه بل هو مستحب لما فيه من تحري إجابة الدعاء بعد تلاوة كتاب الله عز وجل وكان أنس رضي الله عنه إذا أكمل القرآن جمع أهله ودعا في خارج الصلاة فهكذا في الصلاة فالباب واحد لأن الدعاء مشروع في الصلاة وخارجها وجنس الدعاء مما يشرع في الصلاة فليس بمستنكر ومعلوم أن الدعاء في الصلاة مطلوب عند قراءة أية العذاب وعند أية الرحمة يدعو الإنسان عندها كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل فهذا مثل ذلك مشروع بعد ختم القرآن وإنما الكلام إذا كان في داخل الصلاة أما في خارج الصلاة فلا أعلم نزاعا في أنه مستحب الدعاء بعد ختم القرآن لكن في الصلاة هو الذي حصل فيه الإثارة الآن والبحث فلا أعلم عن السلف أن أحدا أنكر هذا في داخل الصلاة كما أني لا أعلم أحدا أنكره خارج الصلاة هذا هو الذي يعتمد عليه في أنه أمر معلوم عند السلف قد درج عليه أولهم وآخرهم فمن قال أنه منكر فعليه الدليل وليس على من فعل ما فعله السلف وإنما إقامة الدليل على من أنكره وقال : إنه منكر أو انه بدعه هذا ما درج عليه سلف الأمة وساروا عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم وفيهم العلماء والأخيار والمحدثون وجنس الدعاء في الصلاة معروف من النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل فينبغي أن يكون هذا من جنس ذاك .
وعن موضع دعاء ختم القرآن وهل هو قبل الركوع أم بعد الركوع(/22)
قال رحمه الله : " الأفضل أن يكون بعد أن يكمل المعوذتين فإذا أكمل القرآن يدعو سواء في الركعة الأولى أو في الثاني أو في الأخيرة يعني بعد ما يكمل قراءة القرآن يبدأ في الدعاء بما يتيسر في أي وقت من الصلاة في الأولى منها أو في الوسط أو في أخر ركعة كل ذلك لا بأس به المهم أن يدعو عند قراءة آخر القرآن والسنة ألا يطول وأن يقتصر على جوامع الدعاء في القنوت وفي دعاء ختم القرآن وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع وقنت بعد الركوع والأكثر أنه قنت بعد الركوع ودعاء ختم القرآن من جنس القنوت قي الوتر لأن أسبابه الانتهاء من ختم القرآن والشيء عند وجود سببه يشرع فيه القنوت ووجود سببه هو الركعة الأخيرة بعد ما يركع وبعد ما يرفع من الركوع لفعل النبي عليه الصلاة والسلام0 وأسباب الدعاء في ختم القران هو نهاية القرآن لأنه نعمة عظيمة أنعم الله بها على العبد وهو إنهاء كتاب الله و إكماله فمن هذه النعمة أن يدعو الله أن ينفعه بهدى كتابه وأن يجعله من أهله وأن يعينه على ذكره وشكره وأن يصلح قلبه وعمله لأنه بعد عمل صالح كما يدعو في آخر الصلاة بعد نهايتها من دعوات عظيمة قبل أن يسلم بعد أن من الله عليه بإكمال الصلاة وإنهائها وهكذا في الوتر يدعو في القنوت بعد إنهاء الصلاة و إكمالها" .
وأما شيخنا العلامة الفقيه المجتهد محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فانه سئل عن الدليل على لفظ دعاء الختم وهل ورد فعله عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو هو بدعة محدثة فأجاب بما نصه :"لا أعلم لدعاء ختم القرآن في الصلاة أصلا صحيحا يعتمد عليه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم وغاية ما في ذلك ما كان أنس ابن مالك رضي الله عنه يفعله إذا أراد إنهاء القرآن من أنه كان يجمع أهله ويدعو لكنه لا يفعل هذا في صلاته ".
وأبا رحمه الله إطلاق البدعة على الدعاء فقال : " و أما إطلاق البدعة على هذه الختمة في الصلاة فإني لا أحب إطلاق ذلك عليها لان العلماء – علماء السنة – مختلفون فيها فلا ينبغي أن نعنف هذا التعنيف على ما قال بعض أهل السنة إنه من الأمور المستحبة لكن الأولى للإنسان أن يكون حريصاً على اتباع السنة "اهـ .
عمل الختم في الحرمين الشريفين
أما عمل الختم بالمسجد الحرام والمسجد النبوي اليوم فالواقع أن الحديث عنه شيق كيف لا والحديث في حد ذاته عن الختم في أي مكان حديث ممتع للروح ومنعش للنفس ومنبه للضمائر الإسلامية لارتباطه بالقرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
وإذا كان هذا الحديث يتعلق بالحرم الشريف والمسجد النبوي وفي الجوار الطاهر الكريم وفي شهر رمضان المعظم وفي آخر العشر الأواخر كان ذلك أعظم من أن يصور بحديث أو يقدم في موضوع ، ولكن نسوق للقارئ الكريم وصفاً عملياً بقدر ما يمكن تصويره من وحي الشعور به فنقول وبالله التوفيق :
يقع الختم في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي في شهر رمضان مرتين مرةً في صلاة التراويح وأخرى في صلاة القيام آخر الليل وذلك في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان في أول الليل وفي آخره وكان هذا إلى وقت قريب , لكن في هذه الأزمان وأواخر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز قد اقتصر الختم على مره واحده في أول الليل من صلاة التراويح في كل مسجد ، لأن أئمة الحرمين فضلوا في صلاة القيام في آخر الليل القراءة المرتلة في الصلاة وعدم التزام ثلاثة أجزاء تخفيفاً على الناس ومراعاة لأحوالهم واكتفاء بدعاء القنوت مع الوتر في آخر الليل .
ولعل في ذلك ارتباط وإن كان من غير قصد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن الكريم في رمضان كل سنةٍ مرة وفي السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين .
وفي هذه الليلة يقع الدعاء في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي في صلاة الجماعة ثلاث مرات : مرة في الختم في أول الليل ومرتين في الوتر في أول الليل وآخره مما يجعل تلك الليلة ليلة مشهودة عبادتها موصولة .
أما ختم التراويح الذي يكون في أول الليل فإنه إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين فيكون قد بقي من قراءة الختمة جزء (عمّ يتساءلون) ، وهو الجزء الأخير من المصحف الشريف وفي هذه الليلة يصلي الأئمة التراويح كلّها حتى يصلوا إلى نهاية القرآن وفي آخر ركعة من التراويح وعند الفراغ من قراءة سورة (قل أعوذ برب النّاس )في آخر ركعة من التراويح وقبل أن يركع الإمام يبدأ الدعاء بالختم يفتتحه بقوله : صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو ، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل و الإجمال تقديراً وتدبيراً إلى آخر ما يدعوا به ، وسيأتي نص ما أمكن تدوينه في نهاية هذا البحث إن شاء الله .(/23)
و يطيل أئمة الحرمين – حفظهم الله – القيام ويكثرون السؤال ويجتهدون في الابتهال و يظهرون من الخشوع والخضوع إلى الله ، ومن الإنابة والضراعة ما يحرك القلوب ويوقظ الشعور ويفتح الآفاق بالآمال ويطمع في رحمة الله وعظيم النوال لما يرد في الدعاء من نصوص مأثورة تجمع خيري الدنيا والآخرة وما علمنا منهم السجع المنهي عنه ، والتفصيل الممل ، والحمد لله ونفع بهم الإسلام والمسلمين إذ أنه لا يزيد الدعاء في الغالب على عشرين دقيقة .
فإذا فرغ من الدعاء ركع وأكمل صلاة الركعة الأخيرة من التسليمة الأخيرة والتي هي تمام العشرين ركعة ويسلم وهي نهاية التسليمة العاشرة وهذا عمل محفوظ عن السلف نقله الإمام أحمد عما شاهده وحضره في الحرم المكي في زمن التابعين وكان فيه أئمة يقتدى بهم وحريصون على السنة ولله الحمد ولم ينقل الإنكار عن أحد فيما نعلم .
ويترك الإمام الذي ختم القرآن الوتر إلى إمام آخر فيوتر ويقنت في الوتر ويدعوا هو أيضاً بدعاء القنوت المشهور الذي أوله : اللهم اهدنا فيمن هديت ...الخ ويزيد ما تيسر من الدعاء المأثور ولكنه يخفف وينزل عند رغبة الناس في الدعاء والإلحاح وحبهم التضرع في الحرمين لفضل الزمان والمكان .
ويحضر هذا الختم في أول الليل من المصلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً مما يماثل بهجة العيد .
وتطلق مباخر العود وتنثر أنواع العطور ويتبادل المصلون الدعوات والتباريك ببهجة وفرحة وغبطة تفوق الوصف ، ثم ينصرفون موفورو الرجاء والآمال في سعة فضل الله ورحمته فرحين بفضل الله ورحمته .
فإذا كان الثلث الأخير عاد إلى الحرمين خلق وفير من سكان المدينتين وممن يفدون إليهما بغية المشاركة وحضور الصلاة الأخيرة من صلاة الليل فيتكامل عدد كبير رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً.. ويفيض كل من المسجدين بالإجلال والوقار والهيبة والإكبار ينتظرون الأئمة فيأتي الإمام ويقوم فيصلي الأئمة كالمعتاد بالتناوب حيث يصلي أحدهما ثلاث تسليمات ويقوم الآخر فيصلي تسليمتين وركعات الوتر الثلاث ويقنت في الركعة الأخيرة منه , وإذا سلم من الوتر تسابق الناس إليه وإلى بعضهم البعض بأحر التهاني وخالص الدعاء وعظيم الرجاء في القبول وطلب العودة إلى تلك الفرصة الكريمة من كل عام . وهنا وقفة مع التاريخ الذي سردناه للتراويح في المسجدين المباركين , فقد سجل العلماء والمؤرخون وأصحاب الرحلات كالنابلسي وبن جبير وابن بطوطه و العياشي , صور الختم في الحرمين ودونوا ما يصاحب ذلك من احتفال هائل بإيقاد الشموع والمشاعل , ونثر الزهور والرياحين وضرب الفراقع والمقارع وإنشاء القصائد والابتهالات , وغير ذلك مما هو محدث لا يجوز فعله في العبادات , وتلك المظاهر أدخلها أهل البدع من المتصوفة أهل الدف والسماع والتوسع فيما ليس له أصل بل ربما كان مما لا يحبه الله ولا رسوله , وقد أزيلت هذه المظاهر بحمد الله بسبب سيطرة دعوة التوحيد على الجزيرة وقام ملوكها بمنع إقامة مثل تلك المظاهر التي ليس لها أصل في الشرع , بل هي من مظاهر المبتدعة الذين جعلوا الرقص والضرب بالدفوف من العبادات فادخلوها في المساجد ودور العبادة , وفي هذا الوقت وقد انقضى عهد الشموع بالكهرباء والثريات الكبريات , فان ليلة الختم في هذا العصر في الحرمين الشريفين أصبحت مقصد الكثيرين ومحط رحال المسافرين يفدون إليها من أطراف البلاد الإسلامية التماساً لبركاتها وتعرضاً لنفحاتها في الحرمين الشريفين وفي هذا الجوار العظيم حيث يتوفر لها فضل الزمان من شهر رمضان وفضل المكان من تضاعف الأعمال .
إن هناك عوامل تجعل ختم القرآن في الحرمين الشريفين في شهر رمضان تفيض عليهما روحاً ويفضي الله عليهما نورا ويكسوهما جمالا , ويكسبهما حلاوة ويزيدهما معنوية تفيض كلها على المصلين وجميع الحاضرين والمستمعين رحمات ورضوانا يجل قدرها عن الوصف , ويقصر دونها البيان , ولا يقدر قدره إلا من حضره .
وكيف يمكن وصف الحالات الروحية التي تشمل المكان كله وهي فوق حدود الوصف أو تقييم النفحات الربانية وهي أبعد من مقاييس التقييم حين تكتنف الحاضرين جميعا .
ومن يقدر على تصوير الأحاسيس النفسية والشعور العميق بالبهجة العظمى لختم القرآن في نهاية رمضان في روضات من الجنان ، إنها حالة يغيب الشعور فيها عن الوصف وتفقد فيها القدرة عن البيان ، فلا يسمع إلا أنات القلوب وزفرات الصدور ، ولا ترى إلا عبرات الباكين من أعين الخاشعين في أكف الضارعين .
صور تجل عن الوصف ندركها ولا نقدرها ونلمسها ولا نصورها فتبقى في إطار الذكرى ماثلة وفي حلقات التاريخ نيرة عطرة.(/24)
ولا ينتهي الأئمة من دعائهم ويفرغون من تضرعاتهم إلا وقد استشعر كل فرد في قرارة نفسه ببرد الطمأنينة ، وذاق حلاوة المناجاة وغسلت دموعه آثار آثامه ، وأحس بالارتياح وزاد بهجة وغبطة واهتز في إطار ما يكتنفه من شعور بجلال المقام وشرف الجوار وفضل المكان واسترجع بذاكرته عجلة التاريخ أربعة عشر قرناً يستعرض الماضي بعزته و إشراقته ويدرك سر القوة ومصدر الإشعاع الروحي من هّذين المكانين اللذين تنزل بهما جبريل عليه السلام كل ذلك في لمحات خاطفة وخطرات عابرة ثم يوتر الأئمة ويقنتون ، ويسلمون فيقبل المصلون بعضهم على بعض بالتهاني وصالح الدعوات متمنين العودة ومؤملين القبول ، نسأل الله تعالى أن يقبلنا معهم ويجعلنا وإياهم من عتقائه من النار .آمين .
بعض نصوص الدعاء التي يدعى بها عند ختم القرآن في الحرمين
الدعاء عند ختم القرآن في المسجد الحرام والمسجد النبوي في هذا الوقت الحاضر في التراويح وقد قدمنا التنبيه أنه لا توجد نصوص خاصة بذلك ولا معينة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ القرآن كله في الليالي التي صلاها أول الأمر بالمسلمين فلم يؤثر عنه دعاء في ذلك خاص بختم القرآن . – ولكن كما قال الإمام ابن دقيق العيد " ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه " أي أن الدعاء مشروع بأصله , وهو العبادة , وقال تعالى في أصل ذلك { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وحث صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في الدعاء في السجود بدون تحديد لا في الآية ولا في الحديث ومن هنا كان الأصل في الدعاء الإطلاق والعموم إلا ما جاء منصوصاً عليه كالدعاء في القنوت أو في أخر التشهد أو في أول الافتتاح في الصلاة وكذلك عند دخول المسجد وخروجه وغير ذلك فمثل هذا تكون السنة فيه التقيد بما ورد , وما عداه فهو على عمومة يجتهد الداعي بما تيسر له كما فعل صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وغيرها من الأماكن من اجتهاد في الدعاء وخشوعه وبكائه حتى رق له أبو بكر وقال له : كفى فإن الله منجز لك ما وعدك .
وهكذا في هذا العمل فهو موضع اجتهاد وقد تقدم عن أنس أنه كان يجمع أهله ويدعو ولم يعثر على نص معين , كما تقدم عموم لفظ فله دعوة مستجابة أي بعد ختم القرآن وصلاة فريضة على ما سبق بحثه .
ومن هنا لم يتقيد أحد بنص معين بل يتخير من الدعاء ما تيسر له وما يحقق له رغباته ويعبر عن حاجاته ومتطلباته , سواء من الأدعية العامة المأثورة من أدعية القران والسنة وهو الأفضل أو من غيرها , وتقدمت إجابة الإمام أحمد للسائل عن الدعاء في الختم فقال : ادع بما شئت . وقال شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز يختار من جوامع الدعاء ما تيسر ويراعي حال المأمومين ولا يطيل ويتجنب السجع المكروه .
وقد نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نصوصاً للدعاء في هذا العمل وهو دعاء جامع شامل وليس بالطويل المسهب ولا بالقصير الموجز , ولم يتقيد الأئمة في الحرمين بنص معين بل يدعون بما تيسر وجميع الأدعية من المأثور ولكنهم يفتتحون الدعاء بقولهم غلباً :
صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو , المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا , المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيرا , المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا , وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا , الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والأنس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة حيث أنزلت علينا خير كتبك و أرسلت إلينا أفضل رسلك وشرعت لنا أفضل شرائع دينك وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس وهديتنا لمعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك وبنيته على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام .
ولك الحمد على ما يسرته من صيام شهر رمضان وقيامة , وتلاوة كتابك العزيز الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وهذا كله ثناء على الله وتمجيد وتقديس ثم يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . ثم يبدأ بالدعاء فيقولون : اللهم إنا عبيد بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضائك .
نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القران العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا .
اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا , وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا .
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه , ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته .
اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ولا تجعنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده .(/25)
اللهم اجعلنا ممن اتبع القران فقاده إلى رضوانك والجنة ولا تجعلنا ممن اتبعه القران فزج في قفاه إلى النار , واجعلنا من أهل القران الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم , وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم واهدهم سبل السلام وأخرجهم من الظلمات إلى النور وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم وذرياتهم وأزواجهم أبداً ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لنعمك مثنين بها عليك و أتمها علينا وعليهم برحمتك يا ارحم الراحمين .
اللهم اغفر لجميع موتى المؤمنين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك . اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم و أغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غل للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم ) .
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم , ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك ومن النار .
اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا مريضا إلا شفيته وعافيته ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين .
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرانا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا , ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا .
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم .اهـ
هذا نص الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكن بعض الأئمة يزيدون فيه جملاً مناسبة منها :
اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما . اللهم انك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فلا تردنا خائبين اللهم اجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين اللهم إن رحمتك أوسع من ذنوبنا وعفوك أوسع من خطايانا اللهم هب المسيئين منا للمحسنين اللهم أنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك..
إلى مثل ذلك من العبارات التي تحرك القلب وتزكي الروح وهي أما دعوات مأثورة أو متأولة من الكتاب والسنة جزاهم الله خيرا وقبل منا ومنهم .
ثم يختمون الدعاء بنحو قولهم : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثم يركع ويكمل الركعتين , ثم يأتي بركعتي الشفع ثم بركعة الوتر ...
ولا يقام عمل ختم آخر نظراً لعدم تعدد الإمامة في الصلاة وإنما يجري ذلك كله في جماعة واحدة و في ليلة واحة من إمام واحد وهو الإمام الراتب .
هذا ما عليه وضع أئمة الحرمين الشريفين في ختم القرآن في عصرنا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل(/26)
استراحه نبويه
الحمد لله ، من علينا فهدانا ، وأطعمنا وسقانا ، وكل بلاء حسن أبلانا ، ومن بين جميع خلقه تفضل علينا فاصطفانا ، وجعلنا من أمة خير رسله ، وأفضل أنبيائه ، فعلى جميع الأمم فضلنا واجتبانا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلقنا فسوانا ، أرخى ستوره على عيوبنا ، ومن لباس التقوى كسانا ، ومن نعمه الغزار أسبغ علينا وأعطانا ، فنسأله بها أن يجعل جنات الفردوس منازلنا وملتقانا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ألف الله به بين القلوب ، ومحا بهديه الخطايا والذنوب ، فأمرنا بكل خير ، وعن كل شر حذرنا ونهانا ، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، الذين اعتصموا بسنته ، وترسموا طريقته ، وساروا على نهجه ، جمعنا الله بهم على السرر إخوانا . وسلم تسليما .
أما بعد ،،، فتقوى الله عباد الله هي الوصية الكبرى لمن رام الفلاح ، وسعى بجد في طريق الفلاح ، وأدرك يقينا أن الليل وإن طال ، واشتدت ظلمته ، فلا بد أن ينفجر الصباح ، وتشرقَ شمس الحق ، فيلقي عن كاهله أعباء الدنيا ، وفي جنة الخلد المقيل والمستراح . أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .
أيها المسلمون : ندلف اليوم إلى جنة السيرة النبوية ، نقطف من ثمراتها ، ونستنشق من شذاها . نروح القلب بذكر المصطفى ، والصلاة والسلام عليه ، ليتزود القلب في سعيه إلى الجنة ، فتستقصر النفس إدلاجها ومسراها .
إذ إن النفس متى تشوقت لشيء هانت في سبيل نيله الصعاب ، وتحملت من أجله المشقة والعذاب ، فكم قطع المسافرون إلى أهوائهم من الفيافي والقفار ، ومن أجل ما يشتهون تسابقوا إلى دار البوار ! فليت شعري كيف يفعل المحبون للحبيب المصطفى ؟ وكيف يهنأ لهم قرار ؟ وكيف يكون شعورهم إذا لقوه ، فسقاهم بيده من الحوض ، وشفع فيهم فأدخلوا الجنة مع السابقين والأبرار ، وهناك يجتمعون به ، وإخوانه من الأنبياء ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار . فلا يقف إكرامهم عند هذا ، بل يكشف عنهم الحجاب ، فيرون ما لا يمكن وصفه بالكلمات ، يرون وجه الرحمن ، تبارك وتعالى ،كما يرون القمر ليلة الإبدار ، نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا منهم .
معاشر المسلمين : إن دخول الجنة يستلزم سيرا على منهاج النبوة ، وترسما لتلك الخطى الخالدات على الصراط المستقيم .
وليست الأسوة في النبي صلى الله عليه وسلم في جانب واحد من حياته ، عليه الصلاة والسلام ، ولكنه أسوة شاملة في جميع مناحي الحياة ، على اختلاف مواقع أتباعه من أمته ،،،
فهو قدوة للحاكم وللمحكوم ، قدوة للعالم وللجاهل ، قدوة للمعلم والمتعلم ، قدوة في السلم ، وقدوة في الحرب ، قدوة في المنشط وفي المكره ، قدوة في الصغر ، وقدوة في الكبر ، صلى الله عليه وسلم .
فحري بأتباعه ، وكل من رام مرافقته في الجنة أن يعرف هديه ، ويتعرف إلى شمائله ، ويتعلم سنته ، ويتأمل أخلاقه .
ويكفي في وصف أخلاقه ما قالته زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فقد سألها سعد ابن هشام عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ومعنى هذا ، أنه صلى الله عليه وسلم مهما أمره به القرآن امتثله ، ومهما نهاه عنه تركه ، هذا ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصلية العظيمة ، التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون أجمل منها .
قال : فكان فيه من الحياء ، والكرم ، والشجاعة ، والحلم ، والصفح ، والرحمة ، وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحد ولا يمكن وصفه . اهـ .
ولما كانت حال المقتدين به كذلك فإنا نأتي اليوم على بعض جوانب من هديه صلى الله عليه وسلم فإنه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه لم يكن فاحشا ولا متفحشا ، ولا صخابا ، وكان جل ضحكه التبسم ، بل كل ضحكه التبسم ، وكان غاية تبسمه أن تبدو نواجذه . مع كونه صلى الله عليه وسلم طويل السكوت ، فلم يكن يتكلم في غير حاجة ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه .
وكان يمازح أصحابه ، ولا يقول إلا حقا ، فأسر بتلك الأريحية نفوسهم ، وسبى بها قلوبهم . واستمع قول جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه : ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي . أخرجه مسلم .
أيها الأحبة : لقد كان صلى الله عليه وسلم وسطا في مزاحه ، وفي تبسمه ، فلم يكن متجهما عبوسا ، ولم يكن ضحاكا مقهقها ، بل قد جاء عنه النهي عن كثرة الضحك ، فقال : وإياك والضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب . أخرجه الترمذي . وهذا مفيد للوسطية في أموره كلها ، عليه الصلاة والسلام . بل كان ضحكه طاعة لله جل وعلا ، إذ هو به يسعى إلى الترويح عن نفسه ، وعن أصحابه رضي الله عنهم ليستقبلوا ما جد من أمور دينهم ودنياهم بنفس منشرحة ، وقلب مقبل ، وسعادة غامرة ، وليعلم اليهود أن في ديننا فسحة .(/1)
ومن ذلك أن أحد أصحابه رضي الله عنهم قال له : أريد أن تحملني يا رسول الله على جمل . قال : لا أجد لك إلا ولد الناقة . فولى الرجل ، فدعاه ، وقال : وهل تلد الإبلَ إلا النوق ؟ ومعناه أن الجمل هو ولد الناقة الذي قال : إنه لا يجد له سواه .
وهذا يبين ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم بإعطاء كل ذي حق حقه . فلم يكن وقته كله مستغرقا في العبادة الجدية ، ولكنه يعدل من عبادة إلى أخرى يؤلف بها القلوب ، ويؤنس بها الأرواح حتى لا تمل ، يشحنها بالراحة هنيهة ، لتواصل المسير إلى الآخرة بانشراح .
ولهذا نقل العلماء ضحكه صلى الله عليه وسلم على أنه من سننه ، وهديه . كما نقلوا صمته ، وكلامه ، وبكاءه ، ومشيته ، ونومه ، وسائر أمور حياته ، بأبي هو وأمي ، صلى الله عليه وسلم .
وهذا من شمول سيرته لجميع شؤون حياته ، تفرد بها بين سائر من ترجمت حياتهم ، وسطرت سيرهم ، فكم كانت بعض جوانب تلك السير غامضة أو مجهولة ، حتى الأنبياء والمرسلين ، كم جهل الناس من حياتهم ، إلا هو عليه صلاة الله وسلامه ، فقد كان من فضل الله علينا ، أن سطرت لنا حياته كأنما ولد تحت المجهر ، لا تخفى منها خافية ، ثبت بهذا النقل نبوته ، وصدقه ، فوالله ما نقل فيها شيء خالف فيه قولَه فعلُه ، بل كانت سجلات حياته دليلا أضيف لدلائل كثيرة أثبتت أنه رسول الله ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وسلم .
فسبحان الله ، كيف رفع الله منزلته ، وأعلى قدره ، حتى تسابق الثقات ينقلون ضحكاته ويحفظونها ، فصار حتى في ضحكه عبرة وعظة ، يرويه الثقة عن الثقة .
أيها المحبون : لقد كان عليه الصلاة والسلام إذا سر استنار وجهه ، كأن وجهه قطعة قمر . رواه البخاري من حديث كعب رضي الله عنه .
وتقول عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا ، حتى أرى لهواته ، إنما كان يتبسم . أخرجه البخاري . قال ابن حجر رحمه الله : أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك ، بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك . اهـ .
ولكن قد جاءت أحاديث كثيرة تبين أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ، منها ما أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة . رجل يخرج من النار حبوا ، فيقول الله تبارك وتعالى له : اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول : يا رب ، وجدتها ملأى . فيقول الله تبارك وتعالى له : اذهب فادخل الجنة . قال : فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع ، فيقول : يا رب ، وجدتها ملأى . فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة ، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، أو إن لك عشرة أمثال الدنيا . قال : فيقول : أتسخر بي ، أو : أتضحك بي وأنت الملك ؟ قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه . قال : فكان يقال ذاك أدنى أهل الجنة منزلة . قال النووي : وفي هذا جواز الضحك ، وأنه ليس بمكروه في بعض المواطن ، ولا بمسقط للمروءة إذا لم يجاوز الحد المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال ، والله أعلم .
أيها المقتدون : ألا فاعلموا أنه لا منافاة بين حديث عائشة وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، فقد كان صلى الله عليه وسلم في جل أموره يتبسم ، وربما ضحك حتى تبدو نواجذه ، والنواجذ الأضراس . إلا أنه لم يكن قط يقهقه بصوت مرتفع . كما يفعله غالب الناس اليوم .
وقد تبين من مجموع الأحاديث أن ضحكه صلى الله عليه وسلم ومزاحه ، إنما كان تعبدا لله ، يتعجب أحيانا ، ويضحك تصديقا ، ويضحك إيناسا ، ولهذا ورد عنه عليه الصلاة والسلام قوله : من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك ، سره الله عز وجل يوم القيامة . رواه الطبراني بإسناد حسن . وخرج أيضا من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعا : أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن . كسوت عورته ، أو أشبعت جوعته ، أو قضيت له حاجته .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق . أخرجه مسلم .
وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : تبسمك في وجه أخيك لك صدقة . الحديث ، أخرجه الترمذي ، وصححه الألباني .(/2)
فهكذا جاءت الأخبار النبوية حاثة على التبسم وطلاقة الوجه ، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تبسما ، وضحكا في وجوه أصحابه ، وتعجبا مما تحدثوا به ، وخلطا لنفسه بهم ، ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه . أخرجه الترمذي في الشمائل . وفي الصحيحين من حديث علي : يضحك مما تضحكون منه ، ويتعجب مما تعجبون منه . وفي مسلم من حديث جابر بن سمرة : كانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ، ويتبسم . وكان يوما يحدث أصحابه ، وعنده رجل من أهل البادية ، أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع ، فقال له : ألست فيما شئت ؟ قال : بلى ، ولكن أحب أن أزرع . قال : فبذر ، فبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده ، فكان أمثال الجبال ، فيقول الله : ودنك يا ابن آدم ، فإنه لا يشبعك شيء . فقال الأعرابي : والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا ، فإنهم أصحاب زرع . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم . قال الترمذي : كان ضحك أصحابه عنده التبسم ، اقتداء به وتوقيرا له .
أيها المسلمون : إن طلاقة الوجه ، والتبسم في وجوه أصحاب المرء تورث المحبة ، وتبعث الاطمئنان في قلوبهم ، وتنشر الألفة في مجالسهم ، وتعين على نصحهم وتوجيههم ، وتؤلف بين قلوبهم ، وتحقق قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة . وتطبق أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : وكونوا عباد الله إخوانا . فتبسم أيها الحبيب لترضي ربك ، ولتقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم . واعلم أخي الحبيب أنك لن تسع الناس بمالك ، فليسعهم منك طلاقة الوجه ، وحسن البشر . قال الحسن البصري رحمه الله : حقيقة حسن الخلق بذل المعروف ، وكف الأذى ، وطلاقة الوجه . ورواه الترمذي عن عبدالله بن المبارك . وعن عروة بن الزبير قال : مكتوب في الحكمة : ليكن وجهك بسطا ، وكلمتك طيبة ، تكن أحب إلى الناس من الذي يعطيهم العطاء . وتأمل هذه القصة فإن فيها عجبا ، قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، فأرسلني ذات يوم لحاجة ، فقلت : والله لا أذهب ، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق ، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي ، قال : فنظرت إليه وهو يضحك ، فقال : يا أنيس ، أذهبت حيث أمرتك ؟ قال : قلت : نعم ، أنا ذاهب يا رسول الله . أخرجه مسلم .
وصدق الله إذ أثنى عليه فقال : وإنك لعلى خلق عظيم . فما أعظم خلقه ، وما أحسنه ، كيف لا ؟ وهو القائل : إن من خياركم أحسنكم أخلاقا . أخرجاه . فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا .
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله ، بعث إلينا محمدا ، وجعلنا من أمته ، أعلى الناس رأسا ، وخيرهم سؤددا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تعالى جده ، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا . أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دل أمته إلى كل خير فأرشدا ، وبين المحجة للسالكين ، فمن أعرض عنها ضل السبيل ، ومن سلكها فاز واهتدى ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، تفرقت على أيدهم ظلمات الضلال ، وأشرقت بجهادهم شمس الهدى ، وسلم تسليما .
أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، واجعلوا من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم نبراسا يقودكم للنجاة ، ويوصلكم بر الأمان ، فإن أمواج الضلال تزخر في عالمنا اليوم أشد وطأ من أمواج البحار والمحيطات ، ورياح الفتن هائجة أشد من هيجان الأعاصير العاتيات . وليس من عاصم يعصم المرء منها إلا أن يلجأ إلى السفينة فثم النجاة ، تلك السفينة التي صنعها نوح عليه السلام ، وورثها من بعده إخوانه النبيون ، ومن ورث علمهم من العلماء الربانيين ، فاستمع لنوح يتوسل ابنه : يا بني اركب معنا ، ولا تكن مع الكافرين ، وظن المفتون أن الجبال الراسيات تعصمه من خالق الأرض والسموات ،قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم .
فيا مسلم ، يا عبد الله ، دونك سفينة النجاة فاركب مع الناجين ، واسلك سبيل الفائزين ، وكن مع الوارثين ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .(/3)
إخوة الدين والعقيدة : إن وراثة الفردوس لا تكتب إلا لمن ورث من نبيه صلى الله عليه وسلم هديه وسمته وأخلاقه ، وترسم طريقه فسار عليها ، وتمسك بسنته فعمل بها ، فخاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، وبحبل الله اعتصم ، فكان له ورده من الليل ، وحظه من الصيام ، وفوق كل ذلك حظه من حسن الخلق ، فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقا . أخرجه ابن ماجة . وعند أبي داود وابن حبان ، من حديث عائشة مرفوعا : إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم . وقفوا عند هذا الحديث العجيب ، روى الإمام أحمد عن علي بن ربيعة قال : شهدت عليا أنه كان إذا ركب الدابة قال : بسم الله – ثلاثا – فإذا استوى على ظهرها قال : الحمد لله ، ثم قرأ { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } ثم قال : الحمد لله – ثلاثا – والله أكبر – ثلاثا – سبحانك إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك . قلت : من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، ثم ضحك ، فقلت : من أي شيء ضحكت يا رسول الله ؟ قال : إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .
فاتقوا الله عباد الله ، ويسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .
وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، وشفيعكم بين يدي العلي الكبير ، إن الله وملائكته يصلون على النبي ....(/4)
استشهاد الإمام علي بن أبي طالب التحرير*
هو علي بن أبي طالب، أبوه هو عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: عبد مناف ابن عبد المطلب، وأمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أسلمت وهاجرت. يكنَّى أبا الحسن وأبا تراب، أسلم وهو ابن سبع سنين، وشهد المشاهد كلها، لم يتخلف إلا في غزوة تبوك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلَّفه في أهله.
تزوَّج السيدة فاطمة ريحانة رسول الله، وسيدة نساء الجنة، وكان له منها أحفاد رسول الله: الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم.
محبة الله ورسوله
عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله عليه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، قال: فبات الناس يذكرون أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال:" أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: يا رسول الله، يشتكي عينه، قال:" فأرسلوا إليه"، فأُتِي به فبصق رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: "انفذ على رِسْلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم". رواه أحمد.
ذكر إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي الله عنه -:
عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: خلّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي" أُخرج في الصحيحين.
ذكر جُمَل من مناقبه
عن أبي صالح قال: قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة: صف لي عليًّا، فقال: أوتعفيني؟ قال: بل صفه، قال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذن فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وينطق بالحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جَشُب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ولا نبتديه لعظمه، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا، أَبِي تعرّضت، أم لي تَشوّفت؟ هيهات هيهات، غُريّ غيري، قد باينتك ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق.
قال: فذرفت دموع معاوية - رضي الله عنه - حتى خرت على لحيته، فما يملكها وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.
كلمات من مواعظه
عن عبد خير عن علي -كرم الله وجهه- قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنوبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يقلّ عمل في تقوى، وكيف يقلّ ما يُتقبل؟!
وعن مهاجر بن عمير قال: قال علي بن أبي طالب: إن أخوف ما أخاف اتباع الهوى وطول الأمل: فأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحَّلت مدبرة، ألا وإن الآخرة قد ترحَّلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.
وعن عاصم بن ضمرة عن علي –رضي الله عنه-قال: ألا إن الفقيه الذي لا يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولا يؤمِّنهم من عذاب الله، ولا يُرخِّص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدّبر فيها.(/1)
وعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- أنه قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانتفاعي بكتاب كتب به إليَّ عليُّ بن طالب، فإنه كتب إليَّ: أما بعد.. فإن المرء يسؤوه فوْت ما لم يكن ليدركه، ويسرّه درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تُكثرن به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنًا، وليكن همك فيما بعد الموت".
وقد كان -كرم الله وجهه- أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد شهد بيعة الرضوان، وقد قال الله تعالى عمن شهد هذه البيعة: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ".
ارتقائه منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
عن أبي مريم عن علي -رضي الله عنه- قال: انطلقت أنا والنبي –عليه الصلاة والسلام- حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اجلس". وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل، وجلس لي نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال لي: "اصعد على منكبي"، فصعدت على منكبيه قال: فنهض بي فإنه ليخيل إليّ أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صُفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى استمكنت منه قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقذف به"، فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس (رواه أحمد).
بطولته وشجاعته
كان من أعظم وأشجع الأبطال الذين عرفهم الإسلام، لقد كان لا يهاب الموت، ولا يهاب عدوًَّا أيًّا كان ذلك العدو، وقد كان له دستور ينتهجه في حياته، وكان دائمًا يتمثله في بيتين من الشعر:
أيَّ يوميَّ من الموت أفر يوم لا قُدِّرَ أم يوم قُدِرْ
يوم لا قُدِّرَ لا أرهبُه ومن المقدورِ لا يُغني الحَذَرْ
وقد ظهرت شجاعته وبراعته في القتال والمنازلة بصورة جلية في غزوة بدر حين خرج هو وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث، وبارزوا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة وابنه الوليد.
وفي غزوة أحد أبدع في المبارزة والنزال، وأيضًا في غزوة الخندق خرج من صفوف الكفار عمرو بن ود، وصرخ: من يبارز؟ فتردَّد الصحابة، ولكن عليًّا قال للرسول – صلى الله عليه وسلم-: أنا له يا رسول الله، فدار بينهما صراع عنيف دامٍ، كان لعلي – كرم الله وجهه - النصر فيه. وفي يوم خيبر كان له النصر، وفتحها الله على يديه - رضي الله عنه -.
استشهاده
ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان، وغسّله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وصلَّى عليه ابنه الحسن، ودُفِن في السحر وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وعن أبي أراكة قال: صليت مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - صلاة الفجر، فلما سلّم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال وقلب يده: لقد رأيت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما أرى اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثًا صفرًا غُبرًا بين أعينهم أمثال وَكِيب المُعَزّى، قد باتوا سُجّدًا وقيامًا يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله، مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين، ثم نهض فما رُئي يضحك حتى ضربه ابن مُلجم.
رضي الله تعالى عنه وأرضاه(/2)
استصحاب الطلاق المعلّق إلى زواج آخرٍ
السؤال:
حلف على زوجته بالطلاق ألا يوصلها ، و أن لا يذهب معها إلى دارٍ بعينها ، ثم طلقها فعلاً ، و لكن لأسباب أخرى ، و بانت منه بينونة كُبرى فهل لو تزوجها مرة أخرى يظل هذا اليمين سارياً على الزواج الجديد ، أم لا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الطلاق حلٌّ لعُرى الزوجيّة و روابِطها بالكامل ، فإذا طُلّقت المرأةُ طلاقاً بائناً ، و خَرجت من العدّة ؛ فقد خَرَجت من عِصمة زوجها ، و لا يحلّ لها أن تعود إلى عصمته إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً لا حيلةَ فيه ، فإذا طَلَّقَها الزوج الآخر ، و انقَضَت عِدّتها ، فلها و لِزَوجها الأوّل أن يتزوّجا من جديدٍ ، بمهرٍ و عَقدٍ جديدَين .
و قد فرّق بعضُ العلماء بين ما إذا كانت بينونة المرأة من زوجها بانقضاء العدّة بعد طلقةٍ أو طلقتين ، أو كانت بثلاث تطليقاتٍ بائنة ، و قد أحسن الإمام القرطبي رحمه الله ، في عَرض أقوال أهل العِلم في المسألة عند تفسير قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 230 ] ، فقال رحمه الله :
قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَهَا ) يريد الزوج الثاني ، ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) أي المرأة و الزوج الأول , قاله ابن عباس , و لا خلاف فيه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحُرَّ إذا طلق زوجته ثلاثاً ، ثم انقضت عدتها و نكحت زوجاً آخر و دخل بها ثم فارقها و انقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات .
واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقةً أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول , فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها , و كذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم … و به قال عبيدة السلماني و سعيد بن المسيب و الحسن البصري و مالك و سفيان الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و محمد بن الحسن و ابن نصر .
و فيه قول ثانٍ ، و هو ( أن النكاح جديد و الطلاق جديد ) … و به قال عطاء و النخعي و شُريح و النعمان و يعقوب .
… و فيه قول ثالث ، و هو : إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد و نكاح جديد , و إن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي , هذا قول إبراهيم النخعي .انتهى من تفسير القرطبي .
قلتُ : و الأرجح مذهب الجمهور ( مالك و الشافعي و أحمد و محمّد بن الحسن من الحنفيّة و من وافقهم ) في أنَّ المرأةَ إذا طُلّقت طلقةً أو طَلقَتَين ، ثم خَرجت من عِصمة الزوج الأوّل بانقضاء العدّة ، فتزوّجت غيرَه ، ثمّ طلّقت ثانيةً و عادت إلى عِصمة الأوّل ، فإنّها تعود مطلّقةً طلقةًًً أو طلقَتَين ، على ما كانت عليه قبل بينونتها الأولى ، فإن طلَّقَها طلقةً واحدةً فهي ثالثةٌ في حَقّها ، و تخرج بها من عِصمته .
و على هذا يُقاس الطلاق المُعلَّق ، فلو علَّقَ طلاقَها على فِعلٍ معيَّن ، ثمّ خَرَجتْ من عصمته بانقضاء العدّة من أقلّ من ثلاث طلقات ، ثم عادت إلى عصمته بعد زواجٍ و طلاقٍ آخَرَين ، فليحذرا من إيقاع الفِعل الذي عُلّق عليه الطلاق في الزواج الأوّل ، لأنّ في وُقوعه إيقاعٌ للطلاق ، و الله أعلَم .
أمّا إن كان خُروجُها من عِصمة الزوج الأوّل بسبب طلاقها ثلاثاً ، فإنّ عودتها إلى عِصمته ، بعد زواجها و طلاقها من الزوج الآخَر ، يُعَدُّ زواجاً جديداً له شروطه و أحكامه ، و كلّ ما كان في الزواج الأوّل قبل الطلاق ( من مهر و عقدٍ و تعليقٍ للطلاق بالفعل أو الزَمَن ، و نحو ذلك ) يعتبرُ لاغياً ، و على الزوجين أن يستأنِفا حياتهما الزوجيّة من جديد ، و بالله التوفيق .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين(/1)
استضعاف الدين..واستنبات التطرف
جمال سلطان 25/9/1425
08/11/2004
في مصر الآن ضجة بسبب تهور أحد المشتغلين بمجال الفن التليفزيوني تحديدًا، وهجومه الجارح على أحد الصحابة ودخوله شريكاً في جدل تاريخي ليس من أهله ولا من خبرائه، وصاحب هذا الهجوم الجارح على شخصية إسلامية تاريخية لها هذه الحساسية -وهو يدرك أن لها هذه الحساسية- صدر من شخص يعمل "كاتب سيناريو" لأفلام ومسلسلات تليفزيونية، معظمها يتصل بتاريخ الراقصات والبغايا وبعض الشأن السياسي، وكان من الحمق والاندفاع إلى حد تكرار الهجوم والسباب عبر أكثر من منبر بعضها صحافي وبعضها تليفزيوني، حتى إن البعض لاحظ أنه كلما وجد ردود الفعل عليه عنيفة وقاسية كلما زاد حبوره وابتهاجه وأوغل في حمقه وابتذاله. تأملت هذه الحالة الغريبة، أو التي كنت أظنها غريبة، ثم سريعاً أفقت على حقيقة أن هذه -مع الأسف- أصبحت ظاهرة عامة، في العالم العربي، وهي جزء مما يمكن وصفه باستضعاف الدين وأهله، وذلك أن مثل هذا السباب المشين الذي أطلقه هذا الشخص لا يمكن له أن يطلقه على حاكم بلده مثلاً أو شخصية لها خطرها وأهميتها فيه، لأنه يعلم أن في ذلك قطع رقاب أو -على الأقل- قطع أسباب العيش عنه وعن ذريته إلى أبعد حفيد، هو يعلم ذلك، ويعلم أنه لو فعل ذلك مع مسؤول الإعلام في بلده، وليس الحاكم، لتحولت كتاباته في الفن إلى أقرب صندوق للقمامة، ولما وجدت طريقها أبداً إلى التليفزيون أو جهات الانتاج، وقد ذاق الرجل شيئاً من ذلك العذاب المضني لأي مشتغل في قطاع الفن، في السنوات الماضية، عندما أعلن عن موقفه الداعم للطاغية العراقي صدام حسين، أيام غزوه للكويت، فما كان منه إلا أن كال السباب المسف للخليج وأهله، فعاقبته جهات كثيرة بالطريقة المعهودة، وهي منع قبول أي انتاج يكون هو مشاركاً فيه، وبالتالي امتنعت جهات الإنتاج في مصر وغيرها عن قبول أعماله، لأنها تعلم أنها لن تبيع شيئاً وستكون خسارتها فادحة، فقطعت أسباب كثيرة لعيشه الرغيد الذي تقلب فيه مع النخبة المترفة، خاصة وقد نسي أوقات الحرمان والعذاب بعد أن انتقل من مدرس لرياض الأطفال متواضع المكانة والدخل إلى كاتب سيناريو كبير يتقلب في النعيم والرفاهية، وهذا الموقف زاده هوساً وحمقاً، فتحول بسبابه وهجائه إلى الصحابة، لأنه اعتبرهم " خلايجة " ! - مواطنين خليجيين - وبالتالي فهم في مرمى سبابه وتصفية حسابه مع الجميع، هذا بالإضافة إلى خرافات أخرى أقدم عليها عندما هاجم شعائر الإسلام والحجاب والنقاب واللحى والالتزام بالهدي والسنن، واعتبر ذلك غزواً بدوياً لمصر، وبطبيعة الحال يجد له في ما يقوله بعض الأنصار من هنا وهناك ممن يتربصون شراً بكل ما يتصل بهذه الأمة من تاريخ أو دين أو هوية أو كرامة، الأمر الذي يشجعه على مزيد من الحمق والاندفاع، ولكن الذي تحار فيه ويحار فيه العقلاء أن كثيراً من هذه المنابر التي تتضامن معه وتدافع عنه هي مؤسسات رسمية تنفق عليها الدولة من أموال الناس، سواء كانت منابر إعلامية صحافية أو إذاعية أو كانت منابر ثقافية، وهو الأمر الذي يعطي الانطباع - الذي قد يكون خاطئاً - بأن هناك دعما رسميا لمثل هذا الهجوم على الدين وأهله، وخطورة هذه المسألة أنها تمنح أجيالاً جديدة من الشباب الانطباع بأن الدولة ضد الدين، بكل ما تحمله هذه المعاني من خطورة كبيرة على وعي هؤلاء الشباب وتحولهم المؤكد إلى التطرف وربما العنف من ورائه، ثم تدور الدوائر وتشتبك الأطراف ويكثر الجدل وتضيع المسائل وتغيب وسط هذا كله الحقيقة الأساسية، وإذا ذهبت تبحث في أصولها ومنابتها، تجد أن صناعة التطرف واستنباته، لم تكن في خطب المشايخ أو دروس العلماء أو مناهج المعاهد الدينية، كما زعم الأمريكان ورجالهم هنا، وإنما جذور التطرف وميلاده كانت عبر كتابات بذيئة مثل هذه الكتابات التي نشير إليها، واستضعاف مهين للدين وأهله ومقدساته، وغفلة ليست بريئة من الدولة ومؤسساتها الرسمية أعطت الانطباع بأن الدين مستهدف وأن هناك توجهاً رسمياً لإهانة الدين وتحطيم مكانته في نفوس الناس، إنها ليست بطولة على الإطلاق أن تهاجم الدين ومقدساته وتهين أهله بالتوازي مع الهجمة الأمريكية على الإسلام ورموزه ومقدساته وأهله، ليست هذه بطولة أبداً؛ بل هي لون من الخسة والنذالة، وادعاء البطولة والشجاعة حيث لا بطولة ولا شجاعة، وإنما هو ركوب للموجة، واستضعاف للدين في أوقات محنته ومحنة أهله، نأمل أن يتضامن كل العقلاء في هذه الأمة، ومن كل تياراتها، لوقف هذه الموجة من الابتذال والانتهازية والنذالة، لأن عواقبها بالغة الخطورة، وهي نوع من اللعب بالنار، في وقت نرى بأعيننا الحرائق من حولنا في كل مكان من أرض الله .(/1)
استعادة العضو المقطوع في الحد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الحدود/مسائل متفرقة
التاريخ ... 29/07/1427هـ
السؤال
نعلم حديثا أنه أمكن وصل اليد المقطوعة بشكل جراحي سواء أكانت يده الأصلية أم يد متبرع آخر فهل يجوز السماح لمن أقيم عليه حد السرقة بقطع اليد أن يأخذ يده المقطوعة ويقوم بإعادة وصلها جراحياً على نفقته الخاصة.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا الموضوع مبني على مسألة (زراعة الأعضاء) في الإنسان المريض رجلاً كان أو امرأة، وهي مسألة حادثة في هذا العصر، لم تعرف عند السلف؛ ولهذا اختلف العلماء المعاصرون فيها بين مؤيد ومعارض، فعقدت لها الندوات والمؤتمرات العلمية، ونوقشت كثيراً في المجامع الفقهية ودور الإفتاء.
ولعل منشأ البحث في المسألة تحديدا: هل يجوز للمسلم أن يتبرع لأحد بعضو من جسمه، وهل لأوليائه أن يتبرعوا ببعض أعضائه بعد موته؟
قد يبدو لأول وهلة المنع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه وجسمه، وبالتالي فأولياؤه كذلك؛ لأن الله هو المالك الحقيقي.
ولكن عند النظر والتأمل نجد أن جسم الإنسان -وإن كان وديعة من الله عند أهله– غير أنه يجوز للإنسان التصرف به لما يصلحه من تطبيب وعلاج، وقد أمر الله بذلك على لسان رسوله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام". أخرجه أبو داود (3874). وأباح الله لعبده التصرف بالمال، مع أن المال مال الله استخلف الإنسان فيه فقال: "... وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ...." [الحديد:7]. وقال: "وَآتُوهُم مِن مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ" [النور:33].
فإذا جاز تصرف الإنسان للمصلحة بماله الذي نص الله بأنه مستخلف فيه حقيقة، فجواز تصرفه ببعض أعضاء بدنه مما لم ينص عليه من باب أولى.
وأيضاً فإن الإسلام أمر بالصدقة والإحسان إلى الغير، ولم يقصر ذلك على المال فقط، بل بيّن الأدنى فقط؛ ففي الحديث: "تبسمك في وجه أخيك صدقة...وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة.... وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" أخرجه الترمذي (1956) وغيره.
أفتكون إزالة الأذى عن طريق أخيك المسلم، أو تبسمك في وجهه صدقة أعظم من أن تراه أو تعلمه يتضور من الألم ويكاد يموت، وهو بحاجة ماسة إلى قطرة دم أو عضو من أعضائك يحيا به ولا يضرك، وأنت قادر على نفعه، فلا تفعل، وتكتفي بالبشاشة في وجهه!!؟ إن هذا الفعل والله لهو السفه والجهول بعينه، وإن تزيّى بزي العلم والفقه.
وإضافة لما سبق فإن التبرع بالأعضاء لا يقتضي جواز بيعها؛ لأن البيع في عرف الفقهاء هو مبادلة مال بمال. وبدن الإنسان ليس مالاً حتى يدخل في المعاوضة والمساومة، بل هو أشرف من المال؛ فالمال خادم والبدن مخدوم. ولكن لما ضعف وازع الدين والضمير راجت تجارة بيع أعضاء الإنسان بسوق أشبه ما يكون بسوق النخاسة. تباع فيه أعضاء الفقراء والمساكين لحساب الأغنياء. غير أن بذل المنتفع بالعضو لمن تبرع به مبلغاً من المال كهدية أو مساعدة على بذله المعروف دون مشارطة أو مساومة –لكان حسناً- وهذا أشبه ما يكون بالمكافأة والإحسان من المقترض للمقرض، وهو من مكارم الأخلاق، كما يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "إن خياركم أحسنكم قضاء". صحيح البخاري (2305)، صحيح مسلم (1601).
وفي الأثر: "خير الناس أنفعهم للناس" صحيح الجامع (3289). ويقول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "يا سبحان الله ما أزهد أكثر الناس في الخير، يجيء المسلم أخاه المسلم في الحاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلا يقضيها له –إن كان قادراً- ولو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق؛ فإنها تدل على سبيل النجاح".(/1)
وما قد يظهر منه منع التبرع ببعض الأعضاء، كحديث: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" أخرجه أبو داود (3207)، وابن ماجه (1616)،(1617)، وغيرهما. يجاب عنه بأن أخذ العضو من جسم الميت لا ينافي حرمته وتعظيمه؛ فهو يؤخذ من جسم الميت بعناية في عملية جراحية كما لو كان حيًّا، وحينئذ لا يعتبر هذا تمثيلاً أو تشويهاً أو إهانة، بل الإنسان بعد موته ليس لديه أهلية تملك، فإن ماله ينتقل إلى ورثته، وقد جعل الله لأولياء المقتول: القصاص أو العفو أو أخذ الدية أو بعضها في قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة:179]. وقوله "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" [البقرة:178]. فبمجرد حصول القتل ينتقل حق القتيل من قاتله في الدنيا إلى أولياء المقتول؛ يتصرفون في حق ميتهم بما يرونه مصلحة لهم وله على السواء، والمصلحة الدينية والدنيوية إذا كانت متعدية ونفعها عامًّا هي أعظم عند الله وعند خلقه.
وعلى هذا فإن التبرع بالعضو جائز سواء كان في الحياة أو بعد الموت بوصية منه، أو تصرف من أوليائه بعد وفاته.
وإذا كان الأمر كذلك فإن إعادة العضو المقطوع في حد شرعي كاليد المقطوعة في السرقة، تجوز ما دامت ممكنة بعملية جراحية، سواء كانت يد صاحبها أو غيره؛ لأن قصد الشارع من إقامة الحد على السارق أن ينكل به فلا يعود بعد أن أحس بألم القطع، وظهرت لعامة الناس بسببه العظة والعبرة: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [المائدة:38]. والشارع الحكيم لا يتشوف أبداً إلى التشنيع أو التشهير قبل الحدث أو بعده، وإنما أجاز مشاهدة إقامة الحد فقط "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [النور:2].
والحدود الشرعية مطهرات لأصحابها، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما سمع قائلاً يقول لشارب خمر أقيم عليه الحد: أخزاك الله. قال: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان" صحيح البخاري (6777).
ولما سب أحد الصحابة الغامدية –رضي الله عنها- لما أقيم عليها حد الرجم، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له". صحيح مسلم (1695).
ومن رحمة الله أن جعل الحدود كفارة لأصحابها، ففي حديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- عند البخاري (3892): "ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه".
ولا يسعى أو يستشرف الإسلام إلى التشهير وهو يجد للستر على المذنب منفذاً، ففي الحديث الصحيح: "من أصاب من هذه القاذورات –الذنوب- شيئاً، فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله". الموطأ (1299)، صحيح الجامع (149).
وإذا كان الشارع الحكيم لا يحب التشهير ولا الإشاعة التي تنتج ضرراً فإنما يكتفي بالحد المقرر للذنب، ولا يجوز تجاوزه –إذا كان الأمر كذلك -فإن إعادة اليد المقطوعة في السرقة جائز شرعاً؛ لحصول الحد المقرر والحكمة منه "نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [المائدة:38].
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة المذكورة في السؤال، وهي من النوازل والمستجدات في هذا العصر. فإن وفقت فمن الله وإلا فمن نفسي والشيطان. والله أعلم.(/2)
استعلاء الإيمان
يتناول الدرس مصدر عزة المؤمن وهو الإيمان الذي يستعلي به على كل صنوف الأذى والشهوات والمغريات والطواغيت ، ثم ذكر نماذج من الرعيل الأول على عزتهم وترفعهم على الباطل، واستعلائهم بمنهجهم الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
}وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]][سورة آل عمران].
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال..ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة، بكل ملابساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن، وتصوره، وتقديره للأشياء والأحداث، والقيم والأشخاص سواء .
إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء، وكل وضع، وكل قيمة، وكل أحد:
الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان .
الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان .
وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان .
وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان .
وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان .
وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء .. مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفقر المال، كالاستعلاء مع القو والكثرة، والغنى على السواء .
الاستعلاء.. الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية، ولا عرف اجتماعي، ولا تشريع باطل، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان .. وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة، ولا نخوة دافعة، ولا حماسة فائرة، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود . الحق الباقي وراء منطق القوة، وتصور البيئة، واصطلاح المجتمع، وتعارف الناس؛ لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل .. على من ليس يحتمي منه بركن ركين، وعلى من يواجهه بلا سند متين .
وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار، والاستمداد من مصدر أعلى وأكبر وأقوى .
والذي يقف في وجه المجتمع، ومنطقه السائد، وعرفه العام، وقيمه واعتباراته، وأفكاره وتصوراته، وانحرافاته ونزواته .. يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس، وأثبت من الأرض، وأكرم من الحياة .
والله لا يترك المؤمن وحيداً يواجه الضغط، وينوء به الثقل، ويهده الوهن والحزن، ومن ثم يجيء هذا التوجيه: }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139] {'سورة آل عمران'.
يجيء هذا التوجيه؛ ليواجه الوهن كما يواجه الحزن.. وهما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام . . يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات، والاستعلاء الذي ينظر من عَلٍ إلى القوة الطاغية، والقيم السائدة، والتصورات الشائعة، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات، والجماهير المتجمعة على الضلال .
إن المؤمن هو الأعلى سنداً ومصدراً .. فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس؟ وهو مِنْ الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير؟
وهو الأعلى إدراكاً وتصوراً لحقيقة الوجود .. فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة، وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة .. حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات؛ تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجلى قط . وما من شك أن الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك .
وهو الأعلى تصوراً للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله بصفاته كما جاء بها الإسلام، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير . هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصوراً للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم . ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد . بل في الأمة الواحدة . بل في النفس الواحدة من حين إلى حين .(/1)
وهو الأعلى ضميراً وشعوراً، وخلقاً وسلوكاً .. فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى، والعمل الصالح والخلافة الراشدة . فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة . الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعاً . ويطمئن إليه ضمير المؤمن - ولو خرج من الدنيا بغير نصيب-.
وهو الأعلى شريعة ونظاماً . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديماً وحديثاً، ويقيسه إلى شريعته ونظامه، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عَلٍ في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
وهكذا كان المسلمون الأوائل: كانوا يقفون أمام المظاهر الجوفاء، والقوى المنتفخة، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية .. والجاهلية ليست فترة من الزمان، وإنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء .
Eوهكذا وقف المغيرة بن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور: فعن أبي عثمان النهدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا من شارتهم تقوية لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة - والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة - لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي على غلوة، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فترتروه وأنزاوه ومغثوه- أي:صرعوه- فقال: [ كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه ، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى . وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، فلا تصنعه، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون، وأن مُلْكَاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول .
E كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية: أرسل سعدُ بن أبي وقاص قبل القادسية ربعيَّ بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: [ إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت] فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال رستم : ما جاء بكم ؟ فقال: [ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] .
وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى وينظر إلى غالبه من عَلٍ ما دام مؤمناً، ويستيقن أنها فترة وتمضي، وإن للإيمان كرة لا مفر منها . وهبها كانت القاضية؛ فإنه لا يحني لها رأساً:
E إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد . وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة، وغالبه يغادرها إلى النار .. وشتان شتان، وهو يسمع نداء ربه الكريم:
}لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[197]لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ[198]{ 'سورة آل عمران' .
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عَلٍ في كرامة واعتزاز، وفي رحمة كذلك وعطف، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه .(/2)
ويضج الباطل ويصخب، ويرفع صوته وينفش ريشه، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم، وفجر كالح لئيم .. وينظر المؤمن من عَلٍ إلى الباطل المنتفش، وإلى الجموع المخدوعة، فلا يهن ولا يحزن، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه، وثباته على المنهج الذي يتبعه، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين .
ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة، ويمضي مع نزواته الخليعة ويلصق بالوحل والطين، حاسباً أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود . وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال، ولا يبقى إلا المشروع الآسن، وإلا الوحل والطين . . وينظر المؤمن من عَلٍ إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين .. وهو مفرد وحيد، فلا يهن ولا يحزن، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر، وينغمس في الحمأة، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين .
ويقف المؤمن قابضاً على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين، وعن الفضيلة، وعن القيم العليا، وعن الاهتمامات النبيلة، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل .. ويقف الآخرون هازئين بوقفته، ساخرين من تصوراته، ضاحكين من قيمه .. فما يهن المؤمن وهو ينظر من عَلٍ إلى الساخرين والهازئين والضاحكين، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضئ ، في الطريق اللاحب الطويل .. نوح عليه السلام:}...إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ[38]{'سورة هود' .
وهو يرى نهاية الموكب الوضئ .. ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى:} الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ[29]وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ[30]وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ[31]وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ[32]وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ[33]فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ[34]عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ[35]هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[36]{'سورة المطففين'.
وقديماً قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين:} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا[73]{ 'سورة مريم'.
أي الفريقين؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله؟ أي الفريقين؟ النضر بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟
أفلو كان ما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - خيراً أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر، وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار الأرقم، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة، والمجد والجاه والسلطان ؟!
إنه منطق الأرض، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان . وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء، لا قربى من حاكم، ولا اعتزاز بسلطان، ولا هتاف بلذة، ولا دغدغة لغريزة، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد؛ ليقبل عليها من يقبل، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والأبهة، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزناً حين تخف في ميزان الله .
إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه .
إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل .. إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود .. فأنى يجد في نفسه وهناً أو يجد في قلبه حزناً، وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، ولتكن معه جموعه وجماهيره .. إن هذا لا يغير من الحق شيئاً، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، ولن يختار مؤمنٌ الضلالَ على الحقِ - وهو مؤمنٌ - ولم يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال .
}رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[8]رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[9]{ 'سورة آل عمران'.
من كتاب:'معالم في الطريق' للأستاذ/ سيد قطب(/3)
استغفار العاملين
عمر بن عبد الله المقبل* 4/10/1425
17/11/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا تزال عجائب القرآن تتجدد لقارئه، المتأملِ في آياته، الطالبِ لهدايته، فهو يرى فيه -مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، وتنوع الأحداث- البلسم الشافي، والدواء الناجع، والمخرجَ من هذه الظلمات التي تتخبط فيها الأمة!.
إنني حين أذكر ذلك، فإني لا أضيف جديداً، ولكنني أعبّر عما يختلج في النفس من مشاعر موقنة بهذا أشد اليقين، وهي ترى أمتها مبتعدة في كثيرٍ من جوانب حياتها عن هذا النور، والهدى، والرحمة، والشفاء.
دعنا -أخي القارئ- نأخذ مثالاً من الأمثلة الكثيرة جداً التي عالج القرآن فيها مواطن خلل حدثت في موقفٍ من المواقف التي انتهى أشخاصها، لكن بقيت دروسها وعبرها شاهدةً لكل المؤمنين الذين يتلون هذا الكتاب العظيم إلى يوم القيامة.
لمّا حصل ما حصل في غزوة أحد من هزيمة، ومخالفة الرماة -رضي الله عنهم- لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما ترتب على ذلك من محاولة قتله صلى الله عليه وسلم، وتَرْك بعض الصحابة للقتال بسبب تلك الإشاعة التي صاح بها الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، جاءت آياتٌ عظيمة عاتب الله تعالى الذين وقع منهم هذا، بآيات منها قوله تعالى : " وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) " آل عمران.
وموطن الاعتبار - الذي أود الحديث عنه - هو ما حكاه الله تعالى عن هذا النبي ومن معه من الربيين، الذين كانوا يجاهدون في سبيل الله -الذين جعلهم الله تعالى مثلاً للصحابة رضي الله عنهم- الذين قالوا : "ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"!.
فهم بعد أن تحدثت الآية عن عملهم الظاهر من الثبات أمام العدو، رغم كثرة القتل الذي أصابهم، بل ورغم قتل نبيهم - كما هو أحد القولين في الآية وهو اختيار ابن جرير وهو الأقرب والله أعلم- انتقلت الآية إلى جانب آخر من الجوانب المشرقة في حياة هؤلاء الأبرار، وهو جانب الإزراء على النفس، وإظهار الخوف من ذنوبهم، مع جلالة عملهم، وفضل مقصدهم : "وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا".
ولئن كان سياق كلامهم يوحي بالخوف من ذنوبهم الخاصة، فإن سياق الآيات كلها -في غزوة أحد- يوحي أيضاً بالتحذير والخوف من الذنوب العامة في الأمة، وخطرها على مسيرتها؛ بل وأثرها على بقية أفرادها من الصالحين والأخيار.
ألم يكتو بنار هذا الخطأ -في غزوة أحد- أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم؛ فشجت جبينه، وكسرت رباعيته -بأبي هو وأمي ونفسي- فضلاً عن باقي الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين راح بعضهم ضحية هذا الخطأ؟!
لقد فقه أسلافنا هذا المعنى جيداً -أعني أثر الذنوب الخاصة والعامة على الأمة- وما حديث عمر رضي الله عنه لسعدٍ -حينما أرسله للقادسية- محذراً له من مغبة الذنوب- ببعيد عن علم القارئ الكريم.
فهل يتنبه كل من يخدم الإسلام ويعمل له -وإن كان في أشرف الميادين- حاجتهم إلى الإزراء على نفوسهم، والخوف من آثار الذنوب، ودورها في تقليل بركة العمل، وأثرها في تسليط العدو؟!
وإني لأعجب من هذا التعبير الذي يوحي بما كان عليه ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، ومن معه من الربيين من تعظيمٍ لله، وافتقارٍ، وابتهالٍ، وخوف ٍووجلٍ!
فتأمل في قولهم : (ذنوبنا) فهو عموم، ثم خصوا فقالوا : (وإسرافنا في أمرنا)، ثم سألوا ربهم الثبات، خشية أن تكون ذنوبهم سبباً في فقده.
وما أصعب الأمر حينما يفقد الإنسان الثبات أمام عدوه، وهو يعتقد أنه يقاتل من أجل حق، فتخذله ذنوبه أحوج ما يكون إلى الثبات والنصر!
وإذا قرنت هذا الموطن في سورة آل عمران مع آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر؛ وهي قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّه وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)".
إذا قرنتهما، تبين لك دقة الاتفاق والارتباط بين الآيات، وأن التوجيه الرباني للمؤمنين -في التحذير من الذنوب العامة والخاصة- بدأ منذ بدايات الجهاد في سبيل الله تعالى، وأنه تنوّع وأخذ أساليب شتّى:(/1)
فهو في غزوة بدر جاء بصيغة الخطاب المباشر، وفي غزوة أحدٍ جاء بصيغة العتاب، وضرْبِ المثل بالسابقين، والمقام ليس مقام مقارنة بين الموضعين -مع أهميته-؛ فهو يحتاج إلى مقالة مستقلة.
ولما فرغ إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام من بناء البيت الحرام، رفعا ذلك الدعاء الذي يفيض ابتهالاً وتضرعاً، فقالا: "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 127-128]، وشاهد الآية في آخرها، ولابن جرير -رحمه الله- تعليق لطيف عليها يحسن الرجوع إليه.
وفي قصة السبعين رجلاً الذين اختارهم موسى عليه الصلاة والسلام -لما أخذتهم الرجفة- قال موسى مقولة العالم بربه، الخائف من تقصيره: "رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ". فهذه توجعات سادات الأولياء والصالحين، وتألهات المخبتين في جميع الأمم، وهذه هجيرا العارفين بعظيم ما لله تعالى عليهم من عظيم الحق، وجزيل المنن.
وقضية استغفار العاملين، ليست خاصة بميدان الجهاد في سبيل الله -مع ما يلاقيه المجاهد في سبيل الله من الشدائد المكفرة للذنوب-؛ بل هي قضية تتكرر في مواطن أخرى من مواطن العمل الصالح، يُلْحَظُ هذا جلياً في بعض أركان الإسلام ودعائمه العظام:
ففي الصلاة -التي هي أعظم الأعمال- شُرع للمسلم أن يستغفر ثلاثاً - كما صحت به السنة الصحيحة الصريحة، وأشار القرآن إليه بقوله : "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ..." الآية.
وبعد نفير الحجاج من عرفة ومزدلفة إلى منى، أمروا بالاستغفار : "ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)"
وها نحن نودع شهر رمضان، بعد ما يسرّ الله تعالى فيه بعض الأعمال الصالحة، فهل نستشعر عظيم منة الله علينا بما وفقنا إليه من صالح العمل؟! وهل نحن خائفون وجلون من تقصيرنا وتفريطنا في حقه سبحانه؟!
إن هذا الشعور ينبغي أن يكون شأن المتعامل مع ربه بعبادة خاصة، أو متعدية النفع -في كل زمان ومكان- يرى المنة لربه بتوفيقه للعمل الصالح، ويشعر -لما لله عليه من الحق العظيم- أنه بحاجة إلى الاستغفار من تقصيره في حق ربه ومولاه، وتبرئه من حوله وقوته، وخوفه من حظوظ النفس، وغير ذلك من العوارض المؤثرة في قبول العمل، أو نقص بركته.
هذه إشارات سريعة إلى هذه اللفتة القرآنية الجليلة، وهي تحتاج تفصيلاً أكثر من ذلك، "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"، ووفقنا لتدبر كتابك، والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* محاضر في قسم السنة : كلية الشريعة - جامعة القصيم(/2)
استغلال العواطف
الحمد لله المتفرد بالملك والتدبير . ذلكم الله ربكم له الملك ، والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق السموات والأرض بالحق ، ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ، وله الملك يوم ينفخ في الصور ، عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الخبير . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، وينجيهم بهديه من عذاب السعير . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومن ترسم هديهم ، واتبع منهجهم ، وسلم التسليم الكثير . أما بعد ، فاتقوا الله أيها المسلمون ، واحذروا الشرك وما يؤدي إلى الشرك ، فإن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا . معاشر المسلمين : إن من منهج إبليس - أعاذني الله وإياكم منه - إن من منهجه استغلال العواطف ، وتوظيفها ليقود الناس إلى الشرك بالله ، فيستغل الأحداث والمواقف ، إذ إن وظيفته أن يجتال الناس من جنة التوحيد إلى حظيرة الشرك ، وإنما يوظف في سبيل ذلك عواطف الناس ، خاصة عندما تتأجج في القلوب ، وتتأثر بالرزايا والخطوب ، فيستغلها الشيطان المريد أسوأ استغلال ، ليصرف الناس عن توحيد ذي الجلال ، ويوقعهم في أصفاد الشرك ، ويقودهم إلى الزيغ والضلال ، ليضمن مصاحبتهم له في دار البوار والسلاسل والأغلال . وتأمل يا عبد الله ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، كنيسة رأتها بالحبشة ، وما فيها من الصور ، فقال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح ، أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله . أخرجاه . قال القرطبي رحمه الله تعالى : وإنما صوروا تلك الصور ليتأسوا بها ، ويتذكروا أفعالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم . قال شيخ الإسلام رحمه الله : فهؤلاء جمعوا بين فتنتين ، فتنة القبور ، وفتنة التماثيل . وقال رحمه الله : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور ، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم ، إما في الشرك الأكبر ، أو فيما دونه من الشرك . عباد الله : نصرة للحق ، وحماية لجناب التوحيد ، فإني أقول وأوجز ، وإنما أوجزت لكي يبقى الكلام راسخا في الذهن ، مستقرا في الفهم ، ولا يستعصي حتى على البليد . ولما كان الأمر ما رأيت ورأيتم ، وما سمعت وسمعتم ، وما قرأت وقرأتم في وسائل الإعلام على مختلف تنوعها ، ثم ما رأيناه من السكوت ، فقد وجب علينا البلاغ ، والله من وراء القصد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل . أيها الأحبة : غيب الموت قادة وكبراء ، كان لهم أثر في أممهم وشعوبهم ، فاستغل الشيطان ما في قلوب خلفائهم ، وشعوبهم ، وأتباعهم من عاطفة فوجهها وجهة غير شرعية ، فأقيمت لهم أضرحة ، وبنيت على قبورهم الأبنية ، ودفنوا في مساجد شيدوها ، لتقام فيها الصلاة ويذكر فيها اسم الله ، ولكنها بعواطف زائفة ممن بعدهم ، تحولت من غاية إنشائها إلى وثن يعبد ، إن لم يكن في الحاضر ، فلا من يضمن أن لا يكون ذلك في المستقبل . فإن الشيطان يصيرها كذلك بعد حين . وفي صحيح مسلم قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهياج الأسَدي : ألا أبعثك على ما بعثي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته . والقبر المشرف هو القبر الذي يتبين عن سائر القبور ، فالواجب أن يسوى بسائر القبور لئلا يظن بصاحب هذا القبر خصوصية ما ، ولو بعد حين . فهو وسيلة للغلو فيه ، واتخاذه وثنا يعبد . وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه . أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه . قال الشافعي رحمه الله تعالى في الأم : ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى . و قال صلى الله عليه وسلم : اللهم لا تجعل قبري وثنا ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . أخرجه مالك في الموطأ . وفي السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن الله زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج . ومعناه : أن توقد السرج عندها ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها . ولو تأملت أخي الحبيب جمعه صلى الله عليه وسلم بين الزائرات والمتخذين السرج ، تبين لك أن المشتَرَك بينهما هو رقة العاطفة ، وقلة التمييز ، وضعف الصبر . ولا ريب أن إيقاد الشموع ، ووضع الزهور ، واجتماع الزوار من كل ملة ، رجالا ونساء ، إنما هو من سنن أهل الكتاب ، وليس في سنة سيد المرسلين ، ولا أصحابه ولا التابعين من ذلكم من شيء ، فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، ثم هو أيضا تشبه بالكافرين ، ومن(/1)
تشبه بقوم فهو منهم . وهو أيضا من النياحة ، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها ، ولعن النائحة ، والشاقة ، والحالقة ، وكل ذلك لما فيه من إظهار الجزع ، والتسخط . وعدم الرضا بما قدر الله على عبده وقضى . وقد بكت حفصة رضي الله عنها على أبيها عمر رضي الله عنه حين حضرته الوفاة ، فقال لها : مهلا يا بنية ، ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه . أيها المسلمون : إن مكانة المرء عند أهله ، أو في قومه ، مهما علت فإنها لا تبيح لأهله وأتباعه أن يغلوا فيه ، أو أن يكون فقده وسيلة للشرك بالله . وعليه فإن ما رأيتم من أضرحة أقيمت ، وقبور وضعت في ساحات مساجد أسست للذكر والتوحيد ، إن هذه الأضرحة نقض لما بنيت له ، وهدم للتوحيد الذي أرسلت به الرسل ، وأنزلت من أجله الكتب ، وأريقت في سبيله الدماء الزاكية ، وأنفقت في نشره الأموال الطائلة . ووالله ثم والله ، لن تقوم للأمة قائمة أبدا ما لم تنق عقيدتها من شوائب الشرك ووسائله ، وتقطع في سبيل التوحيد ما يلقيه الشيطان في طريق ذلك من وسائله وحبائله . فبكل وضوح واختصار ، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تبنى القبور أو تشيد ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن توضع القبور في المساجد ، وإنما يدفن الميت من المسلمين في مقابر المسلمين . إخوة الدين والعقيدة : لا تزال الأحداث تثبت لنا بين فينة وأخرى تميز هذه البلاد ، وأهل هذه البلاد ، وحكام هذه البلاد ، نسأل الله أن لا يغير حالنا هذه إلا إلى أفضل منها وأكرم ، فإنها ولله الحمد والمنة قد دفنت قادة عظاما ، منهم من غير مجريات التأريخ - كما يقولون - كالمؤسس رحمه الله وغفر له ، وبارك في عقبه ، ومن خلفه من أبنائه ، ملوكا ووزراء ، وقادة وكبراء ، وسادة وعلماء ، وكلهم جمعهم تراب واحد ، لم يقم لأحد منهم ضريح ، ولم توقد على قبره شمعة أو سراج ، نسأل الله تعالى أن يثبتنا جميعا على هذا الحق ، وأن يوفق من وقع في مخالفته أن يعيد الأمور إلى نصابها ، وأن يسوي قبر فقيده ، وحبيبه بقبور المسلمين ، فإن هذا من أعظم البر ، بل هو أعظمه . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ؟ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين . بارك الله لي ولكم .... الخطبة الثانية : الحمد لله ، فضلنا على سائر العباد بتوحيده . ومن علينا بدين قيم نقوم فيه بتسبيحه وتمجيده . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق الجن والإنس لعبادته وتوحيده . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خير رسله ، وأفضل عبيده ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ما ملأ الصباح بلبل بتغريده ، وسلم تسليما . أيها الأحبة : هذه قصة في استغلال العواطف ، ولكنه استغلال يجير الأفعال إلى ما يرضي الله ، ويلجم العاطفة بلجام الحب في الله ، ويوثق عراها بما يرضي الله ، فيغير مسارها عن ما يغضب الله ، ويقودها بقلوب راضية إلى رضوان الله . إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين ، وانتصاره فيها قسم الغنائم ، فأعطى فلانا وفلانا ، من رؤساء قريش ، حتى شاع في الناس أن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة ، فانتزعت رداءه ، فقال : أيها الناس ردوا علي ردائي ، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا . وكان هذا الحدث كفيلا بإحداث شرخ في جدار البناء ، إذ لم يعط الأنصار من تلك الغنائم شيئا ، حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ، قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي ، قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال : لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ثم قال : يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل . ثم قال : ألا تجيبوني معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المن والفضل . قال : أما والله لو شئتم لقلتم ، فصدقتم وصدقتم ، أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك . أوجدتم يا(/2)
معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا ، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار ، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالو : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا . فاتقوا الله عباد الله ، وزنوا عواطفكم بما يرضي الله ، وألجموها بلجام الخوف من الله ، وأوقدوها كلما خبت نارها ، وضعف نورها بالصلاة والسلام على رسول الله(/3)
استقامة الداعية
ذات يوم استوقفنى شيخ فاضل له بصمة واضحة في العمل المصرفي الإسلامي في الكويت* وقال لي : يأبني إن أقرب طريق للالتقاء بين نقطتين هو الخط المستقيم وإن أي انحراف في الخط المستقيم سواء في البداية أو في النهاية ولو كان بسيطا يجعلك لا تصل إلى النقطة المحددة لأن زاوية الانحراف مع امتداد الخط المستقيم سوف تكون كبيرة جدا ، عند ذلك توقفت أتدبر بعض الآيات الكريمات في مفهوم الاستقامة.
قال الله تعالى: { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم} الشورى أية 15، { فاستقم كماامرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير} هود أية 112
والدعاة إلى الله أحوج ما يكونوا اليوم إلى تحقيق مفهوم الإستقامه في أنفسهم وأهليهم أولا وفيمن حولهم من المدعوين وإلا كان الانحراف وقلة التوفيق في العمل الدعوى، وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإستقامه فعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً غيرك قال:" قل : أمنت بالله ثم استقم " رواه مسلم .
يقول الإمام ابن رجب الحنبلي في تعريف الاستقامة في" كتاب جامع العلوم والحكم" : " هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعه لخصال الدين كلها"
والمؤسسة الدعوية متى ما إن تنتهج طريق الاستقامة في غاياتها ووسائلها الدعوية ألا وتحقق الهدف وحصل التوفيق ، والإستقامه ليست شكل ظاهر وملبس تدين بل هي سلوك يتعلق بالظاهر والباطن.
يقول ابن القيم الجوزية: " فالاستقامة كلمة جامعة ، أخذه بمجامع الدين . وهى القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء ، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات"
الإستقامه منهج حياة نتلوه كل يوم المرات الكثيرة فهل تدبرنا قول الله عزوجل { اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }الفاتحة- فمن هم أصحاب الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم وما صفتهم فتعال معي ودقق فهمك في ما قاله ابن القيم الجوزية – يقول رحمه الله :
"ولماكان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه ،مريدا لسلوك طريق مرافقه فبها فى غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق ، نبه الله سبحانه على الرفيق فى هذا الطريق وأنهم هم الذين { أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له ،وهم الذين أنعم الله عليهم،ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط المستقيم وحشة تفرده عن أهل زمانه وبنى جنسه ،وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط : هم الذين انعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له فإنهم الأقلون قدرا وإن كانوا الأكثرين عددا ، وكلما استوحشت في تفردك فأنظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم ،فأنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك "
فلتكن سمة الدعاة الاستقامة ولنعمل على إحياء ذلك في مجتمعاتنا التي تفشت فيها مظاهر الانحراف والغش والخديعة والزور ولنعلم إن مؤسساتنا الدعوية ليست ببعيد عن ذلك الانحراف إن لم نتواصى على سلوك الصراط المستقيم . الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبل قال الله تعالى :{ وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم ،صراط الله الذي له مافى السموات ومافى الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}الشورى – والإستقامه لها أصل متى تحقق ظهر أثره على السلوك والأخلاق فكان الداعية بذلك مشعل نور وقدوة لمن حوله من المدعوين والخصوم
يقول ابن رجب الحنبلي: "فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته ،فإن القلب هو ملك الأعضاء وهى جنوده ، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ، وفى مستند الإمام أحمد عن انس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه }"(/1)
إن التساهل في تأصيل العبادات القلبية و المفاهيم السلوكية التربوية في المؤسسة الدعوية أظهر لنا نوع من الدعاة يتقن فن الكلام والإقناع وصياغة العبارات ولكن مخفق في سلوك طريق المجاهدة لاقتفاء الصراط المستقيم الذي أمرنا بإتباعه ، قال ابن مسعود رضي الله عنه " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً وقال : هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال :هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ قوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
ومن توفيق الله لعباده أن يدلهم على طريق الإستقامه قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة" ولاشك أن سلوك طريق الاستقامة عمليه مستمرة في حياة الداعية حتى يسهل له قياد نفسه وحتى عند تلك اللحظة عليه أن يكون على حذر من مصائد النفس والشيطان يقول محمد بن المنكدر-رحمه الله- :{ كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت}
والداعية إلى الله تعالى يجب أن يسلك طريق التسديد والمقاربة في تربية نفسه على الأخلاق والعبادات القبلية فقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:{ سددوا وقاربوا ،وأعلموا أنه لن ينجو احد منكم بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل} رواه مسلم . قال ابن القيم الجو زيه :"فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالإستقامه وهى السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال". ويقول في موضع أخر : " والمطلوب من العبد الاستقامة وهى السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة" يقول الله تعالى: {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم واحدٌ فاستقيموا إليه واستغفروه } فصلت 6
وفى قول الله عزوجل :{ فاستقيموا إليه واستغفروه } يقول ابن رجب الحنبلي : "إشارة إلى إنه لابد من تقصير في الإستقامه المأمور بها ،فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضى للتوبة والرجوع إلى الاستقامة فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: {اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها }
وفى الختام ماكتبت هذه الكلمات إلا تذكيرا لنفسي المقصرة ونصحا لإخواني الدعاة سائلا الله العظيم أن يجمعنا مع أما م الدعاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
------------------------------------------------
* الشيخ /أحمد البز يع رئيس اللجنة الشرعية في بيت التمويل الكويتي
المراجع :
- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
- تهذيب دارج السالكين – ابن القيم الجوزيه
تأليف: عمر سالم المطوع(/2)
استقبال اليهود والحفاوة بهم
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
قضية شغلت الناس وفوجئوا بها، فهم يتحدثون عنها سراً وجهراً، ويتهامسون فيما بينهم أحقاً ما نرى. ويتساءلون ماذا حدث وما الذي جرى، لقد غدت هذه القضية حديث المجالس ، ومادة الصحف، والمنتديات، وكادت أن تجمع الأحزاب والتنظيمات على استهجانها وإنكارها. إنها قضية آخذة في التفاعل سلباً وإيجاباً أتدرون ما هي: إنها قضية استقبال اليهود ، والاحتفاء باليهود ومنازلة اليهود، والإعجاب باليهود وفتح البلاد أمام اليهود، وإعطاء اليهود شرعية للتملك والاستيطان والوجود، والذهاب والإياب ومنحهم الامتيازات..
يتم ذلك تحت مبررات ودعاوى هي أوهى من بيت العنكبوت، تزعم أن هؤلاء اليهود القادمون هم يمانيون في المنفى.
أيها المؤمنون لقد خرج اليهود قبل خمسين عاماً ليؤسسوا دولتهم ويساهموا في حرب المسلمين وقتلهم وتشريدهم في فلسطين وقد انقرض ذلك الجيل الذي ذهب إلى غير رجعة .. فكيف يزعم الزاعمون ويروج المتآمرون بأنهم يمانيون لهم الحق في العودة والبقاء والاستيطان ، إنها مغالطات وإنه خداع واستخفاف بالأمة وتغييب لوعيها .. والعمل على تجهيلها وترويضها على قبول اليهود والتطبيع معهم ونسيان ما بيننا وبينهم.
إن العالم اليوم يقدم اليهود على أنهم دعاة للوئام وحمائم للسلام. وحتى لا نقع فريسة للخداع والتضليل ، والغدر والخيانة التي يمارسها اليهود وأعوانهم بكل مكر ودهاء. فإنه يجب علينا أن نعود إلى كتاب الله عز وجل لنتعرف على صفات وأخلاق اليهود ، وطبائعهم كما ذكرها الله عز وجل وبينها وفصلها حتى تتبين حقيقتهم وتتضح صورتهم بوضوح وجلاء.
لقد تحدث القرآن الكريم كثيراً عن اليهود وشرح نفسياتهم الشريرة، وطبائعهم الرديئة، وليس مصادفة أن يفصل القرآن هذا؛ فإن تاريخ بني إسرائيل مليء بالجرائم والقبائح، والتنكر للخير وللهداة فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم، وأناس تقتل الأنبياء وتذبحهم وتنشرهم بالمناشير، لا ينتظر منهم إلا استباحة دماء البشر واستباحة كل وسيلة قذرة تنفس عن أحقادهم وفسقهم وإجرامهم.
والقرآن الكريم يقص علينا العجب من أخلاق وسلوك اليهود العجيب.
فمن صفاتهم التي بينها الله تعالى في كتابه: أنهم يتصفون بالحسد والحقد وكراهية الخير للآخرين، فقال تعالى فيهم: ? مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ...?[البقرة:105]. وقال عنهم أيضاً: ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ?[النساء:54].
فالحسد طبع ثابت من طبائع اليهود، ومع الحسد الشنيع تغلي قلوبهم بالغيظ والتآمر والكيد ، ويظهر ذلك في سلوكهم وأفعالهم كلما وجدوا فرصة للتنفيس عن أحقادهم.. إنهم لا يضمرون للبشرية إلا الشر والكراهية والعنت والحقد إنهم يتمنون لنا أن نترك الدين وأن نتجرد عن الأخلاق والمبادئ والقيم ، وأن نكفر بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر لنكون مثلهم: ? وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ...?[ النساء:89].
ومن صفات اليهود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم حبهم للمال وحرصهم عليه، فهم عبدة المال وسدنته المتبجحون بجمعه وكنزه، بطرق محرمة وملتوية، فقارون كان مثلهم الأعلى حيث قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون . والسامري الذي دعاهم إلى عبادة العجل وكان من الذهب عبدوه من دون الله .
إنهم يأكلون أموال الناس بالباطل والحيلة ويستبيحون ذلك من غير اليهود قال تعالى: ? وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?[النساء:161].(/1)
وقال تعالى مبيناً لعباده المؤمنين وكاشفاً أخلاق يهود: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ...?[التوبة:34] فاليهود أكلة الربا بل أئمته وأكلة أموال الناس بالباطل.
وقد توارثوا هذا الخلق خلائف عن أسلاف ويزعمون أنه لا حرج عليهم في أكل أموال غيرهم بالباطل كما قال تعالى: ? وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?[آل عمران:75].
الخطبة الثانية:
إن اليهود يعبدون المال ويجمعونه ويمنعونه، هذه طبيعتهم وهذا دأبهم في القديم والحديث ونحن نرى اليوم تحكمهم في الاقتصاد العالمي، حيث يمتلكون البنوك العالمية وبيوتات المال ومؤسساته إنهم ينهبون ثروات الأمم ، ويفرضون عليها سياسة التجويع والإفقار، ويرابون على الشعوب ويرهقونهم بالديون والفوائد الربوية.
إن مشكلاتنا الاقتصادية المزرية التي يفرضها علينا البنك الدولي وصندوقه ما هي إلا وصفة يهودية وإن اليهود إذا دخلوا بلداً أفسدوه وجعلوا أعزة أهله أذلة وكذلك يفعلون.
هل نحن بحاجة إلى فساد وتدمير أكثر مما نحن فيه؟! إن وجود اليهود بيننا والسماح لهم بالاستثمار والتملك ينطوي على أمور خطيرة جداً.. إنهم أصحاب أموال طائلة وهم يوظفون أموالهم للإفساد والتدمير .. إن اليهود لا يتحركون أفراداً ولكنهم ينفذون سياسة دولتهم وتعاليم حاخاماتهم. وعليه فإنه لا يجوز للمسلمين أن يبيعوهم أراض أو عقارات أو مزارع لأن ذلك سيؤدي إلى كارثة إنهم بدأوا باحتلال فلسطين بهذه الطريقة. لا شك أن اليهود سيستغلون حالات الفقر والحاجة التي أوصلتنا إليها السياسات الجائرة. إن الأمر لمبيّت لهذه البلاد خطير جداً، فعلى كل مسلم أن يعي طبيعة المعركة مع أعدائه من اليهود وعملائهم .. ويقاوم التطبيع بكل ممكن.. ثم ليوقن كل مؤمن ومؤمنة أن اليهود هم أشد الناس عداوة وحرباً للمسلمين. فحذار حذار من نسيان هذه الحقيقة.(/2)
استقبال شهر رمضان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
يا أيها الناس بعد بضعة أيام سوف يقدم عليكم شهر عظيم، إنه شهر الصيام والقرآن شهر الخير والبركة، شهر المغفرة والرضوان شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، جعل الله شهر رمضان موسماً عظيماً من مواسم الطاعات والعبادات، وفضله على سائر الشهور، فهو شهر عظمه الله ، وله عنده شأن كبير فقد خصه بإنزال القرآن وفرض فيه الصيام وخص هذه الأمة بهذا الشهر العظيم تكريماً لها، روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: " إن الله فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر ، وصامت يوماً من السنة ، زعموا أنه اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون، ونجى فيه بني إسرائيل، وأما النصارى فإنهم صاموا رمضان، فصادفوا فيه الحر الشديد ، فحولوه إلى وقت لا يتغير من فصول العام هو فصل الربيع، وقالوا: نزيد عشرين يوماً نكفر به ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوماً، وفيهم يقول الله تعالى: ? اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا... ? [التوبة:31] ، وذلك باتباعهم لهم وتركهم دين الله عز وجل. ولقد فرض الله صيام شهر رمضان على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة بقوله جل وعلى : ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ... ? [البقرة:183-184] .
رمضان أيها المؤمنون مدرسة عظيمة إذا أحسنا استقباله واغتنمنا أيامه ولياليه المباركات، ففي رمضان ، يجدد فيه المسلم ما وهي من عرى الإسلام عنده، ويأخذ ما قصر في أخذه من قبل، ويصلح ما أفسد طوال العام.
رمضان دورة عظيمة يُقْبِلُ فيها المسلمون على عالم جديد عالم الطهر والسمو والاستقامة والإخلاص، ويخلفون ورائهم عالماً آخر مليئاً بالتعاسة والشقاء ، عالم الغفلة والنسيان عالم الشهوات والانغماس في وحل الماديات الطاغية, إن المسلم الحق في شهر رمضان تعلو همته وتزكو نفسه وتشرق روحه فلم تعد الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه, وإنما يتذكر في هذا الشهر العظيم أن الدار الآخرة ورضوان الله فيها هو الهدف الكبير الذي ينبغي أن يشمر إليه والذي لا ينبغي أن يغيب عن قلب المسلم أبداً .
إن شهر رمضان خير كله .. خير للناس في عالم الضمير والشعور والمشاعر ، وخير في عالم الحياة والواقع تجد فيه أرواح المؤمنين الأمن والأمان، فهو واحة سلام واطمئنان .. إنه لابد للنفوس الشاردة أن تتهيأ للأوبة والرجوع إلى الله عز وجل والإذعان له.
ولما لشهر رمضان من أهمية ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه به فيقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم".
بشرى رمضان .. صادرة إليكم أيها المؤمنون من الملأ الأعلى والرسول - صلى الله عليه وسلم - يبشركم بها ، إنها البشرى العلوية من الرب الكريم يحملها إلينا رسول كريم، فيا لها من بشرى ويا له من تكريم.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم شهر رمضان شهر بركة فيه خير يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله".(/1)
وفي سنن الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا كانت أول ليلة من رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى منادي ياباغي الخير أقبل، وياباغي اشر أقصر .. ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة ..) .
إن أبواب الجنة تفتح وتتزين تنتظر أهلها المؤمنين الذين اطمأنت نفوسهم إلى ربهم وخالقهم .. إن أرواح المؤمنين الصادقين لتشتاق إلى تلك الجنة ? جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ? [مريم:61].
هذه الجنة التي هيأها الله لعباده المؤمنين، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. تفتح أبوابها في شهر رمضان .. فشمروا لها أيها المؤمنون بالإيمان والعمل الصالح . وفي رمضان تغلق أبواب النار .. نار جهنم الفظيعة الحامية المستعرة، وقودها الناس والحجارة .. الناس الغافلون اللاهون المستهترون بدين الله ، العابثون ، القاسية قلوبهم ؛ فهم والحجارة سواء في سعير ولظى جهنم، هؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا القاصرة القصيرة العاجلة الزائلة .. أفَمِن أجل شهوة عابرة ونزوة ذاهبة، يدع المرء جنة الله العالية التي أعدها الله للمتقين مثابة ومأوى!! إنه جنون وحماقة ولهذا يعترف أصحاب النار فيها حين لا يفيدهم ذلك ? وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ? [الملك:10].
فيا باغي الخير أقبل: أقبل على ربك وتزود من الخير في شهر الطاعة. تزود من العبادة .. الزاد الثمين الغالي في هذه الحياة ، الزاد الذي يصلك بالله رب العالمين ? ... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ ? [البقرة:197]، إن أمة الإسلام بحاجة ماسة بحاجة عظيمة وكبيرة وملحة إنها بحاجة إلى أن تقبل على ربها تتوب إليه وتتضرع له سبحانه وتذل وتخضع بين يديه تستمد منه النصر والعون والتمكين.
إن رمضان فرصة ثمينة للرجوع إلى الله لوصل ما أمر الله بوصله .. إن المدد والنصر والعزة كل ذلك يأتي منه سبحانه إننا إذا أحسنا صلتنا بالله تتطهر قلوبنا ويسري فيها الروح والحياة والنور، فتتجدد عزائمنا وتقوى قلوبنا وتثبت أقدامنا حين يطول ليل الباطل ويسري إلى نفوسنا الحزن والضيق واليأس. يا باغي الخير أقبل ؟ فهل تقبل على الله بصدق وعزيمة وإخلاص؟ حتى يغير الله حالنا إلى أحسن حال؟
ويا باغي الشر أقصر: أقصر فإن العمر قصير مهما طال .. الأمل يلهي، والمطامع تغري، والعمر يمضي، والفرصة تضيع, ألا وإن الدنيا قد أذنت بفراق. يا باغي الشر أقصر فإن الموت قريب ويُخشى أن ينتهي بك الأمر إلى شر مصير، فلا تغرنك الحياة الدنيا عن الاستجابة لله والرسول والإقلاع عن المعاصي والذنوب والإقبال على الله بتوبة نصوح.
يا باغي الشر أقصر: أقصر عن غيك وتنبه من غفلتك، أقصر عن ظلم الناس والاعتداء على أموالهم وأعراضهم, وأقصر عن الشر والفساد في بيتك ومجتمعك ، ابتعد عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان ، أقصر عن الكراهية والعداء لله ولرسوله وللمؤمنين ، حذار حذار من معاداة أولياء الله فإن الله يقول في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً آذنته بالحرب).
يا باغي الشر أقصر، ولا تلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد، أقصر عن الشر ولا تستقبل رمضان لاعباً لاهياً، بلا وقار ولا تقديس، أقصر فإن الله يحيي القلوب الميتة، ويفتح الأفئدة المغلقة لأنوار الحق والخير والرحمة.
أيها المؤمنون هذا شهر رمضان قد أظلكم فاعرفوا حقه ، فهو منحة رب العالمين لعباده التائبين، وهو رحمة الله لعباده الصائمين ، تعرضوا لنفحات ربكم وأكثروا فيه من الخير فلعله يكون آخر رمضان يشهده المرء في حياته، كم من أناس صاموا العام الماضي قد لحقوا بربهم وأفضوا إلى ما قدموا, وها نحن اليوم في زمن الفسحة فلنسارع إلى رضوان الله والجنة فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، اللهم بلغنا رمضان وأعنا ووفقنا فيه للصيام والقيام والطاعات والإحسان واجعلنا فيه من المقبولين العتقاء من النار آمين اللهم آمين.
الخطبة الثانية(/2)
السرور والفرح والابتهاج بموسم الطاعات والعبادات التي شرعها الله وتعظيمها من تعظيم شعائر الله ? ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ? [الحج:32] ، ولكن كيف نستقبل رمضان ونعظمه؟ لا نعظم رمضان بإقامة المهرجانات، وإيقاد المصابيح أو الشموع ، أو بإحراق الإطارات –التواير- التي تسبب ضرراً على البيئة وتحدث فساداً، فإن من يفعل ذلك يكون مأزوراً غير مأجور ، وظاهرة إحراق النفايات والإطارات ينبغي أن تمنع. لا نعظم رمضان بالتفنن في ألوان الطعام، وأصناف الشراب ونقضي معظم أوقاتنا في البحث عن أنواع الوجبات والإعداد لها والإسراف في ذلك.
لا ينبغي أن نعظم رمضان بملء لياليه باللهو واللعب والعبث ومتابعة الإعلام الرخيص الذي يخصص برامج ومسلسلات لا تتناسب مع قدسية الشهر ولا تراعي مشاعر الأمة المسلمة.
إن واجب الأمة أن تعظم رمضان ببذل المعروف، وإسداء الجميل ، بالإحسان إلى الفقراء والمساكين بإطعام جائعهم، وكسوة عاريهم مقتدين في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.
ينبغي أن نعظم رمضان بالعزم والرغبة في صيامه وقيامه وعمارته بالذكر والعبادة والدعاء وتلاوة القرآن. نعظم رمضان بالكف عن الغيبة والنميمة ونعظمه بحفظ أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عن الحرام. نعظم رمضان بضبط النفس والتعود على الصبر، والوقوف في وجه المغريات والمفاتن التي يتهاوي أمامها الكثير من الناس. نعظم رمضان بالتفكير الصحيح، والنظر البعيد، والتدبير السليم بتنمية الشعور بالمسؤولية تجاه أمتنا وإخواننا المسلمين الذين يضطهدون ويقتلون ويشردون في أنحاء العالم. جدير بنا ونحن في شهر الصوم أن نسارع لمد يد العون لهؤلاء، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
لو أن المسلمين يقدمون ثمن الوجبة التي يوفرونها في رمضان من أصل ثلاث وجبات في غيره، لمساعدة إخوانهم المضطهدين والمشردين، ومساعدة المجاهدين الذين يراغمون أعداء الله ويقاتلون في سبيل الله.
إننا لو فعلنا ذلك لكان لنا شأن ولهابنا الكافرون الظالمون ولم يتجاسروا على اضطهاد مسلم. ولكن أين نحن اليوم من أهداف رمضان؟ كثير من المسلمين مع الأسف جعل رمضان موسماً للنوم وإشباع البطون ليس إلا ، ينبغي أن نعظم رمضان بأن نجعل منه وسيلة إصلاحية صحية واجتماعية، وخلقية، وسياسية، واقتصادية وعسكرية كما يريد الله أن نكون أمة مسلمة قوية في إيمانها قوية في إرادتها متحلية بضبط النفس منتصرة على الأهواء والشهوات مجاهدة في سبيل الله باذلة النفس والمال لمرضاة الله عز وجل.
أيها المؤمنون: رمضان محطة للصيانة والتزود ، تكفير لما مضى وتزويد لما يستقبل وادخار للأجر عند الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) .
إن رمضان فرصة سانحة لكل من قصر أو أسرف أو ظلم أو أذنب ، عليه أن يستقبل رمضان بالتوبة والرجوع إلى الله ، فالله ينادي عباده وهو أرحم الراحمين فيقول جل وعلا: ? قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [ سورة الزمر : 53.].
حديث (( شهر رمضان أوله رحمه و أوسطه مغفرة و آخره عتق من النار )) حديث منكر??
أنظر : كتاب الضعفاء للعقيلي 2 / 162 و كتاب الكامل في ضعفاء الرجال لابن?عدي 1 / 165 و كتاب علل الحديث لابن أبي حاتم 1 / 249 و كتاب سلسلة الأحاديث?الضعيفة والموضوعة للألباني 2 / 262 ، 4/70 .
أنظر سنن النسائي ج4.ص129 باب فضل شهر رمضان رقم الحديث:2106
أنظر مجمع الزوائد ج3 ص142 قال المصنف: رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمه.
صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج1.ص257، رقم الحديث: 1331.
صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ، ص183 رقم الحديث:1640. ولفظه إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته)
الحديث ضعيف ضعفه الألباني . في السلسلة الضعيفة. ج1 ص480 رقم الحديث: 310 ولفظه (من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا)
أخرجه مسلم . باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، ج1 ص209 رقم الحديث: 233 ...(/3)
استقواء واستفراد
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
نحن لا نجيد الأساليب الدبلوماسية التي يخرج أهلها أسنانهم متصنعين الابتسامات، وأحيانا الضحكات وتخفي بين أضلع أصحابها حربة موجهة إلى قلب الخصم، بل نرسل ما نريد قوله على طبيعته فلا يُفهم مما نظهر خلاف ما نبطن، ولهذا نقولها صريحة، وليس عندنا إلا القول الذي أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فلا زلنا نستطيع التغيير باللسان، في الغالب، وقد لا نستطيع ولكل مقام مقال، ونحن في نفس الوقت ننكر على من يستعمل الإنكار باليد، وهو ليس من أهله. كما سبق لنا ذلك في أماكن أخرى.
بعض الطوائف في العراق أظهرت مواد الدستور مدى صدقها مع بعض، كما أظهرت الخوف الشديد من فوات ما خططت له وطمعت في تحقيقه، فقد عمدت غالب تلك الطوائف على إيذاء أهل السنة في العراق، قتلا وتخريبا لمدنهم وقراهم، وتشريدا لمن بقي منهم أو سجنا واعتقالا وتعذيبا، متواطئة مع الصليبيين الجدد في الغرب برغم كل التصريحات الخادعة المألوفة من السياسيين السائرين في طريق مكيافللي.
والآن عندما اكتشفت أن أهدافها يصعب تحقيقها، بسبب إصرار بعض الفئات على إدخال مواد في الدستور تعطيها حق تقرير المصير، لجأت إلى حيلة أخرى لتصل بها إلى الاستقواء ـ أي التمكن من الوصول إلى القوة ـ بضم مناطق أهل السنة إلى مناطقها، ولتكون لها الأغلبية العددية كما تزعم، ومناطق واسعة، تحتوي على خيرات مهمة، وهي المنطقة الجنوبية والوسطى، فإذا وصلت إلى هذا الهدف، باسم "الفيدرالية" تحققت لها القوة.
ويتفق رأي هذه الطائفة مع الخطط اليهودية التي تتمنى انهيار العراق، كما تتمنى انهيار غيره من البلدان العربية، لتنعم بالأمن من بقاء أية دولة فيها نوع من القوة.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-08-13/first_page/first_page06.htm
فإذا قويت استعدت للاستفراد ـ وهو الاستئثار بكل إمكانات الشعب والانفراد بذلك ـ مستضعفة سكان المنطقة الوسطى، ليكون أهل السنة هدفا للسيطرة عليهم وإذلالهم بداية ونهاية، بحيلة لا يمكن أن تنطلي على العقلاء، وبغطرسة وغرور مُسْتَنِدَينِ على القوات الأجنبية.
ومن المعلوم أن حبال الكذب قصيرة كما يقال، فقد عرفنا أن غالب ما يظهرون يخالف ما يبطنون بشواهد وحجج سجلها عليهم التاريخ قديما وحديثا.
فعلى أهل السنة في العراق أن يستجيبوا لنداء علمائهم ويحذروا مما يُخطط لهم ولا تخدعهم الشعارات التي لا تريد لهم خيرا، وإنما تريد الاستفراد بهم بعد الاستقواء
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2005-08/12/article13.shtml
وعلى مَن أمكنه مساعدتهم بالطرق الدبلوماسية وبالتعاون مع بعض المنظمات الدولية، أو بعض الدول القريبة والبعيدة، تقف مع المظلومين لا الظالمين، وإلا فإن الآثار ستكون سيئة والفوضى ستعم المنطقة كلها لأن المظلوم مهما ضعف أمام الظالم سيتحرك لدفع الظلم عن نفسه بإمكاناته، وإمكانات المظلومين في هذا العصر معلومة، وعلى الظالمين أن يفكروا في العواقب، قبل فوات الأوان.
وإذا كانوا أسقطوا النظام العراقي السابق بقوة أجنبية بحجة أنه نظام استبدادي ظالم، فقد كان استبداده فرديا ليس مبنيا على عقيدة دينية، أما هؤلاء فسيحلون محل الاستبداد الفردي السابق استبدادا جماعيا عقديا، وهو ما سيجلب للعراق ـ وقد جلب فعلا ـ دمارا لا يدانيه الاستبداد السابق، بل سيجلب على جيرانه وبخاصة الكويت ما هو أسوأ مما جلبه لها النظام العراقي السابق، لأن كلمة واحدة من مراجعها ستجعل أفرادها يهبون كالعاصفة إلى تنفيذ ما يعمرون به، وفيما رأيناه قبل أيام من العدوان على الأراضي الكويتية شاهد، لأن أوامر المرجعية الدينية عندهم تلهب عواطفهم أكثر من الوحي المنزل، إضافة إلى أن الاستبدادية الجماعية تحمل مع استبداديتها فوضى عمت العراق وستعمه وتعم غيره، والواجب الوقوف في وجه المنكر قبل استفحاله، وإن نُذُرَه لحبلى بالفتن!
((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الأنفال (25)](/1)
استمتع بالتفسير
علي بن صالح الجبر البطيّح
يتقطّع القلب حسرة بل حسرات عندما نقرأ ما تيسر من كتاب الله العزيز، ولا نعرف ما المراد بالآية أو الآيات التي نتلوها، ولا يتم التلذذ بما نقرأ من كتاب الله - تعالى - إلا إذا عرفنا تفسير ما نقرأ، ولذا يبكي أحد السلف إذا مرّ بهذه الآية (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) بالكسر.
أخي: هل سألت نفسك يوماً ما عن معنى (والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً) أم أنك تقرأ ولا تدري ما المعنى؟ منذ الصبا ونحن نقرأ (فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً) هل وقفنا على المراد والمعنى؟ كيف نرجو الخشوع والتلذذ بما نقرأ ونحن لم نقف يوماً على التفسير، أعتقد أن الوقوف على التفسير مطلب ملحّ، وسلف هذه الأمة من علماء التفسير اجتهدوا وأجادوا، وما عليك إلا أن تنهل من معينهم الذي لا ينضب..
أخي: ستدرك الفرق واضحاً بين تلاوتك السابقة للقرآن قبل الرجوع للتفسير، وتلاوتك بعد رجوعك إليه، وستستشعر حاجتك إلى هذا العلم، وستتحسر على أوقات مضت من عمرك لم ترجع فيها إلى التفسير، أتدري ما المراد بالنجم في قوله - تعالى -(والنجم والشجر يسجدان) إنه خلاف ما تتوقع فارجع إلى تفسيرها!!
نقرأ عن السلف وعن تلذذهم بالقرآن وخشوعهم عند تلاوته يحيون به ليلهم، فلا نجد ما يجدون، هل سألت نفسك عن سبب ذلك؟ من أسباب ذلك جهلنا بتفسير ما نقرأ، أخي: ضع لك برنامجاً يومياً تخصص فيه وقتاً للقراءة بالتفسير على مدى العام، وكن جادّاً ومتابعاً لنفسك في ذلك، ولا ينبغي أن يصرفك عنه أيّ صارف، وستحصد ما زرعت، وستقطف، وستجني ثماراً يانعة من أطايب الثمر بإذن الله - تعالى -، وأتمنى ألا تمرّ بآية من كتاب الله - تعالى - إلا وتعرف ما فيها من المعاني والأحكام والأسرار، وثق أخي أنك ستصل إلى مرادك، واحرص في البداية على التفاسير الميسرة والواضحة في أسلوبها وأرشح تفسير الشيخ العلامة / ابن سعدي - رحمه الله تعالى - ففيه إيضاح عجيب وأسلوب بديع.
http://www.saaid.net المصدر:(/1)
استمرار واستثمار الانتصار للنبي المختار
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
ما من شك أن النصرة الإسلامية لخير البرية صلى الله عليه وسلم التي عمّت جميع بلاد المسلمين بل وبلاد العالم كله لم يسبق لها مثيل، وفيها كثير من الدلالات الإيمانية والمنطلقات الحضارية والإيجابية العملية التي حققت ثمرات كثيرة وفوائد كبيرة، ويستثنى من ذلك التصرفات المندفعة الخاطئة المشتملة على عنف وتخريب.
شواهد الاستمرار:
والسؤال الكبير المطروح هو:
هل سيكون هذا الانتصار الكبير سحابة صيف ثم تنقشع ، وشعلة حماس ثم تنطفئ ؟
والحقيقة أن المؤشرات بل المبشرات الأولية تدل على غير ذلك وتحمل في طياتها معالم استمرارية جيدة، تظهر في شواهد ومظاهر متعددة، ومنها:
1- الإعلان عن عدم التوقف عن المناصرة الإيمانية والحضارية والمقاطعة الاقتصادية للمنتجات الدانمركية بالاعتذارات مهما كانت واضحة أو رسمية، وأن الاعتذارات لا تكفي ولا تشفي، وهذا الموقف يحظى بأغلبية كبيرة جداً.
2- الانتقال والتوجه إلى المطالبة القانونية بتجريم الإساءة إلى الإسلام ومقدساته ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، والإصرار على ذلك كأحد أهداف الانتصار، ومن المعلوم أن هذه معركة كبيرة لن تتم بسهولة، ولا يُتوقع أن تنتهي في وقت قصير، والظاهر أنها ستكشف المزيد من المفارقات في الازدواجية الحضارية والسياسية لدى الغرب، الذي لديه محرمات تُجرِّمها القوانين وتخرجها من دائرة حرية التعبير كمعاداة السامية والتعرض للمحرقة اليهودية وغير ذلك، بينما تجعل التطاول على القرآن، والإساءة إلى رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم ضرباً من حرية التعبير، ومن شواهد ذلك ما نشرته الجارديان البريطانية من أن المجلة الدانمركية ذاتها رفضت نشر رسوم مسيئة لعيسى عليه السلام عام 2003م وعللت ذلك بأنه سيزعج مشاعر كثير من الناس، وأظهر من ذلك وأبلغ تصريح الأديب الألماني الحاصل على جائزة نوبل"غونتر غراس"حيث قال: "إن جميع محرري الصحيفة كانوا على معرفة مسبقة بتحريم العالم الإسلامي لرسم الله أو رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وتجاهلوا تحذير خبير دانمركي في الشؤون الإسلامية، وأصروا على نشر الرسوم المستفزة لأنهم يمينيون متطرفون ومعادون للأجانب"، ثم الإعلان الصريح الواضح من رئيس تحرير المجلة سيئة الذكر بأن مجلته لن تنشر أي رسوم عن المحرقة اليهودية.
3- إعادة نشر الرسوم المسيئة في صحف ومجلات أوروبية في معظم الدول الأوروبية الكبرى، انتصاراً للدانمرك، أو تخفيفاً عنها من وطأة المقاطعة الاقتصادية، أو تأكيداً ودعماً لحرية التعبير كما يزعمون، وأياً كان السبب فإن ذلك جعل القضية تأخذ أبعاداً عقدية وفكرية وحضارية أوسع وأعمق، مما جعل أخذ الأمر على أنه مجرد حرية تعبير، أو إساءة رئيس تحرير، أو خطأ مجلة أمراً غير وارد مطلقاً، وإنما هو إساءة متعمدة من فئات متطرفة حاقدة، وهي وإن كانت لا تُمثل كل الشعوب لكنها لتيارات لها نفوذها الإعلامي وحضورها السياسي والاجتماعي.
4- التحول الإيجابي من الاستنكار وطرق التعبير عنه، إلى الأعمال والمبادرات الفكرية والدعوية في شأن التعريف بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم خاصة، والدين الإسلامي عامة، والتنادي إلى توضيح المنهج الإسلامي في حرية التعبير وحدودها، وحقوق الإنسان وضوابطها، وكل ذلك ضمن الاعتراف بتقصير المسلمين في هذه الجوانب، والدعوة إلى العمل الدائب والمشروعات المستمرة استدراكاً للنقص، وإقامة للحجة، وإشاعة للدعوة، ودحضاً للشبهة، ، وتلك أمور بدأت ولن تتوقف بإذن الله.
5- بوادر ومظاهر الوعي الجيد لدى المسلمين حيث أدركوا حقيقة الأعمال التي تهدف إلى إضعاف أو إيقاف نصرتهم، سواء في ذلك الاعتذارات المبطنة المخادعة من المجلة ورئيس تحريرها، أو الإعلانات الرسمية التي نشرتها السفارات الدانمركية في عدد من الدول الإسلامية، أو تعمد نشر الرسوم في دول مختلفة لتشتيت المقاطعة، وكل ذلك كان موضع الفهم والاستيعاب الفكري، والذكاء والإتقان العملي.
وقفة مهمة:
قبل أن أمضي في المقال أقف هنا لأبين أننا – معشر المسلمين – لا نسعى إلى إشعال صراع بين الحضارات، ولا نعمل على إثارة العنصريات، ولا نهدف إلى تأجيج العداوات، ومبادئ ديننا وحقائق تاريخنا وشواهد واقعنا تدل على ذلك وتؤكده، ولكننا في الحقيقة نمارس حقنا المشروع في الدفاع عن معتقداتنا ومقدساتنا، ونستدرك تقصيرنا في القيام بخدمة ديننا، والتعريف بنبينا صلى الله عليه وسلم ، ونعلن رسالتنا الحضارية في الميادين الإنسانية.(/1)
وفي الوقت نفسه فنحن نراجع ذواتنا لنجدد في أمتنا تميزها العقدي، وسموها الخلقي، ورقيها الحضاري ونثبتها عليه؛ لتكون لنا هويتنا الثقافية الحضارية التي لا تضعف و لا تذوب في الحضارات الأخرى الطاغية بقوة إعلامها واقتصادها وهيمنتها العسكرية والسياسية؛ وحتى نكون في عصر العولمة الجارفة رقماً صعباً يحسب له ألف حساب؛ وتصبح أمتنا قادرة على دخول المعترك بأصالة تؤثّر و لا تتأثر، وتتقدم ولا تتقزم، وتتجدد ولا تتبدد.
ومن نافلة القول بيان أن في الغرب تيارات يمينية ذات توجهات عنصرية وممارسات متطرفة، وهي تستبطن أحقاد الحروب الصليبية، وتتبنى الأفكار الصهيونية، وتلك التيارات لها نفوذ سياسي وتأثير إعلامي، وهؤلاء لا بد من مواجهتهم والوقوف في وجههم بما يدفع شرهم ويفضح أمرهم، ويبطل كيدهم الذي يدفع نحو تسميم العلاقات وصراع الحضارات، ولا ينفع هنا التغاضي والسكوت فضلاً عن المداهنة والمجاملة.
متطلبات الاستمرار والاستثمار:
والآن أشرع في هدف المقالة وهو محاولة الوصول إلى وضع إطار عام للوسائل والمعالم التي تكفل الاستمرار في الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم وذلك من الناحية النظرية والعملية:
أولاً: الجوانب الممنوعة:
أبدأ بهذه الجوانب السلبية لأهمية منعها، والتحذير منها، لأنه يترتب عليها أضرار على مسيرة الانتصار، بل ربما أدَّت إلى إيقافها، بل قد تصل إلى إيجاد ما يُضادها ويحاربها، ومن هنا فإن الاستمرار يقتضي ما يلي:
1- الامتناع عن جميع أعمال العنف والحرق والتخريب والإتلاف بأي صورة كانت لأنها تسبب إخلالاً بأمن البلاد، وإحراجاً لحكوماتها، وإضرارا بممتلكاتها، وتشويها لسمعتها وحضارتها، فضلاً عما تُخلّفه من إصابات وخسائر في الأرواح، وكل ذلك في مجمله - على النحو الذي وقع في سوريا ولبنان وأفغانستان – غير مقبول شرعاً ولا مصلحةً، فالتسبب في قتل مسلم جرم خطير وخطيئة كبرى، وإشاعة الاضطراب الأمني مفسدة جسيمة،وقد أكد على منع ذلك العلماء المعروفون وضمنوه بياناتهم.
2- الامتناع عن الترويج لأي معلومة إلا بعد التثبت من صحتها والتعريف بمصدرها، والله جل وعلا يقول: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ، وذلك منعاً للضرر الذي يلحق بغير المعنيين، أو يثير البلبلة والخلاف بين المسلمين، ومن أمثلة ذلك إدراج أسماء منتجات ليست دانمركية على أنها دانمركية، والإصرار على ذلك بعد بيان الحقائق وتقديم الدلائل.
3- الامتناع عن المبالغات غير المشروعة، والمجازفات الممجوجة، فمرة يُذكر أن راسم الكاريكاتير وُجدَ ميتاً محترقاً، وأخرى يُقال كذا وكذا،وهنا أقول إن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ليست بحاجة إلى زيادات وإضافات وحسبنا ما ورد في القرآن والسنة من وجوه عظمته ودلائل معجزاته، ، فلا قبول للخروج عن الثابت المشروع، ولا نفع في الابتداع غير المشروع.
4- الامتناع عن استخدام الألفاظ البذيئة والسب والشتم فذلك ليس من أخلاق المسلمين، وينبغي الامتناع عن العدوان على الآخرين بما ليس فيهم، فالظلم ليس من شيم المؤمنين { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ، بل لا بد من اجتناب كل ما من شأنه أن يُفضي – بغلبة الظن – إلى الإساءة إلى الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } ، وفي تفسير الآية قال ابن كثير:"يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو" [ تفسير ابن كثير ص:711 ] ، "وهذه الآية الكريمة - من آيات الأحكام – أخذ العلماء منها أصل سد الذرائع، لأن سَبَّ الأصنام بالنسبة إلى ذاته جائز مطلوب، ولكن لما كان هذا الأمر المحمود الطيب- وهو سب الأصنام وتقبيحها – قد يؤدي إلى أمر آخر لا يجوز وهو سَبُّ الله، مُنع هذا الشيء الطيب سداً للذريعة " [ العذب النمير للشنقيطي 2/529 ] ، وزاد القرطبي الأمر إيضاحاً بقوله:" قال العلماء حُكْمُها - أي الآية - باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في مَنَعَة وخِيفَ أن يُسبَّ الإسلامُ أو النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحلُّ لمسلم أن يَسبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية...وفي هذه الآية ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع " [ تفسير القرطبي 1/1221]، والقوم اليوم - في مجملهم - لا يُعظمون ديناً ولا يُقيمون حرمة لنبي، والمسلم منضبط بأحكام الشرع لا بمشاعر النفس وعواطفها.
ثانياً: الجوانب المطلوبة:
أ – الناحية المنهجية الفكرية:(/2)
1- الاجتهاد في الإخلاص لله عز وجل وابتغاء مرضاته، والحذر من المباهاة في النصرة، والمزايدة المصحوبة بالعجب أو الغرور، بل كل نصرة وعمل قليل في حق وواجب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
2- البدء بالنفس، والربط بين العلم والعمل، والتلازم بين القول والفعل، فلا ينبغي أن ندعو الناس لنصرة رسولنا صلى الله عليه وسلم ونحن لا نتمسك بهدْيه، ولا نتَّبع سنته، ولا نُعظم قدره.
3- اعتماد مبدأ الرجوع إلى العلماء وذوي الرأي والحكمة لاستشارتهم والصدور عن رأيهم، سيما في الأعمال المُشكلة التي تحتاج إلى علم وبصيرة، وكذا الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى خبرة بالواقع ومعرفة بالعاملين في الميدان.
4- العمل بمبدأ التعاون والتكامل، والبعد عن التفرد والتعارض؛ حتى لا تتكرر الجهود مع إمكانية جمعها وإخراجها بصورة عظيمة تزيد نفعها وانتشارها؛ ولكي لا تُستنفد الإمكانيات مع وجود صورة أمثل وأفضل لاستثمارها.
5-التوعية والتربية على أساس الربط بالأصول والكليات دون حصر الأمر في الفروع والشكليات، فالمقاطعة – مثلاً - مبدؤها تعظيم الدين وحرماته، وأساسها وجوب الدفاع عن كل ما يسيئ للإسلام والمسلمين، وإطارها العام إضعاف المعتدي وعدم التسبب في إعانته على عدوانه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، معنوية أو مادية، وحين تكون توعيتنا لمجتمعنا وتربيتنا لأبنائنا على هذا النحو فستكون مقاطعة الدانمرك مجرد نموذج ومثال في سياق أشمل وأكمل.
6- غرس معاني العزة والقدرة في نفوس المسلمين والتنويه بإمكانية تأثيرهم على واقع مجتمعاتهم وحكوماتهم، وبيان العوامل المؤدية إلى ذلك وإشاعتها والحث على العمل بها والاستفادة منها.
7- إحياء المعاني والمفاهيم الإيمانية كوجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمها على ما سواها، وأهمية التضحية فداء للدين ، والربط بالسيرة وصاحبها عليه الصلاة والسلام ومثال ذلك ما وردفي عناوين إحدى الصحف بالخط الكبير: "المسلمون يجددون بيعة الرضوان"، وينبغي أن نرسخ في النفوس والعقول أن الانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلم دين واعتقاد، وعمل والتزام، ودعوة وتعريف، ومنهج حياة، وليس مجرد رد فعل.
ب- الناحية العملية:
1- الدعوة إلى اجتماع عاجل لعدد من علماء المسلمين وقياداتهم الدعوية ومؤسساتهم ذات السمعة والمصداقية التي لها كلمة مسموعة ومكانة مرموقة عند الشعوب الإسلامية، لتدارس الحدث وتداعياته، وتوجيه وترشيد المسيرة، وتبني المشروعات والأعمال النافعة والتعاون على إنجاحها، واستثمار إمكانيات الجمهور في المسارات الصحيحة، والمجالات المفيدة، وتوضيح الأساليب الحضارية والفكرية المطلوبة، وإعلان المنع والتحذير من التجاوزات والممارسات المشتملة على العنف، وتقديم المطالب التي تحقق المصالح بصورة مناسبة، ليبقى الانتصار حضارياً ومستمراً وإيجابيا ومتنامياً غير منحرف إلى ما لا ينفع، وما لا تُحمد عقباه، ًولعل هذا الأمر يرى النور قريباً بإذن الله.
2- تطوير منهجية المقاطعة واستثمار أهدافها وتوجيه مسارها وذلك من خلال غرس أهمية الاكتفاء الذاتي ودعم المنتجات المحلية والصناعات الوطنية، والانتقال إلى التكامل الاقتصادي مع الدول العربية والإسلامية لتعظيم القدرة الاقتصادية للمسلمين، ولتبادل الخبرات والتجارب بينهم، وللتحرر من الهيمنة والضغوط الاقتصادية التي تُمارس ضد الدول والشعوب الإسلامية، ويحتاج ذلك إلى تدارس وتباحث بين المختصين الاقتصاديين والتجار والصناع والغرف التجارية، وكذا القيام بالدراسات والبحوث اللازمة، والعمل على تحريك وتقوية دور المؤسسات الإقتصادية كالغرف التجارية والمنظمات والمجالس التجارية التابعة لجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
3- العمل على تقوية المقاطعة الاقتصادية وتقديمها كأسلوب سلمي معبر ومؤثر وذلك من خلال ما يلي:
إيجاد المرجعية الموثوقة المنضبطة للمقاطعة لمعرفة المنتجات والشركات وبلاد مَنْشَئِها عن بينة ووفق معلومات ووثائق صحيحة.
التركيز في المقاطعة لا التشتت، فالمقاطعة إزاء هذه الجريمة للدانمرك ومنتجاتها فهي البادئة والمعاندة، ولا ينبغي توسيع الدائرة بشكل كبير ولدول عديدة، فهذا تشتيت للجهد والقوة، وعدم ملاءمة للإمكانية والقدرة.
تقديم الأدلة الشرعية والدراسات الاقتصادية التي توضح جدوى المقاطعة وإمكانية تطبيقها وآثارها الإيجابية على الاقتصاد المحلي والإقليمي والإسلامي؛ لتكون المقاطعة عن قناعة وبصيرة لا مجرد عاطفة قد تخبو أو تنطفئ جذوتها.(/3)
4- العمل على فتح أبواب المشاركة في خدمة الإسلام ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم لكل المسلمين على اختلاف بلادهم وتخصصاتهم وإمكانياتهم وعدم الاقتصار على دور العلماء أو الدعاة أو الشباب وحدهم، وذلك من خلال تبني فكرة « أنصار الرسول » بحيث يتشكل تحتها مجموعات عمل مثل: « رجال حول الرسول » « نساء حول الرسول » « أطفال حول الرسول » « تجار حول الرسول » « محامون حول الرسول » وهكذا، مع إتاحة الفرصة لكل أحدٍ ليُقَدّم أي شيء مهما كان قليلاً، ويكون ذلك من خلال التحديد للعمل المطلوب، التوجيه لطريقة تنفيذه، ، وجمع الجهود والأعمال في نسق واحد لإخراج مشروعات كبيرة.
5- العمل على العناية بتوظيف الإعلام في خدمة الإسلام وإبراز محاسنه والتعريف بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونشر شمائله، ووضع خطة إعلامية مشفوعة بآليات ومشروعات محددة؛ لتسخير الوسائل الإعلامية في المجال الإيجابي ، ومناقشة الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام بأسلوب علمي منهجي ولغة حضارية راقية، بحيث تُعد البرامج المختلفة، والإعلانات المتميزة، ومواقع الانترنت، والمقالات الصحفية باللغات المختلفة، لتعكس الحقيقة وتدحض ما يُخالفها، على أن يكون ذلك بشكل مستمر؛ أخذاً بمبدأ المبادرة لا المدافعة، والتعريف لا التعنيف.
6-التوعية القانونية للمجتمعات الإسلامية عموماً والجاليات الإسلامية خصوصاً؛ لمعرفة الحقوق والواجبات، وتحديد المطالبات، والعلم بما يلزم لها من الإمكانيات، وعدم الوقوع تحت وطأة المخالفات والتجاوزات، والعمل على استثمار وتوحيد جهود القانونيين والمؤسسات القانونية والحقوقية مع الجهود الرسمية الحكومية للوصول إلى ما يحقق حماية حقوق المسلمين واحترام الأديان والرسل والمقدسات بإصدار القوانين والتشريعات العالمية في ذلك.
7- العمل على التركيز على عظمة ومكانة وفضل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته، والتعريف الشامل بسيرته العطرة في مجتمعات المسلمين من خلال جميع الوسائل الممكنة، كمناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والتربية الأسرية، والأنشطة الاجتماعية، والبرامج الثقافية وغيرها.
8- العمل على تحقيق التحلي بأخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم ، وتأسيس مراكز متخصصة وعقد مؤتمرات دورية لإحياء وتجديد الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم وإبراز جوانب العظمة في شخصيته، ومجالات القدوة لأمته، ليكون حياً في واقع الأمة كإمام عادل، وسياسي محنك، وقائد شجاع، وقاض عادل، وتاجر أمين، ومعلم قدير، ومرب فاضل، وصديق وفي، وزوج كريم، وأب رحيم.
9- مقاطعة كل ما يدعو ويؤدي إلى البعد عن هديه وسنته، أو يخالفها ويروّج لما يُعارضها، أو يُنقص من قدره وعظمته، كالقنوات الفضائية التي تُقدّم المواد الهابطة المشتملة على عرض العورات وإثارة الغرائز والترويج للمحرمات، فالانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي مقاطعتها لما فيها الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة والترويج لما يُخالف ما جاء به من دينه العظيم وما اشتمل عليه خلقه القويم.
10- العمل على الإفادة والتواصل والتعاون مع المنصفين من غير المسلمين لمعرفة الوسائل الناجعة ولغة الخطاب المناسبة لعقلية مجتمعاتهم وصولاً إلى تصحيح الصورة النمطية المشوهة عن الإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتيسير عرض وفهم حقائق ومحاسن الإسلام.
11- عقد الندوات والمؤتمرات والمحاورات والمناظرات للتعريف بالإسلام، وذلك من خلال زيارة علماء ومفكري المسلمين إلى بلاد الغرب، ودعوة بعض الرموز الدينية والثقافية والإعلامية الغربية إلى بعض الدول الإسلامية.(/4)
استيلاء الشيعة على جميع مساجد السنة بمدينة كربلاء وطردهم منها
أستوقفني هذا الخبر المتوقع من هذه الفئة التي تسب الصحابه جهارا وتسب أمهات المؤمنين فرأيت من المناسب أن أعرض أراء كبار علماء الأمة الأسلامية حول هذه الفئة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
هذه بعض أقوال العلماء في الرافضة :
أولاً : الإمام مالك :
روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال : سمعت أبا عبدالله يقول ، قال مالك : الذي يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم اسم أو قال : نصيب في الإسلام .
السنة للخلال ( 2 / 557 ) .
وقال ابن كثير عند قوله سبحانه وتعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار .. )
قال : ( ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال : لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ) . تفسير ابن كثير ( 4 / 219 ) . قال القرطبي : ( لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين ) .تفسير القرطبي ( 16 / 297 ) .
ثانياً : الإمام أحمد :
رويت عنه روايات عديدة في تكفيرهم ..
روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال : سألت أبا عبد الله عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة؟
قال : ما أراه على الإسلام . وقال الخلال : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال : سمعت أبا عبد الله قال :
من شتم أخاف عليه الكفر مثل الروافض ، ثم قال : من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين ) . السنة للخلال ( 2 / 557 - 558 ) .
وقال أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن رجل شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما أراه على الإسلام .
وجاء في كتاب السنة للإمام أحمد قوله عن الرافضة :
( هم الذين يتبرأون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونهم وينتقصونهم ويكفرون الأئمة إلا أربعة : علي وعمار والمقداد وسلمان وليست الرافضة من الإسلام في شيء ) . السنة للإمام أحمد ص 82 .
قال ابن عبد القوي : ( وكان الإمام أحمد يكفر من تبرأ منهم ( أي الصحابة ) ومن سب عائشة أم المؤمنين ورماها مما برأها الله منه وكان يقرأ ( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنت مؤمنين ) . كتاب ما يذهب إليه الإمام أحمد ص 21
ثالثاً : البخاري :
قال رحمه الله : ( ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي ، أم صليت خلف اليهود والنصارى ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم ) .
خلق أفعال العباد ص 125 .
رابعاً : عبد الله بن إدريس :
قال : ( ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم ) .
خامساً : عبد الرحمن بن مهدي :
قال البخاري : قال عبد الرحمن بن مهدي : هما ملتان الجهمية والرافضية .
خلق أفعال العباد ص 125 .
سادساً : الفريابي :
روى الخلال قال : ( أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني ، قال : حدثنا موسى بن هارون بن زياد قال : سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر ، قال :
كافر ، قال : فيصلى عليه؟ قال : لا ، وسألته كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله ، قال : لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته ) . السنة للخلال ( 2 / 566 ) .
سابعاً : أحمد بن يونس :
الذي قال فيه أحمد بن حنبل وهو يخاطب رجلاً : ( اخرج إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام ) .
قال : ( لو أن يهودياً ذبح شاة ، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ، ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام ) . الصارم المسلول ص 570 .
ثامناً : ابن قتيبة الدينوري :
قال : بأن غلو الرافضة في حب علي المتمثل في تقديمه على من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته عليه ، وادعاءهم له شركة النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته وعلم الغيب للأئمة من ولده وتلك الأقاويل والأمور السرية قد جمعت إلى الكذب والكفر أفراط الجهل والغباوة ) .
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة ص 47 .
تاسعاً : عبد القاهر البغدادي :
يقول : ( وأما أهل الأهواء من الجارودية والهشامية والجهمية والإمامية الذين كفروا خيار الصحابة .. فإنا نكفرهم ، ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا ولا الصلاة خلفهم ) .
الفرق بين الفرق ص 357 . وقال : ( وتكفير هؤلاء واجب في إجازتهم على الله البداء ، وقولهم بأنه يريد شيئاً ثم يبدو له ، وقد زعموا أنه إذا أمر بشيء ثم نسخه فإنما نسخه لأنه بدا له فيه ... وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبة منه في مذهب الروافض ) . الملل والنحل ص 52 - 53 .(/1)
عاشراً : القاضي أبو يعلى : قال : وأما الرافضة فالحكم فيهم .. إن كفر الصحابة أو فسقهم بمعنى يستوجب به النار فهو كافر ) . المعتمد ص 267 .
والرافضة يكفرون أكثر الصحابة كما هو معلوم .
الحادي عشر: ابن حزم الظاهري :
قال : ( وأما قولهم ( يعني النصارى ) في دعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليسوا من المسلمين ، إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة .. وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ) .
الفصل في الملل والنحل ( 2 / 213 ) .
وقال وأنه : ( ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة ، والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن المتلو عندنا أهل .. وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء وإنما كلامنا مع ملتنا ) . الإحكام لابن حزم ( 1 / 96 ) .
الثاني عشر : الإسفراييني :
فقد نقل جملة من عقائدهم ثم حكم عليهم بقوله : ( وليسوا في الحال على شيء من الدين ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين ) . التبصير في الدين ص 24 - 25 .
الثالث عشر : أبو حامد الغزالي :
قال : ( ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره ،
وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال : ما بدا لله شيء كما بدا له إسماعيل أي في أمره بذبحه .. وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغيير ) .
المستصفى للغزالي ( 1 / 110 ) .
الرابع عشر : القاضي عياض :
قال رحمه الله : ( نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء ) . وقال : وكذلك نكفر من أنكر القرآن أو حرفاً منه أو غير شيئاً منه أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية ) .
الخامس عشر : السمعاني :
قال رحمه الله : ( واجتمعت الأمة على تكفير الإمامية ، لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة وينكرون إجماعهم وينسبونهم إلى ما لا يليق بهم ) .
الأنساب ( 6 / 341 ) .
السادس عشر : ابن تيمية :
قال رحمه الله : ( من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت ، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ، فلا خلاف في كفرهم .
ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم ،
فهذا لا ريب أيضاً في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم . بل من يشك في كفر مثل هذا ؟ فإن كفره متعين ، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الآية التي هي : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وخيرها هو القرن الأول ، كان عامتهم كفاراً ، أو فساقاً ،
ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم ، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ) .
الصارم المسلول ص 586 - 587 . وقال أيضاً عن الرافضة : ( أنهم شر من عامة أهل الأهواء ، وأحق بالقتال من الخوارج ) .
مجموع الفتاوى ( 28 / 482 ) .
السابع عشر : ابن كثير :
ساق ابن كثير الأحاديث الثابتة في السنة ، والمتضمنة نفي دعوى النص والوصية التي تدعيها الرافضة لعلي ثم عقب عليها بقوله : ( ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته ، من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ، ويؤخروا من قدمه بنصه ، حاشا وكلا
ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطيء على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه ،
ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام ، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام ) .
البداية والنهاية ( 5 / 252 ) .
الثامن عشر : أبو حامد محمد المقدسي :
قال بعد حديثه عن فرق الرافضة وعقائدهم :
( لا يخفى على كل ذي بصيرة وفهم من المسلمين أن أكثر ما قدمناه في الباب قبله من عقائد هذه الطائفة الرافضة على اختلاف أصنافها كفر صريح ، وعناد مع جهل قبيح ، لا يتوقف الواقف عليه من تكفيرهم والحكم عليهم بالمروق من دين الإسلام ) .
رسالة في الرد على الرافضة ص 200 .
التاسع عشر : أبو المحاسن الواسطي
وقد ذكر جملة من مكفراتهم فمنها قوله :
( إنهم يكفرون بتكفيرهم لصحابة رسو الله صلى الله عليه وسلم الثابت تعديلهم وتزكيتهم في القرآن بقوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) وبشهادة الله تعالى لهم أنهم لا يكفرون بقوله تعالى : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) . ) .
الورقة 66 من المناظرة بين أهل السنة والرافضة للواسطي وهو مخطوط .
العشرون : علي بن سلطان القاري :(/2)
قال : ( وأما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع إلا إذا اعتقد أنه مباح كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة فإنه كافر بالإجماع ) .
شم العوارض في ذم الروافض الورقة 6أ مخطوط(/3)
اسماء الله الحسنى
الله لفظ جميل. . بفطرة الإنسان وبدون لا يعادله في جماله غيره . . وإسم جليل . . لا يشترك في جلاله سواه . . إرادته وجدانه . . إذا ما سره . . وبداخله وبلا مشيئته . . ودائماً وأبداً . . بقلبه ولسانه . . بعينيه وبكل أمر رآه وإذا سمع قولاً أعجبه . . . قال الله . . طويلة ممدودة . . يود لو دامت . . ودام فيها الزمان. .
. بإسعاد سمعه بسماع لفظ أو صوتاً أسعده . . قال الله . . فرحاً طرباً . . وكأنه يريد أن تكتمل سعادته الله مستنجداً . . متوسلاً . .
وإذا أحزبه أمر . . أو أضر به شأن . . هتف سريعاً . . الله . . فوجئ بما لا يتوقع . مستغرباً . . ففي كل . . أو وقع له ما لا يحتسب . . نادي . . الله . . متعجباً . حالات الإنسان شاء أو لم يشأ ينطق بهذ اللفظ الكريم والإسعاد ينادي . . وكأنما في حالة الإمتاع شاكراً علي من جاد بما أسعده وقع والله موجود . . . وفي حالة الغضب والشر . . يستنكر أن يقع به ما . تدبر الإنسان نفسه . . فيدعوه سائلاً . . إذ بيده وحده أن يزيل ما أكربه ويصرف ما أغضبه . . ولو لوجد أنه ينبعث من عميق داخله . . . . هذا النداء الجميل . . وهذا الهتاف الجليل . . من داخله . . بل فإذا إجتهد في الطاعة وترتفع ستر المادية . . وأخلص التقوي . . إلي أن تشف نفسه . . ويصفو قلبه . . من علي جوارحه وسمع ذراته . . تردد هذا . . لرأي وسمع . . رأي خلاياه تنطق بهذا اللفظ الحبيب . . الإسم القريب . . القريب من القلب في . . القريب من اللسان في النطق . . القريب من الأذن في السماع الذكر
فلقد ثبت أن وحدة الوجود ليست كما كان متعارفاً عليها أنها الذرة . . فلقد تحطمت الذرة . . ووصل العلم إلي معرفة مكوناتها . . فإذا بهذه المكونات هي الكهارب الموجبة . . والسالبة . . هذه الكهارب إنما هي حركة دائمة ورتيبة ولذلك فلقد قرر العلم أن وحدة الوجود إنما هو الحركة . . أو الإهتزاز . . والحركة الرتيبة المتزنة الدائمة لا تشمل فقط وحدة الوجود . . ولكنها تشمل الوجود كله . . إذ تتحرك الكواكب والنجوم . . والأفلاك والمجموعات النجمية . . وما أكبر من ذلك . . وما أبعد منه . . كلها تحكمها الحركة الرتيبة المتزنة الدائمة . . ولما كان الصوت إنما ينتج عن الإهتزاز أو الحركة التي تنتقل من متكلم إلي مستمع . . فكان الوجود كله من أصغر وحداته وهي الكهارب التي تتكون منها الذرات . . إلي أكبر وحداته وهي المجموعات النجمية الرهيبة التي لا يعلم العلم عن ضخامتها شيئاً إلا بالحدس والتخمين لأنها أكبر من تخيله وتصوره . . كل ذلك إنما يتحدث . . بصوت رتيب . . وقول متزن . . دائم ودائب وبتكرار منتظم
. ..... لا يمكن إلا أن يكون ذكراً وتسبيحاً ......
وسبيل الإنسان إلي أن يسمعه . . ويعرفه . . هو أن يصل بشفافيته إلي لحظة يتجرد فيها عن معظم ماديتها . . لينفتح أمامه . . بعض أسرار الكون . . الذي ينطق دائماً من أول مكوناته . . إلي آخرها . . من أصغرها إلي أكبرها . . بهذا الإسم الجميل . . واللفظ الجليل . . الله . . فما هتاف الإنسان بهذا الإسم . . إلا ترجمة وترديد لما هتف به خلاياه . . ووحدات ذراته . . بل ووحدات الكون كله . . وذراته جميعها . . ولقد خص الله سبحانه وتعالي نفسه بهذا الإسم . . ليكون هو الإسم الذي لا يشاركه فيه أحد . . في حروفه . . أو في معناه . . فهو الإسم الذي لا يمكن أن يكون صفة . . قد يشترك في بعض معناها . . أو في حروفها . . غيره . . فقد يقال عن بعض الخلق أنه رؤوف . . أو رحيم . .
كما جاء في القرآن الكريم عن سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بالنص الشريف:
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )
4 سورة التوبة
أسراراسم الله
وقد يكون
من شيمة بعض الناس الكرم . . فيقال أنه كريم . . ولو أنه كرم بنسبة . . وإلي حد . . ولكن لم يصدق علي طول المدي . . وعبر الأزمان . . أن وجد الإنسان . . يوماً . . أو مرة . . من أطلق لفظ الله . . علي غيره جل شأنه .
. ولذلك يقول القرآن الكريم: ( هل تعلم له سمياً ) ¨سورة مريم
وحتي يقف الإنسان علي بعض سر هذا الإسم وجلاله . . وأهميته . . لابد أن نتدبره في القرآن الكريم وندرس المواضع التي ذكر فيها . . وما تشير إليه الآيات الشريفة
إن هذا الإسم . . أكثر الألفاظ تكراراً في القرآن الكريم . . فقد تكرر2697 مرة ولم يتكرر مثله . . أو حتي إلي نصف هذا العدد . . أي لفظ آخر . . كما لم يتكرر إسم واحد . . أكثر من مرة . . في آية واحدة . . إلا هذا الإسم العظيم . . الله . . فنجده يذكر مرتين في آية واحدة مثل ما جاء في النص الشريف: ( إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) سورة فاطر(/1)
بل وتتابع . . إذ يذكر الإسم مرتين متتابعتين في النص الكريم: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد ) ¨ سورة فاطر ونجده يتكرر ثلاث مرات في آية واحدة في مثل النص الشريف: ( يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) سورة الحشر ويتكرر أربع مرات كما جاء في النص الكريم: ( تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسي بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما إقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن إختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما إقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) سورة البقرة بل وتتكرر خمس مرات في آية واحدة مثل ما جاء في الآية الشريفة: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يري الذين ظلوا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب ) ¨ سورة البقرة
وعندما يأمرنا القرآن الكريم بأمر أو ينهانا عن شأن . . فإن الأمر أو النهي إنما يصدر بهذا الإسم في مثل الأمر بالنص الشريف: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها ) ¨ سورة النساء وفي مثل النهي بالنص الكريم: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن تولهم فؤلئك هم الظالمون ) سورة الممتحنة
ولقد شاء سبحانه وتعالي أن يكون التسبيح له بهذا الإسم . . فعندما أمر بالتسبيح في مثل النص الشريف: ( سبح إسم ربك الأعلي ) سورة الأعلي أورد الإسم المختار الذي نسبح به له في النص الكريم: ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) سورة الروم كما قررت الآيات الشريفة أن كل تسبيح من كل ما في السماوات والأرض إنما يكون بهذا الإسم وذلك كما جاء في مثل النص الشريف: ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) سورة الصف وبذلك يكون التسبيح بهذا الإسم الجميل . . وهذا اللفظ الجليل
. .
الذكر باسم الله
وطالبنا القرآن الكريم بأن يكون الذكر بهذ الإسم أيضاً وذلك في مثل النص الشريف
: ( يا أيها الذين آمنوا إذكروا الله ذكراً كثيراً ) سورة الأحزاب
وكذلك الأمر بالنسبة للحمد . . فإن الحمد يكون بهذا الإسم وذلك بنص آيات القرآن الكريم في مثل النص الشريف: ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها ) ¦ سورة النمل والتوحيد ورد في القرآن الكريم بنص هذا الإسم في مثل الآية الكريمة: ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) سورة محمد والإستغفار يكون كذلك بهذا الإسم وذلك كما جاء في مثل النص الكريم: ( وإستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) سورة المزمل(/2)
ولذلك فإن أفضل الدعاء وأفضل الذكر وأفضل التسبيح وأفضل الإستغفار هو ما يقوم به الإنسان . . دائماً وأبداً . . بعد الصلاة . . وقبلها . . وفي إنتظارها . . وفي ختامها . .بالنص المتداول المعروف . . سبحان الله . . الحمد لله . . لا إله إلا الله . . الله أكبر . . لا حول ولا قوة إلا بالله . . وأستغفر الله . . وكلها كما نري تهتف بهذا الإسم الجميل . . وهذا اللفظ الجليل . . وحده . . ودون باقي الأسماء الحسني . . ولو حاول الإنسان أن يستبدل هذا الإسم بإسم آخر من الأسماء الحسني . . ما تغير المعني . . وما تبدل القصد . . ولكن يتغير التوافق الذي يسري في النفس . . ويتبدل الإنسجام الذي يطغي علي الجوارح . . كمن يفقول مثلاً سبحان الرحمن . . الحمد للرحيم . . لا إله إلا الرزاق . . الغفار أكبر . . لا حول ولا قوة إلا بالقدوس . . أستغفر السلام . . وهكذا لا يملك الإنسان . . إلا أن يعود إلي الإسم الجميل . . واللفظ الجليل . . إلي الله . . الذي علمنا القرآن وأمرنا أن نسبح ونحمد ونوحد به ونستغره ونكبر به . . وأمرنا القرآن الكريم أن يكون القسم بهذا الإسم في مثل النص الكريم: ( فإن عثر علي أنهما إستحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين إستحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) سورة المائدة وعندما يذكر القرآن الكريم الرسالات والرسل فإنها تنسب إلي هذا الإسم . . ففي الرسالات تقول الآيات الشريفة: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) 124 سورة الأنعام وفي الرسل تقول الآيات الكريمة: ( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ) 13 سورة الشمس وإذا تدبرنا آيات القرآن الكريم التي وردت فيها الأسماء الحسني . . وجدنا أنها كلها تضاف إلي هذا الإسم الجميل واللفظ الجليل . . وهو لا يضاف إليها . . فنجد بسم الله الرحمن الرحيم . . ولا نجد بإسم الرحمن الرحيم الله . . وأن باقي الأسماء . . يشتق من الصفات . . أو تشتق منه الصفات . . فالرحمن من الرحمة . . والمغفرة من الغفار . . عدا هذا الإسم . . المفرد . . فهو الإسم العلم الذي يحتوي كل الأسماء الحسني . . والصفات العليا . . وتأكيداً لذلك . . وتوجيهاً لهذا الإسم . . بأنه الدال علي الذات الجامعة لكل صفات الألوهية نجد أن الآيات التي أوردت الأسماء الحسني . . قد بدأت كلها بهذا الإسم الجليل واللفظ الجميل وذلك بمثل النص الشريف: ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المومن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . هو الله الخارق البارئ المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السمارات والأرض وهو العزيز الحكيم ) 22 - 42 سورة الحشر بدأت الآيات بهذا الإسم . . رغم أنها آيات متتابعة . . وكذلك في باقي الآيات الكريمة مثل: ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) 2 سورة آل عمران
تدبر أسم الله
ولقد إجتهد الإنسان منذ أن عرف وجود ربه . . وسمع إسمه . . أن يقف علي أسرار هذا الإسم . . ومعاني هذا اللفظ . . فمنهم من حاول أن يعرف ما يدل عليه . .
وما يشير إليه فقال البعض أن الأصل في هذا الإسم هو إله . . والإله من يوله إليه في الحوائج . . أي يفزع إليه في النوائب . . ولا شك أن الله سبحانه وتعالي يلجأ إليه كل الناس في كل الحالات . . وقال البعض أن إشتقاق هذا الإسم من الوله . . وهو الطرب والإمتاع والإسعاد الذي يحسه الإنسان عند الإيمان بالله . . بل وعند ذكره . . وقيل بل إنه من لاه . . ولاه بمعني إحتجب . . وقيل بل لاه بمعني علا . . وفي أقوال أخري أنه الأله أي التعبد . . فهو المستحق للعبادة . . والمعبود وحده . . وقيل أنه من الألوهية وهي القدرة . . وقيل بل إنها الإستحقاق لأوصاف العلو والرفعة . . ورفض الصوفيون كل هذه الأقوال حيث قالوا . . ما قال احد . . الله . . سوي الله . . فهو وحده الأعلم به .
. والحقيقة أن الطريق إلي معرفة بعض أسرار هذا الإسم . . والوقوف علي شئ من حقيقته . . إذ لا يمكن لإنسان مهما أوتي من قدرات وطاقات وإجتهاد ومعارف أن يصل إلي كل أسراره وكامل حقيقته - إنما يكون بالتدبر في الآيات التي ورد بها هذا الإسم . . والتي تكرر فيها نحواً من ألفين وستمائة وسبع وتسعين مرة . . ففي كل مرة يجد الإنسان عجباً . . وأي عجب . . ويحس ببعض حقائق هذا الإسم الجميل . . وخصائص هذا اللفظ الجليل . . وهكذا لابد لكل إنسان أن يقف عند هذا الإسم في كل آية . . يتدبر ويتأمل . . إلي زي ناحية تسير به الآية . . وإلي أي إتجاه يتوجه الإنسان بها إليه . .
أما إذا تدبرنا حروف هذا الإسم . . وجدنا عجباً كذلك . . إنه يتكون من الحروف ا . ل . ل . هـ وهذه تكون الله . . وهو الموجود وواجب الوجود في كل الوجود(/3)
. . وبدون الحرف الأول . . تصبح الحروف الباقية . . ل . ل . هـ . . وهذه تكون لله . . وهي القول الحق إذا ما تساءل الإنسان عن كل ما في الوجود . . وحقاً وصدقاً ما يقوله القرآن الكريم إذ به الآيات الشريفة: ( قل لمن في الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل أفلا تذكرون . قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم . سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل فأني تسحرون ) ¨ سورة المؤمنون
وبدون الحرف الأول والثاني تصبح الحروف الباقية ل . هـ . . . لتكون له . . وحقاً هي . . فالوجود كله إنما . . منه . . وله . . وله كل خلق . . وله كل الأمر . . وذلك ما تقول به آيات القرآن الكريم في مثل النص الكريم: ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) ¨ سورة الأعراف
وبدون الحرف الأول والثاني والثالث يصبح الحرف الباقي هـ . . وهي تشير إلي حقيقته . .فلا إله إلا هو . . وفي ذلك تقول آيات القرآن الكريم: ( هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ) ¨(c) سورة غافر
وبدون الحرف الثاني . . تصبح الحروف الباقية ا . ل . هـ . . لتكون إله .
وأيضاً بدون الحرف الثالث . . تصبح الحروف الباقية ا . ل . هـ . . لتصبح إله كذلك وهي أيضاً اللفظ الذي يشير إلي حقيقته . . فلنتدبر قول القرآن الكريم في النص الشريف: ( وهو الذي في السماء إله وفي الزرض إله وهو الحكيم العليم ) سورة الزخرف
ولنتأمل كيف تكرر لفظ إله في الإسم العظيم مرتين وتكرر نفس اللفظ إله في الآية الشريفة مرتين؟ . . وهو الإسم الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أن يحاول السعي لإكتساب ما يمكنه منه من صفات . . فبينما الأسماء الحسني الأخري . . علي الإنسان أن يجتهد في التخلق قدر طاقته بما تشير إليه من صفات . . كالرحمة من الرحيم . .والشكر من الشكور . . والصبر من الصبور . . ليصبح العبد بذلك قريباً من الله . . في حالة مناسبة لوجوده دائماً بين يديه . . مهرولاً . . في سرعته . . وفي طريق قصير للقائه . .
فإن هذا الإسم . . لا يمكن للإنسان أن يحاول أن يأخذ منه إلا أن يستغرق في معني الإسم . . فليس معه غيره . . وليس من أمر وقع . . ولا شئ لم يقع . . إلا منه . . وحده . . لأنه . . الله . . هذا هو الإسم الأول الذي يسبق الأسماء كلها . . فليس قبله إسم . . وبه تبدأ الأسماء . . وإليه تشير الصفات جميعها . . هذ هو الإسم الذي تميز بخصائص . . وإنفرد بمميزات . . تجعله هو الإسم . . الذي إجتهد فيه المسلمون الأول . . والعلماء . . الحدثون بشزنه . . بحثاً عن الإسم الأعظم . . فليس أعظم من الله . . إسماً . . وليس أعظم من الله . . لفظاً . . أيكون هو الإسم الأعظم . . الذي تنفتح به طاقات النور . . وتتسع له سماوات الرحمة . . وتنهمر فيه أسباب المغفرة؟ . . أم أنه إسم آخر سيفتح الله به علي الناس يوماً . . وهل سيكون في الحياة الدنيا أم سيكون الفتح به علي الناس في الآخرة . . الله أعلم . . لو علمنا بعض قدر هذا الإسم . . لتمسكنا به . . ذكراً . . وترديدا . . وتفهماً . . وتدبراً . . وتأملاً . . ودعاءاً . . وتسبيحاً . .
يا أيها الذي آمنوا أذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلا - سورة الأحزاب(/4)
اسمعوا لهذا القرآن
بعد فترة من الرسل، وغيبة من وحي السماء، طالت خمسمائة عام، أخذت الأمم تبتعد عن الحق والخير والهدى والصلاح والعدل والإحسان والصدق والأمانة، وتنأى عن كل المعاني النبيلة، وتسبح في بحر الجاهلية الحمقاء، وتتحلى بصفات الرذيلة بدلاً من مكارم الأخلاق والفضيلة.
وكان لا بد للبشر في تلك الحقبة الزمنية المأساوية من انفجار عظيم هائل يصك الأسماع ويدوي في الآذان وينبه النيام ويوقظ الغافلين
- الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله العظيم - ويعيدهم إلى ربهم وفطرتهم، ويخلصهم من الجهل العميق العقيم.. كان لا بد للبشر من صرخة وصيحة وزلزلة تهز ضمائرهم، وتفزع قلوبهم، وتحيي نفوسهم التي ماتت كما مات أصحاب القبور، وتقرع أفئدتهم، وتخيفهم وترعبهم، وتنذرهم وتحذرهم.. كان لا بد للناس من يد رحيمة كريمة تمتد إليهم لتخلصهم من الضياع والضلال والشتات والحيرة والاستعباد ، والاستهتار بالحقائق والقيم.
وجاء الانفجار المدوي..
وجاءت الزلزلة والقارعة..
وامتدت اليد الرحيمة..
وجاء المنقذ المنجد..
وكان هو القرآن العظيم، والكتاب المجيد..
إنه النور الذي يهزم جيوش الظلمات، وسحب الشهوات، التي كوّنها الهوى والباطل.
إنه الحكمة الذي لا يرضى بالعبث والجور والاعتداء والاعتساف.
إنه العلم الذي يملأ القلب هدىً وفهماً وبصيرة.
إنه الفرقان الذي يجعل المرء يميز بين الصدق والكذب، ويفرق بين الهدى والضلالة، ويفصل بين الحق والباطل.
وطرقت آيات القرآن وكلمات الرحمن آذان الناس، ونفذت إلى أعماق قلوبهم، وأثرت فيهم أثراً بالغاً، وكيف لا تؤثر فيهم وتوقظهم وهي كلمات الخالق العظيم إلى عباده وخلقه ذوي الفطرة والضمير والوجدان؟؟
وأخذ الناس يستمعون كلام ربهم الذي لا يمكن أن يتلفظ بمثله إنسان، وصار كثير ممن غشيهم عسف الجاهلية يتوبون ويرجعون وينيبون ويستغفرون ويسلمون ويؤمنون وينفضون عن أنفسهم غبار الأيام الجائحة التي أنستهم ذكر ربهم وأبعدتهم كل البعد عن معاني الخير والفضيلة.. وصدق الله في قوله الكريم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[البقرة: 285].
وانبرى المستكبرون للدفاع عن باطلهم ومصالحهم القائمة على الظلم والاضطهاد والعنجهية، ورأوا أن أفضل طريقة للوقوف بوجه الحق الذي تسلم له كل نفس طيبة صادقة عاقلة هو: مواجهة القرآن، ورفعوا شعارهم الجائر الذي يضرب بالمنطق عرض الحائط: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت: 26]، وأعلنوا إعلانهم الجريء: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}[سبأ: 31]، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[الأنعام: 26].
وشرعوا في إلصاق التهم بالنبي الكريم الأمين صلى الله عليه وسلم، والقرآن الحكيم المبين؛ فقالوا بأنه كذب ليس بصدق، وشعر فارغ ليس له واقع، وسحر ليس بحق، وأساطير قديمة، وأحلام خيالية، وكهانة وتنبؤات غير صحيحة، وجنون وافتراء {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}[الأنبياء: 5]، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[صَ: 4]،{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: 6]، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأنعام: 25].
ولكن.. فشلت كل محاولات المجرمين الغشومة الظلومة، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة: 32].
إنهم أبوا أن يسمعوا كلمات الله الهادية، وحاولوا جهدهم أن لا يسمعها أحد من الناس، لكيلا تحظى دعوة الحق بالقبول والإيمان، ولكي يتوجهوا بشره وطمع وحرص وجشع نحو شهواتهم الدنيوية الرخيصة الفانية، وسوف يندمون ويتأسفون حين لا ينفع الندم ولا الأسف، وذلك عندما يساقون إلى نار جهنم أذلاء مخزيين فيقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10].(/1)
ونحن اليوم في القرن العشرين الذي ينبغي أن يكون العالم قد تقدم فيه إلى أرقى مستويات الحضارة والرشد والصلاح والعقلانية والإنسانية، نعيش حالة شبيهة بالجاهلية الحمقاء التي واجهها بقوة وحزم نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم وجاهدها بالقرآن جهاداً كبيراً. بل إننا نرى اليوم جاهلية حمقاء، وأحمق من أختها القديمة، لأن إنسان اليوم تقدم وتطور وأخذ يجدد ويتفنن في الإجرام والطغيان مما لم يكن مشهوداً في العصر القديم.
إذاً، من الواجب علينا أن نتمسك بحبل الله المتين وكتابه المبين لنفوز بالنجاة والخلاص في عصر كثر فيه الهالكون. {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف: 170]، إن من الواجب علينا أن نرفع شعاراً معاكساً لشعار الكافرين الذين اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب بدل المغفرة، شعاراً يقول: اسمعوا لهذا القرآن وتدبروا فيه لعلكم ترحمون، وتفوزون وتربحون وتسعدون..(/2)
اشتراط الولي في النكاح
السؤال :
فتاة مسلمة من كوسوفا تقدم لخطبتها رجل ذو خُلُق و دين ، فرده أبوها لكونه غير ألباني الأصل ، و رد آخرين لأسباب أخرى منها ما هو مادي و منها ما يعتبره مغالاةً من بعضهم في التدين ، إلى غير ذلك من الأسباب و الذرائع ، مع العلم بأن الأب مفرط في جنب الله ، و مقصر في أداء ما افترضه الله عليه ، فهل لهذه الفتاة أن تنكح نفسها بدون إذن أبيها ، مع العلم بأنها حنفية المذهب ، و القانون يسمح لها بالزواج ممن تريد ، و لا يوجد في منطقة إقامتها أي سلطة دينية أو قضاء شرعي ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا يصح نكاح المرأة ثيباً كانت أو بكراً بدون إذن وليها ( و هو الأب أو الأقرب فالأقرب من الأكفاء ) ، و هذا مذهب الجمهور و منهم الأئمة الأربعة إلا أبا حنيفة النعمان رحمهم الله جميعاً ، و الأدلة عليه صريحة صحيحة منها ما في السنن بإسناد صحيح عن عائشة و أبي موسى رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا نكاح إلا بولي ) .
و قوله عليه الصلاة و السلام فيما رواه الترمذي و غيره بإسناد صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر لما استحل من فرجها ، فإن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي له ) .
و ليخشَ من ولاه الله أمر امرأة أن يعضلها أو يحول نكاحها من كفء ذي خلق دين إذا خطبها منه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا خطب إليكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه ؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد عريض )
و عضل المرأة ( و هو منعها من الزواج لغير عذر شرعي ) محرم بنص الكتاب ، فقد قال تعالى : ( وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 232 ] .
و روى البخاري عن الحسن رحمه الله ، قال : حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه قال : زوَّجتُ أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها ، فقلت له : زوَّجتُك وفرشتُك وأكرمتُك فطلقتَها ، ثم جئتَ تخطبها لا و الله لا تعود إليك أبداً ، و كان رجلا لا بأس به ، و كانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية ( فلا تعضلوهن ) ، فقلت : الآن أفعل يا رسول الله ، قال : فزوجها إياه .
فإن أصر الولي العدل على منع موليته من النكاح من الكفء المرضي في خُلُقه و دينه ، أو كان غير عدل في ولايته لفساد دينه أو رأيه ، فإن الولاية تنتقل إلى أحد أقارب المرأة العدول كالجد فمن بعده الأقرب فالأقرب ، فإن عُدموا أو لم يكن فيهم عدلٌ كفؤٌ للولاية صار أمرها إلى السلطان و هو الحاكم المسلم ، فإن لم يكن ثم حاكم مسلم كما هو الحال في معظم ديار المسلمين اليوم صارت الولاية إلى قاض يحكم بالشرع أو إلى عالم ثقة أو سيد قومه من المسلمين ، أو نحوه من الأعيان العدول ، أو العلماء الثقات ، الأمثل فالأمثل .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ في المغني : 7 / 352 ] : ( فإن لم يوجد للمرأة ولي و لا سلطان فعن أحمد ما يدل على أن يزوجها رجل عدل بإذنها ) .
فليتق الله أولياء الأمور في من يلون أمورهن من المسلمات ، و لا يعضلوهن ، فإن الله بالمرصاد ، و الظلم ظلماتٌ يومَ القيامة .
و لتتق الله فتيات المسلمين و نساؤهم في نفوسهن ، فلا يُنكحن أنفسهن بدون إذن أوليائهن ، تحرزاً عن الحرام ، و بعداً عن الخداج ، و سداً لذريعة الفساد .
و الله نسأل أن يحفظ المسلمين رجالاً و نساءً من الفتن ما ظَهَر منها و ما بَطَن .
هذا و الله المستعان ، و بالله التوفيق .(/1)
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
ان الجهاد في سبيل الله حقيقة اسلامية، وطاعة من اعظم الطاعات، وقربة من افضل القربات، وتركه واهماله ذلة ومهانة، والتولي عنه من اكبر الذنوب والمعاصي، فهو ضرورة اجتماعية واخلاقية وعقائدية يضع الامور في نصابها، يحق الحق ويبطل الباطل، انتصاراً للكرامة وكرهاً ونفوراً من الذل والمهانة والضيم، وهزيمة وزجراً للطغاة والعدوان والتسلط، واطفاء للفتنة والشر ودعوة الى الذود عن حياض العقيدة والمبادئ السامية ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين)) البقرة:190.
فهو وسيلة مشروعة في اهدافه مشرّف في آدابه رايته العقيدة الراسخة الراسية يُلجأ اليه عند الضرورة حين تفسد الطبائع فتهذب بالردع والزجر.
وقد اتفق علماء السلف والخلف على ان جهاد الكفار الذين يحتلون بلاد المسلمين يصبح فرض عين على المسلمين الى ان يخرجوا منها اذلة صاغرين وهو من جهاد الدفع وبابه دفع الصائل ولا يشترط له ما يشترط لجهاد الطلب وانما يعمل في ذلك بقدر المستطاع.
قال ابن تيمية :(واما قتال الدفع الذي هو اشد انواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب اجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء اوجب بعد الايمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الامكان...) الفتاوى الكبرى (608/4).
وقال ابن القيم :(فقتال الدفع اوسع من قتال الطلب واعم وجوباً وكهذا يتعين على كل أحد.. لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لاجهاد اختيار فجهاد الدفع يقصده كل احد، ولا يرغب عنه الا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً..) الفروسية ص(187-189).
فاكمل الناس هداية اعظمهم جهاداً فمن جاهد في الله حق جهاده هداه الله سبل رضاه ومن ترك الجهاد وتقاعس عنه، وشكك به ونهى عنه، وقع في الذل والهوان والضياع والخيانة لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم.
((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين))العنكبوت:69.
((ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من اولياء ثم لا تنصرون))هود:113.
من اصول الاسلام اقامة الجهاد مع كل امير براً كان او فاجراً، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، اذ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ولا يشترط في جهاد الدفع شرط، بل هو فرض عين وماض الى يوم القيامة، فينصر الله تعالى عباده بالفضل وليس بالعدل والعاقبة للمتقين الذين ايقنوا بنصر الله ووعده واتبعوا مقدمات واسباب النصر في ظل الصبر والمصابرة والرباط والتقوى.
((الا تنفروا يعذبكم عذاباً اليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير))التوبة:39.
قال ابن حزم :(ولا اثم بعد الكفر اعظم من اثم من نهى عن جهاد الكفار وامر باسلام حريم المسلمين اليهم) المحلى (300/7).
وقال الالباني :(فلا يجوز ترك الكافر يهاجمنا في ارضنا ونحن مكتوفو الايدي، وانما علينا المبادرة للدفاع عن البلد بقدر الاستطاعة..) فقه الدعوة ص239.
ومشروعية جهاد الدفع في العراق وفرضيته، يؤكده تصريح 26 عالماً من علماء الحجاز واكثر من مائة عالم من علماء الازهر والعالم الاسلامي، على ان المقاومة لكل محتل مشروعة وهو امر لا يقره الاسلام فقط، وانما تقره كل الاعراف والاديان والقوانين الدولية والفطر السليمة والعقول الواعية ومنطق وتأريخ الشعوب بعقائدها المختلفة، وان المقاومة للمحتل في العراق مسألة مفروغ منها ومحسومة ومعروفة ومشروعة وستظل كذلك لأنها دفاع عن الحق.
قال الامام احمد (..كل من قاتل المشركين فهو على حق) مسائل احمد،(192/2).
وهل يبقى بعد ذلك من يشكك في جهاد ومقاومة المحتل في ارض الرافدين؟ الا في قلبه مرض.
((ان الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم..)) المجادلة:5.
فاحتج بعضهم في تعطيل الجهاد، بأن كون المجاهدين من جماعة معينة اولا يكون الا بوجود امام عادل، ولا دليل على ذلك بل الادلة السابقة ترده لكون من يقاتل المشركين فهو على الحق وان كان من جماعة معينة، ولا يشترط في الجهاد وجود امام عادل، اذ ان الجهاد ماض الى قيام الساعة مع كل من حمل الراية لنصرة الاسلام وصد العدوان براً كان او فاجراً (ابن ابي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية، ص244).
وقال بعضهم: لا نجاهد لوجود الشبهات في عامة المسلمين، وهذا مردود لكون الشبهات موجودة في كل العصور وبالأخص في عصر الغزو المغولي، ومع ذلك فان ابن تيمية قاد الناس الى الجهاد لردهم ولم يمنعه ما بهم من شبهات او البدء باصلاح عقائدهم قبل قيادتهم للجهاد.(/1)
وماثل بعضهم عصرنا بالعهد المكي، مما يلزم اتباع نفس المنهج والتشريعات والاساليب، ولذلك يعطل الجهاد ويبدأ بالتربية، وهذا الزعم لا دليل عليه بالعودة الى اسلوب العهد المكي، لان اكثر احكامه قد نسخت باحكام العهد المدني فاوجب الله تعالى الجهاد فكيف ننسخ احكام العهد المدني المحكمة ومنها احكام الجهاد ومثلها وجوب الصيام والزكاة والحج وغيرها؟ فهذا مما لا يقبله عقل ولا شرع ولا منطق.
وقال البعض: ان الجهاد سيؤدي الى القتل وضياع الاموال والتدمير وانتهاك الاعراض، الا يعلم اصحاب هذا القول بان ما يذكرونه يحصل قطعاً بالاحتلال واكثر منه هو الفتنة الكبرى في الدين والعرض والنفس والمال والعقل، وهذا يوجب الجهاد ورد العدوان، وان وصلت المواجهة الى الابادة دفعاً للفتنة في الدين، كما قص علينا القرآن الكريم قصة اصحاب الاخدود وسحرة فرعون.
وقال البعض: بتوازن القوى في العدد والعدة وهذا لا يصلح دليلاً، اذ ان اغلب معارك الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يتحقق بها هذا الشرط، ففي معركة بدر كان عدد المسلمين اقل من ثلث عدد المشركين، وفي معركة احد كان عدد المسلمين اقل من الربع وهكذا في المعارك الاخرى، ويظهر جلياً في معركة القادسية واليرموك، فلا يشترط توازن القوى؛ لان اشتراطه ينفي الجهاد ويؤدي الى تعطيله فلا جهاد يتحقق به.
بعد كل هذا، ووضوح شرعية المقاومة التي تهدف الى رد المعتدي واخراج المحتل بل هي دفاع عن الاسلام والمسلمين والذي يتجلى فيه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير ونصرة المظلوم ورد العدوان والظلم وتحقيق الاخوة الايمانية والاعتصام بالاسلام عقيدة وفكراً وسلوكاً وجهاداً وعزة وكرامة وبطولة وقوة..
فليعد المتقاعسون عن الجهاد الى حدود الله ويتوبوا توبة نصوحاً من تحريف الكلم عن مواضعه والوقوع في مزالق المغضوب عليهم والضالين.
((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..)) المجادلة:22.(/2)
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
د. توفيق الواعي
بعد ما حدث ويحدث في فلسطين لا يسعنا إلا نقول لأهلنا الأبطال في فلسطين: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200) (آل عمران). ونقول لأنفسنا وأهلينا وسلطاتنا: تحركوا، وساندوا وشاركوا إخوانكم في البأساء والضراء، فهؤلاء الأبطال اليوم حصن الأمة وشرفها وخط جهادها الأول، وإن هؤلاء اليهود هم أعداء الماضي والحاضر والمستقبل، وهم الخطر الزاحف على الأمة، ومخالب الاستعمار الغازي، وناقضو العهود والمواثيق، أفلا يجدر بنا أن نحس وأن نعرف خطر هذا الوباء الداهم؟
إن ما نحن فيه اليوم يمثل موتاً حقيقياً لجسد الأمة وروحها وعزتها، إن كانت لها عزة باقية.
لقد احتار الناس حتى الأعداء في وصف هذه الأمة المريضة بالضياع والخمول والجبن، وكل سنة تمر عليها تزيدها وهناً ونكسة، حتى سمى أحد الباحثين سنتها هذه "سنة العار"، وأنا أسميها كذلك، وأضيف إلى هذه التسمية أنها "سنة الوحل" بامتياز، باعتبار أن آيات الذل والمهانة والتآمر والخنوع تشكل قسمات محياها البئيس.
إن الكلمات تعجز عن وصف وقائع حملة الإبادة التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني، وتحولت فيها "إسرائيل" إلى آلة للقتل والتدمير والتخريب في الديار، وسفك الدماء ورجم بالطائرات بطريقة وحشية تجاوزت بكثير حدود الإجرام النازي بكل مآسيه، والهدف الحقيقي لتلك الحملة الظالمة معروف، وهو تحقيق أحلام كثيرة راودت المجتمع الإسرائيلي، على رأسها إبادة الشعب الفلسطيني. وقد بدأ اليهود تنفيذها منذ احتلالهم فلسطين، بعد أن قاموا بمذبحة دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرهما لتهجير العرب وإخلاء فلسطين منهم والاستيلاء على ديارهم وأوطانهم.
إن العار والوحل العربي قد تعديا كل الحدود، وذلك أن العواصم العربية وقفت متفرجة على ما يجري في غزة، ليس ذلك فحسب، بل إنها فتحت أبوابها لاستقبال رئيس الوزراء الصهيوني والعمل تحت إمرته، بينما الدماء تنزف غزيرة في القطاع، والقصف مستمر بصورة يومية كأشد ما يكون، هذا ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض الدول العربية حاولت اتهام الفلسطينيين بالتآمر عليها لإيجاد مبرر للعداوة والتخلي عن القضية، وبعض الدول الآن همها الوحيد، الإفراج عن الجندي الأسير، ولم تتحدث عن عشرة آلاف أسير فلسطيني في سجون الصهاينة، ولا عن مئات الأسرى من النساء والأطفال الذين يقبعون منذ سنوات في السجون الإسرائيلية تحت العذاب، وهاجسها الأول هو إرضاء "إسرائيل" ومن ورائها أمريكا. وإذا أردنا أن نلوم الأمم المتحدة والدول الأخرى التي تحت السيطرة الأمريكية والموغلة في التواطؤ مع الصهيونية فينبغي أن نخفف اللوم، لأنه ليس من المنطقي أن نطالب الآخرين بنصرتنا، في حين أننا نصادق أعداءنا ونرضى، أو على الأقل نسكت، عن أفعالهم وجرائمهم!
ومع استمرار جرائم الحرب الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإطلاق تل أبيب يد جيش الإجرام الصهيوني في غزة والضفة الغربية، وتجاوزها أبسط معاني القانون الدولي والأخلاق الإنسانية بالقبض على أكثر من 60 من ممثلي الشعب الفلسطيني من نواب ووزراء وموظفي محليات، كان من الطبيعي أن يكون الشأن الفلسطيني هو المسيطر تقريباً على الاتجاهات العامة للصحافة العالمية الصادرة صباح الخميس 6 يونيو 2006م.
وكانت الصحافة البريطانية هي الأكثر اهتماماً بردود الفعل الدولية والإقليمية تجاه الأزمة الفلسطينية الراهنة، ووصفت الموقف الأوروبي المتخاذل تجاه الفلسطينيين ب"المخزي"، فيما استمرت "نغمة" الذعر والخوف الصهيوني من النجاحات النوعية المتواصلة للمقاومة الفلسطينية، سواء على مستوى الممكنات الصاروخية المتوافرة لكتائب القسام وغيرها، أو القدرات التنظيمية والعسكرية للفصائل وقواتها.
ومن بين الصحف البريطانية كانت صحيفة "التايمز" هي الأعلى صوتاً في هذا المقام، ونقلت عن المحامي الجنوب إفريقي جون دوجارد وهو خبير في مجال حقوق الإنسان وكلفته الأمم المتحدة، بالتحقيق في الانتهاكات الصهيونية انتقاده للجنة الرباعية الدولية أمام جلسة طارئة للمجلس الدولي لحقوق الإنسان، وقال: إن موقفها سلبي من السلوك الصهيوني غير الأخلاقي.
الكاتبة الصحفية البريطانية جوناثان ستيل كتبت في صحيفة "جارديان" مقالاً بعنوان: "ردة فعل أوروبا على حصار غزة مشينة"، وقالت: "إن الفلسطينيين وليس الصهاينة هم من لا يجدون لهم شريكاً في السلام في الشرق الأوسط، وأنهم لن يجدوا شريكاً ما لم تقبل "إسرائيل" أن تعترف بحق فلسطين في الحياة والنمو".
وانتقدت صوت الاتحاد الأوروبي المكمم بصورة "مخزية" والذي لم يتعد العبارات المطاطة من قبيل التعبير عن القلق، والمطالبة بضبط النفس. وقالت: إن الموقف الأوروبي من الأصل بمقاطعة حكومة فلسطينية منتخبة تقودها حماس هو موقف خاطئ.(/1)
أما صحيفة "فاينانشال تايمز" فقد كتب رئيس مجموعة الأزمات الدولية بها جاريث إيفانز ومدير برنامج الشرق الأوسط بالمجموعة روبرت مالي مقالاً مشتركاً، أكدا فيه على ضرورة إعادة تقييم الموقف في الشرق الأوسط، وقالا إن شعبية حركة حماس تزداد رغم كل الممارسات الصهيونية، بل إن هذه الممارسات هي التي أدت إلى زيادة شعبية الحركة.
وفي سابقة غريبة، نشرت "تايمز" إعلاناً مدفوع الأجر على صفحة كاملة، يحمل عنوان: "ماذا تفعل إسرائيل؟" نداء من اليهود في بريطانيا، ويحمل الإعلان توقيعات أكثر من 300 يهودي بريطاني اعترضوا على الاعتداءات الصهيونية في غزة، وقالوا: "ننظر برعب إلى العقاب الجماعي الذي تمارسه القوات "الإسرائيلية" على سكان غزة، وحث الإعلان على إرسال خطابات إلى السفارة الصهيونية في بريطانيا من أجل "جعلهم يفهمون أن تصرفاتهم خاطئة، وأن المبررات التي يرددونها ليست مقنعة".
وبعد، فهل نستطيع أن نطالب أنظمتنا الموقرة بالحديث عن الإجرام الصهيوني وعن إدانته كما تتحدث الصحف الأجنبية، بل كما تحدث اليهود والأوروبيون أم أننا فقدنا كل شيء ولا أمل عندنا في شيء؟
ولكننا نقول رغم ذلك كله إيماناً بوعد ربنا: يا أيها الذين آمنوا \صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون 200 (آل عمران)، نسأل الله العلي القدير أن ينصر دينه وعباده المؤمنين المجاهدين الصابرين المرابطين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(/2)
اصمدوا، واحزموا بطونكم أيها المسلمون العراقيون !
لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين المجاهدين بالصبر والمصابرة: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [آل عمران:200]
إنكم أهل حق، والصليبيون الصهاينة أهل باطل، وأنتم مظلومون والصليبيون الصهاينة ظالمون، وأنتم المعتدى عليكم، وهم المعتدون، وأنتم أهل الوطن الطبيعيون، وهم الغرباء الطارئون عليه كطروء ابن الزنا على أُسرة طاهرة.
والشعب العراقي كله جيش، وعدده كبير، والعدو مهما كثر عدده قليل، والشعب العراقي يعرف جبال بلده وصحاريه، شعابه ووديانه، ويعرف شوارع مدنه الواسعة وأزقتها الضيقة، وعدوه يجهل الكثير من ذلك.
والشعب العراقي مدرب على القتال العملي، معروف بالشجاعة والشدة والبأس، قتاله للدفاع عن نفسه وماله وعن أرضه وعرضه، قتال مشروع، يقوم به في رضا واطمئنان، والجيش المعتدي، يعلم في قرارة نفسه أن قتاله غير مشروع، زج به قادته في أتون النار ظلما وعدوانا، شجاعته تكمن في إرساله سلاحه من بعد المسافات المقدرة بعشرات الأميال ومئاتها...
فإذا ما اضطر إلى اللقاء ظهر جبنه وفراره من أرض المعركة، كما تفر الأرانب من رؤية الأسود، ترعبه رؤية الدم، وترهبه نظرات المقاتل الشجاع.
فخذ أيها الشعب المسلم بأسباب النصر:
الإخلاص لله في جهادك، لأن الجهاد الشرعي هو ما أريد به وجه الله، فلا تقاتل لمغنم ولا منصب ولا مال ولا جاه، ولا تقاتل رياء ولا سمعة، ولا تقاتل ليقال: إنك شجاع، « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله »
والتوبة إلى الله من ذنوبك، وذكر الله عند لقائك، وطلب الشهادة ببذل نفسك ومالك، و الصبر والمصابرة أمام أعدائك.
الإكثار من دعاء ربك فإنه قريب يجيب المضطر إذا دعاه، وينصره على من ظلمه وعاداه.، وإذا رضي عن الفئة القليلة، نصرها على الفئة الكثيرة.
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت } [البقرة:249-251]
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } [الأنفال: 45]
وله تعالى جنود لا يراها المجاهدون في سبيله، يرسلها لنصرهم على من شاء أعدائه وأعدائهم: { يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } [الأحزاب:9]
فاثبتوا واصمدوا واصبروا وصابروا أمام عدوكم، فإن الله ناصركم عليه بإذنه.
ثم اربطوا أحزمتكم على بطونكم وانطلقوا مستعينين بربكم، منزلين أشد الرعب والهزائم بعدوكم، أكثروا من العمليات الفدائية الاستشهادية، وامكروا بالقوم مكر الصياد الماهر بالفريسة المذعورة.
فلا أريد بحزم البطون هنا ربطها بأحزمة، للصبر على الجوع، وإنما أريد حزمها بأحزمة أشد فتكا بالعدو من أحزمة إخواننا المجاهدين في الأرض المباركة، لأن الأحزمة المتاحة عندكم أوفر وأقوى من الأحزمة التي يحصل عليها المجاهدون في فلسطين، وهذه الأحزمة هي التي لا طاقة لأعداء الله بها، فأنتم تحبون الموت في سبيل الله، أشد من حبهم الحياة.
وقد مضى أكثر من خمسين عاما على العدوان اليهودي الغربي على الشعب الفلسطيني، وتشرد غالبه في أنحاء الأرض، وبقي من بقي في هذا الشعب، بعاني من القتل والتدمير والحصار، يحرم من المأكل والمشرب والمسكن، والدواء والغطاء، والتعليم وكل حق من حقوق الإنسان.
وتعاونت الاستخبارات العالمية، تقودها (C.I.A) الأمريكية والاستخبارات اليهودية، واستخبارات غالب الدول العربية، مع العملاء الذين جندهم اليهود من أبناء فلسطين، للقضاء على المقاومة الجهادية في فلسطين.... وقد ابتلي المجاهدون بكل نوع من أنواع الابتلاء التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من عباد الله، فصبروا وصابروا ولا يزالون يصبرون ويصابرون.
ولم يصب العدو اليهودي في مقتله، بمثل ما أصابته به العمليات الاستشهادية، مع صعوبة حركات الاستشهاديين، في شوارع مدنهم وحاراتهم وأحيائهم، فضلا عن حكاتهم فيما يسمى بما وراء الخط الأخضر في حيفا ويافا وتل أبيب...
أما أنت يا شعب العراق المسلم، فحركاتك في غاية السهولة، وحركات عدوك في غاية الصعوبة...
وأنت تعلم يا شعب العراق المسلم أن أهداف عدوك من العدوان عليك: السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية، أساسها كلها القضاء على قوتك التي لم يعد يخاف غيرها على المغتصب اليهودي لأرض الإسراء والمعراج.
فقد اعترفت بتلك الدولة المحتلة اعترافا رسميا بعض العواصم العربية، و أعلنت بقيتها استعدادها للاعتراف الرسمي، إذا منحها اليهود السلام الْمُذِل، وجادوا للفلسطينيين بمكاتب شرطة، تسمى دولة.(/1)
واعلم يا شعب العراق أنك من أهم العقبات التي إذا اقتحمها الأعداء، فتحت الأبواب لتحقيق جميع الأهداف اليهودية في المنطقة العربية، لرفع العلم الصهيوني في كل عاصمة عربية، بل في كل عواصم الشعوب الإسلامية، وتحقق لليهود دولتهم الكبرى من النيل إلى الفرات، وأصبح اليهود مسيطرين عسكريا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا واجتماعيا... تحقق بهم أمريكا كل أهدافهم التي خططوا لها في البلدان العربية.
فاصمدوا واصبروا وصابروا، واجعلوا هدف جهادكم المعتدين من جنود الأمريكان والبريطانيين، ولا تشغلوا أنفسكم بإخوانكم الكويتيين المغلوب على أمرهم كغيرهم من الشعوب العربية، فالأعداء حريصون على إيقاد نار العداوة والبغضاء والنزاع بين الدول العربية، وبين الشعوب العربية كذلك، ليضربوا بعضهم ببعض، ويجنوا هم الثمار في آخر الأمر.
وعلى الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، أن تجتهد في دعاء ربها أن ينصر هذا الشعب المسلم، على هذا العدو المعتدي.
صوموا وادعوا، وصلوا وادعوا، وقوموا في جوف الليل وادعوا، وعلى أئمة المساجد أن يكثروا من القنوت في جميع الصلوات، فهذه نوازل عظيمة لا ينبغي لمسلم أن يتكاسل عن الدعاء فيها.
حرضوا الأطفال والشيوخ والمرضى في البيوت والمستشفيات أن يكثروا من الدعاء ليجنب الله الشعوب الإسلامية شر هذه الفتنة التي نزلت بهم، ويرد كيد الأعداء في نحورهم، ويجل تدبيرهم تدميرهم:
{ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } [آل عمران:146-148](/2)
اطلب الاستقامة تأتيك الكرامة
السؤال :
كيف يصل الإنسان لدرجة من الإيمان تجعله يرى الرسول في الرؤيا ، و ما الذي عليّ أن أفعله لأصل إلى هذه الدرجة ؟
و كيف أصل لدرجة العبد الصالح الذي يستجاب لدعائه؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن رؤيا المسلم للنبي صلى الله عليه و سلّم في المنام قد تكون بشير خيرٍ ، و قد تكون نذير شرٍ ، فمن رآه على الصفة الشرعيّة ، فهذه بشارةٌ له بالخير و السداد في دنياه و أخراه إن شاء الله ، أمّا إن رآه على غير صفته المعروفة فالأمر مختلف ، كما لو رآه حليقاً ، أو لابساً لبسة الفرنجة ، أو على حال لا تليق بأنبياء الله و رسله ، و عندئذٍ تؤوّل رؤياه بأنّ فيها تذكير للرائي بضرورة العودة إلى دينه ، و التمسّك بسنّته ، و الاهتداء بهديه .
و لا شك أن رؤيا النبيّ صلى الله عليه و سلّم في المنام على صفته المعلومة حق ، لأنّ الشيطان لا يتمثّل به ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن و أحمد بألفاظ متقاربة ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَخَيَّلُ بِي ) ، و في روايةٍ ( فقد رأى الحق ) .
قال القاضي عياض رحمه الله ( كما رواه عنه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ) : يحتمل معنى قوله فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي : فقد رأى الحق إذا رأوه على الصفة التي كان عليها في حياته ، لا على صفة مضادة لحاله ، فإن رُئيَ على غير هذا كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقية فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه و منها ما يحتاج إلى تأويل و عبارة .اهـ .
و ليس بلازم للعبد الصالح أن يراه عليه الصلاة و السلام في المنام ، بل هو أمرٌ يختص الله تعالى به من يشاء من عباده ، و من أراد ذلك فليلزم سنّته و هديه في أموره كلّها ، و ليحرِص على ما افترضه الله عليه ، و يلتجئ إليه بالدعاء ، و يتقرّب إليه بالنوافل ما استطاع ، فمن فَعل ذلك تقرّباً إلى الله تعالى ، كان الله تعالى منه أقرب و إليه بإجابة دعوته أسرَع .
روى البخاري و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا تَقَرَّبَ إِلَي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَي بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ » .
فمن تقرّب إلى الله تعالى بامتثال ما أمَره به و اجتناب ما نهاه عنه ، و تأسى بنبيّه صلّى الله عليه و سلّم ، فقد أحسن الاتّباع ، و أخذ بأسباب السعادة في العاجل و الآجل ، فإن وُفّق بعدها لرؤية النبيِّ صلى الله عليه و سلّم في المنام ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن لم يُكتَب له ذلك فقد حصّل الأجر و الثواب الجزيل عند الله تعالى ، و لم يَضِره شيء ، فلا يَجزَع و لا يقنط .
و قد أحسن من قال : ( سبيل الصادق مطالبة النفسِ بالاستقامة ، فهي كلّ الكرامة ) [ شرح العقيدة الطحاويّة ، لابن أبي العز الحنفي ، ص : 495 ] .
أما قول السائل : و كيف أصل لدرجة العبد الصالح الذي يستجاب لدعائه؟
فأحيله إلى رسالةٍ لطيفةٍ مفيدة فيها أسباب إجابة الدعاء و موانعه و مسائل أخرى مفيدة ، و هي على الرابط التالي : http://www.saaid.net/rasael/r74.htm
و الله الهادي إلى سواء السبيل .(/1)
اعترافات إمرأة غربية
سليمان بن صالح الخراشي
دار القاسم
هذا مقال نشرته مجلة الأسرة (عدد 71) عن اعترافات امرأة غربية. أسلمت حديثا، أحببت عرضه للقراء - لاسيما النساء المسلمات - ليعلمن ما هنّ فيه من نعمة.
قالت المجلة:
( ليس جديداً القولُ بأن الحملة على الإسلام وتشويه حقائقه هي على أشدها في الغرب، حتى إن المسلمين غدوا في ظن بعض الغربيين أناسا وثنيين يعبدون القمر! لكن ما يشيع البهجة أن الإسلام أكثر الأديان انتشارا. في العالم، وربما كان ذلك أحد أسباب حقد الغرب عليه! فكثيرون في الغرب وجدوا ضالتهم المنشودة في الإسلام بعد أن تنكبت بهم سبل البحث عن الهداية في مجتمعات مادية ممسوخة.
ومن أكثر (الدعاوى) التي يرددها الإعلام الغربي عن الإسلام الادعاء بأنه يقهر المرأة ويجور عليها، ورغم أن هذا الادعاء رُدَّ عليه مراراً قبل أكثر من مائة عام، إلا أن الرد هذه المرة يأتي من امرأة غربية اعتنقت الإسلام حديثا. تعالوا نقف على تفاصيل رؤيتها تلك.
قالت: " في أوقات كان الإسلام يواجه فيها عداءً سافراً في وسائل الإعلام الغربية، ولا سيما في القضايا التي كان موضوع نقاشها المرأة، وربما كان من المثير للدهشة تماماً أن يتبادر إلى علمنا أن الإسلام هو الدين الأكثر انتشارا في العالم، كما أن من العجب العجاب أن غالبية من يتحولون عن دياناتهم إلى الإسلام هم من النساء.
إن وضع المرأة في المجتمع ليس بقضية جديدة، وفي رأي العديد من الأشخاص فإن مصطلح " المرأة المسلمة " يرتبط بصورة الأمهات المتعبات اللواتي لا هم لهن إلا المطبخ، وهن في الوقت عينه ضحايا للقمع في حياة تحكمها المبادئ، ولا يقر لهن قرار إلا بتقليد المرأة الغربية وهكذا.
ويذهب بعضهم بعيدا في بيان كيف أن الحجاب يشكل عقبة في وجه المرأة، وغمامة على عقلها، وأن من يعتنقن منهن الإسلام، إما أنه أجري غسل دماغ لهن، أو أنهن غبيات أو خائنات لبنات جنسهن.
إنني أرفض هذه الاتهامات، وأطرح السؤال التالي: لماذا يرغب الكثير والكثير جدا من النساء اللواتي وُلدْنَ ونشأن فيما يدعى بالمجتمعات "المتحضرة" في أوروبا وأمريكا في رفض "حريتهن " و"استقلاليتهن " بغية اعتناق دين يُزعم على نطاق واسع أنه مجحف بحقهن ؟
بصفتي مسيحية اعتنقت الإسلام، يمكنني أن أعرض تجربتي الشخصية وأسباب رفضي للحرية التي تدعي النساء في هذا المجتمع أنهن يتمتعن بها ويؤثرنها على الدين الوحيد الذي حرر النساء حقيقة، مقارنة بنظيراتهن في الديانات الأخرى.
قبل اعتناقي للإسلام، كانت لدي نزعة نسائية قوية، وأدركت أنه حيثما تكون المرأة موضع اهتمام، فإن ثمة كثيرا من المراوغة والخداع المستمرين بهذا الخصوص ودون قدرة مني علي إبراز كيان هذه المرأة على الخارطة الاجتماعية. لقد كانت المعضلة مستمرة: فقضايا جديدة خاصة بالمرأة تثار دون إيجاد حل مرض لسابقاتها. ومثل النسوة اللواتي لديهن الخلفية ذاتها التي أمتلكها، فإنني كنت أطعن في هذا الدين لأنه كما كنت أعتقد دين متعصب للرجل على حساب المرأة، وقائم على التمييز بين الجنسين، وأنه دين يقمع المرأة ويهب الرجل أعظم الامتيازات. كل هذا اعتقاد إنسانة لم تعرف عن الإسلام شيئا، إنسانه أعمى بَصَرَها الجهلُ، وقبلت هذا التعريف المشوّه قصداً للإسلام.
على أنني ورغم انتقاداتي للإسلام، فقد كنت داخلياً غير قانعة بوضعي كامرأة في هذا المجتمع. وبدا لي أن المجتمع أوهم المرأة بأنه منحها "الحرية" وقبلت النسوة ذلك دون محاولة للاستفسار عنه. لقد كان ثمة تناقض كبير بين ما عرفته النساء نظريا، وما يحدث في الحقيقة تطبيقا.
لقد كنت كلما ازداد تأملي أشعر بفراغ أكبر. وبدأت تدريجياً بالوصول إلى مرحلة كان عدم اقتناعي بوضعي فيها كامرأة في المجتمع انعكاسا لعدم اقتناعي الكبير بالمجتمع نفسه. وبدا لي أن كل شيء يتراجع إلى الوراء، رغم الادعاءات. لقد بدا لي أنني أفتقد شيئاً حيويا في حياتي، وان لا شيء سيملأ ما أعيشه من فراغ. فكوني مسيحية لم يحقق لي شيئاً، وبدأت أتساءل عن معنى ذكر الله مرة واحدة، وتحديداً يوم الأحد من كل أسبوع ؟ وكما هو الحال مع الكثيرين من المسيحيين غيري، بدأت أفيق من وهم الكنيسة ونفاقها، وبدأ يتزايد عدم اقتناعي بمفهوم الثالوث الأقدس وتأليه المسيح (عليه السلام). وبدأت في نهاية المطاف أتمعن في الدين (الإسلام). لقد تركز اهتمامي في بادئ الأمر، على النظر في القضايا ذات العلاقة بالمرأة، وكم كانت تلك القضايا مثار دهشتي. فكثير مما قرأت وتعلمت علمني الكثير عن ذاتي كامرأة، وأين يكمن القمع الحقيقي للمرأة في كل نظام آخر وطريقة حياة غير الإسلام الذي أعطى المرأة كل حقوقها في كل منحى من مناحي الحياة، ووضع تعريفات بينت دورها في المجتمع كما هو الحال بالنسبة للرجال في كتابه العزيز ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا .(/1)
ولما انتهيت من تصحيح ما لدي من مفاهيم خاطئة حول المنزلة الحقيقية للمرأة في الإسلام، اتجهت لأنهل المزيد، فقد تولدت لدي رغبة لمعرفة ذلك الشيء الذي سيملأ ما بداخل كياني من فراغ، فانجذب انتباهي نحو المعتقدات والممارسات الإسلامية، ومن خلال المبادئ الأساسية فحسب كان يمكنني أن أدرك إلى أين أتوجه وفقا للأولويات. لقد كانت هذه المبادئ في الغالب هي المجالات التي لم تحظ إلا بالقليل من الاهتمام أو النقاش في المجتمع. ولما درست العقيدة الإسلامية، تجلى لي سبب هذا الأمر؛ وهو أن كل أمور الدنيا والآخرة لا يمكن العثور عليها في غير هذا الدين وهو " الإسلام ").(/2)
اعتقاد أهل السنة في الصحابة ( 2 )
محمد الوهيبي
3 - إن سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في الدين..
بينا في الفقرة السابقة رجحان تكفير من سب صاحبياً تواترت النصوص بفضله من جهة دينه.
أما إن لم تتواتر النصوص بفضله فقول جمهور العلماء بعدم كفره، وذلك لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة إلا أن يسبه من حيث الصحبة.
4 - إن سب بعضهم سباً لا يطعن في دينهم وعدالتهم...
فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب، ولكن وحسب مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع المذكورة لم أر أحداً منهم يكفر فاعل ذلك (ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. وأما إن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العالم) [1] وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك: (اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة [2].
ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي، وضعف الشخصية والغفلة وحب الدنيا ونحو ذلك وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة باسم الموضوعية والمنهج العلمي وللمستشرقين أثر في غالب الدراسات من هذا النوع.
ولعل من المناسب هنا أن نقف وقفة قصيرة جداً نبين فيها فساد هذا المنهج وخطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة، ونبدأ ذلك بالتعريف بالمنهج الموضوعي عند الغربيين،
المنهج الموضوعي: أن يبحث الموضوع بحثاً عقلياً مجرداً بعيداً عن التصورات الدينية [3]، فنقول رداً على ذلك:
أ- المسلم لا يمكن أن يتجرد عن عقيدته بأي حال من الأحوال إلا أن يكون كافراً بها [4].
ب- وكذلك نقول بالنسبة للتاريخ الإسلامي: إذا ثبتت الحوادث في ميزان نقد الرواية فبأي منهج نفهمها ونفسرها؟ إذا لم نفسرها بالمنهج الإسلامي فلا بد أن نختار منهجاً آخر فنقع في الانحراف من حيث لا نعلم وبناء على ذلك يجب أن نحذر من تطبيق هذا المنهج على تاريخ الصحابة ويجب أن نعلم أيضاً) أن ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعي لتاريخ الصحابة هو السب الوارد في كتب أهل البدع وفي كتب الأخبار، وتسميته بالمنهج العلمي لا يخرجه عن حقيقته التي عرف بها عند أهل السنة، وأيضاً تسميته بذلك لا تعلي من قيمته، كما لا يعلي من قيمته أن يردده كُتَّاب مشهورون، وفيهم أولوا فضل وصلاح، وإنما كل ما فعله المحدثون أن أحيوا هذا السب الذي أماته أهل السنة لما كانت الدولة دولتهم [5].
والذي أوصي به نفسي وإخواني الباحثين في تاريخ الصحابة أن لا يتخلوا عن عقيدتهم - ومنها الاعتقاد بعدالة الصحابة وتحريم سبهم - عند بحثهم، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وليعلموا أن لأهل السنة منهجاً واضحاً في النظر إلى تلكم الأخبار كما سيأتي في آخر البحث.
5- سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه...
أجمع أهل العلم على أن من سب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه فقد كفر قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه كفر بلا خلاف.
وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل (قيل له: لِمَ؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن [6].
وقال ابن شعبان في روايته عن مالك لأن الله - تعالى -يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فمن عاد لمثله فقد كفر) [7].
والأدلة على كفر من رمى أم المؤمنين صريحة وظاهرة الدلالة منها:
أ- ما استدل به الإمام مالك أن في هذا تكذيباً للقرآن الذي شهد ببراءتها، وتكذيب ما جاء به القرآن كفر.
قال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكره في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن [8]، وقال ابن حزم تعليقاً على قول الإمام مالك السابق: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة وتكذيب لله - تعالى -في قطعه ببراءتها) [9].
ب -أن فيه إيذاء وتنقيصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه دل عليها القرآن الكريم.
1- فرق ابن عباس - رضي الله عنهما - بين قوله - عز وجل -: (والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) … الآية سورة النور، وبين قوله - عز وجل -: (إنَّ الَذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ)...
الآية سورة النور، فقال عند تفسير الآية الثانية: (هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة.(/1)
ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ: (والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) إلى قوله: (إلاَّ الَذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا) فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة.
قال فَهَمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما أنزلت فيمن قذف عائشة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لما في قذفهن من الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لأبيها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه.
وأن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيماً...
ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف) [10].
2-وإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر بالإجماع، قال القرطبي عند قوله - تعالى -: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) [النور]، يعني في عائشة لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما في ذلك من إذاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) [11].
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فاستعذر عن عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي...
فقوله: من يعذرني أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم.
فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد تأذى بذلك تأذياً استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: مرنا نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد استئماره في ضرب أعناقهم) [12].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة لما صح ذلك عنه فهو من ضرب عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ولسان حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في أهلي) [13] ?(والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب / 58]، فأين أنصار دينه ليقولوا نحن نعذرك يا رسول الله؟ …) [14].
3- كما أن الطعن بها - رضي الله عنها - فيه تنقيص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جانب آخر، حيث قال الله - عز وجل -: (الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [الآية من سورة النور]، قال ابن كثير: (أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً ولهذا قال - تعالى -: (أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان) [15].
5- سب بقية أمهات المؤمنين..
اختلف العلماء في قذف بقية أمهات المؤمنين، والراجح الذي عليه الأكثرون كفر فاعل ذلك، (لأن المقذوفة زوجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله - تعالى - إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي وغيرها منهن سواء) [16].
وكذلك يكفر لأن في ذلك تنقيص وأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقذف حليلته [17]، وقد بينا ذلك عند كلامنا عن حكم من قذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فليراجع.
أما إن سب أمهات المؤمنين سباً غير ذلك فحكمهن حكم سائر الصحابة على التفصيل المذكور سابقاً.
والله أعلم.
6 - لوازم السب:
تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم، وذلك لعلمهم بما قد يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض أصول الدين.
فقال بعضهم كلمات قليلة لكنها جامعة أذكرها في مقدمة هذا البحث ثم أوضح -بعض الشيء - ما يترتب على السب غالباً.
وسأركز في الرد على السابة من القسم الأول والثاني ممن يزعمون كفر أو فسق مجموع الصحابة أو أكثرهم أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله كالخلفاء - رضي الله عنهم -.
قال الإمام مالك - رحمه الله - عن هؤلاء: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين) [18]، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام) [19].(/2)
وقال أبو زرعة الرازي - رحمه الله -: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ? وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) [20].
وقال الإمام أبو نعيم - رحمه الله -: (فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه) [21]ويقول أيضاً: (.. لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والإسلام والمسلمين) [22]، وتحذير العلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: 0 يذكر أحداً من الصحابة بسوء) وقول أبي زرعة: (ينتقص أحداً.. ) فحذروا من ينتقص (مجرد انتقاص) أو ذكر بسوء (وذلك دون الشتم أو التكفير) أحداً (وليس جميعهم) فماذا يقال فيمن يسب أغلبهم؟ وإليك أخي القارئ إيضاح بعض لوازم السب:
1 - يترتب على القول بكفر وارتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفراً يسيراً الشك في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن والبعض أخفى ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية، فإذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها.
ومع ذلك يزعم - بعض هؤلاء - إيمانهم بالقرآن، فنقول لهم: يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم...إلخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن ناقض لدعواه.
2-هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس، وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، وأنهم شر القرون [23]، كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
3 - يلزم من هذا القول أحد أمرين، إما نسبة الجهل إلى الله - تعالى - عما يصفون - أو العبث في هذه النصوص التي أثني بها على الصحابة، فإن كان الله عز وجل تعالى عن قولهم غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل والجهل عليه - تعالى -محال، وإن كان الله - عز وجل - عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث، والعبث في حقه محال [24]، ويتبع ذلك الطعن في حكمته - عز وجل - حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه - عليه الصلاة والسلام - فجاهدوا معه وآزروه ونصروه واتخذهم أصهاراً له حيث زوج ابنتيه ذا النورين (عثمان) - رضي الله عنه -، وتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، فكيف يختار لنبيه أنصاراً وأصهاراً مع علمه بأنهم سيكفرون؟ ! !
4- لقد بذل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - جهوداً خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً حتى تكوَّن بفضل الله - عز وجل - المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه فكان - صلى الله عليه وسلم - أعظم مرب في التاريخ.
ولكن بالعكس من ذلك فإن جماعة تدعي الانتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة تهدم المجهودات التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير مخلص [25] لم يكن مأموراً من الله كما كان الشأن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إنها ترى أن المجهودات الجبارة التي بذلها محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تنتج إلا ثلاثة (أو أربعة وفقاً لبعض الروايات) ظلوا متمسكين بالإسلام إلى ما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته - صلى الله عليه وسلم - فأثبتوا أن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته أخفقت ولم يعد لها أي تأثير.
وهذا الزعم يؤدي إلى:
أ - اليأس من إصلاح البشرية.
ب - وعدم الثقة بالمنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق.(/3)
ج -وإلى الشك في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عدداً وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي زمن طويل على عهد النبوة؟ ! وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القويمة ولم يعودوا أوفياء لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أتباعه إلا أربعة فقط؛ فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق؟ وأنه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء ويرفعه إلى قمة الإنسانية؟ بل ربما يقال: لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان صادقاً في نبوته لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب ووجد من بين العدد الهائل ممن آمنوا به بعض المئات الذين ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه -سوى بضع رجال منهم - منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دان بالإسلام؟ ومن انتفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وكيف يكون رحمة للعالمين؟ ! [26].
العلم والعمل
قال حكيم لرجل يستكثر من العلم دون العمل: ( يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح، فمن تقاتل به؟)
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصارم المسلول: 591.
(2) نفسه 576.
(3) راجع منهج كتابة التاريخ، العلياني 138 (بتصرف).
(4) راجع في تفصيل، وفي الرد على دعوى الموضوعية بحث مخطوط للدكتور محمد رشاد خليل، ص34-37.
(5) راجع أيضاً البحث القيم للدكتور محمد رشاد خليل فمنه أخذت هذه الفقرة، ص 55، 57، وفي البحث المذكور أبرز المؤلف المنهج الصحيح للنظر في تاريخ الصحابة من خلال مذهب أهل السنة فجزاه الله خيراً.
(6) الصارم المسلول، 571.
(7) الشفا، م 2، ص 1109.
(8) ابن كثير 3/276 عند تفسير قوله - تعالى -: " إنَّ الَذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ " وذكر الإجماع في البداية والنهاية 8/92.
(9) المحلى: 11 / 415.
(10) الصارم المسلول، ص 45 تفسير القرطبي 12/209، ابن كثير3/ 276.
(11) القرطبي: 12/205.
(12) الصارم المسلول: 47، 49.
(13) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(14) رسالة في الرد على الرافضة، ص 25، 26.
(15) ابن كثير: 3/278.
(16) البداية والنهاية 8/93.
(17) الشفا: 2/1113 وراجع أيضاً الصواعق المحرقة/387، المحلى 11 /415.
(18) رسالة في سب الصحابة، 47.
(19) البداية والنهاية 8/139.
(20) الكفاية للخطيب البغدادي، 97.
(21) الإمامة لأبي نعيم / 344.
(22) نفسه /376.
(23) انظر الصارم المسلول / 592.
(24) انظر اتحاف ذوي النجابة: محمد بن العربي التباني / 75.
(25) صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينجح وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب (أي مهديهم) راجع الرسل والرسالات للأشقر/ 212، 213.
(26) صححه الألباني بطرقه وشواهده:السلسلة الصحيحة1/34.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/4)
اعتكف على دعوتك
لاشك في أهمية الآثار الايجابية والمؤثرة للاعتكاف سواء كان الاعتكاف تطبيقا للسنة النبوية حسب الشروط المعلومة مكانا وزمانا، وتوقيتا مع كيفية البرامج المتبعة في التطبيق كما فعله الحبيب المصطفى خاصة في العشر الأواخر من رمضان أو القيام بخلوات فردية في أي مكان طاهر مع الالتزام ببرنامج عبادي مركز وفق القاعدة الربانية- ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
والحمد لله هذا النمط من التربية الذاتية والسيطرة على نزعات الشر في النفس مع المعالجة لكثير من المجالات النفسية قد أصبحت من المسائل الأساسية في عمليات التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية والعلاج النفسي.
لذا لا بد لكل داعية أن يجعل لنفسه برنامجا خاصة للاعتكاف خاصة على مجالات الدعوة وكيفية التعامل مع مستويات الناس وأساليب التأثير و ميادين الخير.
ولكن اجعل هذا الاعتكاف من المسائل الأساسية لدعوتك حسب الضرورات التالية :
1ـ لان الدعوة في كل الميادين قد أصبحت من الضرورات لمواجهة الفساد في كافة المجالات .
2ـ لان الآخرون يعملون ليل نهار وبكل الأساليب مع اشد أنواع التعاون فيما بينهم .
3ـ والمواجهة لا تأتي إلا بالتخطيط الواعي والتحرك المدروس مع استثمار كافة الإمكانيات .
4ـ والصفاء لا يأتي إلا بالتحكم على الذات مع تشخيص نقاط الخلل بالمراجعة، وتقويم الخلل بالمحاسبة.
5ـ وكثير ما يأتي التوفيق الالهي والإلهام الصادق في حالات المجاهدة بالعبادة والتركيز على نقاط الخير ( الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
6ـ ولابد من التفكر الواعي واليقظ في مراحل التحول والتغيير ، ولا يأتي ذلك إلا بالوقوف على الذات ، بروحية الداعية العابد .
( برنامج هذا الاعتكاف )
1ـ القيام بمقدمة روحية عالية والتركيز على الذكر الكثير ( يا أيها الذين امنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ).
2ـ وصلى صلاة الحاجة لدعوتك لأنها أولى من كل الحاجات مع مسح عام في مجالات الدعوة بكافة أساليب الدعوة وميادينها.
3ـ استعن بكتب فقه الدعوة والتجارب الناجحة للدعاة .
4ـ تأمل في شخصية الرسول الداعية عليه الصلاة والسلام والنقاط الأساسية والمحورية في شخصيته المباركة.
5ـ ثم ركز على مجال أو أسلوب أو ميدان واحد وتفكر فيه بعمق.
6ـ اكتب الخطوات الأساسية مع مراعاة النقاط التالية:-
1ـ تحديد الزمن مع دقة في التوقيت.
2ـ تحديد المكان مع معرفة الظروف.
3ـ تشخيص الجهة المعنية مع مراعاة الواقع.
4ـ معرفة الإمكانيات والقدرات مع كيفية الاستمرار.
5ـ أخد الاحطياط للسيطرة على الطوارئ والمفاجآت.
6ـ ثم قم بالتنفيذ مع جولة تأملية قبل الخروج والانتهاء من مدة الاعتكاف.
7ـ مع التطبيق العملي بعد الخروج من هذه الدورة الربانية.
( كيفية التطبيق )
لا شك انك بتطبيق هذه النقاط قد أصبحت متحمسا للعمل, ومتشوقا للأجر , ومهتما بالأمر ، لذا لا بد من التطبيق المتوازن :-
1ـ لا تقس الناس على ذلك لأنهم في وضع متأخر.
2ـ ولا تطبق عليهم مثالياتك لأنهم لايزالون بعد في البداية.
3ـ وخاطبهم حسب عقولهم ومستوياتهم .
4ـ واعمل بقوانين الدعوة الفردية ومقاييس التدرج الحكيم.
5ـ وخذ بأيديهم واصبر معهم ولا تستعجل عليهم لأنهم لم يتدربوا بعد.
6ـ وعليك بالاستمرارية الواعية والمتوازنة .
تأليف: إسماعيل رفندي(/1)
اعرف نبيك صلى الله عليه وسلم
دار الوطن
الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظلمة الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للمالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من خير ما بذلت فيه الأوقات، و شغلت به الساعات هو دراسة السيرة النبوية العطرة، والأيام المحمدية الخالدة، فهي تجعل المسلم كأنه يعيش تلك الأحداث العظام التي مرت بالمسلمين، وربما تخيل أنه واحد من هؤلاء الكرام البررة التي قامت على عواتقهم صروح المجد ونخوة البطولة.
وفي السيرة يتعرف المسلم على جوانب متعددة من شخصية النبي الخاتم ، وأسلوبه في حياته ومعيشته، ودعوته في السلم والحرب.
وفيها أيضاً: يتلمس المسلم نقاط الضعف والقوة؛ وأسباب النصر والهزيمة، وكيفية التعامل مع الأحداث وإن عظمت.
وبدراسة السيرة النبوية يستعيد المسسلمون ثقتهم بأنفسهم، ويوقنون بأن الله معهم وناصرهم، إن هم قامو بحقيقة العبةدية، له والانقياد لشريعته: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7]، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيات الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51]. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج:40].
وهذه عبارة عن رؤوس أقلام وجمل يسيرة في سيرة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، قصد بها فتح الطريق أمام ناشئة المسلمين وشبيبتهم لدراسات أعمق لهذه السيرة النبوية الخالدة. قال الله تعالى: محمد رسول الله [الفتح:29].
نسبه : هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن عبد مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا هو المتفق عليه في نسبه واتفقوا أيضاً أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.
أسماؤه : عن جبير بن مطعم أن الرسول قال: { إن لي أسماء، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد } [متفق عليه]. وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله يسمي لنا نفسه أسماء فقال: { أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة } [مسلم].
طهارة نسبه : اعلم رحمني الله وإياك أن نبينا المصطفى على الخلق كله قد صان الله أباه من زلة الزنا، فولد من نكاح صحيح ولم يولد من سفاح، فعن واثلة بن الأسقع أن النبي قال: { إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم } [مسلم]، وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب رسول الله قال: { هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرسل تبعث في نسب قومها } [البخاري].
ولادته : ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، قيل في الثاني منه، وقيل في الثامن، وقيل في العاشر، وقيل في الثاني عشر. قال ابن كثير: والصحيح أنه ولد عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرهما إجماعاً.
قال علماء السير: لما حملت به آمنة قالت: ما وجدت له ثقلاً، فلما ظهر خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب.
وفي حديث العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله يقول: { إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت، انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام } [أحمد والطبراني].
وتوفي أبوه وهو حَمْل في بطن أمه، وقيل بعد ولادته بأشهر وقيل بسنة، والمشهور الأول.
رضاعه : أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم استُرضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، واستخرج منه حظُّ النفس والشيطان، فردته حليمة إلى أمه إثر ذلك.
ثم ماتت أمه بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة وهو ابن ست سنين، ولما مرَّ رسول الله بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح، استأذن ربّه في زيارة قبر أمه فأذن له، فبكى وأبكى من حوله وقال: { زوروا القبور فإنها تذكر بالموت } [مسلم]. فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره وآزره حين بعثه الله أعزّ نصر وأتم مؤازرة مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك.(/1)
صيانة الله تعالى له من دنس الجاهلية: وكان الله سبحانه وتعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلقٍ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوه من طهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى أنه لما أرادت قريش تجديد بناء الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره، فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه . [أحمد والحاكم وصححه].
زواجه : تزوجته خديجة وله خمس وعشرون سنة، وكان قد خرج إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، وما كان يتحلى به من الصدق والأمانة، فلما رجع أخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها.
وماتت خديجة رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، فلما ماتت خديجة رضي الله عنها تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة، ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ولم يتزوج بكراً غيرها، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث رضي الله عنها، وتزوج أم سلمة واسمها هند بنت أمية رضي الله عنها، وتزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم تزوج رسول الله جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، ثم تزوج أم حبيبة رضي الله عنها واسمها رملة وقيل هند بنت أبي سفيان. وتزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي آخر من تزوج رسول الله .
أولاده : كل أولاده من ذكر وأنثى من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية التي أهداها له المقوقس.
فالذكور من ولده: القاسم وبه كان يُكنى، وعاش أياماً يسيرة، والطاهر والطيب.
وقيل: ولدت له عبدالله في الإسلام فلقب بالطاهر والطيب. أما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبله بثلاثة أشهر.
بناته : زينب وهي أكبر بناته، وتزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها، ورقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب فأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأم كلثوم تزوجها عثمان بن عفان بعد رقية رضي الله عنهن جميعاً. قال النووي: فالبنات أربع بلا خلاف. والبنون ثلاثة على الصحيح.
مبعثه : بعث لأربعين سنة، فنزل عليه الملك بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه وتغيّر وجهه وعرق جبينه.
فلما نزل عليه الملك قال له: اقرأ.. قال: لست بقارئ، فغطاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ.. فقال: لست بقارئ ثلاثاً. ثم قال: اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ، عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. فرجع رسول الله إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر، وكلا والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحملُّ الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر.
ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، فاغتم لذلك واشتاق إلى نزول الوحي، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله خاف منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني.. دثروني، فأنزل الله عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر [المدثر:1-4]. فأمر الله تعالى في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة ممن أراد الله تعالى فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، فقد كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله لما يعلمون من محبته له.(/2)
قال ابن الجوزي: وبقي ثلاث سنين يتستر بالنبوة، ثم نزل عليه: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر [الحجر:94]. فأعلن الدعاء. فلما نزل قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، خرج رسول الله حتى صعد الصفا فهتف ( يا صباحاه! ) فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه فقال: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبْ إلى آخر السورة. [متفق عليه].
صبره على الأذى: ولقي الشدائد من قومه وهو صابر محتسب، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى أرض الحبشة فرارا من الظلم والاضطهاد فخرجوا.
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تطمع فيه حياته، وروى أبو نعيم عن أبي هريرة قال: { لما مات أبو طالب تجهَّموا رسول الله فقال: يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك }.
وفي الصحيحين: أنه كان يصلي، وسلا جزورٍ قريب منه، فأخذه عقبة بن أبي معيط، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فألقنه عن ظهره، فقال حينئذ: { اللهم عليك بالملأ من قريش }. وفي أفراد البخاري: أن عقبة بن أبي معيط أخذ يوماً بمنكبه ، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
رحمته بقومه: فلما اشتد الأذى على رسول الله بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، خرج رسول الله إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى والأذى، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فقرر الرجوع إلى مكة. قال : { انطلقت – يعني من الطائف – وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب – ميقات أهل نجد – فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – جبلان بمكة – فقال رسول الله : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً } [متفق عليه].
وكان رسول الله يخرج في كل موسم، فيعرض نفسه على القبائل ويقول: { من يؤويني؟ من ينصرني؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي! }.
ثم أن رسول الله لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر فدعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم، حتى فشا الإسلام فيهم، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكانت سراً، فلما تمت أمر رسول الله من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً.
هجرته إلى المدينة: ثم خرج رسول الله هو وأبو بكر إلى المدينة فتوجه إلى غار ثور، فأقاما فيه ثلاثاً، وعني أمرهم على قريش، ثم دخل المدينة فتلقاه أهلها بالرحب والسعة، فبنى فيها مسجده ومنزله.
غزواته : عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيهَلِكُنَّ، فأنزل الله عز وجل: أُذِنَ للَّذينَ يُقَاتَلُنَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]. وهي أول آية نزلت في القتال. وغزا رسول الله سبعاً وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وبعثَ ستاً وخمسين سرية.
حج النبي واعتماره: لم يحج النبي بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. فالأولى عمرة الحديبية التي صدّه المشركون عنها. والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرته مع حجته.
صفته : كان رسول الله ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون - أي أبيض بياضاً مشرباً بحمرة - أشعر، أدعج العينين –أي شديد سوادهما – أجرد –أي لا يغطي الشعر صدره وبطنه -، ذو مَسرُبه – أي له شعر يكون في وسط الصدر والبطن.
أخلاقه : كان أجود الناس، وأصدقهم لهجة، وألينهم طبعاً، وأكرمهم عشرة، قال تعالى: َإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ [القلم:4]. وكان أشجع الناس وأعف الناس وأكثرهم تواضعاً، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها، ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه، وكان يأكل ما وجد، ولا يدُّ ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضره، وكان لا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يمر به الهلال ثم الهلال ثم الهلال، وما يوقد في أبياته نار، وكان يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويمشي في الجنائز.(/3)
وكان يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة، وكان في مهنة أهله، وقال: { خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي } [الترمذي وصححه الألباني]، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلت كذا!!.
وما زال يلطف بالخلق ويريهم المعجزات، فانشق له القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنَّ إليه الجذع، وشكا إليه الجمل، وأخبر بالغيوب فكانت كما قال.
فضله : عن جابر بن عبدالله أن النبي قال: { أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة } [متفق عليه]. وفي أفراد مسلم من حديث أنس عن النبي أنه قال: { أنا أول الناس يشفع يوم القيامة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة }. وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: { أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأول مُشفع }.
عبادته ومعيشته : قالت عائشة رضي الله عنها: { كان رسول الله يقوم حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً } [متفق عليه]، وقالت: وكان مضجعه الذي ينام عليه في الليل من أَدَمَ محشوّاً ليفاً!! وفي حديث ابن عمر قال: لقد رأيت رسول الله يظلُّ اليوم يَلتَوي ما يجد دِقْلاً يملأ بطنه – والدقل ردئ التمر -!! ما ضره من الدنيا ما فات وهو سيد الأحياء والأموات، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، ووفقنا الله لطاعته، وحشرنا على كتابه وسنته آمين، آمين.
من أهم الأحداث:
الإسراء والمعراج: وكان قبل الهجرة بثلاث سنين وفيه فرضت الصلاة.
السنة الأولى: الهجرة – بناء المسجد - الانطلاق نحو تأسيس الدولة - فرض الزكاة.
السنة الثانية: غزوة بدر الكبرى وفيها أعز الله المؤمنين ونصرهم على عدوهم.
السنة الثالثة: غزوة أحد وفيها حدثت الهزيمة بسبب مخالفة تعليمات النبي ونظر الجنود إلى الغنائم.
السنة الرابعة: غزوة بني النضير وفيها أجلى رسول الله يهود بني النضير عن المدينة لأنهم نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين.
السنة الخامسة: غزوة بني المصطلق وغزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة.
السنة السادسة: صلح الحديبية، وفي هذه السنة حُرّمت الخمر تحريماً قاطعاً.
السنة السابعة: غزوة خيبر، وفي هذه السنة دخل رسول الله والمسلمون مكة واعتمروا، وفيها أيضاً تزوج رسول الله صفية بنت حُيَيّ.
السنة الثامنة: غزوة مؤتة بين المسلمين والروم، وفتح مكة وغزوة حُنين ضد قبائل هوازن وثقيف.
السنة التاسعة: غزوة تبوك وهي آخر غزواته ، وفي هذه السنة قدمت الوفود على رسول الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسمي هذا العام عام الوفود.
السنة العاشرة: حجة الوداع، و ج فيها مع النبي أكثر من مائة ألف مسلم.
السنة الحادية عشرة: وفاة رسول الله وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول مع اختلاف في تحديد هذا اليوم من الشهر. وتوفي وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون سنة قبل النبوة، وثلاث وعشرون سنة نبياً رسولاً، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين بالمدينة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر:
- تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
- التبصرة والحدائق لابن الجوزي.
- زاد المعاد لابن القيم.
- السيرة النبوية للذهبي.
- جوامع السيرة النبوية لابن حزم.
- الفصول في سيرة الرسول (ابن كثير).
- صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي.
وأصلي على النبي الأكرم محمد بن عبدالله وما كان من صواب فمن الله عز وجل وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.(/4)
اعرفوه قبل أن ترسموه
مفكرة الإسلام: امتلأت أسماعنا وأعيننا بأخبار عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم, وإساءة صحف وإعلام الدانمارك لشخصه الكريم، وهاجت الدنيا وماجت بكثير من ردود الأفعال, وملأ الغضب الشارع في مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.
ونحن هنا نرجع هذا الفهم الخاطئ والتصور المشوّه عن شخص حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم, وإظهاره في رسوم لا تليق به إلى أن الفكر الإسلامي غير واضح في أذهان الكثير وخاصة في العالم الغربي، وكان من الطبيعي أن يكون رد فعلنا تجاه ما سمعنا ورأينا من تشويه لصورة النبي صلى الله عليه وسلم هو تصحيح هذا الفكر بالفكر المضاد له, وبما تخطه أيدينا في المقال تحت عنوان: 'اعرفوه قبل أن ترسموه'، فتابعي معي عزيزتي القارئة.
وهي دعوة لقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمها لأولادنا وفتيات الصحوة الإسلامية.
وفي هذا المقام فرصة كبيرة للتأمل في سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم, وإعطاء المثل الأعلى والقدوة، وهو ما يفتقده شبابنا الذي تملأ عيناه قدوات زائفة بعيدة كل البعد عن المنهج الرباني الذي أراد الله لعباده.
إن دراسة الهدي النبوي له أهميته لكل مسلم ومسلمة؛ فهو يحقق عدة أهداف؛ من أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله وتقريراته، وتكسب المسلم والمسلمة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيها أيضًا يتعرف المسلم على حياة الصحابة الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتدعو هذه المعرفة لمحبتهم والسير على منهجهم واتباع سبيلهم.
إن سيرته الشريفة توضّح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بتفصيلها منذ ولادته حتى موته, مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره وانتصاره على عدوه، وتظهر أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا وسياسيًا ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا...
وعلى هذا فكل مسلم ومسلمة يجد فيها ما يطلب:
فالداعية: يجد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة ومراحلها، والوسائل المناسبة لكل مرحلة، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله من أجل إعلاء كلمة الله.
ويجد المربي: دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام وعلى أصحابه الذين رباهم على يديه، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوّن منهم خير أمة أُخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. ولا ينصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ويجد القائد المحارب: في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ، وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل والشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية.
ويتعلم السياسي: كيف يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول, الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وكيف عامله الرسول وصبر عليه وعلى حقده ومؤامراته ضده حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا.
ويجد العلماء: ما يعينهم على فهم كتاب الله لأنها - أي السيرة - هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي.
ويجد فيها الزهاد: معاني الزهد وحقيقته.
ويتعلم المبتلون: أسمى درجات الصبر والثبات, فتقوى عزائمهم على السير في طريق الدعوة وتعظيم ثقتهم بالله تعالى, واليقين أن العاقبة للمتقين.
وتتعلم الأمة: من السيرة الكريمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الروح، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في سبيله، ولهذا قال علي بن الحسن: 'كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن'.
يقول الزهري: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا.
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله وسلم يعدها علينا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.
قال الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
عزيزتي المسلمة القارئة:
إن الضعف الإيماني والجفاف الروحي والتخبط الفكري والقلق النفسي والشتات الذهني والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين سببه الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين.
إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم وحطوا مكانتها، وأهملوا السنن الربانية, وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيها وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه، وحرصوا على كل أنواع الخير وصفوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شئون حياتهم.(/1)
وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعات حتى أقاموا دولتهم في المدينة, ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم.
ولم يلتحق حبيبنا صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك قدوة للأمة ولمن أراد الاقتداء في كل مجال في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد وكافة شئون الحياة، ويرى الجميع من خلال سيرته العطرة صفاته الحميدة أيضًا.
كما قال عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وأجمل منك لم ترَ قط عيني وأفضل منك لم تلدِ النساءُ
خُلقت مبرّءًا من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاءُ(/2)
اعملوا ما شئتم
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 23/9/1425
06/11/2004
ما خُلقنا سدى، ولا خلقنا الله عبثا.. كلا، بل لمهمة عليا، وهدف أسمى،: لنعمر بالخير الأرض، ونعبد بالتوحيد الرب.
كلنا يعلم ذلك علما، وقليل من يعلم ذلك عملا..!!.
خلقنا: لنعمل.. لنكدح، ونكدّ ونتكبد، ونسعى، وليس للإنسان إلا ما سعى، وإن سعيه سوف يَرى.
- {لقد خلقنا الإنسان في كبد}.
- {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}.
هذا العمل هو الآفة والصحة، وهو الشر والخير.. والإنسان هو من يختار، فقد جعل الله له عينين، ولسانا وشفتين، وهداه النجدين، وعليه اقتحام العقبة، فلا نجاة إلا باقتحام هذه العقبة.
والعقبة: شح النفس، وأمرها بالسوء، وسرعتها في الهلع والجزع.
- فاقتحام عقبة الشح: بالصدقة: بفك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة: يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة.
- واقتحام عقبة سوء النفس: بالإيمان بالله، واليوم الآخر.
- واقتحام عقبة الهلع والجزع: بالصبر، والمرحمة.
فمن تجاوز هذه العقبة، واقتحمها: تجاوز عقبة جهنم. [قيل جبل في جهنم]
* * *
كل الناس يعملون:
- المؤمن يعمل، والموحد يعمل، والمخلص يعمل، والعادل يعمل، والصالح يعمل.
- الكافر يعمل، والمشرك يعمل، والمنافق يعمل، والظالم يعمل، والفاسق يعمل.
لكن شتان ما بينهما، في الموضوع والجزاء.!.
- هذا عمل لله، وهذا عمل لغير الله.
- هذا أراد الآخرة، وهذا أراد الدنيا.
- هذا له الجنة، وهذا له النار.
هذا هو الفرق، لا غير ..!!.
* * *
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه راهبا من النصارى، معتزلا في صومعة، يتعبد، فبكى وقال:
"رأيت هذا، فتذكرت قوله تعالى: {عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية}".
لأنه كان يعمل لغير الله تعالى، {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا}.
كان عبد الله بن جدعان رجلا سخيا، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله!، ابن جدعان كان في الجاهلية، يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟، قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". [مسلم في الإيمان، باب:من مات على الكفر لا ينفعه]
لا ينجو إلا العامل لله تعالى وحده، فلا العمل وحده ينفع، ولا الإخلاص وحده ينفع، والناس صنفان:
- صنف يعمل، ولله عمله. فهذا المفلح الفائز.
- وصنف يعمل، ولغير الله عمله. وهذا الخاسر.
فالعامل لله له: أجر الدنيا. وله: أجر الآخرة.
وأما العامل لغير الله تعالى، فلا ندري ما له ؟!!.
أما الآخرة فلا نصيب له فيها، وأما الدنيا فقد، وقد !!.
قد يكون له فيها نصيب، وقد لا يكون له فيها نصيب.
- ففي آية من القرآن: أخبر أن له نصيبا كاملا، مستوفى، بغير بخس.
- وفي أخرى: أخبر أن له بعض النصيب، لا كله.
- وفي ثالثة: أن ليس له أي شيء !!.
* فقال تعالى في الأولى: "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون". فهذه حالة الوفاء الكامل، من غير بخس.
* وأما حالة النصيب القليل فقال تعالى فيها: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}..فقال: {نؤته منها}.
* وأما حالة الخسارة الكاملة، لا ينال أجر دنيا، ولا آخرة، فقال تعالى فيها:{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا }. فليس كل من أراد الدنيا: ينالها. بل منهم من لا ينال شيئا، ولذا قال: {لمن نريد}، فثمة من لا يريد الله أن يعجل له شيئا من الدنيا، ولو سعى لأجلها، ومن عجل له فلا يعجل له كل ما يرجو، بل بقدر ما شاء الله تعالى: {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}.
إذن لم يعد الحكم كما كان في الأول:
- حالة الوفاء الكامل، لكل من عمل للدنيا.
- بل صار إلى الحالة الثانية: حالة النصيب القليل.
- ثم صار إلى الحالة الثالثة والأخيرة، واستقر عليها: حالة الخسارة الكاملة.
فمن طلب الدنيا، وعمل لغير الله تعالى: هو مهدد بحرمان الدنيا نفسها، التي سعى لأجلها، كما حرم أجر الآخرة. ولأجل ذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية: {ما نشاء لمن نريد}، ناسخة لآية: {نوف إليهم أعمالهم فيها}. [انظر: تيسير العزيز الحميد، باب: من الشرك إرادة الدنيا بعمل الآخرة].
* * *
ليس شيء أفظع من وعيد الله تعالى: موعظته تخلع القلوب. فكيف بتخويفه؟.
- {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون}.
سمع جبير بن معطم رضي الله عنه – وكان إذ ذاك مشركا – النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}، قال: "كاد قلبي أن يطير". [رواه البخاري في تفسير الطور](/1)
اسمع إلى موعظته في إصلاح العمل، وإخلاصه: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير}.
اعملوا ما شئتم.. العمل لكم، ولكم الاختيار.. لكم ما تشاءون.. لا أحد يُكره، ولا مَلَك يجبر.. أنتم في محض الحرية، وكامل الإرادة. فاعملوا ما شئتم:
- آمنوا، صلوا، صوموا، تصدقوا، أحسنوا.
- اكفروا، تجبروا، اظلموا، افسقوا، ابخلوا.
كل ما بدا لكم اعلموا، لكن تذكروا أنكم لا تخفون، فهو بعملكم بصير، كله في كتاب، لا ينسى، ولايمحى، بل يبقى، حتى يأتي الموعد، وما أدراك ما الموعد.؟!.
* * *
- إذا لم تنفع المواعظ كلها من: ترغيب في ثواب جزيل، العقل يعجز عن تصوره، والأذن تعجز عن سماعه، والعين عن نظره، والقلب عن تدبره.
- وإذا لم ينفع الترهيب من عقاب أليم، لا يحتمله بدن، ولا تطيقه نفس، ولا يصبر عليه الصبور، ولا يصمد له الجبار.
- وإذا لم تنفع الحكمة والتعليل، وخطاب العقل والضمير.
- إذا لم تنفع هذه الحجج والبراهين، فما لكم من موعظة إلا أن يقال لكم:
اعملوا ما شئتم.. اعملوا ما شئتم.. اعملوا ما شئتم.!!.
امضوا في غروركم، واغرقوا في أمانيكم وغيكم.. سيروا كما تشاءون وتفرحون، فيوما ما ينكشف عنكم الوهم، وتزول الغشاوة، وتستفيقوا في حلم، لتعلموا أن الأمر جدّ: الوعيد شديد، والثواب جزيل، والحسرة كبيرة:
- {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.
- {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.
- {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}.
- {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير}.
* * *
- العامل للدنيا، للنفس.. العامل لغير الله.. الحائز لذات الدنيا.. الموفى نعيمه كاملا غير ناقص: غمسة واحدة في النار. تنسيه كل ما ذاقه، وأسرّه، وأعجبه.
- والعامل للآخرة.. العامل لله تعالى.. الفاقد جميع لذات الدنيا.. اليائس من سرورها: غمسة واحدة في الجنة. تنسيه كل ما مر به.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يؤتى بأنعم أهل الدنيا، من أهل النار، يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم!، هل رأيت خيرا قط؟، هل مر بك نعيم قط؟، فيقول: لا والله يا رب.
ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟، فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط). [رواه مسلم في صفة القيامة، باب:صبغ أنهم أهل الدنيا]
أين اللذات.. وأين الآلام ؟!! .. ذهبت مع الجحيم، والنعيم.
* * *
{أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة}؟!
- بعد أن سمعتم بما في النار، وعرفتم ما في النار، وأدركتم هول النار، وأحسستم بلسعها، وإحراقها.
- بعد أن سمعتم بنعيم الجنة، وعرفتم ما في الجنة، وذقتم بعض نعيمها.
- بعد أن أدركتم الفرق بين: الأمن والخوف، والنجاة والسقوط، يقول الرب جل شأنه لكم:
{أفمن يلقى في النار خير أمّن يأتي آمنا يوم القيامة}؟!.
يسألكم لتجيبوا. ليجيب كل عن نفسه، ويجادل عن نفسه.. وبينما أنتم في حال الجواب: يبدركم بهذه القارعة: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.
* * *
هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
العلم حجة لك، أو عليك إذا لم تعقبه بالعمل؛ فالمؤاخذة والحساب لا يكون إلا بعد العلم:
- {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
كان أبو إسحاق الألبيري الأندلسي، المتوفى سنة 653هـ، من أهل العلم، نصح ولدا له بأبيات قال فيها:
وإن أعطيت فيه طول باع *** وقال الناس: إنك قد علمتا.
فلا تأمن سؤال الله عنه *** بتوبيخ: علمت، فهل عملتا؟
فرأس العلم تقوى الله حقا *** وليس بأن يقال: لقد رؤستا.
إذا لم يفدك العلم خيرا *** فخير منه أن لو قد جهلتا
* * *
- أشياء كثيرة من الخير نعلمها، لكن لا نعمل بها..!!.
- وأشياء كثيرة من الشر نعلمها، نجدّ فيها ونسارع..!!.
صدق الله تعالى إذ يقول: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}.
نهلك إذا هلكنا عن بينة، ونحيا إن حيينا عن بينة، فما عاد لأحد عذر بجهل، فقد قامت الحجة، وما لنا إلا سؤال الله العفو والرحمة.
لا ندري: هل الفتن أكبر من طاقتنا ؟.
أم نفوسنا فيها دخن ؟!!، فما أن تعرض لنا فتنة، حتى نمد لها رؤوسنا، كالظمآن والمشتاق ..!!.
- نخادع بعضنا؟..: نعم.
- نخادع نفوسنا؟..: نعم.
لكن الله جل شأنه لا يخدعه أحد.. ولا يضره أحد؛ فهو فوق كل شيء.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
إذا لم يكن من الله عون للفتى، فأول ما يجني عليه اجتهاده.
الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب من العمل، وقد حدد أنواع العمل الطيب، فقال:(/2)
- {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}.
فاعرض نفسك عليها، وانظر ما فعلت، وما تركت ؟.. وقال:
- {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}.
فانظر فيها وتأمل، ماذا أتيت، وماذا نسيت ؟.
* * *
أخيرا: يوم القيامة يتذكر الإنسان، فما من مجلس جلس فيه، فلم يذكر الله تعالى، إلا كانت عليه حسرة، فالدنيا ساحة غنيمة.. لكن من الذي يدري، ومن الذي يغنم ؟!!.
* * *(/3)
اغتيال مسخادوف.. يوحد المقاومة الشيشانية؟
محمد جمال عرفة**
09/03/2005
أصلان مسخادوف الزعيم الشيشاني الذي اغتالته روسيا
على عكس ما تتمناه القيادة الروسية، لن يأتي قرار المخابرات الروسية باغتيال الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف الثلاثاء 8-3-2005 بأي مكسب لروسيا، بل على العكس سيكون مكسبا للشيشانيين أنفسهم، وربما يوحد قيادتهم المنقسمة بين "معتدلين" و"متشددين" تحت قيادة موحدة "متشددة" للقائد شامل باساييف.
هذه هي باختصار الحالة التي سيؤول إليها الموقف في جمهورية الشيشان التي يحتلها الروس منذ الثورة البلشفية، ونشروا جيشهم فيها منذ 1999. وبدأت إرهاصات هذه الحالة في صورة تعاهد الجماعات الشيشانية جميعا على تصعيد القتال، وإعلان جناحي المقاتلين الشيشان أنهما بصدد تصعيد القتال، وقول مسئول شيشاني: إن "مسخادوف كان عامل ضبط نفس في الشيشان (...) وكان يحاول تجنب تصعيد النزاع وعدم امتداده إلى كل شمال القوقاز"، والآن "قد يخرج الوضع في القوقاز والشيشان عن السيطرة".
وقد أشار لهذا أحمد زكاييف ممثل الرئيس الشيشاني المقتول مسخادوف في الخارج عندما قال: إن "المقاومة ستستمر"؛ لأنه "سبق أن مررنا بهذا عندما قتل دوداييف"، في إشارة إلى مقتل الرئيس الشيشاني الانفصالي الأول جوهر دوداييف على أيدي القوات الروسية في إبريل 1996، فيما قالت جماعة باساييف: إن "الجهاد سيتصاعد"، ولفت الجميع الأنظار إلى الطريقة الهمجية التي عرضوا بها جثة الرئيس المقتول عاريا دون احترام الموتى.
عرض هدنة.. فقتلوه.. لماذا؟
فالمؤشرات -التي أكدتها وكالات أنباء روسية (نوفوستي) وأجنبية- تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن مسخادوف لم يكن بعيدا يوما من الأيام عن أيدي أجهزة الاستخبارات الروسية، ومكانه كان شبه معلوم في أكثر من مرة، رغم كثرة تنقلاته، فلماذا قتلوه الآن؟ ثم لماذا قتلوه رغم أنه أمر قبل شهر واحد (فبراير 2005) على إعلان مقاتليه الالتزام بوقف إطلاق النار على القوات الروسية من جانب واحد؟!
هل هي عقلية الانتقام من الشيشانيين عموما من قبل أجهزة الأمن الروسية لرد الاعتبار على عملية اغتيال أحمد قاديروف الرئيس الشيشاني-الموالي لموسكو- وأكثر من 32 آخرين -من بينهم الجنرال "فالوري بارانوف" المسئول عن قيادة القوات الروسية في الشيشان- في انفجار هز إستاد العاصمة الشيشانية جروزني في مايو 2004، والذي كان اختراقا غير عادي من المقاتلين لأمن الاستخبارات الروسية؟، أم أنه استباق لانتهاء مهلة هدنة وقف إطلاق النار والعمليات الشيشانية التي أمر بها مسخادوف -والتزم بها باساييف على غير العادة- والتي تنتهي في 22 مارس الجاري؛ لإجهاض مخططات حربية قادمة للثوار الشيشان، وأخذ زمام المبادرة؟، أم هي للرد على الضغوط الدولية على موسكو لوضع حلول سلمية لأزمة الشيشان، واستقبال العواصم الغربية بحفاوة ممثلين للرئيس مسخادوف أغضبت موسكو، بدليل قول طاوس جبرائيلوف رئيس مجلس الدولة في جمهورية الشيشان، لوكالة أنباء نوفوستي: إن تصفية مسخادوف "أسقطت القاعدة الأيديولوجية للحركة الانفصالية الإرهابية وسحبت التربة من تحت أقدام من كانوا يستقبلون ممثلي مسخادوف ودعوا إلى إجراء المفاوضات معه"؟.
لقد اعتبر المحلل السياسي الأمريكي الروسي الأصل دميتري سايمس -وهو رئيس معهد ريتشارد نيكسون في واشنطن- في تصريح لوكالة نوفوستي الروسية تصفية أصلان مسخادوف "نجاحا كبيرا للأجهزة الخاصة الروسية" انطلاقا من أن مسخادوف -كما قال- "قاد قوى المقاومة الشيشانية التي تحدت روسيا، وكان زعيما للقوى المعادية لروسيا"، ولكنه لم ينف أن اغتيال مسخادوف "سيساعد شامل باساييف على إحكام سيطرته على فصائل المقاتلين وتوحيدها".
كما أن تعليقات كافة الصحف الروسية خرجت تؤكد أن الهدف انتصار معنوي لقوات الأمن والاستخبارات الروسية، ولكنها لن تهنأ باحتفالها به؛ لأن العمليات الشيشانية سوف تستعر وتنشط في كل مكان، وقالت: إن هدف موسكو من قرار تصفية مسخادوف -الذي "اتخذ على أعلى مستوى"- كان إجهاض الاتصالات السياسية التي يقوم بها جناح مسخادوف مع الغرب والولايات المتحدة من أجل حل سلمي للأزمة، وكأن موسكو ترغب في خيار الحرب والمواجهة ولا تريد حل مشكلة احتلالها للشيشان.
فصحيفة أزفستيا قالت: إن "اعتقال أو تصفية مسخادوف لم يكن أبدا هدفا يتعذر بلوغه من وجهة نظر التكتيك العسكري، إن الشيشان الصغيرة مليئة بالمخبرين (...) ومن غير الصعب تعقب تنقلاته"، وأضافت: "يمكن بالتالي الافتراض أن الأمر لا يتعلق بنجاح عرضي للأجهزة الخاصة وإنما بقرار متخذ على أعلى مستوى".
وقالت الصحيفة: إن الكرملين كان يخشى أن ينظر الغرب إلى مسخادوف -الذي "قطع علاقاته" مع الزعيم المتشدد شامل باساييف، وأعلن هدنة، عارضا الجلوس إلى طاولة المفاوضات- على أنه "زعيم ما يشبه الجناح السياسي للمقاومة والجيش الجمهوري الأيرلندي (الشين فين) في الشيشان".(/1)
وأضافت أن حجة الكرملين القائلة بأنه لم يعد من الممكن إجراء حوار مع مسخادوف لأنه لم يعد يمثل شيئا في الشيشان "أصبحت ضعيفة شيئا فشيئا"، لا سيما أن الهدنة التي أعلنها خلال فبراير تم احترامها بشكل شامل (باساييف التزم بها)، و"لكن الآن أصبحت هذه الحجة ثابتة.. لم يعد هناك أحد للتحاور معه" والوضع على الأرض "سيتغير" بشكل جذري.
ولم تنس بقية الصحف أن تحذر القيادة الروسية من عواقب عمليتها ذات الحسابات الخاطئة، حيث أكدت صحيفة كوميرسانت أنه بعد مسخادوف "سيكون شامل باساييف أو دوكو أوماروف، الزعيمان المعروفان بمواقفهما المتصلبة حيال موسكو، على رأس قيادة المقاتلين على الأرجح"، فيما قالت صحيفة فيدوموستي: إنه "إذا كانت أجهزة الاستخبارات تحتفل بالنصر فإن عليها أن تستعد مبكرا لرد الفعل؛ لأن الخبراء يخشون تصعيد العمليات في الشيشان".
وتفتح عملية اغتيال مسخادوف -ومن قبل دودايف- ملف الاغتيالات المتبادلة عموما بين الحكومات وقوى المقاومة التي تدافع عن أراضيها المحتلة، حيث لوحظ أن رد الفعل الغربي على عمليات المقاتلين الشيشان يجيء عاجلا ومنددا.
فواشنطن وغيرها من عواصم العالم الغربية تحديدا أدانت اغتيال المقاتلين الشيشان لرئيس الإدارة الشيشانية الموالية لموسكو أحمد قاديروف في مايو 2004، ولكن واشنطن رفضت إدانة اغتيال مسخادوف، أو التحذير من تداعياتها الخطيرة على مستقبل الحرب في الشيشان؛ كي لا تغضب روسيا، واكتفت بمقولة "ضرورة تسوية النزاع الشيشاني بالطرق السياسية".
أيضا رغم علم واشنطن أن هناك فروقا بين مسخادوف وشامل باساييف، وسعي أعضاء في الكونجرس الأمريكي ومختلف المجموعات السياسية المتنفذة في الولايات المتحدة للدعوة إلى إجراء محادثات مع مسخادوف، فقد تجاهلته إدارة بوش، ولم تعد تتطرق إلى إمكانية مفاوضة ممثليه بعد حادث خطف رواد أحد مسارح موسكو عام 2002 على يد موالين لباساييف قُتلوا ومعه رهائن بفعل الغازات السامة الروسية التي استعملتها أجهزة الأمن الروسية.
التوقعات تشير بالتالي إلى عدة حقائق جديدة ستقع في الشيشان بعد اغتيال مسخادوف، منها:
1- قبول كافة الفصائل الالتزام بهدنة مسخادوف في فبراير الماضي، بمن فيهم شامل باساييف سوف يدفع الجميع للتكاتف حول خرقها وإنهاء العمل بها والالتفاف حول باساييف؛ لأنه القائد الأبرز حاليا والقادر على توجيه ضربات للروس.
2- اغتيال الروس لثاني رئيس شيشاني منتخب من شعبه واستمرارهم في تجاهل الحل السياسي للأزمة والتعامل بالسلاح فقط مع الشيشان، وفرض رئيس عميل لهم، يصب في صالح أنصار السلاح من الثوار الشيشان، ويضعف حجة أنصار الحل السلمي من أعوان مسخادوف، خصوصا في ظل الموقف الأمريكي والأوربي المائع من التعامل مع هذا الجناح السياسي والخلط بين جناحي المقاومة الشيشانية (المعتدل والمتشدد).
3- كان المطلب الرئيسي للقيادة السياسية الشيشانية ممثله في الرئيس المقتول مسخادوف يركز على مطالبة المقاتلين بقصر المعارك والمواجهات مع قوات الاحتلال الروسي على الشيشان، وعدم نقل المعارك لجمهوريات إسلامية روسية أخرى خصوصا أنجوشيا وداغستان، وبمقتله قد تمتد المعارك إلى كافة الجمهوريات الإسلامية بعد توقف طويل منذ عام 2000 تقريبا.
4- قد يلجأ الشيشان لاختيار زعيم آخر غير شامل باساييف؛ ربما لرفض الثاني هذا الاختيار المحتمل؛ كي لا يكون مقيد الحركة، وربما لعدم غلق الباب أمام المفاوضات السلمية، خصوصا أن الأمريكان لا يزالون يبحثون عن شخص يتفاوضون معه بشرط أن تكون يديه "غير ملطخه بالدماء"، ولكن هذه الازدواجية بين الجناح السياسي والجناح العسكري ربما لا تكون بنفس الحدة في الانقسام بين الطرفين بعد اغتيال مسخادوف.
اغتيال مسخادوف حسابات روسية "خاطئة"
ضمير أحمد- أحمد فتحي- إسلام أون لاين.نت/ 9-3-2005
الزعيم الشيشاني أصلان مسخادوف
اعتبر محللون وخبراء روس وعرب أن اغتيال موسكو لأصلان مسخادوف زعيم المقاتلين الشيشان يكشف عن حسابات سياسية خاطئة لروسيا، خاصة أنه كان الشخص الوحيد الذي يمكنه جمع الشيشانيين خلف اتفاق سلام مع موسكو، وصاحب توجه معتدل إزاء القضية الشيشانية بالنسبة للغرب.
كما توقع هؤلاء المحللون والخبراء أن يشن المقاتلون الشيشان في الفترة المقبلة عمليات انتقامية ضد أهداف روسية كبرى ردا على عملية الاغتيال، وأن ينضم الجانب المعتدل من الشيشانيين إلى الجانب المتشدد.
وقالت الصحفية الروسية المعروفة "آنا بوليتكوفسكايا" في تصريحات لـ"إذاعة صدى موسكو" الثلاثاء 8-3-2005: إنها لا يمكنها أن تتفهم لماذا أقدمت موسكو على تنفيذ عملية اغتيال مسخادوف، مشيرة إلى أنه "كان معتدلا، وكان الشخص الوحيد الذي أظهر استعدادا لإجراء محادثات سلام مع الروس".(/2)
وأضافت أن "القيادة الروسية أخطأت إذا كانت تظن أن اغتيال مسخادوف سيؤدي إلى كسر شوكة المقاتلين الشيشانيين، وأعتقد أن ما سيحدث هو العكس؛ حيث ستثير عملية الاغتيال موجة جديدة من التطرف في الأراضي الشيشانية والروسية".
وفي السياق نفسه قالت "لودميلا الكسييفنا" -المديرة المحلية لمنظمة "هيلسينكي الحقوقية في روسيا-: مسخادوف كان "إنسانا طيبا"، وباغتياله لم يتبق -حسب رأيها- شخصية بارزة من المقاتلين الشيشان تستطيع أن تجري موسكو معها محادثات السلام.
ويتفق في هذا الرأي ألكساندر شيركاسوف مدير مركز "ميموريال" الروسي لحقوق الإنسان قائلا: "مسخادوف كان زعيما موحدا للمقاتلين الشيشان، وكان أغلبية المقاتلين يحترمون أوامره. حتى إنه كان قادرا على إصدار قرار يتوقف بمقتضاه معظم المقاتلين عن القتال ويعودون لمزاولة حياتهم الطبيعية. لكن ذلك لم يعد مطروحا بعد اغتياله".
وأضاف شيركاسوف لشبكة "إن تي في" الإخبارية التلفزيونية الروسية المستقلة: "مسخادوف لم يكن زعيما لمتطرفين من المقاتلين. بل كان زعيما لمعتدلين منهم".
وكان مسخادوف الشريك المفضل لموسكو في محادثات السلام خلال المراحل الأولى من الصراع المستمر منذ 10 سنوات، بيد أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" رفض الموافقة على إجراء محادثات مع المقاتلين منذ تجدد القتال عام 1999 إثر انهيار هدنة.
وفي فبراير 2005 أعلن مسخادوف عن وقف من جانب واحد لإطلاق النار مع موسكو، ودعا في الأسابيع الأخيرة إلى حوار مع السلطات الروسية للتوصل لاتفاق سلام.
المقاومة ستتصاعد
"أحمد عبد الحافظ" الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة الخبير في الشأن الشيشانى رأى من جانبه أن "اغتيال مسخادوف لن يضعف المقاومة الشيشانية بل سيزيدها قوة؛ حيث إنه من المتوقع أن ينضم الجانب المعتدل من الشيشانيين إلى المتشدد".
وأشار إلى أن عمليات الاغتيال ليست جديدة على القيادات الروسية؛ فعملية مسخادوف تعيد إلى الأذهان عملية اغتيال سليم خان ياندرباييف (الرئيس الشيشاني السابق الذي اغتيل بدولة قطر عام 2004)، واغتيال الرئيس الشيشاني الانفصالي الأول جوهر دوداييف على أيدي القوات الروسية في حرب الشيشان الأولى في إبريل 1996.
ورأى عبد الحافظ أن موسكو اختارت توقيت اغتيال مسخادوف بدقة في ظل انشغال أمريكا بالعراق وكوريا الشمالية والملف النووي الإيراني من ناحية، وفي ظل شعار مكافحة الإرهاب الذي ترفعه واشنطن من ناحية أخرى.
وأكد أن العالمين العربي والإسلامي مسئول بشكل غير مباشر عن عملية الاغتيال بعدما أعلن من قبل أن الشيشان شأن داخلي روسي؛ وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام موسكو لإطلاق يدها في الشيشان بعد أن ضمنت صمت العالمين العربي والإسلامي.
وكان مسئول عسكري روسي قد أعلن في تصريحات للقناة الروسية الثانية الثلاثاء أن عناصر الوحدة الخاصة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي قتلت مسخادوف، في اشتباك مسلح بأحد بيوت في قرية "تولستوي يورت" جنوب العاصمة الشيشانية جروزني، وعرض التلفزيون الروسي لقطات لما قال إنه جثة مسخادوف.
وردا على عملية الاغتيال أكد "أحمد زكاييف" ممثل مسخادوف في الغرب أن "المقاومة ستستمر.. لقد حل مسخادوف محل دوداييف، وسيأتي شخص آخر مكان مسخادوف؛ لأن الصراع بين الشيشان وروسيا صراع طويل".
باسييف الخليفة المرتقب
وأشار "زكاييف" إلى أن لدى المقاتلين "لجنة عسكرية" ستختار خليفة لمسخادوف الذي انتخب رئيسا للشيشان أثناء الهدنة عام 1997.
وأضاف: "هذه اللجنة لديها سلطة اختيار خليفة لمسخادوف، وسيكون هذا القرار شرعيا إلى أن يتسنى إجراء انتخابات. وسيعلن عن ذلك خلال الأيام القليلة القادمة". ولم يشر زكاييف إلى أعضاء اللجنة ولا أين ستجتمع ولا المرشحين لخلافة مسخادوف.
إلا أن مراقبين رأوا أن القائد الشيشاني شامل باسييف هو المرجح لخلافة مسخادوف. ويتبنى باسييف خطا متشددا على خلاف مسخادوف. واعترف مسخادوف في حديث مع صحيفة لوموند الفرنسية في أكتوبر 2003 بأنه لا يتفق مع باسييف في استهداف المدنيين كأسلوب لمواجهة الاحتلال الروسي للشيشان، وقال: "كنت دائما أقول لباسييف: إنه يجب خوض حرب منظمة ضد روسيا بالاستعانة بالدبلوماسية التي يصاحبها تكتيك وإستراتيجية عسكرية".
مسخادوف
وولد "أصلان مسخادوف" في 21 سبتمبر 1951 بإحدى قرى محافظة كاراجاندا في جمهورية كازاخستان، وفي عام 1972 حصل على الشهادة الجامعية من الجامعة العسكرية بمدينة تبيليسي بجورجيا.
وخدم "مسخادوف" في الجيش السوفيتي في شرق أقصى روسيا، وفي عام 1992 قدم استقالته ليعمل مديرا لفريق الحراسة التابع للرئيس الشيشاني "جوهر دوداييف" حتى عام 1995 قبل أن يلقى دوداييف مصرعه.(/3)
وفي 17 أكتوبر 1996 تم تعيين مسخادوف رئيسا لوزراء الحكومة الشيشانية الانتقالية عقب إجراء محادثات سلام مع موسكو أسفرت عن إنهاء الحرب الشيشانية الأولي. وفي 27 يناير 1997 تم انتخابه رئيسا للشيشان بعد إجراء انتخابات.
لكن القوات الروسية دخلت جمهورية الشيشان مرة ثانية عام 1999، وقامت بتعيين "أحمد قديروف" رئيسا للإدارة الشيشانية، لكن الشيشانيين اعتبروا قديروف خائنا، وأكدوا أن مسخادوف هو الرئيس الشرعي المنتخب. يذكر أن قديروف كان قد اغتيل في مايو 2004.
مع بداية سنة 2000 أعلن مسخادوف عن قيادته للمقاتلين الشيشان.
في 2 مارس 2000 أعلنت روسيا الاتحادية أنها تعتبر مسخادوف "مجرما"، وعرضت في سبتمبر 2004 مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بأي معلومات تؤدي إلى إلقاء القبض على الزعيمين الشيشانيين شامل باساييف وأصلان مسخادوف.(/4)
افتتاح الكفار للمساجد
فضيلة الشيخ د.عبد الحي يوسف
سؤالي ما حكم افتتاح الكفار للمساجد
بمعنى أكثر دقة : هل يجوز لرئيس بلدية نصرانى أو يهودي أن يفتتح المسجد.
هل يجوز أن يني المسجد على أرض تبرعت بها جهة غير مسلمة كالبلدية أو الحكومة الغربية؟
الاجابة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فإن دخول الكافر إلى مسجد من مساجد المسلمين ـ سوى المسجد الحرام ـ جائز بإذن المسلمين؛ إذا دعت إلى ذلك حاجة أو مصلحة كتأليفه أو دعوته إلى الإسلام أو الاستعانة به في عمل يعود نفعه على المسجد أو جماعة المسلمين؛ لأنه ثبت أن بعض الكفار ـ كثمامة بن أثال الحنفي وأبي سفيان بن حرب وعمير بن وهب الجمحي ـ قد دخلوا المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليهم، وقد رزقهم الله جميعاً الإسلام؛ فإذا كان دخول هذا المسئول الكافر بغرض افتتاح المسجد قد تم بإذن من المسلمين على رجاء منفعة تعود مصلحتها على مجموعهم فلا حرج إن شاء الله.
وأما التبرع بالأرض من جهة غير مسلمة لبناء مسجد من غير أن يكون لهم توجيه وكلمة في تسييره وإدارة شئونه فلا حرج في ذلك؛ لأن الأرض كلها لله، وقد جعلها سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً، وأما إذا كان ذلك مؤدِّياً لأن يكون للكفار توجيه ومشاركة في المسئولية فلا يجوز لما يترتب عليه من إشراك هؤلاء ولن يجعل الله { الكفار في دين المسلمين وعباداتهم، وقد قال سبحانه والأصل في قبول هدية الكفار ما كان من النبي } للكافرين على المؤمنين سبيلا صلى الله عليه وسلم حين قبل هدايا الملوك الكفرة كهرقل والمقوقس وغيرهما،
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/1)
افتتاحية موقع المسلم
5/3/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
افتتاحية الموقع
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)
إن أصدق الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وماقل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، وبعد :
فقد برزت وسائل الإتصال والإعلام المعاصرة باستعدادها الكامل على توسيع دائرة إيصال ونشر المعلومة أياً كانت ولأي غرضٍ كانت، إلى أبعادٍ واسعةٍ جداً .
ورغم تفنن أهل الشر والباطل في توظيف هذه الوسائل، إلا أن أهل الخير يحاولون وسعهم أن يصيبوا منها ما يسهل لهم نشر رسالتهم.
والنشر الإلكتروني، يعتبر بالنسبة لأهل العلم والدعوة منبراً مهماً. فهو أولاً يتميز بتحرره – إلى حدٍ ما – من القيود والأنظمة التي تفرض على غيره، والسرعة والسهولة النسبية في إعداد واجهاته وصفحاته، ومحدودية تكلفته نسبياً إذا قورن بالطباعة وغيرها.
ويتميز ثانياً، بمنح المتلقي له التحكم الكامل فيم ينتقيه ويختاره من مواد وصفحات من بين الكم الهائل الذي يحتويه، وعلى هذا يمكّن الطيبين من أن يتعاملوا معه ويستفيدوا منه إذا أرادوا دون أن يتلوَّثوا بجاهلياته، بخلاف غيره من الوسائل التي تفرض محتواها فرضاً على المتلقي، كالقنوات الفضائية وكثير من المجلات والصحف.
ولذلك فهو يمنح أهل العلم والدعوة فرصة كبيرة لتوسيع دائرة نشر رسالتهم وخطابهم ومشاريعهم ومواقفهم إلى أوسع دائرة ممكنة ، ويتخطى الكثير من السدود التي مافتئت تحارب هذه الدعوة وتعيق مسيرتها، فيفتح الله تبارك وتعالى أبواباً ماكانت في الحسبان، ويسخر لها الأبعدين قبل الأقربين من حيث لايحتسبون.
كما أن النشر الإلكتروني يتيح لأهل العلم والدعوة فرصة أكبر وأوسع للتواصل وتبادل التجارب وتقارب الرؤى والاجتهادات، وذلك بسهولة وصول هذه المواد بين منطقة وأخرى، بل بين دول وقارات العالم أجمع.
ومنذ انتشار هذه الوسيلة في منطقتنا، ونحن نلحظ ونتابع تزايد المواقع الإسلامية بشتى صنوفها وأبوابها، فنفع الله بها نفعاً كبيراً ولله الحمد والمنة.
وقد بدأت فكرة إطلاق الموقع قبل أربع سنوات، وبدأنا الدراسة في هذا الجانب، واضعين نصب أعيننا أهمية أن تكون هناك إضافة حقيقية لما هو موجود في الساحة، وإلا فلاداعي لزيادة الأرقام، وتحمل أعباء وتكاليف لاداعي لها.
وتوصلنا بعد دراسات متأنية إلى أهمية إيجاد موقع يساهم مع المواقع الإسلامية المتميزة في تحقيق الأهداف الخاصةوالعامة التي تلبي حاجة الأمة، من الدعوة إلى الله، ونشر الخير بين الناس، وإشاعة الفهم الصحيح للإسلام، ويركز بصفة خاصة على المنطلقات والأهداف التالية:
1. الالتزام بمنهج الوسطية، وتعميق هذا الأصل لدى الأمة أفراداً وجماعات، بعيداً عما لحق بهذا الأصل من مفاهيم مغلوطة، كالتنازل والتساهل، وتمييع قضايا الدين، بحجة الوسطية، وإنما نعني به المنهج الصحيح الذي جاء مؤصلاً في الكتاب والسنة، والتزم به سلف هذه الأمة، مستهدين بقوله سبحانه( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)، وبقوله صلى الله عليه وسلم(يسِّرا ولاتعسِّرا وبشِّرا ولاتنفِّرا، وتطاوعا ولاتختلفا) وبقوله( إنما بعثتم ميسرين) مع ترسيخ هذا المنهج، وبيان أهمية الاطراد والثبات عليه، وخطورة الاضطراب الذي وقع فيه كثير من العاملين في ساحة الدعوة، أفراداً،وجماعات، ومؤسسات، مما عاق المسيرة وأساء إلى صفاء الإسلام ونقائه وشموليته، مع التأكيد على أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
2. نشر العلم الشرعي وتصحيح العقيدة، والتركيز على فقه النوازل، انطلاقاً من شمولية الإسلام وعالميته وكماله، وقدرته على مواجهة المستجدات، ومعالجة الحوادث، دون انحراف أو خلل، مستهدين بقوله سبحانه (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) وبقوله (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).(/1)
3. البناء التربوي المؤصَّل، بوسائله الفردية والجماعية، بعيداً عن المحدثات وبدع الجماعات، والإفادة من التجارب الثرية التي سبق إليها العاملون في حقل الدعوة والتربية والتعليم، مع بيان أن البناء التراكمي المتزن من أنجح وسائل التربية، وأكثرها أثراً، مع التركيز على التربية الجهادية وإعداد الأمة لمواجهة التحديات في حاضرها ومستقبلها، ومنطلق ذلك قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقوله صلى الله عليه وسلم( جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم وأنفسكم) ، وبيان ما وقع في ذلك من أخطاء في الفهم والتطبيق.
4. رفع مستوى الوعي لدى الأمة عموماً، وطلاب العلم والدعاة والمربين خصوصاً، وذلك بتأصيل فقه الواقع، وبيان منطلقاته الشرعية، وحاجة الناس إليه، وتجنيبهم الوسائل التي تعود بالضرر، وتبعدهم عن الدين الصحيح، والفهم السليم، والمساهمة في إنشاء جيل قادر على مقارعة الحجة بالحجة، والدعوى بالبرهان، وبناء المواقف على دراسات علمية، وأصول معتبرة، لاعلى الظن والتخمين وردود الأفعال.
والمهم أن تعرض هذه الأهداف والمنطلقات متحرِّرة من الضغوط، وبصورة متدرجة ومتأنية، حتى نتمكن من إيصالهابوضوح، وحتى يتمكن الآخرون من فهمها.
ويقتضي ماسبق البدء بعنصر المبادرة في طرح هذه القضايا دون تأخر عن وقت البيان اللازم، لكن مع أهمية ألا تفقد هذه الرؤية – في غمرة الحرص على المبادرة – إطرادها واستقرارها. وأن نحذر من العجلة والارتجال، مقتنعين بأهمية البناء التراكمي، وتأثيره في العلم والدعوة والتربية والوعي، وهو ماينشأ من خلال مجموعة عوامل وأجزاء متناسقة ضمن فترة زمنية معتبرة.
هذه الرؤية مجملة المعالم ويسع أهلها تعدد الاجتهادات في دقائق مسائلها وتفاصيلها، لكن الرزية كل الرزية أن ينتهي أمرها إلى تجاذب أهلها في جدل حول التفاصيل او حول آليات التنفيذ.
والمطلب الذي سيحاول هذا الموقع أن يقوم به – بإذن الله – يرتكز على حفظ قدر وسابقة أهل العلم والفضل، واحترام رأيهم واجتهادهم وإحسان الظن بهم، دون أن يمنعه ذلك من إبداء الرأي المخالف، فالحق قديم لايبطله شيء، إكمالاً للحق ووصولاً للصواب ، غير مترددين في أن نعترف بخطئنا لو تبين لنا أن الصواب مع غيرنا .
ودون أن نندفع في تجريح أو تطاول على الآخرين لمجرد الخطأ في الاجتهاد، خصوصاً إذا كان ذلك من أهل العلم والجهاد وأصحاب السابقة فيهما.
هذه هي المعاني المجملة لرسالتنا التي سنحاول – بإذن الله – أن ننشرها ونتواصى مع أخواننا عليها.
راجياً من الجميع ألا يبخلوا علينا بآرائهم ومقترحاتهم وتسديداتهم ومشاركاتهم، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وسدد الله على طريق الحق خطانا. والحمد لله رب العالمين.(/2)
افتخروا بهذا *****
اختي في الله اخي في الله :
الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح البلاد والعباد، وهو أعظم المنن التي منّ بها الكريم الوهاب، وقد تكفل الله لمن سلكه بسعادة الدنيا والآخرة، فيه المبادئ السامية، والأخلاق العالية، والنظم العادلة.
إنه الدين الذي ينبغي لنا أن نفتخر به، وأن نتشرف بالانتساب إليه، فمن لم يتشرف بهذا الدين ويفخر به ففي قلبه شك وقلة يقين.
إن الحق يخاطب حبيبه قائلاً: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44]. أي: شرف لك وشرف لقومك وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بإخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
إن الشرف أن تكون من عباد الله الصالحين، وأن تعمل الصالحات وتجتنب المحرمات.
إن الشرف أن تدعي لهذا الدين، وأن تتبع سنة خير المرسلين ، لقد أدرك سلفنا الأول عظمة هذا الدين، فقدموا أنفسهم وأموالهم رخيصة لهذا الدين.
لقد كان الإسلام هو شرفهم الأول وغاية آمالهم، فهذا عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه الذي يقول له النبي : ((مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي)) – لما أتى داعي الجهاد في سبيل الله، وارتفعت راية الإسلام، ونادى النفير للجهاد، فيقول له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، وذلك لقوله تعالى: ((لَّيْسَ عَلَى لاْعْمَىحرج)) [الفتح:17]. فيجيبهم: لا والله، والله يقول: ((انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالا))ً [التوبة:41].
فلما حضرت المعركة أعطوه الراية، وقالوا: إياك أن نؤتى من قبلك فقال رضي الله عنه: بئس حامل القرآن إن أتيتم من قبلي، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فارس آخر من فرسان الإسلام العظام، الذين تربوا على يد محمد ، فقدموا للبشرية الشرف العظيم في انتمائهم للإسلام وتشرفهم به، إنه جليبيب رضي الله عنه، ذلك الصحابي الذي لم يكن يملك من الدنيا إلا الإيمان الذي ملأ قلبه، فأضاء له الدنيا.
جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام لما رآه، وقال: ((يا جليبيب أتريد الزواج))؟ فقال: يا رسول الله، من يزوجني ولا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني))، فذهب وطرق عليهم الباب، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً، فقال له: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب، لا نسب ولا مال ولا دار، فشاروا الفتاة، فقالت: وهل نرد رسول الله فتزوج بها.
وحضر النبي غزوة من الغزوات، فلما كتب لهم النصر قال النبي لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد))؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال : ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه))، فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه))، ثم وضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حفر له ووضع في قبره. [المسند: 4/422، مسلم: 4/1918].
فانظروا – رحمكم الله – إلى هذا الرجل الذي يفتخر به النبي ، ويضع ساعده الشريف وسادة له حتى يحفر له القبر إكراماً له، مع أنه من الفقراء في المال، لكنه من الأعزاء بالإسلام المتشرفين بالانتساب له.
إنهم عظماء؛ لأنهم عاشوا في كنف محمد صلى الله عليه وسلم .(/1)
افتراش جلود النمور وصنع احذية منها
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
ما حكم افتراش جلود النمر والجلوس عليها وصنع أحذية منها ولبسها؟
الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد..
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلود السباع والركوب عليها أو اتخاذها أحذية، لأنه ركوب، والدليل على ذلك ما يأتي:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر)).
2. وقال صلى الله عليه وسلم:((لا تركبوا النمور)).
3. وفي حديث آخر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع أن تفترش)).
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه:"جلد النمر نجس كله قبل الدباغ، سواء كان مذكى أم لا ، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين، ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعاً فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها".
وهل يحرم على الإطلاق؟ فيه وجهان للشافعية، أما بعد الدباغ فنفس الجلد طاهر، والشعر الذي عليه نجس تبعاً لأصله، ولأجل أنه غالب ما يستعمل منه.(/1)
...
افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية
يتناول الدرس اعتبارات عدة تؤكد على إحاطة الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع، فعرضها ثم تناول صورا من صور الإخلال بالضوابط الشرعية.
أهمية إحاطة العمل التربوي بالضوابط الشرعية
ثمة اعتبارات عدة تؤكد على إحاطة الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع ؛ منها:
الاعتبار الأول: التربية عبادة لله عز وجل
فلا بد لها أن تحاط بسياج الشريعة , وتضبط بضوابطها , وحسن النية ونبل العمل ليست مبررًا لتجاوز الضوابط , وإذا كان الدافع للمربي هو تحصيل الأجر وابتغاء مرضاة الله عز وجل فهذا لن يتحقق له مع مخالفة أمر الله ] فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110][ سورة الكهف .
الاعتبار الثاني: التربية وظيفة شرعية
التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بين الناس والجهاد , فإذا كانت هذه الوظائف لا بد لها من إحاطتها بسياج الضوابط الشرعية فالتربية كذلك.
الاعتبار الثالث: التربية قدوة
التربية قدوة قبل أن تكون توجيهًا , وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله ؛ فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي غيره على رعاية حدود الله والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به ؟ وأثر إخلال المربي بالتزام الضوابط الشرعية في تربيته وعمله ينتج جيلاً يتهاون بحرمات الله .
الاعتبار الرابع: المربي تحت المجهر
إن المربي ينظر إليه:
1- بعين القدوة من داخل الجماعة.
2- بعين من الخارج؛ باعتباره واحدًا ممن يعمل للإسلام.
3- بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به فتتخذ من أخطائه مدخلاً للنيل من المصلحين ، وهو مسلك قديم ورثه هؤلاء عن أولئك الذين طعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام؛ ناسين أنهم واقعون فيما هو أكبر من ذلك من الصد عن سبيل الله والكفر به والمسجد الحرام , قال الله تعالى : ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[217] [ سورة البقرة .
الاعتبار الخامس: التوفيق بيد الله
إن التوفيق ليس مرده إلى الجهد البشري وحده ؛ بل قبل ذلك كله توفيق الله ، وهذا التوفيق له أسباب أعظمها رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد عن توفيقه ، وفي التعقيب على غزوة أحد بيان أن ما أصاب المؤمنين إنما كان بسبب أنفسهم ] أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [165][ سورة آل عمران .
أسباب تجاوز الضوابط الشرعية للعمل التربوي
السبب الأول: ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به
فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ العلم الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم ؛ بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه، ونحن إذ نقول ذلك لا ندعوا أيضًا إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة وأن يهمل ما سواه؛ لكننا ندعو إلى أن يجمع المربون بين الاعتناء بالعلم الشرعي والتعاطي المنضبط مع الثقافة المعاصرة والوعي بظروف العصر وأحواله .
السبب الثاني: الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك
وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة ؛ إذ يرى المربي أن التربية لا تتم إلا بذلك فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه , وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه ؛ فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقًا دون تأدية أوامر كثيرة ؛ فيضطر لتجاوزها .
السبب الثالث: ضعيف الورع
ومن يضعف ورعه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين أنه محرم أو تهاون فيما هو في دائرة المشتبهات ؛ حتى إن بعض الصالحين غلب عليهم قلة الورع في حياتهم الخاصة، ومن ثم بدأ أثره في أعمالهم؛ بل بعضهم يرفض مبدأ النقاش في هذه القضايا من أساسه.
السبب الرابع: الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص
وحين يغيب هذا الأمر تسيطر الحسابات البشرية المادية ويغفل المرء عظمة قدرة الله ، ولا نعني أن يهمل الدعاة الأخذ بهذه الأسباب؛ لكن ينبغي أن لا تنسينا استحضار النية في هذه الأعمال.(/1)
السبب الخامس: قلة العناية بالمراجعة والمحاسبة
إذ هي توقف المرء على جوانب الخلل في عمله، ولا يسوغ أن يكون مانعًا عن المراجعة والمحاسبة:
1- أنه ورث هذا العمل عن من يحسن الظن بهم ويثق بهم ويثق بمسلكهم.
2- أن يكون النقد صادرًا ممن لا يرعى فيه الأدب الشرعي.
3- أن يكون النقد من أهل الإثارة واللغط على المصلحين والمؤمن يقبل الحق ممن جاء بهن ولو ساءت نيته أو أساء الأدب في عرضه.
من صور الإخلال بالضوابط الشرعية
الصورة الأولى : الاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة
والشريعة لا يمكن أن تتناقض , والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص ,
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة؛ إذ كثير من المخالفات العظام في الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها باسم المصلحة , وإن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة يجب أن تكون ضمن ضوابط من أهمها أن لا تخالف نصًا وإلا كانت مصلحة ملغاة.
الصورة الثانية: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وأحمد كلهم من حديث أبي سعيد الخدري , وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : [ يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ ]رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا لمعاوية: [ إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ ] رواه أبو داود , وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ من أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأجبناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه ].
وقد نص طائفة من أهل العلم على أن أحكام الشرع مبناها على الظاهر , فقال ابن القيم رحمه الله : [ فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر؛ بل على الظواهر والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها ].
ومن صور التجاوز نتيجة غياب هذا المفهوم ما قد يمارسه بعض المربين ؛ حيث تدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى محاولة معرفة ما وراء الظاهر من التجسس و الاستماع لحديث غيره دون علمه , والدافع لذلك كله حسن؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويريد قياس نتاج تربيته، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، لكن ذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية، ومما يعين المربي على الاقتناع بالوقوف عند حدود الظاهر:
أ-أنه غير مكلف شرعًا بما لا يظهر له، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عن نفسه: [ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ] أخرجه السبعة ماعدا الترمذي عن أم سلمة , فإذا كان هذا الشأن في الحقوق والأحكام؛ فكيف بما هو دونها من أمور التربية والتوجيه؟
ب-المربي ليست مهمته إصلاح الناس وهدايتهم؛ بل ذلك أمره إلى الله وحده , إنما مهمته دعوتهم والاجتهاد في سلوك أقرب الطرق الموصلة لاستجابتهم , وهاهو محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه، وهاهو نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، ونوح ولوط مع زوجتيهما، فوقوع المتربي في المعصية ليس بالضرورة دليلاً على فشل المربي أو تقصيره في مهمته.
ومما يعين المربي على تحقيق الاتزان في هذه القضية إدراك الارتباط بين صلاح الظاهر والباطن؛ فصلاح الباطن أو فساده لا بد أن يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ومن ثم فليس بحاجة على التطلع إلى الباطن والتفتيش عنه.
الصورة الثالثة: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاً وحرمة، وبعض المربين يشعر أن هذه الأمور ما دامت ضمن مسائل الاجتهاد فالباب فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط, فيسلك فيها ما يهواه دون أي اعتبار لأمر آخر؛ مع أنه لا بد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي.
الصورة الرابعة: إهمال الورع الشرعي الواجب
ومن ذلك :(/2)
أ- صحبة الأمرد مثلاً ؛ فقد شدد السلف في ذلك ، والآثار عنهم يضيق هذا المقام عن حصرها، ومنها ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين؛ قال: [ كانوا يكرهون أن يُحِدّ الرجل النظر إلى الغلام الجميل ] , وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه غلام صبيح فقال : [ أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانًا، ومع كل غلام بضعة عشر شيطانًا ]، وقد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحّة ولا يسوغ أن يهملوا أو ينهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا؛ فلم يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم؛ بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والواقع شاهد بأن كثيرًا من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طريق الفساد.
ولكن على المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها:
1- عدم الخلوة.
2- عدم السفر مع الأمرد وحده.
3- مراعاة المبيت وما يتعلق به.
4- أن يبعد من ينشأ عنه تقصير وتهاون في هذا الأمر , ومن ويلاحظ منه ميل للأحداث.
5- أن يبعد من تصدر منه تجاوزات لا تليق بأمثاله، وإن تاب منها.
ب- التوسع في الوقوع في الأعراض فقد تدعو طبيعة العمل التربوي للحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله التحريم إلا ما كان له مصلحة شرعية واضحة؛ بل قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له.
من كتاب/ مقالات في التربية [المجموعة الأولى] للشيخ/ محمد الدويش(/3)
اقتناص الفرص
"الأحداث العظيمة يصنعها اقتناص الفرص"
الفرصة: هي اللحظة التي تبدو فيها عوامل النجاح متوفرة ولحظة العمل المنتج قائمة، أو هي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم.
أهمية القاعدة
قانون الفرصة هو جزءٌ من عملية التدافع، ومعين على فهمها. ومن المعروف تاريخياً أن الفرص تتاح وباستمرار وبدون توقف للأمم، حتى تنهض وتتحرر.
إن إلمام القائد بهذا القانون وتدريبه على كيفية التعامل مع الفرص التي تتاح أمر في غاية الأهمية لنجاح مشروع التغيير.
وقانون الفرصة جزء من عملية التدافع. وهو يعني الانتقال من مقعد المفعول به إلى مقعد الفاعل. وكما أشرنا من قبل فهي عبارة عن ظرف مناسب للتقدم. وهذا التقدم قد يكون حاسماً أو جزئياً. وهو يعتمد - بعد إرادة الله جل وعلا - على وجود الاستعداد لدى الطرف الراغب في التقدم لاقتناص الفرصة واستغلال الظرف، لتحقيق المكاسب التي يسعى إليها.
أنواع الفرص
1- ... فرصة جزئية: لإنجاز هدف من أهداف المشروع، أو قطع مرحلة في الطريق.
2- ... فرصة كلية: لإنجاز المشروع الكلي والتمكين له. وهي تشمل ما يُطلق عليه بالفرصة التاريخية التي قد تكون:
• ... فرصة للوصول إلى السلطة،
• ... أو فرصة للتحرر من الاستعمار،
• ... أو فرصة تاريخية للحصول على أسبقية معينة في مجال معين من المجالات.
وقد تحدث حسن البنا في بداية القرن الماضي عن قانون الفرصة وما يتعلق به وقال: "إن الغاية البعيدة لابد فيها من ترقب الفرص، وانتظار الزمن، وحسن الإعداد، وسبق التكوين" فقانون الفرصة والظرف المناسب للتقدم يقابله قانوني الجاهزية، والسرعة وحسن التوقيت.
الجاهزية
إننا لا يمكن أن نتحدث عن قانون الفرصة والظروف الملائمة لحراك ما، بدون الحديث عن قانون الجاهزية. والجاهزية عملية نسبية وليست مطلقة. فلا يمكن أن يدعي تنظيم أو فرد أو حتى دولة ما أنه جاهز لكل الاحتمالات، فذلك ليس من شأن البشر، ولكن الجاهزية هي نسبة وتناسب؛ فإذا كان الطرف المقابل والطرف المنافس أقل جاهزية في مسار من المسارات، عندها يمكن للطرف الأكثر جاهزية بالنسبة له أن يتقدم عليه. وهكذا تُقاس جاهزية أحد أطراف الصراع بالنسبة للأطراف الأخرى المشتركة فيه وليس بالنسبة إلى العالم كله.
إن افتقاد تنظيم أو حركة ما للجاهزية اللازمة لاقتناص الفرصة، يفوت الفرصة عليهم، بينما يقتنصها غيرهم.
السيناريوهات
ويرتبط قانون الجاهزية بدراسة الاحتمالات أو رسم السيناريوهات. ففي عملية التدافع توجد أربع سيناريوهات شائعة ومحتملة:
1. ... السيناريو المرجعي أو السيناريو القائم (Status Coe): ومفاده أن الحالة التي نعيش فيها مرشحة للاستمرار في المدى الزمني القائم. وبالتالي توضع الحسابات على اعتبار أن الوضع القائم مستمر، وبالتالي معالجته معروفة في ظل ما هو قائم.
2. ... سيناريو الانقلاب الجذري ( صلى الله عليه وسلم adical): وهو عكس السيناريو الأول. مفاده أن الوضع سينقلب انقلاباً جذرياً بسبب من الأسباب أوبسبب دراسة من الدراسات. وبالتالي كيف يستعد هذا الطرف في حالة انقلاب السيناريو جذرياً إلى وضع وحالة جديدة تماماً؟
وهذان الاحتمالان أو السيناريوهان متقابلان تماماً، ويمثلان أقصى اليمين وأقصى اليسار عند وضع السيناريوهات. إلا أنه يقع بينها سيناريوهات وسيطة:
• ... أن يغلب الاستمرار على التغيير؛ بمعنى أن يحدث تغيير ولكنه طفيف في الوضع القائم. وبالتالي يمكن التعامل مع هذا التغيير الطفيف بإجراء نوع من التحويلات في خطة العمل.
• ... أو يغلب على الظن أن التغيير سيكون كبيراً ولكنه ليس جذرياً. فتستمر الحالة أو الوضع القائم ولكن التغييرات تكون كبيرة، وبالتالي يتم التعامل مع هذه التغييرات الكبيرة بوضع خطة لمواجهة مثل هذا السيناريو.
بناء السيناريو
يتم إعداد الأفراد والمنظمات والدول للسيناريوهات التي تُرسم في أوضاع معينة. ويتم بناء كل سيناريو بتحديد:
• ... الوصف العام له.
• ... الأطراف الفاعلة فيه.
• ... الشروط الابتدائية لعمله.
• ... لحظة تفعيل السيناريو (توقيت البداية).
• ... المدى الزمني للسيناريو المحتمل.
وهذا البناء يحدد طريقة التدخل التي يعتمدها أحد الأطراف لاستثمار الوضع القائم أو التغيرات الحادثة.
ولا تستطيع أي جهة أن تخطط لكل السيناريوهات مرة واحدة، ولكنها تخطط للسيناريو الغالب، وسيناريو محتمل آخر بعده. وتستعد وتجهز نفسها لاستثمار الظرف التي سيحدث للتقدم أو لتفادي المخاطر الواردة فيه.
وبذلك يحتاج مشروع التغيير إلى عقل يقوم بدراسة المتغيرات وتوقع الظروف والأحوال، ويحدد ما يجب أن يخطط له، لاقتناص الفرص، وتجنب المخاطر.
قانون السرعة وحسن التوقيت(/1)
هذا يقودنا إلى موضوع في غاية الأهمية، ألا وهو أهمية السرعة وحسن التوقيت، أو كما يقول عماد الدين خليل "الاستماع لللحظة التاريخية". فهناك ظاهرة متكررة مفادها أن النجاح والتوفيق ليس مقصوراً بالضرورة على الطرف الأكثر جاهزية؛ بل هناك عنصر آخر يؤثر في قانون الفرصة، ألا وهو قانون السرعة التي هي جوهر النصر في الصراعات. فعندما تكون المسافات بين الأطراف وبين الوصول للسيناريو متقاربة أو شبه متقاربة، قد يكون طرف من هذه الأطراف سريع الحركة، فيقوم بحركة مباغتة ومفاجئة لاقتناص الفرصة. وعندها فإن هذه السرعة في الاستفادة من الوضع القائم تشكل أسبقية، رغم جاهزية بقية الأطراف التي تبدو متقدمة على جاهزية هذا الطرف. والأمثلة على ذلك كثيرة.
كذلك فإن الفرص قد لا تدوم كثيراً حتى يفكر القائد فيها. فبعض الفرص تكون أياماً وبعضها أسابيعاً، وعلى أحسن الظروف تكون شهوراً.
وهنا يأتي دور القيادة الذكية الجريئة القادرة على الفعل السريع. فمن مواصفات القائد وطريقة تفكيره أنه قادر على أن يعمل كرجل الأعمال، الذي لا يضيع الفرصة عندما يراها، ويسرع في استثمارها قبل الآخرين. إذ أن الفرص لا تنتظر، بل هي خادم من يقتنصها.
هذه العقلية القيادية في لحظة الفعل تصبح لها الأسبقية على العقل التحليلي التنظيري، فالقائد يحتاج إلى:
• ... عقلية المفكر التحليلية،
• ... وعقلية الطبيب الذي يعالج حالات خاصة،
• ... وعقلية رجل الأعمال الذي يسارع في اقتناص الفرصة، ولا يتردد في ذلك، ويتحمل المخاطر المحسوبة.
أما المترددون فرغم جاهزيتهم - الكاملة افتراضاً - فيمكن أن يصبحوا فريسة لمنظمات صغيرة، أو لأفراد مغامرين يسبقونهم للحركة في لحظة الفعل الأساسية. والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ.
الخطوط الأمامية والخلفية
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى موضوع الخطوط الأمامية والخطوط الخلفية. فكثير من المنظمات لا تدرك الفارق بين خطوطها الأمامية التي تواجه الفعل مباشرة وتتحمل نتائجه وبين خطوطها الخلفية التي تقوم بدعم هذا الفعل. فقد تجد تركيزاً على الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية، فتغرق المنظمة في الخطوط الخلفية على حساب الخطوط الأمامية.
فربما تغرق منظمة من المنظمات في إعداد نفسها على المستوى الروحي أو الفكري والثقافي في مقابل إهمال الخطوط الأمامية التي تحتاج لإعداد وتجهيز في العمل السياسي والإعلامي والعسكري وغيرها. فتسقط فريسة لهذا الغياب في قضية التركيز والتوازن بين خطوط الدعم الخلفية وخطوط الدعم الأمامية.
وتغرق منظمات كثيرة في العكس، فتركز على الخطوط الأمامية دون إعطاء الدعم والوزن الكافي للخطوط الاستراتيجية الخلفية المتعلقة بنواحي الفكر والثقافة وخطوط الدعم المادي وخطوط الدعم اللوجيستي بشكلها العام.
نستخلص مما سبق أن قضية الإعداد والجاهزية لاقتناص الفرصة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتمييز بين هذين الخطين ومعرفة معنى كلمة خطوط داعمة، ومعنى الخطوط الأمامية والتوازن بينهما. فالخطوط الأمامية هي التي يتم من خلالها الصراع، وأي ضعف فيها يؤدي إلى انهيار مكاسب هذه المنظمات.
نظرية "اعقلها وتوكل"
سؤال: هل الفرص تصنع أم تأتي قدراً؟
والذي يحدد الإجابة على هذا السؤال هو زاوية النظر. فإن عدد العوامل المؤثرة في ساحة الفعل الإنساني كثيرة جداً. وكل فرد من الأفراد يمتلك طرفاً من هذه العوامل. فمثلاً عندما تحدث الأحداث الجسام الضخمة التي لا دخل للمنظمات الصغيرة في إشعال فتيلها كاندلاع الحرب العالمية الأولى أو الثانية بين الكتل الكبيرة المتصارعة، وتستفيد من هذا الظرف الكيانات الصغيرة المحيطة بها كحركات الاستقلال، فإن تلك الحركات في هذه الحالة لم تشعل فتيل الصراع، لكنها استفادت منه بمدى قدرتها وجاهزيتها على الحصول على مكاسب محددة كاستقلال بعض الدول والمنظمات.
إذن الفرص في جانب منها تأتي بهذه الكيفية. بأن يحدث حدثٌ لم يصنعه الطرف المستفيد، ولكنه يجني الكثير من المكاسب، ويتقدم نتيجة وجود صراعات بين أطراف أخرى. وهناك أنواع من الصراعات يشترك الطرف الذي يطلب الفرصة في دفع الأحداث فيها، بتحريك بعض قطع الشطرنج التي يمتلكها على ساحة الفعل، فتتحرك الأطراف الأخرى، فتتاح فرص جديدة. وهنا تأتي عملية التدخل في صناعة الأحداث.
وفي الحقيقة فإن الأمران يحدثان. فهناك بعض العوامل التي يمكن التحكم فيها وتحريكها لإحداث تغييرات على الساحة تسمح لنا بالتقدم على رقعة الشطرنج، وهناك أحداث لا دخل لنا فيها تحدث بسبب تدافع أمم وشعوب ومجتمعات وأطراف أخرى، وتتاح فيها فرصة للكيانات الصغيرة للتحرك واقتناء الفرص.
وهكذا فإنه يكن المساهمة في صنع الفرص بالأخذ بالأسباب:
1. ... الذات: الجاهزية.
2. ... الخصم: دفعه للموقع الذي نريد.
3. ... الأرض والمناخ: بالمعالجات المناسبة.
ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ؟(/2)
... ونجد أمامنا في هذا السياق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي أراد الدخول إلى المسجد وهو يحدثه عن دابته التي تركها فضاعت، فقال له: "اعقلها وتوكل". لقد حدد المصطفى صلى الله عليه وسلم هنا قضيتين هامتين:
• ... القضية الأولى وهي الأخذ بالأسباب، سواءً كانت في الإعداد، أو في التدخل بتحريك أحجار الشطرنج. وهنا يجب أن يتم الفعل كاملاً، لأن المراد من قوله "اعقلها" ضبط الأمور، واستنفاد الجهد والطاقة وأقصى الوسع في الأخذ بالأسباب.
• ... بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا القضية الثانية وهي أن يكل أعماله إلى الله سبحانه وتعالى وفضله ونعمته "وما النصر إلا من عند الله".
ماذا يقول الاستراتيجيون ؟
إن أقوالهم لا تختلف كثيراً، حيث يقول سان تسو المنظر الصيني الاستراتيجي المعروف: بعد تمام الاستعدادات لا يتحقق النجاح إلا إذا وجد ضعف في استعدادات الخصم، بمعنى آخر أننا نمتلك خمسين في المائة من أوراق اللعبة أو الصراع والتي تكمن في تمام الاستعدادات أوالإعداد الكامل، أما الخمسون في المائة الأخرى فتقع في دائرة ضعف الطرف الآخر، بأن يغفل عن جزئية من الجزئيات، أو عن جانب من الجوانب، فيتم اقتناص هذه الفرصة الناتجة عن غفلة الخصم.
ويقول المنظر الألماني المشهور كلاوزفيتز في كتابه فن الحرب: "بعد أخذ كل ما يمكن عمله في الحساب، فإن هناك فرصة خمسين في المائة من النجاح، والباقي يمكن أن تعزوه لإرادة الله إذا كنت مؤمناً، أو الحظ إذا لم تكن مؤمناً. ولكن المهم عندي أنك تملك خمسين في المائة من الأوراق، لكن هذه الخمسين في المائة يجب أن يقام بها على أكمل وجه؛ من الناحية الحركية والمهنية والترتيب والاهتمام والدقة".
وفي حالة الفشل يجب مراجعة هذه المنظومة مراجعة كاملة، وعدم إرجاع الفشل إلى الله سبحانه وتعالى. فالقرآن خاطب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هزيمتهم في أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"(آل عمران:165). أي راجعوا منظومتكم، وانظروا كيف حدثت الأخطاء ومن أين جاءت؟ بالتالي تحدث الاستفادة والنمو المستمر. أما في حالة تحقق النصر فتأتي القضية الثانية: "وما النصر إلا من عند الله" فيبدأ شكر الله على نعمائه وفضله ومنته وكرمه، والعزم على تحسين الأداء: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً" فتتكامل المنظومة الإسلامية بين عمليات المراجعة في حالة الفشل،
والتطوير في الأخذ بالأسباب كاملة عملاً بنظرية اعقلها. ثم بعد ذلك بالتوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع الأسباب والشروط تحقيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وتوكل". أما عند إهمال الأخذ بالأسباب والتقصير الشامل الكامل على المستوى المهني والحِرَفي والحركي والتقني والإداري والتخطيطي، سواءً على مستوى القيادات أو المنظمات، ثم عزو النتائج إلى الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك لم يحدث حتى للأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه. فالمصطفى صلى الله عليه وسلم ذاق حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، لكنه في حالة الهزيمة لم يقل أنها قدر لابد منه، وأن جيشنا كان الأقوى والأفضل والأكثر انضباطاً وما الهزيمة إلا قدر لا يمكن منعه، ولكنه قال لصحابته ما أخبره به ربه " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"(آل عمران:165)، أي راجعوا منظومتكم بالكامل، وصححوا أخطاءكم، ثم ثقوا بالله سبحانه وتعالى، وانطلقوا إلى محاولة أخرى. بذلك يصلح العقل المسلم، ويصبح قادراً على تطبيق نظرية "اعقلها وتوكل"، لكن إذا أسيء استخدام هذا المعنى، بحيث تصبح جزئية "توكل" هي الأساس، وتصبح جزئية "اعقلها" هامشية، فسندخل في عملية الجبرية والتواكل، وليس في عملية التوكل.
التنظيمات الكبيرة والصغيرة
... إن قدرة المنظمات الصغيرة على الاستفادة من الأحداث تكون أكبر من المنظمات الكبيرة، إذ أن المنظمات الكبيرة لها موازناتها وحساباتها، وغالباً ما تخشى إذا فشلت أن يتم سحقها، أما الصغيرة، فإنها تكون مرنة، وتستفيد من الأزمات، التي تعتبرها فرصاً ذهبية لكي تتحرك. كذلك نرى الدول الكبرى قد تستخدم أجهزة استخباراتها لخلق أزمة ما، لكنها لا تقوم بها كدولة بشكل سافر.(/3)
اقرأ
خالد بن فهد البهلال 3/8/1423
09/10/2002
ما عسى كاتب أن يكتب ليحث أمةً كانت أول كلمة في دستورها وكتابها الذي نزل من عند ربها هي كلمة ]اقرأ[؟!
إن الأمة بحاجة ماسة للتكوين الثقافي سواءً على مستوى الفرد أو الجماعة، ومن أبرز آليات ذلك القراءة المثمرة، فهي تصنع الأمم وترتقي بها، وتجعلها أكثر مقاومة للوافد الأجنبي، وتصبح الأمة القارئة أكثر تأثيراً ، وأقل تأثراً بالثقافات الأخرى .
القراءة الواسعة والاطلاع المتنوع، ومتابعة الجديد تصيب بنهم متزايد لمطالعة كل جديد ، والاستزادة منه، يقول الكاتب الأمريكي (إلف ستوكمان): كلما كبرت جزيرة المعرفة زاد امتداد شاطئ الأسرار .
بالقراءة يطوي المرء المسافات، ويفيد من تجارب الآخرين، فيسمو فكره، ويحتد ذهنه، وتسرع بديهته وفطنته، ويتسع أفقه، وتثري معارفه، وتزيد ثقافته، وتكبر همته، ويحسن رأيه، وتُصقل شخصيته، ويستقيم لسانه، ويستثمر وقته، وتكثر براهينه، وتقوى حججه، ويرتفع قدره، ويعلو شأنه .
في هذا العصر انفجار معلوماتي هائل، والذي لا يتابع ويجد في المتابعة، ويقرأ بنهم متزايد فإنها ستشيخ معلوماته، وسيتقدم عليه أقرانه، وتتراكم منتجات البحث العلمي ولما يقطف نوارها ويجني أزهارها .
يقول أحد الباحثين: إن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه أن نحواً من 10ـ20% من معلوماته قد شاخ وعليه أن يجدده .
إن أعراض الشيخوخة والهرم تعتري الثقافات بشكل مستمر ما لم تصقل وتجدد بدوام الاطلاع، والمتابعة لكل جديد مفيد، حتى لا يتدهور المخزون المعرفي الذي في عقولنا، والمرء مع مداومة القراءة والاطلاع الحر يترقى في مدارج الفهم والإدراك والاستيعاب والوعي، وهكذا كان دأب السلف الصالح، فقد روى صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل فقال : رأى رجل مع أبي محبرةً فقال له: يا أبا عبدالله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، فقال : " من المحبرة إلى المقبرة " .
إن مصادر المعلومات ووسائل التثقيف كثيرة جداً، لكن أبرزها وأساسها على الإطلاق هو الكتاب، وهو خير جليس ونعم الأنيس، وهو أرخصها ثمناً إذا ما قورن بغيره .
وللشاعر الكبير أحمد شوقي في تحلية كتاب :
أنا من بدل بالكتب الصحابا ... ...
لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
صاحب ـ إن عبته أو لم تعب ـ ... ...
ليس بالواجد للصاحب عابا
كلما أخلقتُه جددني ... ...
وكساني من حلى الفضل ثيابا
صحبة لم أشك منها ريبة ... ...
وودادٌ لم يكلفني عتابا
رب ليل لم نقصِّر فيه عن ... ...
سمر طال على الصمت وطابا
إن يجدني يتحدث أو يجد ... ...
مللاً يطوي الأحاديث اقتضابا
تجد الكتب على النقد كما ... ...
تجد الإخوان صدقاً وكذابا
فتخيرها كما تختاره ... ...
وادخر في الصحب والكتب اللبابا
صالح الإخوان يبغيك التقى ... ...
ورشيد الكتب يبغيك الصوابا
إن البدايات دائماً شاقة وأعنف ما فيها المرحلة الأولى، وربما كان من أسباب صعوبتها ضعف نتائجها ؛ لأن النتائج لا توازي الجهد المبذول، لكن يهوَّن ذلك وييسره معرفة الثمار المجتناة من ذلك، والعاقبة الحميدة التي يصير إليها بإذن الله .
ومن يمارس رياضة الجري باستمرار يكتسب لياقة ومهارة، وكذلك القراءة رياضة تحتاج للدربة والاستمرار حتى يكتسب القارئ اللياقة الكافية، ويكوِّن عادة القراءة الممتعة، وذلك بقراءة المكتشف الذي يجهد لتنمية عقله، وتوسيع قاعدة فهمه، فيصبح بارعاً في قراءته متمتعاً بها .
ومما يدفع إلى القراءة وجود مكتبة منزلية مناسبة تحوي الجديد المفيد من أنواع العلوم والمعارف والكتب الضاربة في عمق التاريخ التي تحوي العبر والدرر، والكتب العصرية المناسبة لتغذية العقل وتنويره، وتخصيص وقت للتقليب في رفوفها، وإعطاؤها حقها اللائق بها .
وما المرء إلا من جليسه يصاب بالعدوى من حيث لا يشعر، فمن يجالس العامة وكبار السن يكتسب منهم الشيء الكثير من الخبرة والتجربة، والذي يجالس المثقفين والمفكرين ليس كمن يجالس السوقة والرعاع، فليختر المرء لنفسه من يفيده من الخير والعلم ويزيده، وليحرص على تكوين رابطة لأصدقاء الكتاب يكون لهم جلسة يتم خلالها استعراض المقروء من الكتب، ومتابعة الجديد منها .
إن مما يغبط عليه كثير من الناس كثرة الفراغ، ولو أنهم استثمروه في القراءة المفيدة لاشتكوا ضيق الوقت ومحاصرته لهم، ولما ملوا وأملوا، وسرقوا أوقات غيرهم، فقد كان السلف يشتكون من لصوص الوقت الذي لا جهد لهم إلا في التوافه وسفاسف الأمور، وهؤلاء مشكلتهم أنهم لا يقرؤون، إذ لا أهداف لهم إلا تزجية الفراغ فيما لا يفيد .(/1)
ولا تحسن القراءة وتثمر إلا إذا كانت وقت نشاط الذهن وتوقده، وخلو البال من الأشغال، وصفاء الجو من المكدرات والمزعجات، فيحتاج القارئ مكاناً هادئاً يداوم على القراءة فيه، مع أن المرء ينبغي له أن يبذل جهده في التكيف والانغماس في القراءة قدر الإمكان، وحبذا لو كانت المعاجم والمراجع في متناول يده حتى لا يضطر لقطع قراءته عندما يحتاج أن يستفتي المعاجم في معنى لفظة غامضة، أو مدلول كلمة موهمة .
وليست العبرة في كثرة المقروء، وإنما في الإنتاجية والثمرة المجنية من القراءة والاطلاع، فيظهر ذلك على أخلاق المرء وتصرفاته وعلى لغته وعباراته التي تصور مستواه وتحجِّم ثقافته، ومن عمل بما اكتسبه كان ذلك أدعى لبقائه وتثبيته في الذهن وحفظه من الضياع، يقول الله -سبحانه وتعالى- : ]ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا[[النساء:66] ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، يقول الله - جل جلاله- : ]والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم[[محمد:17]، يقول أبو الفداء ابن كثير - رحمه الله- : أي والذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها، وزادهم منها ]وآتاهم تقواهم[ أي ألهمهم رشدهم.
وفي الأمثال الإنجليزية (use it or lose it) أي استخدم وإلا فقدت، وهذا ينسحب على كل المهارات المكتسبة .
والذي يقرأ كتاباً ينبغي له أن يصطحب قلماً يصطاد فيه أوابد الكتاب ويقيدها حتى يراجعها متى احتاج إليها، ويوظفها عند كتابة موضوع أو مقال أو كتاب .
ومن أراد أن يقيِّم كتاباً قبل قراءته فليقرأ مقدمة المؤلف حيث يستطيع الحكم على أسلوب الكاتب وجودة عباراته وبلاغة تعبيراته، وعما إذا كان الكتاب سبقاً في بابه أو رداً على مخالف أو إضافة مبحث جديد، أو شرح قضية معينة أو مساهمة في علاج قضية في الساحة الثقافية .
وليقرأ فهرس موضوعات الكتاب، فيتبين المخطط الكلي للكتاب ويعرف مدى وحدته الموضوعية وشموليته وإحاطته بالمادة .
وليطلع على مراجع الكتاب ومصادره التي اعتمدها المؤلف في تشييد كتابه فيكتشف من خلالها خلفية المؤلف الثقافية والفكرية التي تشكل ميوله المعرفية، ومن المعلوم أن كثرة القراءة واستمرارها تولد عند القارئ ملكة قوية يستطيع من خلالها معرفة الكتاب النافع المفيد له، بالإضافة إلى الانطلاق في القراءة، وسرعة الإنجاز .
ولابد للقارئ أن يوسع قراءته، فلا تكون قراءته انتقائية محصورة في حقل معرفي محدد، بل واسعة شمولية حتى يتحرر فكره من القيود المذهبية والحزبية والإقليمية فلا يظل مربوطاً بشيء يلجم انطلاقته، مع وعي بالمعرفة التي يحتاجها المسلم اليوم ليعيش بكفاءة وفاعلية ويستطيع مواجهة التحديات القائمة .
إن المكتبات تزخر بالكتب الكثيرة المتنوعة، فمن أمهات الكتب والمراجع العامة والموسوعات والمعاجم والمتون والشروح المتفاوتة في حجمها، والكتب المتخصصة والكتب الفكرية والثقافية والدواوين الشعرية والروايات العالمية وغيرها .
فمنها ما يناسب القارئ المبتدئ ، ومنها ما يناسب القارئ المتوسط، ومنها ما يناسب القارئ المجيد المتمكن، ومن هذه الكتب ما يقرأ مرةً واحدة، ومنها ما ينبغي تكرار قراءته، ومنها ما يرجع له عند الحاجة، ومنها ما يقرأ بسرعة، ومنها ما يقرأ ببطء وتأمل وتفهم، ومنها ما يقرأ للمتعة والتسلية، ومنها ما يقرأ للتعلم وصناعة الفكر والثقافة، ومنها ما تنتهي صلاحيته بعد أول قراءة، ومنها ما يزيدك تثقيفاً وفائدة كلما أعدت النظر فيه، وهذا نادر جداً، ومنها ما يشعرك بالفائدة تلقائياً، ومنها ما تشعر بفائدته فيما بعد، فقيمة كل كتاب بما يحوي .
كثير من الناس يقرؤون، ولكن بطريقة عقيمة، أما الذين يقرؤون بطريقة جيدة فهم الذين استطاعوا توظيف ما قرؤوه في كتاباتهم وحياتهم، ولم يقرؤوا بطريقة التلقي وتهميش العقل، بل بقراءة الناقد المميز الذي يوظف عقله فيناقش في كل دقيقة وجليلة، لا توافق العقل ما لم تكن من النقل الثابت عن المعصوم- صلى الله عليه وسلم-، وما ثبت في الشريعة الغراء فإنه لا يعارض العقل لمن تأمل، وفي قراءة الناقد دربة أي دربة .
ولا ينبغي للقارئ أن يتنكر لطبيعته وميوله الفطرية، وليستقل بشخصيته بعيداً عن التأثر السريع بالآخرين .
وليطمئن كل قارئ أنه سينال فقهاً أكثر ونضجاً أكبر كلما استزاد من القراءة وأكثر من الاطلاع .
وليكن من وكد القارئ وهمِّه أن يضع تقييماً دقيقاً لكل كتاب يقرؤه في آخر صفحة من الكتاب، مع كتابة وقت انتهائه منه .(/2)
اكتشف معنا حقيقة ولن تستطيعوا]]
مفكرة الإسلام : قد يظن البعض أن هناك تعارض بين الآيتين الكريمتين: [[فانكحوا ما طاب لكم من النساء ]] و [[ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ]] , ونحن نقول أنه إذا كانت النصوص قد خرجت من مشكاة واحدة ، فلا يُظن بنصوص الوحي وجود تعارض.
ونجد الرافضون لقضية التعدد قد استدلوا على عدم مشروعية التعدد بقوله تعالى: [[ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ]] , فرأوا أن الآية جاءت مبينة عدم الاستطاعة ومن ثم عدم جواز التعدد وهذه شبهة واهية فالقرآن ليس متناقضاً حتى يجيز شيئاً في مكان ويحرمه في مكان آخر فالقرآن أوجب على الرجل أن يعدل بين نسائه كما جاء في قوله تعالى: [[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ]].
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: [[ من كانت له امرأتان فمال إلى احداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ]] , ولا تعارض بين ما أوجبه الله من العدل ، وبين ما نفاه سبحانه في قوله:[[ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ]].
فإن العدل المطلوب هو العدل في النفقة والسكنى والمبيت وهو العدل الظاهر المقدور عليه , وليس هو العدل في المودة والمحبة فإن ذلك لا يستطيعه أحد , قال محمد بن سيرين رحمه الله: سألت عبيدة عن هذه الآية فقال: هو الحب والجماع , قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: صدق فإن ذلك لا يمكن إذ قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يصّرفه كيف يشاء , وكذلك الجماع فقد ينشط للواحدة ما لا ينشط للأخرى ، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه , فإنه مما لا يستطيعه , فلا يتعلق به تكليف.
وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: [[ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ]] , يعني في الحب والهوى القلبي , فهذا لا يشترط العدل وهذا الذي قال عنه الحق تبارك وتعالى: [[ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ]] , يعني لن تعدلوا في الهوى القلبي فلا سلطان للإنسان على قلبه كما قال أبو داود وغيره.
جميعنا يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعدل الخلق وهو مربي البشرية ومعلمها كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ومن العجيب أنه عندما سُئل: أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة , فرد السائل: من الرجال ؟ قال: أبوها.
فكان رسول الله يعرف ذلك من نفسه , ومع ذلك كان يعدل بين زوجاته في العطاء والنفقة والمبيت [[ وكان النبي صلي الله عليه وسلم في أسفاره وغزواته يقرع بين نسائه ]] , يعني يضرب بينهن القرعة ليختار من تذهب معه تلك الأسفار والغزوات ، إنه العدل فيما يملك.
وخلاصة القول: أن الآية الكريمة: [[ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ]] , أفادت أن العدل في الحب بين النساء غير مستطاع وأن على الزوج أن لا يميل عن الأولى كل الميل فيذرها كالمعلقة وهي غير مطلقة بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى عسى أن يصلح قلبها ويكسب مودتها.
وقد فهم النبي صلي الله عليه وسلم هذا الفهم من الآية فكان يعدل بين زوجاته ويقول: [[ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ]] , يعني بذلك حبه وميله القلبي للسيدة عائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها من زوجاته.
عزيزي القارئ
إلى أن نلتقي في المقال القادم لك منا أطيب المنى وأخلص الدعوات بتحقيق العدل بين الزوجات.(/1)
اكتشفي مكانك.. كتب يهم المرأة المسلمة
مفكرة الإسلام: صدر حديثا في عمان كتاب بعنوان اكتشفي مكانك لرقية بنت عامر الخروصية تناولت فيه العديد من الأمور التي تهم المرأة المسلمة.
تحت عنوان المرأة في ظل الإسلام تقول المؤلفة : في أواخر القرن السادس الميلادي انطلق من جزيرة العرب صوت السماء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يضع ميزان الحق لكرامة المرأة ، ويعطيها حقوقها كاملة غير منقوصة ويرفع عن كاهلها وزر الاهانات التي لحقت بها عبر التاريخ والتي صنعتها أهواء الأمم يعلن إنسانيتها الكاملة ويصونها عن عبث الشهوات ويجعلها عنصراً فعالاً في نهوض المجتمعات وتماسكها وسلامتها ولا غرابة أن تكون المرأة المسلمة الواعية معتزة بشخصيتها الإسلامية فخورة بالمكانة العالية السامقة التي أوصلها إليها الإسلام وتمتعت المرأة المسلمة بحقوق الإنسان قبل أن تعرف الدنيا منظمات حقوق الإنسان ، وقد بلغت المسلمة من التكريم وحيازة الحقوق ما أدهش نساء العرب .
لقد كرم الإسلام المرأة منذ ولادتها حيث من الله علينا بالإناث قبل أن يمن علينا بالذكور فقد قال الله عزوجل [ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ] سورة الشورى الآية 49
وكرمها الإسلام وهي زوجة فقد فرض الإسلام للزوجة حقوقا لم يفرضها أي دين آخر أمر أن تعاشر النساء بالمعروف حيث قال عزوجل [ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا] سورة النساء 19 - 21 .
وكرم الإسلام المرأة وهي أم ،لقد كرم الإسلام الأم أكثر مما كرم الأب وأكثر مما كرم أي إنسان فقال عز من قائل [ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصله ثلاثون شهرا ] سورة الأحناف 15 وكما قال الرسول الكريم : حيث جاءه رجل فقال له : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي فقال له الرسول الكريم : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال ثم من ؟ قال أبوك .وكرمها حتى بعد وفاتها : فكرم الإسلام المرأة وهي ميتة في قبرها وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك حيث نالت السيدة خديجة بنت خويلد المكانة العظيمة في نفس الرسول حتى بعد موتها ، حيث يذكرها كثيراً ويصل أهلها وصديقاتها وعن عائشة رضي الله عنها قالت : [ ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فقلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ، فيقول : إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد ] رواه البخاري .
وتطرقت مؤلفة الكتاب إلى الحقوق التي نالتها المرأة في الإسلام ومن ضمنها حق اختيار الزوج فقالت : على الولي أن يشاور الفتاة في الأمر ويأخذ رأيها فإن أذنت له وزجها وإلا فلا يجوز له إجبارها على الزواج ، لأن الزواج شراكه إنسانية تتم بموافقة الطرفين والمقصود منه المودة والرحمة والسكن ومما يؤكد حرص الإسلام على ضرورة استشارة البنت في أمر زواجها قوله صلى الله عليه وسلم [ لا تنكح الأيم حتى ستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا : يا رسول الله كيف إذنها ؟ قال : أن تسكت ] صحيح البخاري .
ومن الحقوق التي نالتها المرأة في الإسلام : حق الزوجة في النفقة ، وحسن المعاشرة ، حق النفقة على الزوجة حيث النفقة على الزوجة حيث قال سبحانه وتعالى [ وعاشروهن بالمعروف ] سورة النساء 19 وعن أبي هريرة رضي الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم ، وقد حرص الإسلام على أن تقوم حقوق الزوجين على أساس من المودة والرحمة فقد ربط الإسلام بينهما برابط المحبة يضمها كما يضم اللباس الجسد فيكون كل منهما لباسا للآخر حيث قال تعالى [ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ] سورة البقرة 187، حق المرأة في الميراث ، شهادة المرأة في الإسلام ، حق المرأة في التعليم العلم حياة القلوب .من الجهل ومصباح الأبصار من الظلم يبلغ بالعلم منازل الأخيار والدرجة العليا في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام وبه توصل الأرحام ويعرف الحلال من الحرام ، لذلك أمرنا الإسلام بالعلم وحثنا على التعلم ، ورفع شأن العلماء وحارب الجهل فيقول تعالى [ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] سورة الزمر 9 وعن أبو عبيدة عن جابر بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلموا العلم فإن تعلمه قربة إلى الله عزوجل وتعلمه لمن لا يعلمه صدقة وأن العلم ينزل بصاحبه في موضع الشرف والرفعة والعلم زين لأهله في الدنيا والآخرة .(/1)
فكانت المرأة عند العصور القديمة محرومة من التعليم ولكن عند بزوغ فجر الإسلام نالت المرأة حق التعليم والتأكيد على حرص الإسلام لنيل المرأة حقها في التعليم قوله تعالى [ يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] سورة التحريم 6 ، وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين مرجعا لمعرفة أحكام القرآن والفقه بعد وفاة الرسول .
وعبر هذا الكتاب تحت عنوان الحجاب أشارت المؤلفة : من التكريم الذي نالته المرأة هو حين شرع الله عز وجل الحجاب وفرضه في كتابه وعلى لسان رسوله الكريم حيث قال الله تعالى .[ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما ] سورة الأحزاب 59 .
فحاب المرأة وسترها وتسترها عن الرجال لا تشك إنه كرامة وقد فرض الحجاب على المرأة لا لأنها شيء مستقذر يستر ولكن لأنها جوهرة يجب أن تصان عن الأعين وتحفظ حتى لا تمتد إليها الأنظار وتطمع فيها النفوس المريضة والحفاظ على عفتها ، فالحجاب هو الذي يميز بين العفيفة الطائعة والمتبرجة لأجل صون حياة الرجل والمرأة جميعا.
إذاً فالحجاب شعار تقوى الإسلام ، وبرهان الحياة والاحتشام وسياج الإجلال والاحترام .
أما من الصور المشرقة من حياة المرأة المسلمة في ظل الإسلام فتقول المؤلفة : إن الصور المشرقة من حياة المرأة المسلمة التي لم يمنعها حجابها وحياؤها من مشاركة الرجل في بناء مجتمع إسلامي طاهر ، فهناك صور مشرقة حقيقة تكتب بماء الذهب فقد حفل تاريخنا الإسلامي بنماذج فريدة من النساء العقيدة سطرن مواقفاً فذة وإن التاريخ في حسن الخلق والوفاء والعلم ورجحان العقل وبعد النظر والفقه ، فقد امتازات المرأة المسلمة بالأمانة البالغة في العلم والصدق في التبليغ ، فكن يريون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الصور المشرقة للمرأة المسلمة في ظل الإسلام أم المؤمنين عائشة بين أبي بكر فقد برزت رضي الله عنها في العلم حتى بلغت فيه مبلغا عظيما لم يبلغه كثير من الرجال وقال الزهري : لو جمع علم عائشة بعلم جميع أزواج رسول الله وجميع النساء لكان أرجح حتى قيل أن ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها وهي أفقه نساء هذه الأمة.
وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث ، وقد بلغ مجموع ما روته ألفين ومائتين وعشر أحاديث ، لذلك يعتبرها علماء الحديث من الرواة المكثرين وكان الناس يقصدونها طلبا للفتوى وقد أثنى عليها فريق ضخم من أرباب العلم والفصاحة.
ومن الصور المشرقة للمرأة في ظل الإسلام نسيبة بنت كعب الأنصارية فتلك المرأة المسلمة التي أدهشت الكل وزلزلت أكباد الجبابرة في لحظات تموج الدم والصريخ عندما ابتلي المسلمون في غزوة أحد ودارت عليهم رحى الهزيمة هنا في هذه اللحظات الدامية تقتحم أم عمارة ساحة الوغى بنوازع الإيمان والفداء وانحازت إلى رسول الله تدافع عنه بكل ما لديها من جهد وطاقة ضاربة أروع أمثلة الفداء للأجيال القادمة .وفي هذا الكتاب نداء إلى كل مسلم : أيها المسلم هل ترضى أن تكون ابنتك وثمرة فؤادك من أهل النار ؟ هل ترضى أن تلبسها لباسا تتعرى به من الحياء ؟ وهل ترضى لابنتك أن تعرضها كما تعرض السلع مجملة فاتنة يتعلق بالنظر إليها كل سافل رذيل ؟ هل ترضى أن تخرج عن القرآن والسنة ، فاتقوا أيها المسلمون وخذوا على أيدي نسائكم وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج وإظهار المحاسن والتشبه بأعداء الله .(/2)
اكسبوني قبل أن تفقدوني
على هادي
ها قد عدتُ إليكم أحبابي.. حاملاً معي نفحات الرحمة والتوبة والغفران.. بعد أن رحلت عنكم قبل عامٍ مضى، ورفعتُ سجلاتكم إلى الباري جل في علاه، والآن أعود لأفتح سجلاً آخر لكم ليشهد على ما ستقدمونه من عطاء ودعاء وطاعات، وسجلاً آخر أدوّن فيه من تقاعس منكم عن الطاعة أو هجرني بلا صيام وقيام، وعذراً على ذلك.. ولكنه واجبي أن أشهد عليكم.
لا أرى وجوهاً كانت حيةً في العام الماضي، شهدتُ بعضاً منهم يسأل الله تعالى الشهادة عندما كان يقوم لياليَ العشر الأواخر وها قد نالها، وشهدتُ أيضاً آخرين كانوا يقولون: سنتوب في رمضان التالي.. ولكن للأسف لم يدركوني.
ها قد عدت رافعاً شعاراً جديداً أن: (اكسبوني.. قبل أن تفقدوني)، فالفتن قد ادلهمت عليكم جميعاً(خوفٌ وجوعٌ ونقص في الأموال والأنفس والثمرات)، ما نجا منها إلا المُصلح الذي بذل نفسه ووقته وماله لإصلاح الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، فأتيت إليكم منحةً من الرحمن الرحيم ليتوب المسيء ممّا جنته يداه، ويستكثر المُحسن على ما قدّم لنفسه من أسباب تمنحه الدخول في زمرة المرحومين في الدنيا والآخرة.
لست إلا 30 يوماً وليلة، اكسبْ فيها ما استطعت من الخير، قُيِّدَت الشياطين وما بقت إلا نفسك، فمُرها أن تَزَكّى وتمضي لنيل رضا الرحمن عزّ وجل .. لدي ليلة مَن أحسن فيها بالطاعات فكأنما صام وقام 30000 يوم، إياك أن تكسل عنها.
أعنّي على أن تُدخل أحبابك من الأقارب والأصدقاء- الذين غفلوا عما لديَّ من نفحات ورحمات- في خيمتي وتحت كنفي، فأسجلها لك وأرفعها للملك القدوس فيغفر لك وله، وإذا حافظت عليه حتى ألقاكم معاً في العام المقبل فلا أعلم ما سيكتب لك الرب الرحيم من الأجر.
لا تنشغل عن بيوت الله، ففيها ستجدني، لا تكسل عن حضور الجماعات فتخسر سبعين ضعفا فوق السبع والعشرين درجة، ولا تنأ بنفسك عن حلقات العلم والذكر والصحبة الصالحة المصلحة، فهناك تتنزل الملائكة والسكينة والرحمة، ولا تتقاعس عن تدبر كتاب الله وآياته سواء في النهار أو الليل، ولا تنخدع بخطط الشيطان وجنده، فإنك إن انخدعت بها فقد خسرت خسارة ما بعدها ربح، كالتاجر صاحب الأموال الذي يُصدق صعلوكاً يريد سرقته يقول له: لا تتاجر بمالك في هذا الشهر، فإذا بالسوق ينشط والتجار يربحون، وصاحبنا قد صدّق هذا اللص، وجلس يندب حظه فيما الصعلوك يسرق ماله حتى تركه مفلساً، وطُرد من زُمرة التجار.
لا تمنع يديك من الجود بما لديك من المال والطعام واللباس، فقد كان المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود ما يكون عند حضوري، فاقتدِ به، تفقَّد أُسر من سقط شهيداً أو من اعتقل والمساكين والأيتام الآخرين، فإنك لا تعلم ما سيمتلئ به سجلك من الدرجات، ولربما يعفو عنك المهيمن بهذا ويجعلك ممن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب.
هذا ندائي الآخير إليك.. مؤكدا أني سآتي في العام المقبل وبعده إلى قيام الساعة، ولكن من يضمن أنك ستبقى إلى غد؟! اكسبْ ما عندي من أجر وخير ومغفرة قبل أن تقول : (...رب ارجعون، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)المؤمنون:100، وحينذاك... لا أملك لك من الله شيئاً... فاكسبوني قبل أن تفقدوني(/1)
الآثار الاستراتيجية لفتوى شيخ الأزهر
ملفات متنوعة
أضيفت بتاريخ : 12 - 04 - 2004 نسخة للطباعة القراء : 7498
أُثير في الأيام الأخيرة موضوع الحجاب في فرنسا ومنع المحجبات من دخول المواقع الرسمية فيها، فتصدّى المسلمون في الغرب لهذا القرار، وساندهم في ذلك علماء المسلمين ومفكّروهم ودعاتهم وعامة المسلمين في العالم، فنطقت الألسنة والأقلام وخرجت المسيرات والمظاهرات احتجاجاً على هذا القرار الذي يعتقد المسلمون أنه أساء إلى فرنسا وصورتها إساءة كبيرة قبل أنه يسيء إلى المحجبات.
ولكن الأمر الذي هو أشد من هذا القرار وأكثر إيلاماً منه هو فتوى شيخ الأزهر سيد طنطاوى التي أعطى فيها الحق لفرنسا لاتخاذ مثل هذا القرار وطلب من المسلمين في فرنسا قبول هذا القرار والرضوخ له.
نحن ندرك أنه لا يجوز للمسلمين اختزال الإسلام في موضوع الحجاب، كما أنّ عليهم أن لا يعتبروا أن المعركة الكبرى التي يواجهونها اليوم هي معركة الحجاب، فهناك قضايا أعمق وأكبر مثل قضية فلسطين وقضية العراق والهيمنة الصهيوامريكية وغيرها من القضايا المحورية التي يتوجب على المسلمين التصدّي لها.
ولكننا أيضاً ندرك أن قضية الحجاب تمسّ واقع عشرات الملايين من المسلمين في الغرب، وأنها إحدى قضاياهم التي لا يمكن التخلي عنها، وأن السماح أو التبرير لنزع الحجاب فيه من المفاسد والمضار الشيء الكثير، فضلاً عن أن الحجاب هو فريضة فرضها الله على المسلمين بنص القرآن، وقد أجمع علماء المسلمين على ذلك، حيث يقول تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن } [ النور: الآية 31 ] ، ويقول كذلك: { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } [ الأحزاب: الآية 59 ].
إنّ فتوى شيخ الأزهر قد أصابت جموع المسلمين في مقتل وصدمتهم أيما صدمة.
فظلم ذوى القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
إنّ القيام بالفتوى لهو أمر عظيم، إذ حقيقة الفتوى هي التوقيع عن الله تعالى، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم في إعلام الموقّعين: " إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيِّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربّ الأرض والسماوات ؟!! فحقيق بمن أٌقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عُدّته، وأن يتأهّب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرجٌ من قول الحقّ والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاّه بنفسه ربّ الأرباب، فقال تعالى: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ .. } [ النساء: الآية 127 ] .
ونظراً لخطورة الفتوى وأثرها البالغ فقد وضع فقهاء المسلمين شروطاً صعبة لمن يقوم بها، ومنها: أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً فقيهاً مجتهداً عدلاً، وأود هنا أن أنقل ما ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان ( أصول الدعوة/151-160) فيما يتعلق بشرط العدالة حيث يقول:
" العدالة هيئة يكون عليها المسلم، من مقتضياتها ولوازمها فعل المطلوب شرعاً وترك المنهي عنه شرعاً، وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن تكون أخلاق صاحبها وسلوكه على النحو اللائق بعلماء الإسلام.
هذا وإنّ ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة، ولهذا كان بعضها مسقطاً للعدالة دون بعض، فالمسقط منها مثل القول على الله ورسوله بغير علم إمّا عن طريق الابتداع في الدين أو بالتأويلات الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلان، ومثل مجاراة الظلمة والإفتاء لهم بما يشتهون، وأخذ الرشوة ونحو ذلك. وغير المسقط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة من المعاصي وعدم الإصرار عليها.
وقد اشترط العلماء شروطاً أخرى في المفتي ليتمكن من أداء وظيفته على نحو جيد وسليم، فقالوا: يشترط فيه أن يكون على قدر كاف من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم حتى لا يقع في هذا الخداع وذلك المكر، وأن يكون صلباً في دينه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن لا يتأثر بوعد أو وعيد، وأن يكون على قدر كبير من الورع والزهد ومخافة الله تعالى ". ( انتهى).
أرجع مرة أخرى إلى فتوى شيخ الأزهر حفظه الله تعالى لأبين بعض الآثار الاستراتيجية الخطيرة لهذه الفتوى على الأقليات الإسلامية في الغرب خصوصاً وعلى جمهور المسلمين في العالم عموماً ولعل من أهم هذه الآثار السلبية ما يلي:(/1)
أولاً: إنّ قضية منع الحجاب في فرنسا تتجاوز الواقع الفرنسي لتنعكس سلباً على حال الأقليات المسلمة في الغرب عموماً، فإنّ هذه الفتوى قد فتحت الأبواب على مصاريعها للغرب للاعتداء على شعائر الإسلام ومضايقة المسلمين ومنعهم من ممارسة فرائض الله تعالى، فاليوم الحجاب، وغداً المساجد والصلاة، وبعد غد المدارس الإسلامية والتعليم، وهكذا. ولهذا رأينا بعض البرلمانين والشخصيات الرسمية في بعض دول أوروبا بدأوا ينادون بصوت مرتفع بما نادت به فرنسا. بل العجيب أن وزير الداخلية الفرنسي الذي اجتمع بشيخ الأزهر في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه سماحة شيخ الأزهر موقفه، أقول إن وزير الداخلية هذا قال أنه كان من المعارضين لفكرة سن قانون حظر الحجاب داخل الحكومة الفرنسية، فلما وجد موقف شيخ الأزهر هكذا تشجع لمناصرة باقي حكومته في حظر الحجاب!! وكذلك رأينا أن الرئيس الفرنسي قد وسع نطاق حظر الحجاب بعد هذه الفتوى لتشمل جميع المرافق والمؤسسات الرسمية!.
ثانياً: لقد عمل المسلمون في الغرب لعشرات السنين من أجل أن يُثبتوا وجودهم كجاليات مواطنة لها استقلاليتها ودورها وليس كأقليات مهمشة، ولقد عملت فرنسا طويلاً لإذابة المسلمين في المجتمع الفرنسي العلماني وطمس هويتهم الإسلامية، ولكنها فشلت في ذلك، بل انقلب السحر على الساحر، وبدأ الفرنسيون يدخلون في دين الله أفواجاً، حتى تقدر بعض الإحصائيات أنّ عدد الفرنسيين الذين يدخلون في الإسلام سنوياً هو (30) ألف فرنسي. ولمّا ذهب وفد من المسلمين الفرنسيين إلى جاك شيراك محتجّين على تعيين رجل غير مرغوب فيه لدى الجاليات الإسلامية في فرنسا وفرضه رئيساً للمجلس الإسلامي الفرنسي رغم أنّ الانتخابات جاءت بغيره، قال لهم شيراك: لم أنتم مستعجلون؟ بعد خمسين سنة ستحكمون أنتم فرنسا. إنّ فرنسا لمّا فشلت في طمس هوية المسلمين لجأت إلى حصارهم بمثل هذه الممارسات، رغبة في قطع رأس الإسلام في الغرب، ولقد جاءت فتوى شيخ الأزهر لتعطي الشرعية لمثل هذه الممارسات ولتصبّ الزيت على النار ولتزيد من محاولات تهميش المسلمين في الغرب.
ثالثاً: إنّ هذه الفتوى ستؤدّي إلى عزل المسلمات المحجبات عن المجتمع، وإلى النظر إليهنّ وكأنهن مخطئات أو مرتكبات لجريمة، ولا شك أن في ذلك إساءة للإسلام وإهانة للمسلمين في الغرب.
رابعاً: إنّ الحجاب في قلب المجتمعات الغربية هو بمثابة الهوية الظاهرة أمام الجميع، لذا تعتبر محاولة إلغائه هي إلغاء لتلك الهوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
خامساً: قد يفهم من هذه الفتوى أنها دعوى ( غير مباشرة) للسفور والتبرج (وإن كنّا متأكدين أن صاحب هذه الفتوى لا يقصد ذلك ولا يريده) وهي في المجتمع الغربي أكثر إيلاماً وأشد فتكاً، وإنّ مؤداها إلى فساد مبرر، خاصة وأنّ الحجاب ليس رمزاً فقط للمسلمين وإنما له هدف محدد وهو الستر والعفاف الذي دعا إليهما الإسلام وشدد عليهما.
سادساً: إنّ مثل هذه الفتاوى تزيد من الإحباط واليأس في قلوب عامة المسلمين بل تشعرهم بالدونية والصغار، وتغرس في نفوسهم الاستسلام والانقياد للغرب، في زمن المسلمون أحوج ما يكونوا إلى ما يزيدهم عزة وكرامة وافتخاراً بهويتهم ودينهم. لقد مزقت هذه الفتوى قلوب كثير من المسلمين الغيورين على دينهم، فزادتهم غماً على غمهم وحزناً إلى أحزانهم، وربما يحق فيهم قول المتنبي حين قال:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... ... تكسرت النصال على النصال
إنّ الإسلام في فرنسا يعتبر ثاني ديانه، وإن المسلمين فيها يبلغ تعدادهم أكثر من خمسة ملايين، ولذا فإن مطالبتهم بإظهار دينهم هو حق مشروع لهم، فعلام نسارع بفتاوى تعطل عليهم حقوقهم وتجرئ خصومهم عليهم ؟!
سابعاً: إنّ كبت الحرّيات والتعدّي على حقوق الإنسان يولد الكراهية ويزيد مما يسمونه بالتطرف، والسؤال الذي يطرح نفسه: من سيكون المسؤول عن انتشار هذه الظاهرة؟ هل هو الضحية المعتدى على حقوقه الممنوع من ممارسة بعض شعائر دينه أم المسؤول هو المعتدي الذي انتهك الحقوق ومن برر له انتهاكه هذا ؟!!
ثامناً: إنّ هذا النوع من الفتاوى يضعف من مكانة شيخ الأزهر ويذهب بمصداقية هذا المنصب، ولا شك أن هذا الأمر ليس في صالح الإسلام ولا المسلمين، إذ المسلمون بحاجة إلى علماء عاملين مجاهدين أقوياء يرفعون من رؤوسهم ويشدود من عزائمهم ويجهرون بكلمة الحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولعل الأزهر الشريف كان عبر التاريخ مثال لتلك المرجعية المقدرة في نفوس المسلمين إلا ما ندر، ولقد زرت قبل أكثر من عقد من الزمان شيخ الأزهر جاد الحق رحمه الله في شقته المتواضعة فتكلم بقوة عن دور شيخ الأزهر وعن تمسكه بالصدع بالحق خاصة فيما يتعلق بثوابت الدين وقضاياه الرئيسة.(/2)
تاسعاً: إنّ مثل هذه الفتاوى ( التي تمسّ قطاعاً كبيراً من جماهير المسلمين وتؤثر في مشاريعهم وجهودهم ودعوتهم) إن لم يتم فيها استشارة علماء المسلمين وفقهائهم فإنها تتسبب في تمزيق جبهة العلماء والفقهاء وزراعة الخلاف بينهم، ولذلك رفض الغالبية الساحقة من علماء المسلمين فتوى شيخ الأزهر، فاعتبرها الشيخ يوسف القرضاوى أنها فتوى خاطئة لا تمثل المسلمين، كما استنكرها الدكتور عبد العظيم المطعني ( رئيس قسم التفسير بجامعة الأزهر) واعتبرها خطراً جسيماً لا يعادله خطر، كما ردها كثير من علماء الأزهر ورفضوا اعتبار الانصياع للحكومة الفرنسية في نزع الحجاب يدخل ضمن حكم الاضطرار، كما أبدى علماء المسلمين ودعاتهم في الغرب استيائهم من هذه الفتوى التي اعتبروها جاءتهم من برج عاجي لا يعرف صاحبه واقعهم ولا ظروفهم ولا أولوياتهم ولا طبعية التحديات التي تواجههم.
عاشراً: إنّ مثل هذه الفتاوى قد تعطي انطباعاً بأنّ أصحابها ربما بدأوا ينفضون أيديهم من قضايا المسلمين التي تمس واقعهم والتحديات التي يواجهونها. ولقد كان لعلماء المسلمين مواقف مشرفة عبر تاريخنا الإسلامي تمس حاجات المسلمين والتحديات التي كانوا يواجهونها كموقف الحسن البصري وسعيد بن جبير من الحجاج، وموقف ابن تيمية وجهاده ضد التتار وموقفه كذلك من الملك الناصر بن قالوون في مصر بشأن حانات الخمر، وكفتوى العز بن عبد السلام في ملوك المماليك، وموقف أحمد بن حنبل من المعتزلة في فتنة خلق القرآن، وموقف علماء الأزهر من حملة نابليون، وغيرهم كثير. فمهمة المفتى كبيرة في هذه الأمة ولو اقتضى الأمر التضحية بالمنصب والجاه بل وبالنفس والمال.
حادي عشر: لقد صرّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نوفمبر الماضي في تونس بأن ارتداء الحجاب مسلك عدواني ومن الصعب علينا القبول به، فإذا كانوا يعتبرون الحجاب ( وهو فرض شرعي) عدواناً فكيف لنا أن نقف بجانب من يعتبر فرائض ديننا عدواناً ونناصرهم في ذلك ؟!!
ثاني عشر: إنّ هذه الفتوى جعلت العلمانية وأهواءها حكماً على الإسلام ( وإن كان صاحب الفتوى لا يقصد ذلك) في حين أن الحكم لله تعالى، حتى لو لم نكن قادرين على تحكيم أمر الله تعالى في بلاد المسلمين أو في بلاد غير المسلمين فلا يحق لنا تبرير هذه المخالفات أو إضفاء الشرعية عليها أو على ممارستها.
ثالث عشر: إنّ الذي يؤلم أن بعض المرجعيات الإسلامية ( التي يتوقع منها أن تكون سنداً قوياً لقضايا المسلمين أينما كانوا) تصدر مثل هذه الفتوى، في حين نجد أن أكثر من (100) شخصية علمانية فرنسية غير مسلمة قد أصدرت هذا العام عريضة تؤكد حق المسلمات الفرنسيات في ارتداء الحجاب بالمدارس مستندين إلى كون العلمانية التي يؤمنون بها تدعو إلى عدم التميز، وقالوا أيضاً في عريضتهم: إن سن قانون يمنع ارتداء الحجاب بالمدارس وبعض المؤسسات الحكومية يعتبر عقوبة تحرم آلاف المسلمات الفرنسيات من حق التعلم، كما يُعد دعوة صريحة للتمييز.
رابع عشر: إنّ مثل هذه الفتوى قد تفت من عضد التائبات ( من الفنانات والمذيعات وطالبات الجامعات وغيرهم) اللاتي عدن إلى الالتزام وارتداء الحجاب وتشعرهن وتشعر غيرهن أنه بإمكان المرأة أن تنزع حجابها تحت أي ظرف من الظروف.
تلك بعض الآثار السلبية الخطيرة لفتوى سماحة شيخ الأزهر حفظه الله ورعاه وسدد آراءه وجعله ذخراً للإسلام والمسلمين(/3)
الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (1)
الاستخلاف والتمكين
إذا أقام العباد دين الله في أنفسهم، وخلص لله تحاكمهم في سرهم وعلانيتهم، وملكوا الفهم الصحيح لكيفية فهم الدين ونشره وطريقة إقامته، واستقامت دعوتهم على هذا الفهم الصحيح، وصبروا على ما لاقوا في سبيل ذلك من تكذيب وتشريد وتعذيب... فإن الله سبحانه يقويهم ويشد أزرهم حتى يستخلفهم في الأرض، فإذا استخلفهم طالبهم بتصديق الأعمال للنوايا، وأمرهم أن يقيموا الشريعة في الأرض بالقسط والعدل، فإذا فعلوا ذلك مكّن لهم الملك ووطأ لهم السلطان. وفي القرآن مصداق هذه السنّة الإلهية في قصص شتى.
فبعد أن أخزى الله سبحانه وتعالى فرعون بإبطال السحر ودعوى الشرك تآمر مع الملأ من قومه وتوعد موسى ومن معه من المؤمنين بالويل والثبور... قال تعالى: ? وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ? [الأعراف 127] فاشتد الأمر على بني إسرائيل وخافوا بطش ذلك الجبار العنيد.. وهنا يحرص موسى عليه السلام على أن يظهر لقومه هذه السنّة الماضية فيقول لهم: ? اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ? [الأعراف 128] وكذلك ينبههم إلى سنة الاستخلاف فيقول لهم بحسب ما جاء في القرآن الكريم: ? عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ? [الأعراف 129] فبين لهم أن المرجو من ربهم على حسب سنته أن يهلك عدوهم الذي سخرهم وآذاهم بظلمه ويجعلهم خلفاء في الأرض، كما وعد، وينظر سبحانه كيف سيعملون بعد استخلافه إياهم فيها، هل يشكرون النعمة أم يكفرون؟ وهل يصلحون في الأرض أم يفسدون، ليجازيهم في الدنيا والآخرة بما يعملون.
وقد نجح بنو إسرائيل -حيناً من الدهر- في هذا، فأنجز الله لهم ما وعد كما قال سبحانه: ? وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ? [الأعراف 137] ومن وراثة الأرض والاستخالف فيها منّ الله تعالى عليهم بالتمكين إنفاذاً لمشيئته سبحانه حيث قال: ? وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ? [القصص 5-6] وهكذا سُلب فرعون وهامان وجنودهما الأرض والملك بسبب الاعتداء على حق الله، بينما ورث المستضعفون أرض مصر والشام بعدها لما كانوا أئمة يقتدى بهم في الخير، وكان عليهم بعد ذلك أن يقوموا بحق الاستخلاف. فكما أن للاستخلاف ثمرة، فإن له تبعة، وذلك مصداق ما قاله تعالى لعبده ورسوله داود: ? يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ? [ص 26].(/1)
ولقد خاطب الله المؤمنين من هذه الأمة واعداً إياهم بما وعد به المؤمنين قبلهم، فقال سبحانه في سورة النور: ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ? أي بدلاً عن الكفار ? كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ? من بني إسرائيل. فإذا حقق المسلمون الإيمان وتحاكموا إلى شريعة الرحمن، فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره ? وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ? فهي مقدمات ونتائج، أعمال وآثار، فتحقيق التحاكم إلى الدين يتحقق به الاستخلاف، وتحقيق الحكم به يوصل إلى التمكين، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهنا يكون الظلم الذي يهلك الله به المجرمين، قال تعالى: ? وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ? [يونس 13-14] أي جعلناكم خلائف في الأرض بعد أولئك الأقوام كلهم، بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم وقدرناه لكم باتباعه ? لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ? أي لنرى أي عمل تعملون في خلافتكم فنجازيكم بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم، فإن هذه الخلافة إنما جعلها الله لكم لإقامة الحق والعدل في الأرض، وتطهيرها من رجس الشرك والفسق، لا لمجرد التمتع بلذة الملك. فلا ينبغي لأمة استخلفها الله على الأرض، إلا أن تقيم دين الله على هذه الأرض
الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (3)
النصر والفتح
بعد أن تُمكَّن الأمة وتستقر _ كما ذكرنا في العدد السابق _ لابد وأن الأعداء سوف يتكالبون عليها يتربصون بها الدوائر، ولابد لهذه الأمة أن تقوم بحق الله عليها في الدعوة والجهاد، فالله تعالى: قد ضمن للأمة الإس المستقيمة على شرعه أن ينصرها على أعدائها بعزته وقوته، قال تعالى: ? وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ? [الحج 40-41] أي لينصرن الله سبحانه من ينصر دينه، ومن ينصر أولياءه، وينتصر لشرعه في الأولين والآخرين كما نصر المهاجرين والأنصار على صناديد العرب، وأكاسرة العجم، وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم. وبيّنت الآيات علامة من ينصر دين الله بما يبين أن ادعاء نصر الدين يكون كذباً إذا لم يكن بهذا الوصف: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ? أي ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها ? أَقَامُوا الصَّلَاةَ ? بين الناس في الجمعة والجماعات ? وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ ? بتحصيلها من الرعية وإيتائها ? وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ? الذي هو كل ما أمر به الشرع من حقوق لله وحقوق الآدميين ? وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ? الذي هو كل ما نهى عنه الشرع. وعندما تنصر الأمة دين الله بهذا المعنى فإن وعد الله لها لا يمكن أن يتخلف؛ ولهذا فإن حال الأمة من النصر والعزة أو عدمهما يعتبر مقياساً دقيقاً، وميزاناً للحكم على مقدار امتثال تلك الأمة _ رعاةً ورعية، حكاماً ومحكومين _ لشريعة الله ظاهراً وباطناً، وإلا فإن اتهام واقع المسلمين أولى من سوء الظن بتحقيق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، هذا الوعد الذي صرح به القرآن تصريحاً بيناً لا يحتمل تأويلاً ولا تحويلاً كما قال تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ? [محمد 7] وقال: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? [الروم 47] أي هو حق جعله الله على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً كقوله ? كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ? [الأنعام 12].(/2)
فسنة الله ماضية في نصر من ينصر دينه نصراً أضافه الله تعالى إلى نفسه المقدسة، تنبيهاً إلى أنه قد يكون تأييداً بمعجزات وخوارق فله سبحانه جنود السماوات والأرض، فقد يؤيد بالملائكة، أو بإنزال المطر وتثبيت قلوب المؤمنين، أو بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وإحباط مكرهم، أو بكل ذلك معاً، وهي أمور لا يستطيع الجهد البشري حيالها حيلة من محارِب أو محارَب. إنها سنة ماضية في هذا الأمة كما مضت في الأمم قبلها، فلا على المؤمنين المستمسكين بشريعة الله من تثبيط المثبطين وإرجاف المرجفين، يقول سيد قطب رحمه الله: «وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف، بعد إعدادها لحمل أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة... وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه، يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ? إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ? [القصص 57] فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان».
وإلى جانب تأييد الله تعالى لمن ينصرونه بالنصر على الأعداء، فإنه يمن عليهم أيضاً بالفتح، فتح الأراضي وإخضاعها لحكم الله، وفتح القلوب وهدايتها لدين الإسلام. وقد اقترن النصر بالفتح في كتاب الله تعالى كثيراً بما يفهم منه أن قهر الأعداء ليس أثراً مراداً في ذاته، اللهم إلا إذا كان هؤلاء الأعداء حجر عثرة في وجه الدعوة، ولكن المراد الأصلي هو كسب ما يمكن كسبه من البشر للدخول في دين الله تعالى، والانتصار ممن يحول دون ذلك، قال تعالى: ? إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ? [النصر] ويقول جل شأنه: ? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ? [الفتح 1-3] ويقول سبحانه: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ? [الصف 10-13] فبالاستجابة للشريعة يستجلب الفتح، ويستنزل النصر، وتستفتح الأرض، فأي مسؤولية تلك التي تقع على عاتق الأمة حكاماً ومحكومين في تحكيم شريعة الله؟ إنها مسؤولية عظيمة على العامة تحاكماً وإذعاناً، وعلى ولاة الأمر من الحكام والقضاة والعلماء حكماً وتبياناً. فهؤلاء أخص في المسؤولية بما حُمِّلوا وتحمّلوا من تبعة الولاية والقيادة. فالله سبحانه وتعالى يزع بهم ما لا يزع بغيرهم، ولصلاحهم تصلح الأمة وتنصر، وإذا فسدوا فبفسادهم يظهر الفساد، ويضل العباد، وتضيع البلاد. يقول ابن تيمية، رحمه الله: «إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله وقع بأسهم بينهم... وهذا أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا. ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه: ? وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ? إلى قوله ? وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ? [الحج 40-41] فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم
الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (4)
العز والشرف(/3)
دوام النصر والفتح بقاء للعز والشرف، وكما لا ينال ذلك النصر إلا بنصر دين الله، فلا يطال هذا الشرف إلا بالاعتزاز بالانتساب لكتاب الله الذي به تشرف الأمة، وبه يعلو ذكرها. قال تعالى: ? لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? [الأنبياء 10]. قال ابن عباس (رضي الله عنهما) فيه شرفكم. فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأحكام الإسلام، كما قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله، أذلنا الله» أخرجه الحاكم. فعمر (رضي الله عنه) يكشف بكلماته تلك عن حقيقة سجلها التاريخ وشهدت بها الأيام، إنها حقيقة الارتباط بين حال الأمة عزاً وذلاً، مع موقفها من الشريعة إقبالاً أو إدباراً، فما عزت في يوم بغير دين الله، ولا ذلت في يوم إلا بالانحراف عنه، والله تعالى يقول: ? مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ? [فاطر 10] يعني من طلب العزة فليتعزز بطاعة الله عز وجل كما يقول ابن كثير. فالعزة عند الله مصدرها، فمن أرادها فليطلبها من مصدرها ممتثلاً، ولينشدها هناك، فسيجدها كما وجدها المؤمنون الذين قال الله فيهم: ? وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ? [المنافقون 8] وهذه العزة كما كانت للمؤمنين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي لمن يتبعهم على السبيل. يقول سيد قطب، رحمه الله، في ظلاله: «إن العزة ليست عتاداً صالحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل، وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار... كلا، إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله، ثم هي خضوع لله وخشوع، وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء».
إن الاعتزاز بالقرآن يتعدى التشريف إلى التكليف. وأهل الإيمان ليسوا بالخيار بين الاعتزاز بكتاب الله أو الاعتزاز بغيره، بل هم مسؤولون عن أخذهم هذا الكتاب بقوة، ورفعهم رايته بعزة، والله تعالى يقول لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ? فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ? [الزخرف 43] أي خذ بالقرآن المنزل فإنه الحق الهادي إلى الصراط الذي فيه الشرف لك ولقومك، وسوف تسألون عن هذا القرآن، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له كما يقول ابن كثير.
إن أمتنا اليوم تفتقد العزة إلى القدر الذي فقدته من دينها، ولن يعود لها هذا إلا بذاك... فيوم تعود العود الحميد إلى شريعته، فيومها ويومها فقط، تعود العزة إلى الأمة، وتعود الأمة إلى العزة(/4)
الآداب التي يجب اتباعها للخروج من الخلاف
يتناول الدرس ماينبغي اتباعه عند حدوث الخلاف من التثبت وإخلاص النية وقبول الحق والحرص عليه، وعدم الجدال ورد الحق وغير ذلك من الآداب، ثم بعد الخلاف وثبوته تكون هناك آداب أخرى مهمة من إعذار المخالف، وحفظ الأخوة .
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون ... والصلاة، والسلام على النبي الكريم؛ الذي كان يستفتح صلاته بقوله : [ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ؛ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ] رواه مسلم ،و الترمذي،و أبو داود،و النسائي،و ابن ماجه،وأحمد .
وعلى آله، وأصحابه، ومن سار على هداهم: من أهل الحق، والدين إلى يوم البعث والنشور، وبعد ..
فهذه قواعد جمعتها في الأدب الواجب على أهل الإسلام عند الاختلاف؛ عملاً بقوله سبحانه وتعالى: } وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ 10 ] { سورة الشورى . وقوله سبحانه: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ 59 ]{ سورة النساء . وقوله تعالى: } وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ 103 ] { سورة آل عمران .
أسأل الله أن ينفع بها عباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد جعلناها مختصرة، موجزة ؛ ليسهل جمعها، ولا يعسر على طالب العلم التوسع فيها، وفهمها، والحمد لله رب العالمين .
1] التثبت من قول المخالف:
أول ما يجب على المسلم أن يتثبت في النقل، وأن يعلم حقيقة قول المخالف، وذلك بالطرق الممكنة كالسماع من صاحب الرأي نفسه، أو قراءة ما ينقل عنه من كتبه لا مما يتناقله الناس شفاهاً، أو سماع كلامه من شريط مسجل أيضاً مع ملاحظة أن الأشرطة الصوتية يمكن أن يدخل عليها القطع والوصل، وحذف الكلام عن سياقه؛ ولذلك يجب سماع الكلام بكامله، ولو أن أهل العلم يتثبتون فيما ينقل إليهم من أخبار لزال معظم الخلاف الذي يجري بين المسلمين اليوم، وقد أمرنا الله بالتثبت كما قال سبحانه وتعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [ 6 ] { سورة الحجرات .وقال تعالى: } وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ 36 ] { سورة الإسراء .
وقد وقفت بنفسي _ أنا كاتب هذه السطور _ على حالات كثيرة من الخلاف، التي كان أساسها : التسرع في النقل، وعدم التثبت فيه، وعندما وقع التثبت تبين أن الأمر بخلافه.
2] تحديد محل التنازع والخلاف:
كثيراً ما يقع الخلاف بين المخالفين، ويستمر النقاش، والردود، وهم لا يعرفون على التحديد ما نقاط الخلاف بينهم؛ ولذلك يجب أولاً قبل الدخول في نقاش، أو جدال: تحديد مواطن الخلاف تحديداً واضحاً حتى يتبين أساساً الخلاف، ولا يتجادلان في شيء قد يكونان هما متفقين عليه، وكثيراً ما يكون الخلاف بين المختلفين ليس في المعاني، وإنما في الألفاظ فقط، فلو استبدل أحد المختلفين لفظة بلفظة أخرى لزال الإشكال بينهما ؛ ولذا لزم تحديد محل الخلاف تحديداً واضحاً .
3] لا تتهم النيات:
مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظرك، فإياك أن تتهم نيته، افترض في المسلم الذي يؤمن بالقرآن، والسنة، ولا يخرج عن إجماع الأمة، افترض فيه : الإخلاص، ومحبة الله، ورسوله، والرغبة في الوصول إلى الحق، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه.
لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق _ إن كان الحق في جانبك _ ، وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية، وقبح المقصد، فإن نقاشك معه سيأخذ منحى آخر وهو إرادة كشفه، وإحراجه، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده، وقد يبادلك مثل هذا الشعور، فينقلب النقاش عداوة، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف، وبيان ضلاله، وانحرافه.
4] أخلص النية لله:
اجعل نيتك في المناظرة هي : الوصول إلى الحق، وإرضاء الله سبحانه وتعالى، وكشف غموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون، ورأب الصدع بينهم، وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين ، وإذا كانت هذه نيتك؛ فإنك تثاب على ما تبذله من جهد في هذا الصدد ، قال تعالى:} فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [ 2 ] { سورة الزمر .(/1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ] رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو داود،والنسائي،و ابن ماجه، وأحمد .
5] ادخل إلى المناظرة، وفي نيتك أن تتبع الحق، وإن كان مع خصمك، ومناظرك:
يجب على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة، ويناظره فيها: ألا يدخل نقاشاً معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أني وجده، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه، وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
6] اتهم رأيك:
يجب على المسلم المناظر _ وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب _ أن يتهم رأيه، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر، ويلوح له .
7] قبول الحق من المخالف حق وفضيلة:
إن قبول الحق من مخالفك : حق، وفضيلة، فالمؤمن يجب أن يذعن للحق عندما يتبينه، ولا يجوز له رد الحق، لأن رد الحق قد يؤدي إلى الكفر كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تمارُوا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ مِرَاءً فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ ] رواه أحمد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4444 .
والمماراة هنا معناها : المجادلة، ودفع دلالته بالباطل ؛ لأن هذا يكون تكذيباً لله، ورداً لحكمه، وليس تكذيباً للمخالف .
ورد الحق كبراً من العظائم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال صلى الله عليه وسلم: [ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ] رواه مسلم . وبطر الحق : رده .
8] اسمع قبل أن تُجِب:
من آداب البحث، والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد، وأن تحدد محل الخلاف قبل أن تخوض في الموضوع.
9] اجعل لمخالفك فرصة مكافئة لفرصتك:
يجب على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته؛ فإن هذا أول درجات الإنصاف .
10] لا تقاطع:
انتظر فرصتك في النقاش، ولا تقاطع مخالفك، وانتظر أن ينتهي من كلامه .
11] اطلب الإمهال إذا ظهر ما يحتاج أن تراجع فيه نفسك:
إذا ظهر لك أن أمراً ما يجب أن تراجع فيه النفس، وتتفكر فيه؛ لتتخذ قراراً بالعدول عن رأيك، أو إعادة النظر فيه، فاطلب الإمهال حتى تقلِّب وجهات النظر . وأما إذا تحققت من الحق، فبادر إعلانه،والإذعان له، فإن هذا هو الواجب عليك، فالذي يخاصمك بالآية، والحديث يطلب منك في الحقيقة الإذعان إلى حكم الله، وحكم رسوله .
وكل من ظهر له حكم الله، وحكم رسوله؛ وجب عليه قبوله فورا كما قال تعالى: } إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ 51 ] { سورة النور .
12] لا تجادل، ولا تمار:
لا يكن دخولك في نقاش مع أخيك المسلم هدفه الجدال والمماراة، بل يجب أن يكون مقصدك معرفة الحق، أو توضيحه لمخالفك؛ لأن الجدال مذموم، والمماراة مذمومة. والجدال والمماراة أن يكون الانتصار لرأيك ؛ وقطع خصمك، وإثبات جهله، أو عجزه، وإثبات أنك الأعلم أو الأفهم، أو الأقدر على إثبات الحجة .
13] حدد مصطلحاتك، واعرف جيداً مصطلحات مخالفك:
كثيراً ما يتجادل اثنان، ويختلف قوم، ولا يكون سبب خلافهم إلا أنهم : يستعملون كلمات، ومصطلحات كل منهم يفهمها بمعنى يختلف عما يفهمها الآخر ؛ من أجل ذلك يجب عليك أن تحدد معاني كلماتك التي قد يفهمها مخالفك على صورة أخرى، وكذلك المصطلحات التي تستعملها، وأسأل مخالفك عن معاني كلماته، ومصطلحاته حتى تعرف مراده من كلامه .
ومن المصطلحات التي يختلف في معناها الناس في الوقت الحاضر :
المنهج، طريق السلف، وسائل الدعوة، أساليب الدعوة،البدعة المكفرة، الهجر، التطرف، الإرهاب، الخروج ... الخ، وكذلك يجب أن تعلم أن مخالفك يفهم هذه المصطلحات كما تفهمها أنت، أو كما هو معناها الحقيقي في اصطلاح العقيدة، الأصول، البدعة .
14] إذا تيقنت أن الحق مع مخالفك، فاقبله، وإذا قبل منك الحق؛ فاشكره، ولا تمن عليه:
يجب على المسلم إذا علم الحق من كلام مخالفه أن يبادر إلى قبوله فوراً لأن مخالفك في الدين يدعوك إلى حكم الله، وحكم رسوله، وليس إلى حكم نفسه ، وأما اذا كان رأياً مجرداً، ورأيت أن الحق معه، وأن المصلحة الراجحة في اتباعه، فاقبله أيضاً؛ لأن المسلم رجّاع إلى الحق ، وأما إذا وافقك مخالفك، ورجع عن قوله إلى قولك، فاشكر له إنصافه، وقبوله للحق، واحمد الله أن وفقك إلى إقالة عثرة لأخيك، وبيان حق كان غائباً عنه.
15] لا تيأس من قبول مخالفك للحق:
لا تكن عجولاً، متبرماً، غضوباً، إلى اتهام مخالفك الذي لم يقبل ما تدلي به من حجة، و إن كنت على يقين مما عندك، ولا تيأس أن يعود مخالفك إلى الحق يوماً، ولربما خالفك مخالف الآن، ثم يعود بعد مدة إلى الحق، فلا تعجل.
16] أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق، والنفور:(/2)
إذا تيقنت أن النقاش، والحوار سيؤدي الاستمرار فيه إلى الشقاق، والنفور، فاطلب رفع الجلسة، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر، وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ] رواه أبو داود، وحسنه الألباني في السلسلة 273 .
17] الإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة:
إذا علمت من مخالفك أنه لا يبقى أخاً إلا ببقائه على ما هو عليه من أمر مرجوح، ورأي مخالف للحق في نظرك، فتركه على ما هو عليه أولى من دفعه إلى الشقاق، والخلاف؛ لأن بقاء المسلمين أخوة في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خيرمن تفرقهم، وتمزقهم، وبقائهم على خلافاتهم.
ما بعد الخلاف
إذا وقع الخلاف بين مسلم، وآخر في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، وهي الأمور الاجتهادية، أو الأمور التي اختلف الصحابة، والأئمة فيها قديماً، فإن الواجب الشرعي هو اتباع الخطوات السابقة في أدب الخلاف، والمناظرة .ولا شك أنه لو اتبعت الخطوات السابقة، قضي على الخلاف بإذن الله، ووصل المختلفان إلى الاتفاق، ووفقا بحول الله إلى الحق .
وأما إذا ظهر لكل منهما صحة نظره، وسلامة قوله، وأنه لا يستطيع أن يدين الله إلا بما يراه، فإن واجب المختلفين ما يأتي:
1] إعذار المخالف، وترك أمره لله سبحانه وتعالى:
الأدب الشرعي الأول هو : إعذار من يخالفك الرأي من المسلمين في الأمور الاجتهادية، وإيكال أمره لله، وتنزيهه من فساد النية، وإرادة غير الحق ما دام ظاهره هو الدين، والعدل.
2] إبقاء الأخوة:
لا يجوز لمسلم أن يقاطع أخاه المسلم لرأي ارتآه، أو اجتهاد اجتهد فيه ما دام يعلم أنه تحرى الحق، واتبع ما يظن أنه الصواب، ولا يجوز في مثل هذه الحالة هجران، أو تعزير، ولا شك أنه لو أن كل مختلفين تهاجرا ؛ لم يبق مسلم مع مسلم .
3] لا تشنيع، ولا تفسيقن، ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية:
لا يجوز اتهام المخالف، ولا التشنيع عليه، ولا ذكره من أجل مخالفته، ولا تبديعه، ولا تفسيقه، ومن صنع شيئاً من ذلك، فهو المبتدع، المخالف لإجماع الصحابة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين ثَبَتَ بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل، ولا ضلالة، ودل الكتاب، والسنة على وجوب متابعتهم ] مجموع الفتاوى .
وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : [ ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ، مغفوراً له؛ قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ] سير أعلام النبلاء 14/40 .
4] لا يجوز التشنيع، ولا التبديع، ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة، ومجتهديها إذا خالف بعض الأمور القطعية اجتهاداً :
ولا يجوز لنا التشنيع، ولا التبديع، ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير، إذا علم أنه خالف في بعض الأمور القطعية اجتهاداً منه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [ وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل : كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام ] الآداب الشرعية 1/186 .
5] يجوز بيان الحق، وترجيح الصواب، وإن خالف اجتهاد الآخرين:
لكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقاً، وينشر ما يراه صواباً، ويرجح ما يراه الراجح، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح؛ لأن كتمان العلم لا يجوز، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق، وإن خالف من خالف من الأئمة، والعلماء، والأقران .
وقد خالف ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهما : عمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق في متعة الحج، وأفتيا بخلافهما، هذا : مع كمال الموالاة للصديق، والفاروق
وكان كل إمام، وعالم يفتي بما يراه الصواب، وإن خالف غيره، وقد قال الإمام مالك: [ ما منا إلا رد، و رد عليه إلا صاحب هذا القبر ] يعني : النبي صلى الله عليه وسلم .
6] لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي:
لا يجوز لعالم مجتهد، ولا لإمام عام أن يحمل الناس على رأيه، واجتهاده .(/3)
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : عمن ولي أمراً من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوِّز شركة الأبدان ، فهل يجوز له منع الناس ؟ فأجاب: [ ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، لاسيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار .
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم، والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.
وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة. ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول، فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا ، فأخذ رجل بقول هذا ، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه .
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه.
ونظائر هذه المسائل كثيرة : مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً، أو جهراً، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه، و روثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك،والتيمم بضربة، أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة، أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم .
ومن هذا الباب الشركة بالعروض، وشركة الوجوه، والمساقاة على جميع أنواع الشجر، والمزارعة على الأرض البيضاء، فإن هذه المسائل من جنس الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم، و إلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة، ولم ينكره عليهم أحد. ولو منع الناس مثل هذه المعاملات؛ لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم، ولا دنياهم إلا بها ؛ ولهذا كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي بأن المزارعة لا تجوز، ثم يفرع على القول بجوازها، ويقول : إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختار من أصحاب الشافعي، وغيره ] مجموع الفتاوى 30/79 – 8.
هذا ، والحمد لله على منه ، وإحسانه .
ملخص من كتيب : القواعد الذهبية في أدب الخلاف
المؤلف : الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق(/4)
الآداب الحسان لتلاوة القرآن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .. وبعد :
فإن لتلاوة القرآن الكريم آدابا تنبغي مراعاتها والعمل بها لتكون القراءة مثمرة ومجدية ومفيدة نافعة للقارئ في الدنيا والآخرة والقرآن الكريم خير كتاب أنزل على أشرف رسول إلى خير أمة أخرجت للناس بأفضل الشرائع وأسمحها وأكملها . نسأل الله تعالى أن ينفعنا به وسائر إخواننا المسلمين وإليك الآداب :
1- أن يقصد القارئ بتلاوته وجه الله عز وجل .
2- أن ينظف فاه بالسواك وغيره ويجوز بكل ما ينظف ، يبدأ باليمين وينوي به الإتيان بالسنة ، وتكره قراءة القرآن وفي الفم نجاسة كالدم مثلاً .
3- أن يقرأ القرآن على طهارة ، أما مس المصحف فلا يجوز إذا كان الإنسان محدثاً .
4- أن تكون القراءة في موضع نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً بين نظافة وشرف البقعة .
5- أن يستقبل القبلة متخشعاً بسكينة ووقار ، وأن يكون جالساً ، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو على فراشه أو غير ذلك جاز وجواز فعل ذلك لما روت عائشة رضي الله عنها بقولها (( كان النبيّ يقرأ القرآن ورأسه في حجري )) رواه البخاري .
6- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم قبل أن يقرأ لقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } كما ينبغي أن يحافظ على البسملة في بداية كل سورة .
7- أن يقرأ بخشوع وتدبر قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } كما يستحب أن يردد بعض الآيات للتدبر كما فعل ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- قام يردد آية حتى أصبح { إن تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] .
8- أن يرتل القرآن وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل لقوله تعالى : { ورتل القرآن ترتيلا } وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كانت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفسرة حرفاً حرفاً (رواه داود والنسائي والترمذي) .
قال العلماء : والترتيل مستحب للتدبر وغيره .
9- إذا مر بآياته رحمة يأل الله تعالى من فضله وإذا مر بآية عذاب يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول : اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه أو نحو ذلك وإذا مر بآية تنزيه لله تعلى نزه فقال سبحانه وتعالى . لما روى حذيفة بن اليمان أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ . رواه مسلم .
10- أن يجتنب الضحك واللغط والكلام خلال القراءة إلاّ كلاماً مضطراً إليه ، والعبث باليدين . لما روى البخاري أن ابن عمر (كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأ ) .
11- رفع الصوت بالقراءة أفضل إذا لم يؤذ أحداً . لأن فائدته تتعدى إلى غيره ، والنفع المتعدي أفضل من اللازم ، ولأنه أجمع لهم القارئ ، وأيقظ لقلبه وأطرد للنوم وأصرف للسمع وذلك لقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به )) وأما إن خشي على نفسه الرياء فالإسرار في حقه أفضل والله أعلم .
12- إذا قرأ من أول السورة أن يبدأ من أول الكلام المرتبط وأن يقف على كلام مرتبط وتام المعنى.
13- أن لا يقرأ في حالة النعاس .
14- إذا عرض له ريح وهو يقرأ فينبغي له أن يمسك عن القراءة .
15- إذا تثاءب أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب .
16- إذا عطس حال القراءة يستحب أن يقول الحمد لله وكذا يشمت من عطس فحمد الله .
17- إذا مر بآية سجدة سجد فيها كما هو الثابت عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- .
18- أن لا يترك المصحف منشوراً إذا قرأ وأن لا يضع فوقه شيئاً من الكتب ولا غيره من الأشياء .
19- أن يضعه في حجره إذا قرأ أو على شيء بين يديه ولا يضعه على الأرض .
20- أن يجمع ما تمزق من أوراق المصحف ثم يحرقها فيدفنها في مكان طاهر .
21- أن لا يكتب على الجدران كما يفعل في عصرنا هذا ، فإن القرآن ما نزل لتزخرف به الجدران بل لتزين به القلوب وتصقل . وقد ضرب عمر بن عبدالعزيز أحد أبنائه عندما رآه قد كتب على الجدار بآية .
22- أن لا يدخل بالمصحف في الخلاء .
23- أن يتمضمض بعد التنخع أثناء القراءة كما ورد ذلك عن ابن عباس .
24- قيل القراءة نظراً أفضل من عن ظهر قلب لاشتراك أكثر من حاسة في التلاوة والمستحب أن يقرأ بالصفة التي يرى أنها أجمع لقلبه وأخشع .
* نسأل الله الكريم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .(/1)
الآفاق الجديدة للدعوة الإسلامية
الأستاذ/ أنور الجندي
أعتقد أنه أصبح من الضروري في هذه المرحلة الجديدة من حياة الأمة الإسلامية إعادة النظر في موقف الدعوة الإسلامية وتصحيح حركتها ومواجهة العقبات التي تحاول أن تعترض طريقها .
أولاً : لابد من العودة إلى اتخاذ موقف واضح في سبيل استعادة القدس باعتبار أن هذه هي القضية الأولى والأساسية التي يجب أن تحشد لها الجهود وتركز حولها الاهتمامات ، فهي قضية المسلمين جميعًا وليست قضية العرب وحدهم .
والمسلمون مطالبون جميعًا باستعادة الأرض المغتصبة ، فإذا لم يتمكنوا منها في مرحلة من المراحل أو لسبب من الأسباب فيجب أن تظل القضية قائمة ومثارة وموضوعة دائماً في دائرة الضوء .
ولابد أن يوجه لها المسلمون جانبًا من مقدراتهم لهذا الغرض التماسًا لحق الله تبارك وتعالى في موارد المسلمين مما يوجه لحماية الثغور وحشدها والقدرة على الردع واستعادة الأرض المغتصبة .
ثانيًا : التماس الوسائل التي تعيد للمسلمين وحدتهم وتحول دون الوقوع في الخلاف أو الصراع، وذلك بتقريب المذاهب والارتفاع فوق المسائل الفرعية والارتقاء في مجال القيم الكبرى الموحدة للمسلمين في دائرة التوحيد والنبوة وتحاشي كل ما يتعلق بالخلافات ، سواء أكانت قومية أو اقتصادية أو ما يتعلق بالدم أو الجنس أو العرق ، وليحذر المسلمون دائمًا المداخل التي يستطيع منها النفوذ الوافد الوقيعة بين عناصر المسلمين الذين تجمعهم دائرة الخطر، وليعلم المسلمون أنهم على مدى تاريخهم الطويل ماكانوا ليؤتوا إلا من خلال هذه الثغرة .
ويستطيع المسلمون أن يدعموا هذا الجانب ويسدوا هذه الثغرة عن طريق إدخال دراسات عن الوحدة الإسلامية الجامعة إلى مناهج التعليم والتربية من أجل القضاء على الخلافات وتفويت الفرصة على الخصوم وتقريب وجهات النظر .
فقد كانت الدعوات الإقليمية والقومية على مدى السنوات الماضية بتوجيه من النفوذ الوافد عاملاً شديد الخطر على تقسيم المسلمين إلى عرب وفرس وترك وبربر ، ومن يراجع تاريخ العالم الإسلامي في العصور الحديثة بعد عام 1500 ميلادية يستطيع أن يكتشف مدى الخطر الذي حل بالمسلمين نتيجة الصراع بين العرب والترك وبين الترك والفرس وبين العرب والفرس ، علمًا بأن المصدر الحقيقي لهذه العناصر جميعها هو الإسلام ، الذي جاء به محمد بن عبد الله والقرآن المنزل بالحق، ولكن النفوذ الأجنبي كان حريصًا على أن يوجد أكثر من صراع بين أجزاء الأمة الإسلامية سواء أكان صراعًا يتعلق بالعنصر (أكراد – عرب – ترك – فرس) أو بالعقيدة (سنة وشيعة) أو بالمذهب الاجتماعي الوافد (قوميون وماركسيون وليبراليون).
وقد استشرت في فترة ما الأنظمة المستعلية بسلطان الفرد أو المستعلية بسلطان الفرد أو المستعلية بالسلطان القبلي وكان لها أثرها على اضطراب المجتمعات وظهور أزمات شديدة الخطر مما يتطلب التماس مفهوم الإسلام حول الشورى والعدل الإجتماعي فهو وحده القادر على حماية الأمة الإسلامية من المخاطر والمحاذير التي تحاول تدميرها.
ثالثًا : لقد أعطى الله تبارك وتعالى الأمة الإسلامية ثلاثة مصادر أساسية للثروة : هي الطاقة وثروة الركاز والتفوق البشري ، وهي بذلك في موضع الامتحان لحماية مقدراتها مما يمكنها من رد العدوان عن أراضيها ، ولقد آن الأوان لكي تقوم في بلاد المسلمين صناعات كبرى تنفق فيها من فوائض الأموال وذلك حتى يتحقق للمسلمين إقامة فريضة من أكبر فرائض الإسلام أهمية وهي الزكاة .
ولقد دعت بعض الدول الأوروبية المسلمين إلى استقطاع مبالغ تساوي 20 في المائة من مدخراتها للإصلاح الاجتماعي الشامل ، ولم يكن المسلمون في حاجة إلى توجيهات خارجية ، فإن الإسلام قد شرع للحكومات تخصيص زكاة الركاز (وهي تساوي 20 في المائة) للارتفاع بمستوى المجتمع الإسلامي .
رابعًا : من أخطر الظواهر التي يجب أن تعالج بواسطة مؤتمر إسلامي عالمي : ظاهرة قيام الحرب بين عناصر الأمة الإسلامية بعد أن كانت الحروب تقوم على مدى التاريخ الإسلامي بين المسلمين وبين أعدائهم وخصوم دينهم .
ويتطلب هذا الأمر دراسة العوامل التي فرضتها المفاهيم الوافدة حول الخلافات الفكرية والعقائدية ومدى تباين وجهات النظر بين النظرتين القومية الغربية وبين مفهوم العروبة الإسلامية .
خامسًا : مازال المجتمع الإسلامي يتطلب من الحماية مايحول بينه وبين استغراقه في وسائل التدمير الخلقي والاجتماعي بتفشي الخمور والمخدرات والسهرات الصاخبة والتصرفات الفاجرة التي تزخر بها بعض الفنادق والبيوت .
ولعل عبرة التدمير التي وقعت في بعض الأماكن من شأنها أن تنبه المسلمين إلى هذا الخطر .(/1)
سادسًا : النهضة العسكرية القائمة على التدريب والنضال وحمل السلاح يجب أن تستمر بصورة أكثر اتفاقًا مع أوضاع السلام دون أن يوقب نهائيًا ، فالشباب العربي والمسلم في حاجة إلى أن يكون على تعبئة دائمة ومدربا تمامًا على الظروف الحرجة والمفاجئة ، وأن لا يركن أبدًا إلى التراخي والاستسلام والأمن الخادع الذي كان يعيشه شبابنا في بعض البلاد الإسلامية في المرحلة السابقة، وليعلم أن عليه مسؤوليات جساما ولا تزال أمامه قضايا معلقة في حاجة إلى تربية قدرته القتالية.
ولا ريب أن الآمال التي كانت منعقدة على الدعوة الإسلامية قبل حرب الخليج قد ازدادت وتضاعفت ، وتأكد أن الوجهة الإسلامية هي الملاذ الأكبر للأمة الإسلامية لإخراجها من جميع أزمات اضطراب الشورى والعدل الإجتماعي ، وما تزال هناك ثغرات لا يستطيع سدها إلا الإسلام .
فالإسلام هو مفتاح الوحدة الإسلامية الجامعة المرتجاة ، والتي هي وحدها المخرج الحقيقي للعرب من أزمة الصراع بين الأقليات والقوميات وليس هناك إلا منطلق واحد وهو أن يكون النظام الإسلامي هو السبيل الوحيد ، للعمل وذلك بعد أن انهارت المذاهب العلمانية والشيوعية ولم يعد للمسلمين والعرب من منطلق حقيقي إلا من خلال مفاهيمهم وقيمهم وعقيدتهم وتراثهم .
واليوم تتطلع قوى المثقفين والمفكرين الغربيين إلى الإسلام كمنقذ للحضارة الإنسانية وتنتظر من المسلمين والعرب أن يطبقوا منهج الإسلام ، حتى يستطيع العالم أن يرى سلامة التجربة التي أعطت العالم ألف سنة كاملة خير عطاء في مختلف مجالات النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
ولقد تبين أنه لم يعد في الإمكان أن يظل المسلمون والعرب سائرون في دائرة التبعية ، وأنهم يجب أن ينطلقوا إلىعصر الرشد الفكري الذي يمكنهم من حق التصرف في مقدراتهم وبناء نواة عربية إسلامية أساسية للاقتصاد العربي الإسلامي وحماية مواردهم من أن تستهلك بمفهوم غير إسلامي حماية لنعم الله تبارك وتعالى من أن تكون وقودًا للترف والاستعلاء وزخرف الحياة الدنيا .
إن كل الأحداث التي مرت وتمر بنا في السنوات الأخيرة من حروب (إيران والعراق – لبنان – حرب الخليج) لابد أن تدفعنا إلى التعرف على منهجنا وموقف الإسلام الأصيل فهو وحده القادر على إخراجنا من تلك الأزمات المتلاحقة وإقامتنا في مكاننا الحق .
إن أهم ما يجب أن نتوجه إليه اليوم هو إقامة المشروع الحضاري الإسلامي بعد أن فشلت الأفكار والخطط والتنظيمات التي حاولنا أن نقتبسها من الفكر الأممي سواء في مجال حكم الفرد أو احتكار السلطة أو تقيد الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية .
إننا في حاجة ماسة إلى التماس (تكامل العروبة والإسلام) والانفتاح بينهما ونسيان صفحات المآسي والمرارة التي امتدت على مدى التاريخ بين أمة لا إله إلا الله تحت وسوسات الغرب الحريص على تمزيقنا عربًا وفرسًا وتركا ، أو سنة وشيعة أو ليبراليين وماركسيين وقوميين ، وعلينا الانطلاق من حدود الوطن العربي إلى ساحة الأمة الإسلامية ، فهي المنطلق الحقيقي لبناء الحضارة الجديدة المستمدة من القرآن الكريم وشريعة محمد بن عبد الله رسول الله الخاتم وخاتم رسالات السماء والدعوة العالمية الخالدة .
لابد من ثلاث :
1- التنمية العربية الإسلامية المستقلة .
2- الطابع العربي الإسلامي المميز .
3- بناء القدرة العسكرية العربية الإسلامية القاصرة على الردع ودفع العدوان وإعداد الشباب المسلم لمهمة الرباط في سبيل الله ، ولا ننسى أولاً وأخيرًا حق بيت المقدس علينا في تخليصه من الغاصبين وإزاحة خطر إسرائيل الجاثم على قلب الأمة الإسلامية(/2)
الآلوسي وتفسيره
من التفاسير التي كان لها حضور في الثقافة الإسلامية تفسير "روح المعاني" لمؤلِّفه محمود الآلوسي البغدادي، أبو الثناء شهاب الدين، من علماء القرن الثالث عشر الهجري، ويلقب بـ "الآلوسي الكبير" تمييزًا له عن باقي العلماء الآلوسيين الذين انحدروا من هذه الأسرة التي اشتهر أهلها بالعلم.
كان الآلوسي - رحمه الله - شيخ العلماء في العراق في عصره، ونادرة من النوادر التي جادت بها الأيام؛ جمع كثيراً من علوم المنقول والمعقول، وأحكم فهم علمي الفروع والأصول...وكان مع هذا وذاك مفسراً لكتاب الله لا يبارى، ومحدثًا للسنة لا يُجارى...
ومع أنه - رحمه الله - كان شافعي المذهب إلا أنه في كثير من المسائل كان يقلد الإمام أبا حنيفة، وكان عالماً باختلاف المذاهب، ومطلعاً على الملل والنحل، وكان في آخر حياته يميل إلى الاجتهاد، وقد خلَّف ثروة علمية كبيرة ونافعة، يأتي في مقدمتها تفسيره المسمى "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" وهو محور حديثنا في هذا المقال.
وهذا التفسير - كما يتبين للناظر فيه - قد أفرغ فيه مؤلِّفه وسعه، وبذل جهده، حتى أخرجه للناس تفسيراً جامعاً، لآراء السلف رواية ودراية، ومشتملاً على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو تفسير - و الحق يقال - جامع لخلاصة ما سبقه من التفاسير.
ثم إن المؤلف - رحمه الله - إذ ينقل من تفاسير من سبقه من المفسرين، لم يكن مجرد ناقل فحسب، بل كان يُنَصِّب من نفسه حكماً عدلاً، على كل ما ينقل، ويجعل من نفسه ناقداً مدققاً وممحصاًَ لكل رأي وقول، ثم هو بعدُ يُبدي رأيه حراً فيما ينقل.
ويلاحظ على مؤلِّفنا أنه كان كثيراًَ ما يتعقب الرازي في العديد من المسائل الفقهية، ويخالفه الرأي فيها... لكن إن استصوب رأياً لبعض من ينقل عنهم انتصر له، ونافح عنه بكل ما أوتى من قوة.
لكن مما يؤخذ على الآلوسي أنه كان مترددًا في مسائل الأسماء والصفات بين مذهبي السلف والخلف؛ فهو أحيانًا يميل إلى مذهب السلف ويقرره وينسب نفسه إليه، كما فعل عند تفسيره لصفة الحياء، في قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً}(البقرة: 26). وأحيانًا أخرى نجده يميل لمذهب الأشاعرة وينتصر لهم، كما فعل عند تفسيره لصفة الكلام، في قوله - تعالى -: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}(البقرة: 253) ونحن في حين ثالث نجده يُظهر نوعًا من التحفظ وعدم الصراحة الكاملة، كما فعل عند حديثه على صفة الفوقية، في قوله - تعالى -{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم}(الفتح: 10) وفي حين آخر نجده يقرر مذهب السلف والخلف ويرجح مذهب الخلف، كما فعل في صفة الاستواء في قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(طه: 5) وهكذا نجده مترددًا - رحمه الله - بين مذهب السلف والخلف؛ ولأجل هذا عدّه بعضهم من أصحاب التفسير بالمعقول.
ثم إننا نلحظ من منهجه في تفسيره - فوق ما تقدم - الأمور التالية:
- استطراده كثيرًا في المسائل الكونية، التي ليس لها علاقة وثيقة بعلم التفسير.
- وكان له استطراد أيضًا في ذكر المسائل النحوية، إذ كان يتوسع بها أحيانًا إلى درجة يكاد يخرج بها عن وصف كونه مفسرًا.
- أما المسائل الفقهية فمنهجه فيها أن يستوفيَ أقوال أهل العلم في المسألة موضوع البحث، ومن ثَمَّ يختار منها ما يؤيده الدليل، من غير تعصب لمذهب معين، بل رائده في ذلك: أن الحق أحق أن يُتَّبع.
- وكانت للمؤلف - رحمه الله - عناية ملحوظة بنقد الروايات الإسرائيلية، وتفنيد الأخبار المكذوبة، التي ساقها بعض المفسرين السابقين له؛ فنحن - مثلاً - نجده يُعَقِّب بعد أن ساق قصة من القصص الإسرائيلي، فيقول: " وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، وكذب على الله - تعالى -، إنما العجب ممن يُدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يُبيِّن أمره.. " وعلى هذا المجرى يجرى في تفنيده لتلك المرويات والأخبار.
- وكغيره من المفسرين السابقين، نجد الآلوسي يعرض للقراءات القرآنية الواردة في الآية الكريمة، بيد أنه لا يتقيد بالمتواتر منها، بل ينقل غير المتواتر لفائدة يراها، ولكن يُنبِّه عليه.
- ويُلاحظ أن للآلوسي عناية ملحوظة بذكر أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مع تعرضه لذكر أسباب النزول، لفهم الآيات وفق أسباب نزولها.
- وأخيراً، فإن الآلوسي في تفسيره كان ميَّالاً إلى التفسير الإشاري، وهذا ما أُخذ عليه؛ فهو بعد أن يفرغ من الكلام عن كل ما يتعلق بظاهر الآيات، تُراه يذكر لها تفسيراًَ إشارياً، أي يفسرها تفسيراً يخرج بها عن ظاهرها، وهذا منه فيه ما هو مقبول، وفيه ما هو مردود، لا يوافق عليه.(/1)
ومهما يكن، فإن تفسير "روح المعاني" يبقى موسوعة تفسيرية قيِّمة، جمعت جُلَّ ما قاله علماء التفسير المتقدمين، وامتازت بالنقد الحر، والترجيح المعتمد على الدليل، والرأي البنَّاء، والاتزان في تناول المسائل التفسيرية وغيرها، مما له ارتباط بموضوع التفسير. فجزى الله مؤلِّفه خير الجزاء، ونفع المسلمين بعلمه. والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده المصطفين، آمين.
12/07/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
الأبعاد الاستراتيجية لحرب العراق
5/2/1424
المشرف العام على موقع المسلم - أ.د ناصر بن سليمان العمر
* ينظر الكثير ممن تستغرقهم اللحظة الحاضرة، إلى الحرب في العراق على أنها حرب ذات أهداف محدودة، وغايات آنية، فهناك من يظن أنها حرب من أجل أهداف اقتصادية فقط، وأن مراد المعتدين هو الاستيلاء على نفط العراق فحسب، وآخرون يصدقون دعاوى أمريكا بأنها من أجل إزالة أسلحة الدمار الشامل، مع أنه لايوجد في العالم دولة تملك من أسلحة الدمار الشامل ماتملكه أمريكا،كما لايوجد في المنطقة دولة تملك ما تملكه إسرائيل في فلسطين. و لايعني هذا أن أمريكا ليست معنية بتحطيم قوة العراق، ولكنها تعلم قبل غيرها كذب دعوى امتلاك العراق لتلك الأسلحة، وهذا ما أكدته فرق التفتيش التي فرضتها.
وتصل السذاجة منتهاها عند البعض عندما يقولون: إن أمريكا تريد تغيير نظام صدام من أجل سعادة وحرية الشعب العراقي، والإتيان بنظام ديمقراطي بديل ولذلك سميت هذه المعركة بـ ( حرية العراق ). مع أن أمريكا هي التي مكنت لصدام وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية فقد كانت قاب قوسين أو أدنى من القضاء عليه كما صرح بذلك قائد قوات "الحلفاء" في تلك الحرب ( شوارتسكوف )، لكن الأوامر صدرت إليه من بوش الأب بعدم التقدم صوب بغداد وترك صدام وشأنه.
ودعوى تخليص الشعب العراقي من ظلم صدام، تنهار من أصلها إذا ما تأملنا ما أحدثته أمريكا في حربها الظالمة في عدة أيام بما يفوق جرائم صدام في عدة عقود، كما أن ما تحدثه إسرائيل من جرائم في حق الشعب الفلسطيني تحت رعاية وحماية ودعم أمريكا يؤكد أنها هي راعية وحاضنة الظالمين في العالم، وما بين تاريخي هيروشيما وأفغانستان ومن ثم العراق يؤكد ذلك التاريخ الأسود، مما تهون عنده جرائم هتلر وموسوليني.
وحقيقة الأمر أن كل هذه الدعاوى ثبت بطلانها وزيفها وأنها لم تكن الباعث الحقيقي لتلك الحملة الظالمة، عدا الهدف الاقتصادي فهو أحد الأهداف ولكنه ليس أهمها. كما سيأتي، ومن أجل إيضاح الصورة وبيان الحقيقة فيمكن إجمال أهم الأهداف الأمريكية لتلك الحرب الظالمة بما يلي :
1. ترسيخ النفوذ الأمريكي، وإحكام السيطرة والهيمنة على أهم بقعة على وجه الأرض، لما تتمتع به تلك المنطقة من بعد استراتيجي في جميع المجالات الدينية والعسكرية والاقتصادية والبشرية والجغرافية التي لا تتوافر مجتمعة في أي بقعة أخرى من العالم.
وترسيخ النفوذ الأمريكي في العالم حلم طالما راود ساسة أمريكا وقادتها وبخاصة بعد سقوط منافسهم الرئيس الاتحاد السوفيتي.
أما النظام العالمي الجديد فهو صناعة أمريكية أرادت تسويقه بقناة ديمقراطية عبر الأمم المتحدة، ولما لم يحقق نتائجه المرجوة كان الظلم والدمار والإحتلال هو الأداة لتحقيق ذلك الهدف الرهيب، وهي بذلك تعيد عصور الاستعمار السابقة، ولكن بصورة تختلف عن الإستعمار الأول في بعض أشكاله لا في مضمونه وأهدافه.
2. أدركت أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بأنه لا بد من عدو قادم بناء على نظرية صراع الحضارات، التي أكدها - هنتنجتون - في كتابه الشهير (صراع الحضارات) ورسم (سيناريوهاتها) الرئيس الأمريكي نكسون، حيث حدد ذلك العدو بالإسلام وأن الصراع القادم سيكون مع المسلمين،ومن هنا انطلقت أمريكا في وضع الخطط وبناء السياسات، وإعداد القوة وتهيئة الجيوش لخوض تلك المعارك القادمة، وقد عقد عام 1994م مؤتمر في استانبول بتركيا حضرته الدول الغربية تحت رعاية أمريكا كان الهدف منه تحديد ذلك العدو، ورسم السياسة والخطط لمواجهته، وتقدمت مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية وبخاصة في أمريكا بدارساتها وبحوثها التي أكدت فيه بشكل قاطع أن العدو القادم هو الإسلام، وأن المعركة مع المسلمين. ولم تكن أمريكا قبل ذلك تجهل هذا الأمر، ولكن هذا المؤتمر من أجل وضع النقاط على الحروف، بناء على دراسات وبحوث أعدتها مراكز استشراف المستقبل، ومن العجب واللافت للنظر أن يعقد المؤتمر في عاصمة آخر خلافة إسلامية، ذلك الخصم الذي أقض مضاجع الغرب قروناً طويلة وأسقطته مؤامراتهم وخيانة المنافقين في تلك الدولة ومن ثم تفريط المسلمين وبعدهم عن شرع الله.(/1)
وكان تنامي المد الإسلامي، وبخاصة الجهادي منه بعد الانتصار الذي حققه المجاهدون في أفغانستان أثناء الحرب مع الاتحاد السوفيتي والذي انتهى بخروجه مهزوماً تحت ضربات المجاهدين، ثم قامت ونشطت جبهات جهادية في أماكن متفرقة من العالم كالشيشان والبلقان والفلبين وكشمير وغيرها، كل ذلك جعل الغرب وبخاصة أمريكا يدرك أنه سيخوض معركة قادمة مع المسلمين لا مفر منها، وترسخت لدى أمريكا هذه القناعة بعد أحداث سبتمبر 2001م فأرادت أن تأخذ بزمام المبادرة قبل أن يفلت الأمر من يديها، فتغزى في عقر دارها، كما حدث عندما ضربت أبراجها، ومعقل القوة فيها ومن هنا فإن هذا الهدف هو قطب الرحى، ومعقل تلك الاستراتيجية، وهو الذي يجب أن نخضعه لمزيد من الدراسة والتحليل لما يترتب عليه من آثار ومواقف.
3. ومن أهداف هذه الحملة الظالمة هو حماية إسرائيل، وتأمين استقرارها،وبخاصة بعد الضربات الموجعة التي وجهها المجاهدون في فلسطين، وما حققته الانتفاضة الباسلة من انتصارات باهرة، وثبات نادر استعصى على الإرهاب اليهودي بجميع أشكاله وأنواعه، التي قل أن تخطر على قلب بشر، وتزامن هذا الأمر مع الفشل الذريع الذي منيت به مشاريع الاستسلام من سلام موهوم، وتطبيع مزعوم.
وترسخ هذا الهدف بعد تنامي المد الجهادي في العالم الإسلامي الذي أشرت إليه في الهدف الثاني، واليهود يدركون قبل غيرهم أنهم هدف استراتيجي لهذا الجهاد – طال الزمن أو قصر.
ومما جعل لهذا الهدف تلك الأهمية لدى أمريكا تولِّي جيل من القادة الأمريكان ممن يوصفون بأنهم من الإنجيليين الجدد، الذين يؤمنون بخليط من الإنجيل والتوراة ولذا يعدون أهداف اليهود ضمن أهدافهم الكبرى، وهم جيل يشكل خطورة لا يستهان بها، حيث يسخرون مقادير وإمكانات دولة علمانية كبرى لعقيدتهم المبنية على التحريف والضلال.
ومن أفضل ما اطلعت عليه حول علاقة اليهود بغزو العراق ماكتبه ( باتريك بيوكانان ) المرشح السابق للإنتخابات الأمريكية، حيث ذكر فيه من الحقائق الدامغة مالايحتاج بعده إلى مزيد بيان.
وعلاقة هذا الهدف بالحملة الظالمة على العراق يتجلى من خلال السيطرة على الدول التي يخشى أن تكون منطلقاً لتهديد أمن إسرائيل، والتي قد تنشأ فيها قوة جهادية تتنامى مع مرور الزمن مما تستحيل معه السيطرة عليها بعد ذلك، ويتعلق بهذا الهدف أيضاً قطع أي إمداد معنوي أو حسي للمجاهدين في داخل فلسطين، على أن يتزامن ذلك باستمرار الضربات الموجعة واستعمال جميع أدوات العنف والإرهاب من قبل اليهود ضد المجاهدين في الداخل، ويؤكد هذه الحقيقة تجديد انتخاب شارون، لأنه الأقدر على تحقيق هذا الهدف، وإن كانوا كلهم شركاء في الإجرام، وليس فيهم صقور وحمائم، بل كلهم ذئاب.
وهذا الهدف يشكل بعداً استراتيجياً لما له من طابع عقدي يتفق عليه اليهود وحلفاؤهم من الإنجيليين الجدد، ويرتبط بمستقبل إسرائيل وصراعها العقدي مع خصومها، ويستندون في ذلك إلى نصوص محرفة من التوراة، جعلوها مرتكزاً أساسياً في خططهم وأهدافهم وتحالفاتهم.
وعلينا ألا نخدع فنقلل من هذا الهدف بحجة أن أمريكا دولة علمانية، فما صرح به رؤساؤهم وقادتهم ومفكروهم وقساوستهم يؤكد جدّية هذا الهدف والذي قبله، ومما يزيد من تمسكهم بهذين الهدفين أنهما ينسجمان مع بقية الأهداف ولا يعارضانها.
4. ومن الأهداف الكبرى لتلك الحملة الظالمة هو الهدف الاقتصادي، وإن كان هذا الهدف يندرج ضمن الهدف الأول، ولكنه يتميز بخصوصية مرحلية، وبخاصة أن أمريكا تواجه انهياراً اقتصادياً، اتضح جلياً في الإفلاسات الضخمة التي أعلن عنها في عدد من الشركات الكبرى التي كانت تشكل دعامة أساسية في الاقتصاد الأمريكي، وهناك قائمة أخرى تتضمن إفلاس عدد من الشركات، ولكن لم يعلن عنها بعد لأسباب متعددة، بعضها يتعلق بتلك الشركات، وأخرى تتعلق بالسياسة الاقتصادية الأمريكية، وارتباطاتها الدولية.
ثم هناك ما يتعلق بالبترول، والنقص الحاد في المخزون الاستراتيجي الأمريكي، وفشل البدائل الأخرى بعد بحوث مضنية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن البترول لا منافس له على وجه الأرض ولا في باطنها، وأن حاجة أمريكا خصوصاً والغرب عموماً تزداد يوماً بعد يوم.
ثم إن منطقة الخليج والعراق بشكل أخص تسبح على محيطات من البترول تشكل أكثر من 50% من الاحتياط العالمي أجمع.
وأمريكا منزعجة من بقاء هذه الثروة تحت أيدي خصومها الحقيقيين، فهي لا تضمن استمرار تلك التحالفات مع الأنظمة القائمة، لأنها تعلم أن تلك الأنظمة نفسها لا تضمن بقاءها، بالإضافة إلى الحملات التي بدأت ترتفع أسهمها لمقاطعة الاقتصاد الأمريكي وما حققته تلك الحملات من أثر ملموس يزداد يوماً بعد يوم ويتأكد كلما تنامى المدّ الإسلامي، وازدادت أمريكا في صلفها وطغيانها ودعمها اللامحدود لليهود في فلسطين.(/2)
بالإضافة إلى أمراض داخلية يشكو منها الاقتصاد الأمريكي نفسه، وكذلك المنافسة الحادة من قبل دول لم تكن تشكل أهمية كبرى من قبل، كاليابان والصين وألمانيا والهند وغيرها من عمالقة الاقتصاد العالمي.
كل هذه العوامل وغيرها تجعل الهدف الاقتصادي يشكل بعداً استراتيجياً لتلك الحملة الظالمة، ولكنه لا ينفرد بها، وإنما يشكل غطاء مقنعاً للشعب الأمريكي الذي لا يستطيع أن يستوعب الأهداف الأخرى، وبخاصة الثاني والثالث، مع أنهما أهم من هذا الهدف، وهو خاضع لهما، لايخضعان له.
وبعد:
هذه هي أهم الأهداف الاستراتيجية التي تشكل البعد الحقيقي للحملة على العراق، ومن هنا فإن دراسة تلك الأهداف وتحليلها من أولى الواجبات التي يجب أن تعنى بها الأمة من أجل اتخاذ ما يجب حيالها، حيث إن المعركة لن تنتهي بالانتصار على العراق، بل إن الأسلوب التدميري الذي سلكته أمريكا وحلفاؤها في حربها مع العراق يشكل عائقاً مهماً في تحقيق ما تصبو إليه، وقد بدأت تلك العوائق فعلاً على المستوى الدولي، وذلك بتنامي الكره العالمي لأمريكا وسياساتها وبخاصة بعد جرائمها في العراق وكذب دعاواها.
ففي دراسة أعده معهد ( بيو ) للأبحاث في واشنطن تصمنت استطلاع الرأي في ( 8) دول صديقة لأمريكا أثبتت تلك الدراسة انخفاض شعبية أمريكا وزيادة الكره لها في تلك الدول وبخاصة بعد مقارنة هذه الدراسة بدراسة أعدها معهد ( جالوب ) في أمريكا قبل سنة من دراسة معهد بيو مما يظهر الفرق الكبير بين واقع أمريكا قبل سنة فقط وواقعها الآن. وهذا الانخفاض الشديد في نسبة المؤيدين لها سببه غزو العراق، وما ارتكبته من جرائم أخلاقية وإنسانية ودولية وسياسية، وهذه إشارة إلى نتائج هاتين الدراستين.
ففي بريطانيا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (75%) أصبحت الآن (48%)
وفي ألمانيا كانت نسبةالمؤيدين لأمريكا (61%) أصبحت الآن (25%)
وفي بولندا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (79%) أصبحت الآن (50%)
وفي فرنسا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (63%) أصبحت الآن ( 31%)
وفي إيطاليا كانت نسبة المؤيدين لأمريكا (70%) أصبحت الآن (34%)
وفي أسبانيا يعارض (70%) السياسة الأمريكية و (79%) يعارضون سياسة الرئيس بوش شخصياً.
بل داخل أمريكا نفسها يعارض (35%) من الشعب استعمال الحرب لحل مشكلة العراق حين يعارض (44%) سياسة الخارجية عموماً.
وإذا كان هذا الإنخفاض في سنة واحدة، ومن دول صديقة لأمريكا،فكيف تكون شعبيتها في الدول الأخرى وبالذات الدول الإسلامية، ونتيجة استطلاع تركيا يدل على ذلك، بل إن نتيجة استطلاع العام الماضي أثبتت أن نسبة المؤيدين لأمريكا في باكستان (4%) فقط فكيف تكون الآن.
وهذه الأرقام تعطينا فرصة عظيمة لمواجهة المد الأمريكي وعرقلة أهدافه من خلال محاور عدة، فليس كل ما يخطط له الأمريكيون يتحقق على أرض الواقع، بل إن أمريكا بسبب سياستها العدوانية في العالم، وظلمها الذي أضحى حقيقة مسلمة لدى أكثر شعوب الأرض، بدأت تفقد زعامتها التي تربعت عليها عقوداً من الزمن، ونشأت لديها مشكلات داخلية وخارجية كبرى على جميع المستويات السياسية والعسكرية والإقتصادية والأمنية والإجتماعية والثقافية بل والدينية، وهذه المشكلات ستتعمق مع مرور الأيام والشهور، وتدخل أمريكا في صراعات لانهاية لها بإذن الله، كل ذلك سيقف عائقاً مهماًَ دون تحقيق هذه الأهداف التي أشرت إليها، وهذا يتطلب من المسلمين جهوداً وخططاً تواكب هذه المرحلة، مما يساهم مساهمة فعالة في الحيلولة دون أن تحقق أمريكا أطماعها ومراميها في منطقتنا الإسلامية بل ونعمل على قلب نتائج هذه الخطط وتوظيفها لتكون في صالح المسلمين بإذن الله. وأرى أن المرحلة المقبلة مواتية جداً للقيام بأعمال على مستوى تطلعات الأمة، وإن كنت أدرك أن الطريق طويل، ويحتاج إلى جهود مضاعفة تبنى على الدراسات والخطط الإستراتيجية، وليس على ردود الأفعال، والأعمال الآنية التي انهكت الأمة وأضعفت من أثرها على مستوى العالم.
والأمة تملك من مقومات العزة والسؤدد ومفاتيح النصر مالامجال للشك فيه أو الارتياب، ولكن يلزمها الأخذ بأسباب النصر، ونبذ الوهن؛ حب الدنيا وكراهية الموت ومن أهم ما أشير إليه في هذه الكلمة مما يجب على الأمة أن تبادر إليه مايلي :(/3)
1. تهيئة الأمة لمرحلة قادمة تخوض فيها معارك مع عدوها في جميع الميادين الدعوية والعسكرية والعلمية والإجتماعية والإقتصادية والإعلامية وغيرها، وهذا يتطلب إعداداً خاصاً لكل فرد من أبناء هذه الأمة رجالاً ونساءً، صغاراً وكبار، فإن المعركة شاملة طويلة، وتوجيه جهودهم وطاقاتهم من خلال مؤسسات يكفل لها المشاركة الفعالة في جميع شؤون الأمة ، وإقناع أصحاب القرار بالتجاوب الحقيقي الصادق مع متطلبات المرحلة ، وإتاحة الفرصة لكل فرد أن يقوم بواجبه مما يحقق الأمن ويصد كيد العدو ويقضي على أسباب المركزية والأثرة والافتئات والفوضى. ويكون كل ذلك ضمن مؤسسات مؤهلة فعالة وليست شكلية.
2. السعي الجاد لتوحيد صفوف الأمة على كلمة سواء، ونبذ الخلافات التي لم تجن منها الأمة إلا الويلات مما زاد من أطماع عدوها فيها، ويكون نبراسنا في ذلك قوله سبحانه (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا )) وقوله سبحانه (( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ))
3. المبادرة إلى إنشاء مراكز الدراسات الإستراتيجية التي تعنى باستشراف المستقبل بطريقة علمية، مما يساهم في التخطيط الجاد، وتحديد متطلبات المرحلة، والأسلوب الأمثل لإستثمار الإمكانات بناء على أسس علمية وحقائق ثابتة بعيداً عن الإستعجال والإرتجال.
4. تربية الأمة تربية جادة، تتجاوز فيها حياة اللهو والعبث، وتستشعر مسؤليتها في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها، متطلعة إلى مستقبل مشرق باهر بإذن الله -وهذا يتطلب إنشاء المؤسسات التي تعنى بهذا الأمر من مدارس وجامعات ومراكز تعليم وتدريب ومحاضن تربوية متنوعة تتناسب مع ظروف المرحلة ومتطلباتها، فإن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
5. إقامة المؤسسات والندوات والملتقيات التي تطرح فيها هموم الأمة ومشكلاتها، يستثمر في ذلك خلاصة عقول أبنائها، ضمن أطر علمية شرعية تكون الشورى خلاصتها وقطب الرحى فيها، من أجل توجيه جهود الأمة إلى مقاومة أعدائها، واستثمار إمكاناتها، دون إفراط أو تفريط.
6. العناية الخاصة بإنشاء المؤسسات الإعلامية المتنوعة، نظراً لما تحتله الوسائل الإعلامية من مكانة في قيادة الأمم وتوجيه شعوبها، وتنشئة الكوادر المؤهلة لإدارة تلك المؤسسات، والإستغناء عن أعدائنا، والإستقلال بوسائلنا حتى لانؤخذ على حين غرة، ويكون من أبرز ماتعنى به في المرحلة القادمة هو فضح الأخلاق والقيم الأمريكية الخادعة ، مع فضح ومزاحمة المروجين لهذه القيم بيننا والداعين للاستسلام للقوة الغربية ممثلة بأمريكا وحلفائها، الذين يأخذون بدعوى من سبقوهم (لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).
هذه خلاصة موجزة حول بعض متطلبات المرحلة القادمة التي من خلالها سيتحقق للأمة ما تصبو إليه من سؤدد ومكانه، وما ستلحقه بعدوها من هزيمة محققة بإذن الله، على أن لانغلب العاطفة على العقل، وألا نخضع لضغط الواقع، وإنما نسير بخطى ثابتة، مستهدين في ذلك بهدي الكتاب والسنة، فلن يصلح آخر هذه الآمة إلابما صلح به أولها، ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )، ومعنا البرهان واليقين ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ).
فهلموا أخوتي إلى الفلاح وعز الدنيا والآخرة، وإلا ستصدق علينا سنة الله الثابتة ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لايكونوا أمثالكم ).
( ولله العزة ولرسوله والمؤمنين ولكن المنافقين لايعلمون ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
* نشر هذا المقال في مجلة البيان، عدد ربيع أول من عام 1424(/4)
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبرامج التكيف الاقتصادي الدولية (1/2)
منار محمد الرشواني 19/12/1423
20/02/2003
مقدمة:
تعتبر سياسات التكيف الهيكلي، أو ما يمكن تسميتها بـ "برامج التكيف الاقتصادي الدولية"، سياسات حديثة التطبيق نسبياً، حيث ارتبطت نشأتها أساساً بـ "تفجر أزمة المديونية الخارجية" التي اجتاحت البلدان النامية منذ العام 1982- بإعلان المكسيك، ومن ثم بعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا، خصوصاً، إضافة إلى دول من آسيا عن عجزها عن القدرة على سداد ديونها الخارجية(1). وبرغم حداثة عهدها تثير هذه السياسات اهتماماً كبيراً على أكثر من مستوى، سواء على المستوى الأكاديمي/البحثي، من خلال العدد المتزايد من الدراسات التي استأثرت بها هذه السياسات، أو على مستوى الحكومات وحتى المنظمات الدولية ذات الاهتمام الاجتماعي والصحي، هذا عدا عن مؤسستي بريتون وودز (Bretton Woods)–صندوق النقد الدولي والبنك الدولي(2)- اللتان تشرفان على تنفيذها. حيث يمكن تفسير هذا الاهتمام في التزايد المطرد في عدد الدول التي تبنت، أو هي في طريقها إلى تبني تلك السياسات من ناحية، والتأثيرات التي تطرحها في التطبيق من ناحية أخرى، والتي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، الذي هو مجالها الأصيل، وإنما تمتد لتشمل الجانبين الاجتماعي والسياسي.
ويعكس هذا الاهتمام الواسع والمتزايد بسياسات التكيف الهيكلي، في الواقع، الجدل حول هذه السياسات من نواح متعددة، تتمثل في الأهداف أو الإجراءات أو النتائج وآثار التطبيق -سواء في التطبيق العملي أو من الناحية النظرية. حيث يرتبط هذا الجدل أساساً، من ناحية أولى، بآلية الأخذ بسياسات التكيف الهيكلي من حيث هي "مجموعة الإجراءات الاقتصادية الموصى بها من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي تهدف إلى الوصول بالاقتصاد إلى حالة الاستقرار، من خلال معالجة الاختلالات المالية والنقدية التي يعاني منها. وكذلك تحقيق نمو مستمر، من خلال إجراء تعديل على هيكل هذا الاقتصاد"(3). حيث يظهر هنا تحديداً التمييز بين سياسات التكيف الهيكلي التي يقوم عليها الصندوق والبنك وبين تلك السياسات التي يمكن أن يطلق عليها "المدخل المستقل (عن الصندوق والبنك) للتكيف والإصلاح الاقتصادي".
فالإصلاح أو التكيف الاقتصادي بصورة عامة، إنما يشير إلى عملية توجيه ومواءمة للاقتصاد الوطني، وفقاً لأهداف مستجدة أو موضوعة سلفاً، لتخفيف أو تجنب الآثار السلبية المتولدة عن طبيعة الاقتصادي الدولي، والتي (عملية التوجيه والمواءمة) تشتمل على أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية(4). وإزاء إيجابية مضمون هذه العملية، فلا بد وان تكون عملية مستمرة تأخذ بها الدول على اختلافها، بما فيها الدول المتقدمة.
وبرغم أن هذا المفهوم يمتد ليشمل سياسات التكيف الهيكلي التي يقوم عليها الصندوق والبنك إلا أنه لا يقتصر عليها. ويترتب على هذه الملاحظة نتائج مهمة تتمثل بصورة رئيسية في حجم الآثار الاجتماعية والسياسية وإمكانية التعامل معها، إضافة إلى مدى إمكانية تحقيق الأهداف المتوخاة على الصعيد الاقتصادي، بناء على الأخذ بأحد هذين المدخلين (مدخل الصندوق والبنك، والمدخل المستقل).
ففي حين، يرتبط تطبيق سياسات التكيف الهيكلي بالدول النامية التي تواجه أزمات اقتصادية ترتب عليها العجز عن سداد مديونيتها الخارجية، بحيث اقتضت إعادة ثقة الدائنين بها، لجدولة ديونها والحصول على تمويل جديد، اللجوء إلى الصندوق والبنك للحصول على شهادة بسلامة أوضاعها الاقتصادية (Seal of Approval)، بعد التزام هذه الدول بما يسمى بـ "المشروطية" (Conditionality)، والتي هي عبارة عن اتفاق بين الصندوق والبنك من جهة والدولة المدينة من جهة أخرى، يتم بموجبه ربط استمرار التدفقات المالية الخارجية، من منح وقروض، بإجراء تغييرات في السياسة الاقتصادية للدولة المدينة(5). ويعبر عن هذا الاتفاق من خلال ما يعرف بـ "خطاب النوايا" الصادر عن حكومة الدولة المعنية، بشكل سنوي، متضمناً تحديداً لسياسات التكيف واحتياجات الدولة من التمويل الخارجي والتمويل المتاح من الصندوق والبنك وهيئاته التابعة(6).وعلى الرغم من أن خطاب النوايا يصدر في النهاية عن حكومة الدولة التي تود الالتزام بسياسات التكيف الهيكلي، إلا أن هذا الخطاب في الواقع ما هو إلا حصيلة مفاوضات بين هذه الحكومة وكل من الصندوق والبنك، تتخذ في النهاية شكل تعهدات ملزمة للحكومة المعنية، تستدعي العقاب المتمثل في وقف التمويل الخارجي (مساعدات وقروض)، في حال عدم الوفاء بها(7).(/1)
أما في حالة "المدخل المستقل في الإصلاح الاقتصادي"، فتبدو السمة الرئيسية لهذا المدخل في قدرة الدولة على توفير التمويل الذاتي، أو من مصادر أخرى غير الصندوق والبنك. ومن ثم فإن هذا المدخل غالباً ما يرتبط في تطبيقه بالدول الصناعية والنفطية إلى حد ما، بهدف مواجهة حالات الركود الاقتصادي أو مواكبة التطورات الاقتصادية في الغالب (8)، وإن كان ذلك لا يعني عدم لجوء بعض الدول إليه لمواجهة أزمة مديونية خارجية، طالما كانت الدولة قادرة على توفير التمويل دون اللجوء إلى الصندوق والبنك.
يترتب على الاستقلالية نتيجة مهمة تتمثل في أنه، وبعكس الحال في سياسات التكيف الهيكلي الموصى بها من الصندوق والبنك، لا يخضع التكيف ذو المدخل المستقل لنموذج واحد(9)، بحيث تراعي الدولة، في النموذج المطبق، ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يترتب عليه نتيجة على درجة كبيرة من الأهمية تتمثل في قدرة الدولة، في حالة المدخل المستقل، على ضبط الآثار السلبية لعملية الإصلاح الاقتصادي، وخصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
الناحية الثانية للجدل حول سياسات التكيف الهيكلي، ترتبط بأهداف هذه السياسات ومدى فعالية الحزمة المكونة لها في تحقيق تلك الأهداف المعلنة. ففيما تتمثل أهداف سياسات التكيف الهيكلي بحسب الصندوق والبنك في(10):
1- النمو الاقتصادي، وذلك من خلال عدد من الآليات تتمثل في تشجيع الاستثمار في المشاريع الإنتاجية وزيادة المدخرات الوطنية، واجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية.
2- الوصول بميزان المدفوعات إلى حالة التوازن بما يمكن من سداد الديون الخارجية في مواعيدها المحددة.
فانه من وجهة نظر أخرى (باحثو العالم الثالث على وجه الخصوص)، تتمثل أهداف هذه السياسات في:
1. إنقاذ البنوك الغربية الدائنة لتلك الدول التي تبنت سياسات التكيف الهيكلي، والتي كانت مهددة بالإفلاس في حال توقف الدول المدينة عن الوفاء بالتزاماتها، بما يهدد "النظام المصرفي الرأسمالي العالمي بكامله"، خصوصاً وأن تلك البنوك كانت قد قدمت قروضاً تزيد عن حجم رأس مالها بكثير(11).
وتملك وجهة النظر هذه، في رأينا، الكثير من الوجاهة في ضوء أسباب نشأة سياسات التكيف الهيكلي من حيث ارتباطها بتفجر أزمة المديونية العالمية، وتبني الصندوق والبنك لمبدأ التزام الدول المدينة بالوفاء بالتزاماتها كاملة تجاه الدائنين.
2. فتح أسواق البلدان المدينة أمام منتجات البلدان الرأسمالية من خلال تحرير التجارة كأحد شروط أو إجراءات سياسات التكيف الهيكلي، مع إبقاء الدول الرأسمالية لسياساتها الحمائية لمنتجاتها(12) التي تعتبر أحد أسباب تفاقم مديونية البلدان النامية. وإدماج الأخيرة في لاقتصاد الرأسمالي العالمي بهدف استثمار رؤوس الأموال الغربية فيها وزيادة أرباحها(13)
، بكل ما يعنيه ذلك في المحصلة من نتائج إيجابية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في البلدان الغربية.
3. إن سياسات التكيف الهيكلي،التي تعبر عن الرؤية الرأسمالية في التنمية، تقف، ومن منطلق أيديولوجي، ضد القطاع العام(14).
أما فيما يتعلق بحزمة الإجراءات التي تتضمنها سياسات التكيف الهيكلي، والمتمثلة في (15) :
1- تخفيض الإنفاق العام، من خلال تخفيض النفقات الاجتماعية، وإلغاء الدعم عن السلع وكذلك الموجه للقطاعات والخدمات العامة.
2- زيادة الإيرادات.
3- تعويم أسعار الفائدة (الدائنة والمدينة).
4- تخفيض سعر صرف العملة.
5- تشجيع التصدير، من خلال رفع القيود عن المعاملات الخارجية.
6- التحول نحو القطاع الخاص على حساب القطاع العام فيما يطلق عليه عملية "الخصخصة". فيبدو الاعتراض الجوهري هنا هو أن الصندوق والبنك إنما أنشئا أساساً لمواجهة متطلبات، وبما يتلاءم وأوضاع الدول الصناعية الغربية (الرأسمالية)، ومن ثم، وبرغم كون إجراءات سياسات التكيف الهيكلي صحيحة "من حيث اتفاقها والنظرية الاقتصادية الرأسمالية، التي تصلح للتطبيق في اقتصاد متقدم"(16) فإنها تظهر نتائج متناقضة في حالة البلدان النامية، كما في حالة تخفيض العملة أو رفع أسعار الفائدة ... الخ، والتي تناولتها العديد من الدراسات(17).
وإضافة للنقد السابق، يوجه الانتقاد لسياسات التكيف الهيكلي وما تتضمنه من إجراءات، لكونها، وكما ألمحنا سابقاً، عامة موحدة بالنسبة لجميع الدول التي تأخذ بها. بعبارة أخرى، فإن هذه السياسات (الإجراءات) لا تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الموجودة بين تلك الدول من حيث ظروفها ومتطلباتها وأولوياتها المختلفة.(/2)
أما على صعيد نتائج تطبيق سياسات التكيف الهيكلي والآثار التي تمخضت عنها، فعلى الرغم من أن هذه السياسات إنما وضعت أساساً لمعالجة مشكلة اقتصادية، فإن آثارها، وكما يظهر من الإجراءات التي تتضمنها، قد امتدت لتشمل جوانب اجتماعية وسياسية، يبرز ضمنها مجموعة من العوامل وثيقة الصلة بظاهرة (عدم) الاستقرار السياسي؛ كالفقر، والبطالة، والتفاوت في توزيع الدخل، وتناقص الشرعية السياسية.
نتائج وآثار سياسات التكيف الاقتصادي الدولية
تظهر الأدبيات المتعلقة بسياسات التكيف الهيكلي تبايناً شديداً في وجهات النظر حول الآثار والنتائج التي أفرزها تطبيق هذه السياسات. فعلى الرغم من أن سياسات التكيف الهيكلي إنما وضعت أساساً لمعالجة مشكلة اقتصادية، وبالتالي فهي تستهدف، من الناحية المجردة، جوانب اقتصادية بحتة، فإن آثار هذه السياسات قد إمتدت لتشمل جوانب اجتماعية وسياسية داخل الدولة المنفذة لها. ومن ثم فإن الحديث عن نتائج وآثار سياسات التكيف الهيكلي يستدعي التمييز بين الجوانب السابقة اقتصادية، واجتماعية، وسياسية.
أولاً: النتائج الاقتصادية:
يستدعي الوقوف على حقيقة هذه النتائج، تحديد منهج دقيق لقياسها. ويمكن
التمييز هنا بين منهجين إثنين(18):
1. قياس آثار سياسات التكيف الهيكلي بالفرق بين مستوى المتغيرات المستهدفة (Target Variables) قبل وبعد تنفيذ تلك السياسات.
2. قياس آثار سياسات التكيف الهيكلي بمقارنة أداء المتغيرات المستهدفة عند تطبيق السياسات وادائها بدونها.
وعلى أساس ما سبقت الإشارة إليه من وجود تناقض في إجراءات سياسات التكيف الهيكلي، يذهب البعض إلى أن هذه السياسات إنما تسهم في(19):
1. خلق ركود اقتصادي.
2. تغذية التضخم.
ويبدو أن هذه الاستنتاجات النظرية تجد الكثير من التأييد من نتائج التطبيق على أرض الواقع، ومن ذات واضعي هذه السياسات.
ففي دراسة لصندوق النقد الدولي عام 1995، بعنوان: “IMF Conditionality Review: Experience Under Stand - By and Extended Arrangements”
تناولت سياسات الإصلاح، المرتبطة باتفاقات مع الصندوق خلال الفترة من منتصف 1988 وحتى منتصف 1991، في ست وثلاثين دولة متوسطة الدخل، أظهرت الدراسة أن الانجاز الاقتصادي الايجابي كان أساساً في الحسابات الخارجية، بينما لم تظهر ذات النتيجة على صعيد الأهداف الداخلية من تضخم واستثمار وتنمية. وبشيء من التفصيل، فإن التحسن في أداء الاقتصاد الكلي، الذي انتهت إليه الدراسة، قد حدث، في أغلب تلك الدول، اثناء فترة تنفيذ سياسات الإصلاح تحديداً، بحيث لم تحتفظ جميعها بهذا التحسن في الفترة اللاحقة.
بل إنه وحتى على مستوى الديون الخارجية، التي تندرج ضمن القطاع الخارجي الذي ترى الدراسة أن الإنجاز قد تم فيه، فإن العديد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء ووسط أوروبا لم تستطع الوفاء بالتزاماتها الخارجية لعدم تدفق رؤوس الاموال بالقدر الكافي، والتي تشكل أحد الأدوات الرئيسية في نجاح سياسات التكيف الهيكلي، وتراجع نمو الصادرات مقارنة بما كان عليه مع بداية سياسات الإصلاح.
أما فيما يتعلق بالأهداف على المستوى الداخلي، فتبدو النتائج أكثر مدعاة للتشاؤم. ففي مقابل انخفاض معدلات التضخم في عدد قليل من البلدان، موضع الدراسة، فإن بقية هذا البلدان قد شهدت تصاعداً في معدلات التضخم، أو على الأقل، استمرار معدلات التضخم المرتفعة التي كانت تعاني منها.
وعلى صعيد النمو والإستثمار، وبرغم حصول زيادة في النمو ومعدلات الادخار، فإن أياً من تلك البلدان لم يشهد نمواً سريعاً، بل إن مساهمة الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي لم تشهد زيادة إلاّ في عدد قليل منها(20).
ويعزز النتائج السابقة، النتائج التي توصلت إليها دراسة أخرى حول أداء "الاقتصاد الكلي" في كل من إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا الاتينية، باعتبارهما المنطقتين الرئيسيتين، على ضوء تنفيذها لسياسات التكيف الهيكلي. وتتلخص النتيجة هنا في أن أداء الاقتصاد الكلي قد ازداد سوءًا خلال فترة الثمانينات. في هاتين القارتين.
فعند النظر إلى القارتين كوحدة واحدة، تتمثل نتائج تطبيق سياسات التكيف الهيكلي في: إنخفاض دخل الفرد، وانخفاض الاستثمارات، وازدياد التضخم. وكذلك، وبرغم إظهار الحساب الجاري -في بلدان القارتين لبعض التحسن، فإنها بقيت تعاني من عجز كبير، على الرغم من جدولة وعدم سداد خدمة ديون تلك البلدان تقييد الواردات.
أما عند النظر إلى القارتين بشكل منفصل، فإن النتائج تتمثل بعدم وجود أي تحسن في عجز الموازنة في أفريقيا جنوب الصحراء فيما إزداد الأمر سوءًا في أمريكا
اللاتينية.
وبرغم التحسن الحاصل في النصف الثاني من الثمانينات فيما يتعلق بنمو الناتج المحلي الإجمالي، فإن الاختلالات المالية وفي الحساب الجاري التي أظهرت مؤشرات إيجابية في النصف الأول من عقد الثمانينات، عادت للتراجع في النصف الثاني منه(21).(/3)
وعلى الرغم من النتائج السابقة، فإن الصندوق والبنك يصران على سلامة سياسات التكيف الهيكلي من الناحية الفكرية النظرية(22)، ويرجعان فشل هذه السياسات، في جوانب منها، إلى عدم التزام الدول المتبنية لهذه السياسات، بتطبيقها بصورة تضمن فعاليتها، إضافة إلى عوامل خارجية كالجفاف وشروط التبادل التجاري(23).
ثانياً: الآثار الاجتماعية
يثير الحديث في الآثار الاجتماعية لسياسات التكيف الهيكلي جملة من القضايا تستدعي الإشارة إليها.
فعلى الرغم من إمكانية القول بوجود اتفاق حول التكلفة الاجتماعية المترتبة على الأخذ بهذه السياسات، والذي عبرت عنه ومنذ مراحل مبكرة "منظمة اليونيسيف" من خلال تقريرها “Adjustement with fuman face”. وكذلكً "القمة الاجتماعية" المنعقدة في مارس/ آذار عام 1995 من خلال تبنيها توصية تدعو إلى إدخال عناصر اجتماعية في هذه السياسات تستهدف استئصال الفقر، وزيادة التوظيف، وتعزز التكامل الاجتماعي(24). برغم ذلك، فإنه يمكن التمييز داخل سياسات التكيف الهيكلي، وفيما يتعلق بالآثار الإجتماعية لهذه السياسات، بين ثلاث مجموعات هي
(25):
1. المجموعة الأولى، سياسة خفض الإنفاق الكلي: وتهدف إلى خفض الطلب على السلع المستوردة وعلى السلع المنتجة محلياً بغرض الحد من التضخم والعجز الخارجي. وتنصب هذه السياسة أساساً على الأجور من خلال تخفيض قيمتها الحقيقية، وكذلك السياسات المالية التي تعمل على تخفيض، إن لم يكن إلغاء، الدعم والإعانات في الموازنة العامة. ويضاف إلى تلك السياسات، ولغايات تخفيض العجز الداخلي، إلغاء الدعم الضمني لبعض السلع والناجم عن استهداف سعر صرف مغالى فيه، أو زيادة الإيرادات العامة من خلال زيادة الاعتماد على الضرائب المباشرة.
ومن ثم يظهر الأثر السلبي لهذه السياسات من الناحية الإجتماعية بحكم كونها سياسات
انكماشية.
2. المجموعة الثانية، وتهدف إلى إعادة تخصيص الموارد الاقتصادية وذلك بتحويلها من القطاعات المنتجة للسلع غير القابلة للتصدير إلى تلك المنتجة للسلع القابلة للتصدير، وكذلك من الاستهلاك إلى الاستثمار. وتشمل هذه المجموعة كلاً من سياسات التشغيل وسياسات التجارة الخارجية (تحرير سعر الصرف، تشجيع الصادرات، تقييد الواردات، وإعادة النظر في هيكل الأسعار النسبية ومستواها).
إزاء ذلك، وطالما أن هذه السياسات هي سياسات توسعية، فإنه يفترض أن تؤدي إلى آثار إجتماعية إيجابية(26).
3. المجموعة الثالثة، فهي تلك السياسات التي تهدف إلى تحقيق زيادة في الكفاءة والنمو في الأجل الطويل من خلال إصلاحات هيكلية، كتحرير التجارة، والحد من دور الدولة، وإصلاح هيكل الأسعار.... وتهدف في النهاية إلى الدخول في إقتصاد السوق.
أما فيما يتعلق بالآثار الإجتماعية لهذه المجموعة من السياسات فإنها لم تحدد بعد، طالما أن أغلب البرامج، ان لم يكن جميعها، لم تصل إلى إنجاز هذه المرحلة.
وإضافة إلى إختلاف طبيعة الأثر الإجتماعي المترتب على كل مجموعة من المجموعات الثلاث السابقة (سلبي أم إيجابي)، فإن الاختلاف الآخر يتمثل في الفترة الزمنية التي يظهر خلالها تأثير كل مجموعة.
ففيما يتعلق بالمجموعة الأولى، تظهر آثارها الإنكماشية بصورة فورية، يليها من حيث التحقق آثار المجموعة الثانية، والتي تظهر خلال فترة زمنية أطول من الأولى. وأخيراً، المجموعة الثالثة والتي تكون آثارها على المدى البعيد. ومن ثم فإن دراسة الآثار الاجتماعية لسياسات التكيف الهيكلي في صورتها النهائية لابد وان تتم في مراحل زمنية مختلفة(27) . مع التأكيد على علاقة التأثير والتأثر بين المجموعات المختلفة فيما يتعلق بالآثار الاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي. فالآثار الانكماشية للمجموعة الأولى وما تخلفه من آثار اجتماعية سلبية ترتبط وتتناسب عكسياً مع تحقق الآثار التوسعية للمجموعة الثانية وسرعة هذا التحقق(28) ، لأنه إذا كان من الممكن مواجهة الآثار السلبية لسياسات التكيف الهيكلي وحماية الظروف الإنسانية خلال فترة مؤقتة، فإن ذلك يصبح صعباً جداً (حتى في حالة البرامج جيدة التصميم)، خلال فترة طويلة من الزمن (29).
وفي تناولنا للآثار الاجتماعية لسياسات التكيف الهيكلي، فإن الدراسة تتناول تحديداً الآثار الناجمة عن المجموعة الأولى من المجموعات السابقة، باعتبار أنها الآثار الوحيدة التي يمكن تحديد ملامحها بصورة واضحة بعكس الحال في المجموعتين الأخريين لما ذكرناه سابقاً، مع إمكانية التنبؤ ببعض تلك الآثار، لهاتين المجموعتين، بصورة أولية. ويبقى من الضروري هنا الإشارة إلى أن الدراسة الدقيقة للآثار الاجتماعية لسياسات التكيف، عدا عن كونها تتطلب غالباً دراسات ميدانية، فإنها في الواقع تثير إشكالية تحديد معيار يعتمد في تقويم هذه الآثار(3).(/4)
إن الحديث عن الآثار الإجتماعية، وكما يظهر من الدراسات ذات الصلة، هو حديث في مجموعة متعددة ومتشعبة من الآثار، ومن ثم، فإن تناولنا في هذه الدراسة لمجموعة الآثار تلك، إنما ينصب أساساً على الآثار الاجتماعية التي يمكن إعتبارها مباشرة وواضحة، والتي تتصل بموضوع الدراسة من حيث تأثيرها على الاستقرار السياسي. مع الإشارة إلى الآثار الإجتماعية الأخرى المترتبة على الاخذ بسياسات التكيف الهيكلي.
وتتمثل الآثار الاجتماعية الأساسية التي تتناولها الدراسة، والناجمة بشكل مباشر عن سياسات التكيف الهيكلي، في: الفقر، وسوء توزيع الدخل، والبطالة.
أ. الفقر:
نتيجة للسياسات الانكماشية التي تتضمنها سياسات التكيف الهيكلي، والمتمثلة في: تخفيض القيمة الحقيقة للأجور، وتخفيض وإلغاء الدعم عن بعض السلع والخدمات الحكومية وفرض أو زيادة الرسوم على هذه الخدمات، إضافة إلى تخفيض قيمة العملة بما يستتبعه ذلك من ارتفاع في أسعار السلع المستوردة أو المشتملة على مدخلات مستوردة، وكذلك فرض الضرائب غير المباشرة، تسهم سياسات التكيف الهيكلي بصورة مباشرة في زيادة الفقر(31).
ومن وجهة نظر الصندوق والبنك ، فإنه يجب التمييز بشأن "إزدياد نسبة الفقر"، كإحدى نتائج سياسات التكيف الهيكلي، بين الحضر والريف. إذ يفترض في حالة فقراء الريف أن تحمل سياسات التكيف الهيكلي، من خلال تحرير الأسعار، أثراً إيجابياً على متوسط دخل الفقراء وزيادة الكفاءة، فيما ينصب الأثر السلبي لسياسات التكيف الهيكلي (زيادة نسبة الفقراء) على سكان المناطق الحضرية أساساً(32).
ويبدو أن وجهة النظر هذه لا تنسجم مع الواقع، إنطلاقاً من حقيقة أن خفض قيمة العملة قد أدى إلى ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج الزراعي، مثل السماد وقطع غيار المعدات والآلات الزراعية وأجور النقل ... إلخ، ومن ثم فإن المستفيد المتوقع من سياسات التكيف الهيكلي ينحصر في كبار، ولربما متوسطي، ملاك الأراضي الزراعية، إضافة إلى الشركات متعددة الجنسية دون صغار الملاك، على اعتبار أن هؤلاء المستفيدين المتوقعين قادرون على تحمل الارتفاع في أسعار مدخلات الإنتاج(33). وتجد وجهة النظر الأخيرة تأييداً لها من خلال نتائج التطبيق الفعلي لسياسات التكيف الهيكلي، والتي أظهرت (خصوصاً في أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء) إزدياد نسبة الفقر في المناطق الحضرية، وعدم إمكانية القول بانخفاض هذه النسبة في المناطق الريفية، بل إن هنالك تجارب تظهر إرتفاع نسبة الفقر في المناطق الريفية(34).
وبصورة عامة يمكن القول إن سياسات التكيف الهيكلي تؤدي إلى زيادة نسبة الفقر عموماً(35). ومن ثم فقد سعى واضعو هذه البرامج إلى تخفيض حدة
الآثار السلبية تلك من خلال "شبكات الامان الاجتماعي" لحماية الفئات الأكثر تعرضاً لتلك الآثار السلبية(36).
إن ازدياد نسبة الفقر تفضي غالباً إلى آثار إجتماعية أخرى قد تكون شديدة الخطورة كالهجرة إلى الخارج بما تعنيه من إهدار للكفاءات والموارد البشرية، وانتشار الجريمة، وانتشار عمالة الأطفال والنساء، في محاولة لمواجهة إرتفاع الأسعار وتعويض الدخل المفقود، والتي لابد وأن تنعكس سلباً فيما يتعلق بانتشار البطالة بين الذكور البالغين. هذا عدا عن إمكانية إنتشار الممارسات الاجتماعية غير الأخلاقية(37).
ب- سوء (التفاوت في) توزيع الدخل:
يبدو سوء (التفاوت في) توزيع الدخل، كأحد آثار الأخذ بسياسات التكيف الهيكلي، وثيق الصلة بازدياد نسبة الفقر، فإضافة إلى ما ذكر سابقاً عن دور تلك السياسات في تعميق الفقر وزيادة نسبته، فإنها (أي سياسات التكيف الهيكلي) تعمل، من جهة أخرى، على تعزيز وضع فئات أخرى، هي الفئات العليا في المجتمع غالباً، من خلال عدد من إجراءاتها التي تنعكس بشكل إيجابي على وضع تلك الفئات. وتتمثل هذه العوامل أو الإجراءات أساساً في تخفيض قيمة العملة الوطنية ورفع أسعار الفائدة محلياً، إضافة إلى عملية الخصخصة(38).
ويظهر الأثر الإيجابي لتخفيض قيمة العملة الوطنية على الفئات العليا، على اعتبار أن هذه الفئات غالباً ما تحتفظ بجزء لا يستهان به من مدخراتها بالعملة الأجنبية (وفي الخارج غالباً). أما في حالة المدخرات بالعملة الوطنية، فإن هذه الفئات تستفيد بشكل واضح وكبير من خلال الزيادة الشديدة في أسعار الفائدة المحلية. ومن ثم يمكن لهذه الفئات تعويض خسائرها من تخفيض قيمة العملة من خلال الفوائد التي تجنيها على مدخراتها، باعتبار أن هذه الفئة هي من كبار المدخرين.
إن مثل هذه النتيجة قد تفسر وإلى حد كبير إرتفاع استهلاك هذه الفئات خلال فترة الأزمة الاقتصادية وبالتالي ازدهار الأسواق الجديدة للسلع الكمالية والخدمات(39).(/5)
وتزداد الصورة قتامة، من خلال تعميق الفجوة بين الفئات العليا في المجتمع وبين غيرها من الفئات، من خلال عملية "الخصخصة" (التحول إلى القطاع الخاص) التي تهدف إلى بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص. ومن البدهي أن القدرة على شراء مثل هذه المؤسسات إنما تتوافر لأبناء تلك الفئات من المجتمع، وبالتالي فإن سياسات التكيف الهيكلي التي تعمل على تقليص القيمة الحقيقية للأجور، تعمل في المقابل على زيادة الدخول المتمثلة بالأرباح(40)، ومن ثم يظهر الأثر السلبي لعملية "الخصخصة" من خلال تعميقها للتفاوت في توزيع الدخل، بين أولئك الذين يجنون الأرباح (الفئات العليا) وبين الذين يحصلون على أجور ورواتب (وهؤلاء يشملون الجزء الأكبر من أبناء الطبقة الوسطى وأبناء الطبقة الدنيا).
ويبدو أن الأثر الإيجابي لسياسات التكيف الهيكلي فيما يتصل بتوزيع الدخل ينحصر في تضييق الفجوة بين فقراء الريف وفقراء الحضر من خلال إفقار الأخيرين بصورة أكبر مما هو الحال في حالة فقراء الريف(41).
جـ – البطالة:
يمثل الارتفاع في نسبة البطالة، احد النتائج المباشرة للأخذ بسياسات التكيف الهيكلي. ويبدو أن مؤسستي يريتون وودز لا تنفيان مثل هذا الأثر، وإنما تصران على أن هذا الأثر، كما هو الحال في الفقر، سيكون في المدى القصير ، حيث ستؤدي هذه السياسات إلى تعزيز فرص العمل (وكذلك تخفيض نسبة الفقر) على المدى الطويل بعد أن يأخذ الاقتصاد مسار النمو المطرد(42). ويظهر الأثر السلبي لسياسات التكيف الهيكلي على البطالة، من عدة نواحٍ، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
فمن ناحية، وفي سبيل خفض الانفاق العام، كأحد أهم الأهداف التي تسعى هذه السياسات إلى تحقيقها، يتم اللجوء إلى إحدى وسيلتين أو كلتيهما: إبطاء أو إيقاف التعيينات في القطاع العام؛ و/ أو تسريح جزء من العمالة الموجودة(43)
. وفي ذات السياق، وكنتيجة لإيقاف الدعم عن عدد من مؤسسات القطاع العام، وتصفية بعضها، فإن ذلك لابد وأن يسهم في فقدان عدد، قد يكون كبيراً، من الموظفين لوظائفهم وبالتالي الدخول في عداد البطالة(44).
أما من ناحية أخرى، فتؤثر سياسة رفع أسعار الفائدة سلباً، ليس على قدرة القطاع العام فحسب، على التوسع في التشغيل(45)، إنما أيضاً على قدرة القطاع الخاص على توفير وظائف تسهم في التخفيف من حدة البطالة، خصوصاً وأنه، وإضافة إلى أسعار الفائدة، فإن هذا القطاع يتعرض لضغط المنافسة في الخارج عند التصدير، والمنافسة في الداخل كنتيجة لتحرير التجارة بحسب سياسات التكيف الهيكلي. بحيث يبدو من المتوقع، لخفض كلفة الانتاج، تقليص عدد العمالة والاعتماد بصورة أكبر على عنصر كثافة رأس المال(46).برغم ذلك، يبدو أن الإجراء الأكثر إرتباطاً بالبطالة من حيث زيادة نسبتها، والذي تثار بشأنه أكثر التساؤلات هو عملية "الخصخصة" أو بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص. والتي تتضمن في الغالب الإستغناء على جزء من عمالة المؤسسة بعد بيعها(47)، وذلك ضمن معادلة العمل التجاري: "أكثر الأرباح، بأقل التكاليف". ويظهر الواقع العملي، تطابقاً مع الإستنتاجات السابقة، من خلال ارتفاع معدلات البطالة في كل من افريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية خلال فترة تبني سياسات التكيف الهيكلي، عما كانت عليه قبل ذلك(48).
د- آثار إجتماعية أخرى:
ينعكس التخفيض الحكومي للنفقات، وضمنها إلغاء الدعم عن بعض السلع، وتخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، وخصوصاً، الصحة والتعليم؛ إضافة إلى فرض الرسوم على بعض الخدمات التي تقدمها الحكومة؛ وتحرير الأسعار؛ وفرض ضرائب جديدة أو زيادة ضرائب قائمة، ينعكس كل ذلك بصورة سلبية على المواطنين من عدة نواح كالمستوى الصحي والمستوى التعليمي على وجه الخصوص(49).
ثالثاً: الآثار السياسية
يبدو من الضروري، وقبل الخوض في الآثار السياسية لسياسات التكيف الهيكلي، التأكيد على ملاحظتين تتمثلان في:
1. إن تناول الآثار السياسية لسياسات التكيف الهيكلي يظهر تبايناً واختلافاً واضحين في وجهات النظر والرؤى التي تصدت لتناول هذا الموضوع، بحيث يمكن القول أن الا وجود الإتجاه محددٌ لآثار تلك السياسات، سلبي أو إيجابي، على الناحية السياسية. ومن ثم يمكن التمييز هنا بين مجموعتين من الآثار السياسية لسياسات التكيف الهيكلي، آثار سياسية ايجابية، وآثار سياسية سلبية.
2. إن هذه الآثار السياسية، باتجاهيها السلبي والإيجابي، هي آثار متوقعة، أكثر من كونها دراسة للواقع. بمعنى أنها يغلب عليها سمة الملاحظة والتوقع، مع أن ذلك لا ينفي وجود دلائل ومؤشرات من الواقع تؤيد الإتجاهين المتعارضين (السلبي والايجابي)، وإن كان بدرجات متفاوتة. ومن ثم فيبدو، من الصعوبة بمكان حتى الآن القول بآثار سياسية نهائية لسياسات التكيف الهيكلي، وإنما يبقى ذلك مرهوناً بمدى نجاح هذه السياسات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.(/6)
بناء على ذلك، تتناول الدراسة الآثار السياسية لسياسات التكيف الهيكلي من خلال التمييز السابق.
أ. الآثار الإيجابية: وتتمثل هذه الآثار في:
1. خلق وتعزيز التوجه الديمقراطي:
يمكن القول، إن دراسة العلاقة بين الإصلاح الاقتصادي عموماً، وداخله سياسات التكيف الهيكلي، وبين التوجه الديمقراطي قد احتلت الحيز الأكبر في موضوع الآثار السياسية الإيجابية لسياسات التكيف الهيكلي. ويمكن التمييز هنا، وبناء على الدراسات المتعلقة بالموضوع، بين إتجاهين:
- الاتجاه الأول، ويرى بوجود علاقة، قد تكون مباشرة، بين إنتهاج سياسات الإصلاح الاقتصادي، ومنها سياسات التكيف الهيكلي، والتحول الديمقراطي في النظم السياسية. ويستند هذا الإتجاه على مجموعة من الأسباب، التي تعزز وجهة نظره، وتتلخص في:
1. تتضمن سياسات التكيف الهيكلي فرض ضرائب إضافية، وبناء على قاعدة "لا ضرائب دون تمثيل" يبدو من الطبيعي تعزيز المشاركة السياسية(50)
والتحول الديمقراطي ككل.
2. تعني سياسات التكيف الهيكلي في الواقع وقف الإعانات الحكومية، وكما أن القاعدة أن "لا ضرائب بدون تمثيل" فإنه "لا وقف للإعانات الحكومية بدون مشاركة"(51). ويبدو مثل هذا الافتراض صحيحاً إلى حد بعيد في الدول التي أسست شرعيتها، في جزء منها، على الفعالية الاقتصادية، بحيث "تنازل الفقراء عن حقوقهم السياسية لقاء منافع مادية تضمنها الحكومة"(52).
3. توفير البيئة المناسبة والمستقرة من اجل الإستثمار، وهذا يعني حماية قانونية صارمة(53).
4. حاجة إقتصاد السوق للمعلومات، وحماية حقوق الملكية(54).
بناء على ذلك، إضافة إلى ضرورة وجود تأييد شعبي لسياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي كمتطلب ضروري لنجاحها(55)، يظهر التحول الديمقراطي باعتباره المتطلب اللازم لتحقيق هذا الرضا وبالتالي ذلك النجاح.
ويظل السؤال المطروح هنا هو: إلى أي مدى يمكن لهذه السياسات أن تعزز الديمقراطية؟ بعبارة أخرى، ما هي درجة التحول الديمقراطي التي يمكن حدوثها بناء على الأخذ بسياسات التكيف الهيكلي والاصلاح الاقتصادي عموماً؟.
في الإجابة على هذا التساؤل يمكن، أيضاً، التمييز بين اتجاهين: يرى الإتجاه الأول، أن الإصلاحات الاقتصادية، وبرغم تعارضها على المدى القصير مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها تعمل على "إضعاف أسس وشرعية سلطة الدولة"، وبالتالي فإنها تؤدي، على المدى المتوسط والطويل، إلى مزيد من الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان(56). أي انها تؤسس لديمقراطية راسخة حقيقية ومستمرة.
أما الإتجاه الثاني، فيرى أن التحول الديمقراطي المصاحب أو الناجم عن الأخذ بسياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي، لايعدو ان يكون تحولاً مقيداً وخاضعاً لسيطرة .
النظام(57). إن التحول الديمقراطي هنا وبحسب وجهة النظر هذه، يهدف أساساً إلى إدخال بعض الفئات والجماعات التي لا غنى للحكومة عنها في تنفيذ سياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي(58) و/ أو إخراج فئات أخرى (الفئات الدنيا) كالعمال والفلاحين(59) باختصار، فإن التحول الديمقراطي هنا، ليس تحولاً حقيقياً نحو الديمقراطية. بحسب وجهة النظر هذه، وإنما هو محاولة من قبل الأنظمة السياسية الموجودة للمحافظة على مواقعها في السلطة.
- الإتجاه الثاني، بشأن العلاقة بين سياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي والتحول الديمقراطي، فيرى بعدم وجود علاقة أكيدة أو حتمية بين الإصلاح الاقتصادي والتحول الديمقراطي، ويستند هذا الرأي إلى الحالة الأفريقية تحديداً(60). بل إن ثمة من يرى أن هذه السياسات قد تدفع إلى مزيد من الاستبداد والديكتاتورية، عند عدم وجود الاتفاق الكافي حول هذه السياسات، وبالتالي سعي السلطة إلى فرضها بالقوة، كما حصل في تشيلي والأرجنتين في السبعينيات وتركيا في الثمانينات(61).
بعد هذا الاستعراض للاتجاهات المختلفة للعلاقة ما بين سياسات التكيف الهيكلي، والاصلاح الاقتصادي عموماً، وبين التحول الديمقراطي، فإنه يمكن القول، علاقة حتمية بين سياسات التكيف الهيكلي والتحول الديمقراطي الحقيقي. فبالرغم من قوة حجة القائلين بتعزيز سياسات التكيف الهيكلي والاصلاح الاقتصادي لفرص التحول الديمقراطي بناء على الأسباب السابقة، فإنه يبقى صحيحاً في المقابل أن الديمقراطية تخضع للعديد من المحددات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والثقافية(62) والتي قد لا توجد بالضرورة في البلدان التي تأخذ بسياسات التكيف الهيكلي، بحيث يغدو التحول الديمقراطي الذي تشهده بعض هذه البلدان، تحولا ظاهرياً محدوداً، يمثل تعويضاً للتكلفة، والتي قد تكون باهظة، لسياسات التكيف الهيكلي. ويسهم هذا التعويض من ناحية أخرى، في تعزيز استمرار النخب الحاكمة من خلال ما يمنحه لها من شرعية، بحيث يمكن أن تلحظ هنا ما تم تناوله سابقاً حول "التكميلية في الأدوار" بين الحكومة والمعارضة.(/7)
ومن ناحية أخرى، يظهر الواقع أن بعض الأنظمة قد تشهد انفتاحاً اقتصادياً كبيراً دون أن يؤدي ذلك الى تحول ديمقراطي، ولو كان ذلك على حساب استقرارها السياسي. ولعل نموذج كوريا الجنوبية هو المثل الأبرز في هذا الصدد حتى وقت قريب.
وتتمثل الخلاصة، في أن ما تنطوي عليه سياسات التكيف الهيكلي من اجراءات ونتائج وآثار قد تشكل عوامل مساعدة وممهدة لتحول ديمقراطي، لكنها ليست كافية لوحدها لإحداث هذا التحول.
(1) فهد الفانك، "أزمة المديونية الخارجية: نحو سياسات عربية بديلة"، المستقبل العربي، السنة 12، العدد133، بيروت، 1990، ص 74.
(2)- أنشئ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير في عام 1944، في مؤتمر عقد في مدينة بريتون وودز في الولايات المتحدة، وحمل اسمها (مؤتمر بريتون وودز). وتمثلت الوظيفة الأساسية لصندوق النقد الدولي في تقديم قروض قصيرة الأجل لغرض دعم ميزان المدفوعات، فيما تمثلت الوظيفة الأساسية للبنك الدولي في العمل كوسيط للقروض وكضامن لمشروعات محددة يفترض أنها تسهم في التنمية. وتشكل عضوية الصندوق شرطاً مسبقاً للانضمام إلى البنك. انظر: شريل باير، فخ القروض الخارجية: صندوق النقد الدولي والعالم الثالث، ترجمة بيار عقل، دار الطليعة، بيروت، 1977، ص ص 204 و 205.
سنشير، منذ الآن، إلى صندوق النقد الدولي بتعبير "الصندوق"، فيما سنشير إلى البنك الدولي بتعبير "البنك".
(3) -يشار هنا إلى أنه، وبرغم التعاون الوثيق بين الصندوق والبنك، فيما يتعلق بسياسات التكيف الهيكلي، إلا أن التفاوض بين حكومات الدول المعنية وهاتين المؤسستين، يتم بشكل منفصل، كل في مجال اختصاصه. انظر: مجلة التمويل والتنمية، "تسهيل التكييف الهيكلي في صندوق النقد الدولي"، التمويل والتنمية، مج 23، العدد 2، واشنطن، 1986، ص 39.
(4)- مصطفى مهدي حسين، "مدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في التكييف الاقتصادي للبلدان النامية (عرض وتحليل وتقويم)"، آفاق اقتصادية، مج 18، العدد 69، أبو ظبي، 1997، ص 116.
(5) - Lombardi, Mark Owen and Sandip Sahota, International Financial Institutions and the Politics of Structural Adjustment: The African Experience, Proceedings of the Annual Meeting of the International Studies Association, Toronto, Canada, March 18-23,1997,p. 6
(6) -مجلة التمويل والتنمية، "تسهيل التكييف الهيكلي في صندوق النقد الدولي"، م. س. ذ.، ص 39.
(7) جودة عبد الخالق، "مصر وصندوق النقد الدولي: آليات التبعية في التطبيق"، قضايا فكرية، الكتاب الثاني، القاهرة، 1986، ص 151.
(8)- الأمانة العامة للاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية، "الانعكاسات الاجتماعية لبرامج التعديل الهيكلي واتحاد أصحاب العمل العرب"، أوراق اقتصادية، العدد 10، بيروت، 1994، ص ص 106 و 107 ، هامش رقم (1).
(9)- مصطفى مهدي حسين، م. ذ. ص 130.
(10)- ميكائيل بيل و. روبرت ل. شيهي، "البلدان منخفضة الدخل والتكييف الهيكلي"، التمويل والتنمية، مج24، العدد 4، واشنطن، 1987. ص7.
أنظر أيضاً: رياض دهال وعماد الإمام، "قضايا السياسات التصحيحية: المفهوم والتطبيق وتقييم الآثار"، في جميل طاهر (وآخرون)، بعض قضايا الإصلاح الاقتصادي في الأقطار العربية، المعهد العربي للتخطيط، الكويت، 1993، ص 10.
(11)- رمزي زكي، "نحو فهم أفضل للسياسات التصحيحية لصندوق النقد الدولي في ضوء أزمة الاقتصاد الرأسمالي الدولي (الجزء الثاني)"، دراسات عربية السنة 25، العدد 9و10، بيروت، 1989، ص146.
وانظر أيضاً: رودني ويلسون، "القروض الأجنبية والاستقلال الوطني في دول العالم الثالث"، الباحث العربي، العدد 11، لندن، 1987، ص110.
(12) -مصطفى مهدي حسين، م. س. ذ، ص133.
(13) -رمزي زكي، "نحو فهم أفضل للسياسات التصحيحية لصندوق النقد الدولي في ضوء أزمة الاقتصاد الرأسمالي الدولي (الجزء الثاني)"، م. س. ذ، ص151.
(14)- مصطفى مهدي حسين، م. س. ذ.، ص123.
(15)- انظر: أحمين شفير، "سياسات التسوية الهيكلية: محاولة لحصر محتواها الاقتصادي والاجتماعي وأسسها النظرية (الانتقادات والتحديات)"، الطريق، السنة 55، العدد 4، بيروت، 1996، ص 31.
(16)- مصطفى مهدي حسين، م. س. ذ.، ص123.
(17) -أنظر على سبيل المثال: صفوت عبد السلام عوض الله، السياسات التكييفية لصندوق النقد والبنك الدوليين، دار النهضة، القاهرة، 1993، ص. ص 11-103؛ وسليمان المنذري، "سياسات التصحيح الاقتصادي الهيكلي في الدول العربية"، شؤون عربية، العدد 67، القاهرة، 1991، ص ص148 – 151؛ ورودني ويلسون، م.س.ذ، ص113.
(18) -رياض دهال وعماد الإمام، م. س. ذ، ص. ص 14و15.
(19)- انظر بالتفصيل: ماري فرانس ليرتو، الصندوق النقدي الدولي وبلدان العالم الثالث، ترجمة هشام متولي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1993، ص ص 215-223(/8)
(20)- سوزان شادلر، "إلى أي مدى نجحت برامج التصحيح التي يساندها صندوق النقد الدولي"، التمويل والتنمية، مج 33، العدد 2، واشنطن، 1996، ص15.
(21)- Stewart, Frances, “The Many Faces of Adjustment”, in Development Finance and Policy Reform, edit, Paul Mosley, St. Martin’s Press, Inc., New york, 1992, p. 178.
(22)- سوزان شادلر، م. س. ذ، ص15.
(23)- صالح نصولي، "التكييف الهيكلي في افريقيا جنوب الصحراء: القضايا السياسية والتحديات في التسعينات"، التمويل والتنمية، مج 26، العدد 3، واشنطن، 1989، ص 31.
(24)-Taebbara, Bayan, “Considering the Social Dimensions of Structural Adjustment Programmes in the ESCWA Countries”, Economic Horizons (Afaq Iqtisadiyyat), Vol. 17, No. 4, Abu Dhabi, 1996, p.12 p.13.
(25)- هبة أحمد نصار، "بعض الآثار الإجتماعية لبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر"، في الإصلاح الاقتصادي وآثاره التوزيعية، تحرير، جودة عبد الخالق وهناء خير الدين، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1994، ص102.
(26)- من الضروري الإشارة هنا، إلى انه يشترط التحقق هدف هذه المجموعة وبالتالي آثارها الإيجابية "وجود مرونة كاملة للموارد في الانتقال".
(27)- المرجع السابق، ص ص102 و 103.
(28)- المرجع السابق، ص103. وإزاء ذلك يذهب الصندوق والبنك إلى أن الآثار السلبية لسياسات التكيف الهيكلي إنما هي آثار مؤقتة، بحيث تسهم هذه السياسات على المدى المتوسط والطويل في تحقيق نتائج اجتماعية إيجابية مع بدء تحقيق نمو إقتصادي. أنظر: باتريشيا ألونسو جامو ومحمد العريان، الإصلاح الاقتصادي، والنمو، والعمالة والقطاعات الإجتماعية في الاقتصادات العربية، ورقة مقدمة إلى ندوة الآثار الاجتماعية للتصحيح الاقتصادي في الدول العربية، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة 8-18 كانون الثاني/ يناير 1996، ص 4.
(29)- Stewart, Frances, op. cit., p. 177.
(30)- أنظر في هذه المعايير، هبة أحمد نصار، "بعض الآثار الاجتماعية لبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر"، م. س. ذ، ص ص 105و106.
(31)- انظر فارس جرادي وعدي قصيور، شبكات الحماية الإجتماعية، تجارب بعض الدول العربية، ورقة مقدمة إلى ندوة الآثار الإجتماعية لتصحيح الاقتصادي في الدول العربية، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة 17-18 كانون الثاني 1996، ص2.
(32)- يوكول هوانج وبيترنيكولاس، "التكاليف الاجتماعية للتكييف"، التمويل والتنمية، مج 24، العدد 2، واشنطن، 1987، ص23.
(33)- دارام جاي وكينيثيا هيويت دي ألكانتارا، "أزمة الثمانينات في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والكاريبي: نظرة عامة"، في صندوق النقد الدولي وبلدان الجنوب، تحرير، دارام جاي، ترجمة مبارك علي عثمان، مركزالبحوث العربية للدراسات والتوثيق والنشر، القاهرة، 1993، ص ص 56و57.
وانظر أيضاً في آثار سياسات التكيف الهيكلي المتوقعة على المزارعين في مصر:
هبة أحمد نصار "بعض الآثار الاجتماعية لبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر"، م. س. ذ، ص ص111-114.
(34)- Stewart, Frances, op. cit., pp. 188-189.
(35)- في المقابل، وكما بينا سابقاً، فإن البعض ينظر إلى هذا الأثر باعتباره مؤقتاً، إلا أن هنالك من يرى أن زيادة معدلات الفقر المصاحب لسياسات التكيف الهيكلي إنما يرجع أساساً إلى سياسة الدولة في تنفيذ تلك السياسات على إعتبار أن الدولة هي من تحدد الفئات التي تتحمل عبء الإصلاح وليس الصندوق والبنك. انظر بوريس بيرنشتين وجيمس بوتون، "التصحيح من أجل التنمية: صندوق النقد الدولي والفقراء"، التمويل والتنمية، مج 32، العدد 3، واشنطن، 1994، ص43.
(36)-Taebbara, Bayan, op. cit, p. 13.
(37)- دارام جاي وكينيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص59.
(38)- انظر: المرجع السابق، ص. ص48-50؛ ومزي زكي، الليبرالية المستبدة: دراسة في الآثار الاجتماعية والسياسية لسياسات التكيف في الدول النامية، دار سينا، القاهرة، 1993، ص ص 99-117.
وكذلك، شارلز أ. سيسون، "البرامج التي يدعمها الصندوق وتوزيع الدخل في أقل البلدان نمواً"، التمويل والتنمية، مج 23، العدد 1، واشنطن، 1986، ص ص 33-36.
(39)- دارام جاي وكيتيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص48.
(40)- ماري فرانس ليريتو، م. س. ذ، ص223.
(41)- دارام جاي وكينيثيا هويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص58.
(42)- انظر: باتريشيا ألونسو جامو ومحمد العريان، م.س.ذ ، ص4؛ وأيضاً، يوكون هوانج وبيتر نيكولاس، م. س. ذ، ص23.
(43)- هبة أحمد نصار، "بعض الآثار الإجتماعية لبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر"، م. س. ذ، ص.ص109و110؛ وأيضاً، الأمانة العامة للإتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية، م. س. ذ، ص113.
(44)- فارس بن جرادي وعدي قصيور، م. س. ذ، ص2.
(45)- هبة أحمد نصار، "بعض الآثار الإجتماعية لبرامج الإصلاح الاقتصادي في مصر"، م. س. ذ، ص111(/9)
(46)- الأمانة العامة للإتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية، م. س. ذ، ص113.
(47) -المرجع السابق، ص 113، وفارس بن جرادي وعدي قصيور، م. س. ذ، ص3.
(48)- انظر: Stewart, Frances, op. cit, pp. 184-185.
(49) -انظر تفصيلاً: المرجع السابق، ص ص 192-194 وأيضاً في آثار سياسات التكيف الهيكلي على التعليم:
محمد عبد الشفيع عيسى، "التكيف الهيكلي والنظام التعليمي: رؤية اقتصادية اجتماعية مع تركيز خاص على حالة مصر"، م. س. ذ.
(50)- جياكومو لوتشياني، "الريع النفطي والأزمة المالية للدولة والتحرك نحو الديمقراطية"، في ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي والإسلامي، إعداد غسان سلامة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995، ص ص175-206.
(51) - Richard, Alan, “Economic Imperatives and Political System”, Middle East Journal, Vol. 47, No.2Washington, 1993,pp. 217-227.
(52)- محمد عبد الباقي الهرماسي، "التغير الإجتماعي - الاقتصادي ومضاعفاته السياسية: المغرب العربي"، في ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي والاسلامي، م.س.ذ، ص687.
(53) -Richard, Alan, op. cit. P. 226.
(54) -Ibid, p. 226-227.
(55) -باتريشيا ألونسو جامو ومحمد العريان، م. س. ذ، ص2.
(56)- Uzodike, Ufo Okeke, “Democracy and Economic Reforms: Developing Underdeveloped Political Economies”, Journal of Asian and African Studies, Vol. 31, No. 1-2, Leiden, 1996, p.33
(57)- محمد عبد الباقي الهرماسي، م. س. ذ، ص304.
(58)- فولكر برثيس، "القطاع الخاص والتحرر الاقتصادي وإمكانات التحرر نحو الديمقراطية: حالة سوريا وبعض الأقطار العربية الأخرى"، في ديمقراطية دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي والاسلامي، م.س.ذ، ص338.
(59)- روجر أوين، "التغير الإجتماعي والاقتصادي والتعبئة السياسية في مصر"، في ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي والاسلامي، م.س.ذ، ص232.
(60)- Callaghy, Thomas, “Africa. Back to the Future?”, Journal of Democracy, Vol. 5, No. 4, Baltimore , 1994, pp. 133-145.
ويقتضي الإشارة هنا إلى أن وجهة النظر التي ترى بإيجابية أثر سياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي، في المدى المتوسط والطويل، على التحول الديمقراطي، إنما تستند أساساً إلى الحالة الأفريقية. أنظر
Uzodike, Ufo Okeke, op. cit., pp. 21-38.
(61)- ماري فرانس ليريتو، م. س. ذ. ص260.
(62)- انظر في هذه المحددات:
عادل حسين، "المحددات التاريخية والاجتماعية للديمقراطية"، المستقبل العربي، السنة 7، العدد 67، بيروت، 1984، ص ص 4-27؛ سمير أمين، "ملاحظات حول منهج تحليل أزمة الديمقراطية في الوطن العربي"، المستقبل العربي، السنة 6، العدد 62، بيروت، 1984، ص ص 119-131؛ اسماعيل صبري عبد الله، "المقومات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الوطن العربي"، المستقبل العربي، السنة 2، العدد 9، بيروت، 1979، ص ص 77-89
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبرامج التكيف الاقتصادي الدولية (2/2)
منار محمد الرشواني 2/1/1424
05/03/2003
2. تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودور المرأة فيها:
يتمثل الأثر الإيجابي الآخر، لسياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي، من الناحية السياسية، في تعزيز دور المرأة السياسي، انطلاقاً من كون النساء هن الأكثر اهتماماً فيما يتعلق بالصعوبات المتعلقة بظروف ومستوى المعيشة، ومن ثم، ستشهد التنظيمات المدنية الناشئة أساساً، للاحتجاج على تدهور تلك الظروف والمستويات بفعل سياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي، أعداداً متزايدة من النساء، وبالتالي بروزهن على المستوى العام وتعزيز مشاركتهن السياسية في النهاية، طالما أن هذه التنظيمات ستغدو شكلاً جديداً للممارسة السياسية (مختلفة عن الأحزاب)(1)
ب- الآثار السلبية
على الرغم أن نجاح سياسات الإصلاح والتكيف الاقتصادي ترتبط إلى حد بمدى التأييد الشعبي لهذه السياسات، فإن الأخذ بهذه السياسات قد يؤدي إلى نتائج سلبية من الناحية السياسية. وقد أظهر الواقع العديد من هذه الآثار في بلدان مختلفة أكثر مما أيد التوقعات المتعلقة بالآثار الإيجابية لسياسات الإصلاح والتكيف من الناحية السياسية.
إن خير دليل على خطورة الآثار السلبية لسياسات التكيف هو الاهتمام المتزايد من قبل الصندوق والبنك بتخفيف الأعباء الاجتماعية الملقاة على عاتق الفقراء والفئات الدنيا عموماً، والناجمة عن تطبيق تلك السياسات، والوثيقة الصلة ببروز الآثار السلبية السياسية للإصلاح والتكيف. ويتمثل هذا الاهتمام بما يسمى
بـ "شبكات الأمان الاجتماعي".(/10)
وإذا كانت الدراسة تميز هنا في تناول الآثار السلبية لسياسات التكيف بين عدد من الآثار، فإن ذلك لا ينفي وجود ترابط، بدرجة أو بأخرى، بين جملة هذه الآثار السلبية، والتي تتمثل في:
1. التدخل الأجنبي في السياسات الوطنية(2)الذي يظهر منذ البداية من خلال "خطاب النوايا" الصادر عن حكومة البلد الذي ينوي الأخذ بسياسات التكيف الهيكلي، والذي يصدر في الواقع، بناء على المشورة التي يقدمها خبراء الصندوق والبنك.
إن "خطاب النوايا"، وكما هو معلوم، يمتد ليشمل جوانب مختلفة تتعلق بالتنمية في البلد الذي ينوي الأخذ بهذه السياسات، وبمستوى رفاهية قطاعات كبيرة من السكان من خلال ما تؤدي إليه هذه السياسات في الغالب من فقر وبطالة وآثار اجتماعية سلبية أخرى.
ولا تقف سياسات التكيف هذه عند حد الاقتصادي والاجتماعي، وإنما تمتد أيضاً إلى الناحية العسكرية من خلال المطالبة بتخفيض الإنفاق العسكري، بما قد يترتب على ذلك من محاذير خطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ويتجاوز تدخل صندوق النقد والبنك الأطر العامة إلى التفصيلات الدقيقة. ويظهر ذلك تحديداً من خلال عملية "الخصخصة" كواحدة من الإجراءات الرئيسية ضمن سياسات التكيف الهيكلي. إذ يقوم البنك الدولي ومن خلال دائرته المسماة بـ "إدارة القطاع العام وتنمية القطاع الخاص" بالإشراف على "عملية الخصخصة" هذه، بل يذكر أحد الباحثين أن هذه الدائرة تقوم بتحديد "المشاريع الواجب نقلها إلى القطاع الخاص، وتحديد المشترين المحتملين"(3).
وحتى على صعيد التحول الديمقراطي، كأحد الآثار المأمولة لسياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي، تظهر السمة الفوقية التدخلية في الشؤون الداخلية والتي يعبر عنها أحد الباحثين بقوله:
"لقد تم إعادة تعريف الوضع الأفريقي ليس باعتباره أزمة اقتصاد بقدر ما هو أزمة دولة. فبرغم أن علاقات الإنتاج ضرورية، فإنه لا يمكن إعادة بنائها (تنظيمها) بشكل فعال بدون تحول رئيسي في العلاقات السياسية. هذا التغير المفاهيمي أدى إلى التركيز على التحول
الديمقراطي"(4). ويرفض الباحث، في ذات الوقت، فكرة أن سياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي التي تشرف عليها مؤسستا بريتون وودز، تنطوي على تدخل في الشئون الداخلية للبلدان الملتزمة بها، معتبراً "أنه بالرغم من أن نموذج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي يظهر على المدى القصير باعتباره معادياً للديمقراطية، وأنه بمثابة تدخلات في الشؤون المحلية للبلدان الخاضعة للإصلاح، معادٍ للخير العام، برغم ذلك فإن هنالك توقع أن تؤدي مثل هذه الإصلاحات إلى وجود قواعد لاقتصادات سياسية أكثر ديمقراطية على المدى الطويل (5)".
2. تعزيز التبعية وسيطرة رأس المال الأجنبي:
تؤدي سياسات التكيف والإصلاح الهيكلي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى تعزيز التبعية للخارج سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، حيث يظهر ذلك من خلال نواحٍ متعددة.
فمن ناحية، وكما ذكر سابقاً يرى العديد من المفكرين، وخصوصاً مفكري العالم الثالث، أن سياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي التي تشرف عليها مؤسستا بريتون وودز إنما تهدف في الحقيقة إلى إخراج النظام الرأسمالي من أزمته الممتدة منذ السبعينيات وذلك من خلال تحرير التجارة كأحد أهم إجراءات سياسات التكيف الهيكلي، وبما يضمن فتح أسواق البلدان النامية أمام منتجات البلدان الرأسمالية، التي تحتفظ، في ذات الوقت، بسياسات حمائية متشددة لحماية منتجاتها من المنافسة. بحيث تغدو سياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي المنبثقة عن مؤسستي بريتون وودز، بمثابة "إعادة إنتاج النظام العالمي القائم كنظام استقطاب دولي للثروة الحضارية"(6). وتظهر "آليات التبعية"، في سياسات التكيف الهيكلي، من طبيعة الإجراءات التي تتضمنها هذه السياسات، متمثلة (الآليات) في تفضيل الزراعة على الصناعة، وتفضيل القطاع الخاص على القطاع العام، وتفضيل الأجنبي على الوطني، وتفضيل الأنشطة التجارية على الأنشطة الإنتاجية، وتغلب قوى السوق على التخطيط(7)
ومن ناحية أخرى، تتعزز التبعية للخارج من خلال انعدام الثقة في الاقتصاد الوطني كنتيجة لآثار إجراءات سياسات التكيف الهيكلي. ويمكن أن يبدو ذلك بصورة جلية في حالة تخفيض قيمة العملة الوطنية وتعويمها، بما يؤدي إلى تزايد الطلب على العملة الأجنبية مقابل المضاربة ضد العملة الوطنية(8).
أما على صعيد سيطرة رؤوس الأموال الأجنبية داخل الاقتصاد الوطني، والذي هو وثيق الصلة بتعزيز التبعية للخارج، فإن سياسات التكيف الهيكلي وفي ذات الوقت الذي تحجّم فيه الاستثمارات الوطنية، حتى التابعة للقطاع الخاص، وذلك بسبب رفع أسعار الفائدة وفرض القيود على الاستثمارات الحكومية، تعمل هذه السياسات، من ناحية أخرى، على تنشيط الاستثمارات الأجنبية بعدة وسائل:(/11)
1. من خلال قوانين الاستثمار التي تضعها البلدان النامية لجذب الاستثمارات كتعويض عن تقليص الاستثمارات الحكومية، إذ إن هذه القوانين غالباً ما تتضمن إعفاءات ضريبية كبيرة لرأس المال الأجنبي تضمن له ربحية مرتفعة.
2. من خلال عملية "الخصخصة"، وخصوصاً إذا ثبت صحة ما يورده أحد الباحثين عن إشراف البنك على تحديد المشاريع والمشترين ومنح هؤلاء المشترين قروضاً لإصلاح تلك المؤسسات المخصخصة فازاء نظرة مؤسستي بريتون وودز لمستويات الإدارة المحلية يبدو من المرجح هنا تفضيل الأجنبي على الوطني.
3. من خلال عملية إدارة الدين الخارجي للبلدان المدينة، والتي تتضمن مقايضة الدين الخارجي للبلد المدين بحصص ملكية للدائنين في المؤسسات والمشروعات العامة(9). ونظراً لحيوية وأهمية القطاعات التي تدخل في إطارها هذه المؤسسات والمشروعات تظهر خطورة تزايد النفوذ الأجنبي فيها.
3. عدم الاستقرار السياسي:
يتمتع الحديث عن عدم الاستقرار السياسي، كأحد الآثار السياسية السلبية لسياسات التكيف والإصلاح الهيكلي - بدرجة عالية من المصداقية، مستمدة من الواقع، بحيث يمكن لنا للقول، أن مظاهر عدم الاستقرار السياسي، ممثلة بالعنف أساساً، أصبحت ظاهرة ملازمة لبدء تنفيذ سياسات التكيف الهيكلي في مناطق مختلفة من العالم. وفي أفريقيا وحدها - في ثلاثة عشر بلداً تحديداً- يحصي أحد الباحثين إحدى وعشرين، مما يمكن اعتبارها، "مقاومة" شعبية للأخذ بسياسات التكيف الهيكلي(10).
وعلى الرغم من أن مؤشرات عدم الاستقرار السياسي الناجمة والمصاحبة لسياسات التكيف الهيكلي، تتمثل بصورة رئيسية، في العنف الشعبي الموجه ضد الدولة والحكومة ومؤسساتها، إلاّ أن ذلك لا يعني عدم وجود عنف الرسمي تمارسه الحكومة في مواجهة المواطن باعتباره مستلزماً لسياسات التكيف الهيكلي وذلك بإحدى طريقتين:
أ. أن يكون العنف الرسمي رداً على العنف غير الرسمي.
ب. أن يكون العنف الرسمي أداة لفرض سياسات التكيف الهيكلي، أو كإجراء مسبق احترازاً
من انفجار الاحتجاجات الشعبية عند البدء بتنفيذ تلك السياسات، بحيث يغدو العنف الشعبي هو الرد في هذه الحالة.
تأثير إجراءات سياسات التكيف الهيكلي على الاستقرار السياسي للبلدان التي أخذت بتلك السياسات، لا تظهر خطورة فقط في مظاهر عدم الاستقرار السياسي المصاحبة لبدء تنفيذ تلك الإجراءات، بل إن الصورة الحقيقية لمدى خطورة تلك السياسات على الاستقرار السياسي تظهر من خلال الآثار الاجتماعية الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلي، والتي تتلخص بزيادة الفقر والبطالة وسوء توزيع الدخل، وتفضي بدورها إلى مجموعة آثار أخرى اجتماعية وسياسية تتمثل، في:
- التفكك الوطني في مقابل التكامل الوطني
ففي ضوء ما تفضي إليه سياسات التكيف الهيكلي من زيادة في حجم الفقر داخل المجتمع (والتي تأتي من الطبقة الوسطى)، يصبح الفقراء أغلبية في مواجهة أقلية، هي الفئات العليا في المجتمع، مستفيدة من تلك السياسات في تعزيز موقعها وثرائها. في ضوء ذلك يبدو من الطبيعي حصول استقطاب حاد داخل المجتمع ما بين قلة ذات ثراء، وأغلبية فقيرة.
وتزداد خطورة مثل هذا الاستقطاب على الاستقرار السياسي بشدة مع انتشار مظاهر الإنفاق الترفي بين أبناء الفئات العليا(11)، نتيجة للآثار الإيجابية لسياسات التكيف على أوضاعها الاقتصادية.
ومع التسليم بمنطقية الرأي القائل بإمكانية إسهام الآثار السلبية لسياسات التكيف الهيكلي على الناحية الاجتماعية، في تعزيز العمل الجماعي لدى الفئات المتأثرة سلباً بتلك السياسات(12)، وبما يسهم في النهاية في تعزيز التكامل القومي، برغم ذلك، فإنه لابد من التأكيد على أن مثل هذا التماسك بين المتأثرين سلباً (المتضررين)، قد يعبر في النهاية عن الاستقطاب الحاصل داخل المجتمع ما بين فقراء وأغنياء، وخصوصاً، في حال غياب قنوات للتعبير عن الرأي بالطرق السلمية.
بناء على ما سبق، تظهر خطورة الآثار السلبية لسياسات التكيف الهيكلي على الاستقرار السياسي، انطلاقاً من أن "غياب الأمن السياسي والعسكري مرتبط إلى حد كبير بغياب الأمن، وأن النزوع إلى التفتت والتفكك والتخلي عن قيم التضامن الوطني والاجتماعي، أو بالأحرى موت هذه القيم، لا يمكن أن يفهم بمعزل عن حالة التهميش التي تعيشها أو تدفع إليها المجتمعات والجماعات"(13).
- تناقص الشرعية
يرتبط الحديث عن أثر سياسات التكيف الهيكلي على شرعية الدولة، بدرجة كبيرة، بهدف تلك السياسات، الذي تنادي به "المدرسة الكلاسيكية الجديدة"، والمتمثل في تقليص دور الدولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية إلى أبعد الحدود، ومن ثم فقد ظهر الحديث عن "تقليص الدولة"(14)، و "اختفاء الدولة"(15) و "نهاية عصر الدولة الوطنية"(16).(/12)
ويظهر هذا الأثر بصورته الجلية في حالة بلدان العالم النامي، فعلى الرغم من أنه ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح دور الدولة عموماً، في النشاط الاقتصادي والاجتماعي دوراً مرغوباً بل وضرورياً، في سبيل تجنب أزمة مشابهة لأزمة الثلاثينيات، فقد احتل البعد الاقتصادي والاجتماعي للدولة أهمية خاصة في حالة بلدان العالم النامي، وخصوصاً في البلدان الشمولية غير الديمقراطية، والتي تشكل الغالبية العظمى داخل هذا العالم، والتي سعت إلى خلق وتأكيد شرعيتها من خلال فعاليتها على صعيد هذين البعدين، الاقتصادي والاجتماعي، "حيث توفر الدولة مكاسب اجتماعية واقتصادية للمواطنين في مقابل تخلي هؤلاء عن حرياتهم العامة والفردية وعن الحقوق السياسية والمدنية"(17).
بناء على ذلك، وعلى ضوء تقليص دور الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، والذي تسعى سياسات التكيف الهيكلي إلى تحقيقه، لابد وأن تتراجع شرعية تلك البلدان، المؤسسة على هذين البعدين، بحيث تغدو أمام خيارين:
أ. التحول الديمقراطي وتعزيز الديمقراطية، بما قد يسهم في تعزيز مواقع السلطة السياسية، من خلال منح المواطنين حقوقهم السياسية، كلياً أو جزئياً.
ب. الحفاظ على مواقع السلطة باستخدام القوة، التي قد يقابلها عنف جديد من قبل الشعب، وبالتالي الدخول في دوامة العنف والعنف المضاد.
بعبارة أخرى، فان النظم الحاكمة، في حال رغبتها في الاستمرار في الحكم، عليها أن تختار
بين بديلين، المشاركة الشعبية من خلال التحول الديمقراطي، غالباً، أو عدم الاستقرار السياسي.
(1)- دارام جاي وكينيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص. ص60 و 61.
(2)- المرجع السابق، ص47.
(3)- مصطفى مهدي حسين، م. س. ذ. ص119.
(4)-Ufo, Okeke Uzodike, op. cit., p.23
(5) -Ibid, p. 22
(6) -برهان غليون، م. س. ذ، ص241.
(7) -جودة عبد الخالق، "مصر وصندوق النقد الدولي: آليات التبعية في التطبيق"، م. س. ذ، ص153.
(8) -انظر: دارام جاي وكينيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص59؛ أيضاً، ماري فرانس ليريتو، م. س. ذ، ص260.
(9) -مصطفى مهدي حسين، م. س. ذ، ص119.
(10)-Uzodike, Ufo Okeke, “Democracy and Economic Reforms: Developing Underdeveloped Political Economies”, Journal of Asian and African Studies, Vol. 31, No. 1-2, Leiden, 1996, p. 23..
(11)- أحمين شفير، م. س. ذ، ص35.
(12) -دارام جاي وكينيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص58.
(13)- برهان غليون، م. س. ذ، ص240.
(14)- دارام جاي وكينيثيا هيويت دي الكانتارا، م. س. ذ، ص. ص63.
(15)- أحمد ثابت، "تآكل شرعية الدولة العربية: الحالة المصرية"، أبعاد، العدد 4، بيروت، 1995، ص269
(16) برهان غليون، م. س. ذ.
(17) أحمد ثابت، "تآكل شرعية الدول العربية: الحالة المصرية"، م. س. ذ، ص260.(/13)
الأبعاد الثلاثة لمسألة القضاء والقدر
* محمد مهدي الآصفي
لكي يتضح لنا رأي الدين في القضاء والقدر لابد أن نشرح نقاطاً ثلاثة تعتمد عليها النظرية، في الاطار الذي يرسمه الاسلام لها:
1 ـ من رأي الدين ان الأحداث الاجتماعية بمجموعها تنشأ عن قضاء وقدر إلهي، ولا يمكن أن تخرج عن علم الله، أو يحدث شيء من ذلك من دون مشيئة الله. فإن الله سبحانه مبدأ كل شيء، وليس من شيء أو حدث يخرج عن علم الله ومشيئته.
يقول القرآن الكريم في ذلك: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير) الحديد/ 22.
(يقولون هل لنا من الأمر شيء. قل إن الأمر كله لله) آل عمران/ 154.
2 ـ تنفذ المشيئة الإلهية في الكون ضمن سلسلة طويلة من الأسباب والعلل، ويتحكم مبدأ العلية في كل شيء في هذا الكون.
فإن الأحداث الكونية والاجتماعية تنشأ عن أسبابها وعللها التي لا يمكن أن تتخلف عنها بحال من الأحوال. ولكل حدث علته التي تحتم وجوده (القضاء)، وتحدد شكله وتقدر حدوده (القدر).
ولا يمكن أن يتخلف قانون العلية هذا، ولا أن يحدث شيء دون سبب وعلة؛ موجبة له.
فإذن يتم قضاء كل شيء وقدره في مرحلة وجود علته وسببه. وعلة كل شيء هي التي تقضي وجوده، وتقدر شكله ونوعه. ولا ينافي هذا الأصل الأصل المتقدم من إسناد الأحداث إلى قضاء الله وقدره ومشيئته وعلمه.
فإن الله، تعالى، هو مبدأ هذه السلسلة الطويلة من الأسباب والعلل في النظرية الدينية، وإليه تنتهي هذه السلسلة الممتدة من الأسباب والعلل.
وكلما يجوز إسناده إلى هذه العلل يجوز إسناده إلى الله تعالى كذلك، بالحقيقة. فهو مبدأ هذه السلسلة من العلل وخالقها، والمهيمن عليها.
3 ـ ويملك الانسان حرية الاختيار والتصرف، فهو يستطيع باختياره أن يضع نفسه أي موضع يشاء من هذه الأسباب والعلل، وله ملؤ الحرية في هذا الاختيار والتصرف وإن كان لا خيار له بعد ذلك فيما يترتب على هذا السبيل أو ذاك من خير أو شر.
فإن الإنسان يواجه في حياته مجموعة من العوامل والأسباب المختلفة، وكل عامل من هذه العوامل يقود الانسان إلى نتيجة حتمية، حسب قانون العلية.
ويقف الانسان على مفترق الطرق بين هذه العوامل والأسباب ليختار لحياته مسلكاً من هذه المسالك المختلفة، بحرية، ودون أن يرغمه على هذا الاختيار شيء.
وليس بين هذا الاختيار وحتمية النتائج التي يؤدي إليها اختياره من تناف.. فإن حتمية النتائج لا تؤدي إلى سلب اختيار الانسان في اختيار هذا السبيل أو ذاك من سبل. الحياة، وفي اختيار هذه الجهة أو تلك من هذه الجهات الكثيرة التي تعرض للانسان، وإن كان الانسان لا يملك بعد الاختيار أن يتجنب النتائج الحتمية التي يؤدي إليها اختباره.
فإن كل سبيل من هذه السبل علة لنتيجة محدودة وحتمية لا يمكن أن تتخلف عن سببها (بموجب قانون العلية).
وإنكار الاختيار في الانسان، واعتباره أداة متحركة بفعل عوامل خارجة عن إرادته واختياره، كما يتحرك الحيوان، وكما يتحرك النبات والجماد بتأثير من عوامل خارجة عنها.. شيي يرفضه الوجدان.
فإن الكائنات الأخرى من غير الانسان ليس أمامها إلا سبيل واحد تسلكه، دون أن يكون لها اختيار في هذا السلوك، وتنتهي إلى نتائجها الحتمية بقانون العلية.
بينما الانسان يجد من نفسه بوضوح أنه يواجه دائماً أكثر من طريق واحد، ويقف دائماً على مفترق طرق كثيرة، في كل شؤون حياته وتحركاته، وأنه يملك ملء الحرية والاختيار في اختيار هذا السبيل أو ذاك، وفي اختيار هذه الجهة أو تلك.
وبذلك فليس من تناف بين (حتمية النتائج) التي هي نتيجة طبيعية لقانون العلية، وأساس لفكرة القضاء والقدر، وبين حرية الانسان (واختياره).
- شواهد على القضاء والقدر:
والقضاء والقدر بهذا المعنى أمر شائع عند الناس، ومفهوم لديهم، قبل أن يكون من قضايا الدين والفلسفة.
فإن القائد الذي يسعى لتطوير جيشه، وتزويده بأحدث ما يمكن من أسلحة، وتدريبه على أفضل الأساليب في الحرب ويأخذ لجيشه بالمبادرة في الحرب، ويختار له الموضع العسكري المناسب، بصورة أفضل وأقوى من العدو يكسب المعركة (بصورة حتمية).
بينما لو تقاعس القائد عن ذلك، ولم يهيئ لجيشه فرصاً وامكانات أفضل من فرص العدو وامكاناته، وكان العدو يتفوق عليه في متطلبات المعركة.. فسوف ينهزم في المعركة بصورة حتمية أيضاً.
وليس بين هذه الحتمية وذلك الاختيار تعارض أو تناف مطلقاً، وكسب المعركة في الحالة الأولى والهزيمة في الحالة الثانية كلاهما من قضاء الله وقدره.
إلا أن هذه الحتمية والقضاء الإلهي لا يعني أن القائد لم يكن يملك الاختيار في الحالتين معاً في تغيير أسلوبه في الإعداد للمعركة والتهيؤ لها.
- القضاء الإلهي في الأمم والجماعات:
ولا يختلف الأمر عما تقدم حينما نستعرض مسألة القضاء والقدر على صعيد اجتماعي.(/1)
فمن قضاء الله أن الأمة عندما تكون واعية لما يراد بها من ظلم واستغلال، وحينما تكون مدركة لمسؤولياتها، وحينما تتحرك في استرداد حقوقها تسترجع مكانتها، وترد عن نفسها الظلم والاستغلال حتماً. وهذا قضاء الله.
وحينما تكون فاقدة للوعي، غير مدركة لمسؤولياتها، خامدة خاملة وراكنة إلى الظلم.. تتعرض لكثير من الظلم والاستغلال والاستبداد والنهب، وهذا أيضاً قضاء من الله.
وللانسان أن يختار بمليء حريته أياً من القضائين. والدين، بعد ذلك يأمر باختيار نوع من هذا القضاء، وينهي عن اختيار نوع آخر منه.
فهو يوجه المجتمع إلى الوعي والإدراك والتحرك والصمود، وينهى عن الجبن والتخاذل والركون للظلم.
(فاستقم كما أمرت، ومَن تاب معك، ولا تطغوا، انه بما تعملون بصير، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) هود/ 11-112.
وهذه الحقيقة يذكرها القرآن في أوضح وأوجز ما يكون من بيان.
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/ 11.
فلا يغير الله ما بقوم من نعمة وعدل إلا أن يبدأ الناس أنفسهم بالظلم والإفساد، ولا يغير ما بهم من فساد إلى صلاح إلا أن يبدأ الناس أنفسهم باصلاح واقعهم.
- نتيجة البحث:
ومما تقدم من حديث في استعراض قضية القضاء في الدين يتبين لنا أمران:
أولاً: ان الإيمان بنشوء الأحداث الاجتماعية مطلقاً عن قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى لا يعني اعطاء تبريرات دينية، كما يقول ماركس، لهذه الأحداث.
فلا يبرر القضاء والقدر وجود فوارق وامتيازات طبقية في مجتمع ما، كما لا يبرر الإيمان بالقضاء والقدر تخلفاً اقتصادياً أو عسكرياً، أو هزيمة في الحرب، أو رسوباً في الامتحان، أو فشلاً في الحياة.
وإنما مهمة النظرية، كما تقدم، هي اعطاء تفسير كامل للأحداث الكونية والاجتماعية في تسلسلها الطبيعي وربطها بالقضاء والقدر في تسلسل هذه الأسباب وتعاقبها. فهو تفسير متكامل للأحداث الاجتماعية، وليس تبريراً.
ثانياً: ان الدين يفترض أن الانسان مزود بحرية الاختيار بين أنحاء قضاء الله وقدره، وعليه تقع تبعية الاختيار ومسؤوليته، فإن الحرية بقدر ما ترفع عن كاهل الانسان الإجبار والاضطرار تضع على عاتقه مسؤولية الاختيار وتبعاته.
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً، وإما كفوراً) الدهر/ 3.
(فمن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر) الكهف/ 29.
فلا يعني الإيمان بالقضاء والقدر رفض المسؤولية، والغاءها من حياة الانسان، فإن الإيمان بالقضاء والقدر لما كان لا يسلب الانسان حريته، فإنه يضعه وجهاً لوجه إزاء مسؤولية أعماله واتجاهاته وتصرفاته، وما يؤول إليه أمره من شقاء وبؤس.(/2)
الأحاديث الجامعة د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين. وبعد، فإنَّ في السُّنةِ النبويةِ الشريفةِ أحاديثَ جوامِعَ وغُرَراً فَرائد؛ جَمعَتْ فأوْعَت؛ إذْ خُصَّ نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم بِجَوامِعِ الكَلِم وبِدائعِ الحِكم كما أُوتِيَ خزائنَ العلمِ وروائعَ الأخلاقِ والآداب والقِيَم. فقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسِه الشريفة: (فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطِيتُ جَوامعَ الكلمِ،[1] ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وأُحلَّتْ لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرضُ طَهُوراً ومسجداً، وأٌرسِلْتُ إلى الخلقِ كافةً، وخُتم بي النبيون).[2] وفي رواية: (بُعثتُ بِجوامِعِ الكَلمِ،[3] ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وبينا أنا نائم أُتِيتَ بِمفاتيحِ خَزائنِ الأرضِ؛ فوُضِعَتْ بين يَدَيَّ).[4] قال المناوي رحمه الله: "أُعْطِيتُ جَوامِعَ الكَلِم: أي مَلكةً أقتدرُ بها على إيجازِ اللفظِ مع سعةِ المعنَى بنظمٍ لطيفٍ لا تعقيدَ فيه يعثر الفكرُ في طلبِه، ولا التواء يَحارُ الذهنُ في فهمِه؛ فما مِن لفظةٍ يسبقُ فهمُها إلى الذهنِ إلا ومعناها أسبق إليه".[5]
وقد اعتنَتْ هذه الأحاديثُ الجوامِعُ بأصُولِ الإسلامِ وقواعدِ الدِّينِ وأركانِ الإيمان؛ حتى جَمعَ منها النووي رحمه الله أربعين حديثاً، قال في شأنها: "قد صنَّفَ العلماءُ رحمهم الله في هذا الباب ما لا يُحصَى من المصنَّفات, فأولُ مَن عَلِمتُه صنَّفَ فيه عبد الله بن المبارك, ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرّباني ثم الحسن بن سفيان النّسوي وأبو بكر الآجُرّي وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصبهاني والدارقطني والحاكم وأبو نُعيم وأبو عبد الرحمن السّلمي وأبو سعيد الماليني وأبو عثمان الصابوني وعبد الله بن محمد الأنصاري وأبو بكر البيهقي, وخلائق لا يُحْصَون من المتقدِّمين والمتأخرّين.[6] وقد استخرت الله في جمع أربعين حديثاً اقتداءً بهؤلاء الأئمة الأعلام وحُفاظ الإسلام". وقد راعى رحمه الله الأحاديثَ القواعدَ الجوامع، فقال رحمه الله: "مِن العلماء مَن جَمعَ الأربعين في أصُولِ الدين, وبعضُهم في الفُروع, وبعضُهم في الجهادِ، وبعضُهم في الزهدِ، وبعضُهم في الآداب وبعضهم في الخطب, وكلها مقاصدُ صالحة رضي الله عن قاصِدِيها. وقد رأيتُ جَمْعَ أربعين أهمَّ مِن هذا كلِّه, وهي أربعون حديثاً مُشتملةٌ على جميع ذلك. وكلُّ حديثٍ منها قاعِدةٌ عظيمةٌ مِن قواعدِ الدين, وقد وَصَفَه العلماء بأنَّ مَدارَ الإسلام عليه، أو هو نِصفُ الإسلام أو ثُلثُه أو نحو ذلك".[7]
ومن هذه الأحاديثِ الجوامِع: التي وَصفَها العلماءُ بأنَّ مدار الإسلام عليها، أو أنها أصولُ الأحاديثِ أو أصولُ الدين أو أصولُ السُّنن: حديثُ (الأعمال بالنيات)، و(الحلال بّيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، و(مَنْ أحْدثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ)...
وقال ابن رجب رحمه الله في كلامِه عن حديث (الأعمال بالنيات): "هذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدور الدِّينُ عليها؛ فروى عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلثُ العِلم، ويدخل في سبعين باباً مِن الفقه، وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: أصولُ الإسلامِ على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث عائشة: (مَن أحْدثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ). وقال الحاكم: حدثونا عن عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (الأعمال بالنيات)، وقوله: (إنَّ خلقَ أحدِكم يجمع في بطنِ أمه أربعين يوما)، وقوله: (مَن أحدَثَ في دينِنا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ)؛ فقال: ينبغي أن يبتدأ بهذه الأحاديثِ في كلِّ تصنيفٍ؛ فإنها أصُولُ الأحاديثِ. وعن إسحاق بن راهويه قال: أربعة أحاديث هي من أصُولِ الدين: حديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما)، وحديث (من صنع في أمرنا شيئا ما ليس منه فهو رد)، وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميعَ أمرِ الآخرةِ في كلمةٍ واحدة: (مَن أحدثَ في أمرِنا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ)، وجَمعَ أمرَ الدنيا كلَّه في كلمةٍ واحدة: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)؛ يدخلان في كل باب"[8].(/1)
ثم أوردَ رحمه الله الخلافَ الواردَ عن الإمام أبي داود السجستاني صاحب السنن، فقال: "وعن أبي داود قال: نظرتُ في الحديث المسند؛ فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرتُ فإذا مَدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث عمر: (إنَّما الأعمالُ بالنيات)، وحديث أبي هريرة: (إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً؛ وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسَلِين) الحديث، وحديث (مِن حُسنِ إسلامِ المرء تَرْكُه ما لا يَعنِيه)، قال: فكلُّ حديثٍ من هذه الأربعة رُبعُ العلم).
وعن أبي داود رضي الله عنه أيضا قال: كتبتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما تَضَمَّنَه هذا الكتابُ ـ يعني كتابَ (السنن) ـ جمعتُ فيه أربعةَ آلاف وثمانمائة حديث؛ ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم : (إنَّما الأعمالُ بالنيات، والثاني: قوله:صلى الله عليه وسلم (مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُه ما لا يعنيه)، والثالث: قوله:صلى الله عليه وسلم (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه)، والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم : (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: (الفقهُ يدور على خمسةِ أحاديث: (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وقوله:صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (الدين النصيحة)، وقوله: (ما نَهيتُكم عنه فاجتَنِبُوه، وما أمَرتُكم به؛ فائتوا منه ما استطعتم)، وفي رواية عنه قال: (أصولُ السننِ في كل فَنٍّ أربعة أحاديث: حديث عمر (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث (الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ)، وحديث (مِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُه ما لا يعنيه)، وحديث: (ازهَدْ في الدنيا يحبك الله، وازهَدْ فيما في أيدي الناس يحبك الناس)".[9]
فهذه الأحاديثُ الجوامعُ عند الشافعي وأحمد وأبي عُبَيْد وأبي داود والنووي وابن رجب تدور كلُّها على القضايا الإيمانية والدروس التربوية والتغيير النفسي والإصلاح الاجتماعي؛ فيا سَعادةَ مَن اعتنَى بهذه المعارفِ المهمَلةِ في زمانِنا ومَناهِجِنا وهُمُومِ كثيرٍ مِنَّا. والله المستَعان!
ورحم الله الحافظ أبا الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي؛ حيث قال:
----------
[1] قال البخاري: "بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك".صحيح البخاري 6/2537، حديث 6611. كتاب (التعبير) باب (المفاتيح في اليد)
[2] وقد روى أبو موسىt قال: (بعثَنِي رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم ومعاذاً إلى اليمن فقال: ادعُوا الناس وبَشِّرا ولا تُنفِّرا ويَسِّرا ولا تُعسِّرا! قال: فقلتُ: يا رسولَ الله أفْتِنا في شَرابَيْن كُنا نصنَعهما... وكان رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم قد أُعْطِيَ جوامعَ الكلِم بخواتمه؛ فقال: أنْهَى عن كلِّ مُسكِرٍ أسَكَرَ عن الصلاة). صحيح مسلم 1/371، حديث 523.
[3] صحيح مسلم 3/1586، حديث 1733.
[4] صحيح مسلم 1/371، حديث523.
[5] فيض القدير للمناوي 1/563.
[6] زاد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله جماعة على هؤلاء منهم: إسماعيل بن عبد الغفار الفارسي، وعبد القاهر بن عبد الله الرهاوي، وأبو طاهر السلفي، ومحمد بن أبي الصيف، ومحمد بن محمد بن علي الطائي، ومحمد بن أحمد الفاسي صاحب (شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام)، وأبو القاسم بن عساكر الذي ألّف (الأربعين البلدانية) و(الأربعين الطوال) و(الأربعين في الجهاد)، ومنهم كذلك محمد بن إسحاق الكلاباذي، ومحمد بن إبراهيم المقري... رحمة الله عليهم أجمعين. انظر: الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السُّنة المشرّفة ص 102 ـ 104.
[7] مقدمة الأربعين النووية.
[8] جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/9.
[9] جامع العلوم والحكم 1/9-10.
[10] جامع العلوم والحكم 1/10.(/2)
الأحاديث الواردة في العسل وتخريجها وبيان الحكم
على أحاديث الزكاة عند المحدثين
جمع الأحاديث الواردة في العسل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يحب الحلواء والعسل".(1)
التداوي بالعسل :
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن كان في شيء من أدويتكم - أو يكون في شيء من أدويتكم - خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي ".(2)
الشفاء في العسل لمن يشتكي بطنه :
عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ : أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخي يشتكي بطنه؟فقال:" اسقه عسلا " . ثم أتاه الثانية فقال:" اسقه عسلا ". ثم أتاه الثالثة،فقال:" اسقه عسلا " . ثم أتاه فقال:قد فعلت ؟ فقال:" صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا " . فسقاه فبرأ. (3)
وفي رواية عند البخاري :أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال: " اسقه عسلا " . فسقاه، فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال: " صدق الله وكذب بطن أخيك " .(4)
ش :( استطلق بطنه ): كثر خروج ما فيه، أي: أصابه الإسهال لفساد هضمه واعتلال معدته .
وعند مسلم : أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي عرب بطنه، فقال له :"اسقه عسلا..."(5) الحديث.
سرد الأحاديث الأخرى الواردة في الاستشفاء بالعسل، وبيان الحكم عليها عند المحدثين :
1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء ".(6)
لعق الشيء:لحسه،وتناوله بلسانه أو إصبعه.(7)
وفي رواية :" من شرب العسل ثلاثة أيام في كل شهر على الريق عوفي من الداء الأكبر الفالج والجذام والبرص "(8)
2ـ عن أبي الأحوص عن عبد الله -رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بالشفاء ين العسل والقرآن ".(9)
الشفاء في العسل من كل داء إلا الموت :
3ـ وحدثنا إبراهيم بن أبي عبلة قال : سمعت أبا أبي ابن أم حزام وكان قد صلى مع رسول الله - صلى الله عليه و سلم- الصلاتين يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول :"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام قيل : يا رسول الله وما السام ؟ قال : الموت".(10)
قال إبراهيم بن أبي عبلة : والسنوت: الشبت ،قال عمرو بن بكر وغيره : السنوت:هو العسل الذي يكون في الزق وهو قول الشاعر :
هم السمن بالسنوت لا خير فيهما وهم يمنعون الجار أن يتجردا
فالسنا:بالقصر:نبات معروف من الأدوية له حمل إذا يبس وحركته الريح سمعت له زجلا الواحدة سناة وبعضهم يرويه بالمد(11)،و السنوت : العسل(12) .
4ـ عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - :" إن الخاصرة عرق الكلية إذا تحرك آذى صاحبها فداووها بالماء المحرق و العسل".(13)
5ـ عن السائب بن يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحجامة وقال:" ما نزع الناس نزعة خير منه أو شربة من عسل"(14).
6- وأخرج ابن أبي شيبة: أن ملاعب الأسنة عامر بن مالك بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله الدواء والشفاء من داء نزل به،" فبعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسل أو عكة من عسل".(15)
7- وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد تسأله عسلا و معها قدح و قالت : زوجي مريض فقال : أعطوها رواية عسل فقالوا : يا أبا الحارث سألت قدحا قال : سألت على قدرها و نعطيها على قدرن(16) .
8- عن الربيع بن خثيم قال: ما للنفساء عندي إلا التمر ولا للمريض إلا العسل.(17)
9- عن محمد بن شرحبيل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا تردوا الطيب ولا شربة عسل على من جاءكم به".(18)
10- وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت:" كان أحب الشراب إليه العسل"(19). تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -.
11- وعنها - رضي الله عنها - قالت :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" ما طلب الدواء بشيء أفضل من شربة عسل"(20) .
12- عن أنس - رضي الله عنه- قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" درهم حلال يشترى به عسلا ويشرب بماء المطر شفاء من كل داء".(21)
13- " أول رحمة ترفع عن الأرض الطاعون وأول نعمة ترفع عن الأرض العسل ".(22)
14- " عليكم بالعسل فو الذي نفسي بيده ما من بيت فيه عسل إلا ويستغفر له ملائكة ذلك البيت فإن شربه رجل دخل جوفه ألف دواء ويخرج منه ألف داء فإن مات وهو في جوفه لم تمس النار جلده ".(23)
إذا سقطت الفأرة في العسل :
عن عبد الرزاق عن بن جريج قال: سألت عطاء عن فأرة ماتت في عسل؟ قال: العسل كهيئة الجامد يغرف ما حولها ويؤكل ما بقي.(24)
الزكاة في العسل :(/1)
وردت أحاديث كثيرة بطرق متعددة في الزكاة في العسل : إلا أن هذه الروايات انتقدها العلماء المحدثون، بل وصرح بعضهم أنه لا يصح في هذه الباب شيء .
فهل معنى هذا الانتقاد : عدم قبول هذه الروايات وردها إذ لم يصح منها شيء في أخذ الزكاة من العسل، وذلك عند تقسيم الحديث: إلى مقبول وهو : ما صح ولم ينتقد ،وإلى مردود وهو: ما اتنقد .
أو المعنى :قبول هذه الروايات حيث لا يلزم من قبولها بلوغها درجة الصحيح وعدم انتقادها ،وذلك عند تقسيم الحديث : إلى صحيح لذاته ولغيره ،وإلى حسن لذاته ولغيره ،وإلى ضعيف .
وأيضا : فإن الانتقاد يختلف من رواية إلى رواية أخرى فقد يكون الانتقاد في الراوي :أنه سيء الحفظ،
أو أنه يلقن ، أو كونه صدوق ، وقد يكون الانتقاد في الراوي:انه يكذب.
وعليه ففي هذه الروايات الواردة في أخذ الزكاة من العسل وردت الانتقادات ،ولان الروايات في أخذ الزكاة من العسل كثيرة، ووردت بطرق متعددة ،فيختلف الانتقاد باختلاف الطرق .
وفي هذا البحث سأذكر هذه الروايات مع بيان مصادرها ،وحكم العلماء المحدثين عليها.
وكذلك وردت آثار فيها عدم أخذ الزكاة من العسل، وسأبدأ بذكر هذه الآثار مستمدا من الله العون والسداد .
أولاً: الروايات التي لم يرد فيها أخذ الزكاة من العسل :
في الموطأ ،وسنن البيهقي،وكنز العمال :
عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قال: جاء كتاب من عمر بن عبد العزيز إلى أبي وهو بمنى أن لا يأخذ من العسل ولا من الخيل صدقة.(25)
وفي سنن الترمذي ،ومصنف عبد الرزاق :
وحدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع : قال سألني عمر بن عبد العزيز عن صدقة العسل قال قلت: ما عندنا عسل نتصدق منه ولكن أخبرنا المغيرة بن حكيم أنه قال ليس في العسل صدقة فقال عمر: عدل مرضي فكتب إلى الناس أن توضع يعني عنهم .(26)
والمغيرة بن حكيم: تابعي ثقة وما ذكره من النفي لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فهو مقطوع، ولو رفعه لكان " مرسل".(27)
وفي مصنف عبد الرزاق :
وري عن طاووس عن معاذ بن جبل قال: سألوه عما دون ثلاثين من البقر وعن العسل قال : لم أومر فيها بشيء (28).
وفي مصنف ابن أبي شيبة :
كان سفيان يقول: ليس في العنبر ولا في العسل ولا في الأوقاص زكاة .(29)
وفي سنن البيهقي :
عن علي رضي الله عنه قال : ليس في العسل زكاة.(30) ، قال يحيى وسئل حسن بن صالح عن العسل فلم ير فيه شيئا.(31) ، وذكر عن معاذ: أنه لم يأخذ من العسل شيئا.(32)
ثانيا : الروايات التي فيها الزكاة في العسل :
رواية أبي داود:
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا يقال له سلبة "فحمى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوادي"فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: " إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء "(33) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن بني شبابة ـ بطن من فهم ـ كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عسل لهم العشر من كل عشر قرب قربة و كان يحمي لهم واديين فلما كان عمر ابن الخطاب استعمل عليهم سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا إليه شيئا، وقالوا : إنما ذاك شيء كنا نؤديه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب سفيان إلى عمر بذلك، فكتب إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله رزقا إلى من يشاء ،فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحم لهم وادييهم، وإلا فخل بين الناس و بينهما فأدوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و حمى لهم وادييهم .(34)
قال أبو بكر : هذا الخبر إن ثبت ففيه ما دل على أن بني شبابة إنما كانوا يؤدون من العسل العشر لعلة(/2)
لا لأن العشر واجب عليهم في العسل بل متطوعين بالدفع لحماهم الواديين، ألا تسمع احتجاجهم على سفيان بن عبد الله و كتاب عمر بن الخطاب إلى سفيان لأنهم إن أدوا ما كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمى لهم وادييهم و إلا خلى بين الناس وبين الواديين ومن المحال أن يمتنع صاحب المال من أداء الصدقة الواجب عليه في ماله إن لم يحمى له ما يرعى فيه ماشيته من الكلأ و غير جائز أن يحمى الإمام لبعض أهل المواشي أرضا ذات الكلأ ليؤدي صدقة ماله إن لم يحم لهم تلك الأرض ... و لو كان عند الفاروق - رحمه الله- أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر من غلهم على معنى الإيجاب كوجوب صدقة المال الذي يجب فيه الزكاة لم يرض بامتناعهم من أداء الزكاة و لعله كان يحاربهم لو امتنعوا من أداء ما يجب عليهم من الصدقة إذ قد تابع الصديق -رحمه الله - مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتال من امتنع من أداء الصدقة مع حلف الصديق أنه مقاتل من امتنع من أداء عقال كان يؤديه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - و الفاروق -رحمه الله - قد واطأه على قتالهم فلو كان أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر من نحل بني شبابة عند عمر بن الخطاب على معنى الوجوب لكان الحكم عنده فيهم كالحكم فيمن امتنع عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أداء الصدقة إلى الصديق ، و الله أعلم.
قال الأعظمي : إسناده صحيح(35).
قال ابن حجر : ( قال الدار قطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندا، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب عن عمر مرسلا، قلت: فهذه علته وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان لكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عند بن ماجة وغيره)(36).
والحديث حسنه ابن عبد البر في الاستذكار، وذكر عن إسماعيل بن إسحاق حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء ابن أخي جويرية ثنا جويرية عن مالك عن الزهري: أن صدقة العسل العشر.
وممن أوجب الزكاة في العسل الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وربيعة وابن شهاب ويحيى بن سعيد،
وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بلغني أن في العسل العشر، وسمع يحيى من ادرك يقول :مضت السنة بان في العسل العشر، وهو قول ابن وهب(37).
قال الشيخ الألباني :
الحديث صحيح ، قال :ورواه أبو عبيد والأثرم وابن ماجه . ص 192 صحيح:،...وهذا سند رجاله ثقات غير أن ابن لهيعة سئ الحفظ لكنه لم يتفرد به كما يأتي فالحديث صحيح ، فقد أخرجه ابن ماجه ( 1824 ) من طريق نعيم بن حمال قلت : ونعيم ضعيف ، لكن أخرجه أبو داود ( 1600 ) والنسائي ( 1 / 346 ) من طريق عمر وبن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب. قلت : وهذا سند صحيح فإن عمرو بن الحارث المصري ثقة فقيه حافظ(38).
قال:فهذه طرق إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده متصلا وبعضها صحيح بذلك إليه كما تقدم .
وعليه: فلا يضره ما رواه ابن أبي شيبة ( 4 / 20 ) قال : وزعم عمرو بن شعيب أنهم كانوا يعطون من كل عشر قرب قربة " . قلت : فهذا مرسل ولكن لا تعارض بينه وبين من وصله لجواز أن عمروا كان يرسله تارة ويوصله تارة فروى كل ما سمع والكل صحيح (39).
وله ذلك الشاهد عن نافع عن ابن عمر ، وإن كان ضعيف السند فمثله لا بأس به في الشواهد . لا سيما وقد أثبت له البخاري أصلا من حديث نافع مرسلا ، والله أعلم .
وفي الباب شواهد أخرى منها عن أبي هريرة مختصرا مرفوعا بلفظ : " في العسل العشر " . رواه العقيلي في الضعفاء ( 224 ) وضعفه ، وراجع بقية الشواهد في نصب الراية ( 2 /811 ،390 ،391 )
و روى الجوزجاني عن عمر : أن أناسا سألوه فقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لنا واديا باليمن فيه خلايا من نحل وإنا نجد ناسا يسرقونها . فقال عمر : إذا أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم ) (40).
وللألباني تحت عنوان : زكاة العسل(41) : " قال البخاري : ليس في زكاة العسل شئ يصح " ، أقول : ليس هذا على إطلاقه، فقد روي فيه أحاديث أحسنها حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وأصح طرقه إليه طريق عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب . . بلفظ : " جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا ..."الحديث.
قلت : وهذا إسناد جيد وهو مخرج في الإرواء(42)، وقواه الحافظ في الفتح (43)، فإنه قال عقبه: " وإسناده صحيح إلى عمرو وترجمة عمرو قوية على المختار لكن حيث لا تعارض إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى كما يدل عليه كتاب عمر ابن الخطاب " ، وسبقه إلى هذا الحمل ابن زنجويه(44) ، ثم الخطابي في معالم السنن (45) ،وهو الظاهر، والله سبحانه وتعالى أعلم .
الخلاصة :
حديث هلال:جاء من رواية عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده ،وأخذه عن عمرو: عبد الرحمن ابن(/3)
الحارث ،وابن لهيعة ،وفيهما مقال عند المحدثين ،لكن تابعهما عمرو ابن الحارث المصري وهو ثقة ،
وبهذا يصح الحديث ،إلا أنه مقيد بالحمى،وهذا الحديث قد قواه الحافظ في الفتح(46)،وحسنه ابن عبد البر،(47) وصححه الألباني .(48)
رواية الترمذي:
عن موسى بن يسار عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في العسل في كل عشرة أزق زق " (49) .
قال الزيلعي : رواه الترمذي، وقال : في إسناده مقال ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير شيء ، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بصدقة هذا وضعفه عن أحمد والنسائي وابن معين، ورواه البيهقي وقال : تفرد به صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ورواه ابن حبان في " كتاب الضعفاء " وقال في صدقة : يروى الموضوعات عن الثقات ، ورواه الطبراني في " معجمه الوسيط " ولفظه : وقال : في العسل العشر في كل عشر قرب قربة وليس فيما دون ذلك شيء ، قال الطبراني : لا يروى هذا عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد انتهى(50).
قال الترمذي: هذا الإسناد معل ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء.
قلت: قال أحمد بن حنبل: صدقة ليس يساوي حديثه شيئا ،وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، وقال أبو عبد الرحمن النسائي: صدقة ليس بشيء وهذا حديث منكر، قال الراوي :وعمرو لا يحتج به.
وقد رواه إسماعيل بن محمد عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن موسى بن يسار، قال ابن حبان: إسماعيل يقلب الأسانيد ويسرق الحديث لا يجوز الاحتجاج به.
قال يحيى بن معين: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان.(51)
قال الشيخ الألباني : الحديث صحيح(52).
ولدقة المسألة حديثيا وفقهيا اضطرب فيه رأي الشوكاني، فذهب في نيل الأوطار : إلى عدم وجوب الزكاة على العسل وأعل أحاديثه كله(53)، وأما الدرر البهية : فصرح بالوجوب وتبعه شارحه صديق خان في الروضة الندية(54)، وأيد ذلك الشوكاني في السيل الجرار . (55)
وقال : " وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضا "
الخلاصة:
حديث ابن عمر :جاء من طريق صدقة ابن عبد الله السمين وقد انتقده المحدثون وضعفوا حديثه،وممن ضعفه الامام أحمد ،وقال :صدقة ليس يساوي حديثه شيئا، فهل تضعيف الامام احمد يقتضي رد الحديث، والراوي قد وثقه أبو حاتم،(56)وصحح الحديث الألباني. (57)
رواية ابن ماجه :
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو:عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"أنه أخذ من العسل العشر"(58) . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد . قالا حدثنا وكيع عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال: " قلت يا رسول الله؛ إن لي نحلا قال : أد العشر قلت: يا رسول الله احمها لي ، فحماها لي"(59) .
( أد العشر ): أي من عسله .
( احمها ): أي احفظها حتى لا يطمع فيها أحد .
قال الزيلعي :
وأما حديث أبي سيارة : فأخرجه ابن ماجه، ورواه أحمد في " مسنده " والبيهقي في " سننه " وقال : هذا أصح ما روى في وجوب العشر فيه، وهو منقطع.
قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : حديث مرسل ،وسليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في زكاة العسل شيء يصح انتهى .
وهذا الذي نقله عن الترمذي ذكره في " علله الكبرى "
وقال عبد الغني في " الكمال " : أبو سيارة المتعي القيسي قيل : اسمه عميرة بن الأعلم روى عن النبي عليه السلام حديثا في زكاة العسل وليس له سواه انتهى .
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " ومن طريقه الطبراني في " معجمه " ، ورواه أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " بنحوه.(60)
وقال ابن حجر:
رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة وهو منقطع ، قال البخاري: لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح، وقال أبو عمر: لا تقوم بهذا حجة، قال وعن أبي هريرة، قلت: رواه البيهقي وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو متروك ، وقال الزعفراني عن الشافعي: الحديث في أن العسل العشر ضعيف واختياري أنه لا يؤخذ منه، وقال البخاري: لا يصح فيه شيء ، وقال بن المنذر: ليس فيه شيء ثابت(61).
الخلاصة:
حديث عمرو :تقدم الكلام عنه ،وأما حديث أبي سيارة فانتقد بأنه منقطع ،وبأنه مرسل ،والحديث حسنه الألباني. (62)
وفي مسند الشافعي، مجمع الزوائد، سنن البيهقي الكبرى، مصنف ابن أبي شيبة ،المعجم الكبير:(/4)
عن منبر ابن عبد الله عن أبيه عن جده سعد بن أبي ذباب قال : " قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت ثم قلت: يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم "ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعملني عليهم" ثم استعملني أبو بكر(63) ثم عمر قال وكان سعد من أهل السراة قال:فكلمت قومي في العسل فقلت لهم: زكوه فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى. فقالوا :كم . قال فقلت: العشر . فأخذت منهم العشر، فأتيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأخبرته بما كان قال: فقبضه عمر فباعه ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين(64) .
قال البخاري : وعبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب لم يصح حديثه، وقال علي بن المديني : منير هذا لا نعرفه إلا في هذا الحديث ، وسئل أبو حاتم عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب يصح حديثه ؟ قال : نعم .(65)
الخلاصة:
حديث سعد ابن أبي ذباب: في إسناده منبر ابن عبد الله، وقد ضعفه البخاري والأزدي(66)، قال الشافعي: وسعد بن أبي ذباب يحكي ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره فيه بشيء وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه(67).
المعجم الأوسط :
عن بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " في العسل العشر في كل ثنتي عشر قربة وليس فيما دون ذلك شيء" (68).
مصنف عبد الرزاق :
عن عبد الرزاق قال:أخبرني صالح بن دينار أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه أن يأخذ من العسل صدقة إلا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها ،فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا أن هلال بن سعد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسل فقال:" ما هذه "فقال هدية "فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم -" ثم جاء مرة أخرى فقال:" ما هذه قال صدقة فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر برفعها ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك عشورا فيها ولا نصف عشور إلا أخذها" فكتب بذلك عثمان إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب فأنتم أعلم، فكنا نأخذ ما أعطونا من شيء ولا نسأل عشورا ولا شيئا ما أعطونا أخذنا (69) .
( فزعم عروة أنه كتب إلى عمر يسأله عن صدقة العسل ) فزعم عروة أنه كتب إليه :إنا قد وجدنا
بيان صدقة العسل بأرض الطائف فخذ منه العشور(70).
وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في صدقة العسل، قال: في كل عشرة أفراق فرق (71).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: "أن يؤخذ من أهل العسل العشور" (72) .
قال الزيلعي :
حديث:" في العسل العشر " قلت : رواه بهذا اللفظ العقيلي في كتاب الضعفاء من طريق عبد الرزاق أخبرنا عبد الله بن محرز عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي -عليه السلام- قال : " في العسل العشر ".
ولم أجده في مصنف عبد الرزاق بهذا اللفظ، وإنما لفظه : "أن النبي عليه السلام كتب إلى أهل اليمن : "أن يؤخذ من أهل العسل العشر" انتهى ،وبهذا اللفظ رواه البيهقي من طريق عبد الرزاق والحديث معلول بعبد الله بن محرز ، قال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : كان من خيار عباد الله إلا أنه كان يكذب ولا يعلم ويقلب الأخبار ولا يفهم انتهى.
ومعنى الحديث : روي من حديث ابن عمر،ومن حديث سعد بن أبي ذباب، ومن حديث أبي سيارة المتعي(73).
مصنف ابن أبي شيبة :
عن عطاء الخرساني عن عمر قال: في العسل عشر.(74)
كنز العمال :
عن الأحوص ابن حكيم عن أبيه مرسلا:في كل عشرة أرطال من العسل رطل(75).
جمع وإعداد/ يونس عبد الرب فاضل الطلول
(1) ـ صحيح البخاري ( جزء 5 - صفحة 2152 ) .
(2) ـ صحيح البخاري ( جزء 5 - صفحة 2152 ).
(3)ـ صحيح البخاري ( جزء 5 - صفحة 2152 ) ، صحيح مسلم ( جزء 4 - صفحة 1736 ).
(4) ـ صحيح البخاري ( جزء 5 - صفحة 2161 ) .
(5) ـ صحيح مسلم ( جزء 4 - صفحة 1736 ) .
(6) ـ في الزوائد إسناده لين . ومع ذلك فهو منقطع ، قال البخاري لا نعرف لعبد الحميد سماعا من أبي هريرة ، انظر :سنن ابن ماجه ( جزء 2 - صفحة 1142 ) قال الشيخ الألباني : ضعيف، وانظر: المعجم الأوسط ( جزء 1 - صفحة 130 )،وانظر: مسند أبي يعلى ( جزء 11 - صفحة 299 )، قال حسين سليم أسد : إسناده ضعيف، وانظر: تذكرة الموضوعات ( جزء 1 - صفحة 1131 )وقال: لا أصل له ، قلت: أخرجه البيهقي وابن ماجه وله شاهد،وانظر: الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 1261 ) ( هـ ) عن أبي هريرة ، قال الشيخ الألباني : ( ضعيف ) انظر: حديث رقم : 5831 في ضعيف الجامع،وكذلك في السلسلة الضعيفة( جزء 2 - صفحة 183 ).
(7) - انظر: مختار الصحاح (1/612)
(8) ـ السلسلة الضعيفة ( جزء 2 - صفحة 184 ) .(/5)
(9) ـ في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات . سنن ابن ماجه ( جزء 2 - صفحة 1142 ) ، المستدرك ( جزء 4 - صفحة 222 )وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد أوقفه وكيع بن الجراح ، عن سفيان . تعليق الذهبي قي التلخيص : على شرط البخاري ومسلم ، سنن البيهقي الكبرى ( جزء 9 - صفحة 344 ) رفعه غير معروف والصحيح موقوف ورواه وكيع عن سفيان موقوفا، شعب الإيمان ( جزء 2 - صفحة 519 ) رفعه زيد بن الحباب و الصحيح موقوف على ابن مسعود
وفي رواية :( : أن رجلا أتى عبد الله فقال : إن أخي مريض اشتكى بطنه وإنه نعت له الخمر أفاسقيه ؟ قال عبد الله : سبحان الله ما جعل الله شفاء في رجس إنما الشفاء في شيئين العسل شفاء للناس والقرآن شفاء لما في الصدور) المعجم الكبير ( جزء 9 - صفحة 184 ) ، (مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 6 - صفحة 126 ) ، كنز العمال ( جزء 10 - صفحة 13 ) ، قال الشيخ الألباني : ( ضعيف ) الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 821 ) ( هـ ك ) عن ابن مسعود ، انظر حديث رقم : 3765 في ضعيف الجامع .
(10) ـ المستدرك ( جزء 4 - صفحة 224 )وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تعليق الذهبي قي التلخيص : عمرو بن بكر اتهمه ابن حبان، كنز العمال ( جزء 10 - صفحة 79 ) ، ( هـ ( أخرجه ابن ماجه كتاب الطب باب السنا والسنوت رقم ( 3457 ) إسناده صحيح . ص )، السلسلة الصحيحة للألباني ( جزء 4 - صفحة 407 ) ( صحيح ) ( صحيح بشواهده ).
(11) ـ النهاية 2 / 415.
(12) ـ النهاية 2 / 407.
(13) ـ المستدرك ( جزء 4 - صفحة 449 )وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، تعليق الذهبي قي التلخيص : صحيح وقال: على شرط البخاري ومسلم ، قال الشيخ الألباني : ( ضعيف ) الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 337 ) ، انظر حديث رقم : 1437 في ضعيف الجامع ،السلسلة الضعيفة ( جزء 3 - صفحة 368 ) .
(14) ـ المعجم الأوسط للطبراني ( جزء 8 - صفحة 53 )وقال: لا يروى هذا الحديث عن السائب بن يزيد إلا بهذا الإسناد ، تفرد به إسحاق. قال حسين سليم أسد : إسناده ضعيف.
(15) ـ مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 6 - صفحة 412 ) .
(16) ـ شعب الإيمان للبيهقي ( جزء 7 - صفحة 449 ) .
(17) ـ مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 5 - صفحة 59 )، كنز العمال ( جزء 10 - صفحة 84 ) ، وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الطب - عن أبي هريرة، وقال الألباني: ضعيف ، السلسلة الضعيفة ( جزء 1 - صفحة 430 ) .
(18) ـ الآحاد والمثاني ( جزء 5 - صفحة 312 )، كنز العمال ( جزء 6 - صفحة 1014 )وقال:أخرجه : أبو نعيم في المعرفة ، عن محمد بن شرحبيل، وقال : الصحيح محمود بن شرحبيل، وسنده ضعيف.
(19) ـ كنز العمال ( جزء 7 - صفحة 200 ) وأخرجه: ابن السني وأبو نعيم في الطب عن عائشة ، قال الشيخ الألباني : ضعيف ، الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 980 ) انظر حديث رقم : 4311 في ضعيف الجامع.
(20) ـ كنز العمال ( جزء 10 - صفحة 38 ) ، وأخرجه :أبو نعيم في الطب - عن عائشة، قال الشيخ الألباني : ضعيف ،الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 1188 ) ، انظر حديث رقم : 5095 في ضعيف الجامع.
(21) ـ كنز العمال (جزء 10- صفحة 40). قال الشيخ الألباني: (ضعيف) الجامع الصغير وزيادته (جزء 1- صفحة 672) انظر حديث رقم :2969 في ضعيف الجامع.
(22) ـ تذكرة الموضوعات ( جزء 1 - صفحة 1132 ) ،وقال : لا أصل له.
(23) ـ تذكرة الموضوعات ( جزء 1 - صفحة 1133 ) منكر، وقال المؤلف موضوع.
(24) ـ مصنف عبد الرزاق ( جزء 1 - صفحة 86 ) .
(25) - الموطأ - رواية يحيى الليثي ( جزء 1 - صفحة 277 ) سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 119،127 ) ، وقال :قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي: الحديث في أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف إلا عن عمر بن عبد العزيز واختياري: أنه لا يؤخذ منه لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه وليست فيه ثابتة، فكأنه عفو ، وأخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ( جزء 6 - صفحة 853 ).
(26) - سنن الترمذي (جزء 3 - صفحة 25 ) ، قال الشيخ الألباني : صحيح، وهو من قول التابعي فهو مقطوع ، مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 60 ).
(27) - إرواء الغليل ( جزء 3 - صفحة 287 ) .
(28) - مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 60 ) .
(29) - مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 2 - صفحة 374 ) .
(30) - سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 127 )، وفي إسناده حسين بن يزيد وهو ضعيف ، انظر: تلخيص الحبير ( جزء 2 - صفحة 172 ) .
(31) - المرجع السابق .
(32) - سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 128 ) .
(33) - سنن أبي داود ( جزء 1 - صفحة 503 ) ،وقال الشيخ الألباني : حسن.
(34) - سنن أبي داود (جزء 1- صفحة 503)،صحيح ابن خزيمة (جزء 4 - صفحة 45) ،قال الألباني: إسناده حسن.،مصنف ابن أبي شيبة (جزء 2- صفحة 373 ).
(35) - صحيح ابن خزيمة ( جزء 4 - صفحة 45 ) .(/6)
(36)- تلخيص الحبير ( جزء 2 - صفحة 168 ) .
(37) - الجوهر النقي ( جزء 4 - صفحة 127 ) .
(38) - مختصر إرواء الغليل للألباني ( جزء 3 - صفحة 284 ) بتصرف .
(39) - إرواء الغليل ( جزء 3 - صفحة 285 ) .
(40) - إرواء الغليل ( جزء 3 - صفحة 287 ) بتصرف .
(41) - تمام المنة ( جزء 1 - صفحة 374، 375) .
(42)- رقم ( 810 ).
(43)- ( 3 / 348 ).
(44)- الأموال : ( 1095 - 1096 ).
(45)- ( 1 / 208 ).
(46) ( 3 / 348 ).
(47)- الجوهر النقي ( جزء 4 - صفحة 127 ) .
(48)- مختصر إرواء الغليل للألباني ( جزء 3 - صفحة 284 ) .
(49) - سنن الترمذي ( جزء 3 - صفحة 24 ) قال: وفي الباب عن أبي هريرة و أبي سيّارة المتعي و عبد الله بن عمرو ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء ،والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد و إسحق ،وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء، و صدقة بن عبد الله ليس بحافظ وقد خولف صدقة بن عبد الله في رواية هذا الحديث عن نافع ، قال أبو عيسى: حديث ابن عمر في إسناده مقال ، سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 126 )،وقال : تفرد به هكذا صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف قد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وقال أبو عيسى الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال :هو عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم- مرسل ، كنز العمال ( جزء 6 - صفحة 472 )،وقال : الحديث رواه الترمذي كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة العسل رقم : ( 629 ) وقال الترمذي : حديث ابن عمر في إسناده مقال والحديث تفرد به الترمذي عن الكتب الستة ، وقال الشيخ الألباني : صحيح ، الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 771 ) ،رقم ( 4252) .
(50) - نصب الراية للزيلعي ( جزء 2 - صفحة 281 ).
- (51)انظر التحقيق في أحاديث الخلاف ( جزء 2 - صفحة 41 )،وانظر العلل المتناهية ( جزء 2 - صفحة 497 ) .
(52) - الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 771 ) ،رقم ( 4252) .
(53)- نيل الأوطار ( 4 / 125 ).
(54) - الروضة الندية ( 1 / 200 ).
(55) - السيل الجرار ( 2 / 46 - 48 ).
(56) - مجمع الزوائد ( جزء 3 - صفحة 224 ).
(57) - الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 771 ) ،رقم( 4252) .
(58) - ابن ماجه ( جزء 1 - صفحة 584 ) ، صحيح ابن ماجة ( جزء 1 - صفحة 306 ) ، وقال:الألباني: صحيح، الإرواء (810) ، صحيح أبي داود (1424) .
(59) - سنن ابن ماجه ( جزء 1 - صفحة 584 )، في الزوائد في إسناده قال ابن أبي حاتم عن أبيه لم يلق سليمان بن موسى أبا سيارة ، والحديث مرسل ، وحكي الترمذي في العلل عن البخاري عقب هذا الحديث: أنه مرسل . ثم قال لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة اهـ
وأبو سيارة ليس له عند ابن ماجة سوى هذا الحديث الواحد وليس له شئ في الأصول الخمسة ، قال الشيخ الألباني : حسن ، سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 126 )،قال : وهذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه وهو منقطع، قال أبو عيسى الترمذي :سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا؟ فقال :هذا حديث مرسل وسليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليس في زكاة العسل شيء يصح، قال البخاري وعبد الله بن محرر متروك الحديث يعني بذلك تضعيف روايته عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا في العسل.
(60) - نصب الراية ( جزء 2 - صفحة280 ) بتصرف .
(61) - تلخيص الحبير ( جزء 2 - صفحة 168 ).
(62) - انظر:سنن ابن ماجه ( جزء 1 - صفحة 584 ).
(63)- حديث أن أبا بكر كان يأخذ الزكاة في العسل لم أجد له أصلا ، انظر: تلخيص الحبير ( جزء 2 - صفحة 173 ) .
(64) - مسند الشافعي ( جزء 1 - صفحة 92 )، - المعجم الكبير ( جزء 6 - صفحة 43 ) ، مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 2 - صفحة 373 )، سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 127 )، مجمع الزوائد ( جزء 3 - صفحة 224 )،وقال : رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه منير بن عبد الله وهو ضعيف .
(65) - نصب الراية ( جزء 2 - صفحة 280 ) .
(66) - تلخيص الحبير ( جزء 2 - صفحة 168 ) .
(67) - المرجع السابق .
(68)- المعجم الأوسط ( جزء 4 - صفحة 340 ) لا يروى هذا الحديث عن بن عمر إلا بهذا الإسناد، مجمع الزوائد ( جزء 3 - صفحة 224 )،وقال : رواه الطبراني في الأوسط وقد رواه الترمذي باختصار وفيه صدقة بن عبد الله وفيه كلام كثير وقد وثقه أبو حاتم وغيره ،
- كنز العمال ( جزء 6 - صفحة 491 ) .
(69) - مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 61 ) .
(70) - مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 61 ) .
(71)- مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 63 ) .
(72) - مصنف عبد الرزاق ( جزء 4 - صفحة 63 )، سنن البيهقي الكبرى ( جزء 4 - صفحة 126 ).
(73) - نصب الراية ( جزء 2 - صفحة 280 ).
(74) - مصنف ابن أبي شيبة ( جزء 2 - صفحة 373 ).(/7)
(75) - كنز العمال ( جزء 6 - صفحة 491 ) ، أبو عروبة الحراني في حديث أبي يوسف القاضي - عن الأحوص بن حكيم عن أبيه مرسل(/8)
الأحاديث الواردة في صيام عاشوراء
والمراحل التي مر بها
د. بندر بن نافع العبدلي الأستاذ/ بقسم السنة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم 6/1/1427
05/02/2006
الحمد لله رب العالمين ، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن يوم عاشوراء يوم عظيم، له فضيلة عظيمة ، وحرمة قديمة، وصومه كان معروفاً بين الأنبياء والمرسلين ، وعباد اللَّه الصالحين.
وإني في هذا البحث المختصر أذكر أشهر الأحاديث الواردة في فضل صومه والمراحل التي مر بها في مشروعيته:
ما ورد في فضل صيامه:
1- عن عبد اللَّه بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس رضي اللَّه عنهما وسئل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: " ما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر - يعني رمضان -" .
وفي لفظ: " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء..".
أخرجه البخاري (4/245) (ح2006) ، ومسلم (1132) ، والنسائي (4/204) (ح2370)، وأحمد (1/367) ، وابن خزيمة (2086)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3779)، وفي "السنن الكبرى" (4/286)، والطبراني (1254).
2- وعن أبي قتادة رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيام يوم عاشوراء، أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله" .
أخرجه مسلم (1162)، وأبو داود (2/321) (ح2425)، والترمذي (2/115) (ح749) ، وابن ماجة (1/553) (ح1738) ، وأحمد (5/308)، والبيهقي (4/286).
تعليق:
في هذين الحديثين دليل على فضل صوم يوم عاشوراء، وأنه يكفر السنة التي قبله. والمشهور عند أهل العلم أنه إنما يكفر الصغائر فقط، أما الكبائر فلابد لها من توبة.
قال النووي رحمه الله: " يكفر كل الذنوب الصغائر، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر .
ثم قال: صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.. كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات، ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر" اهـ. المجموع (6/382).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وتكفير الطهارة، والصلاة وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصغائر فقط" . الفتاوى الكبرى (4/428).
قلت: ويدل لذلك ما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر" .
* ما ورد في الأمر بصيامه:
3- وعن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: " قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجّى اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" .
وفي رواية: " فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه" .
وفي رواية أخرى: " فنحن نصومه تعظيماً له" .
أخرجه البخاري (4/244) ح(2004) ، ومسلم (1130)، وأبو داود (2/426) (ح2444) ، وابن ماجه (1/552) ح(1734) ، والبيهقي (4/286).
وأخرجه أحمد (2/359) من حديث أبي هريرة وزاد: "وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي" وإسناده ضعيف، في إسناده عبدالصمد بن حبيب وهو ضعيف، وحبيب بن عبدالله وهو مجهول .
قال ابن كثير في تفسيره (2/448) - بعد أن أورده من هذا الوجه - : "وهذا حديث غريب من هذا الوجه" .
4- وعن الرُّبيع بنت معوِّذ رضي اللَّه عنها قالت: "أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان مفطراً فليتم بقية يومه، فكنّا بعد ذلك نصومه، ونصوِّمه صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم أعطيناها إياه، حتى يكون الإفطار" .
وفي رواية: " فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم".
أخرجه البخاري (4/200) (ح1960) ، ومسلم (1136) ، وأحمد (6/359) ، وابن حبان (8/385) (ح3620) ، والطبراني (24/275) (ح700) ، والبيهقي (4/288).
5- وعن سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أسلم: "أن أذِّن في الناس: من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم عاشوراء" .
أخرجه البخاري (4/245) (ح2007) ، ومسلم (1135) ، والنسائي (4/192) ، والدارمي (2/22) ، وابن خزيمة (2092) ، وابن حبان (8/384) (ح3619) ، والبيهقي (4/288) ، والبغوي في "شرح السنة" (1784).(/1)
6- وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: "كان يوم عاشوراء يوماً تعظّمه اليهود، وتتخذه عيداً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صوموه أنتم" .
وفي رواية لمسلم: " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : فصوموه أنتم".
أخرجه البخاري (4/244) (ح2005) ، ومسلم (1131).
قال النووي: " الشارة بالشين المعجمة بلا همز، وهي الهيئة الحسنة والجمال، أي يلبسونهم لباسهم الحسن الجميل" . شرح مسلم (8/10).
وقال ابن الأثير: " الشارة: الرواءُ والمنظر الحسن والزينة". جامع الأصول (6/308).
7- وعن محمد بن صيفي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء: " أمنكم أحد أكل اليوم، فقالوا: منا من صام، ومنا من لم يصم، قال: فأتموا بقية يومكم، وابعثوا إلى أهل العَروض فليتموا بقية يومهم".
أخرجه النسائي (4/192)، وابن ماجه (1/552) ، (ح1735)، وأحمد (4/388)، وابن خزيمة (2091) ، وابن حبان (8/382) (ح3617) .
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة " (2/30) : "إسناده صحيح" .
قلت: وهو كما قال.
- التخيير بين صيامه وإفطاره بعد فرض صيام شهر رمضان:
8- عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: " كان عاشوراء يصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر".
وفي رواية : " كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" .
أخرجه البخاري (4/244) (ح2001) ، (2002) ، ومسلم (1125) ، وأبو داود (2/326) (ح2442)، والترمذي (2/118) (ح753) ، ومالك في "الموطأ" (1/299) ، وأحمد (6/29، 50، 162) ، وابن خزيمة (2080).
9- وعن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: "كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية، فلما نزل رمضان قال: من شاء صامه، ومن شاء لم يصمه" .
وفي رواية : وكان عبد اللَّه لا يصومه إلا أن يوافق صومه.
وفي رواية لمسلم: " إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صامه، والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما افترض، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" .
وفي رواية له أيضاً : " فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه" .
أخرجه البخاري (4/102، 244) (ح1892) ، (2000) ، و(8/177) (ح4501)، ومسلم (1126) ، وأبو داود (2/326) (ح2443) ، وابن ماجه (1/553) (ح1737) ، والدارمي (1/448) (ح1711) ، وابن حبان (8/386) ، (ح3622) ، (3623) ، والبيهقي (4/290).
10- وعن عائشة رضي اللَّه عنها: " أن قريشاً كانت تصوم بصيامه، حتى فرض رمضان، فقال- صلى الله عليه وسلم -عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول اللَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره" .
وفي رواية للبخاري: " كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تستر فيه الكعبة.." .
أخرجه البخاري (4/102) (ح1893) ، و(4/244) (ح2002) ، و(3/454) (ح1592)، ومسلم (1125) ، وأبو داود (2/326) (ح2442)، والترمذي (2/118)، (ح753) ، والدارمي (1/449) (ح1712) ، ومالك في "الموطأ" (1/229) ، وأحمد (6/162، 244) ، وابن حبان (8/385) (ح3621) ، والبيهقي (4/288) ، والبغوي في "شرح السنة" (1702).
11- وعن حميد بن عبدالرحمن أنه سمع معاوية رضي اللَّه عنه يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب اللَّه عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر" .
أخرجه البخاري (4/244) (ح2003) ، ومسلم (1129) ، والنسائي (4/204) ، ومالك في "الموطأ" (1/299) ، وابن خزيمة (2085) ، وابن حبان (8/390) ، (ح3626) ، والطبراني (19/326) (ح744) ، والبيهقي (4/290)، والبغوي في "شرح السنة" (1785).
12- وعن علقمة بن قيس النخعي، أن الأشعث بن قيس دخل على عبدالله بن مسعود، وهو يطعم يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبدالرحمن ، إن اليوم يوم عاشوراء، فقال: "قد كان يُصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطراً فاطعم" .
وفي رواية لمسلم: " كان يوماً يصومه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان تركه" .
أخرجه البخاري (8/178) (ح5403) ومسلم (1127).
13- وعن جابر بن سمرة رضي اللَّه عنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده" .
أخرجه مسلم (1128) ، والطيالسي (1/106) (ح784) ، وأحمد (5/96، 105) ، وابن خزيمة (208) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/74)، والطبراني (1869) ، والبيهقي (4/265).(/2)
14- وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه قال: " أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان، لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله" .
أخرجه النسائي في "الكبرى" (2/158) (ح2841) ، وأحمد (3/421) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار (2/74).
وإسناده صحيح.
- تعليق:
قال ابن رجب رحمه اللَّه في "اللطائف" ص106: "فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه، فإن كان أمره صلى الله عليه وسلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب، فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء، وإن كان أمره للاستحباب المؤكد فقد قيل: إنه زال التأكيد وبقي أصل الاستحباب، ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله" .
وقال ابن حجر في الفتح (4/247): "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: " لما فرض رمضان ترك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه" اهـ.
- استحباب صوم يوم آخر معه مخالفة لأهل الكتاب:
15 - وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" .
وفي رواية قال: " حين صام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول اللَّه إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام القابل - إن شاء اللَّه - صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " .
أخرجه مسلم (1134) ، وأبو داود (2/327) (ح2445)، وأحمد (1/236)، وابن أبي شيبة (2/314)، (ح9381)، والطحاوي (2/78)، والطبراني (11/16)، (ح10891)، والبيهقي (4/287).
16- وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضاً ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً، أو بعده يوماً" .
أخرجه أحمد (1/241)، وابن خزيمة (2095)، والبيهقي (4/287) ، وابن عدي في "الكامل" (3/956)، من طريق هشيم بن بشير.
وأخرجه البزار (1052 - كشف الأستار) من طريق عيسى بن المختار، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/78) ، من طريق عمران بن أبي ليلى ، والحميدي (1/227)(ح485) ، وعنه البيهقي (4/287) من طريق سفيان بن عيينة.
أربعتهم عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن داود بن علي ، عن أبيه علي بن عبدالله بن عباس، عن جده رضي اللَّه عنه.
ولفظ عيسى بن المختار: " صوموا قبله يوماً وبعده يوماً " .
ولفظ سفيان بن عيينة: " لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو يوم بعده - يعني يوم عاشوراء -" .
وأخرجه ابن عدي (3/956) من طريق ابن حي، عن داود بن علي به، بلفظ: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن يوماً قبله، ويوماً بعده - يعني يوم عاشوراء".
قال البزار : " قد روي عن ابن عباس من غير هذا الوجه، ولا نعلم روى صوموا قبله يوماً وبعده، إلا داود بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس تفرد بها عن النبي صلى الله عليه وسلم " اهـ.
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/188) : " رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام" .
وقد ذكر ابن حجر الحديث في "التلخيص" (2/213) وسكت عنه.
قلت: الحديث إسناده ضعيف، لحال محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، فهو سيء الحفظ جداً، وقد ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغيرهما.
انظر: تهذيب الكمال (25/622) ، وميزان الاعتدال (3/ ترجمة 7825).
وفيه : داود بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، قال الذهبي: "ليس حديثه بحجة". المغني (1/219).
والحديث أورده ابن عدي في "الكامل" (3/956) ، في ترجمة داود بن علي بن عبدالله بن عباس مستنكراً له.
* وقد روي عن ابن عباس موقوفاً عليه:
فأخرجه عبد الرزاق (7839) ومن طريقه: البيهقي (4/287) ، والطحاوي في "شرح معاني الآثار " (2/78) ، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما بلفظ: "صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود" وإسناده صحيح، وقد صححه ابن رجب في "اللطائف" ص(108).
* وقد ذهب بعض الأئمة إلى العمل بهذا الحديث، واستحبوا صيام التاسع والعاشر، لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع.
قال في "المغني" (4/441) : "إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر لذلك - يعني عدم التشبه باليهود - نص عليه أحمد، وهو قول إسحاق"اهـ.
وقال أحمد في رواية الأثرم: " أنا أذهب في عاشوراء : أن يصام يوم التاسع والعاشر، لحديث ابن عباس" .(/3)
وبناء عليه فقد ذكر ابن القيم في "الزاد " (2/76) ، وابن حجر في "الفتح" (4/246) أن صيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
أكملها: أن يصام قبله يومٌ وبعده يوم.
ويليها: أن يصام التاسع والعاشر.
ويليها: إفراد العاشر وحده بالصوم.
قلت: أما الأولى وهي أن يصام قبله يوم وبعده يوم؛ فلم يثبت بها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً عليه.
لكن له أن يفعل ذلك لأحد أمرين:
إما أن يشك في دخول الشهر، فيصوم ثلاثة أيام احتياطاً، فقد روي عن الإمام أحمد أن قال: "فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر" . المغني (4/441).
وقد ذكر رجب في "اللطائف " ص109، أن ممن روى عنه فعل ذلك أبو إسحاق وابن سيرين، وأنهما إنما يفعلان ذلك عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطاً.
الحال الثانية: أن ينوي بصيامها مع صيام يوم عاشوراء، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لما ثبت في "الصحيحين" عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله" .
وقد نص الشافعي رحمه اللَّه في " الأم" على استحباب صيام ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر.
* وأما صيام التاسع مع العاشر، فهو الذي وردت به السنة كما تقدم ، قال ابن حجر رحمه اللَّه في "الفتح" (4/245) -في تعليقه على حديث : "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"- : "ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه ألا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح، وبه يشعر بعض روايات مسلم" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في "الفتاوى الكبرى" (2/259) : "نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله في عاشوراء: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" .
* وأما إفراد العاشر وحده بالصوم، فقد صرح الحنفية بكراهته. الموسوعة الفقهية (28/90).
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه : " ومقتضى كلام أحمد : أنه يكره الاقتصار على العاشر؛ لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء، واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه" . اقتضاء الصراط المستقيم (1/420).
وقال في موضع آخر: " صيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ولا يكره إفراده بالصوم" . الفتاوى الكبرى (4/461).
* أي يوم عاشوراء؟
قال النووي رحمه اللَّه : " عاشوراء وتاسوعاء اسمان ممدودان ، هذا هو المشهور في كتب اللغة، قال أصحابنا هو اليوم العاشر من المحرم، وتاسوعاء هو التاسع منه، وبه قال جمهور العلماء... وهو ظاهر الأحاديث، ومقتضى إطلاق اللفظ، وهو المعروف عند أهل اللغة" اهـ. المجموع (6/383).
وقال ابن المنير: " الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر اللَّه المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية" الفتح (4/245).
قلت: لكن ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ما يخالف ذلك:
17- عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وهو متوسِّد رداءه عند زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء، فقال: "إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائماً، قلت: هكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم" .
أخرجه مسلم (1133)، وأبو دواد (2/327) (ح2446) ، والترمذي (2/119) (ح754) ، وأحمد (1/239، 280) ، وابن خزيمة (2098) ، والطحاوي (2/75) ، وابن حبان (8/395) (ح3633) ، والبيهقي (4/287).
فهذا الحديث يدل على أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم.
لكن أجاب ابن القيم رحمه اللَّه في "الزاد" (2/75) عن ذلك بقوله: "من تأمل مجموع روايات ابن عباس، تبين له زوال الإشكال، وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع، بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فِعل ذلك هو الأولى، وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به، وعزق عليه في المستقبل، ويدل على ذلك أنه هو الذي روى: "صوموا يوماً قبله ويوماً بعده" ، وهو الذي روى: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر. وكل هذه الآثار عنه يصدّق بعضها بعضاً، ويؤيد بعضها بعضاً" اهـ.
قلت: تقدم أن حديث " صوموا يوماً قبله ويوماً بعده" لا يصح مرفوعاً .
وقال في "تهذيب السنن" (3/324) - عن قوله " هكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصومه " -: " وصدق رضي اللَّه عنه ، هكذا كان يصومه لو بقي .." .
خاتمة :(/4)
اعلم أنه لم يصح في فضل التوسعة على العيال في هذا اليوم حديث ، وقد أنكر شيخ الإسلام وغيره ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من وسَّع على أهله في يوم عاشوراء وسع اللَّه عليه سائر سنته" .
كما أن ما يفعله بعض الطوائف المنحرفة من إظهار الحزن فيه والمآتم بدعة وضلالة . والله الموفق .(/5)
الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية
الصفحة 1 لـ 6
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً- أما بعد :
فعملاً بواجب النصح لله - عز وجل -ولكتابه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ أتوجه ببعض الوصايا إلى المسلمين في كل مكان، والدافع إلى توجيهها ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من محنة عصيبة وخطر داهم من قبل أعداء الملة والمسلمين بقيادة طاغوت العصر المتغطرس أمريكا وحلفائها، والذين رموا الأمة المسلمة عن قوس واحدة يريدون بها الشر ومزيداً من التفتت والتفرق والنيل من دينها ودعاتها وثرواتها وتغريبها وإقصاء ما بقي فيها من شرائع الدين وشعائره، وهذا تأويل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ. قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
معاشر المسلمين:
لقد اقتضت حكمة الله - عز وجل -أن يوجد الصراع بين الحق والباطل على هذه الأرض منذ أن أُهبط آدم -عليه السلام- وإبليس اللعين إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، وقد جعل الله - عز وجل - لهذا الصراع والمدافعة سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل (( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر: من الآية43).
ولا تظهر هذه السنن إلا لمن تدبر كتاب الله - عز وجل - واهتدى بنوره وهداه (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (صّ: 29) .
ومن سنن الله - عز وجل -في إهلاكه للأمم أو نجاتهم في هذا الصراع؛ ما قصه الله -تعالى- علينا في كتابه الكريم من إهلاكه للأمم الكافرة وإنجائه لأنبيائه وأوليائه الصالحين، حيث يلفت الله - عز وجل - أنظار المؤمنين إلى سننه - عز وجل -في الإهلاك والإنجاء، بقوله -تعالى-: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (آل عمران: 137) .
ومن ذلك قوله - تعالى - بعد أن قص علينا قصص بعض أنبيائه في سورة هود (( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (هود: 116، 117) ، وقوله - عز وجل - : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال: 53).
يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يخبر -تعالى- عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه -تعالى- لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه" ا.هـ. ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- أيضاً عند هذه الآية: "فأخبر الله -تعالى- أنه لا يغير النعمة التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيّر غُّير عليه جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، فإن غيّر المعصية بالطاعة غيّر الله العقوبة بالعافية، والذل بالعز وقال –تعالى-: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11).
فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، وما حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ". وقد قال - تعالى- : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى: 30]) ا.هـ (الجواب الكافي ص 105).(/1)
وقال في موطن آخر: " ومن عقوباتها – أي : المعاصي –أنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فتزيل الحاصل وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته، ولا استجلب مفقدوها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله -سبحانه- لكل شيء سبباً وآفة، سبباً يجلبه، وآفة تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله، كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا الأمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه، فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا فالحكم لله العلي الكبير" ا.هـ (الجواب الكافي ص:145 (
أيها المسلمون :
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا طاعته، وسننه -سبحانه- في المعرضين عن طاعته معروفة ومطردة، قال - تعالى-: (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر:51) ،
وقال -سبحانه-: (( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)) (القمر:43) .
فما أهون الخلق على الله - عز وجل-إذا بارزوه بالمعصية. عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فٌرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض. فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله - عز وجل - إذا أضاعوا أمره : بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
أيها المسلمون :
إن الأمة تمر بنازلة عظيمة وأيام عصيبة، فهي على ضعفها وذلها ومهانتها، قد سلط الله -سبحانه- عليها أعداءها من اليهود والصليبيين والمنافقين وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم وطائراتهم وأساطيلهم. فهم من كل حدب ينسلون، وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم يريدونها في دينها وثرواتها وتمزيق ما بقي من وحدتها (( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: من الآية21)، (( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (آل عمران: من الآية117).
وإن الناظر إلى هذه الأحداث الجسيمة والنوازل العظيمة التي أحاطت بالمسلمين اليوم لا يستغرب حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يعتصم بكتاب الله - عز وجل -وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله - عز وجل - التي لا تتبدل ؛ والتي أشرنا إلى بعضها فيما سبق. ويكفي أن ننظر إلى أحوالنا ومدى قربها وبعدها عن الله - عز وجل - لندرك أن سنة الله - عز وجل - في من أعرض عن طاعته وأمره قد انعقدت أسبابها علينا، إلا أن يرحمنا الله -عز وجل -، ويرزقنا التوبة والإنابة والاستكانة والتضرع إليه -سبحانه-.
يا معشر المسلمين :
إن الخطب جد خطير، وإن عقاب الله - عز وجل - لا يستدفع إلا بتوبة وإنابة، فالبدار البدار، فإن أسباب العقوبة قد انعقدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد رفع الله - عز وجل -العذاب عن أمة رأت بوادره بتوبتها وإيمانها ورجوعها إلى طاعة الله - عز وجل - قال الله - تعالى-: (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)) (يونس: 98).(/2)
إن أحوال الأمة وما حل فيه من معاصي الله - تعالى- ومساخطه لتنذر بالخطر، فلقد ضل كثير من الناس عن أصل هذا الدين وأساسه المتين ألا وهو التوحيد والموالاة والمعاداة فيه، وأصبح الكفرة المحاربون يجوسون خلال الديار وتقدم لهم المعونات والتسهيلات لحرب المسلمين وأوذي أولياء الله ودعاته المصلحون مع أن في ذلك إيذاناً بالحرب من الله القوي العزيز، حيث جاء في الحديث القدسي (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) وضرب الشرك الأكبر من دعاء الأموات والسحر والشعوذة بأطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأبعد شرع الله – تعالى- وحكمت قوانين البشر، وتساهل كثير من الناس بشأن الصلاة والزكاة وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ووقع بعض المسلمين في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، وظلم العباد وفشا الربا الخبيث في معاملات كثيرة بين المسلمين، ووقع بعض المسلمين في تعاطي المسكرات والمخدرات، وكثر الغش في المعاملات، ووجد بين المسؤولين من يبخس الناس حقوقهم ويأكل أموالهم بالباطل و يتعاطى الرشوة والتي لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الساعي فيها ودافعها وآخذها - وكثر الفجور في الخصومات والزور في الشهادات، وبعض النساء يتساهلن بالحجاب، ويتبرجن بزينة الثياب، وانتشر الزنا والخبث وكثرة وسائله الخبيثة الماكرة من قنوات ومجلات خليعة تدعو إلى الفاحشة وتحببها في النفوس وتزينها، وامتلأت بيوت المسلمين من الفضائيات التي تنشر العفن والفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولما سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري .
وما أصدق ما قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى- على واقعنا اليوم وهو يصف زمانه، فكيف لو رأى زماننا ؟ !!.
قال - رحمه الله تعالى- : ( لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى عليها الصغير، وهرم عليها الكبير. فلم يروها منكراً، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى والمنكر مقام المعروف والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور. اقشعرت الأرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الفوائد ص 49].(/3)
الأحرف المقطعة في القرآن ؟
عبد الله بن محمد زقيل
عندي سؤال مهم جداً وأريد الإجابة عليه فورا لان بيني وبين رافضي مشادة حول أن ((طه)) و ((يس)) من أسماء النبي صلى عليه وسلم هل هذا الكلام صحيح وذكر في التفاسير وما يكون تفسير الكافي هذا... وجزاكم الله خير
الجواب:
أخي
ما سألت عنه - أي " طه " و " يس " - هي أحرف مقطعة مثلها مثل " ألم " و " حم " وغيرها من الأحرف المقطعة التي ورد ذكرها في كتاب الله.
قال ابن كثير عند سرده للأقوال في معنى الحروف المقطعة:... وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوف فِي أَوَائِل السُّوَر الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآن وَأَنَّ الْخَلْق عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَته بِمِثْلِهِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُرَكَّب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ الْمُبَرِّد وَجَمْع مِنْ الْمُحَقِّقِينَ وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْفَرَّاء وَقُطْرُب نَحْو هَذَا وَقَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كَشَّافه وَنَصَرَهُ أَتَمَّ نَصْر وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخ الْإِمَام الْعَلَّامَة أَبُو الْعَبَّاس اِبْن تَيْمِيَة وَشَيْخنَا الْحَافِظ الْمُجْتَهِد أَبُو الْحَجَّاج الْمِزِّيّ وَحَكَاهُ لِي عَنْ اِبْن تَيْمِيَة.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَلَمْ تَرِد كُلّهَا مَجْمُوعَة فِي أَوَّل الْقُرْآن وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي التَّحَدِّي وَالتَّبْكِيت كَمَا كُرِّرَتْ قِصَص كَثِيرَة وَكُرِّرَ التَّحَدِّي بِالصَّرِيحِ فِي أَمَاكِن قَالَ وَجَاءَ مِنْهَا عَلَى حَرْف وَاحِد كَقَوْلِهِ - ص ن ق - وَحَرْفَيْنِ مِثْل" حم " وَثَلَاثَة مِثْل " الم " وَأَرْبَعَة مِثْل " المر " وَ " المص" وَخَمْسَة مِثْل " كهيعص - وَ - حم عسق " لِأَنَّ أَسَالِيب كَلَامهمْ عَلَى هَذَا مِنْ الْكَلِمَات مَا هُوَ عَلَى حَرْف وَعَلَى حَرْفَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَة وَعَلَى أَرْبَعَة وَعَلَى خَمْسَة لَا أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ".
قُلْت: " وَلِهَذَا كُلّ سُورَة اُفْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ فَلَا بُدّ أَنْ يُذْكَر فِيهَا الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ وَبَيَان إِعْجَازه وَعَظَمَته وَهَذَا مَعْلُوم بِالِاسْتِقْرَاءِ وَهُوَ الْوَاقِع فِي تِسْع وَعِشْرِينَ سُورَة وَلِهَذَا يَقُول - تعالى -" الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ " " الم اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ" " المص كِتَاب أُنْزِلَ إِلَيْك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك حَرَج مِنْهُ" " الر كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك لِتُخْرِج النَّاس مِنْ الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذْنِ رَبّهمْ " " الم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ " " حم تَنْزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم" " حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى صِحَّة مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَر وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما قول الرافضي أنها من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قال به بعض أهل السنة ولكنه قول لا دليل عليه بل هو مردود فقد ذكر الله اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحا في القرآن فقال - تعالى -: " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ " [آل عمران: 144] فهل يعجز ربنا - تبارك وتعالى - عن التصريح بأنها أسماء للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ - تعالى -الله عن ذلك علوا كبيرا.
http://saaid.net المصدر:(/1)
الأحكام الشرعية للنعل والانتعال ...
سوف نتكلم عن بعض الأحكام والآداب الشرعية المتعلقة بالنعل والانتعال والتي نوردها فيما يلي :
أولاً : لبس النعال عبادة من العبادات :
يجهل الكثير من المسلمين أن لبس النعال قربة إلى الله جل وعلا وعبادة من العبادات ، فقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإكثار من لبس النعال في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل " ، وقد بوب الإمام النووي - رحمه الله - باباً سمّاه : " استحباب لبس النعال وما في معناها " وقال في شرحه للحديث السالف : " معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه ، وقلة تعبه ، وسلامة رجله ممّا يعرض في الطريق من خشونة وشوك وأذى ، وفيه استحباب الاستظهار في السفر بالنعال وغيرها مما يحتاج إليه المسافر " ا.هـ.
وقد قال ابن العربي - رحمه الله - : " النعال لباس الأنبياء " ، وقد جاء هذا الدين الحنيف بكل ما فيه صلاح البلاد والعباد ، فقد أمرنا عليه الصلاة والسلام بكثرة الانتعال ، لدفع المشقة والأذى ، ولحصول السلامة للقدمين .
ثانياً : استحباب الدعاء عند لبس الجديد من النعال :
بوب الإمام النووي في رياض الصالحين باباً فقال : " باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه " ثم ساق حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجد ثوباً سماه باسمه - عمامة أو قميصاً أو رداء - يقول : " اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " وصححه الألباني - رحمه الله - .
ثالثاً : استحباب البدء باليمين عند لبس النعال والخلع بالشمال :
يستحب للمرء أن يبدأ برجله اليمنى عن لبسه النعال،,إذا نزعها أن يبدأ بالشمال،قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إذا انتعل أحدكم فليبدء باليمين وإذا نزعها فليبدأ بالشمال لتكن أولها تنعل وآخرهما تنزع"
قال النووي - رحمه الله - :"يستحب البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والزينة والنظافة ونحو ذلك،كلبس النعل والخف والمداس والسراويل والكم وحلق الرأس وترجيله،وقص الشارب ونتف الإبط والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر،والوضوء والغسل والتيمم ودخول المسجد،والخروج من الخلاء،ودفع الصدقة وغيرها من أنواع الدفع الحسنة وتناول الأشياء الحسنة ونحو ذلك،ويستحب البداءة باليسار في كل ما ضد السابق،فمن خلع النعل والخف والمداس والسراويل والكم،والخروج من المسجد والاستنجاء،وتناول أحجار الاستنجاء،ومس الذكر،والامتخاط والاستنثار،وتعاطي المستقذرات وأشباهها "
قلت: أمره - صلى الله عليه وسلم - البداءة باليمين مستحب وليس واجباً،مع أن ظاهر النص يفيد الوجوب،لكنّ الإجماع صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب كما ذكر ذلك النووي - رحمه الله - في "شرح مسلم" .
رابعاً : استحباب الصلاة في النعال :
من السنن المهجورة الصلاة في النعلين، وقد تواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في نعليه،وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة في النعلين،فقد سئل أنس بن مالك - رضي الله عنه - :"أكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟قال:نعم"،وقال - صلى الله عليه وسلم - :"خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم"
قلت: الصلاة بالنعال مشروعة ولكن ينبغي على المرء أن لا يصلي في نعاله في حالتين :
الحالة الأولى : إن أدت الصلاة في النعال إلى مفسدة أو خصام و تنافر للقلوب بين المصلين،فإنه من الأفضل عدم الصلاة في النعال إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، ،فينبغي على المرء فعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف، خاصة إذا كان غير مطاع في قومه ،والتأليف بين القلوب مصلحة راجحة على مصلحة الصلاة في النعلين،قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"لذلك استحب الأئمة كأحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل،إذا كان فيه تأليف المأمومين،مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل،بأن يسلم في الشفع،ثم يصلي ركعة الوتر،وهو يؤم قوماً لا يرون إلا وصل الوتر،فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل،كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتم للصلاة خلفه،وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل،أو الجهر بها،وكان المأمومون على خلاف رأيه"(/1)
الحالة الثانية : ألا يكون المسجد مفروشاً بالسجاد ،قال الشيخ الألباني - رحمه الله - :"وقد نصحت إخواننا السلفيين بالمدينة الذين يعرفون بسكان الحرة أن لا يتشددوا في هذه المسألة - أي الصلاة بالنعال في المساجد - لما هناك من فارق بين المساجد اليوم المفروشة بالسجاد الفاخر،وبين ما كان عليه المسجد النبوي في زمنه الأول،وقد قرنت لهم ذلك بمثل من السنة في قصة أخرى ذكرتهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر من بادره بالبصاق أو المخاط وهو يصلي أن يبصق عن يساره أو تحت قدميه،وهذا أمر واضح أن هذا يتماشى مع كون الأرض أرض المسجد التي سيضطر للبصاق فيها من الرمل أو الحصباء،فاليوم المصلى مسجد مفروش بالسجاد فهل يقولون أنه يجوز أن يبصق على السجاد فهذه كتلك"
خامساً : مشروعية المسح على النعال :
قال الألباني - رحمه الله -:"أما المسح على النعلين،فقد اشتهر بين العلماء المتأخرين أنه لا يجوز المسح على النعلين،ولا نعلم لهم دليلاً "
وقد صحح الترمذي المسح على الجوربين والنعلين،وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة،وحسنه أيضا من حديث الضحاك عن أبي موسى ،وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس،وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية،وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب جيد، وقال أبو بكر البزار:ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا روح بن عبادة عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر:كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما،ويقول:كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل وصححه ابن القطان.
وقال الألباني - رحمه الله - : وإذا عرفت هذا، فلا يجوز التردد في قبول هذه الرخصة بعد ثبوت الحديث بها... لا سيما بعد جريان عمل الصحابة بها،وفي مقدمتهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما تقدم،وهو مما ذهب إليه بعض الأئمة من السلف الصالح - رضي الله عنهم أجمعين"
سادساً : كيفية تطهير النعلين لمن أراد الصلاة فيهما :
إذا أتى المرء إلى المسجد فعليه أن ينظر في نعليه فإن رأى فيهما وسخ أو أذى فليمسحهما في الأرض فإنه تطهير لهما،لقوله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما"
سابعاً : موضع النعلين إذا لم يصل فيهما :
إذا أراد المصلي أن يصلي في غير نعليه فإنه يضع نعليه تحت رجليه،أو عن يساره إن لم يكن عن يساره أحد،فإن كان عن يساره مصلي فيضعهما تحت رجليه،أو خلفه إن لم يكن خلفه أحد،ولا ينبغي للمصلي أن يضع نعليه عن يمينه أو قدامه اتباعاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه"
وقال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح":"وفي رواية بأن لا يضعهما عن يمينه أو قدامه وليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما... وقال العراقي هذا حديث صحيح الإسناد... وقال أيضاً: ولم يقل :"أو خلفه" لئلا يقع قدام غيره أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق"
ثامناً : من أخذت نعله ووجد غيرها :
قال ابن قدامة - رحمه الله - في "الشرح الكبير":"ومن أخذت ثيابه في الحمام ووجد بدلها،أو أخذ مداسه وترك له بدله لم يملكه بذلك... فإن كانت ثم قرينة تدل على السرقة بأن تكون ثيابه أو مداسه خيراً من المتروك له وكانت ممّا لا يشتبه على الآخذ بثيابه ومداسه فلا حاجة إلى التعريف،لأن التعريف إنما جعل على المال الضائع من ربه ليعلم به ويأخذه،وتارك هذا عالم به راض ببذله عوضاً عما أخذه ولا يعترف أنه له فلا يحصل من تعريفه فائدة،... وفيما يصنع به ثلاثة أوجه:أحدها: يتصدق به على ما ذكرنا،والثاني: أنه يباح له أخذها لأن صاحبها في الظاهر تركها له بادلاً إياها عوضاً عما أخذه فصار كالمبيح له أخذها بلسانه،فصار كمن قهر إنساناً على أخذ ثوبه ودفع إليه درهماً،والثالث: يرفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها عوضاً عن ماله،والوجه الثاني أقرب إلى الرفق بالناس،لأ، فيه نفعاً لمن سرقت ثيابه بحصول عوض عنها،ونفعاً للسارق بالتخفيف عنه من الإثم وحفظاً لهذه الثياب المتروكة من الضياع.(/2)
وقد أباح بعض أهل العلم فيمن له على إنسان حق من دين أو غصب أن يأخذ من ماله بقدر حقه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك،فههنا مع رضا من عليه الحق يأخذه أولى،وإن كانت ثم قرينة على أن الآخذ للثياب إنما أخذها ظنا منه أنها ثيابه،مثل أن تكون المتروكة مثل المأخوذة أو خيراً منها،وهي ما تشتبه بها فينبغي أن يعرفها ههنا،لأن صاحبها لم يتركها عمداً فهي بمنزلة الضائعة،والظاهر أنه إذا علم بها أخذها ورد ما كان أخذه فتصير كاللقطة في المعنى،وبعد التعريف إذا لم تعرف ففيها الأوجه الثلاثة المذكورة إلا أننا إذا قلنا يأخذها أو يبيعها الحاكم ويدفع إليه ثمنها،فإنما يأخذ بقدر قيمة ثيابه من غير زيادة،لأن الزائد فاضل عما يستحقه ولم يرض صاحبها بتركها عوضاً عما أخذه،فإنه لم يأخذ غيرها اختياراً منه لتركها ولا رضى بالمعاوضة بها،وإذا قلنا إنه يدفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها فله أن يشتريها بثمن في ذمته،ويسقط عنه من ثمنها ما قابل ثيابه ويتصدق بالباقي"
تاسعا : يشرع لمن دخل المقابر خلع نعليه :
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية:هل خلع النعال في المقابر من السنة أم بدعة ؟ فأجابت :" يشرع لمن دخل المقبرة خلع نعليه،لما روى بشير بن الخصاصية قال:"بينا أنا أماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رجل يمشي في القبور وعليه نعلان،فقال:يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك" فنظر الرجل،فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما"رواه أبو داود،وقال أحمد:إسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد،أذهب إليه إلا من علة،والعلة التي أشار إليها أحمد - رحمه الله - كالشوك والرمضاء ونحوهما،فلا بأس بالمشي فيهما بين القبور لتوقي الأذى"
قلت :السبت بالكسر،جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال سميت بذلك لأن شعرها سبت عنها أي حلق وأزيل.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى جواز المشي في المقبرة بالنعال،منهم النسائي وابن حزم - رحمهما الله -، لحديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه صاحبه وإنه ليسمع قرع نعالهم" ، وقال بعض أهل العلم:بأن النعال السبتية خاصة بأهل الفخر والفخر.
قلت:وهذا القول ليس بجيد،فأما استدلالهم بأن الميت يسمع قرع نعال المشيعين فهذا دلالة مفهوم،بينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحب السبتيتين [ان ينزعهما دلالة منطوق،والمنطوق يقدم على المفهوم،أما كون النعال السبتية خاصة لأهل الفخر فهذا القول كذلك ضعيف،إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه لبسها،فعن عبد الله بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - :"رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال :ما هي يا ابن جريج؟...وفيه : "رأيتك تلبس النعال السبتية فقال:أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال السبتية التي فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها"
عاشراً : من أزال نعلاً من موضع ووضعه بموضع آخر ضمنه إن فقد :
يجب على المرء إن دخل مسجداً ووجد نعلاً قد وُضِعت في مكان ما ثم أزال هذه النعل ووضع نعله مكانها أن يضمن النعل،لأنه لا يحق له إزاحتها ولكنه إن فعل فيجب عليه أن لا يضيع حقوق الآخرين،وأن يحفظها أو يضعها في مكان آمن،قال العلامة الوزاني المالكي - رحمه الله - :"من أزال نعلاً من موضع ووضعه بآخر ضمنه،لأنه لما نقله وجب عليه حفظه"
الحادي عشر : النهي عن المشي في نعل واحدة إذا انقطعت إحداهما :
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المشي في نعل واحدة إذا انقطعت إحداهما حتى يصلحها،وقد أجمع العلماء على أن النهي للكراهة وليس للتحريم،فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا انقطع شِسْعُ أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها"،قال النووي - رحمه الله - :"وسببه أن ذلك تشويه ومثلة ومخالف للوقار،ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً للعثار".
قلت : قوله - صلى الله عليه وسلم - :"لا يمش" فهم منه بعض أهل العلم جواز الوقوف بنعل واحدة إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى صلاحها،فنقل القاضي عياض عن الإمام مالك أنه قال:"يخلع الأخرى ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها،مما يضر فيه المشي حتى يصلحها أو يمشي حافياً إن لم يكن ذلك"قال ابن عبد البر:هذا هو الصحيح في الفتوى والأثر، وعليه العلماء"
قلت : ويكره كذلك المشي في نعلين مختلفين ذكره ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية .(/3)
فائدة : النهي عن المشي في نعل واحدة قد يدخل فيه كل لباس شفع،كإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى،كمن يلبس عباءة أو ما يسمى عند أهل الخليج "البشت"،فيخرج يده من الكم دون الأخرى،وينبغي على المرء ألا يفعل ذلك تركاً للشهرة وعدلاً بين الجوارح،قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -:"قد يدخل في هذا كل لباس شفع كالخفين،وإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى،وللتردي على أحد المنكبين دون الآخر،قاله الخطابي"
الثاني عشر : النهي عن الانتعال قائماً إذا كان في لبسها تعب أو مشقة:
أخرج أبو داود في سننه من حديث جابر قال:"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتعل الرجل قائماً"
قال الخطابي:"إنما نهى عن لبس النعل قائماً لأن لبسها قاعداً أسهل عليه وأمكن له،وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً،فأمر بالقعود له والاستعانة باليد فيه ليأمن غائلته"
قال المناوي:"والأمر للإرشاد لأن لبسها قاعداً أسهل وأمكن،ومنه أخذ الطيبي وغيره تخصيص النهي بما في لبسه قائماً تعب "
الثالث عشر : عدم جواز وضع المصحف على النعل حتى لو كان نظيفاً لم يلبس :
يجب على المرء أن يحترم كتاب الله جل وعلا،فهذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن من احترام القرآن حفظه وتلاوة آياته،وتدبره وفهم معانيه،وصيانته من الامتهان وعدم الاحترام .
وقد نص بعض أهل العلم على أن من امتهان المصحف وعدم احترامه،وضعه على نعل نظيف حتى لو لم يلبس،وقد نقل الوزاني في نوازله عن الشافعية قولهم بأنه:"لا يجوز وضع مصحف على نعل نظيف لم يلبس،لأن به نوع استهانة وقلة احترام"
الرابع عشر : جواز لبس المؤذن النعال أثناء الأذان :
سئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن قيام أحد المؤذنين بالأذان والنعال في قدميه،خاصة وأنه قد اعترض كثير من الإخوان لما رأوا المؤذن يؤذن وهو منتعل،فأجاب - رحمه الله - :"لا مانع من لبس النعال وقت الأذان،وحتى في الصلاة،لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -" صلى في نعليه"،غير أنه ينبغي على المؤذن والمصلي أن يتأكد قبل دخول المسجد من طهارة نعليه،وطهارتها كما هو معلوم دلكها بالأرض،وأما الذين اعترضوا فلا علم لديهم،ولا يجوز لهم الخوض فيما لا علم لهم به"
النعال المحرمة والتي لا يجوز لبسها :
يكون لبس النعل محرما في صور وأنواع متعددة والتي من أهمها ما يلي :
• أ : إذا قصد بلبسها الكبر :
الكبر صفة كمال لله جل وعلا،فلا يجوز لأحد من الخلق أن ينازع الله في صفاته،فقد أخرج مسلم في صحيحه عن رب العزة جل وعلا قال:"الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار"،وتوعد الله المتكبرين بصنوف من العذاب في الدنيا والآخرة،فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه،مرجل جمته،إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة"
قلت:النعل أو الثوب الحسن نفيس أو غير نفيس لا يعد من الكبر الذي تُوعد صاحبه،والذم يقع على من كان في قلبه الكبر، والعجب بالنفس والهيئة والبطر،قال ابن حجر - رحمه الله -:"والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضراً لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله،لا يضره ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة،ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود :"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر،فقال رجل:إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال :إن الله جميل يحب الجمال،الكبر بطر الحق وغمط الناس"
• ب : إذا كان في لبسها شهرة :
يحرم لباس النعل لقصد الاشتهار ولمخالفته الناس وليشار إليه بالبنان،فقد تسابق الناس في هذا الزمان إلى لبس النعل والملابس النفيسة بقصد لفت أنظار الناس إليهم،واشتهارهم بينهم مع الكبر والترفع عليهم،جاهلين أو متجاهلين قوله - صلى الله عليه وسلم -:"من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة"
قال ابن الأثير:"الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع إليه أبصارهم،ويختال عليهم بالعجب والتكبر"
وقال الشوكاني في النيل:"إذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف،لأن التحريم يدور مع الاشتهار،والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع"
وثوب الشهرة قد يكون بالوضيع من الثياب أو النعال،كمن يلبس رديء الثياب والنعل ليعتقد الناس فيه الزهد والورع،قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة،والمنخفض الخارج عن العادة،فإن السلف يكرهون الشهرتين،المترفع والمتخفض،وفي الحديث"من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة" وخيار الأمور أواسطها"
• ج : إذا كانت النعل مصنوعة من جلود السباع فلبسها محرم :(/4)
إذا كانت النعل من جلود السباع أو كان فيها شيء من جلود السباع فيحرم لبسها على الذكور والإناث،لحديث خالد قال وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية،فقال:أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن لبوس جلود السباع والركوب عليها قال:نعم"،ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تصحب الملائكة رُفقةً فيها جلد نمر"
قال القاضي من الحنابلة:"لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدبغ ولا بعده،وبذلك قال الأوزاعي ويزيد بن هارون وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور"
قال الإمام الترمذي في جامعه:"وكره بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم جلود السباع،وشددوا في لبسها والصلاة فيها،ثم قال الترمذي:وكره ابن المبارك وأحمد وإسحاق والحميدي الصلاة في جلود السباع"
قلت:ولا يفهم من قولهم الكراهة نفي التحريم،فإن المتقدمين إذا أطلقوا لفظ الكراهة فإنما يعنون في الغالب التحريم،قال ابن القيم - رحمه الله -:"وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك،حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم،وأطلقوا لفظ الكراهة،فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة،...ثم قال ابن القيم:"وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله:ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة،ومذهبه لا يجوز"
وقد اختلف أهل العلم في ذكر الحكمة من النهي،فذهب بعضهم إلى أن النهي بسبب ما يقع على هذه الحيوانات من الشعر،لأن الدباغ لا يؤثر فيه،وقال بعضهم:يحتمل أن النهي لأجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء،وعلى المسلم أن يتقي ربه وأن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وفي المباح والحلال مندوحة عن ارتكاب المعاصي،ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
• د : أن يكون فيها الذهب أوالحرير :
يحرم لباس النعل على الرجال إن كان فيها ذهب أو حرير،فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه :"أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال:إن هذين حرام على ذكور أمتي"
• هـ يحرم لباس النعل التي فيها ضرر على الإنسان :
يحرم لبس النعل التي فيها ضرر على النفس،كالكعب العالي،وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم لبس الكعب العالي،فأجابت بأن:"لبس الكعب العالي لا يجوز لأنه يعرض المرأة للسقوط،والإنسان مأمور شرعاً بتجنب الأخطار،بمثل قوله تعالى{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}وقوله{ولا تقتلوا أنفسكم}،كما أنه يظهر قامة المرأة وعجيزتها بأكثر مما هي عليه،وفي هذا تدليس وإبداء لبعض الزينة التي نهيت عن إبدائها المرأة المؤمنة بقول الله عز وجل {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن }"
• و : لبس الرجال نعل النساء ولبس النساء نعل الرجال :
يحرم على النساء التشبه بالرجال،ويحرم على الرجال التشبه بالنساء،فلا يجوز للرجال لبس النعال الخاصة بالنساء،ويحرم على النساء أن يلبسن النعال الخاصة بالرجال،ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من الكبائر،فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك،كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه -:"لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل"
أخطاء شائعة لدى بعض الناس :
أولا : اعتقاد بعض الناس بأن قلب النعل وجعل عاليها سافلها أمر محرم ولا يجوز،وهذا اعتقاد خاطئ وقول على الله بغير علم،فمن قال بالكراهة أو التحريم فعليه بالدليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،أو مما قاله سلف هذه الأئمة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم بإحسان ، والعلم الشرعي لا يأتي بالظن والوساوس ، والقول على الله بغير علم كبيرة من الكبائر،وقد قرنه الله تعالى بالشرك به،قال عز من قائل{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}(/5)
ثانياً : يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير ، فترى بعض الجهلاء يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله ، حتى يتحقق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : " أجرك على قدر نصبك " ، ولحديث جابر في صحيح البخاري قال :" خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، فقالوا : نعم يا رسول الله ، قد أردنا ذلك . فقال : بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم - وفي رواية فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا " ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته ، بالاحتفاء وعدم لبس النعال ، في الحديث الذي يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - وصححه العلامة المحدث الألباني في الصحيحة :" أمرنا أن نحتفي أحياناً " والأمر يقتضي الوجوب ، وبمعنى آخر أن من لم يحتف أحياناً فإنه يستحق الإثم لمخالفته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الجواب :
أما تقصد المشقة فالرد عليه كما يلي :
أولاً : لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة ، التي لم يشرعها الله ورسوله ، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " هلك المتنطعون " وقال : " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه … " ثم قال - رحمه الله - : " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة … فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة ، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله ، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا ، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم "
ثانياً : النيات في العبادات معتبرة في الشرع ، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع ، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله : " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه ، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " وقال أيضا : " ونهيه عن التشديد - أي النبي عليه الصلاة والسلام - شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلاً قطعياً ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح ، هذا واضح وبالله التوفيق "
ثالثاً : باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات ، لقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ، وقوله { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } ، وقوله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله { يريد الله أن يخفف عنكم } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت بالحنيفية السمحة " " وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "
رابعاً : لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص ، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به ، ومعلوم من الدين بالضرورة ، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين ، كرخص القصر ، والفطر والجمع بين الصلاتين .
خامساً : ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله ، لقوله تعالى { وما أنا من المتكلفين } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا " .(/6)
سادساً : نقل الإمام الشاطبي الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة .
سابعاً : لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف ، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير ، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها ، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية ، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً ، ونبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال : " القصد القصد تبلغوا " لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التنطع وقال : " هلك المتنطعون "
أما استدلالهم بحديث : " بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين :
الوجه الأول : قال الإمام الشاطبي : " إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات ، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات "
الوجه الثاني : الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة ، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه - صلى الله عليه وسلم - : " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك ، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها "
لذلك فلا حجة لمن تعلق بهذا الحديث واستدل به على تقصد المشقة في العبادات والله أعلم .
أما احتجاجهم بحديث أمرنا أن نحتفي أحيانأ فالحديث لا يصح ،وبيان ذلك كما يلي :
عن عبد الله بن بريدة ، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له فقال : إني لم آتك زائرا ، إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم ، فرآه شعثا فقال : مالي أراك شعثا وأنت أمير البلد فقال
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه "
ورآه حافيا فقال : مالي أراك حافيا قال :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحيانا "
قلت : الحديث صححه الشيخ الألباني حفظه الله في الصحيحة (2/4) وقال : " هذا إسناد صحيح أيضا على شرط الشيخين "وليس عند النسائي الأمر بالاحتفاء .
والحديث أخرجه أحمد 6/22 . وأبو داود (4160) قال : ثنا الحسن بن علي . كلاهما ( أحمد بن حنبل ، والحسن بن علي ) عن يزيد بن هارون قال : أخبرني الجريري عن عبد الله بن بريدة فذكره .
أخرجه النسائي 8/185 قال : نا يعقوب بن إبراهيم ثنا ابن علية عن الجريري عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له عبيد قال :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الإرفاه "
سئل ابن بريدة عن الإرفاه قال : منه الترجل .
قال المزي رحمه الله وهو وهم والصواب فضالة بن عبيد " تحفة الأشراف 7/226)
قلت : الجريري هو سعيد بن إياس قال عنه الحافظ في التقريب : "ثقة من الخامسة اختلط قبل موته بثلاث سنين " وذكره العجلي في ثقاته ص181 وقال ثقة واختلط بآخره روى عنه في الاختلاط : يزيد بن هارون وابن المبارك وبن أبي عدي وكلما روى عنه مثل هؤلاء فهو مختلط ، إنما الصحيح عنه : حماد بن سلمة وإسماعيل بن علية " .
فرواية أمرنا أن نحتفي أحيانا من طريق يزيد بن هارون عن الجريري وهو ممن روى عنه بعد الاختلاط ورواية إسماعيل بن علية الذي روىعن الجريري قبل الاختلاط وروايته عنه صحيحه ليس فيها ذكر الاحتفاء .
فرواية أمرنا أن نحتفي أحيانا شاذة لا تصح لأن يزيد خالف ابن علية ويزيد ممن روى الحديث عن الجريري بعد اختلاطه ومن القرائن التي ترجح صحة ما ذهبنا إليه أن النسائي أخرج في سننه (8/132) قال : نا إسماعيل بن مسعود ثنا خالد بن الحارث عن كهمس عن عبد الله بن شقيق قال كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملا بمصر فأتاه رجل من أصحابه فإذا هو شعث الرأس مشعان قال : مالي أراك مشعانا وأنت أمير قال :
" كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه "
قلنا : وما الإرفاه قال : الترجل .
فهذه الرواية من الشواهد على صحة رواية ابن علية التي ليس فيها ذكر الاحتفاء خاصة وأنها لنفس الحادثة .
ثالثاً : قيام بعض طلبة العلم بمسك النعل باليمين والكتب بالشمال:
من الأخطاء التي قد يرتكبها بعض طلبة العلم مسكهم للنعل بأيمانهم والكتب بشمائلهم ،وهذا خطأ فينبغي إذا فرغ طالب العلم من درسه وأراد أن يحمل كتبه ونعليه أن يمسك الكتاب بيمينه والنعل بشماله،قال علامة فاس المهدي الوزاني المالكي - رحمه الله - في "النوازل الكبرى":"كثيراً ما يقع لبعض الطلبة حتى فقهاء التدريس أن يمسك النعل بيمينه،والكتاب بشماله أو تحت إبطه الشمالي،وذلك خلاف المطلوب عقلاً ونقلاً،وتفاؤلٌ لأن يؤتى كتابه بشماله،عياذاً بالله"
والحمد لله رب العالمين فإن وفقت فالفضل لله وحده وإن أخطأت فمني ومن الشيطان والله ورسوله من ذلك براء .
أبو عبد العزيز سعيد(/7)
الأخلاق في حياة ودعوة الأنبياء عليهم السلام
(الشبكة الإسلامية) الدكتور سعيد عبدالعظيم
أُُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة منهج الأنبياء والمرسلين , فقال سبحانه :( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90)) وقد حباهم سبحانه كمال الخَلق والخُلق حتى لا ينصرف الناس عن دعوتهم بزعم دمامة الشكل أو الطبع ،فالأنبياء جميعاً ما يصدرون إلا عن أمر ربهم جل وعلا، وليست الرسالة نابعة من نفوسهم أو نتيجة عوامل اجتماعية تكون في زمانهم بل هي وحي الله إليهم فكل نبي من النبياء يقول ( إن أتبع إلا ما يوحي إليَّ ) ولا يملك النبي أن يغير ولا أن يبدل ولا أن يزيد أو ينقص من وحي الله شيئاً وقد قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وقال سبحانه :( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يومٍ عظيم ) ، والأنبياء عليهم السلام في دعوتهم لا يطلبون أجرهم إلا من الله ، فهذا هود عليه السلام يخاطب قومه فيقول:( ويا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجرى إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ) ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحقيقة فيقول:( ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ).
ولم يكن هدفهم عليهم السلام إلا إخلاص الدين لله وأن يصرفوا وجهة البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، قال تعالى:( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وما من نبي إلا وبعث بلسان قومه ليبين لهم , فهم يسيرون مع الفطرة ويخاطبون الناس على قدر عقولهم بلا تكلف ولا تقعر ولا تشدق :( وما أنا من المتكلفين ) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه :( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
فطريقة الأنبياء واضحة ودعوتهم ظاهرة ، وأقرب الطرق في دعوة الخلق هي طريقة القرآن لا نحتاج معها لمناهج كلامية فلسفية، والأنبياء جميعاً آثروا الباقية على الفانية، وغلب عليهم الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة لأنهم أيقنوا أن ( ما عند الله خيرُ وأبقى ) وأن ( ما عند الله خيرٌ للأبرار ) وقد خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى ) والأنبياء هم أكمل البشر خلقاً وأشرفهم نسباً وأعظمهم أمانة , اصطفاهم سبحانه على علم على العالمين فهم أسوة وقدوة البشر أجمعين وأصدق الخلق لهجة، قال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ . وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) (صّ:45-48 )
وقال جل وعلا عن نبيه موسى عليه السلام:( يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) والأنبياء في دعوتهم وتركيزهم على قضية العبودية وقولهم للناس: ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) كانوا أيضاً يعالجون الآفات والعيوب التي شاعت فى أممهم ويردونهم للأخلاق الفاضلة , فنبي الله شعيب عليه السلام كان يعالج تطفيف المكيال والميزان فى قومه مدين ، ونبي الله لوط عليه السلام قال لقومه:( أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ) وعاب عليهم قطع السبيل وإتيانهم المنكر في ناديهم ... وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه دالة على ذلك كما سنبين فيما بعد بإذن الله.
الحيطة للتوحيد والتشريع سياج أمان للأخلاق
أولاً :الحيطة لجناب التوحيد
التوحيد طهارة لأنه اعتراف بالحق , والشرك نجاسة ( إنما المشركون نجس ) لأنه جحد للحق حتى وإن تجمل المشرك واغتسل وتطيب في ظاهره فلا تزول عنه نجاسة الباطن، والمعاصي والذنوب كلها قاذورات وفى الحديث : " من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله" .
فإذا أردنا تكميل معاني الأخلاق حتى تؤتي ثمارها فعلينا بالحيطة لجناب التوحيد وجناب التشريع استنانا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد غرس صلوات الله وسلامه عليه في نفوس أصحابه أصلين عظيمين , الأول : أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً .(/1)
الثاني : أن يعبدوه بما شرع وليس بشرع أحدٍ سواه , ولم يسمح صلى الله عليه وسلم لأحدٍ من أصحابه أن يخدش أصلاً من هذين الأصلين , ولذلك لما رأى يوماً بيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ورقة من التوراة , وكان عمر قد أعجبه ما فيها , فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال لعمر : " أهذا وأنا بين أظهركم؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية , والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني ". [ رواه أحمد وحسنه الألباني] , وفى هذا الحديث بيان عالمية الدعوة , وأنه لا يجوز الاهتداء بغير الكتاب والسنة , فكيف ينصرفون عن هذه الأصول المعصومة والمحفوظة ويهتدون بما شابه التحريف والتغيير والتبديل ؟ ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يخطب على المنبر ويقول: " من يطع الله ورسوله فقد رشد , ومن يعصهما فقد غوى " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى " [ رواه أحمد ومسلم] . وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم تسويته بالله جلَّ وعلا , فالضمير في يعصهما يفيد مساواة المشتركين في الحكم , ومقام الخطبة يحتمل التفصيل والتوضيح والبيان , وأيضاً لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقامت أم العلاء تقول : شهادتى عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك اعترضها صلى الله عليه وسلم وقال : " وما يدريك أن الله قد أكرمه ؟" فقالت : سبحان الله , ومن يكرم الله إذ لم يكرمه ؟ فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أبلغ من ذلك وقال : والله إني لرسول الله ولا أدرى ما يفعل بي غداً " فقالت أم العلاء : والله لا أزكي بعده أحداً " [ رواه أحمد والبخاري].
فالأعمال بالخواتيم والخواتيم مطوية عن العباد وفى هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا : "نحن أبناء الله وأحباؤه " وقولهم " لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى " فرد عليهم سبحانه بقوله: ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) وهو ردٌ أيضا على من زعم ولاية بعض المقبورين , ولم يكتف بذلك بل يذهب يصرف لهم العبادة من دون الله !! ومن صور الحيطة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما شاء الله وشئت، فقال له صلى الله عليه وسلم :" أجعلتنى لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده". [ رواه أحمد وحسنه الألباني]
فالحيطة لاتقتصر على الأفعال بل تتعداها إلى الأقوال , ومن ذلك أن بعض الصحابة لما قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ( أى شجرة يعلقون بها أسلحتهم ويتبركون بها ) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح] ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن العرافين فقال " ليسوا بشيء " رواه مسلم فالكاهن والعراف إن صدق مرة كذب معها مائة مرة . وقد كثر التحذير منه صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد " وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً " فعلى كل الناس أن ينيبوا إلى ربهم وأن يسلموا وجوههم له سبحانه وأن يتركوا الكفريات والشركيات وصرف العبادة لغير الله وأن يوحدوا ربهم ويعلموا أن التوحيد أولاً فإن تقديم الأهم على المهم أمر واجب في العلم والعمل والدعوة إلى الله .
إنَّ ادعاءات التأصيل للأخلاق عند الكفرة والمشركين والفلاسفة والزعم بصلاح أخلاقهم ما هي إلا دعوى عريضة وإلا فكل إناء ينضح بما فيه , وهؤلاء إن انتفعوا بخير عملوه فإنما يكون ذلك في الدنيا , أما في الآخرة فيصدق عليهم قوله تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) وقوله سبحانه: ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ).
ثانيا: الحيطة لجناب التشريع
كل الطرق مسدودة إلا من طريقه صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يجوز التأصيل للأخلاق وغيرها أولا ثم يلوى أعناق النصوص الشرعية لتوافق هذه الأصول :( لاتقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله ) فالواجب أن نستقي أصولنا ومناهجنا وأخلاقنا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نسمح لأنفسنا ولا لغيرنا بخدش النصوص الشرعية، ولنا في نبينا أسوة حسنة وقدوة طيبة , والأدلة على ذلك كثيرة , ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلا يمشي في الحج بين رجلين يسندانه قال: " ما هذا؟" فقالوا : يا رسول الله نذر أن يحج ماشياً : فقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، مروه فليركب "[ متفق عليه].(/2)
ولما رأى أبا إسرائيل يقف فى الشمس ولا يتكلم سأل عنه فقالوا: يا رسول الله نذر أن يقوم ولا يتكلم ويجلس فى الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: " ليتم صومه وليتكلم وليجلس فى الظل " [ رواه البخاري] فالجلوس في الشمس تكلف لا يقرب من الله، والصوم عن الكلام شرع من قبلنا وليس من شرعنا , فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. ومن أدلة ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل- مما جعله يفرط في حق امرأته- قال له :" صم صيام أخي داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى " [رواه مسلم] وفى الحديث: " إن لربك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً فأعط كل ذي حقٍ حقه " [رواه البخاري] , فلابد من عدل واعتدال وحرص على الموازنة بين المصالح بلا إفراط ولا تفريط، ومراعاة لمتطلبات الروح والبدن بلا غلو ولا جفو، وشمولية نظرة في توفية الحقوق لأصحابها .
ومن ذلك أيضا لما ذهب ثلاثة إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها وكأنهم تقالوها , فقال أحدهم : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الآخر : أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء , فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم صعد المنبر وجمع الناس ثم قال :" ما بال أقوام يقولون كذا؟ أما إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " [رواه البخاري ومسلم]
فالطريق الموصل إلى الله وإلى جنات النعيم هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تخطيه ولا تعديه , بل لا بد من اتباع لا ابتداع فيه ولا اختراع معه , إذ أكمل وأشرف الأحوال هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته صلى الله عليه وسلم هي طريقته المحمودة التي سلكها هو والصحابة من بعده ـ وهى كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة يقصد بها التشريع للأمة, وكل من أعرض عن طريقته صلى الله عليه وسلم يقال له:" فمن رغب عن سنتي فليس منى " . وكان صلى الله عليه وسلم دائماً يقول " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [ رواه البخاري ومسلم] وصح عنه أنه قال: " كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة فى النار ".
والبدعة كما عرفها الشاطبي رحمه الله : طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الشرعية يقصد بالسلوك عليها مضاهاة التعبد لله تعالى .ا.ه والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية وصاحبها ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا ً ، وكان عمر رضى الله عنه يقول : كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق.
وعلى هذا النهج الواضح سار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمحوا لأحد بخدش جناب التوحيد أو التشريع، ومن أمثلة ذلك أن عمر رضى الله عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: والله إني لأعلم أنك حجر ما تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. وأخرج علىٌ رضي الله عنه القُصَّاص من المساجد وهم الذين يروون القصص الخيالية والأكاذيب بزعم تذكير الناس وترقيق قلوبهم. ولما سمع ابن عمر رضى الله عنه رجلا عطس فقال : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قال له ابن عمر : ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل وليصل على رسوله , ولما دخل ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ مسجد الكوفة فرأى حلقاً وفى وسط كل حلقة كوماً من الحصى ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم : سبحوا مائة فيسبحون مائة , احمدوا مائة فيحمدون مائة , كبروا مائة فيكبرون مائة فقال لهم ابن مسعود رضى الله عنه : يا قوم والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مقتحموا باب ضلالة فقالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا بهذا إلا الخير فقال وكم من مريد للخير لم يبلغه رواه الدارمي وصححه الألباني فكل زيادة أو نقص في العبادات أو السلوك يراد به التقرب إلى الله تعالى وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة, حتى لو حسنت وصلحت النوايا طالما لم يوافق العمل شرع الله .(/3)
الأخلاق من القرآن الكريم
هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟
خطبة عباد بن عباد الخواص الشامي أبي عتبة
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْطَاكِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ أَبِي عُتْبَةَ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ اعْقِلُوا وَالْعَقْلُ نِعْمَةٌ، فَرُبَّ ذِي عَقْلٍ قَدْ شُغِلَ قَلْبُهُ بِالتَّعَمُّقِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، عَنِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَ عَنْ ذَلِكَ سَاهِيًا. وَمِنْ فَضْلِ عَقْلِ الْمَرْءِ تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا لَا نَظَرَ فِيهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فَضْلُ عَقْلِهِ وَبَالًا عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مُنَافَسَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ رَجُل شُغِلَ قَلْبُهُ بِبِدْعَةٍ قَلَّدَ فِيهَا دِينَهُ رِجَالًا دُونَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ اكْتَفَى بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَرَى الْهُدَى إِلَّا فِيهَا وَلَا يَرَى الضَّلَالَةَ إِلَّا بِتَرْكِهَا، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَدْعُو إِلَى فِرَاقِ الْقُرْآنِ، أَفَمَا كَانَ لِلْقُرْآنِ حَمَلَةٌ قَبْلَهُ وَقَبْلَ أَصْحَابِهِ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَكَانُوا مِنْهُ عَلَى مَنَارٍ كَوَضَحِ الطَّرِيقِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَصْحَابِهِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ أَئِمَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ، رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مَنْسُوبُونَ فِي الْبُلْدَانِ، مُتَّفِقُونَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَتَسَكَّعَ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ بِرَأْيِهِمْ فِي سُبُلٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِرَةٍ عَنِ الْقَصْدِ مُفَارِقَةٍ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَوَّهَتْ بِهِمْ أَدِلَّاؤُهُمْ فِي مَهَامِهَ مُضِلَّةٍ، فَأَمْعَنُوا فِيهَا مُتَعَسِّفِينَ فِي تِيهِهِمْ، كُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ بِدْعَةً فِي ضَلَالَتِهِمُ انْتَقَلُوا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا أَثَرَ السَّالِفِينَ وَلَمْ يَقْتَدُوا بِالْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادٍ: هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ، اتَّقُوا اللَّهَ وَمَا حَدَثَ فِي قُرَّائِكُمْ وَأَهْلِ مَسَاجِدِكُمْ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْمَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْنِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي النَّارِ، يَلْقَاكَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ فَيَغْتَابُ عِنْدَكَ مَنْ يَرَى أَنَّكَ تُحِبُّ غِيبَتَهُ وَيُخَالِفُكَ إِلَى صَاحِبِكَ فَيَأْتِيهِ عَنْكَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَصَابَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَاجَتَهُ وَخَفِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا أُتِيَ بِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، حُضُورُهُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ حُضُورُ الْإِخْوَانِ وَغَيْبَتُهُ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ غَيْبَةُ الْأَعْدَاءِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ الْأَثَرَةُ وَمَنْ غَابَ مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ، يَفْتِنُ مَنْ حَضَرَهُ بِالتَّزْكِيَةِ وَيَغْتَابُ مَنْ غَابَ عَنْهُ بِالْغِيبَةِ، فَيَا لَعِبَادَ اللَّهِ أَمَا فِي الْقَوْمِ مِنْ رَشِيدٍ وَلَا مُصْلِحٍ؟ يَقْمَعُ هَذَا عَنْ مَكِيدَتِهِ وَيَرُدُّهُ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بَلْ عَرَفَ هَوَاهُمْ فِيمَا مَشَى بِهِ إِلَيْهِمْ فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ وَأَمْكَنُوهُ مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَكَلَ بِدِينِهِ مَعَ أَدْيَانِهِمْ. فَاللَّهَ اللَّهَ ذُبُّوا عَنْ حُرَمِ أَغْيَابِكُمْ وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَنَاصِحُوا اللَّهَ فِي أُمَّتِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ حَمَلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يَنْطِقُ حَتَّى يُنْطَقَ بِهِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ لَا تَعْمَلُ حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا. فَمَتَى يَتَعَلَّمُ الْجَاهِلُ إِذَا سَكَتَ الْعَالِمُ فَلَمْ يُنْكِرْ مَا ظَهَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَا تُرِكَ؟ وَقَدْ ( أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ). اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ رَقَّ فِيهِ الْوَرَعُ وَقَلَّ فِيهِ الْخُشُوعُ وَحَمَلَ الْعِلْمَ مُفْسِدُوهُ، فَأَحَبُّوا أَنْ يُعْرَفُوا بِحَمْلِهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُعْرَفُوا بِإِضَاعَتِهِ، فَنَطَقُوا فِيهِ بِالْهَوَى لَمَّا أَدْخَلُوا(/1)
فِيهِ مِنَ الْخَطَإِ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَمَّا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى مَا عَمِلُوا بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَذُنُوبُهُمْ ذُنُوبٌ لَا يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، وَتَقْصِيرُهُمْ تَقْصِيرٌ لَا يُعْتَرَفُ بِهِ، كَيْفَ يَهْتَدِي الْمُسْتَدِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ حَائِرًا؟ أَحَبُّوا الدُّنْيَا وَكَرِهُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِهَا فَشَارَكُوهُمْ فِي الْعَيْشِ وَزَايَلُوهُمْ بِالْقَوْلِ، وَدَافَعُوا بِالْقَوْلِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى عَمَلِهِمْ، فَلَمْ يَتَبَرَّءُوا مِمَّا انْتَفَوْا مِنْهُ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِالْحَقِّ مُتَكَلِّمٌ وَإِنْ سَكَتَ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إِلَى هَمِّهِ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ لِي جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْدًا وَوَقَارًا لِي وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا ( كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) كُتُبًا، وَقَالَ ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) قَالَ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَلَا تَكْتَفُوا مِنَ السُّنَّةِ بِانْتِحَالِهَا بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّ انْتِحَالَ السُّنَّةِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا كَذِبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ، وَلَا تَعِيبُوا بِالْبِدَعِ تَزَيُّنًا بِعَيْبِهَا، فَإِنَّ فَسَادَ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسَ بِزَائِدٍ فِي صَلَاحِكُمْ، وَلَا تَعِيبُوهَا بَغْيًا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ الْبَغْيَ مِنْ فَسَادِ أَنْفُسِكُمْ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرْضَى بِمَا يُبَرِّئُهُمْ وَيُمْرِضُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ اشْتَغَلَ بِمَرَضِهِ عَنْ مُدَاوَاتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ لِنَفْسِهِ الصِّحَّةَ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عِلَاجِ الْمَرْضَى. فَلْيَكُنْ أَمْرُكُمْ فِيمَا تُنْكِرُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ نَظَرًا مِنْكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَنَصِيحَةً مِنْكُمْ لِرَبِّكُمْ وَشَفَقَةً مِنْكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَأَنْ تَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِكُمْ أَعْنَى مِنْكُمْ بِعُيُوبِ غَيْرِكُمْ، وَأَنْ يَسْتَطْعِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا النَّصِيحَةَ، وَأَنْ يَحْظَى عِنْدَكُمْ مَنْ بَذَلَهَا لَكُمْ وَقَبِلَهَا مِنْكُمْ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْهم: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي. تُحِبُّونَ أَنْ تَقُولُوا فَيُحْتَمَلَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ مِثْلُ الَّذِي قُلْتُمْ غَضِبْتُمْ، تَجِدُونَ عَلَى النَّاسِ فِيمَا تُنْكِرُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَتَأْتُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يُوجَدَ عَلَيْكُمِ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَرَأْيَ أَهْلِ زَمَانِكُمْ وَتَثَبَّتُوا قَبْلَ أَنْ تَكَلَّمُوا، وَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تَعْمَلُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ فِيهِ مَعْرُوفًا، فَكَمْ مِنْ مُتَقَرِّبٍ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُبَاعِدُهُ وَمُتَحَبِّبٍ إِلَيْهِ بِمَا يُغْضِبُهُ عَلَيْه،ِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ) الْآيَةَ.. فَعَلَيْكُمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى يَبْرُزَ لَكُمْ وَاضِحُ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الدَّاخِلَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ آثِمٌ، وَمَنْ نَظَرَ لِلَّهِ نَظَرَ اللَّهُ لَهُ، عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَأْتَمُّوا بِهِ وَأُمُّوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِ أَثَرِ الْمَاضِينَ فِيهِ. وَلَوْ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ لَمْ يَتَّقُوا زَوَالَ مَرَاتِبِهِمْ وَفَسَادَ مَنْزِلَتِهِمْ بِإِقَامَةِ الْكِتَابِ وَتِبْيَانِهِ مَا حَرَّفُوهُ وَلَا كَتَمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الْكِتَابَ بِأَعْمَالِهِمُ الْتَمَسُوا أَنْ يَخْدَعُوا قَوْمَهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، مَخَافَةَ أَنْ تَفْسُدَ مَنَازِلُهُمْ وَأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهُمْ، فَحَرَّفُوا الْكِتَابَ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَحْرِيفَهُ كَتَمُوهُ، فَسَكَتُوا عَنْ صَنِيعِ أَنْفُسِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَكَتُوا عَمَّا صَنَعَ قَوْمُهُمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ، وَقَدْ ( أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) بَلْ مَالَئُوا عَلَيْهِ وَرَقَّقُوا لَهُمْ فِيهِ.(/2)
الدارمي - مقدمة
أقرأ أيضا:
• ... التوبة وقاية وصيانة للنفس الإنسانية
• ... التواضع خلق الأنبياء
• ... صدق النية والقول والعمل
• ... صفات عباد الرحمن ( الحلقة الرابعة)
• ... صفات عباد الرحمن ( الحلقة الثالثة)
• ... صفات عباد الرحمن ( الحلقة الثانية )
• ... صفات عباد الرحمن ( الحلقة الأولى )
• ... ظاهر الإثم وباطنه
• ... آفة الخيانة
• ... مكارم الأخلاق من سورة الحجرات
• ... وصايا من القرآن الكريم
التواضع خلق الأنبياء وأفضل العبادة
قال الله تعالى:( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ) الإسراء 37
مخبر المرء مرآة لجوهره، ومعتقده وتصرفاته وجهان متلازمان في تركيبته النفسية والعقلية والسلوكية، والعمل الصالح لا يفيد أو يقبل في الآخرة إن لم يُبْنَ على نقطة الارتكاز الأولى وهي العقيدة، لذلك فرض الله تعالى على القلوب أعمالا من الاعتقادات، وعلى الجوارح أعمالا من الطاعات، ونزل الوحي يوطئ للسلوك العملي بالاعتقاد الباطني:
• إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ البقرة 277
• وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى الكهف88
• وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى طه 82
وهو نفس النهج الذي سارت عليه آية التواضع وما تلاها في سورة الإسراء (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُورا )37-38-39 الإسراء؛ وهي تتمة خمسة وعشرين نوعا من التكاليف العملية التي تقدمها الأمر بالتوحيد (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولا وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الإسراء22-23، ثم توجت في نهايتها بالنهى عن الشرك (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُورا )الإسراء 39.
ولعل الأمر يزداد وضوحا في الآية 54 من سورة المائدة إذ ربطت بين الإيمان وبين محبة الله وخلق التواضع، مقابل الردة بالتخلى عن هذه الصفات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.. الآية)، ذلك أن الربط بين الردة وبين استبدال أحباب الله المتواضعين إشارة بينة إلى أن التواضع بعد توحيد الخالق سبيل الثبات على الحق والفوز بمحبة الله تعالى، وأن التكبر استعلاء على القيم والمبادئ الدينية وذريعة إلى الردة.
إن مشية المرح التي نهت عنها الآية الكريمة هي مشية الخيلاء والبطر والأشر والتبختر والفرح بالدنيا ومقتنياتها من المال والجاه والقوة والولد، مشية الجبارين؛ ولذلك عقب عليها عز وجل بما يعد تهكما وسخرية بصاحبها المتكبر الذي يعد كل شيء أحقر منه(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا )، منبها إلى أنه مهما شدد وطأته على الأرض فلن يخرقها، ومهما تطاول بقامته تعاظما فلن يبلغ الجبال طولا، وهو في كل الأحوال عبد ذليل محاط به من تحته ومن فوقه، والمحاط محصور ضعيف، بل قد يعجل له في الدنيا بعض جزاء استكباره واستعلائه كما ثبت في الصحيح(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مسلم، وكما ورد في التنزيل عن قارون بني إسرائيل وقد خرج على قومه في زينته ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ) القصص81.
ثم أجمل عز وجل ما ورد من التكاليف أمرا ونهيا عقيدة وسلوكا خصالا حسنة وأخرى رديئة، مخبرا بأن ما هو سيئ منها يحرم إتيانه (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ).
وفي هذه الآية قراءة سبعية أخرى هي قراءة نافع وابن كثير وابن عمرو ( سيئة ) بالنصب، أي فاحشة مؤاخذا عليها لا يرضاها الله تعالى، وتعني ما ورد في هذه الآيات كلها من المنهيات.(/3)
هذه الخصال الواردة في سورة الإسراء ضمن ثماني عشرة آية، تعد شرائع واجبة الرعاية غير قابلة للنسخ في جميع الملل والأديان، قال عنها ابن عباس إنها وردت في ألواح موسى، ونسبها رب العزة للوحي وسماها حكمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ )، لأنها مصالح محكمة لا يدخلها الفساد. وكما أن رأس الحكمة معرفة الحق لذاته وهو التوحيد، ومعرفة الخير الذي هو التكاليف والطاعات للعمل به، كذلك جعل الله تعالى فاتحة هذه التوجيهات الأمر بالتوحيد (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) وخاتمتها النهي عن الشرك (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُورا ) لأن ذلك هو رأس الحكمة وملاكها، ومن عدم التوحيد لم ينتفع بعلم ولم ترشده حكمة.
ثم رتب على الأمر بالتوحيد في البداية نتيجة المخالفة في الدنيا وهي الذم والخذلان ( لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولا) أي مبغضا محقرا ضعيفا، ورتب على النهي عن الشرك في الختام نتيجة المخالفة في الآخرة ( مَلُوماً مَدْحُورا ) أى مبعدا مطرودا من رحمة الله تعالى؛ والمراد بهذا الخطاب هو الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه الصلاة والسلام معصوم عن الشرك وسوء الخلق.
كما أن من غريب الإعجاز في ترتيب هذه التوجيهات القرآنية ربطها الأمر بالتوحيد في أولها بأخطر معصية بعد الشرك وهي عقوق الوالدين ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا )، وربط النهي عن الشرك في ختامها بالتواضع واجتناب الكبر والتعاظم.
لذلك قال تعالى (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) النحل 29 ذلك أن الكبر مرض نفسي وخلل سلوكي يبدأ صغيرا لا يؤبه به، ثم ينمو ويتضخم إلى أن يتحول فتنة عمياء ووباء اجتماعيا يمزق الأمة ويفرقها شيعا متناحرة وطبقات متنافرة.
يستهل المريض مسيرته هذه معجبا بنفسه، ثم تائها مزهوا مفاخرا، ثم متعاليا متطاولا، ظانا أنه أكبر من غيره، ثم متخايلا يظن في نفسه ما ليس فيها، ثم أصيد لا يلتفت يمنة ويسرة، ثم متغطرسا نرجسيا متخذا من نفسه محرابا يتعبدها فيه.
ولئن كان من أسباب الارتكاس في هذه العاهة السلوكية زيادة مال المرء أو جاهه أو سطوته أو علمه، فإن من الأسباب الأخرى أيضا عقدا نفسية تتعلق بإحساس داخلي في المتكبر، بالهوان والذل والصغار يريد أن يجبره بالتعالي والغطرسة انتقاما من الناس كما يخيل إليه.
لذلك ورد التحذير من الكبر منثورا في ثنايا سور القرآن الكريم والتوجيهات النبوية الرشيدة، فقال عز وجل:
• ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ )الأعراف 146
• ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) الفرقان63
• ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ) لقمان18
وقال صلى الله عليه وسلم:
• ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) مسلم
• ( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ ) الترمذي
• ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ مُتَكَبِّرٍ ) مسلم.
• عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدِهِ وَقَبَضَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ قَالَ وَيَتَمَايَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ابن ماجه.(/4)
وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الكبر عرفه بقوله: ( الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) مسلم وأبو داود. وعده مرادفا للعدوان والبغي (...وَلَكِنَّ الْبَغْيَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ أَوْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ ) أحمد.
وبطر الحق هو رفضه والتنكر له ومعارضته، كما أن غمط الناس إنكار قدرهم وتسفيه ما لديهم من رأي أو عقل أو علم وحكمة.
من هذا التعريف النبوي للكبر يتجلى لنا بوضوح تام معنى الخلق المقابل له، وهو التواضع.كما أن قوله تعالى( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين) المائدة54 يبين وسطية خلق التواضع بين الكبر وبين الهوان والمسكنة.
إن لفظ "التواضع" مشتق من جذره اللغوي " وضع"، والواو والضاد والعين أصل واحد يدل على خفض الشيء وحطه، والضعة خلاف الرفعة، يقال: فلان وضع نفسه، أي حطها عن قدرها، وتواضع القوم على الشيء إذا تنازل كل منهم عن بعض مواقفه واتفقوا على رأي جامع بينهم، وتواضع الرجل إذا تذلل وتخاشع وتكلف الانخفاض، ولذلك عرف التواضع بأنه تكلف المرء الانخفاض عن قدره رحمة بغيره وتأليفا لقلوبهم.
وقد عرفه ابن القيم بأنه ( الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته وجلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها؛ فيتولد من ذلك خلق التواضع، وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا، بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله؛ وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه ) – الروح ص 495.
إن التواضع خلق مرجو النفع في الدنيا والآخرة، يقوي الثقة بين الناس، ويشعرهم بحقوقهم نحو بعضهم، ويشيع في جموعهم روح الألفة والمودة والتعاون؛ وهو فوق ذلك وصية الرب سبحانه لخلقه، وباب جنته، وسبيل طاعته، به تتحقق العبادة الصادقة والثبات على الحق، كما أن به يتحصن المرء من المعاصي، لأن موردها جميعا خلق التكبر والتعالي وعبادة النفس والهوى، كما هو شأن أول معصية ارتكبت في الملأ الأعلى إذ رفض إبليس - لعنه الله – أمر السجود لآدم تكبرا واستعلاء ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين ) الأعراف12، فكان عاقبة أمره أن طرد شر طرد ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) الحجر34.
وما ترك امرؤ التواضع وترفع على من هو دونه إلا ابتلي بالذلة لمن فوقه، وما استطال على الضعفاء إلا تصاغر أمام الأقوياء، ناهيك عما في الكبر من خطيئة وظلم، لأنه منازعة لله تعالى في صفاته، إذ الكبرياء والعظمة له وحده، وفي الحديث القدسي الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة يقول تعالى: ( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ) أبو داود.
لقد كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية تحريضا دائما مستمرا على التمسك بخلق التواضع، يقول عليه الصلاة والسلام:
• (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) مسلم.
• ( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ) مسلم.
• ( مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ ) أحمد.
• ( لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ) مسلم.
أما سنته العملية صلى الله عليه وسلم فقد كانت خير قدوة وأنصع أسوة:
• طَافَ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ كَانَ مَعَهُ وَأَتَى السِّقَايَةَ فَقَالَ اسْقُونِي فَقَالُوا إِنَّ هَذَا يَخُوضُهُ النَّاسُ وَلَكِنَّا نَأْتِيكَ بِهِ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ ) أحمد.
• أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً فَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا ) ابن ماجه.(/5)
• نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً فَقَالَ مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ) الترمذي.
• عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ ( كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ ) البخاري
• كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَت) البخاري.
إن التواضع سجية تجعل المرء في مورد الطاعة الدائمة مع ربه ومع نفسه ومع والديه ومع الناس جميعا.
فالتواضع لله تعالى ألا تغيب عن المرء وحدانيته وقدرته وأسماؤه وصفاته وجلاله وحقه في الطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه، وألا ينسى المرء ضعفه ومحدوديته والحكمة من وجوده ومآل أمره في الدنيا والآخرة، فيورثه هذا الشعور خشوعا لله وخضوعا، واجتهادا في التعبد وحسن الخلق ( حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا قَالَ جِبْرِيلُ تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ بَلْ عَبْدًا رَسُولًا) أحمد.
والتواضع مع النفس يكون بمعرفتها في إطار القدرة الإلهية وحاكمية الله تعالى وقيوميته، وما استأثر بعلمه من مآل المرء ومصيره في الدنيا والآخرة، والشعور بالعجز والضعف إلا بحبل من الله وعون (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب ) الحج 73؛ كل ذلك يطبع تصرفات المؤمن وأعماله وعواطفه بسمات الوداعة والنبل واللين والسماحة وحسن المعاملة، ويبدو أثره في حركاته وسكناته وطريقة جلوسه وقيامه ومشيه وكلامه ورنات صوته وخلجات جوارحه.
والتواضع للوالدين بصفتهما أصل نشأته وأداة تربيته ورعايته ووصية ربه( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا ) الإٍسراء 24، يوجب على الابن حقوقا لابد من أدائها، ومنهجا في المعاملة يجب التزامه، من ذلك مثلا زيادة على الطاعة والإجلال والرعاية والصيانة والحنو، إظهار التواضع والخضوع لهما رحمة وشفقة واحتراما، كوقوف الابن عند دخول الأب أو الأم، والسكوت عند حديثهما لا يقاطعهما، وخفض الصوت في حضرتهما، لأن في خلاف هذا التصرف علامة تمرد وتهاون بمقامهما.
والتواضع للناس يكون بالمعاملة الطيبة والعشرة الحسنة، وكظم الغيظ والعفو والصفح الجميل، والنصح اللين الوديع (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس) لقمان 18 (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين )آل عمران134.
إن التواضع قيمة اعتقادية وأخلاقية نتيجتها التمسك بالمبادئ والثبات على الدين، وحسن رعاية أمن الأمة ووحدتها، وهو بهذا الاعتبار عبادة في جوهره ومخبره، لذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:( إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة، التواضع ) -كتاب التواضع والخمول لابن أبي الدنيا-.
ولئن كان التواضع خصلة يؤثر بها الله تعالى أصفياءه وأولياءه، فإن الكبر لا يبتلى به إلا شرار الخلق، وهم طوائف كثيرة، منها العائل ( الفقير ) المستكبر، والحاكم الطاغية، والغني المتغطرس، والعالم المتعجرف.
أما الفقير المستكبر فلشعوره بمهانة الفقر وجهله بأن قيمة المرء في تقواه وعمله الصالح.
وأما الحكام والأغنياء فلجهلهم بحقيقة أنفسهم وظنهم أن إكراه الخلق على الخضوع لسطوة جاههم ومالهم يكسبهم رفعة ومجدا.
أما العلماء فأسباب تكبرهم منافستهم لأرباب المال والجاه، وتعلقهم بالدنيا وجهلهم بالآخرة، وتقصيرهم في تهذيب أنفسهم.
كذلك أهل الفسق والفجور المجاهرون المصرون المباهون، لم يركسهم فيما هم فيه إلا الاستخفاف بالدين والاستهانة بقيمه ومبادئه.(/6)
إن التواضع للمتكبرين من أهل الجاه والمال والعلم، وخفض الجناح لأهل المعاصي والفسق والفجور، يعد مذلة للمؤمن ومهانة للنفس وتوهينا للدين؛ وكذلك التواضع في مقام تجب فيه نصرة الدين يؤدي إلى التخاذل وتعطيل عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخضوع للباطل، وابتذال العقيدة وتوهينها.
________________________________________
صدق النية والقول والعمل
قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
التوبة 119
هذه الآية الكريمة نزلت في ثلاثة من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك، ولم ينفروا فيها للجهاد إذ استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهم كعب بن مالك ومُرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، وكانوا ضمن نيف وثمانين مسلما لم يخرجوا للمشاركة في هذه الغزوة.
وبعد عودة الرسول عليه السلام وسؤاله إياهم جادل كل متخلف عن نفسه بعذر، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم أعذارهم واستغفر لهم الله ووكل نواياهم إليه سبحانه، إلا هؤلاء الثلاثة فقد صدقوه الجواب وبينوا له أنهم لا عذر لهم، فأرجأ عليه السلام قبول توبتهم، وأمرهم بملازمة بيوتهم واعتزال نسائهم، وأمر المسلمين بمقاطعتهم؛ فتجلى بذلك إيمان الثلاثة وامتثالهم، وإيمان المجتمع الإسلامي وانضباطه في أنصع الصور إشراقا ونورانية. ودام هذا الاختبار النبوي خمسين ليلة توجت بنزول توبتهم قرآنا يتلى أبد الدهر (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) التوبة 118، ثم خوطبوا توجيها وهداية إلى سبيل الرشاد والفلاح بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة 119.
وظاهر الآية أن الأمر بالتقوى والكون مع الصادقين للمسلمين كافة على الإطلاق والعموم وجوبا، وليس خاصا بالثلاثة الذين خلفوا؛ كما أن فيها ما يفيد الزجر عن فعل ما ارتكب من تخلف عن الجهاد بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ) في عدم الامتثال والطاعة للأمر النبوي، وما يفيد المقصود من التقوى وهو وجوب الكون مع الرسول وأصحابه واجتناب الكون مع المنافقين الذين مكثوا في بيوتهم ولم يخرجوا للجهاد بقوله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ).
ولفظ " التقوى " مشتق من جذره " وقى " الذي يدل على دفع شيء عن شيء بغيره، و"الوقاية " من وقى الشيء يقيه وقاية ووقيا أي صانه وحماه وحفظه، ومنه قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) الرعد34 أي من دافع، وقوله (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) البقرة34، وقوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ) المدثر 56 أي أهل أن يتقى غضبه وعقابه وعذابه.
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) ، أي احذروا النار واجعلوا بينكم وبينها صدقة ولو بشق تمرة . وما أخرجه مسلم (إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ ) أي يدفع به العدو ويتقى بقوته، ومنه قول الإمام علي رضي الله عنه :( كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ ) ابن حنبل، أي جعلناه وقاية لنا وقمنا خلفه واستقبلنا به العدو.
أما لفظ " الصدق " فحروفه الصاد والدال والقاف أصل يدل على قوة في الشيء قولا أو عملا، من قولهم "رمح صَدْق" – بفتح الصاد وسكون الدال – أي صُلب؛ ومنه " رجل مَصْدَق" أي شجاع صادق الحملة صادق السعي والوعد، والصدق في القول ضد الكذب، سمي صدقا لقوته في نفسه ولأن الكذب لا قوة فيه فهو باطل.
والصدق في القول هو مطابقة الكلام لضمير القائل وللشيء المخبر عنه معا . فإن انخرم أحد الشرطين بأن لم يطابق ضمير المتكلم أو لم يطابق حقيقة المخبر عنه لم يكن صدقا تاما، من ذلك قول المنافقين فيما حكاه القرآن عنهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ) المنافقون 1، فقد أكذبهم الله تعالى بقوله:(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) المنافقون 1؛ كما أن للصدق والكذب معنى خفيا ينبغي أن ينتبه له الصادقون في تعاملهم مع بعضهم ، وذلك حين تكون الحاجة للنصح أو البيان، فيكون الكلام صدقا إن تضمن نصحا أو بيانا أو توضيحا، ويكون السكوت وإخفاء ما يفيد الدعوة أو يضرها كذبا وغشا وخداعا وتمويها وخيانة.(/7)
ولذلك كان الأمر بالصدق التام الناجز المطابق للضمير ولحقائق الأشياء المخبر عنها ماضيا وحاضرا واستقبالا، وكان معنى قوله تعالى:( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) اصدقوا والزموا الصدق وكونوا مع أهله تنجوا من التهلكة وتجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وعقابه وقاية.
لقد كانت المخالفة في تبوك كبيرة، والذنب عظيما، ولكن الأنصاريين الثلاثة صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفوا بجريرتهم، ولم يلجؤوا للمراوغة بالأعذار الواهية، ومع ذلك ووجهوا بحزم وشدة دون سائر المخالفين، لأن الذنب يعظم بعظم مرتكبه والعقوبة كذلك بحسب رتبة المذنب، ألم يخاطب الله تعالى أمهات المؤمنين بقوله:( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) الأحزاب 30 (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ) الأحزاب 32؟؛ كذلك الثلاثة المخلفون كانت مكانتهم بين الأنصار والمهاجرين عالية، وسابقتهم في الإسلام والجهاد والبذل مكينة، لذلك أخضعهم الله تعالى لاختبار شديد، ووضعهم في بوتقة أشرف المعادن، تذيب مادتهم وتجلو حقيقتهم وتكشف مكنون إيمانهم، وتبتلي بهم في نفس الوقت مجتمع المسلمين، تربية وتثبيتا وتأسيا وتدريبا لهم على التجرد لدينهم، فصمد الثلاثة للاختبار بمقاطعة الناس لهم واعتزال نسائهم خمسين يوما، وامتثل المجتمع الإسلامي للأمر النبوي بمقاطعتهم، فلم تثر فيه عصبية قبلية أو عرقية أو عائلية أو زوجية؛ وإنما شع إيمان الجميع، وأشرقت الوجوه بعبادة الامتثال والانصياع، حتى إذا تجلى للكون نموذج الأمة الجديدة الخاتمة لأمم الإيمان والإحسان، تجلى ربك عز وجل عليهم بالتوبة واللطف والرحمة والمغفرة، ونزل ذلك قرآنا يتلى أبد الدهر في ملأ الأرض وملأ السماء( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة117- 118 .
لقد اجتمعت في هذه الحادثة كل ظروف التشديد: علو مرتبة المخالفين، وعظم الذنب، وحزم الرسول صلى الله عليه وسلم في المعالجة، وكون غزوة تبوك مفصلا هاما في مسيرة الإسلام لأنها آخر الغزوات، تتم بها التربية الجهادية ويطهر بها الصف الجهادي، وأن ظروفها القتالية من الشدة والعنت سماها القرآن الكريم " ساعة العسرة"، لما نال المسلمين فيها من عسرة المسافة وعسرة الحر وعسرة السير والقتال وقلة الزاد والظهر (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) التوبة117. وقد وصف عمر بن الخطاب حال المسلمين فيها فيما أخرجه ابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه، عن ابن عباس أنه قال لعمر: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعها حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.(/8)
وبعد نزول قبول توبة الثلاثة الذين خلفوا خوطبوا بنوع من الالتفات إلى عموم المسلمين بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )؛ وهذا الأمر الإلهي بالتقوى ولزوم الصدق وأهله بعد قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين، وجعلهم قدوة وأسوة، وخلد ذكرهم في الملأ الأعلى، يعد خير علاج للصف المسلم وأقوم طريقة لحماية المجتمع وصيانته في الدنيا من الانحراف وفي الآخرة من غضب الله وعقابه. وقد فسر القرآن الكريم المقصود من الصادقين الذين تجب مرافقتهم ولزوم صفهم بقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة177، وقوله:( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب 23.
وحق على من فهم وعقل عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال والمقاصد والعزائم، قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) البخاري .
إن الصدق إيمان وبر وإحسان، وأهله في أعلى درجات الجنة بعد النبوة كما قرر القرآن ذلك (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) النساء 69.
وإن الكذب عار وشنار، وأهله في أدنى دركات المنافقين والأشقياء والمحرومين، مخرومة عدالتهم مردودة شهادتهم (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) الزمر60، وقد روي أن النبي عليه السلام رد شهادة رجل في كذبة كذبها، قال معمر:( لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس) - من رواية معمر عن موسى بن أبي شيبة مرسلا، السنن الكبرى للبيهقي ومسند ابن راهويه - ، وقال الإمام مالك رضي الله عنه: ( لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وسئل شريك بن عبد الله فقيل له:( يا أبا عبد الله، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه؟) قال:( لا )،.
إن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لأن قبول الشهادة تزكية عظيمة لا تكون إلا لمن كملت فضائله وطابت خصاله، ولا خصلة أدنى وأحقر من خصلة الكذب. يؤيد ذلك ويشرحه ما روي من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني رجل أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحدة منها آمنت بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اترك الكذب )، فقبل ذلك ثم أسلم، فلما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت نقضت العهد، وإن صدقت أقام علي الحد، فتركها؛ ثم عرضوا عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي على، وتاب عن الكل- التفسير الكبير للرازي16/221 -.(/9)
ويكفي الصدق فضلا وشرف منزلة وعلو درجة أن الإيمان منه، أي أن الإيمان الحق لا يصدر إلا عن صدق النية وصدق القول والعمل، وأن الكفر من الكذب، كذب النية والقول والعمل، ولذلك نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذابا في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ ( قيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ لَا )، وقال أيضا( إِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ ...) الدارمي.
إن الصدق المأمور به ليس صدق القول فقط، ولكنه أيضا صدق الإيمان وإخلاصه وصدق القول وصوابه وصدق الدين وصلابته، ألا ترى أن العرب تقول: رجل صدق، أي قوي العقيدة نية وقولا وعملا وعزيمة وقصدا، في جميع حالاته، حالات الرضا والغضب والمحبة والسخط والجد والهزل، حالات مدارات السفهاء، والانتصار للحق في حوار العقلاء، أو للنفس عند رد عدوان الجهلاء.
وإذا كان الأمر بالكون مع الصادقين للوجوب، ثارت إشكالية أخرى هي أنه لابد من وجود جماعة الصدق في كل عصر، وإلا كان الأمر في غير محله ! ، فكيف الاهتداء إليها لمرافقة أهلها والانصهار في صفهم؟
يجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل بقوله تعالى:( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران104، ويشرح الرسول الكريم ذلك بقوله: (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُون ) البخاري، وهذا يجعل الأمة الإسلامية معصومة عن الخطأ، ويجعل إجماعها حجة تشريعية في مجال استنباط الأحكام، والإجماع على الباطل متعذرا؛ كما ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْمَدَنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ ) ، وكلما حاول أهل الباطل تزييف الشريعة الإسلامية بادعاء الإجماع على الباطل، تصدت لهم طائفة الصدق والرشد والهدى التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، تصدع بالحق وتخرم إجماع الباطل وتسفهه.
وتبقى في الأمر إشارة أخرى واضحة مكملة لمفهوم خلق الصدق، وردت في ما تلا هذه الآية، هي قوله تعالى:( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) التوبة120، وتعني وجوب فداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال والأهل والولد، وعدم البخل بذلك دفاعا عنه، لاسيما عند تعرض النبوة الخاتمة للخطر، إذ النكوص عن الفداء في هذه الحالة نفاق خالص وخذلان للإسلام وأهله لا شك فيه. لكن بعد التحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كيف يبقى هذا الواجب قائما؟، إنه إذا غاب صاحب الرسالة فالرسالة باقية مستمرة لم تغب، وكتاب الله والسنة النبوية بين أظهرنا، وفداء صاحب الرسالة يكون بمحبة الكتاب والسنة، والعمل بهما ونشرهما والدفاع عنهما، وهذا هو الصدق المبرأ من كل عيب، الخالص عن كل شين، السليم من كل خلل.
________________________________________
صفات عباد الرحمن ( الحلقة الرابعة )
" عباد الرحمن " وصف يطلق على أشخاص يتحلون بصفات محددة ذكرها الله عز وجل في آخرسورة الفرقان بقوله : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً...إلى آخر السورة) الفرقان63. إلا أن هذا اللفظ أيضا يعد مصطلحا أخلاقيا صرفا يدل على بناء سلوكي متكامل كالقصر المشيد، له أسسه وركائزه ومرافقه وزينته، جزئياته وكلياته متكاملة لا تنفصل عن بعضها أو تستغني.(/10)
وقد أوجز عز وجل في هذه الآيات الكريمة معالم هذا البناء وأجمل سماته، فبدأ بالأركان الإيجابية منها، تواضعا وحلما وتهجدا واستعاذة من النار واعتدالا ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ...الآية)، وثنى بقواعد البناء التي يقوم بها وعليها، اجتنابا للكفر والشرك والكبائر قتلا وفاحشة (َوالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ... ) ؛ ثم أحكم المبنى بذكر التحسينات التي لابد منها للتكامل والجودة فقال:
1 - (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) الفرقان72
وحرف الزاي والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومنه " ازوَرَّ عن الشيء" إذا مال عنه وانحرف، وكل ما هو تغيير للحق والحقيقة زور، فالكذب زور لأنه ميل عن طريق الحق، والشرك والكفر والباطل أيا كان زور، ومجالس اللهو والعبث والفاحشة زور كذلك، أما شهادة الزور فمنها حضور كل مجلس يجري فيه ما لا يجوز شرعا أو مروءة، لأن مجرد مشاهدة هذه المجالس أو حضورها اشتراك فيها وإقرار لها ورضا بها، يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام 68، ويقول أيضا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج30، ومنها أيضا تزوير الحقائق وقلبها عند تأدية الشهادة إن احتيج إليها، وهو ما رواه البخاري في صحيحه، قال: ( حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِر"ِ ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال:َ " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن "،ِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَال:"َ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ"، قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ) . والآية بهذا تحرم الزور قولا وفعلا وسماعا ومشاهدة وشهادة، وتنزه المؤمن عن مخالطة الشر وأهله، وتصون دينه عما يثلمه ويشينه.
2 – (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) الفرقان72:
واللام والغين وحرف العلة في لفظ " لغو" أصلان صحيحان أحدهما من " لغي " بالشيء إذا لهج به وتكلم، ومنه اشتق لفظ " اللغة "، والثاني يدل على الشيء الذي لا يعتد به وهو المقصود في الآية الكريمة،
واللغو هو كل ما سقط من قول أو فعل أو سفاهة، وما لا يعتد به ولا تحصل منه فائدة، كاليمين اللغو في قوله تعالى:( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة225، أي بما لم تنعقد عليه نياتكم وقلوبكم، كقول الرجل في درج كلامه: " بلى والله ... لا والله ..." دون أن يقصد الحلف.
واللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك من الأقوال والأفعال مما ليس بطاعة أو مباح؛ فإذا صادف أن مر المؤمن بمجالس الزور واللغو أكرم نفسه ونزهها بالإعراض والإنكار وترك الخوض فيها أو المساعدة عليها أو النظر والمشاهدة لها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ).
وأصل لفظ " كراما " من قول العرب " ناقة كريمة"، إذا كانت تعرض عند الحلب تكرما كأنها لا تبالي بما يحلب منها لغزارته، فاستعير ذلك لإعراض ذوي المروءة عما يشينهم إكراما لأنفسهم وتنزها، كقوله تعالى:( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) القصص 55، وقد روي أن إبراهيم بن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما) ثم تلا إبراهيم بن ميسرة قوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ).
3 – (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) الفرقان73:
وللمرء إذا ما ذكر بآيات الله وآلائه ونعمه، أو وجه إليه نصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حث على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:(/11)
- إما أن يتلقى ذلك مفتحا ذهنه حريصا على الاستفادة، مقبلا على المذكر الناصح بأذن واعية وعين راعية وقلب خاشع، ممتثلا لشرع الله وحكمه، وهو بذلك من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر18.
- وإما أن يخر على النصح بأذن صماء وعين عمياء وقلب مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179.
إن الذين يذكرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال تعالى:( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون،َ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة 124-125
4 – ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان74:
وقرة العين كناية عن السرور والفرح، من " قر "، ولها معنيان أحدهما البرد وثانيهما الاستقرار والتمكن، تقول العرب: " دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن"، ومن ذلك قولهم:" أقر الله عينك وأسخن عين عدوك "؛ كما أن للفظ صلة بمعنى الاستقرار والتمكن، لأن الرجل إذا كانت له زوجة صالحة وذرية طيبة مطيعة معاونة، وبورك له في أهله وولده قرت عينه بهم وسكنت عن ملاحظة أزواج الآخرين وذرياتهم، وذلك هو قرة العين وسكون النفس. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى كون صلاح الزوجة شرط في صلاح الذرية، لأن الأم مدرسة للأبناء ينعكس فيهم مستوى ثقافتها وأخلاقها ودينها عقيدة وشريعة وسلوكا. ولذلك يحرص عباد الرحمن على أن يكون لهم أعقاب عمال لله تقر بهم الأعين، وأزواج صالحات يساهمن في تربية الذرية على التقوى والصلاح، فلا تنقطع أعمالهم بالموت وإنما تستمر في الأبناء والحفدة، ويوقنون أن ذلك هبة من الله تعالى فيلجؤون إليه بالدعاء والتوسل (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء )آل عمران 38 (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) مريم 5-6. قال صلى الله عليه وسلم:( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) الترمذي والنسائي.
وفي الآية إشارة إلى أمرين أولهما أهمية الزوجة الصالحة للدنيا والآخرة، وثانيهما أن خير العبادة ما استمر بعد الموت بصلاح الذرية ودعائها.
5 – (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) الفرقان74:
" إماما " جمع مفرده" آمٌّ "، كقولك: رجل صائم وقوم صيام، وإذا جعلنا " إماما " مفردا جمعه " أئمة " كان للدلالة على الجنس كقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) غافر 67.
والمعنى أن من صفات عباد الرحمن أن يسألوا ربهم أن يبلغهم في العلم والدين مبلغا يجعلهم هداة إلى الخير دعاة إلى الطاعة، أئمة يقتدى بهم وتكون سيرتهم أسوة حسنة ودعوة صادقة يسترشد بها (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء 73، وفي موطأ الإمام مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال عمر: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة.(/12)
ثم ختم عز وجل وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعده لهم فقال (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, أي أن المتصف بالصفات الواردة في هذه الآيات ،وهي التواضع والحلم و التهجد و الخوف من الله، و الاعتدال في الأمر كله والرفق في القول والتصرف، والتنزه عن الشرك والكبائر، والتوبة والإعراض عن السوء وأهله، وتحمل الأذى والعفو عن أهله، واجتناب الزور واللغو، وقبول الموعظة و النصح، و الابتهال إلى الله طلبا للعون بالزوجة الصالحة والذرية الطيبة وببلوغ مرتبة الإمامة في الدين000 كان جزاءه بما صبر على الطاعة و عن الشهوات ثلاثة أصناف من التكريم0
1- الدرجة العليا من الجنة و قد عبر عنها القرآن " بالغرفة " (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواً) الفرقان 75, و الغرفة لغة هي كل بناء عال، يقول تعالى (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) سبأ 37, ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) الزمر20
2- التعظيم، لقوله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, والتحية تكون لهم من الله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس 58, و تكون أيضا من الملائكة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد 23-24.
3- دوام هذا التعظيم خالصا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)الفرقان 76, (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود 108.
ثم لما وصف عز وجل عباده المتقين, وذكر ما أعد لهم من النعيم المقيم, أمر رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يبين للمعرضين عن عبادته, غناه عنهم, وأن وجودهم والعدم سواء، وأن الاكتراث لا يكون إلا للعبادة وحدها، و(الدعاء هو العبادة) كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رواية الترمذي وأبي داود وابن ماجه وأحمد، فإن دعوه توبة وتضرعا واحتياجا رحمهم واستجاب لهم وأعطاهم سؤلهم وأنعم عليهم (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُم) الفرقان 77، وإن أصروا على الكفر والمخالفة وكذبوا بما أنزل على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فليس لهم عند الله إلا العذاب المقيم الثابت والخلود في النار (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً) الفرقان 77.
________________________________________
صفات عباد الرحمن (الحلقة الثالثة)
مضاعفة العقوبة وجزاء التوبة
لقد بين الله عز وجل في أول خواتم سورة الفرقان بعض صفات عباد الرحمن، فنزههم ابتداء عن العنف والتكبر وغفلة الليل والإسراف والتقتير، ثم أضاف صفة أخرى هي ضرورة تطهرهم مما هو أعظم، مثل الشرك والقتل والزنى. في إشارة واضحة إلى أن الصفات الأولى لا ترفع صاحبها إلى درجة عباد الرحمن، إلا إذا توجت بالتوحيد الخالص (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) الفرقان 68، وباجتناب القتل والزنى وما في حكمهما(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) الفرقان 68. لأن الكافر قد تتوفر فيه الصفات الأولى ويقعد به شركه عن الارتفاع، والمؤمن قد تتوفر فيه أكثر هذه الصفات بما فيها الإيمان، ولكنه إن لم يجتنب القتل والزنى لم يكن ضمن هذه النخبة من عباد الرحمن.
وحثا منه عز وجل للعباد على الالتحاق بهذه المرتبة الرفيعة، واستصلاحا لهم، هداية ورحمة وترغيبا وترهيبا، عقب على تقريره صفات عباد الرحمن بوعيد صارم للعصاة ، ووعد حق للطائعين التوابين.
أما وعيده فقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما ) ، فقوله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) إشارة إلى مجموع تلك الآثام ( دعوة غير الله تعالى، قتل النفس، فاحشة الزنى).(/13)
ولفظ " أَثام " مثل: نَكال وَوَبال َوزْناً ومعنى، أي جزاء ارتكاب الذنب وعقوبته. وما بعد لفظ" أثام " ، شرح وتفصيل لهذا الجزاء ، وهو (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا) الفرقان 69، وتضعيف العقوبة مع الخلود في النار حقيرا ذليلا مرتب على مجموع تلك المعاصي لا على كل واحدة منها ، مضاعفة العقوبة وتكرارها بسبب تضاعف أسبابها، والخلود في النار بسبب الشرك ودعوة غير الله تعالى، أما المؤمن فتضاعف عقوبته ولكنه لا يخلد في النار.
هذا الوعيد الصارم الشديد أسلوب يؤثر في النفس البشرية التواقة إلى النجاة والسعادة، إذ الخوف والرجاء فطرة بشرية أصيلة، والمؤمن الحق دائما بين خوف يرده عن المعاصي ورجاء يحث به الخطى نحو الجنة،( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين) الأنبياء90، لذلك عقب تعالى على ذكر العقوبة ، بفتح باب الرجاء والأمل والبشارة لمن أقلع وتاب ورجع إلى الحق والصواب، كيلا تتقطع قلوب العباد يأسا وقنوطا ، فقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) الفرقان 70، فأرشد إلى طريق النجاة من العذاب المضاعف المخلد في النار، وبَيَّنَ أن التوبة مسلك ذلك ووسيلته الأولى والوحيدة.
إن حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب إلى الطاعة، جذرها اللغوي: " تاب " أي رجع بعد ذهاب، و" تاب إلى الله من كذا وعن كذا، توبا وتوبة ومتابا وتابة" أي رجع عن المعصية، فهو تائب .
والتوب ترك الذنب على أجمل الوجوه، ورجل تواب أي كثير الرجوع إلى الطاعة.
والله تواب: أي يتوب على عبده ويقبل توبته ويعود عليه بالمغفرة والفضل، أو يوفقه للتوبة ويسدد خطاه في طريقها.
واستتبت فلانا إذا عرضت عليه التوبة ورغبته فيها.
يقال كذلك آب وثاب وأناب بنفس المعنى، ورجل ثواب وأواب وتواب ومنيب كذلك.
وفي التنزيل:
- (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ) غافر3
- ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب ) ص17.
- (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) ص 40، أي حسن مرجع.
- (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر) سبأ 10، أي رجعي ورددي التسبيح معه.
- (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) البقرة 125.
- (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُون ) الزمر54 .
- (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْه ) الزمر8، أي راجعا إلى طاعته غير خارج عن أمره.
- وفي الحديث النبوي( آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ) البخاري ومسلم.
وحكم التوبة أنها فرض على جميع المسلمين ، لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)، فوصفها تعالى بلفظ ( نصوح) تمييزا لها عن التوبة المائعة الوقتية التي سرعان ما تتلاشى؛ فالنصوح (أي الخلوص ) والصدق أهم صفاتها وجوهر حقيقتها، يقال "عسل ناصح" إذا كان خالصا ومصفى من كل الشوائب كالشمع وغيره، والتوبة النصوح كذلك لأنها تخلص صاحبها من كل الآفات وتصفيه من كل الذنوب.
لذلك كانت للتوبة النصوح شروط لا تتحقق إلا بها، وهي:
- الندم على ما ارتكب من السيئات.
- الإقلاع عن رديء الأعمال والعادات.
- القيام في الحال على أحسن الحالات.
- رد الحقوق والمظلمات.
- العزم على ترك العودة إلى المخالفات.
- تدارك ما أمكن تداركه مما فات من الأعمال الصالحة والعبادات.
إن المرء إزاء ما ارتكب من ذنب بين ثلاثة أمور:
- أن يقول: ما فعلته ليس إثما، وهو بذلك على خطر عظيم لأنه استحل حراما.
- أو يقول: فعلت ذلك لأجل كذا، وهذا منه مجرد مراوغة وتبرير.
- أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، وهذه هي التوبة.
فالتوبة بذلك ندم يورث عزما وقصدا، وعلامة الندم رقة قلب خوفا ورجاء، وغزارة دمع حزنا واستغفارا، لذلك قال عمر رضي الله عنه: (اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة). وعلامة العزم والقصد الإقلاع البات والجهد في الطاعة.
لقد رغب الشرع الحكيم في التوبة وحرض عليها وحببها بنصوص الكتاب والسنة فقال تعالى:
َ- ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ) النور31
- (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين ) البقرة 222
- (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) التوبة 104(/14)
- (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر 53
- (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما ) النساء 110
وأخرج مسلم : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ قَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا و قَالَ عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِه
وأخرج أحمد:حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَن عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَن أَبِي عُبَيْدَةَ عَن أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا
وأخرج مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْأَغَرَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ
وروى ابن ماجة: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ
إن الله عز وجل يستثني من العذاب، التوابين توبة نصوحا، توبة في طياتها الإيمان والعمل الصالح، ويجزيهم على ذلك جزاء أوفى يناسب عظمة كرمه وعفوه، ومن أكرم منه تعالى؟ ومن أكثر عفوا منه سبحانه؟
يقول عز وجل: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان 70
أخرج الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ يُؤْتَى بِرَجُلٍ فَيَقُولُ نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا قَالَ فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لَقَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَمْ أَرَهَا هُنَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
ثم عقب سبحانه على التوبة من الذنوب بقوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً ) الفرقان 71، فالتوبة الأولى توبة من الذنوب ورجوع عن المعصية إلى الطاعة، وإقلاع عن الخطأ إلى الصواب، ، أما التوبة الثانية هنا فتعني الرجوع إلى الله وحكمه، وإلى صراطه المستقيم، واستحقاق نعيمه المقيم، كما تعني كذلك أن من تاب تاب الله عليه وغفر له، مثل قوله (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما) 110، وهذا إخبار منه تعالى بواسع رحمته وعموم لطفه وجزيل إحسانه.(/15)
________________________________________
صفات عباد الرحمن
الحلقة الثانية
تواصل خواتم سورة الفرقان ذكر صفات عباد الرحمن بأربع أخريات هي:
1 - الاعتدال في النفقة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) 67 الفرقان، وهو نظير قوله تعالى(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا) الإسراء 26، وقوله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) الإسراء29.
والإنفاق لغة من فعل " نفق" البيع نفاقا بفتح النون، أي: راج، وأنفق ماله أي أنفده وأفناه، من قوله تعالى:( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ) الإسراء 100، أي خوفا من الفناء والنفاد والإملاق.
والإسراف هو مجاوزة الحد في النفقة وبذل المال.
أما الإقتار والقتر والتقتير فهو التضييق الذي يعد نقيض الإسراف.
وبين الإسراف والتقتير درجة الاعتدال، وهي الفضيلة التي حث القرآن عليها بقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) الفرقان 67، أي وسطا واعتدالا بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط. إلا أن هذه الدرجة الوسط بين رذيلتي التقتير والإسراف، يبقى أمر تحديدها رهنا بمستوى ورع المرء وتقواه وإيثاره الدنيا على الآخرة، ومقامه بين حديها الأعلى والأدنى، وأدنى ذلك أن يبذل زكاة ماله ونفسه، وطعام عياله وأرحامه وضيوفه، وأعلاه أن يحتفظ لنفسه بقوت يومه، ويبذل ما سوى ذلك في أوجه البر والخير، لأن الأصل أن لا إسراف في البذل والخير، وأن الإمساك عن الطاعة هو الإقتار بعينه، ولذلك يقول عز وجل:
- ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) البقرة195، وتعني التهلكة الإمساك عن طاعة الإنفاق.
- ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون( البقرة272
- ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ 39
- وأخرج البخاري): قَالَ عَبْدُاللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِه؟"ِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْه،ِ قَال:"َ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّر"َ (
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَاتَ فَوُجِدَ فِي بُرْدَتِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَيَّتَان ") أحمد
- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ فَقَال:"َ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا يُحَوَّلُ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ إِلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إِنْ كَانَ" فَمَاتَ وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وَلِيدَةً وَتَرَكَ دِرْعَهُ مَرْهُونَةً عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ) أحمد
لذلك كان السلف الصالح يرون من الورع ألا يجمع المرء ما لا يأكل ولا يبني ما لا يسكن، وذلك ما أشار إليه مجاهد بقوله: ( لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفا، ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا)، وقال ابن عباس: ( الإسراف الإنفاق في معصية الله، والإقتار منع حق الله)، وسأل وهيب بن الورد عالما: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقال: ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد جوعتك،فقال له في اللباس، قال: ما ستر عورتك ووقاك من البرد.(/16)
إن الإنفاق المقبول عند الله تعالى في أوجه البر رهن بمدى حلّية المال وطيبته: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد ) البقرة 267، كما يتحدد مقداره بمستوى علو همة المنفق وسمو مرتبته في سلم العابدين ومدارج السالكين ومرقاة الواصلين، ومدى تعلقه بالآخرة وثقته بالله تعالى؛ لذلك فالعدل والقوام بين الإسراف والتقتير نسبي بهذه الصفة، ولكل منفق أجره وثوابه إن قصد وجه الله عز وجل، وأنفق من طيبات ما كسب، أما الإسراف فحقيقته الإنفاق في معصية الخالق أو الإضرار بالمخلوق.
2- التوحيد الخالص بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر) الفرقان68، وذلك لأن دعوة غير الله تعالى معه أو من دونه، أعظم ما ارتكب من خطايا وآثام ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم) لقمان 13 ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)، وأخطر ما اعتدي به على حق الله عز وجل( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)المائدة 72.
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشيَة َأَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَال:َ ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك"َ ،َ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) مسلم واحمد.
إلا أننا ينبغي أن نميز عند إطلاقنا لكلمة الشرك بين مفهومين: أحدهما الشرك الأكبر وهو المخرج من الملة، وثانيهما الشرك الخفي أو الأصغر الذي يعد ذنبا عظيما تجب المبادرة بالتوبة منه، لأنه مدعاة للعقوبة الشديدة في الآخرة؛ ومن أمثلته أن تعمل العمل لله ولوجوه الناس، أو للمنزلة أو للتسميع والرياء، )عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " ) ابن حنبل
وعن أبي سعيد الخدري قَال:َ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ: قُلْنَا بَلَى فَقَالَ:( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ " ) ابن ماجه
أما الشرك الأكبر المخرج من الملة فثلاثة أصناف:
- شرك الربوبية، باعتقاد أن مع الله تعالى إلها آخر يخلق ويسير ويدبر…( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُون) يونس 3 (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف185.
- شرك الألوهية، وهو التوجه بالعبادة صلاة وصياما وحجا ونسكا ورجاء وتوكلا وخوفا ورهبة ورغبة ومحبة لغير الله معه أو من دونه، أو اتخاذ الوسطاء بين العبد وربه كما لدى القبوريين والباطنيين واليهود والنصارى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام 162.(/17)
- شرك الأسماء والصفات، كأن تسمي الله تعالى أو تصفه بما لم يرد في الكتاب والسنة، أو تعتقد أن مخلوقا يتصف بصفة كمال كاتصاف الله بها، كما لدى الخرافيين والمشعوذين الذين يدعون معرفة الغيب والقدرة المطلقة ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) الأعراف180، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى 11
إن الشرك الأكبر هو الوجه الثاني للكفر، أما الأصغر فهو الممهد له المعبد طريقه المؤدي إليه. لذلك على المؤمن أن يبذل قصارى جهده لتجنب الشرك الأصغر وسد جميع الذرائع إليه، وأن يبادر بالاستغفار والتوبة من كل خاطرة أو لمحة أو نجوى بها شبهة ذلك.
3 – صيانة النفس البشرية من التلف، بقوله تعالى: ( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق) الفرقان 68، لأن الأصل في النفس البشرية أنها واحدة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) النساء 1، وقتل الجزء بمثابة قتل الكل. والأحاديث النبوية في الأمر كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا) مورد الظمآن،(َ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) النسائي ( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ) البخاري.
ويشمل ذلك قتل الإنسان نفسه،( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ بِيَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ بِيَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يُرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) أحمد
كما يشمل الإجهاض وعملية تحديد النسل، بطرق غير شرعية ولغير ضرورة معتبرة، وفي ذلك يقول الله تعالى ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)الأنعام 140.
ويشمل قتل الغير( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأنعام 151 ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة32.(/18)
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل مؤمنا متعمدا هل له من توبة؟، فقال بعضهم هو في النار أبدا، وحجتهم قوله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) النساء 93 ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) النساء 93، والحديث السابق عن الذي يقتل نفسه، وما رواه البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف في أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) النساء 93هي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وما روي عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعدما كف بصره فجاءه رجل فقال: ما تقول في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ قال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، فقال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له الهدى؟ فوالذي نفسي بيده إن هذه الآية نزلت فما نسختها آية بعد نبيكم. وفي رواية للبخاري أيضا (أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ ( وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) فَقَالَ سَعِيدٌ قَرَأْتُهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ فَقَالَ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ)، وقد وردت روايتان أولاهما أن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، والثانية أنها بثمانية أشهر.
وحجة القائلين بأن للقاتل عمدا توبة قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء 48، وقوله تعالى: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة104، ويردون على ما روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة الذي أسلم ثم قتل مؤمنا وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة. والجمع بين الآيتين، آية الفرقان وآية النساء ممكن، فلا نسخ ولا تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان، فيكون معناه: فجزاؤه جهنم إلا من تاب. والأخبار في توبة القاتل كثيرة، وذلك ما يذهب إليه أكثر أهل العلم
4 – اجتناب فاحشة الزنى: بقوله تعالى (وَلا يَزْنُون) الفرقان 68، وهو نظير قوله تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) الإسراء 32( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) النساء 22، فوصفه تعالى بثلاث صفات محرمات منفرات: بكونه فاحشة أي شناعة وتجاوزا للحدود، وكونه مقتا يوجب لصاحبه الشناءة والبغض وسخط الله والناس، وكونه ساء سبيلا، أي بئس السلوك والمسلك والطريق، ولذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم العواقب المدمرة لشيوع الفاحشة في المجتمع( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:"َ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِم،ْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُم) ابن ماجه(/19)
وقد امتدح الله تعالى العفة وحرض عليها وبشر أصحابها بالفلاح ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) المؤمنون 5، وأرشد إلى ما يعين على ذلك ويسد الذرائع إلى فاحشة الزنى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) النور 30، وقال صلى الله عليه وسلم:( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) البخاري، كما حذر عز وجل حفظا للمجتمع وصيانة للأعراض من إشاعة الفاحشة بالقول أو الفعل أو سوء الظن(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) النور 19( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات 12 ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) النور 4، وقد أخرج البخاري ومسلم ( عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا" )
(يتبع في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى)
________________________________________
صفات عباد الرحمن
الحلقة الأولى
يقول الله عز وجل في سورة الفرقان من الآية 63 إلى نهاية السورة: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا...) فكان أول ما ورد في هذه الآيات أن وصفت الطائفة الأحب إلى الله تعالى ب(عباد الرحمن).
وقد ورد لفظ (العباد) في القرآن الكريم أكثر ما ورد، صفة للمخلصين من المؤمنين: (يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) الزخرف68، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيم إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ (الحجر39-42، (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) مريم 61، (قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) 59 النمل.
كما أن من أشرف الشرف لهذه الطائفة أن نسبهم تعالى إلى صفته ( الرحمن)، التي تفيد المبالغة في الرحمة والمغفرة والإنعام، فكانت هذه النسبة بشارة لهم بالنجاة والمرحمة والنعيم المقيم في الآخرة، وتلميحا إلى قوله تعالى لعباده الصالحين: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )الحجر 49 (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) يس 58.
هذه المرتبة الرفيعة مرقاتها أن يتحلى من طمحت همته لبلوغها بصفات فصلتها هذه الآيات من سورة الفرقان ، صفات هي القرض الذي يقرضه المؤمن ربه فيضاعفه له منزلة سامية هي منزلة العبودية للرحمن.(/20)
قبل أن يورد القرآن هذه الصفات، ذكّر بما يسره الله تعالى للمؤمنين وما سخره لهم من خلائق، عونا لهم على الطاعة، وامتن بذلك عليهم إذ جعل لهم في السماء بروجا ليعلموا عدد السنين والحساب فينظموا عباداتهم حسب مواعيدها ومواقيتها، وجعل الشمس سراجا والقمر منيرا، والليل والنهار خلفة يتعاقبان، يخلف كل منهما الآخر فقال عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) الفرقان 61-62، إشارة منه تعالى إلى أن هذه الصفات ينبغي التحلي بها على مدار الليل والنهار العمر كله، إذا ما اختار المؤمن مرقاة ( عباد الرحمن) ، فإن فاته فضل بالليل قضاه بالنهار، وإن فاته بالنهار قضاه بالليل، قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب وقد فاتته قراءة القرآن بالليل: " يا ابن الخطاب لقد أنزل الله فيك آية وتلا ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) ، ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في النهار، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك" .
أول صفات هذه الطائفة المكرمة عند ربها، صفة لهم بالنهار في تعاملهم مع الخلق، وصفة لهم بالليل في تعاملهم مع الخالق وخلوتهم بربهم، وصفة في كل أحوالهم ولكنها في جوف الليل أرجى.
1- صفة النهار في التعامل مع الخلق:
بما أن العبادة الإسلامية شقان، يتعلق أحدهما بحق الله تعالى، والثاني بحقوق الخلق، والغالب على أعمال النهار التعامل مع الناس ومخالطتهم، فقد بدأ سبحانه بما ينبغي أن تكون عليه عبادة الاختلاط بالخلق والتعامل معهم، بما يجلب النفع للجميع ويدفع الأذى عن الكافة، فقال عز وجل:( وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) الفرقان 63 ، فكان لهذا السلوك الحكيم وجهان: وجه مبادأة ووجه مجازاة:
مبادأة المرء غيره بأن يترك أذاهم ويمشي بينهم هونا؛ والهون لغة هو الرفق واللين، ومنه الحديث ( أحبب حبيبك هونا ما... ) الترمذي، والحديث ( حرم على الناركل هين لين ) ابن حنبل. والحديث ( المؤمنون هينون لينون ... ) مسند الشهاب، والمعنى أن يكون المؤمن بينهم سمحا ودودا رفيقا متواضعا وقورا، لا يضرب بقدمه أشرا وبطرا، ولا يتبختر خيلاء وعجبا، ولا يريد في الأرض علوا أو فسادا؛ أما المجازاة فمقابلة الإساءة بالإحسان والإغضاء والتجاوز.
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) البخاري ومسلم والترمذي.
- عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء " الترمذي وابن حبان في صحيحه.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم والقائم " أبو داود وابن حبان في صحيحه.
- عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسن الخلق خلق الله الأعظم" الطبراني في الكبير والأوسط ،الفردوس بمأثور الخطاب فيض القدير.
إن دعامة حسن الخلق التي بها يقوم، الرفق واللين والمعاملة الطيبة ومداراة السفهاء، وقد امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعله لينا مع القوم غير فظ ولا عنيف ولا جبار فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )آل عمران 159؛ ونصح موسى وأخاه هارون عليهما السلام إذ أرسلهما إلى فرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) طه 44.
قال صلى الله عليه وسلم :
- " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله " البخاري ومسلم.
- " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه " مسلم.
- " من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" الترمذي وابن حنبل.
- " ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل هين لين سهل" الترمذي.(/21)
إن التؤدة والأناة والسكينة في التصرف، والرفق والهون واللين في المعاملة، تقيم جسورا متينة من المحبة والمودة والثقة بين المؤمن وبين غيره من مختلف الأجناس والأديان والألوان، كما تحميه وتشد أزره في مواجهة السفهاء وعدوانية الجاهلين ووقاحة أقوالهم وسوء تصرفاتهم، وقد أرشد الله تعالى إلى خير أسلوب للرد عليهم فقال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، فيكون الحلم وطلب السلامة من السفهاء والامتناع عن معاملتهم بالمثل مصدا للجهل وترسا في مواجهة الجاهلين، وكأن المؤمن يقول لهم: لا نجاهلكم ولا نسافهكم، ولا خير بيننا ولا شر، ومطلبنا أن نسلم منكم، كقوله تعالى ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) القصص 55، وهو سلام توديع لا سلام تحية.
بمثل هذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل هذا الصنف من الناس، وإلى هذا الأسلوب كان يرشد أتباعه رضي الله عنهم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن نفر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وعليكم " ، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله " ، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟، قال: " قد قلت: وعليكم" البخاري والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد.
2- صفة الليل في خدمة الخالق عز وجل:
لما أرشد الله تعالى أولياءه إلى صفة ما ينبغي أن يكون عليه حالهم بالنهار، من ترك الإيذاء والعدوان مبادأة وجزاء، عقب بذكر صفاتهم بالليل سجودا وقياما (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )؛ فتكامل بذلك يوم المؤمن ليله ونهاره، سره وعلانيته، برا بالخلق وقياما بحق الخالق.
إن قيام الليل أفضل العبادات بعد المفروضات، لأن العبد يخلو فيه إلى ربه دون رياء أو تسميع، ويدعوه ويتضرع له بطمأنينة نفس وهدوء بال وخشوع قلب، خاليا من هموم الدنيا وشوائب الحياة وشواغل الكسب والأهل والولد، فتكون عبادته أشد إخلاصا ودعاؤه أكثر صدقا، وموقفه من ربه أبلغ قربا، كما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد، فأكثروا الدعاء )، أما إن كان السجود والدعاء والتضرع في جوف الليل كما ترشد إليه الآية الكريمة، فذلك الفوز الكبير والنجح الوفير؛ أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغغفرني فأغفر له؟ ".
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن عمرو بن عنبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " .
وروى الترمذي أيضا عن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله، أي الدعاء أسمع – أي أرجى عند الله تعالى- ؟ قال: " جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات " .
3- صفة لعباد الرحمن في كل الأوقات وفي جوف الليل أرجى:
وهي سعيهم الدائب للنجاة من النار والدعاء إلى الله تعالى أن يعيذهم منها (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (؛ والعذاب الغرام هو الألم الموجع الملح الملازم، والهلاك والخسران الدائم، يوضح ذلك وصفه لجهنم بأنها ( ساءت مستقرا ومقاما) ، وكونها مستقرا خاص بالعصاة من أهل الإيمان، وكونها مقاما خاص بأهل الكفر لأنهم يخلدون فيها.
إن الإِشارة إلى توجه عباد الرحمن بالدعاء إلى الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم، مع اجتهادهم في العبادة وصدقهم في النية والقصد، دليل على أنهم في قمة الإخلاص خوفا من الله تعالى ورجاء فيه، وهذا كقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) المؤمنون 60، وقد روى الحاكم عن ابن عباس قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) التحريم6، تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه، فخر فتى مغشيا عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فتى قل لا إله إلا الله " فقالها، فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ قال: " ما سمعتم قوله تعالى(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) إبراهيم 14.(/22)
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
إن منزلة الخوف والرجاء هي مقام عباد الرحمن في الدنيا، ومن كان هذا حاله توج عمله بالحياء من الله تعالى والمحبة له ولأوليائه، وطهر لسانه من الكذب والغيبة وفضول القول، وبطنه من حرام المشرب والمطعم، وجوارحه من الآثام والفواحش، وقلبه من العداوة والخيانة والغش والحسد والرياء؛ فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف " - الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا-، أما الدعاء وحده مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغفلة والغرور والتعلق بالأماني، يقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) النساء 123.
إن لكل حق حقيقة يتجلى بها في أوضح صورة، وإن حقيقة عباد الرحمن أن تتوافر فيهم العقيدة السليمة والطاعات المفروضات عملا وتركا، والمعاملة اللينة الهينة الرحيمة مع الخلق، وذلك هو النور الرباني الذي يغشى قلوبهم ، ويأخذ بنواصيهم إلى جادة الخير والرحمة، ولله در حارثة رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال عليه الصلاة والسلام: " انظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " ، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاورون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " عرفت فالزم "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا "، ثم قال: يا رسول الله ادع لي بالشهادة، فدعا له فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب فاستشهد في سبيل الله ) أخرجه الترمذي والطبراني والبزار والسيوطي في الدر المنثور .
________________________________________
ظاهر الإثم وباطنه
قال الله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) الأنعام 120
هذه الآية الكريمة تحوي أمرا بتجنب الإثم، ووعدا ووعيدا لمن لم يمتثل، بالجزاء والعذاب في الآخرة.
والأمر فيها للوجوب موجه لسائر المكلفين إنسا وجنا، وهو لصرامته شديد الإيجاز، محرم لكل ما يستقبح، وحاض بمفهوم المخالفة على جميع مكارم الأخلاق، ومؤلف من أربعة ألفاظ لا يحتاج إلى الشرح اللغوي منها إلا لفظا " ذروا " و " إثم ".
ففعل الأمر " ذروا " بمعنى دعوا واتركوا، من: وذر يذر، وقد أماتت العرب منه صيغ الماضي والمصدر واسم الفاعل، فلا يقال: وذر وذرا فهو واذر، وإنما يقال ترك تركا فهو تارك، وإنما تستعمل العرب منه صيغتي المضارع والأمر، قال تعالى:
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )البقرة278.
- (مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأعراف 186.
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) الجمعة 9.
- (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) المزمل 11، أي: كلهم إلي ولا تشغل قلبك بهم.
أما لفظ" إثم " فحروفه الثلاثة الهمزة والثاء والميم تدل على أصل واحد هو البطء والتأخر، والإثم مشتق منه، لأن الآثم بطيء عن الخير متأخر عليه.
يقال: أثم الرجل إثما ومأثما فهو آثم وأثيم وأثوم، إذا أذنب، أما قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) الفرقان 68، فمعنى " الأثام" هنا: جزاء الإثم.
والتأثم هو التحرج من الذنب والكف عنه والتوبة منه.
والإثم لغة هو الذنب، ومن فسره بالعدوان جانبه الصواب، لأن العدوان من الإثم، والإثم أعم منه، والعرب تسمي الخمر إثما، وبه فسر قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ ) الأعراف 33.(/23)
ونظرا للسياق الذي وردت فيه هذه الآية من لوم للمشركين على امتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه قبلها (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) الأنعام 119، ونهيهم عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بعدها (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )الأنعام 121، ولما جرت به عادة العرب من تسمية الخمر إثما، فقد ذهب المفسرون في شرح الإثم مذاهب شتى، وخصصوا معناه تخصيصات لا دليل عليها:
ذهب بعضهم إلى أن الإثم الظاهر والباطن خاص بأكل الميتة والذبائح وشرب الخمر والنبيذ، وآخرون إلى أن ظاهر الإثم هو الزنا المعلن بذوات الرايات ( المحترفات)، وباطنه هو الزنا الخفي واتخاذ الأخدان، كما فسر بشرب الخمر علانية وتسترا.
وعند بعضهم الظاهر منه هو الطواف بالبيت عراة والباطن هو الاستسرار بالزنا، وعند آخرين الظاهر منه ما ورد في الآية 23 من سورة النساء ( حرمت عليكم أمهاتكم...) والباطن هو الزنا، أو أعمال الجوارح الظاهرة والنوايا وأعمال القلوب المستترة.
لكن الصواب هو أن تخصيص الآية بصورة معينة من غير دليل لا يجوز، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيكون التحريم عاما في جميع الآثام والفواحش، ولذلك عقب تعالى على هذا الأمر بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) الأنعام 120، أي أن مرتكب الإثم ظاهرا أو خفيا سيجازي بالعذاب الدائم يوم القيامة إن كان مستحلا له، فإن لم يكن مستحلا له ولم يتب ولم يعف الله عنه عذب على قدر ذنبه؛ وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال: ( الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) صحيح مسلم والمستدرك على الصحيحين؛ ولا يحيك في صدر المؤمن ويخشى الفضيحة فيه إلا ما خالف الشريعة وعارض الفطرة السوية وأخل بالمروءة.
إن الإثم العام غير المخصص الذي تحرمه هذه الآية الكريمة، منه ما هو متعلق بالمعتقد، ومنه ما هو متعلق بالنية والقصد والإرادة، أو بأمراض القلوب وخطرات النفس، أو بأعمال الجوارح الظاهرة والمستترة.
1 – إثم المعتقد:
أشد الآثام وأخطرها الشرك بالله تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف 110، وهو إنكار ألوهيته عز وجل أو ربوبيته أو أسمائه وصفاته، أو إشراك غيره معه فيها، سواء كان ذلك في المعتقد أو في العبادة؛ إلا أن أخف الشرك ما اجتمع فيه الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم مع أعمال جعل فيها لغير الله نصيب مهما كان قليلا، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه قال:
- ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء ) مسلم وابن ماجه وأحمد.
- ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة، قالوا : يا رسول الله كيف ننجو منه؟ قال: " قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ) ابن حبان في صحيحه.
2 – إثم النية والقصد والإرادة:
ولا نعني بالنية ما يميز به المرء العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر أو صيام الفرض عن صيام التطوع مثلا، ولكننا نعني بها قصد العامل بعمله، وهل هو لله أم لغير الله، للخير أم للشر؟، وهو ما شرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) البخاري ومسلم.
فأي عمل يقوم به المرء ينقلب إثما إذا لم يرد به نفع نفسه أو نفع عباد الله أو كف أذى أو جلب مصلحة ولم يقصد بذلك وجه الله تعالى؛ وكأي من عمل يبدو ظاهره خيرا والقصد منه قبيح، والطعم الذي يوضع في الصنارة بحسب ظاهره إطعام وإحسان وما يقصد به إلا اصطياد سمكة، ومثل النية السيئة أعمال البر التي تغطي مقاصد السوء.
3 – إثم أمراض القلوب وخطرات النفس:
أمراض القلوب وخطرات النفس كثيرة، على رأسها النفاق والحسد والحقد والعجب والكبرياء والرياء والنجوى والوساوس وسوء التأويل لأقوال المسلمين وأعمالهم والأماني الضالة، وحب الرئاسة والميل للإضرار بالخلق، وإيثار الدنيا على الآخرة، وهي كلها هم وغم حزن وضائقة نفس في الدنيا، ومحاسبة في الآخرة، سواء ظهرت آثارها في تصرفات المرء وأقواله وأفعاله أم لم تظهر. قال صلى الله عليه وسلم:( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) البخاري ومسلم
وقال تعالى:(/24)
- (لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة 225.
- (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) البقرة 284.
ولئن استدل بعضهم على نسخ المحاسبة فإن مذهبهم ضعيف، لأن في الآية وعد ووعيد وذلك لا يحتمل النسخ الذي يعد هنا خلفا وبداء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. إلا أن من نفى النسخ اشترط للمحاسبة أن تكون خطرات النفس مصحوبة بالاعتقاد والعزم، وبغير هذا تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:( إن ربكم رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عشر إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت واحدة أو يمحوها، ولا يهلك على الله إلا هالك ) سنن الترمذي وسنن الدارمي والمعجم الكبير.
ومع ذلك فإن من يشغل قلبه بأمراضه ونجواه، وإن لم يصاحب ذلك عزم واعتقاد يكون قد ضيع مكسبين، أولهما أجر شغل النفس بالخير والفضيلة، وثانيهما راحة البال والسكينة اللتان تملآن القلب المطمئن إلى ربه الخالي من الأمراض.
قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي الناس أفضل؟ : ( كل مخموم القلب صدوق اللسان ) قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: ( التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ) ابن ماجه بإسناد صحيح.
كما حذر من أمراض القلوب قائلا:
- ( دب فيكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) البزاز بإسناد صحيح والبيهقي.
- ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ...) البخاري ومسلم.
4 – إثم الجوارح ظاهرا وباطنا:
الجوارح مفردها جارحة، من جرح واجترح بمعنى اكتسب وعمل، مجاز من معناه الأصلي الذي هو جرح السيف ونحوه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) الأنعام 60، وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الجاثية 21.
ومنه لفظ " الجوارح " بمعنى السباع والطير التي تستعمل للصيد، لأنها تجرح لصاحبها، أي تكسب له، واحدتها جارحة؛ ومن المجاز أيضا الجوارح بمعنى أعضاء الإنسان وعوامله، لأن بها يكسب الخير والشر؛ وهي السمع والبصر والفم واللسان واليد والرجل والفرج. فإن استعملت في العبادة والخيرات والمباحات كانت السلامة والأجر الحسن، وإن استعملت في المحرمات والمكروهات ومخلات المروءة كان الإثم والندم؛ واستعمالها في الإثم عادة يبدأ صغيرا ومتخفيا مادام المرء محتفظا ببعض حيائه، ثم تنفرج زاوية الجراءة على الله تعالى بالتدريج، وتنسلخ من القلب فطرة استقباح المحرمات والمعاصي والذنوب، فتصير له عادة وسجية، ويرفع عنه الحياء من الله ومن الناس، فيقع في التهتك والمجاهرة إلى حد يفتخر فيه بارتكابها ويحدث الناس بها؛ قال صلى الله عليه وسلم:( كل أمتي معافى إلا المجاهرين. قيل يا رسول الله ومن المجاهرون؟ قال:الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، فيكشف ستر الله عنه ) المعجم الصغير1/378.
إن حماية الجوارح من الآثام خير سبل النجاة بين يدي الله تعالى يوم القيامة، وخير ما يحفظ به المرء سلامة جسده ويوفر به لنفسه الراحة والطمأنينة والسعادة في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم:
- ( من يضمن ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) البخاري ومسلم.
- ( اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم ) أحمد وابن حبان في صحيحه.
آفة الخيانة
يقول الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ) الأنفال27(/25)
يتساءل كثير من الإخوة عن سبب تركيزنا على الجانبين العقدي والأخلاقي، مع أن الساحة الإسلامية بنظرهم في أشد الحاجة إلى الوعي الحركي والتنظير السياسي. ونحن لا ننكر دعواهم أو نتنكر لها، وإنما نؤثر أن يبنى هذا الوعي على أرض صلبة من الأخلاق السوية صدقا وعدلا ووفاء وإنكارا للذات وإيثارا. لأن الإسلام لابد أن يتسق فيه الاعتقاد والسلوك، والنظر والعمل، ينتقل فيه المرء من قواعد الإيمان إلى سوي المعاملة، حيث النصوص تضبط التصرف، والنظر السديد ليس ترفا عقليا أو تهويمات جدلية، ولا خير في فكر لا يثمر رشدا أو علم لا يخصب النفس، وهو ما يشير إليه قوله عز وجل ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(الصف 2-3
إن قضايا تصفية العقيدة وإخلاص الإيمان وتطهيره من شوائب الانحراف، وتنقية العبادات من رديء البدع والعادات، تواكبها قضايا أخرى متعلقة بالسلوك الفردي والجماعي داخل الأمة لابد من بحثها ووضع الحلول الناجعة لها، حتى لا تبقى الدراسات الدينية عقدية كانت أو شرعية أو أخلاقية، ترفا ثقافيا أو وسيلة للكسب المادي وصعود درجات الجاه لدى الحكام وأرباب السلطة. ذلك أن كل فعل يعد انبثاقا عن نية فاعله، وأعمال الجوارح آثار لما يخطر في القلب من مقاصد وما يحرك السلوك من قواعد، والفعل لا يكون فاضلا إلا إذا تطهر صاحبه من شرور النوايا وآفات التسيب، والنفس البشرية إن لم يكن التزامها بالسلوك السوي طوعيا إراديا وبدون إكراه، لا تدع شهوتها الخفية المستورة في طلب ما تحب من متاع الحياة الدنيا وزينتها مالا ولذة وجاها؛ وهي مطالب ظاهرها يظن خيرا ولكن باطنها شر مستطير. ولئن كنا نركز أحيانا على الوجه المضيء للأخلاق السوية ووجوب الالتزام بها، باعتبار أن مفهوم المخالفة يقتضي تحريم ما يضادها، إذ وجوب الحياء والعدل والصدق يقابله تحريم الوقاحة والظلم والكذب، فإننا حاليا نركز على وجه مظلم من السلوك البشري عسى أن ينتبه له الدعاة ويجتنبوه ويطهروا صفهم من أربابه، عملا بقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) الأنعام55، واقتداء بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذيفة رضي الله عنه إذ قال في الحديث المتفق عليه: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني....).
هذا السلوك المظلم، هو آفة " الخيانة " بدناءتها وأرجاسها التي تأباها النفوس الشريفة، وترفضها العقول السوية وتمجها الطباع النظيفة، من أي دين وأي مذهب وأي قوم وأي عرق، لاسيما وقد تنزلت في شجبها مع أربابها الآيات البينات:
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) الأنفال 58
- (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) الحج38
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحذر منها بقوله: ( لا تخن من خانك ) أبوداود/ بيوع ، ويستعيذ بالله منها في دعائه: ( ... وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة...) النسائي/ استعاذة.
لقد كانت " الخيانة " في معناها اللغوي تصرفا غير واضح السمات، إلى أن جاء الإسلام فنقلها إلى معنى أعم وأشمل، يحدد معالم المدسوسين في الصف المسلم، ويبين مخاطرهم وطرق التعامل معهم.
ذلك أن الجذر اللغوي لها هو مادة " خان" بمعنى انتقص، يخون خونا وخيانة وخانة ومخانة. فالخاء والواو والنون أصل واحد معناه التنقص والضعف، يقال: في ظهره خون أي ضعف، والخون أن يؤتمن المرء فلا ينصح، والخيانة التفريط في الأمانة، وخانه إذا لم يف له، وخان السيف إذا نبا عن الضربة، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر، وناقض العهد خائن لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر، ومنه قوله تعالى: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ) الأنفال71.
واختانه فهو خائن وخؤون وخوَّان وخائنة ( الهاء للمبالغة مثل نسابة )، ومنه قوله تعالى:( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) غافر19، أي ما يسارق المرء من النظر نظر ريبة إلى ما لا يحل له، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) أخرجه أبو داود والحاكم في مستدركه. والخيانة والنفاق شيء واحد، لكن الخيانة تقال باعتبار العهد والأمانة، والنفاق باعتبار الدين، وإن كانا يتداخلان في مواطن كثيرة.(/26)
فلما نزل القرآن نقل اللفظ " الخيانة " إلى معناها المصطلحي المتضمن للغدر والكذب وتزييف الحق وتزوير الوقائع والتجسس وكشف عورات المسلمين والمجتمع الإسلامي بالقول والعمل والإشارة والعبارة، هذا المعنى الذي يحدد معالم شخصية مريضة حاقدة مضطربة، دنيئة لئيمة، تُطْرَدُ من الصف المسلم إن تعذر تقويمها وإصلاحها.
لقد شمل لفظ " الخيانة " بذلك معاني واضحة تحدد معالم الأشرار، لا تركن إليها النفوس الحرة، ولا ترتضع ألبانها الأفواه النظيفة، معاني تركس الأخلاق الفردية والجماعية في الخلل والفساد، من أقصى المعاملات الذاتية والفردية إلى أقصى نظم الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع:
- فمن لم يهذب نفسه ولم ينتفع بعقله فقد خان نفسه.
- ومن استسلم لحلاوة المال أوالجاه أو القوة فقد خان نفسه.
- ومن عشي بصره عن عيوبه، ومَِرضَ قلبه بالهوى فقد خان نفسه.
- ومن غرته المطامع وأعمته الأماني فقد خان نفسه.
- ومن غُلَّ عقله بالغضب والشهوة فقد خان نفسه.
- ومن مدحك بما ليس فيك فقد خانك.
- ومن ستر عنك الرشد اتباعا لما تهوى فقد خانك.
- ومن ساترك عيبك فقد خانك.
- ومن كان معك في أمر جامع واستبد برأيه عليك فقد خانك
إن أعمال الخيانة متعددة ومتنوعة، ولكنها باعتبار من وجهت ضده أربعة أصناف حددتها آيتان كريمتان هما:
- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ) الأنفال27
- (وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107.
إن الخيانة بهذا الاعتبار أربعة أصناف: خيانة لله عز وجل، وخيانة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة للأمانة، وخيانة للنفس.
ولئن كانت الخيانة في هذه الأصناف الأربعة خيانة واحدة، لأنها كالأواني المستطرقة، يصب بعضها في بعض، إذ خيانة النفس خيانة لله وللرسول وللأمانة، وكذلك خيانة الله وخيانة الرسول وخيانة الأمانة، فإن ورودها مفصلة في القرآن ومبينة في السنة النبوية يراد به زيادة التوضيح والتحذير والتنبيه والحث على اجتنابها والبعد عن أهلها.
فخيانة المرء لله تعالى تتمثل أول ما تتمثل في الكفر والشرك لأنهما رأس الموبقات، وداخل الصف المسلم يجسدها النفاقان العقدي والعملي بوضوح، وهما إظهار الإيمان والعمل الصالح، وإسرار الشرك والرياء وعدم الوفاء بعهد الله تعالى.
وخيانة المرء للرسول صلى الله عليه وسلم هي عدم الامتثال لأمره ونهيه، وعدم الاقتداء والتأسي بهديه، وإدخال البدعة في سنته.
أما الأمانة وهي كل ما تعبد به، فتدخل فيها عقيدة الإسلام وشرائعه؛ وبما أن الخون معناه التنقص فإن خيانة الأمانة هي الانتقاص من الشريعة أو تحريف العقيدة، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة، وخان الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم.
أما خيانة المرء نفسه فإن معناها العام المطلق يشمل أمرين:
- الخيانة الذاتية بأن يرتكب المرء من المعاصي والأفعال ما يضر به نفسه في الدنيا والآخرة.
- خيانة المرء أمته، باعتبار أنها من نفس واحدة كما قرر ذلك القرآن الكريم (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء1، وأن جماعة المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وتكون خيانتهم بانتقاص حقوقهم المادية كأكل أموالهم بالباطل، أو انتهاك أعراضهم أو سفك دمائهم، أو التجسس عليهم وكشف عوراتهم لأعدائهم، أو بانتقاص حقوقهم المعنوية بالامتناع عن الدفاع عنهم أو عن بذل النصيحة لهم أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، أو بخذلانهم في ساعات الضيق والعسرة، أو عدم دعوة الخلق إلى دين الإسلام ؛ وقد جاء في الأثر : (المؤمنون بعضهم لبعض نَصَحَة وادُّون، وإن بَعُدت منازلهم وأبدانهم، والفَجَرَة بعضهم لبعض غَشَشَة مُتَخاِونون، وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم ) (نسب القول للإمام علي رضي الله عنه،كما رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبو الشيخ بن حبان في كتاب التوبيخ، وكنز العمال ح 757 ، والترغيب والترهيب 2/575، ولا تصح نسبته للرسول عليه الصلاة والسلام)(/27)
وتتضح لنا المعاني وتستنير المعالم من تتبعنا لسياق قوله تعالى (وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107، فقد تلاها مباشرة قوله عز وجل ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) النساء108، ثم تلاه مباشرة قوله سبحانه (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) النساء109، والجدال لغة شدة المخاصمة، من جدل الحبل إذا فتله، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يميل صاحبه عما هو عليه من رأي ويصرفه عنه.
وبمفهوم هذه الآيات الكريمة يعد خونة أنفسهم منافقين، نفاقا عقديا لأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ونفاقا عمليا لأن تصرفاتهم تناقض تعاليم الإسلام وإن تظاهروا بالإيمان، وهم بذلك محط غضب الله تعالى وبغضه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) النساء107، وما أعظمه من ذنب يجلب على صاحبه بغض الله له، ومن أبغضه الله فقد لعن، ومن الإيمان أن تحب من يحبه الله وتبغض من يبغضه الله، ( وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - كنز العمال.
ونظرا لخطورة الخيانة بارتكازها على الغدر والمكر الخفي فقد تكفل الله تعالى رحمة منه ولطفا، بدفع شرها عن المؤمنين إن هم التزموا بالتوجيهات القرآنية والنبوية في تعاملهم مع هذه الظاهرة وأربابها، فقال عز وجل: ( وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) يوسف52، أي أن صاحب الخيانة لابد أن يفتضح ويفشل مكره ويرد كيده في نحره، وقال أيضا: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور) الحج38، وفي هذه الآية إشارة لطيفة بترك المدفوع عن المؤمنين عاما مطلقا، وجعل سياقها يشير إلى الخيانة، وذلك بشارة عظيمة للمؤمنين الذين يتعرضون للخيانة، بأنه عز وجل متكفل بالدفاع عنهم.
إن الخيانة تفوق خطورتها جل الكبائر المرتكبة، لأنها تضمها كلها، ولها تعلق بالنفاق والغش والخداع وترك النصيحة وارتكاب الفواحش والنميمة والكفر والشرك وسفك الدم الحرام...الخ
فالنفاق خيانة كله، وآية المنافق كما وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ) البخاري ومسلم، فالكذب بذلك خيانة لأنه تزوير وقلب للحقائق، وإخلاف الوعد خيانة، وانتقاص الأمانة خيانة؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عد الكذب على المؤمنين أكبر خيانة بقوله ( كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب ) البخاري في كتاب الأدب ، وأبو داود في كتاب الأدب.
والغش والمكر والخديعة خيانة لأن فيها انتقاصا لحقوق المسلمين وإضرارا بهم وغدرا لهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم:
- ( المكر والخديعة والخيانة في النار) أبو داود في مراسيله عن الحسن.
- ( من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار ) الطبراني في الكبير والصغير وابن حبان في صحيحه.
- ( من غش المسلمين فليس منهم ) الطبراني في الكبير ورواته ثقات.
وترك النصيحة للمؤمن خيانة، لأن في ذلك غمطا لحق المؤمنين فيها وخيانة لهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( من أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه ) أبو داود/ كتاب العلم.
والغلول خيانة، لأنه بمثابة سرقة المال العام، وهو من الكبائر بإجماع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة) أحمد والنسائي وصححه ابن حبان، وقال: ( بئس العبد يختل الدنيا بالدين ) الترمذي والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير.
وترك الالتزام بأمر الجماعة خيانة، سواء كان اشتراكها في تجارة أو فلاحة أو صناعة، أو كان في الدعوة والجهاد، لأن في ذلك نقضا للعهد وطعنا في الظهر ومدعاة لتخلي الله تعالى عن الخائن، وهو ما يشير إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما ) أبو داود والدا رقطني والحاكم بإسناد صحيح، أي حجبت مدافعة الله تعالى عن الاثنين معا، واختصت بالصادق المظلوم منهما.
وارتكاب الفواحش خيانة، فالسارق خائن لأنه ينتقص أموال الناس بغير حق، والزاني خائن لأنه ينتهك أعراض الخلق وينتقصها، والقاتل خائن لأنه يسلب المقتول حق الحياة، والجاسوس خائن... والمغتاب خائن... والنمام خائن...الخ(/28)
إن الخيانة رأس كل خطيئة وعنوان كل جريمة مهما دقت أو جلت، والأمين لا يخون أبدا، لا يخون مسلما ولا كافرا ولا خائنا، وفي الحديث ( لا تخن من خانك )أبو داود/بيوع، ولذلك قال بعض السلف الصالح: ( لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن)، وقال الإمام علي رضي الله عنه: ( أد الأمانة إلى البر والفاجر فيما جل أو قل ).
لقد حذر سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أهل الخيانة تحذيرا صريحا لا لبس فيه فقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) النساء 105، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( كل خصلة يطبع عليها أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب ) ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي الدنيا في الصمت مرفوعا وموقوفا.
ولئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كفاه الله تعالى مكر الخائنين وغدرهم فقال: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الأنفال71، وأرشده عز وجل إلى خير أسلوب للتعامل مع الخونة بعد أن شبههم بشر الدواب بقوله في سورة الأنفال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ(56)فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57)وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )، فإنه صلى الله عليه وسلم تعليما لنا وإرشادا وتحذيرا، كان لا يستعين مطلقا بمن يتوسم فيهم ملامح الخيانة؛ وقد روى أبو داود في سننه- كتاب الخراج والإمارة والفيء – عن أبي موسى قال: انطلقت مع رجلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتشهد أحدهما ثم قال: جئنا لتستعين بنا، وقال الآخر مثل قول صاحبه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن أخونكم عندنا من طلبه )، فاعتذر أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لم أكن أعلم لما جاءا له، فلم يستعن بهما على شيء حتى مات.
وبما أن الدعوة الإسلامية شهادة على الناس ( لتكونوا شهداء على الناس ) فلا يجوز أن ينضم إليها خائن ولا خائنة، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ) أبو داود/أقضية.
إن علاج الصف المسلم من هذه الآفة هو المناصحة والمودة بين جميع أعضائه، مهما تباعدت ديارهم وأبدانهم، والحذر من أن يتحول أعضاؤه إلى مجموعة من الغششة المتخاونين، يتنافسون على المال والجاه والمنصب، ولا يراعون في مؤمن إلا ولا ذمة؛ وهو ما آل إليه حال كثير من التنظيمات الإسلامية المعاصرة، التي هيمنت عليها أجهزة الحكام، وسخرها جنود الظلام.
________________________________________
مكارم الأخلاق من سورة الحجرات
سورة الحجرات مدنية بإجماع ، وهي ثمان عشرة آية ، وتعد أول سور المفصل ( سميت بالمفصل لكثرة الفصل فيها بين السور ولكون جميعها من المحكم الذي لا نسخ فيه ) .
وقد شملت ما ينبغي أن يتحلى به المؤمن من مكارم الأخلاق وفضائل العادات ، في علاقته بربه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم مع الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الجهاد والعمل الصالح ، ثم مع عامة المؤمنين في غيبتهم وحضورهم ، ومع فسقة الخلق وفتّانيهم ، ثم مع بني جنسه من كافة الأعراق والألوان والمعتقدات .
ومناسبتها لما سبقها في السورة المتقدمة عليها ( سورة الفتح ) ، أن الله سبحانه وتعالى لما وصف في سورة الفتح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم " أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " عقّب على ذلك في هذه السورة – الحجرات – بالصفات التي ينبغي أن يتحلى بها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، ليكونوا أهلاً لهذه الصحبة النبوية في الدنيا والآخرة .لقد خاطب البارئ عزّ وجل المؤمنين في هذه السورة خمس مرات بقوله :{ يا أيها الذين آمنوا } ، في كل نداء من هذه النداءات توجيه إلى مكرمة خلق ينبغي التحلي به ، ثم خاطب في المرة السادسة عموم الخلق بقوله :{ يا أيها الناس } ليرشدهم إلى طريقة تحفظ أمن الجميع وسلامتهم وتعاونهم على البر والتقوى .
1 - أدب التعامل مع الله ورسوله عليه الصلاة والسلام :
قال الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}(الحجرات 1).(/29)
وقد قرن الله عزّ وجل في هذه الآية نفسه برسوله عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ الوحيد عن ربه ، ونبّه المؤمن إلى أنه دائماً في حضرة ربه { وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}( الحديد 4 ) ، وعليه احترام الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأوامره ؛ لأن ذلك من صميم تقوى الله وهذه التقوى تقتضي الالتزام بأمور منها :
عدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة ، فلا يقول ولا يقضي في الدين بخلاف ما تنص عليه الشريعة ، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء ، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه والسلام ، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه، ولا يفتات على الله شيئاً أو يقطع أمراً حتى يحكم الله فيه ، ويأذن به على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام .
2 - الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ( الحجرات 2 ) .
وقد نهى الله تعالى في هذه الآية عن ثلاثة أمور :
- عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن به من الكلام والآراء والأحكام .
- عن رفع الصوت بحضرته .
- عن الجفاء في مخاطبته ومحاورته .
كما أمر بتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره . وبما أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم حيا كحرمته ميتا ، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام ، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه ؛ لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته صلى الله عليه وسلم أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام ، ثم عقب سبحانه على هذا التوجيه بقوله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم } ( الحجرات 3 )، أي أنهم صُبُرٌ على التقوى مجربون لها ومدربون عليها ، وأقوياء على تحمل مشاقها ؛ فحكم بذلك بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم ، والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته .
وقد قال أبو بكر – رضي الله عنه – عندما نزلت هذه الآية : " لا أكلمك يا رسول الله إلا السرار حتى ألقى الله " ، كما كان إذا قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويستنبط الفقهاء بالقياس من هذا التوجيه القرآني وجوب احترام الوالدين والعلماء وذوي السابقة في الدعوة والجهاد وكبار السن ، والرفق بهم وعدم رفع الصوت بين أيديهم ، والاستحياء بحضرتهم ، مما تؤكده نصوص كثيرة لا يتسع المجال لها حاليا .
3- التعامل مع الفسقة :
قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ( الحجرات 6 ).
وبما أن الفسقة أولياء للشيطان ، والشيطان عدو للمؤمن الصادق ؛ فإن همّ الشيطان وأوليائه الفسقة دائما هو إيقاع الفتنة بين المؤمنين ، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة ، والأضاليل المخترعة. فإذا كان الناقل فاسقا وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر . وينطبق هذا التوجيه الرباني أيضا على الأنباء والتحاليل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي يشرف عليها فساق الأمة أو أعداؤها ؛ لأن غاية هؤلاء في الأصل فتنة الأمة وإضعافها وإفساد أحوالها .
وبما أن نتيجة الثقة في الفساق ونقولهم وأخبارهم غالبا ما تكون الفتنة والتقاتل بين المؤمنين ، فقد عقب سبحانه على ذلك بالإرشاد إلى كيفية التغلب على هذه الفتنة بقوله :{ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } ( الحجرات 7 )، وفيها تذكير بأن النجاة من الفتن في اتباع سنته وهديه وعدم عصيان أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا . ومرد ذلك إلى تمسك القلب بالإيمان الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، ونفوره وكراهيته للكفر والفسوق والعصيان ، وكل ذلك نعمة من الله وفضل . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يثبته على الدين ، وأن يجدد الإيمان في قلبه .(/30)
ثم ضرب سبحانه وتعالى لهذه الفتن مثلا فيما يقع بين المؤمنين من تخاصم وتقاتل ، فقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ( الحجرات 9 ) ثم أكد القاعدة الأصل والوشيجة المتينة في الصف المؤمن ، التي هي الأخوة في الله فقال :{ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ( الحجرات 10 ) ، وهو ما بينته السنة النبوية في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " – " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " - " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص – وشبك بين أصابعه – " – " منزلة المؤمن من المؤمن منزلة الرأس من الجسد ، متى اشتكى الجسد اشتكى له الرأس ومتى ما اشتكى الرأس اشتكى سائر الجسد". وقد أورد أبو داود في كتاب الأدب ما روي عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : "مامن امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته " - الحديث رقم 4884 - ؛ ثم قرن الصلح بين المؤمنين المتخاصمين بالتقوى وجعله مدعاة لنزول الرحمة عليهم بقوله تعالى : {واتقوا الله لعلكم ترحمون } ( الحجرات 10 ) ، لأن الميل للصلح وإيثاره ، انبثاق فطري من التقوى ، والتقوى هي القناة الغيبية التي تنزل منها الرحمة .
4 - في علاقة المؤمن مع عموم بني جنسه ، وخصوص إخوته المؤمنين في حال حضورهم والتعامل المباشر معهم.
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } ( الحجرات 11 ) .
فبين المعاملة التي ينبغي أن تكون بين الأقوام رجالا ونساء ، شعوبا وقبائل بكافة ألوانهم وعقائدهم ومراتبهم الاجتماعية ، وحث المؤمنين على أن يكونوا القدوة في الالتزام بهذا التوجيه القرآني الذي ينهى عن ثلاث مساوئ خلقية تمنع المودة وتصد عن طريق الحق ، وتثير الأحقاد والفتن والعناد ، وهي : السخرية واللمز والنبز .
فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الاحتقار والاستصغار ، ولعل من سخرت منه أو احتقرته أعلى وأجل منك في ساعته تلك ، ولعله يتوب بعد ذلك فتقبل توبته ، ولعله يسلم فيحسن إسلامه وتكون مرتبته عند الله أعلى منك . ولعل سخريتك منه تثير في نفسه العزة بالإثم ، فيزداد صدودا عن الحق وحقدا على أهله ، فيكون لك من الوزر بذلك نصيب .
واللمز : هو ذكر الإنسان أخاه في حضرته بعيوبه .
أما النبز : فهو مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو يعدها محقرة ، أو مثيرة للسخرية .
وسواء كانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات ؛ فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه ، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك ؛ لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه ، لاسيما إذا ارتكب هذا الإثم في حق المؤمنين ؛ لأنه بذلك يكون قد نبز نفسه وحقرها وسخر منها ، فالمؤمنون جسد واحد ، ولذلك قال سبحانه :{ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا ينادي بعضكم بعضا بها .
5 - في تعامله مع إخوته المؤمنين في حال غيبتهم وعدم حضورهم :
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، واتقوا الله إن الله تواب رحيم } ( الحجرات 12) .
وإذ حض سبحانه وتعالى في الآية السابقة على إساءة الظن بالفاسق والتبين في أقواله وتصرفاته، نهى هنا عن إساءة الظن بالمؤمنين وعن التجسس عليهم ، ومحاولة الاطلاع على أسرارهم أو نقلها إلى أعدائهم ، وعن اغتيابهم ، وانتهاك أعراضهم في غيبتهم ، وقد أخرج البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم :" إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك " .
والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله تعالى : الغيبة ، والإفك ، والبهتان . الغيبة أن تقول ما في أخيك ، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه ، والبهتان أن تقول ما ليس فيه .(/31)
وقد عد سبحانه وتعالى هذه الموبقات بمثابة أكل لحم المؤمن ميتا ، فقال : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } ، وهذا غاية البشاعة واللؤم والانحطاط . وكما أن الميت لا يحس بأكل الآكلين ، كذلك الغائب لا يسمع ما يقوله فيه المغتاب . والفعلان معا ( الغيبة وأكل لحم الميت ) في التحريم سواء . وفي الحديث المستفيض : " فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكل بمسلم أكلة ، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم ، فإن الله عز وجل يكسوه مثله من جهنم ، ومن قام برجل مسلم مقام رياء وسمعة ، فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " (الأدب المفرد 1/93 - حديث 240 ).
كما أن التعفف عن دماء المؤمنين وأعراضهم وأموالهم طريق للتقوى ومدعاة للتوبة والرحمة وهو ما يشير إليه قوله تعالى ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ).
6 - نداء البشرية كافة :
قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ( الحجرات 13 ).
كان النداء في هذه الآية بقوله تعالى " يا أيها الناس " خطابا لما يعم المؤمن والكافر مما ترتب على كونهم من أصل واحد هو آدم وحواء ، وتذكيرا لهم بحقيقة كونية ، هي أنهم خلقوا من نفس واحدة :{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } ( النساء 1 ) . وهذا ما يؤكد الأخوة البشرية الشاملة التي لا تفرق بين مسلم وكافر ، أبيض أو أسود أو أحمر إلا بالتقوى ، وأن هذه الأخوة مدعاة بين الأفراد والشعوب والقبائل إلى التعارف بما يؤدي إليه من أعمال البر والإحسان والتناصح والمعاملة الكريمة ، والتعاون على معرفة الحق والعمل بمقتضاه . وأن ما يميزهم عن بعضهم شئ واحد هو التقوى التي هي ثمرة الإيمان الحق الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، واتقاء الشرك ظاهرا وباطنا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله " .
ولذلك عقب سبحانه وتعالى بضرب مثل ببني أسد الذين أظهروا الإسلام في سنة جدب وقحط من أجل الحصول على الصدقة ، ولم تكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ، وكان إسلامهم مجرد استسلام واضطرار ، فقال تعالى :{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }( الحجرات 14 )، فحثهم على أن يكونوا صادقين في وصف حالهم بأن يقولوا ( أسلمنا ) أي انقدنا واستسلمنا ؛ لأن الإيمان المطلوب لابد أن يواطئ فيه القول وعمل الجوارح ما في القلب ، وهؤلاء لم يواطئ قولهم ما في قلوبهم . قال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا علي بن مسعدة ، حدثنا قتادة عن أنس – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الإسلام علانية والإيمان في القلب " ، قال : ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول : " التقوى ههنا ، التقوى ههنا " ؛ ثم يعقب عز وجل على ذلك بتعريف المؤمنين حقا ، وما ينبغي أن يتوفر فيهم من صفات هي الإيمان بالله ورسوله ، وعدم الارتياب في هذا الإيمان ، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فمن توفرت فيهم هذه الصفات وطابقت ألسنتهم عقيدتهم التي في قلوبهم ، وظهرت ثمرة ذلك جهادا بالنفس والمال ، كانوا صادقين في دعواهم بالإيمان . يقول تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } ( الحجرات 15 ).
________________________________________
وصايا من القرآن الكريم
حفل القرآن الكريم بكل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته اليومية من توجيهات ووصايا ربانية، منتثرة بين ثنايا السور والآيات، مجتمعة و متفرقة حسب ما يقتضيه السياق البياني الإعجازي .
من هذه الوصايا عشر وردن في سورة الأنعام ( الآيات 151 – 152 – 153 )، قال فيهن ابن عباس رضي الله عنه: " هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء في جميع الكتب " ، أي الكتب السماوية " ، وقال أيضا عنها: " في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب" ، ثم قرأ : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ..." .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتم النبوة فليقرأ هذه الآيات: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ..." إلى قوله تعالى: " لعلكم تتقون " .
وعن عبادة بن الصامت قال: " قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أيكم يبايعني على ثلاث؟ ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ...) حتى فرغ من الآيات، ثم قال: فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .(/32)
في هذه الآيات أُمِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن يدعو جميع الخلق جنا وإنسا إلى سماع ما حرم الله، بشريعة الإسلام المبعوث بها إليهم حقا ويقينا ووحيا ، وقد ُصِّنَفتْ فيها المحرمات إلى ثلاث درجات حسب مستوى التفكير العقلي للمخاطبين . خمس منها لا يقع فيها مجرد العاقل الذي يميز النافع من الضار بداهة، وأربع منها لا يقع فيها من يتذكر ويتفكر ويشعر بالمسؤولية أمام ربه وإزاء نفسه والخلق أجمعين، وعاشرة يتصف بها من عزم على ركوب جادة الصواب كاملة وبذل الجهد لبلوغ مرتبة التقوى ؛ ولذلك ختمت الفئة الأولى بقوله تعالى " ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " ، والفئة الثانية بقوله عز وجل : " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " والعاشرة بقوله تعالى " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " .
بدأت الآيات بقوله تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم ... " و فيها دعوة للناس أن يتقدموا و يقبلوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليستمعوا بيان ما جعله الله تعالى محرما وليعرفوا من خلال ذلك ما جعله الله واجبا، فبدأ سبحانه بالخمس الأوليات العقلية، ثم بالأربع التذكرية، ثم بعاشرة التقوى .
االوصايا العقلية
1- الشرك بالله ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) الأنعام 150
وكما أن سورة البقرة تكاد تكون مختصة بجدال اليهود وكشف مثالبهم وانحرافهم، وسورة المائدة عنيت بجدال أهل الكتاب و النصارى منهم خاصة، فإن سورة الأنعام قد شرحت تمهيدا منها للوصايا العشر، حال المشركين، وبينت أنواع شركهم وفساد عقيدتهم على أحسن وجه :
- الشرك باتخاذ الأوثان (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) الأنعام /74.
- الشرك بعبادة النجوم و الكواكب (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) الأنعام 78
- الشرك بعبادة الجن (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ) الأنعام 100
- الشرك بالزعم أن لله بنين و بنات (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون ) َالأنعام 100
فلما بين في ثنايا سورة الأنعام فساد هذه الطوائف المشركة، عقب على ذلك في أول الوصايا العشر بتحريم الشرك والتحذير منه، فقال سبحانه وتعالى: ( ألا تشركوا به شيئا ) ومثله قوله تعالى في سورة لقمان (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (13) ، وقوله في سورة النساء : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا(116) .
وعن عبادة بن الصامت قال : " أوصانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسبع خصال: ألا تشركوا به شيئا وإن حرقتم و قطعتم و صلبتم...."
2 - عقوق الوالدين: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الأنعام151
عقب سبحانه وتعالى على تحريم الشرك، بتحريم عقوق الوالدين المتضمن أمره بالإحسان إليهما، وهو مثل قوله تعالى في سورة الإسراء: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24)؛ فبدأ بإيجاب العبادة لله وحده، و ثنى بوجوب الإحسان إلى الوالدين، وذلك لأن أعظم النعم على الإنسان في الدنيا هي نعمة خلق الله له، و تتلوها نعمة الوالدين اللذين هما السبب الظاهر في وجود الإنسان، وفي تربيته و الشفقة عليه ورعايته والمحافظة عليه من الضياع في صغره.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: فأي ؟ قال: بر الوالدين، قلت : ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله )
ويقتضي الإحسان إلى الوالدين برَّهما وحفظهما و صيانتهما وامتثال أمرهما و عدم التسلط عليهما ، والدعاء لهما بعد مماتهما والإحسان إلى ذوي ودهما ومحبتهما .
3- قتل الأبناء: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الأنعام 151.
لما ذكر حق الوالدين الذين هم الأصول، أوصى بالأبناء الذين هم الفروع، فحرم قتلهم لتستمر الحياة البشرية على الأرض هنية آمنة مطمئنة يملأها الود و الوفاء.(/33)
إن قتل الأبناء صنفان: مادي هو الوأد الذي كان معروفا في الجاهلية، لسببين أولهما الإملاق (الفقر) الذي ذكرته هذه الآية، والثاني هو الخوف من العار كما شرحته آية أخرى في سورة النحل (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58)يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59)؛ وهذا الصنف هو الذي تطور في العصر الحديث إلى ما يسمى بعملية تحديد النسل لغير ضرورة صحية بواسطة الأقراص والحقن و اللوالب.
أما الصنف الثاني من الوأد فمعنوي يهمل به المرء تربية أبنائه وتعليمهم أمر دينهم ، فيلقي بهم في غضب الله وعقاب اليوم الآخر .
4- ارتكاب الفواحش: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) الأنعام 151
والفواحش هنا لا تخصص بالزنا فقط، وإنما تجرى على عمومها، فتشمل ظلم الإنسان نفسه، وعدوانه على غيره سرا أو علانية، سواء كان ذلك بالشرك أو الكفر أو الزنا أو السرقة أو غير ذلك مما يدخل في عموم الفاحشة، كما توضح بإشارتها لما ظهر وما بطن من الفواحش إلى أن الإنسان إذا احترز من المعصية ظاهرا وارتكابها سرا فهو لم يفعل ذلك عبودية لله وطاعة، ولكن مراعاة منه للناس أو خوفا منهم، ومن تركها ظاهرا وباطنا فقد تركها تعظيما لأمر الله وامتثالا، وهو نفس معنى قوله تعالى : (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) الذي تقدم في الآية 120 من نفس سورة الأنعام. وقوله عز وجل في الآية 33 سورة الأعراف (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )
5 - قتل النفس: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)َ الأنعام151
إن قتل النفس داخل في جملة الفواحش، ولكن الله عز وجل أفرده في هذه الآية لخطورة الجريمة وعظم فحشها. والأصل الشرعي في قتل النفس هو الحرمة. وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل وقطعي، قال تعالى في الآية 32 من سورة المائدة: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) ؛ وما ذلك إلا لأن النفوس البشرية كلها خلقت من نفس واحدة، والجراءة على قتل الفرع جراءة على قتل الأصل.
وليس مباشرة القتل وحدها هي الجريمة والفاحشة؛ بل الإعانة على القتل بأي طريق أو وسيلة تعد قتلا، ولو بكلمة أو إشارة، أو خبر يبلغ للقاتل، سواء كان شخصا حقيقيا أو شخصا اعتباريا، كرجال السلطة الظالمة التي تبحث عن الذرائع لقتل المؤمنين وسجنهم وتشريد أبنائهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه في سننه: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ).
وقال فيما أخرجه البخاري في صحيحه: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ).
وقال فيما أخرجه الحميدي في مسنده: (ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، لأنه سن القتل أولا ).
وقال فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء).
وتتابع سورة الأنعام سرد وصايا أربع أخرى تختص بدرجة أعلى من التعقل، هي مرتبة تذكر المرء وعدم نسيانه مسؤوليته إزاء الخالق والمخلوق في المعاملات والسلوك (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152)
هذه الوصايا هي :(/34)
1 – المحافظة على مال اليتيم: ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ )، وهذا يقتضي من كافل اليتيم أن يرعى ماله وينميه، وألا يضيعه بتبذير أو إسراف، حتى إذا بلغ اليتيم راشدا غير سفيه سلمه ماله كله، يقول تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)-220 البقرة-، ويلحق بأموال اليتامى أموال طائفتين من المؤمنين هما:
- أموال المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة يدافعون بها عن أنفسهم وممتلكاتهم، فيحرم النيل منها أو اغتصابها أو استغلالها لغير مصلحة أربابها.
- أموال الأمة( المال العام)، بيد المسؤولين والحكام وأعوانهم، فيحرم التصرف فيها أو إهدارها أو استثمارها واستغلالها لغير المصلحة العامة، وبغير رضا أصحابها وهم جمهور المسلمين.
ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه من أن يلي أموال اليتامى بقوله: ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تؤمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم)- مسلم-، كما عد أكل مال اليتيم من السبع الموبقات في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة( اجتنبوا السبع الموبقات...).
2 – القسط في الكيل والميزان:(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، والقسط معناه العدل، والوفاء معناه التمام، لذلك يشترط في الكيل والميزان أخذا وعطاء، وتبادلا للمنافع بين الخلق، سواء كان مقايضة للسلع أو معاملة بالنقد أو بالذهب والفضة، عدم انتقاص الحقوق، وإلا كان ذلك غشا وأكلا لأموال الناس بالباطل.
ومن القسط تجنب الربا والنصب والخداع في التعامل التجاري مع جميع الخلق، مسلمين وغير مسلمين، من كافة الأعراق والأجناس.
3- العدل في القول والشهادة: ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى )، والقول يعني كل ما ينطق به لسان المرء، والعدل هنا معناه التزام الحق والصدق في المقال والفعال في كل وقت وحين، في حال الرضا وحال الغضب، مع القريب والبعيد، نصيحة يبذلها المؤمن لأخيه، أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، أو أداء لشهادة لا يصده عنها قريب يداجيه ( ولو كان ذا قربى )، أو عدو يبغضه (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )- المائدة8 -
4 – الوفاء بالعهد: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )، والوفاء هو تمام أداء الحقوق والثبات عليه، وعهد الله أولى ما يوفى به، وعهود الخلق تبع لعهد الله،ولذلك قال تعالى في سورة النحل- 91:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )، وقال: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي)- البقرة40-، ومدح نبيه إسماعيل عليه السلام بقوله:( وَاذْكُر ْفِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) - مريم 54-
كما بين عز وجل عاقبة الغدر بنقض العهود فقال:
- ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) التوبة75-77-
- (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين َالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) -البقرة27 -
وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاقبة نقض العهد في أحاديث كثيرة منها:
- ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذا غدرة فلان ابن فلان) – مسلم-
- (... ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم...) - ابن ماجه والبزار والبيهقي والحاكم-
- (... ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو...) – مالك موقوفا والطبراني مرفوعا-
- وفي إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى وجوب الوفاء بالعهد ولو لكافر قال:( إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس الرسل) – أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان-
الوصية العاشرة( درجة التقوى):(/35)
وقد تضمنها قوله تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )، فمن تعقل والتزم بالوصايا الخمس الأولى، وتذكر فالتزم بالوصايا الأربع الثانية، وتوج ذلك كله بالامتثال لتعاليم الوصية العاشرة المذكورة في هذه الآية الكريمة، فقد تسنم ذروة التقوى.
ولفظ التقوى مشتق من جذره اللغوي " وقى يقى وقاية"، ومن بلغ درجة التقوى فقد احتمى بحمى الله تعالى، ووقى نفسه غضب الله وعذابه، واستحق محبته ونعيمه وجنته.
إن الوصايا التسع الأولى يجب أن يكون الالتزام بها مبنيا على صراط الله عز وجل بشروط ثلاثة هي:
- استقامة الطريق( صراطي مستقيما)، وقد أجمل بهذه الصفة جميع ما تقدم، بما يقتضي دخول سائر تعاليم الإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقا ونظما؛ وسمى كل ذلك( الصراط المستقيم)، وهو سبيل الله الواحد الأحد، سبيل جماعة الهدى؛ ومصيره الجنة.
- الاتباع، ويقتضي امتثال أوامر الله تعالى في كتابه الكريم، والاقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام في سنته وهديه.
- عدم اتباع ما سوى ذلك من سبل، لأن فيها شركا وكفرا وتمزيقا للصف المسلم، وهذا مثل قوله تعالى:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) – الشورى 13-، فأمرهم بلزوم الجماعة وعدم الاختلاف، معبرا عن الحق بصيغة المفرد ( وأن هذا صراطي...)، وعن الباطل بصيغة الجمع ( ولا تتبعوا السبل...) إشارة منه تعالى إلى أن الحق واحد لا يتعدد، والباطل أصناف وأنواع ومذاهب وفرق وملل ونحل اشترعها الشيطان، وجماعها الضلالة ومصيرها النار.
عن جابر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطا هكذا أمامه فقال:(هذا سبيل الله)، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال:( هذه سبل الشيطان)، ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) رواه أحمد.
وعن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: " يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا "، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: " ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه "، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ) - الترمذي والنسائي-
وردنا هذا المقال القيم بواسطة البريد الإلكتروني من
فضيلة الأستاذ الدكتور شمس مرغني علي
المحامي والمستشار القانوني وأستاذ القانون العام بالقاهرة
التوبة وقاية وصيانة للنفس الإنسانية
قال الله تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التحريم 8.
تمهيد :
التوبة من الذنوب هي طريق يلهم الله به المسلم إذا اخطأ ليستغفر من ذنبه بالرجوع إلى ستار العيوب. فهو بذلك مبدأ طريق السالكين ، ورأس مال الفائزين ، وأول إقدام المريدين. ومن كان ذا حظ من الخير وفير لم يبت على معصية قدر له الوقوع فيها، إلا ريثما يغسل أثر الخطيئة، ويمحو بالتوبة والرجوع ما قد أسلف من الذنوب . وهي بهذا المفهوم وقاية بل وصيانة للنفس الإنسانية ، وقاية من عصيان أوامر الله تعالى وصيانة للنفس في إقرارها بالفعل والندم عليه والعزم على تركه ابتغاء مرضاة الله ، بل وحياء منه.
تعريف التوبة لغة :
التوبة لغة : قال ابن المنظور : هي الرجوع من الذنب والتوبة مثله.
والتوبة لفظ يشترك فيه العبد والرب سبحانه وتعالى ، فإذا نسبت إلى العبد فالمعنى أنه رجع إلى ربه عن المعصية ، وإذا وصف بها الرب تبارك وتعالى والمعنى أنه رجع على عبده برحمته وفضله (1)، قال الخطائى " التواب " الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب (2)، وأما وصف العبد بأنه تواب أي كثير الرجوع إلى الطاعة فإن الله تعالى قال(إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (البقرة الآية 222 ) .
تعريف التوبة شرعاً :(/36)
1- قال ابن جرير الطبري : معنى التوبة من العبد إلى الله ، إنابته إلى طاعته وأوبته إلى ما يرضيه ، بترك ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه (3)
2- عرفها القرطبي بقوله : هي الندم بالقلب ، وترك المعصية في الحال والعزم على ألا يعود إلى مثلها ، وأن يكون ذلك حياءً من الله " (4)
3- وعرفها الراغب الأصفهانى بقوله : التوبة ترك الذنب بقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه . أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة (5)
وأضاف ابن حجر العسقلانى الى تعريف الراغب " ورد الظلامات إلى ذويها أو تحصيل البراءة منهم (6)
مما سبق نستنتج أن التوبة هي معرفة العبد لقبح الذنوب وضررها عليه، فيقلع عنها مخلصا في إقلاعه عن الذنب لله تعالى، نادما على ما بدر منه في الماضي من المعاصي قصداً أو جهلا ، عازما عزما أكيدا ، على عدم العودة إليها في المستقبل والقيام بفعل الطاعات والحسنات متحللاً من حقوق العباد بردها إليهم أو محصلاً البراءة منهم .
أركان التوبة : للتوبة أربعة أركان :
الركن الأول : سوف نتناول في هذا الركن حقيقة التوبة ومدى وجوبها على المسلم .
أ – حقيقة التوبة :
يقول الإمام أبى حامد الغزالي " اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم وتلتئم من ثلاثة أمور مرتبة : علم ، وحال ، وفعل.
فالعلم هو الإيمان واليقين بأن الذنوب سموم مهلكة لا محالة تستوجب في الحال الندم ، وتقتضى فعلاً بالعدول عنها وتركها في الحال والمستقبل . وبهذا الاعتبار قال صلي الله عليه وسلم " الندم توبة " (7). وقيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء .
ب – وجوب التوبة :
1- وسيلة إلى سعادة الأبد :
فالذنوب أسباب البعد عن لقاء الله ، بل هي إعراض عن الله ، واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله . فيقول سبحانه وتعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( النور 31).
وقال جل شأنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التحريم 8).
وقال تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) ( النساء 17-18)، وقال جل شأنه (وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون 118)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له " (8)
" إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "(9)
" اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن "(10)
" والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم "(11)
والإجماع منعقد من الأمُة على وجوب التوبة ، لأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات عن الله تعالى ، ويجب ترك المعاصي في الحال ، والعزم على تركها في الاستقبال ، بل وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال .
2- التوبة تؤكد الإيمان :
أما وجوب التوبة حالة العلم فواجب على الفور، فالعلم بضرر الذنوب ، إنما أريد ليكون باعثا على تركها ، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان. وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " (12)
فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان ، وليس للإيمان باب واحد، بل هو نيف وسبعون بابا ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .
فالتوبة لا تعني إلا الرجوع عن الطريق المبعد عن الله ، المقرب إلى الشيطان؛ فإن كمل العقل وقوي كان أول شغله قمع جنود الشيطان، ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات.
3- التوبة فرض عين :(/37)
التوبة فرض عين على كل شخص ، ولا يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر، بل هي واجبة على الدوام، هذا هو الواجب الأول؛ لأن كل البشر لا يخلو من معصيته بحوارحه ، فإن خلا في بعض الأحوال من معصيته بالجوارح ، فلا يخلو من غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك يستوجب التوبة ، وإن كان البشر يتفاوتون في المقادير .
فأما الأصل فلا بد منه ولهذا قال عليه السلام " إنه ليغان على قلبى حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة "(13) ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) ( الفتح2) . فالعبد لا يستغني في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه ، بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات.
الواجب الثاني : هو الذي لا بد منه للوصول به القرب المطلوب من رب العالمين. والتوبة عن جميع ما ذكرنا واجبة في الوصول إليه . كما قيل الطهارة واجبة في صلاة التطوع ، فإنه لا يتوصل إليها إلا بها . فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها ، يعنى أنه شرط لمن يريد أن يكون إنسانا كاملا ينتفع بإنسانيته ، ويتوصل بها إلى الدرجات العلا في الدنيا. وعليه ألا يؤخر التوبة " إن أكثر ضياع أهل النار من التسويف " فما هلك من هلك إلا بالتسويف.
فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده ، والعمر أمانة الله عنده، وكذا سائر أسباب الطاعة ، فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره خطر؛ وذلك لأن القلب يخلق سليما في الأصل ، وكل مولود يولد على الفطرة، وأن نور الحسنة يمحو عن الوجه والقلب ظلمة السيئة ، وانه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات.
الركن الثاني : أنواع الذنوب :
لا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته. فمعرفة معنى الذنب يستوجب التوبة.
فالذنب كما يعرفه علماء الشريعة : (14) عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل.
ويقسم الفقه الإسلامى مجالات التوبة إلى ما يأتي :
أولا : بحسب الصفة : ويقول الفقه أن مثارات الذنوب في أربع صفات.
1- صفات ربوبية : ويعتبرون أن مما يؤدى إلى هذه الصفات: الكبر ، والفخر ، والجبروتية ، وحب المدح بما ليس في الإنسان، وحب دوام البقاء ، وطلب الاستعلاء على الكافة، وهذا يتفرع منه جملة من كبائر الذنوب.
2- صفة شيطانية : وهذه الصفة يتشعب منها الحسد ، والخداع ، والأمر بالفساد والمنكر ، وفيه يدخل الغش والنفاق، والدعوة إلى البدع والضلال .
3-صفة بهيمية: وعن هذه الصفة يتشعب عدم القناعة ، ومنه يتفرع الزنا والسرقة وأكل مال الأيتام .
4- صف سبعية : وعن هذه الصفة يتفرع الغضب ، والحقد والقتل ، واستهلاك الأموال.
وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة ، فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولا ، ثم تتلوها الصفة السبعية ثانيا، ثم إذا اجتمعت الصفتان في الإنسان ظهرت الصفة الشيطانية ، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية ، وهي الفخر ، والكبرياء. فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ، ويمكن أن تسيطر على القلب أو العين والسمع ، وبعضها على اللسان ، وبعضها على البطن والفرج ،وبعضها على اليدين والرجلين .
ثانيا: تقسيم الذنوب بحسب حقوق الله وحقوق العباد .
فحقوق الله : وما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة ، والصوم والواجبات الخاصة به .
وما يتعلق بحقوق العباد: كتركه الزكاة ، وقتله النفس، وغصبه الأموال ، وسب الأعراض . وكل متناول من حق الغير فإما نفس أو طرف، أو مال أو عرض أو دين أو جاه .
فحقوق الله إذا لم يكن شركا ، فالعفو أرجى وأقرب بالتوبة. أما حقوق العباد فالأمر فيها أغلظ لأنها متعلقة برد المظالم.
وقد جاء في الخبر " الدواوين ثلاثة "، ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك . فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى ، وأما الديوان الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى ، وأما الديوان الذي لا يترك فمظالم العباد أي لابد وأن يطالب بها حتى يغفر عنها . (15)
ثالثا: تنقسم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
قال الله تعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ) ( النساء 31)
وقال سبحانه وتعالى(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ)( النجم32)
وقال صلى الله علية وسلم " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، يكفرن مابينهن إن اجتنبت الكبائر " (16)وفي لفظ آخر "كفارات لما بينهن إلا الكبائر"
وقد قال صلى الله علية وسلم فما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص" الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس، واليمين الغموس"(17)
واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر، من أربع ، إلى سبع ، إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك .(/38)
فقال ابن مسعود هن أربع ، و قال ابن عمر هن سبع ، وقال عبد الله بن عمرو هن تسع . وقال ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، وقال غيره كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر ، وقال بعض السلف كل ما أوجب علية الحد في الدنيا فهو كبيرة وقال ابن مسعود مدللا بسورة النساء فكل ما نهى الله عنه كبيرة إذ يقول سبحانه وتعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ( النساء 31)
ويقسم العلماء الكبائر بين القلب واللسان ،والبطن، واليدين . (18)
فقد اجتمع من قول ابن عباس ، وابن مسعود وابن عمرو غيرهم (19)
في القلب: وهي الشرك بالله ، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمة الله ،واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله .
وفي اللسان : وهي شهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس والسحر .
وفي البطن: شرب الخمر و المكسر من كل شراب، وأكل مال اليتم ، وأكل الربا وهو يعلم ، واثنتان في الفرج وهما الزنا واللواط .
وفي اليدين : القتل والسرقة ، وواحد في الرجلين الهروب من الجهاد . وواحد في جميع الجسد وهى عقوق الوالدين .
الركن الثالث : التوبة تؤكد صيانة النفس الإنسانية
سبق أن ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الندم توبة " وقال " التائب من الذنب كمن لا ذنب له" إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته
فإذا فهم هذا الفهم وجبت عليه التوبة ، والعودة إلى الله وهذا صيانة لنفسه من عذاب الدنيا وعذاب الآخر، ولكن لا يكون تائبا ما لم يتأكد عزمه في الحال. ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالماً أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه ، حتى يمكنه الاستقامة .
إن التوبة عبارة عن الندم . فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع وفي الخبر "جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة " ، ومن علامته ، أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في فلب المسلم .
شروط صحة التوبة :
أولا : لا تصح التوبة إلا بالندم بالقلب ولا تصدق إلا بالإيمان .
ثانيا: يجب أن تجد مرارة في جميع الذنوب ، وإن لم يكن قد ارتكبها من قبل ويعزم على ترك المعاصي في الحال والمستقبل.
ثالثا : دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت وأن يتدارك من الأعمال بالإعادة
شرط صحتها فيما يتعلق بالماضي :
أن ينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها ، والى المعاصي ما الذي اقترفه منها : فإن كان قد ترك صلاة أو صلاها في ثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهل بشرط النية فيقضيها عن آخرها.
وإما الصوم : فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضيه، أو أفطر عمداً أو نسي النية بالليل ولم يقض ، فيتعرف مجموع ذلك بالتحري والاجتهاد ويشتغل بقضائه.
وأما الزكاة : فيحسب جميع ماله ، وعدد السنين من أول ملكه فيؤدى ما لم يغالب الظن أنه في ذمته.
وأما الحج : فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يحج فعليه الحج. فإن لم يكن له كسب ولا مال ، فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه من الزكاة أو الصدقات ما يحج به .(20)
فإنه إذ مات قبل الحج مات عاصياً. قال عليه السلام " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهوديا وإن شاء نصرانيا "(21) والعجز الطارئ بعد القدرة لا يسقط عنه الحج .
شرط الصحة في المستقبل :
يكون شرط صحة التوبة في المستقبل بالعزم على دوام الطاعة ودوام ترك المعصية في الحال والمستقبل. فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ، ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ، ولا إلى أمثالها. ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال. ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالماً أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه ، حتى يمكنه الاستقامة.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي " شرط دوام التوبة أن يكون العبد المسلم كثير الفكر في النعيم في الآخرة لتزيد رغبته" .
علاقة الإنسان بالمجتمع :
أما عن ظلم العباد وقد نهى الله تعالى عنه ففيه معصية وخيانة لحق الله تعالى ، فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد . وأيضا فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاء الناس بالإحسان إليهم ، ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة، بل والمدح والثناء على أهل الدين منهم.و إظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله.
مظالم العباد : أما في النفس والأموال أو الأعراض أو القلوب.
1- النفوس :
فإن حدث من أحد قتل خطأ ، فتوبته بتسليم الدية إلى المستحق ، وإن كان عمداً موجباً للقصاص فبالقصاص، ويحكمه ولى الدم في روحه فإن شاء عفا عنه ، وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا.
أما الزنا أو شرب الخمر أو السرقة أو قطع الطريق ، فيجب عليه فيه حد الله تعالى . وفي جميع الأحوال أن يتستر بستر الله تعالى ، ويقيم حد الله علي نفسه بأنواع المجاهدة .
2- الأموال :(/39)
إن كان المتناول مالا، تناوله بغصب أو خيانة أو غبن في معاملة تدليس كترويج زائف أو ستر عيب من البيع أو نقص أجرة عامل أو منع أجرته. فكل ذلك يجب أن يسعى لمعرفته جيداً لا من حد بلوغه، بل من أول مدة وجوده. إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ ، وليحاسب نفسه على فعل من أول يوم حياته إلى يوم موته.
هذا في حكم المظالم الثابتة في ذمته ، أما الأموال الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا ، ومالا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به.
3- الجناية على القلوب :
بمشافهة الناس بما يسوءهم أو يعيبهم في الغيبة، فيطلب كل من تعرض له بلسانه أو آذى قلبه بفعل من أفعاله أن يستسمحهم واحدا واحدا ، ومن مات أو غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات.
مجالات التوبة :
1- المعصية من حيث إنها مخالفة لأمر الله تعالى واحدة ، والتوبة منها رتبة وعد الله بها التائبين، وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم. فلا يتصور الندم على بعض المتماثلات دون البعض الآخر . فالندم عن السرقة مثلا لكونها معصية لا لكونها سرقة ، يستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية ، فإن الصلة شاملة لهما .
وثمرة الندم تكفير ما سبق ، فترك السرقة لا يكفر السرقة ، بل الندم عليها. ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي .
2- التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة .
أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر ، فأمر ممكن . لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله ، وأجلب لسخط الله ومقته . والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها ، فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويندم عليه .
3- جواز التوبة عن بعض الكبائر دون بعض : وهذا أيضاً يمكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلط عند الله .. كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد، لعلمه أن أحوال العباد لا تترك .وأن ما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه ، فهذا أيضا ممكن ، كما في تفاوت الكبائر والصغائر.
4- الكبائر متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها، ولذلك قد يتوب المذنب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد . كمن يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً إذ يعتقد أن الخمر مفتاح الشرور .
5- نطاق العفو في الأعمال التي تكون معاقبتها بالتعزيز في حالة التوبة، قال بعض الفقهاء، إن العفو لا يجوز إن تعلق التعزير بحق الله، كما في تارك الصلاة.(22)
وأضاف البعض (23) " ومن طعن على أحد من الصحابة وجب على السلطان تأديبه ، وليس له أن يعفو عنه "
وقال البعض الآخر (24) إن ما كان من التعزيز منصوصا عليه ، كلوط جارية امرأته يجب امتثال الأمر فيه.
ويقول الدكتور عبد العزيز عامر (25) في هذا الشأن " وهذا يدل على أن العفو عند هؤلاء لا يجوز في هذه الجريمة التي فيها حد امتناع تطبيقه وإن التعزيز لامناص منه "
1- تختلف درجة التوبة باختلاف ضعف المذنب أو قوته ، فقد يتوب عن صغيرة أو صغائر، وهو مصر على كبيرة ، يعلم أنها كبيرة. فالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه ، وهو مصر على شرب الخمر فهو ممكن .
ويرى الإمام أبو حامد الغزالي :أن وجه إمكانه ، أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ، ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها. وذلك يرجع إما للجهل أو الغفلة ، أو لقوة الشهوة فيكون الندم موجودا ولكن لا يكون دافعا لتحريك العزم
الركن الرابع : فضائل التوبة :
أ- قبول التوبة من صفات الرحمن جل جلاله:
قال تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ( التوبة104-105)
وقال تعالى :( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة106)
وقال تعالى (حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {2} غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ( غافر1-3)
وقال وهبة الزحيلي : ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال " غافر الذنب وقابل التوبة "
أي أن الله هو غافر الذنب، سواء كان صغيرا أو كبيرا بعد التوبة، أو قبل التوبة بمشيئته. (26) .
ب- أمر الله عز وجل بالتوبة :(/40)
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التحريم 8)
قال القرطبي (27) : أمر بالتوبة وهي فرصة على الأعيان في كل الأحوال وكل زمان .
وقال تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) ( النساء 106 ).
وقال تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة 199).
قال السعدي : أمر الله بالاستغفار والإكثار من ذكره عند الفراغ من المناسك فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها (28) .
وقال تعالى (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً )( النصر 1 – 3 ).
ج- التوبة من صفات الأنبياء والصالحين :
قال تعالى : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )( التوبة 112 ) .
قال ابن كثير : هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم . هذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة (29).
وقال تعالى (أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ {2} وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) ( هود2-3 ) .
قال ابن كثير : أي وأمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا على ذلك (30).
قال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ {50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {51} وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ) ( هود 50-52 )
قال السعدي : استغفروا ربكم عما مضى منكم ، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى (31)
د - جزاء التوبة في الدنيا والآخرة :
1- محبة الله عز وجل للتائبين.
2- حصول المغفرة من الله عز وجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) ( طه 82 ) .
3 – الفلاح في الدنيا والآخرة : قال السعدي : ( وتوبوا إلى الله جميعاً )؛ لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ، ثم علق على ذلك الفلاح فقال : ( لعلكم تفلحون ) فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة وهى الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا (32).
4- تبديل السيئات حسنات : قال تعالى(إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ) ( الفرقان70)
5 – منع العذاب في الدنيا : قال تعالى (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الأنفال 33 )، قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار (33) .
6 – فيض السماء على التائب بالأموال والبنين : قال تعالى (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ) ( نوح 10 -21 )، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع ، وأدر لكم الضرع ، وأمدكم بأموال وبنين. أي أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها)(34) .
المراجع
1- انظر تفسير الرازي ، والجامع لأحكام القرآن .(/41)
2- انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري .
3- تفسير ابن جرير الطبري.
4- الجامع لأحكام القرآن .
5- المفردات.
6- فتح الباري.
7- رواه ابن ماجه والحاكم .
8- رواه ابن مسعود وانس ، و مسلم .
9- رواه مسلم ، النسائي عن أبى موسى.
10- رواه الترمذي عن معاذ بن جبل .
11- رواه مسلم وغيره .
12- رواه أبو جزية .
13- رواه مسلم من حديث الأعز المزنى . وغير أبى داود البخاري من حديث أبي جرير إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة .
14- أبو حامد الغزالى – المرجع السابق صـ 2093 ، صـ 111 كتاب الشعب.
- فتح البارى شرح صحيح البخاري .
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير .
- المفردات للراغب الأصفهانى.
- الخلق الكريم ، لمحمد مصطفي المراغى .
15-حديث الدوادين ثلاثة ديوان ....– رواه أحمد والحاكم .
16- رواه مسلم.
17- رواه البخاري .
18- فتح الباري على شرح صحيح البخاري .
19- انظر الطبراني والبيهقي .
20- انظر أبا حامد الغزالي – المرجع السابق- ص2126.
21- رواه ابن أبي الدنيا في التوبة.
22-المغني ج1 ص348 – كشاف القناع –ج4-ص74.
23-الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص296 .
24- المغني ج12 ص349، المدونة الكبرى ج16 – مواصل الجيل ص320 .
25-التعزير في الشريعة الإسلامية رسالة مقدمة لكلية الحقوق- الدكتور عبد العزيز عامر – 1374 ه
26-التفسير المنير – باختصار .
27- الجامع لأحكام القرآن – ص18- 1970
28-تفسير السعدي صـ 92 .
29-تفسير القرآن العظيم صـ 7، 179
30-تفسير القرآن العظيم صـ 2 ، 417
31-تفسير السعدي صـ 383
32-تفسير السعدي ص567
33-تفسير ابن كثير ج2 ص317
34- تفسير ابن كثير ج4 ص453(/42)
الأخلاق وصلتها بالعقيدة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنَّ الإسلام يعني بمفهومه الشامل الاستسلام لله عز وجل، والانقياد له بالطاعة ظاهرًا وباطنًا، والبراءة من الشرك وأهله، وهو كلٌّ لا يتجزأ، والمطلوبُ من المسلم حتى يحقق إسلامهُ وإيمانه أن يستسلم لله عز وجل، في كل شئون حياته الباطنة والظاهرة.
يقول الله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) الآية ( البقرة: 208 ) .
ويقول تعالى : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) ( الأنعام :162 ـ 163) .
إنَّ الإسلام عقيدةً ينبثقُ منها أعمال وأقوال وأخلاق وشريعة، وليس مجرد معرفةٍ ذهنية، وإقرار قلبي، ثم لا أثر له في أعمال العبد وأخلاقه، ومواقفه في حياته كلها.
ولهذا أجمع السلف على أنَّ الإيمان اعتقادٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح.
والمتأمل في حياة السلف الصالح، يجدُ هذا الشمول في أخذ الإسلام واضحًا، في حياتهم ومنهجهم، وقد كان لهم صولاتٍ وجولاتٍ مع المرجئة الذين فصلوا العمل عن الإيمان، وحصروه في التصديق القلبي، أو في التصديق وقول اللسان.
ثم أُصبنا في هذا الزمان بنابتةٍ خدمتها المرجئة، وإن كانت هي شرٌ من المرجئة، وذلك فيما أصاب المسلمون بعد الاستعمار الغربي والغزو الفكري، حيثُ بدأ العلمانيون والمقلدون للغرب الكافر ينشرون سمومهم، ويبثون أفكارهم المبنيةِ على الفصام النكد بين الدين والحياة، وبين العقيدة والشريعة والأخلاق، ولكن الله عز وجل برحمته ولطفه قيّض لهذه الأفكار ومثيلاتها من يتصدى لها، ويظهر عوارها ومناقضتها لحقيقة الإيمان والإسلام، فنفع الله بهذه الجهود المباركة، وانتبه المسلمون لما يراد بهم، وأدركوا حقيقة إسلامهم وإيمانهم، وأنه لا انفصام بين العقيدة والأخلاق، بل هما متلازمان تلازم الروح والجسد، وبينهما ترابطٌ شديد يجعل أحدهما يزول بزوال الآخر، ويضعفُ بضعفه، ويقوى بقوته ـ وفي هذا يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-: التوحيد ألطف شيءٍ وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأي شيءٍ يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون، يؤثرُ فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا، أدنى شيءٍ يؤثرُ فيها، ولهذا تشو شهُ اللحظة، واللفظة، والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبهُ وقلعَ ذلك الأثر بضده، وإلاَّ استحكم وصار طبعًا يتعسرُ عليه قلعه )) [1] .
ومما يؤيدُ أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف، وارتباطهِ الوثيق بالعقيدة، تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة، كالعقيدة الواسطية، والطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك قول الإمام الصابوني ـ رحمه الله تعالى ـ في تقريره لعقيدة السلف: »ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء شر عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر )) ([2]) .
ولتجلية أهمية ارتباط العقيدة بالأخلاق، والأخلاق بالعقيدة في حياة الناس، وبخاصة الدعاة منهم، وطلبة العلم نقف الوقفات التالية.
الوقفة الأولى: من المعلوم أننا عندما نتحدث عن منهج السلف- رحمهم الله تعالى- فإنا لا نعني بذلك علمًا نظريًّا مجردًا في الذهن، وتصديقًا مجردًا في القلب، كلا فلم يكن هذا منهجهم، وإنَّما كان عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا وسلوكًا.
وإنَّ المتأمل في حياتنا معشر أهل السنة ـ في هذه العصور المتأخرة ـ يلاحظ بونًا شاسعًا، وانفصالاً كبيرًا ـ ما بين مُكثرٍ ومقلٍ في ذلك ـ بين الجانب العلمي النظري، والجانب السلوكي الأخلاقي؛ حيث أصبح من المعتاد أن يرى الإنسان أحيانًا من نفسه، أو من بعض إخوانه من الدعاة بُعدًا في الجانب الخلقي عن أخلاق السلف وسلوكهم.
فمن اللازم إذاً عند طرح منهج السلف، والدعوة إليه، أن يطرح شاملاً لمعتقدهم وفقههم، ولسلوكهم وأخلاقهم؛ فكما أنَّهُ لا يقبل من أحدٍ أن يلتزم بأخلاق السلف ويترك معتقدهم، فكذلك لا يسوغ فهم معتقدهم دون الالتزام بسلوكهم وأخلاقهم.
ولو أننا رجعنا إلى سيرةِ سلفنا الصالح، لوجدناها خيرَ مثالٍ لهذا المنهج المتكامل. فإذا ما تم لنا إدراكُ هذا الأمر والالتزام به، فسوف تختفي من حياتنا ـ بإذن الله تعالى ـ تلك الصور والمواقف المتناقضة.
نعم سوف لن نجد شخصًا على عقيدة السلف في توحيد الألوهية، والأسماء والصفات، ومحاربة البدع، ثُمَّ هو في نفس الوقت يخالفُ سلوكهم، باقترافه للظلم والكذب، والغيبة والحقد، والشحناء واتباع الأهواء.(/1)
وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ تطبيق هذا المنهج كاملاً، كفيلٌ بإزالة هذه الازدواجية التي نعاني.
الوقفة الثانية: إنه لا شيء يضبط السلوك، ويزكي النفوس، ويأطرُ النفس على محاسن الأخلاق وترك سيئها، غير توحيد الله عز وجل، والخوف منه سبحانه، ورجاءَ ثوابه ومراقبته في السر والعلن، والشعورُ باطلاعهِ عز وجل على خفايا القلوب، ومنحنيات الدروب، وهذا كلهُ لا يتأتى إلاَّ بالتربية على التوحيد، ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته، ومقتضياتها والتعبد له سبحانه بها، مما يكونُ له الأثر في ظهور آثارها على أخلاق العبد وسلوكه.
وإذا لم يوجد هذا الشعور، وهذه التربية على العقيدة، فإنَّهُ لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس، مهما وضع من النظمِ والقوانين والعقوبات، فغاية ما فيها ضبط سلوك الفرد أمام الناس، فإذا غاب عن أعينهم ضاعت الأخلاق، واضطربت القيم، وهذا هو الفرقُ في علاج انحرافات النفس البشرية، والمجتمع الإنساني بين منهج الله عز وجل، القائم على تربية الناسِ على العقيدة، وبين المناهج الجاهلية البعيدة عن منهج الله عز وجل.
ومثالاً على ذلك ننقلُ ما كتبه سيد قطب- رحمه الله تعالى- عن تحريم الخمر، وكيف عجزت أمريكا عن إقناع الناس بتركه، بينما انتهى المسلمون عن شربها بمجرد أن نهاهم الله عز وجل عنها.
يقول رحمه الله تعالى : ((أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة، فسنت قانونًا في سنة 1919سمي قانون »الجفاف«!من باب التهكم عليه، لأنَّهُ يمنع »الري« بالخمر!، وقد ظل هذا القانون قائمًا مدة أربعةَ عشر عامًا، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933.
وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر، والإذاعة والسينما، والمحاضرات للدعاية ضد الخمر، ويقدرون ما أنفقتهُ الدولة في الدعاية ضد الخمر، بما يزيدُ على ستين مليونًا من الدولارات، وأنَّ ما نشرته من الكتبِ والنشرات، يشتملُ على عشرة بلايين صفحة، وما تحملتهُ في سبيلِ تنفيذِ قانون التحريم من مدةِ أربعة عشر عامًا، لا يقلُّ عن250 مليون جنيه، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن كذلك 532.335 نفسًا، وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه، وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيه، وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون.
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي،
ببعض آياتٍ من القرآن، وهذا هو الفرقُ في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني، بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديمًا وحديثًا على السواء !
لقد تمت المعجزة؛ لأنَّ المنهج الرباني أخذ النفس الإنسانية بطريقته الخاصة. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله فيها، حضورًا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان، أخذها جملة لا تفاريق ، وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة، فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة، من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟([3]) .
ومثالٌ آخر: رأيتهُ بعيني، وحُزَّ في نفسي، وذلك أثناء رحلةٍ من الرحلات الخارجية، سافرت فيها في سنة من السنوات من بلدي، وكان معنا بعض العوائل، ومن بينهم أسرةٌ من زوج وزوجة وابن لهما، وكانت المرأة قبل إقلاع الطائرة من بلدها محتشمة متسترة، قد غطت وجهها وشعرها وسائر جسدها بخمارٍ وعباءة، ولكنها ويا للأسف ما إن أقلعت الطائرة، واستوت في الفضاء، حتى لفت تلك العباءة ونزعت ذلك الخمار، ودستهما في حقيبتها اليدوية، ثم أصبحت سافرة الرأس والشعر والوجه !! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبعد رجوعي إلى بلدي، تكرر المنظرُ مرةً أخرى، ولكنهُ في هذه المرة بشكلٍ آخر، إذ كان معنا بعض العوائل، وكان فيهم نساء في تبرجٍ وسفورٍ فاضح طيلة الرحلة، وما إن اقتربت الطائرة من الهبوط إلى بلدهنَّ المحافظ، حتى خرجت العباءات والخُمر من الحقائب، واختفى ما كان منهنَّ من تبرجٍ وسفور وزينة.
فعلى أي شيءٍ يدل هذا؟ إنَّهُ والله يدل على رقةِ الدين، وضعف العقيدة، وبالتالي ضعفت الأخلاق أو ضاعت؛ إذ لو كانت العقيدة والخوف من الله عز وجل في القلوب، لما تغير السلوك بمجرد تغير البيئة، وزوال الرقيب من الناس، ولكنَّها العادات والتقاليد المنبتة عن العقيدة، والتي لا تنشئ إلاَّ النفاق والتربية المشوهة، والازدواجية الكريهة.
ومن خلال هذين المثالين، يتبن لنا أهمية التربية على العقيدة، حيث إنَّها الأصل في صلاح النفوس والأخلاق، وبدونها تفسد الأخلاق والقيم، ولو صلحت بعض الأخلاق بدوافع أخرى غير العقيدة، كالعادات ورقابة القانون، أو المصالح النفعية، فإنها لا تدوم بل تزول بزوال المصلحة أو الرقيب.(/2)
ويحسن بنا في هذه الوقفة، تنبيه المخدوعين من أبناء المسلمين، الذين انخدعوا ببعض الأخلاق النفعية، التي يجدونها عند الكفار في ديارهم، كالصدق في المواعيد والأمانة والوفاء بالعقود، إلى أنَّ هذه الأخلاق لم يكن دافعها الخوف من الله عز وجل، ورجاء ثوابه في الدنيا والآخرة، وإنَّما هي أخلاق نفعية مؤقتة، يريدون منها مصالحهم الخاصة، والدعاية لهم ولشركاتهم، ولذلك فإنَّها لا تدومُ معهم، وإنما تدور معهم حسب مصالحهم، بدليل أنَّ هذه الأخلاق تنعدم ويحل محلها الأخلاق السيئة من الكذب والخداع، إذا كانت مصالحهم تقتضي ذلك.
أما المسلم المتربي على العقيدة الربانية، فأخلاقه ثابتة معه في ليله ونهاره، في سره وعلانيته، في سرائه وضرائه.
ومن هُنا تأتي أهمية التربية على العقيدة، في استنبات الأخلاق الفاضلة الثابتة.
الوقفة الثالثة:
تبين لنا في الوقفة السابقة أثر العقيدة في بناء الأخلاق الصالحة، وتجنب مساوئها، وفي هذه الوقفة سنتعرفُ على العكس، من ذلك ألا وهو أثر الأخلاق على العقيدة سلبًا وإيجابًا.
إن التوحيد كما سبق أن ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-: (( ألطف شيءٍ وأنزهه، وأنظفهُ وأصفاه، فأيُّ شيءٍ يخدشهُ ويدنسه ويؤثر فيه )) .
ومعنى هذا أنَّ الأخلاق السيئة والمعاصي تشوش التوحيد، وتضعف صفاءه، وكلما كثرت المعاصي والأخلاق السيئة، وتراكمت على القلب دون توبة، فإنَّ صفاء التوحيد يتكدرُ، بل يظلم وينطمس في النهاية- والعياذ بالله تعالى- والعكس من ذلك، فإن الإتيان بمحاسن الأخلاق، وتجنب مساوئها، يزيد من صفاء التوحيد وبهائه وكماله.
ويوضحُ هذا المعنى، الحديث الذي رواه حذيفة ? في الفتن، حيثُ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أشربها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشْرِبَ من هواه... الحديث )) [4].
وإذا أردنا أن نتبين خطورةَ الأخلاق السيئة، واستمرائها على العقيدة، فلننظر إلى أولئك الذين وقعوا في الأخلاق السيئة، وأصروا عليها، سواء كان ذلك بألسنتهم، كالغيبة والنميمة، والكذب والفحش، أو بأبصارهم، كالنظر إلى ما حرم الله عز وجل من النساء الأجنبيات، أو صورهنَّ الماجنة في مجلةٍ أو تلفاز، أو بأسماعهم كسماع المعازف والكلام الفاحش،... إلخ، حيثُ نرى أن الحال تصل بهؤلاء إلى حد الاستئناس بهذه المنكرات، وإلفها وعدم إنكارها، وهذا بدوره قد يُؤدي- والعياذ بالله- إلى الرضى بها وإقرارها، وهُنا مكمن الخطر، إذ لو كانت هذه المساوئ الخلقية تقارف، وفي النفس كرهها وعدم الرضى بها، لكان الأمر أهون، إذ يرجى لصاحبها التوبة والإقلاع، أما إذا تحول الأمر إلى إلفها والرضى بها، فقد يكون هذا ضربًا من الاستحلال الذي يقدح في أصل التوحيد والعقيدة، ومن هُنا يظهر أثر الأخلاق الذميمة، وفعل السيئات على العقيدة، عندما تستمر أ ويداوم على فعلها من غير وازعٍ ولا واعظ، وقد ينتهي الأمرُ بصاحبها إلى الاستهزاء بالواعظين، وعدم الاكتراث بوعظهم، كما قال المستكبرون من قومِ هود : (( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ )) ( الشعراء : 136).
وكما قال إخوانهم في الغي من قوم شعيب : (( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ )) (هود: 91) .
وبهذا يظهرُ لنا خطورة الأخلاق السيئة على العقيدة، وأنَّ الأمرَ لا يتوقفُ في كون الأخلاق السيئة معصية فحسب، بل قد يؤدي في النهاية إلى الرضى بها، أو استحلالها، وذلك حينما يداومُ عليها من غير واعظٍ ولا وازع، ولقد وجد من المسلمين الذين ألفوا النظر إلى الصور المحرمة، والفتنة بالمجلات الماجنة، عندما وجهت له النصيحة بإبعادها عن نفسه وأهله، قال: إيش فيها- وما علم المسكين أنه أتى بكلمة شنيعة، يحسبها هينة وهي عند الله عظيمة، لأنَّها كلمة تقرب من الاستحلال، والاستحلال يهدمُ أصل العقيدة، وما ذاك إلاَّ من الإدمان والإصرار على هذه السيئات، الذي أورث في النفس حبها وحب من يسهل أمرها، وبغض من يصده عنها أو يصدها عنه- والعياذ بالله تعالى-، فهل يبقى بعد ذلك من شكٍ في أثر الأخلاق السيئة على العقيدة؟ أما أثر الأعمال الصالحة، ومحاسنُ الأخلاق على زكاءِِ العقيدة، وقوة الإيمان والهداية، فالأدلة على ذلك من كتاب الله عز وجل، ومن واقع أحوالِ الناس كثيرةً ومتضافرة، ويكفي في ذلك قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ )) (محمد:17).(/3)
وقوله تعالى : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )) (لأنفال:2).
ومن ذلك حديث حذيفة السابق ذكره، حيث مرَّ فيه أن القلب الذي ينكرُ المنكر، ويرفض مساوئ الأخلاق، يزداد بذلك صفاءً وقوةً وثباتًا أمام الفتن، والعكس من ذلك القلب الذي يقبلها ويشربها.
ومن خلال الأدلةِ المتضافرة في الكتاب والسنة، أصلُ أهل السنة، أصولهم الثابتة في أبواب الإيمان، وقالوا: هو قولٌ وعملٌ يزيدُ بالطاعة، وينقصُ بالمعصية.
أسألُ الله عز وجل أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلاَّ هو، وأن يصرف عنَّا سيئها لا يصرفُ عنَّا سيئها إلاَّ هو.
والحمد لله رب العالمين
___________
[1] الفوائد ص 184 .
[2]عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ، تحقيق نبيل السبكي ص 86 .
[3] في ظلال القرآن عند الآية ( 43 ) من سورة النساء .
[4] رواه مسلم في كتاب الإيمان / باب ( 65 ) بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ... 1 / 128 ( 231 ) .(/4)
الأخوة في الله
حسن عبد الحميد*
تستمد القيم الإسلامية روعتها وسموها وجلالها من كونها صادرة من لدن حكيم خبير، وتكتسب قوتها وفعاليتها من ارتباطها بالعقيدة، وتفيض بركاتها ومِنَحُها بسبب توفرِ الإخلاص واليقين في نفوس المسلمين المتحلين بها الناهلين من نبعها. وقد حاول كثير من الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين ـ من غير المسلمين ـ وضع تصور للقيم والأخلاق ورسم صورة للمجتمعات الفاضلة، فجاءت محاولاتهم مرتبطة بما جُبل عليه الإنسان من جهل وظلم وضعف من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تجد التطبيق على الواقع ـ على قصورها ـ لانعدام الدافع والمحفز للتحلي بهذه القيم. فأين الثواب والنعيم للذين يتمثلونها في سلوكهم؟ وأين العقاب والعذاب على من يخالفونها ؟، بل من يملك هذا سوى رب العالمين؟
ومن المعاني القيمة التي دعا إليها الإسلام ورعاها؛ معنى الأخوة في الله ، فقد قرر سبحانه وتعالى هذا المبدأ في القرآن الكريم بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )؛ فهذا رابط يجب أن يستشعره كل من اتصف بصفة الإيمان وتمتع بعقد الإسلام نحو بقية المسلمين؛ رابط يستجيش عاطفته الدفاقة تجاه إخوانه المؤمنين في كل عصر ومصر بكل ما تحمله كلمة الأخوة من سلامة صدر ونقاء سريرة، وما يتبعه ـ بالضرورة ـ من محبة وانسجام ورحمة ووئام، وما يقتضيه من إغاثة عند العوز، وإعانة عند الحاجة، وتفريج همٍّ عند الضرورة.
والأخوة منة ينعم بها الله تعالى على عباده الصالحين فتأتلف قلوبهم وتتوثق روابطهم؛ كما أنعم على الجيل الأول والرهط المبارك من الصحابة رضوان الله عليهم (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم) ، جاء هذا التأليف بعد امتحان للقلوب واختبار للنوايا فلما صدقوا نزلت عليهم النعمة وغشيتهم الرحمة .
ولأمر ما كان أو عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلي المدينة ـ بعد بناء المسجد ـ هو مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، إذ بهذه المؤاخاة شدت لبنات المجتمع الإسلامي إلي بعضها البعض، وارتفع صرح الجماعة الإسلامية عالياً متيناً فاستعصى على محاولات الهدم والتخريب التي سعى بها يهود المدينة وأعوانهم من المنافقين والمرجفين، وقد ضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما تفيض به كتب التاريخ وتزدان به مصنفات التراجم والسير، حتى قال القائل واصفاً موقف الأنصار من المهاجرين:
ولا عجب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معهم يسدد خطواتهم ويوجه أعمالهم، والقرآن الكريم يبني بهذه المجموعة المباركة مجتمع القدوة ومنارة التأسي ليستضئ المسلمون من بعدهم بنورهم الساطع، ويقتفوا آثارهم الواضحة، كلما ادلهمت بهم الخطوب، ونابتهم نوائب الحياة.
وفي زمان المادية الطاغية المعاصرة الذي نعيشه، حيث يقاس كل إنسان بما يملك من أصول ويوقر بقدر ما يحوز من نفوذ، ما أحوجنا إلى معنى الأخوة في الله وما أعوزنا إلى أن نتحلى به وننشره بين المسلمين حتى نجد حلاوة الإيمان، ونتذوق نعيم الأخوة الخالصة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وان يحب الرجل لا يحبه إلا لله وان يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
وللأخوة الصادقة حلاوة لا يعرفها إلاّ من عاشها، حلاوة لا تدرك بمجرد العلم والمعرفة، وكما قيل:
والذين عاشوا الأخوة في الله، وجدوا الطمأنينة والسلام في عالم يعاني من القلق والتوتر، وتيقنوا أن الأخ الحقيقي ليس بالضرورة أن تلده أمك، فنعموا بالعديد من الإخوان ينتشرون في بقاع الأرض بعضهم رأوهم وعايشوهم وبعضهم تبادلوا معهم الحب الصافي والمودة الخالصة على تباعد المسافات، وقد حُكِىَ أن احد الدعاة كان يجهش بالبكاء كلما زار بلداً أوروبيا فيجد العديد من إخوانه يستقبلونه في المطار ويعانقونه بشوق شديد ويخدمونه وهو لم يرهم من قبل.
إن الحضارة الغربية الفاجرة ساهمت في تفكيك علاقتنا بعد أن جزّأت أوطاننا، وأثرت في صياغة أخلاقنا بعد أن استباحت مناهج تعليمنا ووسائط إعلامنا. فنتج عن ذلك مسخ مشوه من المجتمعات لا هي بالمجتمعات الإسلامية ولا هي بالمجتمعات الغربية، ولعل من أكبر العوامل في بناء مجتمعاتنا وصياغة أخلاقنا على المنهج الإسلامي تمثل روح الأخوة في الله، ونشرها في كل المجتمعات الإسلامية، ذلك أن أولى علامات العافية لهذه المجتمعات هو الشعور بالجسد الواحد، والتداعي بالتالي إلى سد الثغرات وإزالة التشوهات ، والأخوة في الله كفيلة ـ بإذن الله ـ بإحداث النهضة الاجتماعية التي ننشدها وعودة المجتمع الإسلامي مرة أخرى إلى الشهود والوجود ، ليهدي الحائرين ويسعد البائسين.(/1)
الأخوة والحب في الله
م.غازي الجمل
الحب في الله تعالى والأخوة في الله غذاء للروح الإنساني ،ولمعرفة قيمتهما يجب أن نتصور كيف تكون الحياة عند فقدهما،وان توحيد الإيمان يقتضي توحيد القلوب،قال تعالى(واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)
*و في الحديث القدسي (يقول الله عز وجل: المتحابون في جلالي على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم النبيون والشهداء)
إن جوّ الحب والألفة وسلامة الصدور هو جو الجنة ،قال تعالى(ونزعنا ما صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين). وقال عليه الصلاة والسلام(من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى فلان) وعندما تبعه أحد الصحابة ليعرف سرّ ذلك عرف أنه لم يصل بكثرة صلاة ولا صيام،ولكن بسلامة صدره ،فلا يبيت وفي صدره ضغينة على أحد من المسلمين
وقال تعالى(ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار) فقد جمع لهم الله تعالى جمال الحب وجمال الطبيعة من حولهم
وحتى نوضح هذه الحقيقة نقول:لو حاز الإنسان على بيت جميل،ولكن تبين له فيما بعد أن جيرانه جيران سوء ،فان ذلك ينغّص عليه حياته،ويتمنى أن لو كان يعيش في خيمة بعيدا عن جيران السوء،فوجود الإنسان في محيط مشحون بالحقد والعداوة والحسد يقضي على بهجة الأمور المادية
عظم المنة بالأخوة
امتن الله تعالى علينا بتأليف القلوب فقال (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال تعالى(واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) فالأخوة نعمة عظيمة تقتضي شكر الله عز وجل وهي ذخر للمؤمنين يجب علينا أن ننتفع بها ونتلذذ بها ونلوذ إلى دفئها
ومن زهد بالأخوة بلي بالعداوة
*وقال عز وجل في وصف أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام(رحماء بينهم) قال بن عباس:يدعو صالحهم لطالحهم، وطالحهم لصالحهم ،فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال:اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به،وان نظر الصالح إلى الطالح قال:اللهم اهده وتب عليه واغفر له عثرته
*إن واقع المسلمين:فرقة وتناحر وعداوة وخصام وأنانية مفرطة وشح مطاع وهوى متبع واعجاب كل ذي رأي برأيه واقتتال بين المسلمين وموالاة لأعداء الله مما مكن الأعداء منا ،واستفرد بنا مجموعة مجموعة ،فمجموعات محاصرة وأخرى مطاردة وأخرى يعيث بها الأعداء فسادا ويغريهم بالاقتتال من أجل إرضاء أعدائنا وصدق فينا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم(توشك أن تداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها،قالوا:أو من قلة يومئذ نحن يا رسول الله؟قال:إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ويوشك أن يقذف في قلوبكم الوهن:قلنا وما الوهن يا رسول الله؟قال حب الدنيا وكراهية الموت)وقال عليه الصلاة والسلام(والله لا أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم كما فتحت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)
وقد أمرنا الله تعالى بأخذ أسباب القوة وبين أن النزاع سبب للفشل(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا)
*إن أحد أسباب نظام أمور الناس المحبة ثم العدالة فلو تحاب الناس لاستغنوا عن العدالة ،والعدالة خليفة المحبة ،ولذلك عظّم الله المنّة بإيقاع المحبة بين أهل الإسلام فقال(لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال تعالى(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)أي محبة للقلوب تنبيها على أن ذلك أجلب للعقائد ،فالناس إذا تحابوا تواصلوا ،وإذا تواصلوا تعاونوا وعملوا،ولذلك شرع الله تعالى الاجتماع في الصلوات والجمع والأعياد وصلة الأرحام والتزاور والحج والعمرة …الخ)
والقوة هي قوة العقيدة وقوة الوحدة وقوة الساعد والسلاح
حقوق الأخوة
لا وحدة بدون أخوة وحب ،ولا إيمان إلا بالحب،قال عليه الصلاة والسلام(من أحب لله وكره لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)وقال (وهل الإيمان إلا الحب والبغض) وذلك أن الإيمان له علامات وآثار وموازين،منها :
-لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه-أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا
-لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
-لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين
-(والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا،أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم:أفشوا السلام بينكم)
يتبين من الحديث الشريف أنه لا جنة بدون إيمان ،ولا إيمان بدون حب،وهذا يعني أن الحب في الله شرط أساسي لدخول الجنة
والسر في السلام:أنه لا حب بدون ثقة،ولا ثقة بدون تعارف قوي،وشرارة التعارف السلام
فلو كنت تسكن في منطقة وجاء رجل جديد سكن بالقرب منك،ولم يكن بينكما طرح السلام،فستمر الأيام والسنوات،دون أي علاقة تربطكما ببعضكما،وكأنكما تعيشان في مناطق متنائية ،وبداية العلاقة والارتباط بينكما إنما تبدأ بالسلام(/1)
فالسلام مع أن ظاهره أمر بسيط سهل ،إلا أنه الشرارة التي لا بد منها لبدء مسيرة التعارف والثقة والحب
-والله لا يؤمن-كررها ثلاثا-قيل من يا رسول الله؟قال:من لا يأمن جاره بوائقه
-المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا
-ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل
-لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ،المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ،التقوى ههنا –ويشير إلى صدره ثلاثا-بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ،كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)فلم يدع النبي صلى الله عليه وسلم سببا من أسباب القطيعة والعداء إلا حذّر منه حرصا على وحدة المسلمين ،وتماسك صفهم محرّكا في سبيل ذلك أقوى العواطف وأوثق الروابط:أخوة الإيمان،حق الإسلام،التقوى،التنفير من الظلم والشر،حرمة المسلم الكاملة
-تحريم خذلان المسلم،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي(ولأنتقمنّ ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم ينصره)
-تحريم تحقير المسلم(إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ،ولم يستطل بها على خلقي)
-حق المسلم على المسلم ست:قيل وما هي يا رسول الله؟قال:إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك5 فانصح له،وإذا عطس فشمّته،وإذا مرض فعده،وإذا مات فاتّبعه
-وقال رجل لعمر بن عبد العزيز:اجعل كبير المسلمين عندك أبا ،وصغيرهم ابنا،وأوسطهم أخا ،فأيّ أولئك تحب أن تسيء إليه؟!
-وقال يحيى بن معاذ الرازي:ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة:إن لم تنفعه فلا تضرّه،وان لم تفرحه فلا تغمّه،وان لم تمدحه فلا تذمّه
-وقيل لأبي بكر:والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟! فقال:بل هو، ولو شاء لكان
-وقال بن القيم: نهى الشارع أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يستام أو يبيع…وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى التباغض والتعادي ،فقياس هذا :أن لا يستأجر على إجارته،ولا يطلب منصبا على منصبه)
-المؤمن آلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس
-وقال عليه الصلاة والسلام:من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ،ومن سلك طريقا يلتمس به علما سهّل الله له به طريق إلى الجنة ،وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده،ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)
وقال عليه الصلاة والسلام(ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا) وقال(إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) وقال(لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال:الإنفاق من الإقتار،والإنصاف من نفسه،وبذل السلام)وقال عليه الصلاة والسلام(من سرّه أن يزحزح عن النار فلتأته منيته وهو يشهد أن لا اله إلا الله ،وأن محمدا رسول الله ،وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى له)وقال(أتدرون على من حرّمت النار؟؟قالوا الله ورسوله أعلم،قال:على الهيّن السهل القريب)
روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين) وقال عليه الصلاة والسلام(إن الله يكره أذى المؤمنين)
*والأخوة في الله والحب هي ميزان الإيمان وشرطه(وهل الإيمان إلا الحب والبغض)(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟أفشوا السلام بينكم)(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)(سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله:…..ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه)
*والتعارف يقود إلى التآلف( الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) قال الكنديّ(الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك)
*وحقيقة الأخوة:حب وتعاون ،تناصر وولاء-احترام-شعور مشترك-تزاور-تعاطف-إحسان-تهادي –أدب-ابتسام-سلام-تقدير واكبار-تواضع-إعانة على البر-إعانة على وظيفة الحياة-إكرام-سلامة صدر-إيثار-طريق إلى محبة الله-طريق إلى الحياة الطيبة والطيب(طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا)-اعتكاف في طاعة الله(لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرا)،فالأخوة ترجمة للمعاني والقيم في واقع ملموس(/2)
*والاخوة تعني اتساع في المشاعر الإنسانية والعطاء الإنساني ليخرج الإنسان من دائرة أنانيته إلى دوائر غير محدودة من العطاء المادي والمعنوي،وهي خروج من حدود الأسرة الضيقة والعشيرة الضيقة إلى الأسرة الكبيرة والعشيرة الكبيرة
*والمحبة أدناها سلامة الصدر وأعلاها الإيثار(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون،والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) مناسبة الآية الكريمة هي موقف الأنصار من فيء بني النضير
*الحب في الله فرع من محبة الله فمن أحب الله أحب أحباب الله
إن الحب شفاف وعكّاس ،بعكس البغضاء فهي طينية كثيفة ،ولا بد لنا من الوصول لحب حقيقي لله تعالى تظهر آثاره في السلوك
والطريق إلى حب الله تعالى الذكر والفكر ،التفكر في نعمه وآلائه المادية والمعنوية ،حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم(أحبوا الله لما يغذوكم ممن نعمه وأحبوني لحب الله إياي) فالتفكر في نعم الله يقود إلى تعظيمه واجلاله وحبه ،فإذا فاض القلب بحب الله صار محبا لكل ما يحبه الله ومن يحبه الله ،فمن أحب الله تعالى أحب كلامه وأحب رسله وأحب أحبابه من المؤمنين الذين ينظر إليهم بمنظار جديد، حقيقته أنهم أعوانه على تحقيق مرضاة الله الحبيب جل جلاله
أمثلة على الأخوة
*حجارة السقف:إن الحجارة في السقوف الدائرية تحني نفسها لأخواتها لتشكل من ذلك قوة-مع أنها حجارة-أما آن أن نتعلم منها فننحني لإخواننا المؤمنين لتحقيق قوة التعاون على البر؟!
*( إن صبيا يستطيع أن يضرب بطلان إذ هما يتصارعان ،وإذا وجد جبلان في ميزان تستطيع حصاة أن تلعب بهما فترفع واحدا وتنزل الآخر) بخلاف لو كان الجبلان في كفة واحدة
*الأخوة إماتة للهوى وهي سبيل الإخلاص والعدل وطريق محبة الله ومحبة الخلق
*إن الحقد والعداوة سم للحياة البشرية :يقول المرحوم سعيد النورسي(لو قيل لك أن هنالك سفينة تقل مجرم وتسعة أبرياء،وأن هنالك شخص يريد إغراق السفينة لوجود المجرم فيها،ألا تستنكر فعلته فتقول:كيف تريد إهلاك تسعة أبرياء بجريرة مجرم واحد؟ فالمؤمن لو كان فيه صفة جانية فهو منزل رباني وسفينة إلهية تقل الإسلام والإيمان والجوار وغيرها كثير
*إن العداوة والمحبة ضدّان كالنور والظلمة لا يجتمعان في معناهما الحقيقي ،فان وجدت المحبة الحقيقية كانت العداوة مجازية وانقلبت إلى شفقة ورحمة ،وان وجدت العداوة الحقيقية تصير المحبة مجازية (تصنع وتملق الخ)
*لو قال لك شخص (إن الحصا العادية أشرف من الكعبة وأعظم من جبل أحد) ماذا تقول عنه؟
وهل الإيمان أعظم أم حرمة الكعبة؟ وهل الإسلام أعظم أم جبل أحد؟؟ وهل الخلاف في فرعية مع أخيك مقارنة بإيمانه وإسلامه إلا بحجم الحصا؟؟
*إن وحدة الاعتقاد تقتضي الوحدة (إن العمل معا في كتيبة ينتج صداقة ،والعمل معا تحت قيادة واحدة ينتج رفقة،وكذلك الوطن الواحد ،واللغة الواحدة والعمل الواحد،والغريب للغريب نسيب…الخ)فكيف بعلاقات الإيمان والإسلام التي هي بعدد الأسماء الإلهية،؟؟فضلا عن النبي الواحد والكتاب الواحد والقبلة الواحدة وأرض الإسلام الواحدة …الخ
*إن الخير شفاف نوراني عاكس ،والشر كثيف كالتراب ،فنور المحبة من شأنه السراية والانعكاس (صديق الصديق صديق)(تعشق عيون كثيرة من أجل عين واحدة)(إن من البر أن يبر الرجل أهل ودّ أبيه)(أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه وأحبوني لحب الله إياي)(من أحب الأنصار فبحبي أحبهم )(من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله)(يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه لو كانوا مؤمنين) (محبة ابن الابن)(أمر على الديار ديار ليلى…)(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)
أما إذا عاديت إنسانا فلا يجوز أن تعادي أقاربه مثلا)(ولا تزر وازرة وزر أخرى)،أما إذا درس عنه غيره الشر فتلك مسألة أخرى
*في الواقع الإنساني صحبة ساعة ،وصداقة سفر،وزمالة عمل،تقتضي علاقة معينة ،فكيف بمن تربطك فيه روابط ومناسبات بعدد الأسماء الإلهية
*والأصل الذي يبنى عليه الأخوة والولاء هو قوله تعالى(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)
فكل مؤمن يصلي ويصوم يجب له حق الولاء من حب ونصرة وتعاون وأخوة
*وان مما يؤثر على الأخوة الحسد ،فان الحسد اعتراض على القدر(لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله،(ضربة أسد ولا نظرة حسد)
*في الخلاف لك أن تقول مسلكي حق ،ولكن لا حق لك أن تقول :أن الحق هو مسلكي فقط نظرا لاختلاف العقول والأفهام ،ونظرا لمداخلة الهوى والغرض في كثير من الأحيان ،ونظرا لتجاوز المظلمة بذكر عيوب أخرى والغيبة ونقل الكلام(/3)
*نجب أن نفرق بين النصيحة وبين الضغط على العصب بالنصيحة
*إن من الحق أن يكون كل كلامك حقا وليس من الحق قول كل الحق
*إن كنت تريد العداوة فعاد ما في قلبك من العداوة،وان ترد العدوان فالكفار والزنادقة كثيرون فعادهم،فكما أن صفة المحبة لائقة هي نفسها بالمحبة ،كذلك خصلة العداوة هي نفسها لائقة بالعداوة
*إن أردت الغلبة على خصمك فادفع سيئته بالحسنة لأنك إن دفعتها بالسيئة تكسب موقفا وتخسر إنسانا وتزداد خصومة في الغالب حيث يضمر القلب حقدا ويديم العداوة،ولو صار مغلوبا ظاهرا،وان قابلته بالحسنة يندم ويصير صديقا لك ،فان من شأن المؤمن أن يكون كريما (إذا أنت أكرمت الكريم ملكته…)حتى لو كان لئيما ظاهرا،فهو كريم من جهة الإيمان (الكرم هو قلب المؤمن) (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)(ما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا)
*إن مما يقع كثيرا أنك إذا قلت للّئيم :انك كريم كريم يتكرّم،وإذا قلت لكريم:انك لئيم لئيم يتلاءم،فإذا كان كذلك فألق السمع إلى الدساتير القدسية (وإذا مرّوا باللغو مروا كراما)(وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم)
*إن العداوة غالبا ما تقود إلى الحسد الذي يضر صاحبه ،فيجعلك تقاسي من النعم النازلة بخصمك ،ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله،وضرر الحسد على المحسود إما قليل واما مفقود
والحاسد كأنه ينتقد القدر ،ويعترض على الرحمة الإلهية والعطاء الرباني ،ومن انتقد القدر ضرب برأسه على السندان فانكسر،ومن اعترض على الرحمة حرم منها
من روائع الحكمة
-إن من الحمق مقابلة ساعة عداوة بسنة من الحقد والعداوة تضيّعها من عمرك
*قسّم خطأ أخيك إلى حصص
-حصة القدر فأخرجها وقابلها بالرضى
-ميّز حصة النفس والشيطان فاستبدل العداوة بالشفقة ،وانظر إليه كمغلوب لنفسه تنتظر ندامته لا هلاكه(من بعد ما نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي)(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)
-ميّز خطيئتك في نفسك وأعطها حصة أيضا (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)
-قابل الحصة الباقية بالعفو والصفح وعلو الهمة ،تغلب خصمك وتنجو من الظلم والضرر،يقول الشيرازي(الدنيا ليست متاعا يساوي نزاعا لأنها فانية)
*ما معنى الأخوة العادية وما هي متطلباتها؟
إن أخوّة الرحم تقتضي كثيرا من الحقوق فالأخ من الرحم له حق النصرة والحب والتعاون وأمثالها من الحقوق ،وعليه فان اخوة الإيمان لها حقوق كتلك الحقوق، وهذا مفهوم قوله تعالى(إنما المؤمنون اخوة)
*أنت ضعيف بنفسك قوي بإخوانك (قوة الأخوة والوحدة)
*فان قلت:لست في عداوتي مختارا فانهم طعنوا أعصابي ؟فالجواب:إذا لم تظهر أثرا من سوء الخلق ،ولم تعمل بأمثال الغيبة ومقتضاها، وفهمت خطأك لم تضرك،حيث يقول عليه الصلاة والسلام (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)
*ما هو موقفك عند فقد أخيك بالرحم أو وقوعه في خطر؟؟
لو كان لك أخ من الرحم وهو فقير وتعرض لحادث ،وأخبرك الناس أن أخاك في العناية المركزة،وبحاجة إلى عملية تكلف خمسة آلاف دينار ،وكنت تملك هذا المبلغ-ولا تملك سواه-
هل يا ترى تضحي بما جمعته في سنوات لإنقاذ أخيك أم تفضل أن تبقي على المال وتستغني عن أخيك؟
إن موقف كل من ينتمي إلى الجنس البشري هو إيثار إنقاذ الأخ على المال
فإذا كانت أخوة أخ واحد أغلى من وفرك طيلة عمرك فكيف بأخوة كل المؤمنين؟!
*الإخلاص:شتم رجل ابن عباس يوما فقال له:أتشتمني وفيّ ثلاث خصال:أسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح وأنا لا أتقاضى إليه أبدا،وأسمع بالغيث يصيب البلد من بلدان المسلمين فأفرح وما لي من ماشية سائمة ،وآتي على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم)
*الشعور الأخوي: كان ابني وابن صديقي يبحثان عن عمل وطلبنا من أصدقائنا معونتنا في ذلك فتوسطوا لابن صديقي ولم يتوسطوا لابني فوجدت في بادئ الأمر في نفسي ثم قلت لنفسي-هذا شعور غير أخوي يجب علي أن أفرح بعمل ابن صديقي فقد حلّت نصف مشكلتنا وبقي النصف فالواجب علي الفرح بذلك
*إذا أنت صاحبت الكرام فكن فتى
وكن مثل طعم الماء عذبا iiوباردا ... ... كأنك مملوك لكل iiرفيق
على الكبد الحرّى لكل صديق
*لا تنطق إلا بما يجمع قلوب المؤمنين ولا يفرقها
*لا تدع الغضب يخرجك عن الحق والاعتراف به
أخوك سلاحك
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فتسلّح بأخوة إخوانك ،ثم يأتي دور الفكر والشعور والتذوق والقيام بالحقوق:
إن للتفكر والشعور والتذوّق دور كبير في استحضار معاني الأخوّة ،فليتذكّر المسلم وليستحضر في قلبه نعمة الأخوة والحب في الله وليحاول دائما أن يستحضرها ويتأمّلها ويتذوقها فان ذلك خير معين له على القيام بحقوقها
الوسائل لتوثيق عرى الأخوّة
-حسن الخلق هو بذر اكتساب المحبة ،ومن حسن خلقه صان عرضه
-للخير أهل لا تزال وجوههم تدعو إليه
-طوبى لمن جرت الأمور الصالحات على يديه(/4)
ما لم يضق خلق الفتى فالأرض واسعة عليه
-وقد قيل التودد إلى الناس نصف العقل،وحسن المسألة نصف العلم)
-التسامح
-صلة الأرحام
-إفشاء السلام(أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟أفشوا السلام بينكم)
-إطعام الطعام
-التواضع :قال تعالى(واخفض جناحك للمؤمنين)وقال عليه الصلاة والسلام (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)
-الإيثار
-إبرار القسم
-التبسم في وجهه(البسمة بريد الحب والرضا)
إن للتبسم دور سحري في القلوب،إن نفس العبارة مع الابتسام تختلف عن أثرها في النفس بدون ابتسام،حيث أن الابتسام علامة الرضا،فعندما تتحدث مع أخيك والبسمة تلوح في وجهك فكأن البسمة رذاذ الماء الذي يرطب جو الحديث،فيجعله يتقبل العبارات بعيدا عن سوء الظن ،أو تأويلها تأويلا بعيدا غير مقصود،وان مما يساعد البسمة في تحقيق الهدف:
-إعلام أخيك بأنك تحبه في الله تعالى:فان طبيعة ما يجري بين الأحباب في جو الأخوة والحب يكون أعون على القبول والتفهم ،وقديما قيل:إن المحب لمن يحب مطيع
عن أنس رضي الله عنه قال:كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر رجل،فقال رجل من القوم:يا رسول الله:اني لأحب هذا الرجل،فقال:هل أعلمته ذاك؟قال لا،قال:قم فأعلمه فقام إليه فقال:يا هذا والله اني لأحبك،قال:أحبك الذي أحببتني له)
-خفة الظل،وقد قيل
وأنت على مودتنا حريص
وأثقل من رحا بزّ iiعلينا ... ... ولكن لا تخفّ على iiالفؤاد
كأنك من بقايا قوم عاد
كيف يحبك الله تعالى؟
-(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)
-(إن الله يحب المتقين)
-(والله يحب الصابرين)
-(والله يحب المحسنين)
-(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)
-(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)
-وورد في السنة(أحب الأعمال إلى الله :الصلاة على وقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله)
-وقال عليه الصلاة والسلام(وأحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه) وقال(إن الله يحب أن تؤتى رخصه)
والمحبة حقيقة العبودية:فالإنابة هي إنابة المحبين،والصبر صبر المحبين،والتوكل توكل المحبين،والزهد هو زهد المحبين،يزهد
ون في محبة ما سواه والفقر هو فقر الأرواح لمحبوبها،والغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه،والشوق هو الشوق إلى لقاء الحبيب
والخلّة هي كمال المحبة
وقال في مقابل ذلك:
-(والله لا يحب الفساد
)
-(والله لا يحب كل مختال فخور)
-(والله لا يحب الظالمين)
*قال عليه الصلاة والسلام(إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال:اني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)
*وان مما يقضي على الحب:الاختلاف (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم )(ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم) ،ومما يكرّس الفرقة الجدل وآفاته كثيرة جدا منها الإعجاب بالرأي وغمط الناس وجحد الحق وتسفيه المخالف والعجب والغرور والغيبة والنميمة وحب الإضرار بالمخالف والحسد وكراهية الحق إن جاء على لسان المخالف ورفع الصوت وعدم الاهتمام بحجة الخصم والحرص على الرد عليها دون تدبرها ،والفرح بخطأ المخالف ،والشعور بأن ما عنده من العلم حق لا يحتمل الخطأ وما عند غيره خطأ لا يحتمل الصواب ورضاه عن عقله ولو كان سفيها،وحب الغلبة والرياء والسمعة وحب انتقاص الخصم والتعصب للرأي دون وجه حق،وضياع الإخلاص في طلب الحق وضياع الحق وتضييع حقوق أهل الحق
محبة الله عز وجل
*محبة الله هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون ،وهي الحياة التي من حرمها فهو ميت،والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات ،وهي الشفاء لجميع الأسقام، واللذة التي ما بعدها لذة
وأهل الحقائق هم الذين قعدوا على الحقائق ،وقعد من سواهم على الرسوم
والمحبة هي عنوان الكتاب الذي يدل الطلاب على طريق الأحباب
وهي روح الإيمان والأعمال ،والمقامات والأحوال ،فان خلت منها فهي جسد لا روح فيه
وقد مضى قضاء الله أن ( المرء مع من أحب)
أهل المحبة سبقوا السعاة وهم نائمون ،وتقدموا الركب وهم واقفون
من لي بمثل سيرك المدلّل تمشي رويدا وتجي في الأول
*قال الله تعالى(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ،ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ،ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون)
*إن أعلى أهداف وجود الإنسان في الدنيا هو الإيمان بالله
وان أعلى ما في الإيمان هو معرفة الله
وان أعلى أهداف هذه المعرفة هي محبة الله
وان أعلى ما في هذه المحبة هو اللذة في محبة الله عز وجل
والطريق إلى ترسيخ معرفة الله تعالى هي الفكر والذكر والإخلاص(/5)
واعلم أن كل عضو خلق لفعل خاص ،فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل ،فمرض العين تعذر الإبصار ومرض الأذن تعذر السمع ومرض القلب هو تعذر الفعل الخاص الذي خلق لأجله وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته وإيثار ذلك على كل شهوة
فلو أن الإنسان عرف كل شيء ولم يعرف الله سبحانه كان كأنه لم يعرف شيئا ،وعلامة المعرفة الحب،فمن عرف الله أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه شيئا من المحبوبات ،فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض .ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه ،فلذلك يغفل عنه ،وان عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه لأن دواءه مخالفة الهوى ،وان وجد الصبر لم يجد طبيبا حاذقا يعالجه ،فان الأطباء هم العلماء والمرض قد استولى عليهم ،والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه
*مراتب المحبة
-العلاقة:تعلق القلب بالمحبوب
-الإرادة:ميل القلب إلى المحبوب
-الصبابة:انصباب القلب بكليته للمحبوب
-الغرام:وهو الحب اللازم كملازمة الغريم لغريمه
-الود:وهو صفو المحبة،وخالصها ولبها ،والودود من أسماء الله تعالى،قال البخاري في الصحيح(الودود الحبيب)
-الشغف:وهو وصول الحب إلى شغاف القلب(قد شغفها حبا)واستيلاء الحب على القلب،وقرأ بعض السلف(قد شغفها حبا)أي ذهب بها الحب كل مذهب،ومنه شعف الجبال أي رؤوسها
-التّتيّم :وهو التذلل
-التعبّد:فالعبد هو من ملك المحبوب رقّه فلم يبق له من نفسه شيء البتّة
ولما كمل محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المرتبة وصف بها في أشرف المقامات-في مقام الإسراء والدعوة والتحدي
وحقيقة العبودية:الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب
-الخلّة:وقد انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما السلام،كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا)
والخلة:هي المحبة التي تخلّلت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب
ولعل هذا السر هو سر أمر الخليل بذبح ابنه(إن هذا لهو البلاء المبين)وهو اختبار المحبوب لمحبه
كيف تتعلم محبة الله؟
إن مما يعلمنا محبة الله تعالى ما يلي:
-قراءة القرآن الكريم بالتدبر
-الفكر والذكر
دوام ذكر الله على كل حال:باللسان والقلب،والعمل والحال،فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر
قال الله تعالى(والهكم اله واحد لا اله إلا هو الرحمن الرحيم،إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون،ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله…)
ساق الله تعالى أدلة وحدانيته في السموات والأرض والتي تبين أن لا معبود بحق إلا هو، ثم قال(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) إن التفكر في النعم التي ذكرها الله عز وجل توصل إلى نتيجة أن المنعم بهذه النعم العظيمة يجب أن نحبه أكثر من كل ما سواه ،قال تعالى(يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)
-فكّر في نعم الله عليك والتي لا تحصى،فان الإنسان عبد الإحسان ،والحب له علاقة بالعطاء المادي والمعنوي،فالإنسان مثلا يحب أمّه أكثر من أبيه لأن حصيلة عطائها المادي والمعنوي أكثر من عطاء أبيه،فكلما زاد العطاء وجب أن يزيد الحب،وبما أن عطاء الله لك نعما لا تحصى فهو يستحق حبا يفوق كل المحبوبات مجتمعه،حيث أن عطاء تلك المحبوبات وذواتها إنما هي عطاء من عطائه جل جلاله
-التقرب إلى الله تعالى بالنوافل(وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه…)
-إيثار محابّه على محابّك عند غلبات الهوى
-مطالعة القلب لأسمائه وصفاته فمن عرفها أحبه لا محالة
-مشاهدة بره واحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة فإنها داعية إلى محبته
-انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى
-تذوق حلاوة مناجاته في الثلث الأخير من الليل
-مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما تنتقى أطايب التمر
-مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل
-الإكثار من قراءة سورة الصمد(كان أمير سرية من الصحابة يقرأ (قل هو الله أحد)لأصحابه في كل صلاة فسئل لم؟فقال:لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها،فقال النبي صلى الله عليه وسلم(أخبروه أن الله يحبه)
-الدعاء بطلب المحبة:كان داود عليه السلام يقول(اللهم اني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك،اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد)
وكان عليه الصلاة والسلام يقول(اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك ،اللهم مما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب،وما زويت عني مما احب فاجعله فراغا فيما تحب)
من آثار محبة الله تعالى
-تعلق القلب به رجاء وخوفا
-الأنس بالله
-اتخاذه وليا
-الثقة بالله
-الرضا به ربّا
-عبادته بالمفهوم الشامل للعبادة(/6)
ومحبة الله عز وجل تقتضي محبة ما يحب ومن يحب من مثل:
-محبة كلامه:ومحبة كلامه تقتضي تلاوته حق تلاوته بالتدبر والتفكر والتعظيم
-محبة رسوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين)
ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي طاعته (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)
-محبة ذكره
-محبة دينه :الدعوة لدينه-الصبر على الأذى فيه-التضحية من أجله(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)
-محبة أوليائه وكراهية أعدائه(وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ)
-محبة طاعته
-كراهية معصيته
-محبة ما يحب
*وأول دفعة من ثمن المحبة :بذل الروح
قال الله تعالى(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة )فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن عرفوا أن للسلعة شأنا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس ،فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي ،من غير ثبوت الخيار وقالوا:لا نقيل ولا نستقيل
فلما تم العقد وسلموا البيع ردّها الله لهم أضعافا مضاعفة (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)
*إذا غرست شجرة المحبة في القلب ،وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب آتت أكلها كل حين بإذن ربها ،أصلها ثابت في قرار القلب ،وفرعها متصل بسدرة المنتهى
مما قيل في المحبة
-الميل الدائم بالقلب الهائم
-إيثار المحبوب على جميع المصحوب
-موافقة الحبيب في المشهد والمغيب
-استكثار القليل من جنايتك ،واستقلال الكثير من طاعتك
-معانقة الطاعة ومباينة المخالفة
-أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء ،والمراد أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه ،وتجعلها حبسا في مرضاته ومحابّه،فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك ،فتأخذه منه له
*وجرت مسألة في المحبة بمكة يوم الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا:هات ما عندك يا عراقي:فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال:عبد ذاهب عن نفسه ،متصل بذكر ربه،قائم بأداء حقوقه،ناظر إليه بقلبه،فان تكلم فبالله،وان نطق فعن الله،وان تحرك فبأمر الله،وان سكن فمع الله،فهو بالله ولله ومع الله
.
فبكى الشيوخ وقالوا:ما على هذا مزيد،جزاك الله يا تاج العارفين(/7)
الأخوة
عمر مناصرية
على طاولة كانوا جالسين، مظلمي الوجوه، أعينهم غائرة ووجوههم كذلك، ينظرون إلى بعضهم شزرا. وعلى الطاولة مسدسات. أمام كل واحد مسدس اسود، يحار المرء لم هو مسدد إلى الآخر، وكان ضوء عال ينزل عليهم جميعا، قلا يضئ إلا مساحات عمودية من وجوههم.فيبدوا أنهم ليسوا بشرا أبدا، بل كائنات أخرى غريبة، جاءت من مكان بعيد واستقرت هنا في هذا المكان. ثم فتح شاب الباب ودخل.. سار متقدما نحوهم وهم لا يلتفتون. سار بخطى واثقة. وقف قريبا منهم وقال:
- إن الأب بخير..
قال ذلك بلغتين مختلفتين، ناظرا إليهم كأنما ليؤكد ما قاله، فنطق واحد منهم وكان طويلا:
- ألم يمت؟
- لا
فقال آخر:
هل حاله مستقرة؟
- نعم ولكن...
- لكن ماذا؟
- لا. لاشيء.إنه بخير.
بدا للرجال الأربعة الجالسين على كراسيهم أن الوقت هو المساء، وفي ذهن كل واحد منهم رغبة عارمة إلى الراحة، لولا أن الشاب أضاف:
- إنه يقول أنه لا يشك في أي واحد منكم.
فصرخ رجل لم يتكلم حتى ذلك الحين:
- ماذا؟
فكرر الشاب قوله:
- إنه لايتهم أحدا منكم.
بدا الانزعاج عليهم جميعا، ونظروا إلى عيون بعضهم بعضا، ثم إلى مسدساتهم...ثم قال أحدهم:
- كيف ذلك؟ ألم يتناول سما؟
- قال الشاب: نعم.. ولكنه يقول إن أحدا منكم لم يفعل ذلك.
فقال آخر:
- وكيف لنا أن نعرف؟
صمت الشاب، وكذلك هم. كانوا اخوة جميعا، وكانوا يريدون إرواء حنق قديم. وعندما نزلوا من سيارتهم قبل يومين لم يتوقع أحد منهم أن يصير حاله إلى هذا الوضع. كانوا قد عاشوا بعيدا، كل في طرف الأرض بعد أن لم يستطيعوا تحمل العيش مع بعضهم، وفي الليلة السابقة لقراءة الوصية،لم يكن الأب يعاني من شيء. بدا صارما وواثقا كعهده، ثم سقط فجأة وأخبر الطبيب أنه تناول سما في طعامه. إذ ذاك تحول كل شيء. جاءوا جميعا إلى هذه الطاولة وجلسوا، ثم لما مضى الوقت أخرج كل واحد مسدسا كان يحمله ووضعه أمامه..لم يعرفوا لم قاموا بذلك، كأن قوة غامضة سحبتهم إلى هناك وأجلستهم وأرت كل واحد ما عليه أن يفعله. كأنهم لم يعرفوا أبدا لم كانوا هناك... لبثوا جالسين لا يتكلمون. تذكروا ربما طفولتهم. تذكروا أمهاتهم، وكيف استطاع ذلك الأب الجشع أن يتزوجهن جميعا. مسلمة ومسيحية ويهودية وبوذية. لابد أنه كان مترفا حتى يستطيع أن يلبي غروره ذاك، ولو لم يكن كذلك لاكتفى بواحدة من بني جنسه ولم يمد عينيه إلى الأخريات. شعر كل واحد بالحنق.. برغبة عارمة في القتل. في السابق لم يفكروا ببعضهم كثيرا. انخرط كل واحد في دينه وعمله. ولكنهم لما اجتمعوا ورأوا وجوه بعضهم بعضا، شعروا بالغيض. كيف لهم أن يجتمعوا في بيت واحد؟ وتلك النساء جميعا، كيف رضين بالعيش تحت سلطة رجل واحد؟ شعروا بالحنق نحوه، ولم يكترثوا لموته أو وصيته إلا بما يمكنهم من قتل بعضهم.
لبثوا صامتين لا يتكلمون، فلما خرج الشاب تاركا إياهم، دب نعاس غريب إليهم. شعروا بالإرهاق وبرغبة في النوم. جاهد كل واحد منهم ليبقى يقظا. لم يتحركوا. لم يتكلموا.. ولما لم يستطيعوا مقاومة ناموا. ولكرههم حلموا جميعا بنفس الحلم..فقد رأى كل واحد أن أخاه وفيما هو نائم، إذ عمد إلى مسدسه وحشاه وسدده إليه وهو يقهقه، ثم فتحه عليه.فلما سمعوا الطلق في منامهم، استيقظوا مذعورين.تناولوا مسدساتهم بسرعة. انزاحوا عن كراسيهم وفتحوا النار على بعضهم، فاختلط القتل بالقتل، وسالت دماء. سقطوا جميعا على الأرض. مدوا إلى بعضهم بعضا أيديهم.قال كل واحد بلغته: أخي. وقبل أن يسلموا أرواحهم، كانوا قد فهموا معنى تلك الكلمة.(/1)
الأدب بين الجمال والزخرف
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد كان وراء كلّ مذهب أدبيّ عرفه الغرب قديماً وحديثاً مذهب فلسفيٌّ يمدّه بالتصوّرات والأشكال والمعاني، ويرسم له مصادر الجمال وموازينه. فالمذهب الأدبيّ الكلاسيكي كان وراءه بعض المذاهب الفلسفية اليونانيّة والرومانيّة. فاعتمد هذا المذهب تقديس الأقدمين وسيادة العقل على العاطفة. والمذهب الرومانسي قام على أفكار جان جاك روسو وشاتوبريان وغيرهما. والمذهب الواقعي تأثّر بالفلسفة التجريبية وفلسفة إيمانويل كانت وغيرهما. ثمّ توالت المذاهب الأدبيّة ينقض بعضها بعضاً، كما توالت المذاهب الفلسفية معها. فجاء المذهب البرناسي والمذهب الرمزي ومذاهب الحداثة الأخرى، ثمّ البنيوية والتفكيكية وغير ذلك.
فإذا حقَّ لهذه المذاهب الفلسفيّة أن تدفع مذاهب أدبية وتصوغ لها تصوّراتها، فإن الإسلام له الحقّ الأول في أن يدفع للبشرية أدباً نابعاً منه تصوّراً وفكراً ولغةً وجمالاً. هذا الأدب هو الأدب الذي يلتزم الإسلام حقيقة لا شعاراً وزخارف. ولا يستطيع الأدب أن يلتزم الإسلام إلا إذا التزم الأديب نفسه الإسلام، ليكون الأدب صوراً حقيقية ملتزمة بفكر وعاطفة وسلوك، وبنهج وبذل وعطاء.
لقد مثّل هذا الأدبَ الملتزمَ بالإسلام شعراءُ الرسول صلى الله عليه وسلّم وخطباءُ المسلمين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين. وامتدت القافلة مع الزمن بعد ذلك بين قوة وضعف على قدر المواهب والظروف التي تمرّ بها الأمة.
وكان جميع هؤلاء ينهلون من منهل عذب واحد لا ينفد أبداً. كانوا ينهلون من الكتاب والسنة من خلال مصاحبة منهجيّة غنيّة ممتدّة في حياة المؤمن امتداد تدبّر ووعي، وامتداد ممارسة حيّة في الواقع.
لقد نقل الإسلام الأدب نُقلة واسعة جدّاً لم يحدث مثلها في التاريخ البشريّ. فقد نقل اللغة العربية من كونها لغة شعب واحد إلى كونها لغة الوحي المتنزّل من السماء ولغة القرآن الكريم، ولغة النبوة الخاتمة، ولغة العبادة لكل مسلم أبد الدهر. لقد أصبحت لغة الإنسان، الإنسان المسلم، لغة أمة واحدة امتدت أعظم امتداد عرفه التاريخ البشري. لقد أصبحت لغة رسالة ربّانيّة يحملها المؤمنون عبادة وطاعة لله على امتداد الأرض والزمان.
ونقل الإسلام الإنسان كذلك نُقلة واسعة جدّاً، حين أعطاه التصوّر الحقّ للكون والحياة، للدنيا والآخرة، للموت والبعث والحساب والجنة والنار. فدخلت هذه في صميم التصورات الأدبية ألفاظا وصياغةً ومعاني وظلالاً، فكراً وعاطفةً، بذلاً وأماني. ونقل الاقتصاد والسياسة والاجتماعَ ونظرياتها نقلة عظيمة كذلك.
ومع امتداد الرسالة نقل الإسلام المجتمع العربيّ كلّه هذه النُقلة الواسعة، ثمّ امتدّ لينقل الإنسانية كلّها، وما زال يمتدّ، على سنن ربّانيّة، وحكمة لله بالغة وقدر غالب وقضاء نافذ.
هذه النُقلة العظيمة للّغة والإنسان والمجتمع والأمة كلّها، وللفكر والتصور. هذه النُقلة العظيمة نقلت معها الأدب نقلة رائعة عظيمة، لا يكاد يدرك عظمتها إلا من يؤمن بالرسالة ويدرك الفرق الشاسع الهائل بين الجاهليّة وبين الإيمان والتوحيد.
إنّه الشرف العظيم للإنسان حين ينتقل هذه النقلة ويمتد معها، فَيُثري المجتمع البشري بالعطاء الحق والصلاح والخير، ويدفع عنه الشرّ والفتنة والفساد.
إن المصدر الحقّ للأدب الملتزم بالإسلام هو الكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية. إنه الأساس والمنطلق للفكر والتصوّر والممارسة والموقف. إن المنهاج الربانيّ ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ هو الحقّ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنه المنهج الكامل الشامل المترابط المتناسق. إنه النبع الغنيّ الصافي الذي لا ينقطع مدده أبداً، ماضياً مع الدهر، ليس للبشرية كلّها مصدر سواه يجمع لها الحقّ لتخضع له وتتبعه دون سواه. إنه النبع الذي ينهل منه الناس في مختلف ميادين الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبيّة وغيرها. إنه يجمع هذه الميادين كلّها في منهج واحد شامل، يبدو لك إن أردت التربية فكأنه كتاب خاص بالتربية، وإن أردت علم النفس فكأنه أعظم كتاب في علم النفس. وإن أردت السياسة أو الاجتماع أو الأدب أو غير ذلك فهو ما أردت. فكان من أهم مظاهر الإعجاز في كتاب الله جمعه هذه الميادين كلّها في منهج واحد، حتى ليبدو أن الإعجاز خاص وبارز بكلّ ميدان وحده، وفي الوقت نفسه يبدو الإعجاز في عظمة الجمع والتكامل، فجاء مع سائر نواحي الإعجاز في أسلوب معجز يتحدّى الله سبحانه وتعالى به الجنّ والإنس.
قدّمت الفلسفات المختلفة منذ القديم تصوّراتها في الفن والجمال. فجاءت هذه التصوّرات مضطربة متناقضة. فالجمال عند أفلاطون يُرَدُّ إلى المثل الخالد وهو من بقايا ذكريات الروح، ويفسّر ذلك بنظرية المحاكاة. وأما أرسطو فنقض نظرية المحاكاة وعالم المثل واهتم بالواقع، وكان الجمال عنده تناسق التكوين.(/1)
وازداد الاضطراب مع الزمن. فربط " بومجارتن " في القرن الثامن عشر الجمال بالحسّ والشعور، ووضع مصطلح " الاستطيقا Aesthetics ". والجمال عند " ديدرو " مبعثه إدراك العلاقات بين الأشياء وفرّق بين الجمال واللذّة. وجاء " كانت " ليدفع الفلسفة المثالية في الفنّ وفي الأدب والنقد دفعاً قوياً لتنتشر في أوروبا وأمريكا، وليعتبر الفنّ غاية في ذاته. فالعمل الفنيّ عنده له وجوده المستقل في ذاته. وتأثّر بهذه المدرسة كثيرون، منهم " مدام دي ستايل " و " فكتور كوزان " و " تيوفيل جوتييه ". و " جوتييه " هو الذي يقول : " لا وجود لشيء جميل حقاً إلا إذا كان لا فائدة له. وكلُّ ما هو نافع قبيح ". ويرى " فيخته" الألماني، وهو تلميذ " كانت "، أن الفنّ هو تحرير الذات. ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور : إِن الجمال هو في التأمل الخالص روحيَّاً دون أن نمزج به إرادتنا، فألغى إرادة الإِنسان. ومضى هيجل في الفلسفة المثاليّة، وظنّ أن الفنّ مرَّ بمراحل ثلاث : الشرقي والمصري، اليوناني، النصراني، من خلال العلاقة بين الفكرة والمادة. ففي الفنّ الشرقي والمصري طغت المادة على الفكرة فجاء الفنّ في أشياء ضخمة، وفي النصراني طغت الفكرة على المادة كما في الرومانسية، وأما في اليوناني فكان التوازن بين الفكرة والمادة فبلغ الفنّ أعظم درجاتِه، كما يظنّ ظناً باطلاً، وتجاهل في تَصَوُّر الفنّ الشرقيّ رسالة الأنبياء الذين توالوا في التاريخ البشري وملؤوه. ورأى هيجل أن الجمال له وجوده المستقلّ، فيخالف الجمالُ بذلك الحقيقة. فالجمال له وجود حسِّي عنده، والحقيقة لها وجود ذهني. وجاء بعد ذلك " بندتو كروتشيه " الذي يرى أن الفنّ ليس محاكاة للطبيعة بل هو مستقل عنها، والعمل الفنّي ليس ثمرة العاطفة والشعور، ولكنه نتيجة ذكاء وفكرة وإرادة. ثم جاء " ت. إِس. إِليوت " وغيره ممن زادوا تناقض الأفكار واضطرابها حول الفن والجمال.
فإذا كانت هذه الفلسفات المتناقضة المضطربة قدّمت هذه التصورات المتناقضة المضطربة للفنّ والجمال، فإِنَّ الإِسلام أحقُّ وأولى أن يقدّم تصوره للفنّ والجمال، وأن يُقدم نظرياته وقوانينه. ذلك أن تلك التصورات العَلمانيّة الوثنيّة الغربيّة تسلّلت إلى العالم الإسلامي حين وجدت الساحة تكاد تكون خلواً من منافسة حقيقية : وتبنَّى كثير من المسلمين تلك التصورات الغربية، وأصبحت أساس المناهج في دراسات الفن والجمال، ومصدر العطاء. فالتصور اليوناني الوثنيّ الذي تُرْجِمَ خطأ بالملحمة ما زال معتمداً، وما زال بعض المسلمين يغضبون لمخالفة هذا التصور اليونانيّ الوثنيّ الذي تتبناّه الحَدَاثة كذلك، ولا يغضبون حين يُلْغَى الوزن والقافية من الشعر العربي.
وإِذا كان لدراسة الفن والجمال في الغرب هذه المسيرة التي أوجزناها، فقد كان لها مسيرة أُخرى مغايرة في تاريخ المسلمين، مسيرة يُوجِّهها التصوّر الإِيمانّي، ويدفعها منهاج الله، وتغَذِّيها قلوب المؤمنين، فلا يقع الانحراف عن ذلك إلا لحظات خاطفة.
وعلينا اليوم، امتداداً لتاريخ المسلمين، أن نطرح تصوّرات عن الفنّ والجمال نابعة من منهاج الله، لتقف أمام التصوّرات المنحرفة.
فكما ذكرنا، فإنا نؤمن أن المنهاج الربانيّ ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ هو أساس الفكر والتصور والموقف والممارسة في جميع ميادين الحياة. والفنّ والأدب ميدان هام من هذا الميادين في الواقع البشري. فكيف ينظر الإِسلام إِلى الفنّ، ومن ثمّ إِلى الأدب، وكيف يكون الالتزام بالإِسلام هنا وهناك ؟!
" الفنّ هو التعبير عن قضيّة أو موضوع بوسيلة طاهرة مباحة، وبأسلوب يرقى بالتعبير إلى درجة من الجمال المؤثر في نفس الإِنسان، ومن ثمّ في واقعه، في المجتمع والأمة والناس بعامة، ليساهم الفنّ في بناء حضارة إيمانيّة طاهرة نظيفة، وحياة إنسانيَّةٍ كريمة تنعم بالعدل والحقِّ، وتحفظ للإنسان كرامته التي كرّمه الله بها، وتحفظ حقوقه التي منحها الله له، وتوفّر الحرّية المنضبطة بضوابط الإسلام، وتوفّر المتعة الحلال التي أحلها الله لعباده، وتوفّر الأمن والأمان، وليعين هذا كله الإِنسان على الوفاء بعهده مع الله سبحانه وتعالى : عبادةً وأمانةً وخلافةً وعمارةً للأرض بالإيمان والتوحيد وحضارتهما، وذلك كله من خلال ممارسة منهاج الله ممارسة إِيمانيّة شاملة في جميع ميادين الحياة "
فالفن إِذن يقوم على عناصر واضحة وأسس جليّة نوجزها بما يلي :
التعبير، الوسيلة، الأُسلوب، الأهداف، ليكون له رِسالة واضِحة في الحياة تُحدِّد له أهدافاً واضحة ودوراً جَلياً، يبلغها عندما تحقِّق عناصره مجتمعة الدرجة المرجُوَّة من الجمال المؤَثِّر. الفنّ في نظر الإِسلام عمل يعبد المؤمن به ربّه كما يعبده في كلّ أَعماله. ليحمل الفنّ الجمال الحق الذي يحبّه الله سبحانه وتعالى. فالفنّ والجمال ينطلقان من روح الإِسلام ونهجه، من الكتاب والسنّة، ليرسما لنا حقيقة هذا وذاك نظريّاً وممارسةً.(/2)
فلننظر كيف يُعلّمنا الإِسلام حقيقة الجمال، نعرضه هنا بصورة موجزة سريعة، حيث نجد التفصيلات كل التفصيلات وافية في منهاج الله :
فعن عبد الله بن مسعود عن رسول صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله جميل يحبّ الجمال )
[ أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما ] (1)
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله جميل يحبّ الجمال ويحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس )
[ أخرجه البيهقي ] (2)
وعن جابر بن عبد الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله جميل يحبّ الجمال ويحبُّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها )
[ أخرجه الطبرانيّ في الأوسط ](3)
وعن طلحة بن عبيد الله أََيضاً:
( إِن الله تعالى جواد يُحبُّ الجودَ ويحبُّ معاليَ الأَخلاق ويكره سفسافها )
[ أخرجه البيهقي في شعب الإِيمان ](4)
والروايات كلها صحيحة. وبتكاملها تضيء لنا سبيل الجمال في الإِسلام : إن الله تعالى جميل، يحب الجمال، يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده، يحبُّ معالي الأخلاق، إن الله جواد، يحبُّ الجود. وتمتدّ سبيل الجمال في الإِسلام مع الآيات والأحاديث، حتى يكون الجمال هو ما يُحبُّه الله والقبح هو ما يبغضه الله.
ويمتدُّّ الجمال حتى ينتشر في الكون كله مشهدِه وغيبه. ففي الغيب جمال الجنة الذي يصفه لنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
( قال الله عزّ وجلّ : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاقرؤوا إِن شئتم : فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون )
[ رواه الشيخان ] (5)
وتمتدُّ الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تصف الجنة الوصف الرائع، وتصف جمالها الأخاذ.
ثم يمتد الجمال في التصور الإِسلامي إِلى عالم المشهد. فتصف الآيات والأحاديث آيات الله في الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فأتقن كلّ شيء خلقه :
(( وَتَرى الْجِبَالَ تحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِي تمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ))
[ النمل :88]
ويمتدّ الجمال آيات بَينات في كلّ ما خلق الله إتقاناً وإحساناً وإِعجازاً. ثمّ يمتدّ إِلى الإنسان :
(( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِليِنَ. إِلاَّ الَّذيِنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالَحِاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مْمُنونٍ ))
[ التين : 4ـ 6 ]
ويمتدُّ الجمال في الإنسان المؤمن. فإذا مصدر الجمال فيه إِيمانه. فتراه في جمال الفطرة التي فطره الله عليها، ثمّ في نفس الإِنسان المؤمن وخُلُقه، ثم في عمله، ثم في كلمته وبيانه : صبر جميل، صفح جميل، سراح جميل، هجر جميل، وغير ذلك.
هكذا يمتد الجمال في تصّور المؤمن حتى إنه يعيش الجمال الحقَّ في أمره كله، على قدر إيمانه واتصاله بالكون وخالق الكون رب العالمين، يعيشه حياته كلها.
ويمتد الجمال إلى الكلمة والبيان، ليكون الأدب في الإسلام هو الأدب الملتزم التزام صدق ويقين، والتزام لغة ودين، والتزام شكل ومضمون.
ويصبح الأدب الملتزم بالإِسلام ثمرة تفاعل بين نوعين من الخصائص : الخصائص الإيمانيّة والخصائص الفنية. فلا يمكن الاستغناء أو إيثار واحدة على الأخرى. فلا بد من الخصائص الفنيّة لتجعل من الكلمة أدباً، ولابد من الخصائص الإيمانيّة ليكون الأدب ملتزماً بالإِسلام. وإن كان لا بدّ من التضحية، ولا داعي للتضحية هنا، فنضحِّي بكل شيء من أجل الإِسلام والإِيمان وطاعة الله. والكلمة التي لا نعبد الله بها لسنا بحاجة لها فإنّها زُخرف عارض أو فتنة مفسدة.
إنَّ أهم معنى من معاني الالتزام في الأدب أن يعرف الأديب حقيقة " العبادة " التي خلقه الله لها، و " الأمانة " التي حملها، و" الخلافة " التي جُعِلت له، و " العِمارة " التي أُمِر بها. وإِن محور ذلك كله هو ممارسة منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ في واقع الحياة ممارسة إِيمانيّة تستكمل شروط العبادة والأمانة. إنّها مسؤولية كلّ مسلم قدر وسعه وطاقته الصادقة.
فالأديب المؤمن الصادق في إيمانه لا يمكن أن يطلق كلمة لا يعبد الله بها، لا نثراً ولا شعراً، ليكون من سمات هذا الكلام أنه طيّب يحبه الله، ويهدي عباده المؤمنين إِليه.
( وَهُدُوا إِلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِرَاطِ الْحَمِيدِ )
[ الحج : 24]
فيصبح الأدب الملتزم بالإِسلام بالنسبة للأديب المسلم عبادة لله وأداء أمانةٍ وقياماً بالخلافة التي أُنيطتْ به ليُسَاهِمَ من خلال ذلك كلِّه بعمارة الأَرض بحضارة الإِيمان، وليكون كلّه على صراط مستقيم يمضي به إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنة ـ.(/3)
شتَّان بين أَديب يَنْظُر إِلى الدنيا وقلبه معلَّق بها، وهي هدفه الحقيقيّ سواءً أعلنه أم أخفاه، وبين أديب يطرق أبواب الجنة وقلبه معلّق بالآخرة يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه. هل يُعقَل أَن يكون الأدب الذي يخرج من ذاك الأديب هو نفس الذي يخرج من هذا ؟ !
في العالم العَلماني والوثني يكاد الجمال أن يكون جمال الشهوة ومتعتها الحرام. جسد المرأة العاري يمثل منذ أيام اليونان مصدر الجمال، وأساطير عشق " الآلهة " وما يدور معه من غضب بينهم وبين البشر، يُمثِّل صراعاً وأحداثاً كلها نسيج الخيال. منذ ذلك الوقت عبَّر اليونانيون والرومان عن تصورهم للجمال بالتماثيل الحجرية للرجل والمرأة و" الآلهة "، تماثيل تكشف العورات كشفاً يزيدها قُبحاً وفساداً. وامتدّ هذا التصور في الفكر الغربي إِلى ميادين الأدب والرسم، وامتدّ كذلك إلى بقاع مختلفة من الأرض مع المنحرفين في أجواء الفتنة والعَلمانيّة وأمثالها.
نهجان مختلفان كل الاختلاف في تصوّر الجمال وتصّور الأَدب وممارسة ذلك في واقع الحياة. إنهما نهجان : نهج الإِسلام والإِيمان والتوحيد، ونهج الوثنيّة والشرك والانحراف تحت أي اسم من الأسماء والمصطلحات ورد ذلك.
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما
... ...
نهج الضلالة ونهج الحقِّ والرشدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على
...
...
نهج الفساد ولا صدقاً على فَنَدِ
لذلك تجد أن النهج الإِيماني له مصطلحاته الخاصة المتميّزة، واستعمالاته الخاصة المتميّزة كذلك. فبالنسبة لمصطلح " الجمال " وما يرتبط به نجد أن منهاج الله يَرِد فيه أربع مصطلحات، لكل منها ظِلاله وإيحاءاته الخاصة واستعماله الخاص. فكلمة " الجمال " لا تَرِد في منهاج إلا لتدلَّ على الحسن الطاهر النظيف الذي يحبُّه الله كما ورد معنا قبل قليل. وهنالك كلمة " الفتنة " تُعبِّر عما هو غير صَالح ولا طاهر ولا نظيف، وعمَّا يُغْري بالفساد ويدفع إلى الشرِّ والضلال. فالمرأة التي منحها الله شكلاً محبّباً مؤثراً في النفس نقول عنها " جميلة " ما دامت زوجة أو أماً أو أختاً ملتزمة بالطهر والصلاح الذي يُحبُّه الله، ذلك لأن الله جميل يحبُّ الجمال. وأَمّا إن كانت امرأة غير صالحة، فنقول إنها " فتنة " لأنها وقعت في الشر ودفعت إليه. هذا هو التصوّر الإِيماني للجمال والفتنة. وهناك لفظة أُخرى عامة لكل ما يُعطي بهجة وسروراً. إنها كلمة " الزينة ".
( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )
[ الكهف : 7]
فالزينة تنقسم قسمين : إما " جمال " و إما " فتنة ". وانظر في هذه الآية الكريمة :
( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالَحِاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً )
[ الكهف : 46 ]
ثم انظر في هذه الآية الكريمة أيضاً :
( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )
[ التغابن :15]
ثم انظر في الأحاديث السابقة التي ورد فيها :
( إن الله جميل يحب الجمال... )
وانظر كذلك في الآية الكريمة :
( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحيِنَ تَسْرَحُونَ )
[ النحل : 5، 6 ]
وكلمة " الحُسن " تنزل في معناها وظلالها منزلة " الجمال " وحتى لا يكون الحسن والجمال إلا في الخير والصلاح، سواءً أكان ذلك في الشكل والخلقة أم في الكلمة أم في العمل أم في اللباس وأيّ ميدان آخر. فانظر في هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة :
( الحمْدُ للهِ الذَّي أَنزلَ عَلَى عَبْدهِ الْكتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً. قَيّماً لّيِنُذر بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبشّر الْمؤُمِنينَ الّذِيِنَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسنَاً )
[ الكهف : 1، 2]
( خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ بِالحْقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأحْسَنَ صُوَرَكُم وَإلَيْهِ الْمصِيرُ )
[ التغابن : 3 ]
( فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَة وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين )
[ آل عمران : 148 ]
وكذلك : ( الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ )
[ السجدة : 7]
وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إن المؤمن ليدرك بحسن الخلُق درجة القائم الصائم )
[ أخرجه أبو داود وابن ماجه ](6)
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدَّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته )
[ أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ](8)
وعن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله يُحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقنه )(/4)
[ أخرجه البيهقي في شعب الإِيمان ](9)
وهكذا نرى أن " الجمال " و"الحسن " لفظتان اختصَّتا بما هو صالح طيّب يحبه الله سبحانه وتعالى، وأن الفتنة لفظة اختَّصت بما هو شرٌّ خبيث، وأن " الزينة " لفظة عامة يبتلي الله بها عباده، فإن اتجهوا بها للخير فهي حُسْن وجمال، وإن اتجهوا بها للشرِّ فهي " فتنة ".
ونرى كذلك أنّ الجمال في الأدب لا ينفصل عن الجمال في الحياة كلّها، فالجمال في نظر الإسلام أمر يُحبّه الله، فمدَّه في الحياة نهجاً مترابطاً في : حديث النفس، في الكلمة، في الموقف، في العمل، وفي كلّ ميدان. وربّما يقول رجل فاسقٌ كلمة يَبدو لنا فيها جمال فنيّ حسب تصوّرنا، ولكنّها في ميزان الإسلام قد تكون باب فتنة وإفساد فَقَدَتْ عناصر الجمال الذي يُحبّه الله.
وهناك لفظة أخرى ترد في كتاب الله، هي كلمة " الزُّخرف "، فهي قريبة الدلالة من كلمة " الزينة "، إِلا أنها تحمل إلإِيحاء بالتهوين والتقليل من شأن ذلك الزخرف، وترتبط بالدنيا ولا حظَّ لها في الآخرة :
( وَلِبيُوتِهِم أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئِونَ. وَزُخْرُفاً وإن كُلُّ ذَلِكَ لمَّا مَتَاع الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واَلآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ )
[ الزخرف : 34، 35]
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلَ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )
[ الأنعام : 112]
فالأدب إذاً أعظم أبواب الفنّ وأشرفها، حتى يكاد يكون هو جوهر الفنّ، والفنّ هو جوهر الأدب. والأدب هو فنّ التعبير باللغة، بالكلمة، بالبيان، ليكون هذا البيان نعمة من الله على الإنسان وآية من آياته :
( الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإِنسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )
[الرحمن : 1ـ4]
فالأدب الملتزم بالإِسلام يتميّز بالجمال كما يعرضه الإِسلام. لا يتميز بالفتنة ولا بالزخرف. إنه زينة طاهرة اتجه بها الأديب المؤمن إلى ميدان الطهارة فكان حُسْناً وكان جمالاً تحمله رسالة ربّانيّة إلى الناس كافّة.
وكيف يتولّد النص الأدبي من الأديب المؤمن ليحمل هذا الجمال. إنه ينطلق من قلب المؤمن ومن فطرته التي فطره الله عليها، دون أن تفسد أو تشوَّه بالآثام والمعاصي والفساد الممتد، حتى يَرِينَ عليها ما يكسب الإِنسان من إثم وفجور. الأدب وجماله ومضة تنطلق من تفاعل القوى المختلفة في فطرة الإنسان، حيث نعتبر الفطرة هي مستودع هذه القوى المختلفة المتنوعة التي وهبها الله للإنسان. وأهم هذه القوى الإِيمان والتوحيد الذي يكوِّن النبعَ الغنيّ الصافي ليرويَ جميع القوى الأخُرى ريّاً عادلاً متوازناً حتى تؤدّي كلّ قوة دورها الذي خُلقت له. والنيّة الخالصة لله هي التي تفتح هذا النبع عند كل فكر وعمل لينطلق الريُّ المتوازن العادل. فإن فسدت النيّة انقطع الريّ من هذا النبع الغنيّ، وانفتح نبع آخر من قوى الفتنة والفساد، حين تنمو إحدى القوى، كالشهوة مثلاً، نمواً زائداً طاغياً غير متوازن، فيؤثر فسادها على سائر القوى.
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاها. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )
[ الشمس : 7 ـ 10 ]
إن هذه القوى في فطرة الإِنسان تعمل بطريقة ربّانيّة نعلم القليل عنها وعن القوى التي تعمل فيها، ونجهل الكثير. ولكننا نستطيع أن نقول إن هناك قوّتين رئيستين في الفطرة : قوة الفكر والتفكر والعقل، وقوة الشعور والعاطفة. وكلٌّ منهما تتأثر بما يكتسبه الإِنسان من الواقع من تجارب وعلوم وأحداث. ويمكن أن نشبه هاتين القوتين بقطبين تتجمع عليهما شحنات الواقع من تجارب وأحداث وعلوم. وإذا صدقت النيّة، فهذه كلها تُروى بريّ الإِيمان وتصفّى بمصفاته.
ففي لحظة معيّنة محدّدة بقدر الله، تنمو هذه الشحنات في الأديب المؤمن إلى درجة تصبح معها قابلة للتفاعل، تفاعل الفكر وشحناته وتفاعل العاطفة وشحناتها. فتأتي قوة أُخرى إذا توافرت بنعمة من الله لدى الأديب المؤمن، وهي الموهبة المحدّدة بنوعها وطاقتها، تأتي في اللحظة المحدّدة فتثير التفاعل بين القوّتين وشحناتهما وتنطلق الومضة من هذا التفاعل، غنيّة على قدر غنى القوتين وشحناتهما وعلى غِنَى الموهبة ذاتها. هذه الومضة التي تنطلق من هذا التفاعل تحمل الإِحسان والإِبداع، هي الأدب الملتزم بالإِسلام. إن هذه الومضة هي ثمرة تفاعل جميع القوى العاملة في الإِنسان مما نعلم ومما لا نعلم، تفاعل يمضي بطريقة ربّانيّة. وذكرنا هنا القوى التي عرفنا وجودها في الفطرة والتي علَّمنا إياها الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الومضة أو الشعلة تخرج وهي تحمل الجمال الذي يحبّه الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبّه المؤمنون. إِنها تحمله في النصّ الأدبي الفني الذي تولَّد حسب ما أوجزناه.(/5)
ومن خلال هذا التفاعل يتم معه تفاعل آخر. إنه تفاعل الخصائص الإِيمانيَّة المستقرّة في الفطرة والخصائص الفنيّة العاملة في الفطرة مع القوى الأخرى. إن هذا التفاعل بين الخصائص الإِيمانيّة والفنيّة هو الذي يهب النصّ الأدبيّ الفنّي حظَّه من الجمال الذي يحسّ به المؤمن، الجمال الذي يحبه الله ورسوله والمؤمنون.
لا يكون الأدب والفنّ والجمال ثمرة العاطفة وحدها، كما يرى بعضهم، ولا ثمرة الفكر وحده كما يرى آخرون. إنه ثمرة التفاعل بين الفكر والعاطفة وما يحمل كل منهما من زاد من الواقع وعلومه وخبراته، وما وضع الله في فطرة الإِنسان من قوى أخرى كالموهبة أو غيرها.
إن التصور يسهل إدراكه حين يستوعب ما أسميه " قانون الفطرة " (10)، القانون الذي نتعلمه من الكتاب والسنة، والذي يعمل في جميع ميادين نشاط الإنسان، والذي يمكن أن تنبثق عنه نظريات متعدِّدة في الأدب والنقد، والتربية وعلم النفس، وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع، وغير ذلك.
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط:3) : (رقم :1741).
(2) المصدر السابق : (رقم :1742).
(3) المصدر السابق (رقم :1743) .
(4) المصدر السابق (رقم:1744 .
(5) البخاري :59/8/3244.
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط: 3) : ( رقم : 1932 ).
(8) المصدر السابق : (رقم : 1795 ).
(9) المصدر السابق : ( رقم : 1800).
(10) تراجع الكتب التالية : "الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته "، " التربية في الإسلام : النظرية والمنهج "، " النهج الإيماني للتفكير " للدكتور عدنان علي رضا النحوي.(/6)
الأدب في طلب العلم
لابد لطالب العلم من آداب في نفسه , تعينه على ثبات عِلْمِه ونشره .
عن المهدي أبي عبد الله قَالَ : سمعت سفيان الثوري , يقول : كان يقال : أَوْلُ العِلْمِ الصَّمت , والثاني : الاستماع له وحفظه , والثالث : العمل به , والرابع : نشره وتعليمه .
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ ؛ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ -أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ -وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي , فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ , فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ ؛ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ , لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ .
وهذا عبد العزيز بن مروان - والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدبُ بها , وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده , وكان يلزمه الصَّلوات , فأبطأ يومًا عن الصَّلاة فقال : ما حبسك ؟ قَالَ : كَانَتْ مُرَجِّلَتي تُسَكِّن شَعْرِي , فقال : بلغ من تَسْكِين شَعْرِكَ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى الصَّلاة . وكتب بذلك إلى والده فبعث عبد العزيز رسولًا إليه ؛ فما كلَّمه حتى حلق شعره .
قَالَ مالك بن أنس : وحُق على من طَلَبَ العِلْمَ أن يكون له وقار وسكينة وخشية , والعِلْم حسن لمن رُزِق خيره , وهو قَسْمٌ من الله , فلا تمكن النَّاس من نفسك , فإن من سعادة المرءِ أن يُوفق للخيرِ , وإن من شِقْوَةِ المرء أن لا يزال يخطئ , وذُلٌ وإِهَانَةٌ للعِلْمِ أن يتكلم الرجلُ بالعلمِ عند من لا يطيعه .
قَالَ القعنبي : سمعت مالك بن أنس يقول : كان الرَّجل يختلف إلى الرَّجُلِ ثلاثين سنة يتعلم منه .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَك : لَو لَمْ يُؤْتَ مَخْلَد بن حُسين إلا ليعلم منه الأدب , كان يَنْبَغِي أَنْ يُؤتى .
قَالَ زكريا العنبري : عِلْمُ بِلَا أَدَبٌ كَنَارِ بِلا حَطَب , وَأَدَبٌ بِلَا عِلْم كَرُوحٍ بِلَا جِسْم .
قَالَ الحسن : إن كان الرَّجُل ليخرج في أَدَبِ نَفْسِهِ السَّنَتَيْن ثُمَّ السَّنَتَيْن .
قَالَ عبد الله بن المبارك : طَلَبْنا الأدبَ حين فاتنا المؤدِّبون .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : رأيت رجلًا جاء إلى مالك بن أنس يسأله عن شيءٍ أيامًا ؛ ما يجيبه ! فقال : يا أبا عبد الله إني أريد الخروج , قَالَ : فَأَطْرَقَ طَويلًا ثم رفع رأسه وقال : ما شاء الله يا هذا ! إِنِّي إِنَّمَا أَتَكَلَّم فِيمَا أَحْتَسِب فِيه الخير , وليس أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِه .
وعن ابن مهدي قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ مَسْألَةٍ , فقال : لا أُحْسِنها , فقال الرجل : إني ضَرَبتُ إِلَيك من كَذا وكذا لأسألك عنها , فقال له مالك : فَإِذَا رجعت إلى مَكَانك , وموضعك فأخبرهم أني قد قلت لك : إني لا أُحْسِنها .
فقد كان من هدي السَّلف رضي الله عنهم التَّرَوِّي في طلب العلم ولا ينشرونه إلا بقدر حاجةِ النَّاس إليه ليظلَّ عَزِيزًا عند أهله .
قَالَ سُفْيان الثَّوري : مَنْ حدّث قبل أن يحتاج إليه ذَلَّ .
وَقَالَ أيضًا : إذا ترأس الرَّجُل سَرِيعًا أَضَرَّ بِكَثيرٍ من العلم , وإذا طَلَب وطَلَب بلغ .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : كان يقال : إذا لقي الرَّجُلُ الرَّجُلَ فوقه في العلم , فهو يوم غنيمته , وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه , وإذا لقي من هو دُونه تواضع له وعلَّمه.
وَقَالَ سُفْيان الثَّوري: لا نَزَالُ نَتَعَلَّمَ العِلْمَ مَا وَجَدْنَا مَنْ يُعَلِّمنا .
وعن زيد بن الحباب قَالَ : سمعت سفيان الثَّوري وسأله شيخ عن حديثٍ فَلَمْ يجبه , قَالَ : فَجَلَسَ الشَّيخُ يبكي , فقام إليه سفيان فقال : يا هذا ! تريد ما أخذته في أربعين سنة أن تأخذه أنت في يومٍ واحد .
قَالَ أبو داود : كنت يومًا بباب شعبة , وكان المسجد مِلْأً فخرج شعبة فاتَّكأ علي , وقال : يا سُليمان ! ترى هؤلاء كلهم يخرجون مُحَدِّثين ؟ قلت : لا , قَالَ : صَدَقْت , ولا خمسة ! يكتب أحدهم في صغره ثم إذا كبر تركه , أو يشتغل بالفساد . ثم نظرت بعد ذلك فما خرج منهم خمسة .
قَالَ الشّافِعي : فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا , وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه ؛ لكان الإمساك أولى به , وأقرب من السلامة له إن شاء الله .(/1)
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته :
هَذَا وَإِنِّي بَعْدُ مُمْتَحَنٌ iiبِأَرْ
بَعَةٍ وَكُلُّهُمُ ذَوُو أَضْغَانِ
فَظٌ غَلِيظٌ جَاهِلٌ iiمُتَمَعْلِمٌ
ضَخْمُ العِمَامَةِ وَاسِعُ iiالأرْدَانِ
مُتَفَيْهِقٌ مُتَضَلِّعٌ بِالْجَهْلِ iiذُو
صَلَعٍ وَذُو جَلَحٍ من iiالعِرْفَانِ
مُزَجَي البِضَاعَةِ فِي العُلُومِ iiوَإِنَّهُ
زَاجٍ من الإِيهَامِ iiوَالْهَذَيَانِ
يَشْكُو إِلَى اللهِ الْحُقُوقَ تَظَلُّمًا
من جَهْلِهِ كَشِكَايَةِ iiالأَبْدَانِ
من جَاهِلٍ مُتَطَبِّبٍ يُفْتِي iiالوَرَى
وَيُحِيلُ ذَاكَ عَلَى قَضَا iiالرَّحْمَنِ
عَجَّتْ فُرُوجُ الْخَلْقِ ثُمَّ iiدِمَاؤُهُمْ
وَحُقُوقُهُمْ مِنْهُ إِلَى الدَّيَّانِ
مَا عِنْدَهُ عِلْمٌ سِوَى التَّكْفِيرِ والتَّ
بْدِيعِ والتَّضْلِيلِ iiوالبُهْتَانِ
وقال قتادة : مَنْ حَدَّثَ قَبْلَ حِينِهِ افْتَضَحَ في حِينِهِ .
ولقد كان من هدي السَّلف رحمهم الله , طُول الملازمة للمشايخ مع حسن الأدب , قَالَ مَعْمَر : سمعت الزُّهْرِي يقول : إن كنت لآتي باب عروة ؛ فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل , ولو أشاء أن أدخل لدخلت إِعظامًا له .
وقال سمعت الزُّهْرِي يقول : مَسْت رُكْبَتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين .
قَالَ الزُّهْرِي : كنا نأتي العالم ؛ فما نَتَعَلَّمُ مِنْ أَدَبِهِ أَحَبّ إلينا من عِلْمِهِ .
وقال معاذ بن سعد : كنت جالسًا عند عطاء , فحدَّث بحديثٍ فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء , وقال : ما هذه الأخلاق ؟! وما هذه الطَّبائع ؟! والله إني لأسمع الحديث من الرَّجُلِ وأنا أعلم به منه ؛ فأريه أني لا أحسن شيئًا منه .
وقال ابن وهب : ما نقلنا من أَدَبِ مَالِكٍ أكثر مما تعلمنا من عِلْمِهِ .
قَالَ أبو الدَّرداء : مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَمْشَاه , ومَدْخَلُه , ومَخْرَجُه , ومجلسه مع أَهْلِ العِلْم .
قَالَ أحمد بن سِنان : كان لا يُتَحَدَّثُ في مجلسِ عبد الرحمن , ولا يُبْرَى قَلَمٌ ولا يَتَبَسَّمُ أحدٌ ولا يقوم أحدٌ قائمًا , كأن على رُؤُوسهم الطَّير , أو كأنهم في صلاة , فإذا رأى أحدًا منهم تبسَّم أو تحدَّث ؛ لبس نعله وخرج .
قَالَ سفيان الثوري لسفيان بن عيينة : مَالَكَ لا تحدث ؟ فقال : أَمَا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا . .
قَالَ أبو إسحاق الجوزجاني : سمعت يحيى بن معين يقول : الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَق وإِذَا رَأَيتني أُحدِّث ببلدٍ فيها مثل أبي مِسْهَر فينبغي للحيتي أن تُحْلق .
وقيل إن أبا نُعيم الحافظ ذُكِرَ لَه ابن مَنْدَة , فقال : كان جبلًا من الجبال . فهذا يقوله أبو نُعيم مع الوحشةِ الشَّديدة التي بينه وبينه .
وهذا شعبة لما يسمع صوت الأقلام على الألواح أراد أن يلمح لطلابه مسألة في الأدب مُعَرِّضًا لها دون تصريح , فلما لم يدركوا مراد شيخهم ترك التحديث .
قَالَ الأصمعي : كنا عند شعبة فجعل يسمع -إذا حدث - صوت الألواح , فقال : السَّماء تمطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد للحديث فسمع مثل ذلك , فقال : المطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد فسمع مثل ذلك , قَالَ : والله لا أحدِّث اليوم إلا أَعْمَى , فمكث ما شاء الله , فقام أَعْوَرٌ فقال : يا أَبَا بِسْطَام تخبرني أنا .
ورحل يحيى بن يحيى إلى مالكٍ وهو صغير , وسمع منه وتفقه بالمدنيين والمصريين من كبار أصحاب مالك , وكان مالكٌ يعجبه سمته وعقله , وروي أنه كان يومًا عند مالك في جُمْلَةِ أَصْحابِهِ , إذا قَالَ قَائِلٌ : قد حضر الفِيل فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه , فقال له مالك : لم لا تخرج فترى الفيل ؟ لأنه لا يكون بالأندلس ! فقال له يحيى : إنما جِئْتُ من بلدي لأنظر إليك , وأتعلم من هَدْيِك وعِلْمِك , ولم أجيء لأنظر إلى الفيل , فَأُعْجِب به مالك , وسمّاه عاقل أهل الأندلس , وانتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس .
قال محمد بن رافع : كنت مع أحمد وإسحاق عند عبد الرَّزاق , فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرَّزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير , فلما رجعنا دعانا عبد الرَّزاق إلى الغداء ثم قَالَ لأحمد وإسحاق رأيت اليوم منكما عجبًا لم تكبرا ! فقال أحمد وإسحاق : يا أبا بكر كنا ننتظر هل تكبر فنكبر ؛ فلمّا رأيناك لم تكبر أمسكنا , قَالَ : وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر .
قَالَ أبو حاتم الرازي : كان ابن المديني علمًا في النَّاس في معرفة الحديث والعلل , وكان أحمد بن حنبل لا يسميه ؛ إنما يكنيه تبجيلا له , ما سمعت أحمد سمّاه قط.
ولا بد أن يكون طالبُ العلم عفيفًا , متغافلًا عمّا في أيدي النَّاس ليصون علمه ويحفظه .(/2)
قَالَ الفضل بن عمر النَّسوي : كنت بجامع صور عند الخطيب -البغدادي , فدخل عليه عَلَويٌ وفي كُمِّه دنانير فقال : هذا الذَّهب تصرفه في مهماتك , فقطب الخطيب وقال : لا حاجة لي فيه , فقال : كأنك تستقله ! ونفض كمه على سجادة الخطيب , وقال : هي ثلاث مائة دينار , فخجل الخطيب وقام , وأخذ سجادته وراح , فما أنسى عِزَّ خروجه , وذُلَّ العَلَوِيِّ وهو يجمع الدَّنَانير 0
وهذا ابن أبي الطَّيب العلامة المفسر , حمل إلى السَّلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه , فلما دخل جلس بلا إذن , وأخذ في رواية حديثٍ بلا أمر , فتنمر له السُّلطان , وأمر غلامًا فلكمه لكمةً أطرشته , فعرَّفه بعضُ الحاضرين منزلته في الدِّين والعِلم , فاعتذر إليه وأمر له بمالٍ فامتنع , فقال : يا شيخ إن للمُلك صولة , وهو محتاج إلى السياسة , ورأيت أنك تعديت الواجب , فاجعلني في حِلٍّ , قَالَ : الله بيننا بالمرصاد , وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وللخشوع , لا لإقامة قوانين الرئاسة , فخجل الملك , واعتنقه .
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عَبدًا أسودًا لامرأةٍ من أهل مكة , وكان أنفه كأنه باقلاة , قَالَ : وَجَاءَ سُليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه , فجلسوا إليه وهو يصلي , فلما صلى انفتل إليهم , فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج , وقد حول قفاه إليهم , ثم قَالَ سُليمان لابنيه : قوما , فقاما , فقال : يا ابني لاتنيا في طلب العلم , فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود 0
جاء ابن لسليمان بن عبد الملك , فجلس إلى جنب طاووس , فلم يلتفت إليه فقيل له : جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ! قَالَ : أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه .
[من "كتاب العبادة واجتهاد السلف فيها" للشيخ](/3)
الأدب ودوره في الحياة
د. زينب بيره جكلي
كلية الآداب والعلوم
ما الأدب ؟ وما دوره في الحياة ؟ وما الهدف من الإبداع الفني ؟
الأدب هو التعبير عن التجربة الشعورية التي يحسها صاحبها بأسلوب جميل مؤثر ، والتأثير في النفوس هو جوهر القضية ، ومن أجله كانت الكلمة الساحرة ، العذبة المحلقة .. ولا يكون التأثير قويا إلا إذا أدى الانفعال إلى تغيير في سلوكيات صاحبه ، بحيث يحثه على رد أضرار الباطل ، أو إزاحة كابوس الظلم ، أو يدعوه إلى التعبير عن آلامه وآهاته ، أو عن فرحته التي يحس بها فيترنم طربا منها ، أما إن قاد الانفعال إلى نزوة طارئة ، أو شهوة عابرة فإنه يكون كاذبا ، ولا يعبر عن موقف صحيح ، بل ينم عن وقوع صاحبه تحت ضغط نفسي ما جعله يفوه بعبارات يربأ بنفسه عنها إن عاد إليه رشده ، وحكم عقله ودينه .
وأمثال هذا في الأدب يجب أن يصحح لئلا يخدع به البسطاء ، ذلك لأن الغاية من نشر الكلمة هي الارتقاء بالبشرية والسمو بها نحو الأفضل ، أما إن كانت دعوة للتعري من الدين والأخلاق ، ووسيلة لتدمير البيوت والانسياق وراء الأهواء فإن حريتها يجب أن تحد قبل أن يستفحل خطرها ، وقبل أن تنخر في عظام الأمة فتقضي عليها .
ولقد أدرك نقادنا القدامى والمحدثون أثر الكلمة في الأمة ، فعبروا عن ذلك بأقوال ومواقف ، مقتدين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نفى طويسا من المدينة المنورة لأنه وصف امرأة وصفا دقيقا ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سحيما عبد بني الحسحاس ، وقتل وضاح اليمن ويسار الكواعب في العصر الأموي لتهتكهم في أشعارهم وفجرهم فيها ، كما قتل المهدي بشار بن برد لاتهامه النساء جميعا ولإشاعته الزندقة في شعره ، وسجن هارون الرشيد أبا نواس لكفره في شعره، وأراد وكيع التنيسي الناقد أن يحذف بعض شعر المتنبي لما فيه من كفر ، وغير بعضهم في رواية الشعر مراعاة للدين ، وقال أبو عمرو الشيباني : ( لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الإرفاث لاحتججنا بشعره ، وفي العصر الحديث دعا د . رجب البيومي إلى حذف كل مجون وتهتك من كتب التراث ، وبين أن لافائدة من قصص ألف ليلة وليلة ، ومن حكايات الخلعاء عند الجاحظ والأصفهاني اللذين أسرفا في الحديث عن الأعراض ، فأثرت كتاباتهم في الأحكام النقدية في تلك العصور ، وقد نفذ ذلك أحمد رشدي صالح حين خلص ألف ليلة وليلة من فحش القول ، فرفع الأمر إلى القضاء المصري بحجة تشويه التراث وتغييره فأقره على عمله ، وأصدرت المحكمة قرارها الذي ينص على أن الكتب التي تحوي روايات عن الجنس ، وعما تفعله العاهرات من التفريط في الأعراض يعد انتهاكا لحرية الآداب والأخلاق ، بل إن المحكمة طالبت أن يحذف من كتب التراث كلها ما ينافي الأخلاق .
وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينطبق على القصص الداعرة التي تزين المنكر ، وتسوق إلى الرذيلة ، وتكشف مخبآت الجسد ومكنونات النفس ، من أمثال قصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وحنا مينة ومن لف لفهم ممن يصور المرأة بشكل ينفر منه المؤمن ، ويندى له الجبين لما فيه من دعوة إلى التحلل من الأخلاق ، وتشجيع على الخيانة الزوجية تحت ستائر شتى ، دون أن يبالي الكاتب بتأثير هذه الكلمات في عقول الناشئة ونفوسهم .
إن الغاية من الأدب هي التأثير في الآخرين لنشر الفضيلة والخير ، أما الأدب المكشوف الذي نأى صاحبه عن منهج الله وتعرى من الدين والخلق فإنه يدمر البيوت ، وينحط بالإنسان إلى الدرك المهين ، ثم إن الأدب فن ، والفن جمال ، والمنكر تنفر منه النفس السليمة ، العفة النقية ، وتشمئز منه الأفئدة الطاهرة غير المريضة أو المهزوزة ، ولنستمع إلى الشاعر عمر بهاء الدين الأميري ، وكان رحمه الله قد جاءته فتاة غذيت بفكر غير سليم ، وقالت له :
ما رأيك بقول الشاعر :
خلقت
الجمال لنا فتنة وقلت لنا يا عباد اتقون
وأنت جميل تحب الجمال فكيف عبادك لا يعشقون
فأجابها الشاعر المؤمن الذي يدرك رسالة الأديب في الحياة :
خلقت الجمال لنا نعمة وقلت لنا يا
عباد اتقون
فإن الجمال تقى ، والتقى جمال ، ولكن لمن يفقهون
ومن خامر العشق أخلاقه تأبى الصغار وعاف المجون
هذا هو الجمال الحقيقي … نأي عن الصغار والمهانة ، وبعد عن المجون والرذيلة ، أما أن يصور الرجل ذليلا يركع تحت أقدام داعرة وينسى رجولته وكرامته من أجلها ، ثم يجعل ذلك رباطا مقدسا !… أو أن تهدر المرأة كرامتها من أجل لقمة عيش بزعمها ، أو أن تتفوه الشخصيات بما يندد بالدين باسم الإبداع ، أو يحكي الأديب ما يخجل المرء من ذكره فإن هذا جنوح وشذوذ يجب أن يوقف ، والله سبحانه وتعالى لايحب الجهر بالسوء من القول ، ورب كتاب قاد صاحبه إلى الدرك الأسفل من النار ، لأنه قاد المجتمع إلى الرذيلة باسم الأدب الواقعي ، وهل واقع المجتمع العربي والإسلامي كما يصورون ؟ ! .. أما وجد هؤلاء فيه خيرا ينشرونه .(/1)
إن الإبداع ابتكار لجديد ، وتعبير سام صاف نقي جميل ، ولنقرأ شعر عف نظيف لأحد الشعراء ففيه إبداع في الفكر ونقاء:
أقسمت لاحبا شكوت ولا iiهوى
لكنني أبكي وحق لي iiالبكا
والدين أوشك أن يزول iiضياؤه
ومشوا وراء الغرب حتى أغرقوا
ليست فرنسا حين تحذو iiحذوها
بأجَلّ من نور الإله وهديه ...
... يدمي الفؤاد فيرسل الآهات
مجدا أضعناه بغير iiأناة
وبنوه راحوا في عميق iiسبات
في اللهو والآثام iiوالشهوات
في حكمها الخالي من iiالحسنات
شتان بين النور iiوالظلمات
أرأيتم أسمى من هذا الإبداع ؟… ألا فليعلم الأدباء أن آراء الغرب ليست بأجل من نور الإله وهديه ، وكفى بالله مربيا للبشرية ، وهاديا لها إلى الطريق القويم .
وهذا أبو العتاهية يقول في رقة وصفاء :
إلهي لاتعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيرا وإني لشر الناس إن لم تعف عني
إن الأدب تعبير عن الوجدان ومشاعره تجاه الله سبحانه ، وتجاه الإنسان والكون والحياة ، إنه يهز ويعلم ويمتع … أما الأدب الرخيص فقد أكل الدهر عليه وشرب ، وقل من يستسيغه ولا سيما في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية ، وإليكم ما قاله الشاعر الأميري لمن جاءته تطلب منه كأسا في مطعم :
حواء !… ولكن أين أنا
وفتاة القدس غدت iiعميا
سألوها عن أسرار iiالفتح
فابت ورأت جعل العيني
عمياء وتبصر نور iiالل ...
والأقصى يرزح في iiالأسر
ء من التعذيب ، من iiالقهر
وساموها سوء iiالضر
ن، وقاء أصون iiللسر
ه ، وذو عينين ألا يدري !(/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
بقلم الدكتور موسى البسيط عميد كلية الدعوة والعلوم الإسلامية - أم الفحم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين وبعد …
لم يكن الإسلام يوماً ليحجر على العقول فيقيد حريتها في التفكير أو يلجمها بلجام التقليد الأعمى وقد انعكس ذلك على الفقه الإسلامي بصورة جلية واضحة ، فوجدناه يمتاز عن سواه بالسعة والثراء .
كيف لا ! وللباحث حرية التفكير والبحث وفق الأسس العلمية التي سار عليها فقهاء الأمة ، من اتباع للدليل وفهم ثاقب سليم له حسب منهج السلف الصالح في تفسير النصوص وفهمها والتثبت منها ومراعاة أصول الفقه مع مجانبة الهوى والشهوة .
وكان تأثير ذلك أن تكونت المذاهب الفقهية مشكلة أطراً ومدارس فاختلاف فقهائنا ولله الحمد دليل صحه ، وإمارة على الخصوبة الفكرية .
على أنه ظهر في عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي من لا يسلك مسلك السلف من الفقه والتفقه من حيث اتباع الهوى حيناً وتقديم العقل على النقل حيناً آخر ومحاكمة النص محاكمة عقلية مجردة ، ومخالفة الطريق القويم المعهود في فهم المنقول حتى أفرز ذلك آراءً فقهية مستهجنة توصف بالشذوذ والنكارة .
فكان لهؤلاء - ولا شك - الأثر السيء في مسيرة الأمة ، من إحداث المعوقات وإثارة المشكلات وفتح الثغرات .
وإن هذا الكتاب ليتناول مسألة هامة من مسائل الفقه الاجتماعية ألا وهي حكم مصافحة المرأة الأجنبية .
ولقد عمت البلوى بها في أوساط المسلمين حتى ليخيل للناظر أن مصافحة الأجنبية مباحة وينكر على من يرى حرمتها .
وقد اتبع أخونا الدكتور حسام الدين عفانه طريقاً الأمثل في معالجة هذه القضية ودرس نصوصها وتوجيه أدلتها التوجيه اللائق بها حتى خرج بنتيجة مفادها تحريم مصافحة الأجنبية وهو الحق الذي يسنده النقل والعقل ومقصد الشريعة فأوقفنا على الصواب بعد استفراغ الجهد في بيان مواقف إتباع المذاهب الفقهية وعرض أدلتها ، وأدلة المخالفين ومناقشتها بما لا يدع مجالاً لشلك ولا للتخبط .
فجزى الله أخانا خير الجزاء ونفع الله بجهده وبارك فيه إنه سميع مجيب .
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار … وبعد
فقد سئلت كثيراً عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية خلال دروس في المسجد الأقصى المبارك وخلال محاضراتي العامة ، ولما كنت أجيب بما أعلمه في هذه المسألة وهو تحريم ذلك كان يقال أن طائفة من الناس يقولون بإباحة مصافحة المرأة الأجنبية ويستدلون بحديث أم عطية رضي الله عنها وفيه :( فقبضت امرأة منا يدها ) وغيره ، فرغبت أن ابحث هذه المسألة بحثاً حديثياً وفقهياً موسعاً ، فجمعت ما وقفت عليه من الأحاديث الواردة في المسألة وذكرت أقوال جماعة كثيرة من أهل العلم قديماً وحديثاً ممن وقفت على أقوالهم فتبين لي بعد البحث والتمحيص أن المسألة متفق عليها بين علماء الإسلام وأن حكمها التحريم وأن القول المخالف حديث العهد ولم يقل أحد بجواز المصافحة الأجنبية قبل الشيخ تقي الدين النبهاني فيما أعلم .
وقد ذكرت أدلة العلماء على التحريم وأتبعتها بذكر أهم الشبهات التي بني عليها القول الشاذ بالإباحة ورددت عليها وأبطلتها . وقد رجعت إلى المصادر الأصلية في التفسير والحديث وأصول الفقه والفقه وخرّجت الأحاديث التي ذكرتها ، ونقلت أقوال المحدثين في ذلك .
وفي الختام أسال الله العظيم أن يفقهنا في الدين وأن ينفعنا بما علمنا وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه سميع قريب مجيب ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
د. حسام الدين عفانه
أبوديس - القدس
الأربعاء 25 شوال 1414 هـ / وفق 6 نيسان 1994 م
المبحث الأول
تعريف المصافحة
المصافحة : هي الأخذ باليد ، أي وضع صفح الكف على صفح كف غيره .(/1)
قال الجوهري :[ والمصافحة الأخذ باليد والتصافح مثله ] (1).
وقال الفيومي :[ صافحته مصافحة أفضيت بيدي إلى يده ] (2).
وقال ابن منظور :[ وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف وإقبال الوجه على الوجه ] (3).
وقال الحافظ ابن حجر :[ هي مفاعلة من الصفحة ، والمراد بها الإفضاء بصف :[ هي مفاعلة من الصفحة ، والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد ] (4).
المبحث الثاني
تحديد المراد بالمرأة الأجنبية
من هي المرأة الأجنبية ؟
المرأة الأجنبية : هي التي يحل للشخص نكاحها ، وهي غير القريبة المحرم وغير الزوجة .(5)
والمحارم من النساء هن اللواتي لا يحل نكاحهن تأبيداً أو مؤقتاً ، والأصل في التحريم قوله تعالى :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ …) الخ الآية .(6)
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) (7).
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :( إن الرضاعة ترم ما ترحمه الولادة ) (8).
وقوله عليه الصلاة والسلام :( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) (9).
والمحرمات من النساء ثلاثة أنواع :
الأول : المحرمات من النسب :
وهن سبع الأمهات ، البنات ، الأخوات ، العمات ، الخالات ، بنات الأخ ، بنات الأخت ، وهن محرمات على التأبيد فلا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال .
ويدخل في قولنا الأمهات الجدات وإن علون ، ويدخل في قولنا البنات بنات البنين وبنات البنات وإن نزلت درجتهن ، ويدخل في قولنا الأخوات الأخوات لأب والأخوات لأم .
الثاني : المحرمات من الرضاع :
وهن سبع أيضاً كما في المحرمات من النسب وهن الأمهات من الرضاعة ، والبنات من الرضاعة ، والأخوات من الضراعة ، والعمات من الرضاعة ، والخالات من الرضاعة ، وبنات الأخ من الرضاعة ، وبنات الأخت من الرضاعة .
الثالث : المحرمات بسبب المصاهرة :
1. زوجة الأب ويشمل ذلك زوجة الجد .
2. زوجة الابن ومثلها زوجة ابن الابن وزوجة ابن البنت وإن نزلت درجتهن .
3. أم الزوجة ومثلها جدتها سواء كانت الجدة من جهة الأب أو من جهة الأم .
4. بنت الزوجة وإن نزلت درجتها بشرط أن يكون الزوج قد دخل بأمها .
وأما المحرمات حرمة مؤقتة فهن :
أخت الزوجة والمطلقة ثلاثاً والمشغولة بحق زوج آخر بزواج أو عدة والتي لا تدين بدين سماوي والخامسة لمن عنده أربع زوجات .
وهناك تفصيلات واستثناءات في هذا الباب تراجع في مظانها من كتب الفقه .(10)
المبحث الثالث
حكم مصافحة المرأة الأجنبية وأقوال العلماء في ذلك
اتفق علماء الأمة من السلف والخلف من أهل التفسير والحديث والفقه وغيرهم على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولم يعرف لهم مخالف على مر العصور والأزمان - فيما أعلم - إلا ما أحدث في هذا العصر من قول شاذ يرى صاحبه أن مصافحة المرأة الأجنبية من قبيل المباح كما سيأتي .
وهذه أقوال العلماء في هذه المسألة من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم يبينون فيها أن مصافحة المرأة الأجنبية حرام شرعاً للأدلة التي سنذكرها بعد ذلك:
أولاً : أقوال علماء المذاهب الأربعة :
(أ) أقوال الحنفية :
1. قال الإمام المرغيناني صاحب كتاب الهداية :[ ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة ].(11)
2. وقال السمرقندي :[ وأما المس فيحرم سواء عن شهوة أو عن غير شهوة وهذا إن كانت شابة .فإن كانت عجوزاً فلا بأس بالمصافحة إن كان غالب رأيه أنه لا يشتهي ، ولا تحل المصافحة إن كانت تشتهي وإن كان الرجل يشتهي ].(12)
__________
(1) الصحاح مادة صفح 1/383 .
(2) المصباح المنير مادة صفح ص342 .
(3) لسان العرب مادة صفح 7/356 .
(4) فتح الباري 13/293 .
(5) أحكام النظر ص101 ، الفقه الإسلامي وأدلته 7/598 .
(6) سورة النساء الآيتان 23-24 .
(7) صحيح البخاري مع فتح الباري 11/65 ، صحيح مع شرح النووي 9/191 .
(8) صحيح مسلم مع شرح النووي 10/18 .
(9) صحيح مسلم مع شرح النووي 10/20 .
(10) انظر المغني 7/110 فما بعدها ، الفقه الإسلامي وأدلته 7/129 ، روائع البيان 1/454 فما بعدها .
(11) الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/460 .
(12) تحفة الفقهاء 3/334 .(/2)
3. وقال صاحب الاختيار :[ ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة ، فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة ].(1)
4. وقال صاحب الدر المختار :[ فلا يحل مس وجهها وكفها وإن أمن الشهوة ].(2)
5. وقال الزيلعي :[ ولا يجوز له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن أمن الشهوة لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى ].(3)
6. وقال الكاساني :[ وأما حكم مس هذين العضوين - الوجه والكفين - فلا يحل لمسهما ].(4)
7. وقال صاحب ملتقى الأبحر :[ ولا إلى الحرة الأجنبية - أي ولا ينظر - أمن الشهوة إن كانت شابة … ].(5)
(ب) أقوال المالكية :
8. قال الإمام ابن العربي :[ قوله تعالى :( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) عن عروة عن عائشة قالت :( ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحن إلا بهذه الآية ( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) ) قال معمر فأخبرني ابن طاووس عن أبيه قال : ما مست يده يد امرأة إلا امرأة يملكها .
وعن عائشة أيضاً في الصحيح :( ما مست يد رسول- صلى الله عليه وسلم - يد امرأة وقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ).
وقد روي أنه صافحهن على ثوبه . وروي أن عمر صافحهن عنه وأنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن ، وذلك ضعيف وإنما ينبغي التعويل على ما روي في الصحيح ] (6) .
9. وقال الإمام ابن العربي أيضاً :[ كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصافح الرجال في البيعة تأكيداً لشدة العقدة بالقول والفعل فسأل النساء ذلك فقال لهن قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة ولم يصافحهن لما أوعز إلينا في الشريعة من تحريم المباشرة لهن إلا من يحل له ذلك منهن ].(7)
10. وقال الباجي :[ وقوله- صلى الله عليه وسلم - :( إني لا أصافح النساء ) لا أباشر أيديهن بيدي . يريد - والله أعلم - الاجتناب ، وذلك أن حكم مبايعة الرجال المصافحة ، فمنع ذلك في مبايعة النساء لما فيه من مباشرتهن ) .(8)
(جـ) أقوال الشافعية :
11. قال الإمام النووي :[ … وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه فإن النظر إليه حرام … وقد قال أصحابنا كل من حرم النظر إليه حرم مسه بالمس أشد ، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء الأخذ والعطاء ونحو ذلك ، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك ].(9)
12. وقال الإمام النووي أيضاً بعد أن ذكر حديث عائشة - سيأتي - :[ فيه أن بيعة النساء بالكلام وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة وأن صوتها ليس بعورة وأن لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد ].(10)
13. وقال الحافظ بن حجر أيضاً :[ وفي الحديث - حديث عائشة - أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك ].(11)
14. وقال الحافظ بن حجر أيضاً :[ ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن ].(12)
15. وقال العلامة الحصني :[ وأعلم أنه حيث حرم النظر حرم المس بطريق الأولى لأنه أبلغ لذة ].(13)
16. وقال الحافظ العراقي :[ وفيه - حديث عائشة - أنه عليه الصلاة والسلام لم تمس يده قط يد امرأة غير زوجاته وما ملكت يمينه لا في مبايعة ولا في غيرها ، وإذا لم يفعل هو ذلك مع عصمته وانتفاء الريبة في حقه فغيره أولى بذلك ، والظاهر أنه كان يمتنع من ذلك لتحريمه عليه …].(14)
17. وقال الحافظ الحازمي :[ وردت في الباب أحاديث ثابتة تصرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح امرأة أجنبية قط في المبايعة وإنما كان يبايعهن قولاً … ].(15)
18. وقال الشيخ برهان الدين الجعبري بعد أن ساق حديث أميمة -سيأتي- :[ وهذا صحيح يدل على حرمة مصافحة النساء في المبايعة وغيرها ].(16)
(د) أقوال الحنابلة :
19. قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان ومن استحله كفر إجماعاً ويحرم النظر مع وجود ثوران الشهوة وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي .. وكل قسم متى كان معه شهوة كان حراماً بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع النظر أو كانت شهوة الوطء واللمس كالنظر وأولى ].(17)
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 4/ 156 .
(2) حاشية ابن عابدين 6/367 .
(3) تبين الحقائق 6/18 .
(4) بدائع الصناع 6/2959 .
(5) ملتقى الأبحر 2/237 .
(6) أحكام القرآن 4 /1791 .
(7) عارضة الأحوذي 7/ 95-96.
(8) المنتقى شرح الموطأ 7/ 308 .
(9) الأذكار ص 228 .
(10) شرح صحيح مسلم للنووي 13/10.
(11) فتح الباري 16 / 330.
(12) فتح الباري 13/294 .
(13) كفاية الأخيار ص 353 .
(14) طرح التثريب 7/44-45.
(15) الاعتبار ص 406.
(16) رسوخ الأخبار ص 511 .
(17) الاختيارات العلمية ص 118 ضمن الفتاوى الكبرى المجلد الخامس .(/3)
وقال ابن مفلح :[ فتصافح المرأة المرأة والرجل الرجل والعجوز والبرزة غير الشابة فإنه يحرم مصافحتها ذكره في الفصول والرعاية ].(1)
21. ونقل ابن مفلح عن محمد بن عبد الله بن مهران أن أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - سئل عن الرجل يصافح المرأة قال :[ لا وشدد فيه جداً ، قلت يصافحها بثوبه . قال : لا ].(2)
22. وقال السفاريني :[ … إلا الشابة الأجنبية فتحرم مصافحتها كما في الفصول والرعاية وجزم في الإقناع كغيره لأن المصافحة شر من
النظر ].(3)
23. وقال صاحب منار السبيل :[ ويحرم النظر لشهوة أو مع خوف ثورانها إلى أحد ممن ذكرنا . ولمس كنظر وأولى لأنه أبلغ منه فيحرم المس حيث يحرم النظر ].(4)
(هـ) أقوال العلماء المعاصرين :
24. قال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني :[ وفي الحديث :( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط …) وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأن ذلك مما يشمله المس دون شك ].(5)
25. وقال الدكتور وهبي الزحيلي :[ وتحرم مصافحة المرأة لقوله- صلى الله عليه وسلم - :( إني لا أصافح النساء ) ].(6)
26. وقال الدكتور محمد عبد العزيز عمرو :[ وانعقد الإجماع كذلك على حرمة مصافحة المرأة الأجنبية الشابة ].(7)
27. وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :[ علمت مما ذكرناه من كيفية بيعه النبي- صلى الله عليه وسلم - للنساء أن بيعتهن إنما تكون بالكلام فقط من غير أخذ الكف وذلك على بيعة الرجال فدل ذلك على أنه لا يجوز ملامسة الرجل بشرة امرأة أجنبية عنه ولا أعلم خلافاً في ذلك عند علماء المسلمين اللهم إلا أن تدعو إلى ذلك كتطبيب وفصد وقلع ضرس ونحو ذلك ].(8)
28. وقال الشيخ محمد أحمد إسماعيل :[ اعلموا أيها المسلمون رحمنا الله وإياكم أنه لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية منه ولا يجوز له أن يلمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها ].(9)
29. وقال العلامة المحدث فضل الله الجيداني :[ فالمصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي ويستثنى من عموم الأمر المرأة الأجنبية والأمرد ].(10)
30. وقال المحدث شمس الحق العظيم أبادي :[ وكان شيخنا العلامة القاضي مولانا بشير الدين بن كريم الدين القنوجي رحمه الله تعالى من أشد المنكرين على ذلك - مصافحة النساء - وله في ذلك رسالة وبسط الكلام في عدم جواز مصافحة النساء وهو الحق ].(11)
31. وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي :[ وأحاديث الباب تدل على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولمس بشرتها بغير حائل ].(12)
32. وقال الشيخ محمد سلطان المعصومي :[ أن مصافحة النساء الأجنبيات لا تجوز ولا تحل سواء مع الشهوة أو لا ، وسواء أكانت شابة أم لا … وذلك مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء رحمهم
الله ].(13)
33. وقال الشيخ محمد علي الصابوني :[ وقد كانت بيعة الرجال أن يضع يده في يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبايعه على الإسلام والجهاد والسمع والطاعة ، وأما النساء فلم يثبت عنه أنه صافح امرأة ولا أنه وضع يده في يدها ، إنما كانت البيعة بالكلام فقط ].(14)
ثم قال :[ … ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صافح النساء في بيعة أو
غيرها ].(15)
34. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين جواباً على السؤال التالي : هل تجوز مصافحة المرأة الأجنبية ؟ وإذا كانت تضع على يدها حاجزاً من ثوب وغيره فما الحكم ؟ وهل يختلف الأمر إذا كان المصافح شاباً أو شيخاً أو كانت امرأة عجوزاً ؟
__________
(1) الآداب الشرعية 2/257 ، البرزة من النساء : المرأة الجلية التي تظهر للناس ويجلس إليها القوم الموثوق برأيها وعقلها ، وهي الكهلة التي لا تحتجب احتجاب الشواب - لسان العرب مادة برز -
(2) الآداب الشرعية 2/257.
(3) غذاء الألباب 1/280 نقلاً عن أدلة التحريم ص 26.
(4) منار السبيل 2/ 142.
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول الحديث رقم 226.
(6) الفقه الإسلامي وأدلته 3/567.
(7) اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية ص 147.
(8) فقه السير ص 296 .
(9) أدلة تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ص 5 ـ 6.
(10) فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد 2/454.
(11) التعليق المغني على سنن الدار قطني 4/147.
(12) الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 17/351.
(13) عقد الجوهر الثمين ص 189 , عن أدلة التحريم ص 26.
(14) روائع البيان تفسير آيات الأحكام 2/564-565.
(15) المصدر السابق 2/566 .(/4)
قال الشيخان المذكوران ، في الجواب :[ لا تجوز مصافحة النساء غير المحارم مطلقاً ، سواء كن شابات أو عجائز وسواء أكان المصافح شاباً أم شيخاً كبيراً لما في ذلك من خطر الفتنة لكل منهما ، وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( إني لا أصافح النساء ) وقالت عائشة رضي الله عنها [ ما مست يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط ، ما كان يبايعهن إلا بالكلام ] ولا فرق بين كونها تصافحه بحائل أو بغير حائل ، لعموم الأدلة ولسد الذرائع المفضية إلى الفتنة ].(1)
35. وقال الشيخان المذكوران في نفس الكتاب جواباً على السؤال التالي : هل يجوز مصافحة النساء الأقارب من وراء حائل ؟ في النكاح فإنه يجوز أن يصافحهن من وراء حائل أو مباشرة لأن المحرم يجوز أن ينظر من المرأة التي هو محرم لها … وجهها وكفيها وقدميها وما ذكره أهل العلم في ذلك ، وأما إن كانت القريبة ليست محرماً فإنه لا يجوز أن يصافحها لا بحائل ولا بدونه حتى لو كانت من عادتهم أن يصافحوهن فإنه يجب على المرء أن يبطل تلك العادة لأنها مخالفة للشرع فإن المس أعظم من النظر وتحرك الشهوة بالمس أعظم من تحركها بالنظر غالباً ، فإذا كان الإنسان لا ينظر لكف امرأة ليست من محارمه فكيف يقبض على هذا الكف ].(2)
36. وأجابت اللجنة العامة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية على السؤال التالي : هل يجوز لي أن أسلم على زوجة خالي أخي والدتي مع العلم أنني رضعت مع خالي من جدتي ، أم يحرم لكون أنها غير محرم لي ؟
الجواب :[ لا يجوز لك أن تمس يدك يد زوجة خالك سواء ثبت رضاعك من جدتك أم لم يثبت لأنك أجنبي ، أي لست محرماً ، أما سلام السنة الذي باللسان فيجوز ، قالت عائشة رضي الله عنها في تفسير آية مبايعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - للنساء :( لا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط ، ما يبايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك ) رواه البخاري .
وعن أميمة بنت رقيقة قالت :[ أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في نساء لنبايعه ، قلنا يا رسول الله ألا تصافحنا ، قال :( إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة ) رواه أحمد بسند صحيح ].(3)
37. وقد قال بحرمة مصافحة النساء الأجنبيات العلامة الشيخ محمد الحامد وله رسالة في ذلك بعنوان "حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية " .(4)
38. وقال الدكتور عبد الكريم زيدان :[ ومن عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم وذكر ما جاء في السنة النبوية الشريفة بشأن المس والمصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية يترجح عندي عدم جواز المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية سواء بدأ بالمصافحة الرجل أو بدأت بها المرأة سواء شابين أو عجوزين أو كان أحدهما شاباً والآخر عجوزاً ، لأن الأحاديث التي ذكرنا وأفادت حظر المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية جاءت مطلقة دون أن يرد فيها ما يقيد عدم الجواز بالشاب والشابة وجوازها بالنسبة للعجوز ].(5)
المبحث الرابع
أدلة العلماء على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية
بعد أن ذكرت أقوال أهل العلم من السلف والخلف التي وقفت عليها في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية أسوق أدلتهم على ذلك :
أولاً : حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن بقول الله تعالى :( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ…) الخ الآية . قالت : من أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة (6) فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - انطلقن فقد بايعتكن . لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام ) رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما (7) .
وفي رواية للبخاري عن عائشة قالت :( فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بايعتك كلاماً . لا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك ).(8)
__________
(1) فتاوى العلماء للنساء ص 50 .
(2) فتاوى العلماء للنساء ص 112.
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية ، فتوى رقم
(2823 ) وتاريخ 10/2/1400.
(4) حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية ص 97 ضمن مجموعة رسائل العلامة المجاهد محمد الحامد .
(5) المفصل في أحكام المرأة 3/239.
(6) فسر ابن عباس رضي الله عنهما المحنة بقوله :[ وكانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبت من أرض إلى أرض ولا التماس دنيا ولا عشقاً للرجل منا بل حباً لله ولرسوله ] تفسير القرطبي 18/62.
(7) صحيح البخاري مع فتح الباري 11/345-346 ، صحيح مسلم شرح النووي 13/10.
(8) المصدر السابق 10/261.(/5)
وفي رواية أخرى لحديث عائشة عند ابن ماجة :[ ولا مست كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاماً ).(1)
قال حافظ بن حجر :[ قوله قد بايعتك كلاماً أن يقول ذلك كلاماً فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة ].(2)
وقال الإمام النووي [ قولها :( والله ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام ) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبيب وفصد ].(3)
ثانياً : عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت :[ أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة نبايعه فقلن نبيعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي بهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ( فيما استطعتن وأطقتن ) ، قالت : فقلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله . فقال :( إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة )] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد وابن حبان والدار قطني(4).
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .(5)
وقال الحافظ ابن كثير : هذا إسناد صحيح .(6)
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : إسناده صحيح .(7)
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين .(8)
وفي رواية أخرى عند الترمذي :( فقلت : يا رسول الله بايعنا - قال سفيان تعني صافحنا - فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة ).(9)
وفي رواية أخرى عند عبد الرزاق :( قالت فقلنا ألا نصافحك يا رسول الله فقال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمئة امرأة ).(10)
وفي رواية أخرى :( قالت : ولم يصافح رسول الله منا امرأة ) رواه احمد والحاكم بسند حسن كما قال الشيخ الألباني .(11)
وهذا الحديث يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح النساء في البيعة وهو نص صريح في ذلك ، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصافح السناء في البيعة فمن باب أولى أنه لم يصافح النساء في غير البيعة .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عصمته ترك مصافحة السناء ، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أسوتنا وقدوتنا .
ثالثاً : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كان لا يصافح النساء في البيعة ) رواه الإمام أحمد في المسند .(12)
ونقل المناوي قول الهيثمي إسناده حسن .(13)
وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي :[ وحسنه الحافظ والسيوطي ].(14)
وقال الشيخ الألباني :[ وهذا إسناد حسن على ما تقرر عند العلماء من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كأحمد والبخاري والترمذي وغيرهم ].(15)
روى الإمام الترمذي عن قال معمر فأخبرني ابن طاووس عن أبيه قال :[ ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا يد امرأة يملكها ] وقال الشيخ الألباني صحيح .(16)
وفي رواية عن ابن جريج عن بان طاووس عن أبيه :( كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يأخذ عليهن ويقول : لا أصافح النساء ) رواه بعد الرزاق .(17)
خامساً : روى أبو نعيم في المعرفة من حديث نهية بنت عبد الله البكرية قالت : وفدت مع أبي على النبي- صلى الله عليه وسلم - فبايع الرجال وصافحهم وبايع النساء ولم يصافحهن ).(18)
سادساً : عن عقيله بنت عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا أمس أيدي النساء ) رواه الطبراني في الأوسط وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني .(19)
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجة رقم 2324.
(2) فتح الباري 10/261.
(3) شرح النووي على مسلم 13/10.
(4) سنن الترمذي 4/151-152 ، سنن النسائي 7/149 ، سنن ابن ماجة 2/959 ، الموطأ ص 538 ، مسند أحمد 6/357 ، الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 10/417 .
(5) سنن الترمذي 4/152 .
(6) تفسير ابن كثير 4/352 .
(7) سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 529 المجلد الثاني .
(8) الإحسان 10/417 .
(9) المصنف لعبد الرزاق 6/7 حديث رقم 9826 .
(10) سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 529 المجلد الثاني .
(11) المصدر السابق .
(12) المسند 2/213 .
(13) فيض القدير 5/186 .
(14) الفتح الرباني 17/351 .
(15) سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الثاني حديث رقم 530 .
(16) سنن الترمذي 3/117 حديث رقم 2634 .
(17) المصنف لعبد الرزاق 6/8 حديث رقم 9831 .
(18) التلخيص الحبير 4/169 .
(19) صحيح الجامع الصغير 2/1205 ، حديث رقم 7177 .(/6)
وهذه الرواية وما قبلها تشهد لحديث عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يصافح النساء في البيعة وهي تؤكد أن عائشة رضي الله عنها لم تنفرد في روايتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح النساء وأن ذلك مبلغ علم عائشة كما زعم بعض الناس ، وسيأتي توضيح ذلك عند إبطال شبهات القول الشاذ في هذه المسألة .
سابعاً : عن معقل بن يسار أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال :( لإن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني والبيهقي .
قال المنذري :[ رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح ].(1)
وقال الشيخ الألباني :[ رواه الروياني في مسنده ، وهذا سند جيد رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين غير شداد بن سعيد فمن رجال مسلم وحده ، وفيه كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن … والمخيط بكسر الميم وفتح الياء ما يخاط به كالإبرة والمسله ونحوهما وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له ، ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأن ذلك مما يشمله المس دون شك ].(2)
ثامناً : روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محاله ، فالعينان تزني وزناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، والسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطي ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ).(3)
قال الإمام النووي :[ معنى الحديث أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنا فمنهم من يكون زناه حقيقياً ، بإدخال الفرج بالفرج الحرام . ومنهم من يكون زناه مجازاً بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنى وما يتعلق بتحصيله أو بالمس بأن يمس بيده أجنبية أو يقبلها أو بالمشي بالرجل إلى الزنى أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك ].(4)
تاسعاً : إن الإسلام حرم النظر إلى الأجنبية بغير سبب مشروع (5) بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة فأمرني أن اصرف بصري ).(6)
وعن بريده - رضي الله عنه - قال :( قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخره ) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال الألباني حسن .(7)
قال الشوكاني :[ وحديث بريدة فيه دليل على أن النظر الواقع فجأة من دون قصد وتعمد لا يوجب إثم الناظر لأن التكليف به خراج عن الاستطاعة وإنما الممنوع منه النظر الواقع على طريقة التعمد أو ترك صرف البصر بعد نظر الفجأة ].(8)
والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة ، وإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى اللمس ، لأن اللمس أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث أن اللمس أكثر إثارة للشهوة وأقوى دايعاً إلى الفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك كما قال العلامة الشنقيطي .(9)
وقال الإمام النووي :[ وقد قال أصحابنا كل من حرم النظر إليه حرم مسه ، بل المس أشد فإنه يحل النظر إلى أجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك لا يجوز مسها في شيء من ذلك ].(10)
هذه أهم الأدلة على حرمة مصافحة المرأة الأجنبية وإن الناظر المخلص في هذه الأدلة ليطمئن إلى صحتها وقوتها في إثبات هذا الحكم الشرعي ويدفعه ذلك إلى العمل به اقتداءً بسيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما من كان صاحب هوى أو عصبية ويدعو إلى التحلل والتنصل من أحكام الشرع فلا تعجبه هذه الأدلة وقد جئناه بها ساطعة وضاحة كوضوح الشمس في رابعة النهار وسيحاول بشتى الطرق والوسائل أن يتمحل في التحلل من هذا الحكم الشرعي الثابت تارة بالتأويل الفاسد , وأخرى بالاستدلال الباطل وثالثة باسم الضرورة أو المصلحة أو نحو ذلك من التعليلات الفاسدة والتخريجات الساقطة كما سنرى فيما بعد .
المبحث الخامس
القول الشاذ بجواز مصافحة المرأة الأجنبية
ذهب الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير إلى جواز مصافحة المرأة الأجنبية وليس له سلف فيما ذهب إليه بل خالف جماهير علماء المسلمين السابقين واللاحقين ، فمن أقواله في ذلك :
__________
(1) صحيح الجامع الصغير 2/1205 حديث رقم 7177 .
(2) الترغيب والترهيب 3/39 .
(3) صحيح مسلم مع شرح النووي 16/205-206 .
(4) شرح النووي على مسلم 16/206 .
(5) انظر المغني لابن قدامة 7/102 .
(6) صحيح مسلم مع شرح النووي 14/139 .
(7) سنن أبي داود 2/246 ، سنن الترمذي 5/101 ، المسند 5/353 ، المستدرك 3/194 ، حجاب المرأة المسلمة ص 23 ، صحيح الجامع الصغير 2/1317 حديث رقم 7953 .
(8) نيل الأوطار 6/127 .
(9) أضواء البيان 6/603 نقلاً عن أدلة التحريم ص 14.
(10) الأذكار ص 228 .(/7)
1. قال النبهاني في كتابه النظام الاجتماعي في الإسلام :[ أما بالنسبة للمصافحة فإنه يجوز للرجل أن يصافح المرأة وللمرأة أن تصافح الرجل دون حائل بينهما ].(1)
2. وقال أيضاً :[ وتكون البيعة مصافحة باليد أو كتابة لا فرق بين الرجال والنساء فإن لهن أن يصافحن الخليفة بالبيعة كما يصافحه الرجال ].(2)
وقول النبهاني هذا معتبر ومتبنى عند حزب التحرير ويقولون به ويصافح كثير منهم النساء ولا يرون بأساً بذلك ، ويدافعون عن قولهم هذا دفاعاً مستميتاً بل عن بعضهم سود صحائف كثيرة في نصرة هذا القول وحاول أن يظهر أن أكثر العلماء يقولون بقول النبهاني بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك فقال :[ ثم إذا ثبت أن أحداً من الفقهاء قال بتحريم مجرد لمس المرأة سواءً كان بشهوة أو بغيرها تكون المسألة خلافية ].(3)
وهذه مكابرة ومعاندة للحق وجهل أو تجاهل لأقوال علماء المسلمين وقد تشبث النبهاني وأتباع حزبه بشبهات كثيرة وحملوا النصوص ما لا تحتمل وسأورد أهمها وأكشف عن وجه الصواب فيها .
المبحث السادس
شبهات المخالف والرد عليها
الشبهة الأولى :
تشبث النبهاني بما فهمه من حديث أم عطية الأنصاري رضي الله عنها قالت :( بايعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقرأ علينا : أن لا تشركن بالله شيئاً . ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت : أسعدتني فلانة ، أريد أن أجزيها . فما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فانطلقت ورجعت فبايعها ) رواه الإمام البخاري .(4)
قال النبهاني :[ فهذا حديث يدل على أن الرسول بايع النساء بالمصافحة بدليل قوله فقبضت امرأة منا يدها ) فإن معناها أن النساء الأخريات اللواتي معها لمي قبضن أيديهن وهذا يعني أنهن بايعن بأيديهن أي بالمصافحة (5) وقال النبهاني أيضاً :[ وهو - أي حديث أم عطية - نص في المصافحة في مفهومه ومنطوقه ](6) وقال أحد أتباع النبهاني :[ وحديث أم عطية نص في وقوع المصافحة ببيعة النساء في مفهومه ومنطوقه ، فتكون بيعة النساء بالمصافحة جائزة شرعاً ولا شيء في ذلك ].(7)
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :
الوجه الأول :
إن المراد بقبض اليد في الحديث التأخر عن القبول كما قال الحافظ ابن حجر :[ المراد بقبض اليد التأخر عن القبول ](8) ومثل ذلك قوله تعالى في حق المنافقين :( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) فهو كناية عن عدم الإنفاق في سبيل الله ، ودليلنا على أن هذا هو المراد بقبض اليد ما جاء في رواية أخرى لحديث أم عطية رواها الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت :( لما نزلت الآية (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا … وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت كان منه النياحة ، قالت : فقلت : يا رسول الله آل آل فلان فإنهم أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا آل فلان ).(9)
وكذلك ما رواه النسائي عن أم عطية رضي الله عنها قالت :( لما أردت أن أبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله إن امرأة أسعدتني في الجاهلية فأذهب فأسعدها (10) ثم أجيئك فأبايعك ، قال : اذهبي فأسعديها ، قالت : فذهبت فأسعدتها ثم جئت فبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (11) قال الشيخ الألباني : صحيح الإسناد .(12)
إن الناظر في هذه الروايات الثلاث لحديث أم عطية : رواية البخاري ورواية مسلم ورواية النسائي يظهر له أن المراد بقول أم عطية :( فقبضت امرأة منا يدها ) التأخر عن قبول المبايعة ، فلم تقبل المبايعة مباشرة ولكن أخرتها حتى تذهب لإسعاد المرأة التي أسعدتها في الجاهلية . انظر إلى قولها :( ثم أجيئك فأبايعك ).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن أم عطية لما قالت :( فقبضت امرأة منا يدها ) أنها كانت تقصد نفسها ، قال الحافظ :[ وفي رواية النسائي قلت أن امرأة أسعدتني في الجاهلية … وتبين أن أم عطية في رواية عبد الوارث أبهمت نفسها ].(13)
يقصد رواية البخاري المذكورة سابقاً لحديث أم عطية ، فقد قال البخاري :[ حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية الحديث ].(14)
__________
(1) النظام الاجتماعي في الإسلام ص 35 .
(2) الشخصية الإسلامية 2/22023 .
(3) الخلاص واختلاف الناس ص 68 .
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري 10/262 .
(5) الشخصية الإسلامية 3/107-108 .
(6) الشخصية الإسلامية 2/23 .
(7) قواعد نظام الحكم في الإسلام ص 123 .
(8) فتح الباري 10/261 .
(9) صحيح مسلم مع شرح النووي 6/238 .
(10) إسعاد النساء في المناحات :[ تقوم المرأة فتقوم معها امرأة أخرى من جاراتها فتساعدها على النياحة ] لسان العرب مادة سعد . وقال الحافظ ابن حجر :[ ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه ].
(11) سنن النسائي 7/149 .
(12) صحيح سنن النسائي 3/875 حديث رقم 3895 .
(13) فتح الباري 10/262 .
(14) صحيح البخاري مع فتح الباري 10/262 .(/8)
ومن المعلوم أن الحادثة واحدة مع أم عطية فعبرت مرة بقولها :( فقبضت امرأة منا يدها ) ومرة بقولها :( فقلت : يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية ) ومرة قال :( إن امرأة أسعدتني في الجاهلية … ثم أجيئك فأبايعك ).
ثم نقول إن حديث أم عطية ليس فيه ذكر للمصافحة أصلاً حتى تزعموا أن قبض اليد معناه الامتناع عن المصافحة .
وبهذا يظهر لكل منصف أن تأويل النبهاني لحديث أم عطية تأويل باطل مردود رواية ودراية .
الوجه الثاني :
إن الروايات الثابتة والصريحة الواردة في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء تؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصافح النساء في البيعة فمن ذلك ما سبق من حديث عائشة حيث قالت :( لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام ).
وكذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصافح النساء في البيعة ، وما ورد في حديث أميمة بنت رقيقه حيث قالت : هلم نبايعك ، قال سفيان - أحد رواة الحديث - تعني صافحنا ، فقال رسول الله :( إني لا أصافح النساء ) فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قاله في البيعة ، فتأويل حديث أم عطية يتناقض مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قوله عليه الصلاة والسلام مقدم على قول غيره في جميع الأحوال .
وكذلك ما ورد في إحدى روايات حديث أميمة السابق :( قالت : ولم يصافح رسول الله منا امرأة ).
فهذه الأدلة الصحيحة الصريحة تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح أحداً من النسوة في البيعة ، فلا ينبغي لمسلم أن يترك هذه الأدلة ويتمسك بتأويل فاسد لحديث أم عطية ، وخاصة أن المصافحة لم تذكر في ذلك الحديث أصلاً ، ويزعم أن النصوص متعارضة .
قال الشيخ الألباني :[ وجملة القول أنه لم يصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه صافح امرأة قط ، حتى ولا في المبايعة ، فضلاً عن المصافحة عند الملاقاة ، فاحتجاج البعض لجوازها بحديث أم عطية الذي ذكرته مع أن المصافحة لم تذكر فيه وإعراضه عن الأحاديث الصريحة في تنزهه - صلى الله عليه وسلم - عن المصافحة لأمر لا يصدر عن مؤمن مخلص ].(1)
الوجه الثالث :
إن دعواكم بأن حديث أم عطية نص في المصافحة دعوى لا ينقي منها العجب وهي دعوى عريضة ينقصها الدليل ويعوزها البرهان ، ومستغربة أشد الاستغراب ، ولا أدري كيف يكون حديث أم عطية نصاً في المصافحة ولا ذكر للمصافحة فيه بحال من الأحوال .
وكيف يكون نصاً في المصافحة في البيعة كما زعمتم ، وعائشة وعبد الله بن عمرو وأميمة بنت رقيقة - التي حضرت البيعة - يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع النساء دون مصافحة ؟
وكيف يكون نصاً في المصافحة في البيعة وأنتم تقولون إن امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام عن المصافحة امتناع منه عن مباح ، فأنتم قد أثبتم أنه عليه الصلاة والسلام لم يصافح النساء في البيعة وتقولون هنا أن حديث أم عطية نص في المصافحة فما هذا التناقض ؟
الشبهة الثانية :
قال النبهاني عن حديث أم عطية :[ فهذا حديث يدل على أن الرسول بايع النساء بالمصافحة بدليل قوله :( فقبضت امرأة منا يدها ) فإن معناها أن النساء الأخريات اللواتي معها لم يقبضن أيديهن ، يعني أنهن بايعن بأيديهن ، أي بالمصافحة ، وحديث أميمة يقول :( إني لا أصافح النساء ) وعائشة تقول :( ما مست يده يد امرأة ) وفي هذا تعارض فيكون حديث البيعة بالمصافحة يتعارض مع حديث أنه لم يصافح النساء ].(2)
والجواب : إن دعوى التعارض التي رسمها النبهاني غير صحيحة ، فإن التعارض لا يكون بين قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - وبين فهم خاطئ فهمه أحد الناس من نص شرعي ، وإنما التعارض المعتبر عند الأصوليين هو الذي يقع بين دليلين شرعيين متساويين على سبيل التمانع (3)، فهل هذا متحقق في دعواكم التعارض المزعوم ، وإذا أعدنا النظر في هذه الدعوى فماذا نجد ؟
نجد قول الرسول عليه الصلاة والسلام :( لا أصافح النساء ) وقول عائشة :( ما مست يده يد امرأة ) يم نجد تأويل النبهاني لحديث أم عطية يعارض قول الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
وهل تأويل النبهاني دليل شرعي حتى يعارض قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - . والغريب العجيب أن النبهاني يجزم بوقوع مصافحة النساء في البيعة لمجرد تأويله الباطل لقبضت امرأة يدها وكأنه كان حاضراً للبيعة ، ويرّد حديث عائشة رضي الله عنها ثم يقولون إن ذلك مبلغ علماها ، ولا يأخذون بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( إني لا أصافح النساء ) مع أنه قاله في البيعة كما في حديث أميمة .
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/55 .
(2) الشخصية الإسلامية 3/107-108 .
(3) انظر إرشاد الفحول ص 273 ، أصول السرخسي 2/12 ، التعارض والترجيح عند الأصوليين ص39 ، أدلة التشريع المتعارضة ص20-23 .(/9)
فدعوى التعارض ساقطة ، ولا تعارض بين النصوص في هذه المسألة إلا في خيالكم ، فحديث أم عطية لا مصافحة فيه أبداً وهو منسجم مع بقية الأحاديث في هذه المسألة ، وتأويلكم الباطل وتحميلكم للنص ما لا يحتمل جعله في زعمكم متعارضاً مع حديثي عائشة وأميمة وفي الحقيقة والواقع لا تعارض .
الشبهة الثالثة :
قال النبهاني :( إن يد المرأة ليست بعورة ولا يحرم النظر إليها بغير شهوة فلا تحرم مصافحتها ).(1)
والجواب : إن كون يد المرأة ليست عورة كما تقول طائفة من أهل العلم لا يعني جواز لمسها ومصافحتها بل عن العلماء أجمعوا على تحريم مس وجه المرأة وكفيها من غير ضرورة ولو كانا غير عورة عند من يقول بذلك .
قال المرغياني الحنفي :[ ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة ].(2) وقال الحصفكي الحنفي صاحب الدر المختار :[ فلا يحل مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة ].(3)
وقال النووي الشافعي :[ وقد قال أصحابنا : كل من حرم النظر إليه حرم مسه ، بل المس أشد ، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك ، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك ].(4)
وقال الحافظ العراقي :[ قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم نه يحرم مس الأجنبية ولو في غير عورتها ، كالوجه وإن اختلفوا في جواز النظر حيث لا شهوة ولا خوف ولا فتنة ، فتحريم المس آكد من تحريم النظر ].(5)
فالذي يظهر لنا من خلال أقوال العلماء السابقة أن لا تلازم بين كون كفي المرأة ليسا بعورة وبين مصافحتها ، فإذا جاز النظر إليهما فلا يجوز مسهما ولا تجوز المصافحة .
الشبهة الرابعة :
زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صافح النساء بحائل وذكروا بعض الروايات في ذلك منها :
1. عن عامر الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بايع النساء أتي ببرد قطري فوضعه عل يده وقال :( لا أصافح النساء ) رواه أبو داود في المراسيل وابن كثير في التفسير .(6)
والجواب عن هذه الرواية : إن هذا الخبر مرسل لا يصح الاحتجاج به
قال الحافظ أبو بكر الحازمي :[ وحديث الشعبي … منقطع فلا يقاوم هذه الأحاديث الصحاح ].(7)
2. ما جاء في إحدى الروايات عن أسماء بنت يزيد :( فقالت له أسماء ألا تسحر لنا عن يدك يا رسول الله فقال : إني لست أصافح النساء ) رواه أحمد .(8)
وهذه الرواية : تشعر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصافح النساء وعلى يده ثوب ، ولكن هذه الرواية ضعيفة لا تقوم بها حجة ، وذلك لأن شهر بن حوشب - أحد الرواة - ضعيف . قال الحافظ ابن حجر فيه :[ صدوق كثير الإرسال والأوهام ] (9)،وقال الشيخ الألباني :[ وشهر ضعيف من قبل حفظه ] (10)، وقال أيضاً :[ وشهر بن حوشب ضعيف لا يحتج به لكثرة خطئه ].(11)
وبناء على ما تقدم لا تصح هذه الروايات ، والمعول على ما جاء في الصحيح من أنه عليه الصلاة والسلام لم يصافح النساء بحائل ولا بدون حائل .
وقال الحافظ العراقي :[ وقال بعضهم : صافحن بحائل وكان على يده ثوب قطري ، وقيل كان عمر يصافحهن عنه . ولا يصح شيء من ذلك لا سيما الأخير ، وكيف يفعل عمر - رضي الله عنه - أمراً لا يفعله صاحب العصمة الواجبة ].(12)
وقال الشيخ الألباني بعد أن ساق الروايات المذكورة أعلاه : وكلها مراسيل لا تقوم بها الحجة .(13)
الشبهة الخامسة :
زعموا أنه ليس على المسلمين التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تركه للمصافحة لأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( إني لا أصافح النساء ) ليس فيه إلا الامتناع عن الفعل ، والتأسي لا يكون إلا بأفعاله وهو لم يفعل شيئاً في هذه الحادثة سوى الامتناع عن الفعل .(14)
والجواب : أن هذا خطأ فاحش فإنه ينبغي أن يعلم أن الترك وهو المعروف عند الأصوليين بالكف يعد فعلاً لقوله تعالى :( كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) فقد ذمهم الله تبارك وتعالى على ترك النهي عن المنكر ، وسمي تركهم لذلك فعلاً :( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ).
قال حجة الإسلام الغزالي :[ والكف فعل يثاب عليه ].(15)
وقال الشوكاني :[ … لأن الكف فعل ].(16)
__________
(1) النظام الاجتماعي في الإسلام ص 35 .
(2) الهداية مع تكملة شرح القدير 8/460 .
(3) حاشية ابن عابدين 6/367 .
(4) الأذكار ص 228 .
(5) طرح التثريب 7/45 .
(6) فتح الباري 10/261 ، تفسير ابن كثير 4/354 ، تفسير الألوسي 28/81 ، الكشاف 4/95 .
(7) الاعتبار ص 407 ، وانظر رسوخ الأخبار ص 512 .
(8) المسند 6/454 .
(9) تقريب التهذيب ص 147 .
(10) السلسلة الصحيحة ص 53 المجلد الثاني .
(11) السلسلة الأحاديث الضعيفة 1/281 .
(12) طرح التثريب 7/44 .
(13) السلسلة الصحيحة ص 53 المجلد الثاني .
(14) الخلاص ص60 .
(15) المستصفى 1/90 .
(16) إرشاد الفحول ص 13 .(/10)
فإذا صبت ان الترك فعل فعلينا التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فهو قدوتنا :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ).(1)
قال الآمدي :[ أما التأسي بالغير فقد يكون بالفعل والترك ].(2)
وقال أيضاً :[ أما التأسي في الترك فهو ترك أحد الشخصين مثل ما ترك الآخر في الأفعال على وجهه ، وصفته من أجل أنه ترك ].(3)
فعلينا أن نترك مثلما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال الشوكاني :
[ تركه - صلى الله عليه وسلم - للشي كفعله له في التأسي به ] وقال ابن السمعاني :[ إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وجب علينا متابعته فيه ، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم الضب فأمشك عنه وترك أكله أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم : إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه وأذن لهم في أكله ].(4)
وقال العلامة ابن القيم تحت عنوان :[ فصل : نقل الصحابة ما تركه - صلى الله عليه وسلم - وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة ] (5)، ثم قال :[ … فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة ].(6)
وقال الشيخ علي محفوظ :[ فاعلم أن سنة النبي- صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك ، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعلبه الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات كذلك طالبنا في تركه فيكون الترك سنة ، وكما لا نتقرب إلى الله بترك ما فعل لا نتقرب إليه بفعل ما ترك ، فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل ].(7)
وبهذا يتضح لكل ذي عقل بطلان دعواهم الزائفة أن التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا بالفعل ، فعلى المسلم ألا يصافح النساء تأسياً واقتداءً بقدوتنا وأسوتنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن النجار الحنبلي :[ التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلك كما فعل ، لأجل أنه فعل ، وأما التأسي في الترك فهو أن تترك ما تركه لأجل أنه ترك ].(8)
ومما يجد ذكره هنا أن الجهل بأن السنة النبوية تنقسم إلى فعلية وتركية أوقع كثيراً من الناس في البدع ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك أموراً لم يفعلها مع توفر الداعي لفعلها ، ولم يكن هناك مانع من فعلها ومع ذلك تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فدل ذلك على أنها ليست مشروعة وأن الترك هو المشروع كما ترك النبي عليه الصلاة والسلام القراءة على الأموات وكما ترك الأذان لصلاة العيدين والتراويح وكما ترك صلاة ليلة النصف من شعبان ونحو ذلك .
فمن ترك مثلما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو متأس ومقتد به ومصيب للسنة ، ومن فعل ما تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مبتدع مجانب للهدي النبوي .
الشبهة السادسة :
زعموا أن حديث عائشة موقوف عليه وهي صادقة فيما تقول وكلامها هذا على حد علمها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونحن نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أكثر من أربع نسوة وكانت خديجة قبل عائشة رضي الله عنهن ، فكيف تكون قد عرفت السابق واللاحق عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - دون إخبارها ، ولو أخبرها لقالت أخبرني أو قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولذلك فقولها رضي الله عنها موقوف عليها .(9)
والجواب : إن هذا الكلام فيه مغالطات وأخطاء واضحة ويشم منه سوء الأدب مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبيان ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن الزعم بأن حديث عائشة موقوف عليها زعم خاطئ ودعوى باطله ، ويعلم ذلك المبتدئون في دراسة علم الحديث ، فضلاً عن علماء الحديث . ولنرجع إلى أقوال أهل هذا الشأن لنقف على حقيقة الموقوف .
قال الإمام النووي :[ الموقوف : وهو المروي عن الصحابة قولاً لهم أو فعلاً أو نحوه ].(10)
وقال الباجي :[ الموقوف : ما وقف به على الراوي ولم يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك أنه وقف على الصحابي - رضي الله عنه - أو غيره من رواته فجعل من قوله … الخ ].(11)
وقال الجرجاني :[ الموقوف من الحديث : ما روي عن الصحابة من أحوالهم وأقوالهم فيتوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ].(12)
والسؤال الآن : هل تنطبق هذه التعريفات للموقوف على حديث عائشة رضي الله عنها ؟
__________
(1) سورة الأحزاب آية 21 .
(2) الأحكام للآمدي 1/158 .
(3) المصدر السابق .
(4) إرشاد الفحول ص 42 .
(5) إعلام الموقعين 2/389 .
(6) المصدر السابق 2/390 .
(7) الإبداع في مضار الابتداع ص 34-35 .
(8) شرح الكوكب المنير 2/196 .
(9) الخلاص ص 60-61 .
(10) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1/184 .
(11) الحدود ص 63 .
(12) التعريفات ص 123 .(/11)
إنها تقول :( فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقررن بذلك قال لهن رسول الله : انطلقن فقد بايعتكن ) ثم تقول :( لا والله ما مست يد رسول الله امرأة قط ، غير أنهي بايعهن بالكلام ) وتقول أيضاً :( وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاماً ) فهل حديث عائشة هو قول لها ؟ أو هل هو فعل لها ؟ حتى يكون موقوفاً إنه مرفوع قولي ومرفوع فعلي ومن قال أنه يشترط في الحديث حتى يعد مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول الصحابي الذي روى الحديث أخبرني رسول الله أو قال لي رسول الله ، ولو قلنا بهذا الاشتراط الوهمي لخرجت جملة كثيرة من الأحاديث النبوية عن كونها مرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإليك بعض الأمثلة التي تبطل زعمهم :
هل يعد من الموقوف حديث ابن عمر :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ) رواه مسلم .
وهل يعد من الموقوف حديث عائشة رضي الله عنها :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله ) رواه البخاري ومسلم .
وهل يعد موقوفاً حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :( ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى لصلاة لغير وقتها إلا بجمع - مزدلفة - … ) رواه البخاري ومسلم .
ولا أدري ما هو الفارق من حيث الرواية بين حديث عائشة :( ما مست يد رسول الله يد امرأة قط ) وبين حديث ابن مسعود :( ما رأيت رسول الله صلى صلاة لغير وقتها … الخ ) من الواضح أنه لا فرق بينهما ، وهذا تبطل دعواهم بأن حديث عائشة موقوف عليها .
الوجه الثاني :
إن زعمهم السابق يحمل في طياته سوء أدب مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إن لم نقل أنه يحمل تكذيباً لها وجرأة وقحة على ام المؤمنين . انظر إلى قول قائلهم :[ فكيف تكون عرفت السابق واللاحق عن رسول الله دون إخبارها ].
إن هذا الكلام لا يصدر عن مسلم تقي عرف للصحابة حقوقهم ، وقد امرنا الإسلام باحترامهم وتقديرهم وإجلالهم ، فهم الجيل الأول من المسلمين ، وهم أول من آمن برسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، ونصروا رسوله عليه الصلاة والسلام ، وعلينا أن نتذكر قول الله سبحانه وتعالى فيهم :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).(1)
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه ) رواه البخاري ومسلم .(2)
وقوله عليه الصلاة والسلام :( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) رواه البخاري ومسلم .(3)
وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في فضل الصحابة . فهل يجوز لأحد بعد ذلك ان يتطاول على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ويقول أن ذلك مبلغ علمها أو على حد علمها أو كيف عرفت السابق واللاحق . فمن أعلم من أم المؤمنين عائشة بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل عائشة رضي الله عنها تفتي بغير علم ؟ وهل عائشة رضي الله عنها تقسم بالله وهي غير متيقنة مما تقول ؟ وهل عائشة تقسم بالله قائلة :( لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط ) وهي تعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - صافح النساء ؟! وهل تأويلكم الفاسد لحديث أم عطية أقوى حجة ودلة من حديث عائشة ؟ وهل من جاء بعد أربعة عشر قرنا من الزمان أعلم بأحوال رسول الله من أم المؤمنين عائشة ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم !!!
الشبهة السابعة :
زعم قائلهم أن الرواية عن عائشة رضي الله عنها تبين مدى علم عائشة ببيعة النساء ، لذلك فهي لا تقول : رأيت أو شاهدت أو أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حدثتني فلانة ممن بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعائشة رضي الله عنها لم تبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تروي صفة ما بايعت عليه ، إنما هي تخبر وهي بخبرها صادقة ، ولكن بحدود علمها أن ذلك لم يحدث لا بحكم الواقع الذي جرى عليه وقوع مصافحة النساء في بيعتهن .(4)
__________
(1) سورة التوبة آية 100 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 8/33 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 16/92 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 8/4 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 16/84 .
(4) قواعد نظام الحكم في الإسلام ص 123 .(/12)
والجواب : إن هذا الكلام ينطوي على مجازفة ومكابرة ما بعدها مكابرة ، وليّ لأعناق النصوص وتحميلها ما لا تحتمل ، وجزم بلا برهان على وقوع مصافحة النساء في البيعة . وكأن هذا القائل وأمثاله قد حضروا البيعة ورأوها رأي العين !! وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فهذه حدود علمها !! وأما الأمر الذي وقع في البيعة فعرفه هؤلاء وجهلته عائشة !! إن هذا لهو التعصب المقيت للرأي ، وهو تحكيم للعقل في النصوص ، وهو تأويل فاسد للنصوص . وإني لأستغرب كيف يجزم هؤلاء بحصول المصافحة في البيعة مع أن الأدلة الدامغة والبراهين الساطعة تثبت خلاف ذلك . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصافح النساء في البيعة كما في حديث عبد الله بن عمرو ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول :( إني لا أصافح السناء ) وعائشة رضي الله عنها تقسم :( والله ما مست يده يد امرأة قط ) وأميمة بنت رقيقة تقول في البيعة :( ما صافح منا امرأة قط ).
وحديث أم عطية الذي هو عمدتكم الأولى والأخيرة ليس فيه ذكر للمصافحة ، والرواية الأخرى لحديث أم عطية عند مسلم تبين أنها تأخرت عن قبول البيعة حتى تسعد المرأة التي أسعدتها .
وبعد كل هذه الأدلة والحجج القوية الصحيحة والصريحة التي تبين بياناً شافياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي النبهاني ومن تابعه بعد أربعة عشر قرناً من الزمان فيقولون أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - صافح النساء في البيعة ؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم وافتراء مبين وصم للعيون والقلوب والآذان عن أقوال أولئك الهادة المتقين .
الشبهة الثامنة :
وهي من استدلالاتهم العجيبة الغربية حيث احتجوا بما رواه الترمذي :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ يوماً بجماعة نسوة فأومأ بيده بالتسليم ) وما رواه أبو داود عن أسماء بنت يزيد :( مرّ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسوة فسلم علينا ) وفي رواية :( فألوى بيده بالتسليم ) (1)، وقالوا أيضاً :( فسلم عليهن بيده ) يفيد أن التسليم باليد والتسليم يعني المصافحة ولا يعني بالإيماء أو الإشارة لأن فيه تشبهاً باليهود والنصارى وقد نهى عن ذلك بقوله :( لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود إشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكف ) [ إذن فما دام كذلك فلا يخرج الأمر عن كونه - صلى الله عليه وسلم - يسلم بيده مصافحة ].(2)
والجواب : إن دعواكم أن التسليم معناه المصافحة صحيح ولكن عند العوام !! وأما عند أهل اللغة وعند أهل الحديث وعند العلماء فإن التسليم معناه طرح السلام باللسان أو مع الإشارة باليد ، وهكذا فسره أحد رواة الحديث فقد جاء في رواية الترمذي :[ فأومأ بيده بالتسليم وأشار عبد الحميد بيده ] (3)، وعبد الحميد هو أحد رواة الحديث فسر معنى ألوى بيده ، وأهل اللغة فسروا أومأ بيده أي أشار ، قال الجوهري :[ أومأت إليه : أشرت ] (4)، وكذلك ألوى : أشار . قال ابن منظور :[ ألوى إليّ بيده إلواءً بيده أي إشارة بيده لا غير ].(5)
ومن خلال ما تقدم نعرف أن أومأ بيده وألوى بيده أي أشار ونعلم أن المقصود بالتسليم هو طرح السلام وهذا هو الصحيح وهو المعروف الوارد في السنة كما في الحديث عن أم هانئ قالت :( ذهبت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل فسلمت عليه ، فقال هذه أم هانئ قلت : أم هانئ ، قال : مرحباً ) رواه البخاري ومسلم .
ونحن نسأل ما معنى سلمت عليه هل تعني أنها صافحته أم تعني أنها طرحت السلام عليه ؟
ومثل ذلك حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال :( يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير ) رواه البخاري ومسلم ومثل ذلك ما ورد عن ابن عمر أنه قال :( إذا سلمت
فأسمع ) رواه البخاري في الأدب المفرد وقال الحافظ سنده صحيح .(6)
وأصرح من ذلك كله ما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( خلق الله آدم على صورته … قال اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله ) رواه البخاري (7)، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب .
وقولكم أن الروايتين تدلان على المصافحة ولا يصح حملهما على الإشارة لأن النهي ورد في عدم التشبه باليهود والنصارى ، فالصحيح أن نحملهما على الإشارة لأن حملهما على المصافحة باطل ، وأما النهي عن التشبه باليهود والنصارى في السلام إشارة فالمقصود بذلك هو الاقتصار على الإشارة . وفي حديث أسماء جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين اللفظ والإشارة كما يظهر في رواية أبي داود فسلم علينا .
__________
(1) الخلاص ص 59 .
(2) المصدر السابق ص 62 .
(3) سنن الترمذي 5/58 .
(4) الصحاح مادة أومأ .
(5) لسان العرب مادة لوى .
(6) فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد 2/490 .
(7) صحيح البخاري مع فتح الباري 13/238-240 .(/13)
والتسليم بالإشارة يجوز لمن كان بعيداً بحيث لا يسمع التسليم ، فيجوز التسليم عليه بالإشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام . هذا ما أفاده الإمام النووي (1)والحافظ ابن حجر (2) وقال العلامة الجيلاني :[ والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً ، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس وكذا السلام على الأصم ].(3)
الشبهة التاسعة :
قولهم :[ ومن الدلالة أيضاً على أن المصافحة من حيث هي مصافحة للنساء مباحة كونه عليه الصلاة والسلام سمح لغير بالمصافحة أيضاً وذلك لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت :( لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب عليه السلام ، فقال : أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكن ، لا تشركن بالله شيئاً ، فقلن : نعم . فمد يده من خراج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهم اشهد ) وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - :( لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن ).(4)
والجواب : إن حديث أم عطية المذكور لا ذكر للمصافحة فيه وكل ما فيه :( أن عمر مد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ) وهذا لا مصافحة فيه لأن عمر كان خارج البيت والنساء داخل البيت . والمفهوم من هذه الرواية أن النسوة مددن أيديهن جميعاً في آن واحد ولا يعقل أن يصافحهن عمر وهو خارج البيت وهن داخل البيت في آن واحد فالاحتجاج بهذه الرواية على أن عمر صافح النساء كذب وزور وبهتان .
وأما الرواية الثانية عن عمر فرواية ساقطة لا تقوم بها حجة لأن راويها هو محمد بن السائب الكلبي كما في المصدر الذي اعتمد عليه وهو تفسير الفخر الرازي (5)، قال فيه أبو حاتم :[ الكلبي هذا مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه ].
وقال النسائي :[ متروك الحديث ] والكلبي كذاب لا يعول عليه بحال من الأحوال . وقال فيه الحافظ ابن حجر :[ متهم بالكذب ] (6)، ثم إن أهل التسفير قد ردوا هذه الرواية منهم ابن العربي المالكي والقرطبي .(7)
ويلاحظ من استدلالات القوم بأمثال هذه الروايات الساقطة أو التي لا حجة فيها ولا برهان تعصبهم المقيت للرأي من هنا ومحاولة الدفاع المستميت عنه بأي شيء كان ، فيجمعون الروايات من هنا وهناك دون تمييز لما يصلح أو لا يصلح ولما يصح أو لا يصح كحاطب ليل لا يدري ماذا يجمع في ليلته الظلماء وينطبق عليهم قول الشاعر :
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
الشبهة العاشرة :
احتجوا بما ذكره ابن كثير في تفسيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بايع النساء فكانت هند زوج أبو سفيان متنكرة وعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاها فأخذت بيده فعاذرته فقال : أنت هند . قالت : عفا الله عما سلف .(8)
والجواب : إن الاستدلال بهذه الرواية دون ذكر لما قاله ابن كثير في نقدها مما يتنافى مع الأمانة العلمية ، فابن كثير رحمه الله لما ساق هذه الرواية لم يسكت عنها بل بين عوارها وعدم ثبوتها ، فقال رحمه الله :[ وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم فإن أبا سفيان وامرأته لما اسلما لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيفهما بل أظهر الصفاء والود لهما ].(9)
الشبهة الحادية عشر :
احتجوا بما رواه أنس بن مالك قال : كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت وفي رواية للعسقلاني فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت .(10)
والجواب : إننا لو رجعنا إلى الرواية الثانية كاملة وهي رواية لأحمد وليست للعسقلاني كما ذكر لوجدناها كما يلي ، قال الحافظ :[ وفي رواية أحمد :( فتنطلق به في حاجتها ) وله من طريق علي بن زيد عن أنس :( إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاء ) وأخرجه ابن ماجة من هذا الوجه . والمقصود بالأخذ باليد لازمه وهو
الرفق والانقياد ](11) ، ثم إن المراد بالوليدة هي الصبية الصغيرة ، قال الفيومي :[ الوليد : الصبي المولود والجمع ولدان بالكسر والصبية والأمة ولدية والجمع ولائد ].(12)
وإذا كان الأمر يتعلق بالصبية الصغيرة فهذه لا بأس بلمسها دون شهوة وخاصة أن الآخذ بيدها رسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) الأذكار ص 210 .
(2) فتح الباري 13/255 .
(3) فضل الله الصمد 2/489 .
(4) الخلاص ص 64 .
(5) تفسير الفخر الرازي 29/308 .
(6) تقريب التهذيب ص 298 ، الكامل في ضعفاء الرجال 2/255 .
(7) انظر أحكام القرآن لابن العربي 4/1791 وتفسير القرطبي 18/71 .
(8) الخلاص ص 59 ، وانظر تفسير القرطبي 18/712 .
(9) تفسير ابن كثير 4/354 .
(10) الخلاص ص 59 .
(11) فتح الباري 13/102 .
(12) المصباح المنير ص 671 .(/14)
الشبهة الثانية عشرة :
قالوا إن قوله :( إني لا أصافح النساء ) يدل دلالة واضحة من دلالة النص وألفاظه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المعني والمختص بالخطاب ، حيث يقول إني وحرف لا يعني النفي ولا يعني النهي عن المصافحة في هذا النص ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن نفسه في هذا الحادثة أنه لا يصافح النساء ، أي أنه يمتنع عن ذلك .(1)
والجواب : إن استدلالكم هذا ينقض البناء الذي بنيتم من القواعد ويخر السقف عليكم وآخر كلامكم هدم أوله لأنكم زعمتم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صافح النساء في البيعة كما في احتجاجكم بحديث أم عطية ، قال النبهاني بعد أن ساق حديث أم عطية :[ فهذا الحديث يدل على أن الرسول بايع النساء بالمصافحة ، بدليل قوله :( فقبضت امرأة منا يدها )](2) ، وهنا تقولون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن المصافحة ، ومعلوم أن حديث :( إني لا أصافح النساء ) جاء في البيعة فما هذا التناقض الذي أوقعكم فيه تحميلكم للنصوص ما لا تحتمل وتأويلها تأويلاً فاسداً .
الشبهة الثالثة عشرة :
زعموا أن قوله عليه الصلاة والسلام :( إني لا أصافح النساء ) لا يعتبر نهياً مطلقاً لأنه قاله في خصوص البيعة .(3)
والجواب : إن هذا الزعم ساقط لأن المعروف عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والأمر كذلك في هذه المسألة ، بل عن الحديث يدل على التحريم في حق المسلمين دلالة أولوية إذ قد امتنع عن المصافحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال البيعة ، مع أن الأصل في البيعة أن تكون معاقدة بالأيدي ومصافحة فلإن تكون ممنوعة في غير هذا الموطن أولى وأجدر والأدلة الأخرى التي ذكرناها سابقاً تقوي هذا الفهم والاستدلال ، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن المصافحة وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن باب أولى أن يمتنع عنها المسلمون غير المعصومين لأن المرأة مشتهاة خلقة واللمس قد يؤدي إلى إثارة الشهوة . والإسلام سد كل الأبواب التي تؤدي إلى إثارة الشهوات محافظة على نقاء المجتمع المسلم وطهره .(4) قال الحافظ العراقي :[ وإذا لم يفعل هو ذلك مع عصمته وانتفاء الريبة في حقه فغيره أولى بذلك والظاهر أنه كان يمتنع من ذلك لتحريمه عليه ].(5)
وقال الشيخ الصابوني :[ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يمتنع عن مصافحة السناء مع أنه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لسلوك طريق الاستقامة ، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الطاهر الفاضل الشريف الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته وسلامة قلبه لا يصافح النساء ويكتفي بالكلام في مبايعتهن مع أن أمر البيعة أمر عظيم الشأن ، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة منهم غالبة والفتنة غير مأمونة والشيطان يجري فيهم مجرى الدم ؟!].(6)
الشبهة الرابعة عشرة :
قال النبهاني :[ إن رفض الرسول أن يفعل فعلاً ليس بنهي فلا يدل على النهي عن المصافحة وإنما هو امتناع منه عن مباح من المباحات … ] إلى أن قال :[ وكما تجنب أكل الضب والأرنب وأمثال ذلك ].(7)
والجواب : إن امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم -عن المصافحة ليس كامتناعه عن مباح من المباحات لأن إباحة الأرنب مثلاً ونحوه ثابتة وجماهير علماء المسلمين على إباحته وأما امتناعه عن مصافحة النساء فإنه امتناع عن محرم لأن الأحاديث واضحة في إثبات هذه الحرمة (8)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن مصافحة النساء في حال البيعة مع أن المعروف في البيعة أن تكون مصافحة ومعاقدة بالأيدي ليدل أبلغ دلالة على تحريم مصافحة النساء ، وإذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم النقي التقي قد امتنع عن ذلك فمن باب وأولى أن يمتنع المسلمون عن المصافحة .
الشبهة الخامسة عشر :
زعموا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إني لا أصافح النساء ولو كان مفيداً للتحريم لكان متعارضاً مع مصافحته عليه الصلاة والسلام للنساء وهي مباحة ، فيتعارض الخبر الذي فيه تحريم مع الخبر الذي فيه إباحة فيرجح المباح على التحريم واحتجوا بكلام للآمدي حيث قال :[ إذا كان أحد الأمرين ناهياً والآخر مبيحاً فالمبيح يكون مقدماً ].(9)
__________
(1) الخلاص ص 60 .
(2) الشخصية الإسلامية 3/107 .
(3) حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية ص 103 .
(4) المصدر السابق بتصرف .
(5) طرح التثريب 7/44-45 .
(6) روائع البيان 2/566 .
(7) الشخصية الإسلامية 3/108 .
(8) حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية ص 106 .
(9) الخلاص ص 62 ، وانظر الأحكام للآمدي 4/218 .(/15)
والجواب : إن دعواهم بالتعارض بين الأمرين المذكورين إنما هو تعارض في خيالهم فقط لا في الواقع وحقيقة الأمر لأن الثابت الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصافح النساء كما سبق وبينا ، ولو سلمنا جدلاً بوقوع المعارضة فكلامهم في ترجيح المبيح على المحرم غير صحيح وأن ما قاله الآمدي في هذه المسألة مرجوح والذي عليه جمهور الأصوليين والفقهاء أنه إذا تعارض الحظر مع الإباحة فالحظر مقدم .
وهذا قول الإمام أحمد والكرخي والإمام الرازي وابن الحاجب وابن
السمعاني وابن السبكي والشوكاني (1)، وصححه أبو إسحاق الشيرازي فقال :[ أن يكون أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة ففقيه وجهان أحدهما أنهما سواء والثاني أن الذي يقتضي الحظر أولى وهو الصحيح لأنه أحوط ].(2)
واحتجوا بما يلي :
1. تقديم المباح على الحرمة يفيد إيضاح الواضح لأن الأصل في الأشياء الإباحة ، فهذا الدليل لم يفد شيئاً جديداً بل أفاد نفس ما أفادته الإباحة الأصلية والمثير إلى خلافه وهو تقديم المفيد للحظر أولى لقاعدة تقديم التأسيس على التأكيد .
2. قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح .
3. ولأن الأخذ بالتحريم وترجيحه على المباح فيه عمل بالأحوط ، وذلك لأنه يترتب على ترجيح التحريم ترك الفعل والفعل إن كان حراماً في الواقع فقد تركه المكلف بترجيحه لجانب التحريم ومن ثم فلا ضرر عليه بتركه وإن لم يكن حراماً في الواقع بأن كان مباحاً فلا شيء عليه كذلك في تركه لأنه لا عقاب عليه بترك المباح وأما إذا عمل بالمبيح فإنه قد يترتب عليه العقاب إذا كان الفعل حراماً في الواقع ونفس الأمر فنفي العقاب ثابت في الأول وهو جانب ترجيح التحريم على جميع إذا كان الفعل مباحاً باعتبار الواقع ونفس الأمر . ومن هنا يظهر بوضوح أن العمل بالمحرم والقول بترجيحه على المبيح أحوط .
4. ويمكن أن يستدل أيضاً بما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال :( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ).(3)
الخاتمة
وبعد هذه الجولة الشرعية في بطون الكتب العلمية الموثوقة لا بد للباحث المنصف المجانب للتعصب والهوى أن يقتنع بهذه الأدلة الشرعية التي ضمنتها هذا البحث وأن يجزم بما لا يدع مجالاً للشك أو التردد بتحريم مصافحة المرأة الأجنبية ، وقد تبين أن جماهير المسلمين على ذلك من غير أن يند منهم أحد فهذا هو سبيل المؤمنين المقتدين بسيد المرسلين فيها رأيين ادعاء باطل ، ولقد راجعت عدداً كبيراً من المصادر للعلماء المتقدمين والمتأخرين فلم أجد أحداً من أهل العلم قال بإباحة مصافحة المرأة الأجنبية إلا ما قاله الشيخ النبهاني ومن اتبعه وهو قول شاذ مخالف لأهل العلم من السلف والخلف ، ولا يسنده دليل شرعي صحيح ، وإنما تعلق قائله بفهم خاطئ للنصوص أو بالمرجوح من الرأي ، أو استدلال بالحديث الضعيف مع إعراضه عن الأحاديث الصحيحة ، وأرجو ممن يقف على قول لأحد أهل العلم يوافق قول النبهاني أن يعلمني بذلك وأرجو من كل قارئ منصف إن وجد خطأ أن يصوبه فإني لا أدعي الكمال ، لأن النقصان من طبيعة الإنسان والكمال لله سبحانه وتعالى .
وختاماً أساله تعالى أن ينفع بهذا البحث إخواني طلبة العلم الشرعي والمسلمين أجمعين وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الدكتور حسام الدين موسى عفانه
نائب عميد كلية الدعوة أصول الدين
جامعة القدس
مصادر البحث
القرآن الكريم :
أ. التفسير :
1. أحكام القرآن / لابن العربي .
2. تفسير الألوسي .
3. تفسير الفخر الرازي .
4. تفسير القرطبي .
5. تفسير ابن كثير .
6. تفسير الكشاف / للزمخشري .
7. روائع البيان / للصابوني .
ب. الحديث وعلومه :
8. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان .
9. الأذكار / للنووي .
10. الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار / للحازمي .
11. تدريب الراوي / للسيوطي .
12. الترغيب والترهيب / للمنذري .
13. التعليق المغني على سنن الدار قطني .
14. تقريب التهذيب / لابن حجر .
15. التلخيص الحبير / لابن حجر .
16. رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار / لأبي إسحاق الجعبري .
17. سلسلة الأحاديث الصحيحة / للألباني .
18. سنن أبي داود .
19. سنن الترمذي .
20. سنن ابن ماجة .
21. سنن النسائي .
22. شرح صحيح مسلم للنووي .
23. صحيح البخاري .
24. صحيح الجامع الصغير / للألباني .
25. صحيح سنن النسائي / للألباني .
__________
(1) انظر المحصول 2/587 ، إرشاد الفحول ص 279،283 ، اللمع في أصول الفقه ص 242 ، فواتح الرحموت 2/206 ، شرح الكوكب المنير 4/279 ، التعارض والترجيح عند الأصوليين ص 362-364 ، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية 2/325-236 ، التقرير والتحبير 3/21 ، أدلة التشريع المتعارضة ص 100 .
(2) اللمع في أصول الفقه ص 242 .
(3) التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية 2/325-326 ، التعارض والترجيح عند الأصوليين ص 363-364 .(/16)
26. صحيح مسلم .
27. طرح التثريب / للعراقي .
28. عارضة الأحوذي .
29. فتح الباري / لابن حجر .
30. الفتح الرباني / للساعاتي .
31. فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد / للجيلاني .
32. فيض القدير / للمناوي .
33. الكامل في الضعفاء / للذهبي .
34. المستدرك / للحاكم .
35. المصنف / لعبد الرزاق .
36. الموطأ / للإمام مالك .
37. المنتقى / للباجي .
38. نيل الأوطار / للشوكاني .
جـ. أصول الفقه :
39. الأحكام / للآمدي .
40. أدلة التشريع المتعارضة / لبدران .
41. إرشاد الفحول / للشوكاني .
42. التعارض والترجيح بين الألة الشرعية / للبزرنجي .
43. التعارض والترجيح عند الأصوليين / للحفناوي .
44. التقرير والتحبير / لابن أمير الحاج .
45. الحدود في الأصول / للباجي .
46. شرح الكوكب المنير / لابن النجار .
47. فواتح الرحموت / للأنصاري .
48. اللمع / لأبي إسحاق الشيرازي .
49. المحصول / للإمام الرازي .
50. المستصفى / للإمام الغزالي .
د. الفقه :
51. الاختيارات العلمية / لابن تيمية .
52. الاختيار لتعليل المختار / للموصلي الحنفي .
53. بدائع الصنائع / للكاساني .
54. تبيين الحقائق / للزيلعي .
55. نحفة الفقهاء / للسمرقندي .
56. حاشية ابن عابدين .
57. الفقه الإسلامي وأدلته / للزحيلي .
58. كفاية الأخيار / للحصني الشافعي .
59. المغني / لابن قدامة .
60. ملتقى الأبحر / لإبراهيم الحلبي .
61. كمنار السبيل / لابن ضويان .
62. البداية / للمرغياني .
هـ. كتب حديثة وأخرى متفرقة :
63. الإبداع / لعلي محفوظ .
64. الآداب الشرعية / لابن مفلح .
65. أدلة تحريم مصافحة المرأة الأجنبية / لأحمد محمد إسماعيل .
66. إعلام الموقعين / لابن القيم .
67. التعريفات / للجرجاني .
68. حجاب المرأة المسلمة / للألباني .
69. حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية / لمحمد الحامد .
70. الخلاص واختلاف الناس / لمحمد الشويكي .
71. الشخصية الإسلامية / للنبهاني .
72. فتاوي العلماء للنساء / لعبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين .
73. فتاوي اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية .
74 . فقه السيرة / البوطي .
75. قواعد نظام الحكم في الإسلام / للخالدي .
76. اللباس والزينة / محمد عبد العزيز عمرو .
77. المفصل في أحكام المرأة / لعبد الكريم زيدان .
78. النظام الاجتماعي في الإسلام / للنبهاني .
و. اللغة :
79. الصحاح / للجوهري .
80. لسان العرب / لابن منظور .
81. المصباح المنير / للفيومي .
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
تقديم
مقدمة
المبحث الأول : تعريف المصافحة
المبحث الثاني : تحديد المراد بالمرأة الأجنبية
المبحث الثالث : حكم مصافحة المرأة الأجنبية وأقوال العلماء في ذلك
المبحث الرابع : أدلة العلماء على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية
المبحث الخامس : القول الشاذ بجواز مصافحة المرأة الأجنبية
المبحث السادس : شبهات المخالف والرد عليها
الشبهة الأولى
الشبهة الثانية
الشبهة الثالثة
الشبهة الرابعة
الشبهة الخامس
الشبهة السادسة
الشبهة السابعة
الشبهة الثامنة
الشبهة العاشرة
الشبهة الحادية عشر
الشبهة الثانية عشر
الشبهة الثالثة عشر
الشبهة الرابعة عشر
الشبهة الخامسة عشر
الخاتمة
مصادر البحث
الفهرس(/17)
الأدلة والبراهين لإيضاح
المعتقد السليم
والرد على المخالفين
كتبه الفقير إلى ربه
سليمان بن ناصر العلوان
قام بصفه ونشره
[أبو عمر الدوسري]
أجزل الله لهُ المثوبة
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مصل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وحجة على أهل الزيغ والضلال أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد وقفت على رسالة لبعض من يدعي العلم يقرر فيها القول بأن النار تفنى وينسب ذلك إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى. وهما بريئان من هذا القول كما سيأتي بيانه وتوضيحه وعلى سبيل التنزل أن ابن القيم قال بفناء النار فهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة ولذلك رد عليه الإمام الصنعاني وكذلك الإمام محمد الآمين الشنقيطي رحمهما الله تعالى، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق في هذه المسألة واضح كوضوح الشمس في نحر الظهيرة، ومع وضوحها ظهر بعض الناس ينشر بين الناس زعماً منه أنه يريد الانتصار لابن القيم وهو لا يشعر أن ذلك يضع من قدره.
وقد صرح ابن القيم في (الوابل الصيب) أن النار لا تفنى وإليك نص كلامه قال: ((ولما كان الناس على ثلاث طبقات طيب لا يشينه خبث وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا.
فصل
القول بفناء النار قول مبتدع والقول به بدعة لا شك فيه ولا ارتياب كما قاله الصنعاني(1) وهو الحق والصواب والقول بفناء النار خارج عن مقتضى العقول ومخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فالكفار خالدون في النار خلوداً لا انقطاع له بل هو غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين، وقد ذكر الله التأييد في كتابه في ثلاثة مواضع في حق الكفار فيه كافية في أبدية النار وأبداً للزمان المستقبل الذي لا غاية لمنتهاه، أفندع كتاب ربنا وسنة نبينا لأقوال أناس غير معصومين؟
فصل
ذكر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في:
((أن النار لا تفنى ولا يفنى ما فيها))
الحديث الأول:
حديث أنس الطويل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((فأخرجهم فأدخلهم الجنة فما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود)) متفق عليه. فهذا الحديث نص قاطع وبرهام ساطع على أن الكفار مخلدون في النار قال تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } . وقال تعالى: { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } .
الحديث الثاني:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشافعة... الحديث)) أخرجه مسلم وأبو عوانة وأحمد وابن ماجه وغيرهم.
وفي هذا الحديث دلالة قاطعة على تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم. قال تعالى: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } . قال ابن كثير رحمه الله: أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من اليم العذاب وأنواع النكال.
الحديث الثالث:
حديث ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد هو فيه)) أخرجه البخاري ومسلم.
فقوله: يا أهل النار لا موت: فيه دلالة على عدم فناء النار.
وقوله: كل خالد هو فيه: تأكيد أكيد على جعلها بمنزلة واحدة أعني أهل الجنة وأهل النار في أن كلاً من المنزلتين لا فناء فيهما.
وعلى هذا جمهور السلف والخلف ونقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الحديث الرابع:
__________
(1) وقال به الإمام أحمد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(/1)
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال: يا أهل النار فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال هل تعرفون هذا؟ قالوا نعم هذا الموت قال: فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كلاهما: خلود فيما تجدون لا موت فيه(1) أبدا) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان: قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وهذا الحديث أيضاً من الأدلة القاطعة على خلود أهل النار قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } . قال الشوكاني: قوله ((أبدا)) منصوب على الظرفية وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل. أهـ.
وهذه الأحاديث كافية في أبدية النار وهناك بعض الآثار وردت عن الصحابة والأخيار في بقاء النار وعدم فنائها نذكر منها أثرين خشية الإطالة والله الموفق للصواب والهادي إلى الطريق الرشاد.
(1) عن عبد الله بن عمرو قال: أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يقول إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: اخسئوا فيها ولا تكلمون ثن ييأس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير، رواه الطبراني وقال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وهذا الأثر له حكم الرفع لأنه أمر غيبي لا يقال من قبل الرأي.
(2) قال الحافظ ابن رجب في (التخويف من النار): قال أبو الحسن بن البراء العبدي في كتاب (الروضة) له حدثنا أحمد بن خالد هو الخلال حدثنا عثمان بن عمر حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: لو أن أهل جهنم وعدوا يوماً من أبد أو عدد أيام الدنيا لفرحوا بذلك اليوم لأن كل ما هو آت قريب. قال ابن رجب: إسناده جيد.
وهذا نص من الصحابي الجليل في أن النار لا تفنى ولا يفنى ما فيها وفيه دلالة على ضعف ما نقل عنه من أنه من القائلين بفناء النار كما سيأتي أثره والجواب عنه إن شاء الله . والمؤمن الحقيقي يكفيه حديث واحد في أبدية النار فكيف والآيات والأحاديث والآثار وإجماع أهل العلم على ذلك.
((ذكر أقوال العلماء في عدم فناء النار))
(قول الإمام أحمد رحمه الله)
قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن جعفر الاصطخرى(2) :
هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وأدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
فذكر قولهم إلى أن قال : وقد خلقت الجنة وما فيها والنار وما فيها خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما لا يفنيان ولا يغنى ما فيها أبدا فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل (كل شيء هالك إلا وجهه) وبنحو هذا من متشابه القرآن.
قيل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من لا من الدنيا والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء ولم يكتب عليهن الموت فمن قال:خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل.أهـ المقصود من(طبقات الحنابلة) للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى ج 1 ص24.
وقال أيضا في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة)ص147.
قال بعد أن ذكر الأدلة على بقاء الجنة ودوام أهلها فيها رادا بذلك على الجهمية بقولهم في فناء الجنة والنار وغيرهما قال: وقد ذكر الله أهل النار فقال: ( لا يقض عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها).
وقال: (أولئك ينسوا من رحمتي ). وقال: ( لا ينالهم الله برحمة ).
وقال: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون).
وقال:( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ).
وقال : (خالدين فيها أولئك هم شر البرية ).
وقال : (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ).
وقال : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ).
وقال : ( إنها عليهم مؤصدة)ومثله في القرآن كثير. أهـ كلامه.
((قول الإمام الطحاوي))
__________
(1) وعند ابن ماجه ((فيها))، ((وفيه)) عند أحمد.
(2) رسالة الإمام أحمد من رواية الإصطخرى أنكرها الذهبي ولكن ذكرنا هنا ما يناسب معتقد أهل السنة والجماعة.(/2)
.قال الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله تعالى في (العقيدة الطحاوية): والجنة والنار ومخلوقتان لا تفنيان آبدا ولا تبيدا أن...الخ
((قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى))
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه عن حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(سبعة لا تموت ولا تغفي ولا تذوق الغناء النار وسكانها واللوح والقلم والكرسي والعرش) فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟.
فأجاب رحمه الله تعالى : هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام بعض العلماء وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات مالا يعدم ولا يغنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك. ولم يقل بغناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وأئمتها.. الخ ص 307 ج{18}.
((قول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى))
قال ابن حزم رحمه الله في (الفصل في الملل والنحل ) : اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها إلا جهم بن صفوان.
وقال رحمه الله في كتابه ( مراتب الإجماع ) : باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالقه بإجماع. ثم ذكر عدة مسائل ثم قال: وأن النار حق وأنها دار عذاب أبدا لا تفنى ولا يغنى أهلها أبدا بلا نهاية .
ولم يتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في تعليقه على هذا الكتاب كما تعقبه على غيرها من المسائل وقال المعلق على هذا الكتاب : فدعوى فناء أحديهما بعد دخول أهلها فيها كفر بإجماع (1) أهـ.
فابن حزم نص على أن النار لا تغنى بالإجماع وكذلك سيأتي أن شاء الله نقل الإجماع عن غيره من العلماء والله الموفق.
((قول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى))
قال القرطبي رحمه الله تعالى في كتابه ( التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة(2):
أجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها كإبليس وفرعون وهامان وقارون وكل من كفر وتكبر وطغى فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي. وقد وعدهم الله عذابا أليما فقال عز وجل : (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ).
وأجمع أهل السنة أيضا على أنه لا يبقى فيها ولا يخلد إلا كافر جاحد فاعلم.
وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر من الكتاب (3) : لما ساق الأحاديث بنحو ما تقدم من سياقنا ( هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل الدارين فيها لا إلى غاية ولا إلى أمد .مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة بل كما قال في كتابه الكريم وأوضع فيه عن عذاب الكافرين:( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقض عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها.. إلى قوله :من نصير ) الآية وقال (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) وقال: (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد .كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) وقد تقدمت هذه المعاني كلها فمن قال أنهم يخرجون منها وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها وأنها تغنى وتزول فهو خارج عن مقتض المعقول ومخالف لما جاء به الرسول وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) وإنما تخلى جهنم وهى الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد. أهـ المقصود من كلامه رحمه الله.
((قول السيوطي رحمه الله))
نظم الجلال السيوطي رحمه الله المخلوقات التي لا تفني وهي ثمانية فقال :
ثمانية حكم البقاء يعمها.. من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة.. وعجب وأرواح وكذا اللوح والقلم
((قول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله))
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في عقيدته التي سأله أهل القصيم عنها قال في أولها : أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ثم قال: وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما اليوم موجودتان وأنهما لا يفنيان.
((قول العلامة صديق خان رحمه الله))
قال العلامة صديق حسن خان في كتابه (يقطة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار).
__________
(1) المعلق لم يذكر اسمه والحق يقبل ممن أتى به ولكنه في مقدمة الكتاب أن التعليقات وضعت بالرجوع إلى المظان وعلماء هذا الشأن.
(2) ص432 طبعة دار الفكر.
(3) ص 436 طبعه دار الفكر(/3)
باب (في أن النار لا تفنى ثم ساق الأحاديث في أبدية النار ثم قال : وثبت بما ذكر من الآيات الصريحة والأخبار الصيحة خلود أهل الدارين خلودا مؤبدا كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة ودليل ذلك من الكتاب والسنة وزعمت الجهمية أن الجنة والنار تفنيان قال هذا جهم بن صفوان إمام المعطلة وليس له في ذلك سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الدين ولا قال به أحد من أهل السنة .نعم حكى بعض العلماء في أبدية النار قولين وحاصل ذلك كله سبعة أقوال فساقها ( توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين ) وفي الباب رسالة (1) للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير. ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما وهو الحق الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأئمة والأمة والله أعلم أهـ كلامه.
وقال رحمه الله في كتابه (قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر) .
والجنة والنار مخلوقتان اليوم باقيتان ولا يغنى أهلها لقوله تعالى في حق الفريقين (خالدين فيه أبدا ) الآية فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه ص137 وص 138.
((قول الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى))
قال الإمام العلامة محمد الأمين بن محمد رحمه الله تعالى في كتابه (معارج الصعود إلى تفسير سورة هود) الذي كتبه تلميذه عنه عبد الله بن أحمد قادري قال: الجواب الحق أن أهل النار الكفرة خالدون فيها خلود الانقطاع له البتة والاستثناء بالمشيئة كما صرح به في أهل النار صرح به كذلك في أهل الجنة(2) مع أنه لا يقول أحد ممن يقول بانقطاع النار بانقطاع الجنة كما قال تعالى هنا في سورة هود { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } .
وهذه المشيئة مجملة لم نعرف ما أخرجته والأدلة المنفصلة وضحت أن المشيئة اقتضت الخلود الأبدي كما قال تعالى في أهل الجنة { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } (3) ... وقال تعالى { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (4) وقال تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 74 لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } (5).. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } (6).. وقال تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } (7).. وقال تعالى: { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } (8).
والفعل بعد (كلما) يتكرر بتكررها فمن ادعى خبوة للنار نهائية تفنى بها ليس بعده سعير يرد عليه بهذه الآية.
ولو قيل للعبد: كلما جاء أحدهم أكرمه الله لزمه ذلك ولا حق له أن يعتذر بأنه لم يفهم التكرار.
وقد زعم ابن القيم رحمه الله أن النار تفنى(9) عندما ناقش الأدلة في كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وأيد رأيه بأن الله تعالى لا يخلف الميعاد بخلاف الوعيد فإنه لم يأت ما يدل على أنه لا يخلفه وخلف الوعيد من الصفات المحمودة كما قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وكان ابن القيم في أثناء كلامه يتحدى من يقول: إن الله أخبر أنه لا يخلف وعيده وما قاله مردود من وجوه.
الوجه الأول:
أنا لو تمسكنا بما ذكر لجاز أن يقال: لا يدخل النار كافر لجواز إخلاف الإيعاد وهذا خلاف ما دلت عليه النصوص وما فهمه العلماء.
الثاني:
__________
(1) وهي رسالة قيمة ينبغي لطالب العلم أن يقتنيها وأسمها (( رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار)) ولها مقدمة للألباني فيها فوائد كثيرة لدحض القائلين بفناء النار فليرجع إليها.
(2) وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح الاستثناء في قوله تعالى ((خالدين فيها مادامت، السموات والأرض إلا ما شاء ربك)) وفي قوله تعالى في سورة الأنعام ((قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)).
(3) ص.
(4) سورة النحل: 96.
(5) الزخرف: 74- 75.
(6) سورة الفرقان: 65.
(7) البقرة: 162.
(8) الأسراء: 97.
(9) لم يثبت القول بفناء النار عن ابن القيم كما تقدم إنما ساق أقوال العلماء موضحاً أوجه استدلالهم ولذلك جزم في كتابه الوابل الصيب أن النار لا تفنى فنسبة القول بفناء النار إلى ابن القيم أو إلى شيخه أو إلى أحد من الصحابة خطأ وإنما سقنا كلام الشنقيطي هنا لأنه فيه رد على من قال بفناء النار كائناً من كان أما ابن القيم وشيخه فهما بريئان من هذا القول والله أعلم.(/4)
إننا لا نسلم أنه ليس في كتاب الله ما يدل على أنه لا يخلف وعيده بالنسبة للكفار بل صرحت الأدلة بلزومه كما قال تعالى: { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (1) فقد صرح أنه لا يبدل قوله وذلك هو وعيده كما هو ظاهر.
وقال تعالى: { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } (2) أي ثبت ووجب والفاء للتعليل فكل مكذب لا بد أن يحق عليه ذلك وقال تعالى: { إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } (3) والوعيد الذي يجوز إخلافه هو وعيد عصاة المؤمنين المذنبين.. كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أهـ المقصود منه.
((قول الشيخ عبد الله بن علي بن يابس رحمه الله))
قال الشيخ عبد اله بن على بن يابس رحمه الله في كتابه إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت.
قال: (الوسوسة السابعة في التشكيك في دوام النار والرد عليه)..
قال في صفحة 39 (هل يدوم عذاب النار وتدوم النار كما يدوم النعيم والجنة. هنا بحث تناوله المتقدمون فعندهم أقوال وآراء ثم قال ليس في القرآن نص قطعي صريح دوام النار).. وجوابه من وجوه:
الأول: في ذكر الخلاف في ذلك قال صاحب فتح الباري، من زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو تفنى فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة ثم قال وجمع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال. أحدها هذا الذي نقل فيه الإجماع.
والثاني: قول من قال يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم وهذا قول ينسب إلى الزنادقة.
والثالث: قول من يقول يدخلها قوم ويخلفهم آخرون وهو قول اليهود وقد أكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } .
وقول رابع: يخرجون منها وتستمر على حالها.
والقول الخامس: أنها تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية.
السادس: تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف.
السابع: قول من يقول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة أهـ.
قلت ما روى عن الصحابة سنده منقطع لا يصح كما روى عن ابن مسعود وأبي هريرة وقد علمت أن كل القائلين بهذه المذاهب غير المذهب الأول وغير من قالوا بما روى عن الصحابة جميع الأقوال الخمسة القائلون بها لا يعدون في عداد المسلمين فقول الشيخ بأن المتقدمين تناولوه قول باطل بقي علينا أن نذكر شبهة القائلين بما روى عن الصحابة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم(4) فقد ذهبا يؤيدان هذا المذهب الذي يروى عن عمر وعن بعض الصحابة وسوف نسوق لك أدلته التي حشدها ابن القيم من كل ناحية وصوب ونناقشها وهو الوجه الثاني، ثم نذكر في الوجه الثالث الآيات القرآنية الدالة على دوام عذاب النار والله الموفق.
الوجه الثاني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قد ذهبا يؤيدان القول بفناء النار وهي هفوة كبيرة(5) منهما أن كان ذلك رأيهما إلا أنه يشفع لهما قدمهما الصادق في الإسلام ودفاعهما عنه بكل شجاعة وإقدام وما لقياه في سبيل ذلك والخطأ لم يعصم منه إلا الشارع في تشريعه ولا يعرف عنهما سوى حشدهما أدلة القائلين بهذا المذهب ولم أر هذا الرأي صريحاً لهما بل أن ابن القيم صرح في بعض كتبه بأن أهل النار الذين هم أهلها لا يخرجون منها وهاك أدلتهم ليبين الحق وتنجلي الغاية إن شاء الله.
احتجا بما روى عبد بن حميد عن الحسن عن عمر واعترفا بأنه مرسل وهما يعلمان أن المرسل ليس بحجة للجهل بالساقط في الإسناد، ولكن لأجل رأيهما فخما عبد بن حميد والحسن البصري وفاتهما أن مرسلات الحسن خاصة ضعاف وأن عبد بن حميد لم يشترط الصحة لما رواه وحتى لو صححه لما أفاد تصحيحه، والمؤلفون الأولون ينقلون الصحيح والضعيف بل وربما الموضوع أما للجهل ببعض رجاله والقدح فيهم أو لأنهم يرون إبراز الإسناد يخلص من التبعة، وأنه أداء للأمانة لأن معظم من في عمرهم يعرفون الإسناد ورجاله وحتى لو صح عن عمر فليس بحجة فقد خالف عمر رضي الله عنه آية التيمم وهي صريحة وجادله في ذلك عمار وخالف في آية المهر حتى ردته العجوز، والحجة في قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
واحتجا أيضاً بما روى عن ابن عباس في تفسير آية { إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } . وهو احتجاج باطل لوجوه:
الأول: أنه غير ثابت السند.
الثاني: أنه قول من ليس بحجة على فرض صحته.
__________
(1) سورة ق: 28-29.
(2) ق: 14.
(3) ص: 14.
(4) تقدم أنه لا يصح عندهما فنسبة القول إليهما بفناء النار خطأ قطعاً لأنه من أقوال أهل البدع.
(5) أي والله إنها لهفوة كبيرة عظيمة لو ثبت ذلك عنهما ولكن ولله الحمد لم يقولا بهذا ومن زعم ذلك فعليه البيان.(/5)
الثالث: أنه في غير محل النزاع فإنه يخبر بأن أبوابها تصفق خالية أي أنهم يخرجون منها وهي موجودة وهذا هو حجة الزنادقة القائلين بخروجهم منها.
واحتجا بتقول عن بعض الصحابة لم تصح أسانيدها.
واحتجا أيضاً بالاستثناء في حق أهل النار ويلزمها أن يقولا في الاستثناء في حق أهل الجنة ما قالاه في استثناء أهل النار فالاستثناء أن واحد أما تشبثهما بقوله { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ } . فيقول لها القائلون بفناء الجنة معناه حيث هي موجودة فالعطاء غير مجذوذ وكلنها تفنى وإن كان هذا القول باطلاً فالآخر مثله وقوله تعالى: { لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } . فقد قلتم فيه ما دامت النار موجودة فقالوا لكم وغير مجذوذ ما دامت الجنة لم تفن ولا فرق بين القولين، فإن قلتم هذا باطل قلنا وذلك مثله.
واستدلا أيضاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله (إن رحمتي غلبت غضبي) قلنا هذا مسلم ولكن لا يدل على فناء النار فرحمته أوسع من الجنة كما أن عذابه النار وغيرهما.
واحتجا بأن النار طهرة من خبث الشرك فقيل لهم ليس كذلك وإنما هي جزاء على الشرك لأن هذا الخبث غير ممكن الزوال قال تعالى: { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . هذه هي أكبر حججهما، قد أوردنا عليها ما رأيت وقد أكثرا رحمهما الله في هذا الموضوع من الفلسفة التي لا تغني في الاحتجاج والله يغفر لهما إن كان ذلك رأيهما.
الوجه الثالث: في ذكر الآيات الدالة على عدم فناء النار منها قوله تعالى: { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . والخلود الدوام الأبدي فهذه هي حقيقته إذا أطلق حتى يرد دليل علا خلافه خصوصاً أن الله تعالى أعقب الخلود في آية أخرى بالأبدية فقال خالدين فيها أبدا. وهذا يؤكد ما قلناه وقال في آية أخرى { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } . أي مقيماً ولو فنيت لم يكن عذابها غراماً ولا مقيماً. وقال { لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } . لفتر عنهم العذاب ولكان الخبر غير صادق.
وأخبر تعالى أنه لن يزيدهم إلا عذاباً ولو فنيت فإنه لم يزدهم عذاباً ولكنه سلمهم وقال تعالى: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ولو فنيت لخرجوا منه قطعاً وقال تعالى: { أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي } ولو خرجوا منها لكان اليأس غير موجود وقال تعالى: { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا } ولو خرجوا لخفف عنهم العذاب.
ولم نأت على ذكر جميع الآيات وكفى بما ذكرناه غنية والله المستعان أهـ كلامه رحمه الله.
((قول الإمام المحدث شيخ الإسلام الصابوني رحمه الله))
قال شيخ الإسلام الصابوني رحمه الله المتوفى سنة (449) في عقيدة السلف وأصحاب الحديث. قال بعد كلام سبق (أما الكفار فإنهم يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبداً ولا يترك الله فيها من عصاة أهل الإيمان أحداً).
وقال (ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما باقيتان لا يفنيان أبداً وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبداً وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها لا يخرجون أبدا. وأن المنادي ينادي يومئذ يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهـ ص123 من الجزء الأول من مجموعة الرسائل المنيرية.
((قول الإمام الآجري رحمه الله))
قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه الشريعة رحمه الله تعالى قال: (كتاب الإيمان والتصديق بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع عن أهلها أبداً وأن عذاب النار لا ينقطع عن أهلها الكفار أبداً ثم ساق الآيات والأحاديث في ذلك بمثل ما تقدم فراجعه إن شئت ص387 ثم قال ص398 (باب ذكر الإيمان بأن أهل الجنة خالدون فيها أبداً وأن أهل النار من الكفار والمنافقين خالدون فيها أبدا) ثم ساق الآيات والأحاديث.
((قول العلامة الآلوسي رحمه الله))
قال نعمان خير الدين الآلوسي في جلاء العينين كلاماً إليك أيها القارئ نصه (نقل الوالد قدس الله روحه في تفسيره عن الفهامة ابن الجوزي أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص ((يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبوبا الموحدين)) وأول البعض أيضاً بعضها قال: وأن تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف والقواطع أكثر من أن تحصى ولا يقاوم واحد واحداً منها كثير من هذه الأخبار) أهـ المقصود.
((قول الشيخ حافظ بن أحمد حكمي رحمه الله))
قال الشيخ حافظ رحمه الله تعالى في كتابه معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد ج{2} ص279.
فصل فيما ورد في الجنة والنار:
والنار والجنة حق وهما ... موجودتان لا فناء لهما(/6)
أي ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار والبحث فيه ينحصر في ثلاثة أمور:
البحث الأول: كونهما حقا لا ريب فيهما ولا شك وأن النار دار أعداء الله والجنة دار أوليائه إلخ.
البحث الثاني: اعتقاد وجودهما الآن ثم ذكر الآيات والأحاديث ثم قال.
البحث الثالث: في دوامهما وبقائهما بإبقاء الله لهما وأنهما لا تفنيان أبداً ولا يفني من فيهما ثم ساق الآيات، أن النار لا تفنى ثم قال فأخبرنا تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن أهل النار الذين هم أهلها خلقت لهم وخلقوا لها وأنهم خالدون فيها أبدا الآبدين ودهر الداهرين لا فكاك لهم منها ولا خلاص ولات حين مناص. فأخبر تعالى عن أبديتهم فيها بقوله { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } . ونفى تعالى خروجهم منها بقوله تعالى { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } . انقطاعها عنهم بقوله عز وجل { ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } . وقوله
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ثم ساق الأحاديث في أن النار لا تفنى ثم قال (نعم جاءت الأحاديث الصريحة بإخراج عصاة الموحدين الذين تمسهم النار بقدر جنايتهم وأنهم يخرجون منها برحمة الله تعالى ثم بشفاعة الشافعين كما سيأتي إن شاء الله قريباً وأن هؤلاء العصاة يسكنون الطبقة العليا من النار على تفاوتهم في مقدار ما تأخذ منهم.
وجاء فيها آثار أن هذه الطبقة تفنى بعدهم إذا أخرجوا منها وأدخلوا الجنة وأنها ليأتين عليها يوم وهي تصفق في أبوابها ليس بها أحد وعلى ذلك حمل جمهور المفسرين الاستثناء في وقله تعالى: { إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ } الآية وعلى ذلك يحمل ما ورد من آثار الصحابة وما أحسن ما قاله ابن القيم في كتابه (الوابل الصيب) ثم ساق وقد قدمناه في أول الكتاب فليرجع عليه.
((قول الشيخ محمد العثيمين))
قال الشيخ محمد في شرحه لزاد المستنقع على قول المؤلف (ويستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر) قال بعد كلام سبق البحث فيها من وجوه:
الوجه الأول:
هل هي موجودة الآن أو ليست موجودة ؟ ثم ذكر الجواب ثم قال: الوجه الثاني: هل هي مؤبدة أو مؤمدة يعنى هل تفنى أو هي دائمة آبد الآبدين؟ والجواب الثاني هو المتعين قطعا أنها مؤبدة ولا يكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول ولهذا جعله العلماء من عقائدهم بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة ابد ا الآبدين وهذا أمر لاشك فيه لأن الله تعالى ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن في سورة النساء في قوله تعالى: (أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا).
الثالث: في سورة الجن { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ولو ذكر الله عز وجل التأبيد في موضع واحد لكفى فكيف وهو قد ذكره في ثلاثة مواضع ومن العجب أم فئة قليلة من العلماء ذهبوا إلى أنها تغنى بنا على علل عليلة لمخالفتهما لمقتضى الكتاب والسنة وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا: أن خالدين فيها أبدا ما دامت موجودة فكيف هذا؟؟
إذا كانوا خالدين فيها أبدا لزم أن تكون هي مؤبدة(( فيها)) هم كائنون فيها وإذا كان الإنسان مؤبدا تخليده لزم أن يكون مكان الخلود مؤبدا لأنه لو فني مكان الخلق وما صح تأبيد الخلود والآية واضحة جدا.
والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها وهذا الخلاف الذي ذكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطرح لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده ومن خالفه لشبهة قامت عنده فيعذر عند الله لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أنها مؤبدة والحكمة تقتضي ذلك (1) لأن هذا الكافر أفنى عمره في محاربة الله عز وجل ومعصية الله والكفر به وتكذيب رسله كل عمره مع أنه جاءه النذير وأعذر وبين له الحق ودعي إليه وقوتل عليه وأصر على الكفر والباطل فكيف نقول أن هذا لا يؤبد عذابه الآيات في هذا صريحة أ هـ.
وهذا القدر يكفي من نقل أقوال العلماء وطالب الحق يكفيه عشر ذلك فالمسألة واضحة لا لبس فيها وعلى هذا إجماع أهل العلم ولم يخالف أحد أن يأتي بشيء صريح عنهما بالقول بغناء النار فلذي نعتقده وندين الله به أنهما لا يريان ذلك لمخالفته مقتضى العقول وصريح المنقول والله الموفق.
فصل
( ذكر الآثار التي احتج بها القائل بغناء النار والجواب عنها)
الأثر الأول:
__________
(1) قال ابن القيم في زاد المعاد ج1 ص 68. ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو خرج منها لعاد خبيثها كما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة أ هـ .(/7)
ورد في معجم الطبراني أني حديث مرفوع من طريق عبد الله بن مسعر بن كدام عم جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم واحد تخفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين).
الجواب عم هذا الحديث أن يقال. هذا حديث موضوع لا يصح فمن نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل في الوعيد الشديد المنصوص عليه بقوله: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) رواه الإمام أحمد والشيخان قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات ج3 ص 268 ( هذا حديث موضوع محال وجعفر هو ابن الزبير قال شعبة: كان يكذب وقال يحيى ليس بثقة وقال السعدي: نبذوا حديثه وقال البخاري والنسائي والدارقطني: متروك) أ هـ ... وقال الذهبي في ترجمة جعفر بن الزبير: ( ويروي بإسناد مظلم عنه حديثه متنه: يأتي على جهنم يوم ما فيها أحد من بني آدم تخفق أبوابها) أ هـ ص 407 ج (1) ميزان الاعتدال.
وكذلك في إسناده عبد الله بن مسعر بن كدام قال الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمته( قال أبو حاتم: متروك الحديث) ثم قال الذهبي ( وفي معجم الطبراني من حديث هذا التالف...) ثم ساق له هذا الحديث ثم قال( وهذا باطل).
الأثر الثاني والجواب عنه:
روى عبد بن حميد في تفسيره فقال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال: قال عمر( لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه).
فأقول: هذا الأثر رجاله كلهم ثقات ولكنه منقطع فقولنا رجاله ثقات توفرت ثلاثة شروط من خمسة. وسبب انقطاع هذا الأثر هو أن الحسن لم يسمع من عمر عند أكثر أهل العلم وفيه خلاف معروف عند أهل الحديث والمنقطع عند أهل الحديث من قبل الضعيف. والضعيف لا يحتج به في هذه المسائل. بل ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به ولا في فضائل الأعمال (1) فكيف بمسألة هي أكبر من الدنيا وما فيها كما قاله ابن القيم رحمه الله:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ج 11 ص 422 ( هو منقطع) ثم قال ( ولو ثبت حمل على الموحدين أ هـ قلت وظاهر هذا الأثر ليس فيه دلالة على أنهم الكفار فيجب حمله على الموحدين هذا لو ثبت وإلا فهو ضعيف لا يحتج به ونحن في غنية بالأحاديث الموضوعة والآثار الواهية. ومما يضاف إلى ذلك ما قاله الحافظ الذهبي رحمه الله: ( كان الحسن كثير التدليس) أ هـ . ومعلوم أن المدلس لا يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع.
الأثر الثالث والجواب عنه:
أخرج البزار من طريق أبي بلج سمع عمرو بن ميهون يحدث عن عبد الله ابن عمرو قال(ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا).
الجواب عن هذا: أن يقال: هذا الأثر ضعيف كسابقه بل أشد لأن في إسناده أبا بلج (2) قال ابن حجر في تقريب التهذيب في ترجمته (صدوق ربما أخطأ) أ هـ قلت هذا من أخطائه ولذلك قال الحافظ الذهبي في ترجمته: (ومن بلاياه): الفسوى في تاريخه حدثنا بندار عن شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد. وهذا منكر قال ثابت البناني سألت الحسن عن هذا فأنكره أهـ (ص385 ج4) ميزان الإعتدال).
وبذلك تعلم أن قول بعضهم (رجاله ثقات) فيه نظر لما تقدم من ضعف أبي بلج. قال أحمد (روى حديثاً منكراً) وقال البخاري: (فيه نظر) قال الذهبي في الموقظة (عادة البخاري إذا قال "فيه نظر" أنه بمعنى أنه متهم أو ليس بثقة فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف) أهـ مع أن هذا الأثر وأثر أ[ي هريرة (الآتي إن شاء الله) (كان أصحابنا يقولون يعني من الموحدين أضف إلى ذلك أنه ثبت عن عبد الله بن عمرو خلافه كما تقدم عنه في ذكر الآثار عن الصحبة الدالة على بداية النار...
الأثر الرابع والجواب فيه:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً).
الجواب أن يقال هذا الأثر ذكره ابن جرير في تفسيره ج8 ص118 قال حدثت عن المسيب عمن ذكره قال: قال ابن مسعود فذكره.
وذكره البغوي في تفسيره بدون إسناد وهذا الأثر لا يصح ابن جرير لم يذكر الذي حدثه والمسيب لم يذكر من حدثه فهو أثر تالف باطل.. وعلى سبيل صحته فقد قال البغوي في تفسيره (معناه عند أهل السنة إن ثبت أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً) ج2 ص403.
الأثر الخامس:
__________
(1) منهم البخاري ومسلم ويحيى بن معين وابن حبان وغيرهم من أجلاء أهل العلم.
(2) اسمه يحيى بن سليم أو ابن أبي سليم.(/8)
ساقه ابن القيم رحمه الله في (حادي الأرواح) من رواية إسحاق بن راهويه قال حدثنا عبيد الله(1) حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد) وقرأ قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الآية قال عبيد الله كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين.
الجواب عنه: هذا الأثر إسناده على شرط الشيخين إلا يحيى بن أيوب فلم يخرجا له. وذكر العقيلي في كتاب الضعفاء بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال عنه (ضعيف) ونُقل عن يحيى بن معين أنه وثقه قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (لا بأس به) وهذه من صيغ توثيق الرجل وقبوله ولكنه في المرتبة الرابعة من المراتب التي ذكرها الحافظ في مقدمة كتابة تقريب التهذيب فالذي يظهر لي أن هذا الأثر إسناده صحيح ولكن جوابه من وجهين.
الوجه الأول: أنه ليس فيه دلالة على فناء النار بل هو محمول على الموحدين للجمع بينه وبين الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على عدم فناء النار ولذلك قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين فحمل هذا الأثر على الطبقة التي فيها عصاة المسلمين متعين لأنه به يحصل الجمع بين الأدلة.
الوجه الثاني: لو فرضنا أن هذا الأثر فيه دلالة على فناء النار فهو قول صحابي وهو ليس بحجة إذا خالف السنة الصحيحة باتفاق العلماء وهناك من الصحابة من أفتوا بعدم فناء النار كما تقدم في ذكر الآثار عن الصحابة وقول الصحابي على صحابي مثله ليس بحجة بالإجماع كما نقل ذلك ابن عقيل وغيره فكيف إذا خالف الكتاب والسنة وقد ذكر الله التأبيد أعني تأبيد الكفار في النار في ثلاثة مواضع في سورة النساء في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا... } .
والثاني في سورة الأحزاب { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا... }
والثالث في سورة الجن في قوله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } والأحاديث في أبدية النار كثير جداً وقد تقم بعضها. وهذا الأثر أعني أثر أبي هريرة لا دلالة فيه البتة على فناء النار إنما قلنا ذلك على سبيل التنزل وقد قال الخازن في تفسيره على أثر أبي هريرة وابن مسعود المتقدم (وهذا إن صح عن ابن مسعود وأبي هريرة فمحمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين، وخلود الكافرين فيها..) أهـ المقصود منه من الجزء الثالث ص254، وتقدم كلام البغوي على هذا الأثر يغني عن إعادته.
وبعد هذا البيان يتضح للقارئ أنه لم يصح شيء عن الصحابة في فناء النار فنسبة القول إليهم بفناء النار خطأ قطعاً يجب إنكاره والذب عن الصحابة الأخيار أن ينسب إليهم ما لم يقولوه.
قال صاحب كتاب الزواجر (لم يصح عنهم يعني الصحابة من ذلك شيء وعلى التنزل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين أما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكره الله في آيات كثير) أهـ ج1 ص37.
فصل
ومن المناسب بعد الأجوبة عن الآثار التي استدلوا بها على فناء النار أن نذكر الآيات التي استدلوا بها ونجيب عنها بكلام أهل العلم العدول الثقات.
والآيات التي استدلوا بها ثلاث آيات، قوله تعالى في سورة الأنعام { قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } الآية، وقوله تعالى في سورة هود: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ } الآية وقوله تعالى في سورة النبأ: { لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } الآية.
والجواب عن هذه الآيات أما الآية الأولى والثانية.
__________
(1) هو ابن معاذ خرج له الشيخان وغيرهما قال ابن حجر ثقة حافظ أما أبوه فهو معاذ بن معاذ العنبري خرج له الستة الحافظ ثقة متقن.(/9)
فللعلماء عنهما أجوبة(1) منها أن قوله { إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين لأن الأحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خلود الكفار في النار وعدم خروجهم منها وكذلك ثبتت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أن الكبائر يخرجون من النار ومنها إنه استثناء لا يفعله تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك على ضربه ذكره الفراء وهو معنى قول أبي صالح عن أبن عباس (( إلا ما شاء الله )) قال : (( فقد شاء أن يخلدوا فيها قال الزجاج وفائدة هذا أنه لو شاء أن يرحمهم ولكنهم أعلمنا أنهم خالدون أبدا.)) أهـ . هذا الوجه من زاد المسير لابن الجوزي.
ومنها أن ((إلا)) في سورة هود بمعنى سوى فيكون المعنى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء الله من الزيادة والخلود، والأقوال ثمانية في هذه المسألة من أرادها فليرجع إليها في أماكنها ولما ساقها الإمام الشنقيطي في معارج الصعود قال وأقرب هذه الأقوال: القول الأول.
وأما قوله تعالى: { لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } فقد أجاب عنها الإمام الشنقيطي رحمه الله في معارج الصعود فقال (أحقاباً ظرف منكر يفهم منه أنه ينتهي في وقت ما ثم قال والجواب قد أوضحه الله تمام الإيضاح في سورة (ص) وخير ما يفسر به القرآن القرآن فالأحقاب في آية النبأ متعلقة بما بعدها وهو أنهم في تلك الأحقاب لا يذوقون إلا الحميم والغساق ثم بعد أن تنتهي تلك الأحقاب يشكل لهم العذاب من غيرهما أشكالاً لا نهاية لها والدليل على أن المراد ما ذكرنا قوله تعالى في سورة (ص) { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } فالأحقاب التي في النبأ لا يقع فيها الحميم والغساق ولا يقع فيها غيرهما وإذا قلنا بانتهاء تلك الأحقاب تنتهي النار يبقى ما ذكر في سورة (ص) لا ظرف له وهو خلاف القرآن فظهر أن الأحقاب ظرف لحميم والغساق وأنه بعد انتهاء تلك الأحقاب تأتي ألوان أخرى من العذاب أهـ المقصود.
وذهب بعض العلماء إلى أن الأحقاب هو الذي لا انقطاع له أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: { لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال الأحقاب ما لا انقطاع له كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر.
ونقل البغوي في تفسيره عن الحسن قال: إن الله لم يجعل لأهل النار مدة بل قال: { لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } فوالله ما هو إلا إذا مضى حقل دخل حقب آخر ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود أهـ.. وهذا القول فيه قوة يؤيده قوله تعالى: { فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } وقوله { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } وبهذا البيان يتضح للقارئ أنه ليس مع من قال بفناء النار من الحجج إلا ما هو أو هي من بيت العنكبوت.
فصل
قد يقول بعض الناس يلزم مما تقدم من كلامك أن تبدع من قال بفناء النار من المتقدمين كفلان وفلان و و و...؟
فيقال: هذا الإلزام باطل لا يقوله إلا من هو جاهل ولا أعلم أحداً من أهل العلم المحققين قال بهذا الإلزام الباطل وأيضاً مما يجب التنبيه عليه والتفطن له أن العالم قد يقول قولا مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه مغفوراً له خطؤه لعدم بلوغ الحجة له إلى غير ذلك من الأعذار التي توجب العفو.
أما غيره ممن بلغته الحجة فهذا يبدع ولا يكون بمنزلة الأول وهذا الباب باب عظيم يجب تفهمه وتدبره وتعلقه لأنه يفتح لطالب العلم باباً عظيماً من أبواب العلم ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام مهم في هذه المسألة نذكره بلفظه قال في الفتاوى ج6 ص61 (إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم نتدبره فإنه نافع).
وقد صدرت أشياء كثيرة من بعض التابعين خصوصاً في العقائد ومع ذلك عدها العلماء من الخطأ المغفور ولما قال بها من بعدهم بدعوه وضللوله فمن ذلك ما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } بأنها تنظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح(2). وأشياء كثيرة من هذا النوع ولم يقل أحد من أهل العلم أن من أنكر رؤية الله لا يبدع ولا يضلل من أجل ما روى عن بعض التابعين ولو ذكرنا أقوال العلماء في هذه المسألة لطال بنا الكلام عما قدمناه وهو إبطال أدلة القائلين بفناء النار والله أعلم.
__________
(1) انظر زاد المسير لابن الجوزي ج4 ص160 وكذلك انظر معارج الصعود للشنقيطي رحمه الله ودفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص122.
(2) انظر فتاوى شيخ الإسلام ج(20) ص32.(/10)
وهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي أن كثيراً من الناس يتكلم في هذه المسألة العظيمة أعني فناء النار تقليداً لشيخه ومتبوعة ولو قالها غير شيخه لما قال بها واعتقدها بل قد يعادي من قال بها فهو لم يقل بها إلا من أجل أن شيخه قال بها وهذا التابع لا يكون بمنزلة متبوعه لأنه مقلد جاهل لا علم له ولا دراية بل مع كل ناعق يهرول قال ابن رجب(1) رحمه الله (وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا يكون متبوعة قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه ولا هو مع هذا يظن أنه أنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة نقدح في قصداً لانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أهـ كلامه رحمه الله.
قام بصفها ونشرها
[أبو عمر الدوسري]
أجزل الله له المثوبة
ندعوك لزيارة هذا الموقع
www.frqan.com
__________
(1) في جامع العلوم والحكم ص (312).(/11)
الأذل الأصغر
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
في الحياة الدنيا مظاهر برَّاقة تستر ما يختبئ وراءها من الزَّيف والسوء والذِّلَّة والصَّغار، وفي الحياة الدنيا أضواء خادعة تظل تسرق بوهجها الأبصار، فتصرف النظر عما يختفي وراءَها من الآثام والأوساخ والأوضاع، وفي الحياة الدنيا غفلة تهيمن على قلوب كثير من أهلها فتحجب عنهم الرؤية الصحيحة للمواقف والأشخاص، وتجعلهم يتمنَّون ما عليه أهل الباطل من بريق المظاهر، غافلين عن سوء المخابر، ولأنَّ الحياة الدنيا خادعة كاذبة الأماني فإنها قادرةٌ على إغواء الغافل، وصرف العاقل عن الطريق الصحيح إلى طرق ملتوية مليئة بالحواجز والأخاديد تنتهي به إلى حفرة بعيدة الغَوْر ليس لها من قرار.
هنا تختلف أنظار البشر اختلافاً كبيراً، وتصبح المسافة بين عقولهم وأفكارهم شاسعة بعيدة المدى، وهنا تبرز أهمية الإيمان بالله وكتبه ورسله، وقيمة اليقين الذي ينتج وعياً كبيراً يرى به الإنسان الأشياء على حقائقها.
هناك في أعماق التاريخ نشأ ملك عظيم له بريق وهَيْلَمةٌ وهَيْلمان، وله جنودٌ جبابرةٌ وخيول وفرسان، ووراءه حصون ذات أسسٍ وأركان، يقوم عليه فرعون، ويدعمه هامان، ويتبختر فيه قارون الذي تنوء مفاتحه بالعصبة أولي القوَّة.
وهناك عقول واعية، وأنظار ثاقبة ترى ذلك كله فما ترى إلى الذِّلَّة والصغار، تغطيها تلك المظاهر الكاذبة، وتقرأ في وجوه فرعون وهامان وجنودهما، وفي مراكب قارون الفاخرة الساحرة عبارات الخيبة والخسران، ولكنها عقول قليلة العدد، ضعيفة الأثر أمام تيارات الغفلة الجارفة التي جعلت أصحابها يقولون، وقد فغروا أفواههم منبهرين "يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون".
فرعون ذليلٌ صاغر، يزداد ذُلاً وصغاراً عندما يقول: أنا ربكم الأعلى، وهامان ذليلٌ صاغر يزداد ذُلاً وصغاراً كلَّما وضع لبنة في بناء صرحه التَّافه المتهاوي، وقارون يزداد ذُلاً وصغاراً كلَّما نظر الى دنانيره الذهبية البرَّاقة نظرة المتعالي المتكبِّر، وكل طاغية متجبر من بني البشر يزداد ذُلاً وصغاراً كلماً تظاهر بكبريائه الفارغ، وتشامخ بمظاهره البرَّاقة، وتعالى بما أوتي من القوة المادية على عباد الله، هذه حقيقة ثابتة لا تنتطح فيها عنزان، ولا يختلف عليها عاقلان واعيان.
إن الأذلَّ الأصغر من البشر هو الذي يبطر ويتعالى ويتكبّر، ويغرق في شهواته، وثرواته منخدعاً بما أغدق الله عليه من نعمة الابتلاء والاختبار، وإنَّ نظرة العين المؤمنة الفاحصة إلى وجه ذلك المتعالي المتكبر لتؤكد لها شقاءه المختبئ وراء نظراته المتعالية، وبؤسه المختفي وراء ابتساماته الزائفة، وذلته وصغاره المتوارية وراء عَنْجهيَّته وتعاليه واستكباره، ولهذا قال أحد الزهَّاد: ما رأيت رجلاً ذا كبرياء وخيلاء إلا وللذل والصغار في وجهه علامات بارزة لو رآها الناس لقذفوه بالحجارة، ورأوا من ذلته ما لم يكونوا يتوقعون.
الكبرياء رداء الله سبحانه وتعالى فمن نازعه رداءه أورثه ذُلاً في الدنيا والآخرة، وزاده ضلالاً وغفلة وانخداعاً تظلُّ تجرُّه في دروب الضياع حتى تلقيه على أمِّ رأسه في نار جهنم - والعياذ بالله -.
أما يكفي ذلك المتعالي المتكبر من الذلة والصغار ما هو فيه من غفلة عن عبادة ربه وذكره؟! أما يكفيه أنه يعيش حياته في منزلة أدنى من منزلة الحيوان فلا يصلي ولا يصوم، ولا يسبح بحمد ربه حين ينام وحين يقوم؟!.
كم هو ذليل صاغر ذلك الرجل الذي يقف أمام الناس مستعرضاً قوته، وصحته، وملابسه الغالية، ومراكبه الفارهة،وعباراته المنمقة، ثم هو لا يحني ظهره ساجداً راكعاً، ولا يحرك شفتيه بقوله تعالى:{قٍلً هٍوّ اللّهٍ أّحّدِ (1) اللّه الصَمد (2) لّمً يّلٌدً وّلّمً يٍولّدً (3) وّلّمً يّكٍن لَّهٍ كٍفٍوْا أّحّدِ}، ولا يقول صادقا مخلصاً، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
إنَّ الخضوع لله عز وجل هو العز والمجد والمكانة المرموقة، وإني لأنظر إلى هذا الذي يجلس في سجنه زائغ النظرات، مبهوراً تائهاً، وأتذكر صورته وهو داخل إلى حرم الله ذات يوم في مؤتمر إسلامي عقد في مكة، وهو رافع الرأس، عاتي الرقبة، على وجهه علامات استكبار بارزة رآها الناس من خلال شاشة التلفاز، فأقول: سبحان الله الذي يُذلُّ المستكبرين، وإنَّ الذُّلَّ الذي ينتظرهم يوم القيامة أشدُّ وأنكى إذا لم يتوبوا إلى الله توبة نصوحا.(/1)
الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين
الابتلاء سنة ربانية جارية إلى يوم القيامة، وقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين، وتناول صوراً للابتلاء، فذكر التكاليف الشرعية، وذكر الفتة في الدين، ومثّل لذلك بما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى قريش، وما لاقاه أصحابه، وذكر منهم آل ياسر وبلالاً وخباباً وغيرهم.
الابتلاء سنة ربانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. وبعد: أيها الأحبة: هذا الدرس يلقى في مسجد الشربتلي، بحي الربوة، بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (29/ رجب عام 1418 للهجرة)، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وهو ضمن السلسلة المعنونة: بـ(تأملات في السيرة النبوية) وعنوان هذه المحاضرة: (الأذى والابتلاء في حياة المؤمنين). إن الابتلاء سنّة ربانية، يبتلي الله عز وجل بها من يدعي الإيمان؛ لأن الادعاء سهل، لكن إثبات صحة هذا الادعاء أمرٌ عسيرٌ، فمن السهل عليك أن تدعي ملكية عمارة أو شارع كامل، أو مدينة بأسرها؛ أو دولة بأسرها، لكن إذا طُلب منك إثبات ملكيتك بالدلائل فإنه من الصعب على الإنسان أن يثبته إلا إذا كان صادقاً في هذا الادعاء. فادعاء الإيمان ليس أمراً هيناً نظراً لأن ثمرة هذا الادعاء سعادة الدنيا والآخرة، فالذي يكون مؤمناً حقيقياً فإن الإيمان الحقيقي يضمن له الفوز في الدارين، والسعادة في الحياتين، فهذه الثمرة ليست سهلة حتى يكون الإيمان سهلاً، لذا فإن الله لا يترك الناس عند هذه الدعوى، بل لا بد من ابتلائهم؛ يقول الله عز وجل في أول سورة العنكبوت: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] لا يفتنون أي: لا يُختبرون: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ويقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. ومجال الامتحان والابتلاء والفتنة لا يحدده العبد؛ وإنما الذي يحدده هو الله، وإذا استعجل العبد الفتنة وطلبها وكله الله إلى نفسه، وخلى بينه وبين نفسه، ولهذا لا تتمن الفتنة ولا البلاء ولكن سل الله العافية، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تتمنوا لقاء العدو) لأن بعض الصحابة كانوا يقولون: متى نراهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) وآخرون استعجلوا القتال فقال لهم الله: لا يوجد قتال، لا يوجد إلا صلاة وصوم فقط، ففي فترة الاستضعاف التي كانت تعيشها الأمة في بداية عهد النبوة، لم يكن قد أذن بالقتال؛ لأن القوة غير متكافئة، والإمكانيات غير متقابلة، فالمؤمنون في قلة وفي ضعف، والكفر كان في قوة، فأي مناوشة للكفر بقتال معناه القضاء على الإسلام، وهذه سنّة ثابتة في حياة الأمة إلى يوم القيامة، فحينما تكون الأمة مستضعفة فليس من مصلحتها أن تواجه القوة الكافرة، ولكن الأولى أن ينصرف الناس إلى شيء آخر غير القتال. قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] أي: عن القتال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء:77] أي: لما كتب الله عليهم القتال، كان أول من انتكس هم هؤلاء الذين كانوا يقولون: متى القتال؟ فلا تستعجل، وعليك أن تعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وعلى كتاب وسنّة، وإذا فرض الله عليك البلاء من غير طلب منك ولا سؤال له، فإن الله عز وجل يعينك ويثبتك، وصوره كثيرة: فمن صور الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية: كالصلاة والصوم والزكاة والحج، فهذا من البلاء؛ لأن فيه تعباً ومشقة. ومن صور الابتلاء: الابتلاء بتحريم المحرمات من الشهوات؛ لأن في النفس البشرية ميل إلى الشهوات، فالله حرمها والنفس تريدها. وتصديق الأخبار -أيضاً- من الابتلاء، فالله أخبرنا في القرآن، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنّة بأشياء يلزمنا أن نصدق بها، حتى ولو لم تهضمها عقولنا؛ لأن عقولنا محدودة، نعم. لها قدرة على الاستيعاب والفهم، ولكن هذا العقل لا يستطيع أن يلم بكل حقائق الكون، فعليك أن تقبلها مادامت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه(/1)
وسلم، فلا مجال إن جاءت أن تحكم عقلك فيها؛ لأنك إذا أردت أن تخضعها لذلك فلعلك تخطئ، ومعناه: أنك قدمت العقل على أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قد ذكر أن أهل الإيمان إيمانهم في قلوبهم، ليس في عقولهم، قال الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3] والغيب ما لا يدركه العقل! فنحن آمنّا بالله رغم أننا لم نره، ولكنه أخبرنا عن نفسه في كتابه، وأخبرتنا عنه رسله في جميع الرسالات، وعرفناه بالعقل، وعرفناه بآياته ومخلوقاته التي بثها في الكون، فلا ينبغي لنا أن نعطي العقل أكبر من حجمه، بحيث نقول: لا نؤمن بالله حتى نراه بأعيننا، ونلمسه بأيدينا! ولما أراد موسى عليه السلام أن يمارس هذه العملية وهو كليم الله ومن أولي العزم، قال الله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ولما كلمه الله سبحانه وتعالى وأعطاه موعداً للمقابلة مرة ثانية، قال عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] يريد أن يرى رب العالمين، فإنه ليس عند موسى شك في الله؛ لأنه كلمه، لكن من باب حب الاستطلاع، يريد أن ينظر بعينه إلى الله، فقال له الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: لن تثبت عينك ولن تستطيع أن تتحمل قوة رؤية الله: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] جبل الطور: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] أي: أنه يمكن لك ولكن بشرط أن تكون مثل الجبل بالقوة، ولكنك لست في قوة الجبل: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143] هذا الجبل الأشم المخلوق من الحجارة الصم، صار دكاً كله، ولكن أين موسى؟ موسى بعيد عن الجبل، لم ينظر موسى إلى الله، وإنما تجلى الله للجبل، فمن أثر تجلي الله على الجبل خر موسى صعقاً وقال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]. فعقلك أيها الإنسان محدود وإمكانياتك محدودة، فإذا جاءت الأدلة من الكتاب أو من السنة، فهذا معناه أن الأمر انتهى وآمنا بالله؛ لأنه لا أحد أصدق من الله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وإذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر صدقنا به حتى ولو لم تقبله عقولنا.......
صور من البلاء الذي مر به أهل الحق ...
من صور البلاء أيها الإخوة: ما يتعرض له المؤمن من فتنة في دينه، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا يكون دائماً في فترات ضعف الأمة، حينما يصير للكفر قوة وللباطل غلبة، لا يرضى الكافر أن يبقى المسلم معافى في دينه وفي عقيدته، بل يتحرش به، ويفتنه في دينه، وهذا تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة الإسلامية بشكل أكبر، وتذكره كتب السيرة وسوف نستعرض بعضه في هذه اللحظات في هذه الليلة المباركة. لم تُجدِ جميع الوسائل ولا الأساليب ولا الطرق التي عملها كفار قريش، لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، وما بقي إلا القوة، وكما يقال: آخر العلاج الكي، فحملوا معول الهدم، وبدءوا في الأذية والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من السابقين الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان أبو لهب -عليه من الله ما يستحق- إذا سمع عن رجل أنه أسلم وله شرف وله منعة، أنبه وشتمه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك، ولنضعن شرفك. وإذا كان تاجراً جاء إليه وقال له: سوف نكسد تجارتك، ونهلك مالك. وإن كان ضعيفاً، ضربه وآذاه وأغرى به غيره.......
بلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ...(/2)
ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت عقبة بن أبي معيط -عليه من الله ما يستحق- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فربطه في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ثم خنقه خنقاً شديداً حتى كاد يقضي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أبو بكر فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر. وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، نحرها أصحابها، وأخرجوا أذاها وسلاها وروثها من بطنها؛ فقال أبو جهل : أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيأخذها ويضعها بين كتفي محمد إذا سجد) وسلى الجزور أقذر ما فيها، فلما رآه ساجداً قال: اذهبوا وخذوا هذا السلى وضعوه بين كتفيه إذا سجد، فانبعث أشقاهم والعياذ بالله، وأخذ السلى، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، يقول: وأنا قائم أنظر، يقول: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر نبي الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى انطلق رجل فأخبر فاطمة في البيت، فجاءت وهي جويرية، أي: وهي صغيرة، فطرحته عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه إلى السماء ودعا عليهم، يقول ابن مسعود راوي الحديث: [فوالذي نفس محمد بيده، لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر ] وحملهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القليب، والقليب: البير الذي ليس فيه ماء، وخاطبهم فقال: (هل لقيتم ما وعدكم ربكم؟ فالصحابة قالوا: تخاطب قوماً لا يسمعون؟ قال: والذي نفسي بيده لهم أسمع لكلامي منكم، ولكنهم لا ينطقون). وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام. ثم استفحل الأذى حتى في الفترة التي أعلن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة، وأضحى يظهر شعائر الدين، مثل الصلاة عند الكعبة، فلم تستطع قريش أن تصبر؛ فقد روى مسلم في صحيحه : أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى حول الكعبة، فقام كفار قريش وأخبروا أبا جهل ، فجاء وهجم على النبي صلى الله عليه وسلم، وما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، كأن شيئاً يهدده، فقيل له: مالك؟ -لأن الناس لا يرون شيئاً، إنما يرونه يتقي بيديه كأن أحداً يصفعه، قيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً) قال: وأنزل الله عز وجل: كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]إلى قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9-10] ثم قال عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. يروي البخاري أيضاً عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد(/3)
الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت عقبة بن أبي معيط -عليه من الله ما يستحق- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فربطه في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ثم خنقه خنقاً شديداً حتى كاد يقضي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أبو بكر فدفعه عنه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم]. وهذا من مواقف أبي بكر الخالدة، أنه منع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر. وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، نحرها أصحابها، وأخرجوا أذاها وسلاها وروثها من بطنها؛ فقال أبو جهل : أيكم يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيأخذها ويضعها بين كتفي محمد إذا سجد) وسلى الجزور أقذر ما فيها، فلما رآه ساجداً قال: اذهبوا وخذوا هذا السلى وضعوه بين كتفيه إذا سجد، فانبعث أشقاهم والعياذ بالله، وأخذ السلى، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فضحك القوم، وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك، يقول: وأنا قائم أنظر، يقول: لو كان لي منعة لطرحته عن ظهر نبي الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى انطلق رجل فأخبر فاطمة في البيت، فجاءت وهي جويرية، أي: وهي صغيرة، فطرحته عن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه إلى السماء ودعا عليهم، يقول ابن مسعود راوي الحديث: [فوالذي نفس محمد بيده، لقد رأيت الذين سماهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر ] وحملهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القليب، والقليب: البير الذي ليس فيه ماء، وخاطبهم فقال: (هل لقيتم ما وعدكم ربكم؟ فالصحابة قالوا: تخاطب قوماً لا يسمعون؟ قال: والذي نفسي بيده لهم أسمع لكلامي منكم، ولكنهم لا ينطقون). وآذى عتبة بن أبي لهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فاستجيب دعاؤه، وأكله السبع وهو في الزرقاء في الشام ، إذ كانوا في سفر، وكان ينام وسط الناس خوفاً من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى إليه الأسد وأكله من وسطهم وهم نيام.
ابتلاء الصحابة رضي الله عنهم وتعرضهم للأذى ...
هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء. وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها. وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل(/4)
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه. وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع. هذا بعض الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأوذي أيضاً معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة ، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء. وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبي صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها. وممن أوذي أيضاً عثمان بن مظعون ، وقصته يا إخواني تبعث على العجب وتبين لنا قوة إيمان هؤلاء الرجال، عثمان بن مظعون رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة ولكن قريشاً رفضت أن يدخل أحدٌ إلا في جوار أحد، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة ، وهو من كبار قريش، ولما رأى عثمان بن مظعون الأذى الذي يقع على الذين دخلوا في غير جوار، ورأى نفسه لا أحد يؤذيه لأنه في جوار رجل عظيم، فقدم إلى مجلس قريش ولما قدم إلى مجلس قريش في مكة وفيهم لبيد بن الأبرص شاعر جاهلي، يقول:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت، فلما جاء بالشطر الثاني:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت، فإن نعيم الجنة لا يزول، قال: لبيد الشاعر الجاهلي: يا معشر قريش! والله ما كنت أظن أن أؤذى وأنا في مجلسكم! فقال رجل من القوم: إن هذا من سفهاء قومه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قولهم شيئاً، فرد عليه عثمان حتى تفاقم الأمر، فقام إليه ذلك الرجل فلطمه على عينه ففقأها، والوليد بن المغيرة قريب منه، وقبل ذلك رأى عثمان بن مظعون أن الصحابة يتعرضون للأذى فجاء إلى مكة وقال: إني قد تركت جوارك يا وليد إلى جوار الله، لأنه يريد أن يأتيه أذى، فهو يرى الصحابة يؤذون وهو لا يؤذى، فقال: خرجت من جوارك يا وليد بن المغيرة إلى جوار الله، ولما جاء في مجلس قريش وآذوه والوليد جالس ينظر، قال له: يا ابن أخي والله إن كانت عينك لفي غنى مما أصابك، لقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في ذات الله! -الله أكبر! لا إله إلا الله!!- وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد : هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جواري، فقال: لا، وترك جوراه. وممن كان يعذب أيضاً من الصحابة، الزبير بن العوام كان يعذبه عمه، ويعلقه في حصير ويشعل عليه النار، ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير : لا والله لا أرجع.
أعلى الصفحة
آل ياسر وما نالهم من البلاء ...(/5)
أما من ناله العذاب بشكل أكبر فهم الموالي، أي الأرقاء، الذين كانوا عبيداً مسترقين ثم أسلموا، فهؤلاء تحملوا نصيباً كبيراً من الأذى والتعذيب. وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر ، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر ، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].أما من ناله العذاب بشكل أكبر فهم الموالي، أي الأرقاء، الذين كانوا عبيداً مسترقين ثم أسلموا، فهؤلاء تحملوا نصيباً كبيراً من الأذى والتعذيب. وأول أسرة تعرضت للعذاب وكلها أسرة موالي، كلها أرقاء، أسرة آل ياسر، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت هذه الأسرة يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء في أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ، ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وكانت أول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر ، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهي مقيدة بيديها وأرجلها في الرمضاء وهي تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح في قبلها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة في سبيل الله في الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر ، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمي ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا في إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه في يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل:106] أنها نزلت في عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد) ونزل قول الله عز وجل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].
بلال بن رباح وصبره على الأذى في سبيل الله ...(/6)
وممن أوذي أيضاً وناله قسط كبير من الأذى والابتلاء في سبيل الله بلال بن رباح الحبشي ، وأمه اسمها حمامة رضي الله عن الجميع، كان طاهر القلب، صادق اللسان، قوي الإيمان، عميق الإسلام، وكان سيده أمية بن خلف ، يخرجه إذا حميت الظهيرة -وكانت مكة من أشد البلاد حرارة، حتى يتحاشا الناس المشي فيها حفاة؛ لأنها تحرق أرجلهم- ثم يجرده من ثيابه، ثم يضعه على البطحاء التي هي مثل النار، ثم يؤتى بصخرة عظيمة قد حميت مثل حمى الأرض فيضعها على صدره، ثم يقال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو في هذا البلاء العظيم يردد: أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد، لا يهمه أن يناله ما ناله في سبيل الله، ولذلك بلغ رضي الله عنه وأرضاه منزلة عظيمة من الإسلام، كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب يقول: [أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا]. عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه بلال ، ما الذي تصنع؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة قال: لا شيء يا رسول الله، غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين.) لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار. يقول بلال أعطشوني يوماً و ليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار. وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه. وممن أوذي أيضاً وناله قسط كبير من الأذى والابتلاء في سبيل الله بلال بن رباح الحبشي ، وأمه اسمها حمامة رضي الله عن الجميع، كان طاهر القلب، صادق اللسان، قوي الإيمان، عميق الإسلام، وكان سيده أمية بن خلف ، يخرجه إذا حميت الظهيرة -وكانت مكة من أشد البلاد حرارة، حتى يتحاشا الناس المشي فيها حفاة؛ لأنها تحرق أرجلهم- ثم يجرده من ثيابه، ثم يضعه على البطحاء التي هي مثل النار، ثم يؤتى بصخرة عظيمة قد حميت مثل حمى الأرض فيضعها على صدره، ثم يقال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان وهو في هذا البلاء العظيم يردد: أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد.. أحدٌ أحد، لا يهمه أن يناله ما ناله في سبيل الله، ولذلك بلغ رضي الله عنه وأرضاه منزلة عظيمة من الإسلام، كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب يقول: [أبو بكر سيدنا، وأعتق بلالاً سيدنا]. عمر المخزومي يجعل بلالاً سيداً، رغم أنه في ميزان الناس عبد، لكنه في ميزان الإسلام والإيمان والدين سيد، بلغ درجة جعلت عمر المخزومي يجعله سيداً من سادات المسلمين رضي الله عنه وأرضاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (إيه بلال ، ما الذي تصنع؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأسمع خشخشة نعليك في الجنة قال: لا شيء يا رسول الله، غير أني كلما أحدثت توضأت، وكلما توضأت صليت لله ركعتين.) لأن الوضوء سلاح المؤمن، وأنت مخلوق للعبادة، وما دام أنك مخلوق للعبادة، فيجب أن تكون مستعداً باستمرار للعبادة، وتكون مستعداً باستمرار للعبادة بالوضوء، بحيث إذا أردت تصلي إذا بك متوضئاً، وإذا دخلت فريضة إذا بك متوضئاً، المهم أنك دائماً على طهارة، وبعد ذلك إذا توضأت وصليت ركعتين، صار نور على نور، فالصلاة نور والوضوء نور، ولهذا كان هذا العمل العظيم الذي يفعله هذا الرجل العظيم، وأقره النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فيعتبر من سننه صلى الله عليه وسلم بالإقرار. يقول بلال أعطشوني يوماً و ليلة، ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار. وعندما رآه أبو بكر في هذه الحالة، ساوم سيده على شرائه، فاشتراه وأعتقه رضي الله عنه وأرضاه.
خباب بن الأرت وصبره على الابتلاء ...(/7)
وممن عذب من الموالي خباب بن الأرت ، وهو من خزاعة سبي في أيام الجاهلية، وبيع بيع الرقيق في مكة ، وكان مولى لامرأة يقال لها: أم أنمار الخزاعية ، ثم حالف بني زهرة وكان يعمل حداداً يصنع الأسنة والسيوف، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعندما أظهر إسلامه، لاقى صنوفاً شتى من العذاب في المال والنفس، ومما روي في ذلك أنهم كانوا يأخذون بشعر رأسه فيسحبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بعنف، وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة، وأوقدوا ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره، حتى بردت النار، كما ذكر خباب ذلك عن نفسه وقد كشف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل ، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت ، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:77-78]. وممن عذب من الموالي خباب بن الأرت ، وهو من خزاعة سبي في أيام الجاهلية، وبيع بيع الرقيق في مكة ، وكان مولى لامرأة يقال لها: أم أنمار الخزاعية ، ثم حالف بني زهرة وكان يعمل حداداً يصنع الأسنة والسيوف، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعندما أظهر إسلامه، لاقى صنوفاً شتى من العذاب في المال والنفس، ومما روي في ذلك أنهم كانوا يأخذون بشعر رأسه فيسحبونه بشعر رأسه ويلوون عنقه بعنف، وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة، وأوقدوا ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره، حتى بردت النار، كما ذكر خباب ذلك عن نفسه وقد كشف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يضجعونه على الرضف وهي الحجارة المحماة، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا من الردة، بل كان ثابتاً ثبوت الجبال على عقيدته، وله قصة مشهورة مع العاص بن وائل ، وهو من صناديد قريش والقصة مذكورة في البخاري ومسلم والذي يرويها هو نفسه، خباب بن الأرت ، يقول: كنت قيناً -أي حداداً- في مكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيتك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: أجل إذا أماتني الله ثم بعثني، فسوف أقضيك، من باب التهكم والاستهزاء، فأنزل الله عز وجل فيه قوله سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:77-78].
عبر وفوائد من الابتلاء ...(/8)
وعندما اشتد البلاء بخباب وببعض الصحابة، اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم صبروا حتى زاد ذلك على طاقتهم كبشر، فأتوا إلى النبي والحديث في البخاري ، أتوا إليه وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وهو مستضعف صلى الله عليه وسلم وهم مستضعفون، فقالوا له: ألا تستنصر لنا يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه إلى نصفه، أي يغرسون إلى نصفه، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه بين عينه فيشق اثنتين، ينشرونه من مفرق رأسه إلى آخره، حتى يصير قسمين، ما يصده ذلك عن دينه، هذا فيمن كان قبلنا، أي: وأنتم الآن جاءكم شيء بسيط بالنسبة لما جاء الأولين، فنحن جاءنا -أيها الإخوة-: نحن الآن ما نصبر على صلاة الفجر، فلا نقوم نصلي الفجر، وبعضنا لا يصبر على سماع أغنية، يقول: لا أستطيع وإذا سمعت الأغاني انغلق قلبي، نقول له: أفتريد الجنة مع هؤلاء؟ وبعضهم ما يصبر على سيجارة يقول: أريد أن أتركها لكن ما قدرت، لا إله إلا الله! وبعضهم لا يستطيع أن يغض بصره عن الحرام، هذا ابتلاء، فكيف لو أن أحداً ضربك على الدين، وقال لك: لو صليت ضربناك عشرة أسواط، الآن ترك الصلاة بدون سوط.. بدون تعب.. بدون شيء.. ما ينتظرون أحداً يضربهم على الصلاة، هؤلاء الذين كان الرجل يؤخذ ويوضع في حفرة إلى نصفه ثم يؤتى بالمنشار ويوضع على مفرقه ثم ينشر، تصور أنك أنت في هذا الوضع؟ وضعت في الحفرة وأتوا بالمنشار وبدءوا في النشر برأسك، كيف يكون وضعك في تلك اللحظات؟ تكفر أم لا تكفر عندما ترى المنشار أمامك، تقول: ماذا تريدون؟ سوف أكفر سبعين مرة، لكن ذلك لا يكفر وهم يشقون رأسه وينشرونه وينزلونه على مخه ثم على عيونه، ثم أنفه ثم رقبته، ما قد مات إلى الآن، ثم بعد ذلك إلى أن يكون نصفين وهو ينشر ولا يصده ذلك عن دين الله، لا إله إلا الله! ......
عظم مكانة المبتلين في الدين ...(/9)
كذلك بقية الموالي مثل حمامة والدة بلال وعامر بن فهيرة، وأم عبيس ، وامرأة اسمها زنيرة، وأخرى اسمها النهدية ، وجارية بني عدي، التي كان يعذبها عمر قبل أن يسلم، وقد أعتق هؤلاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر بالأمة كلها، إلى يوم القيامة، وما طلعت الشمس على أفضل بعد النبيين من أبي بكر) وانظروا إلى أعماله، فمن ضمن من دخل على يديه في الإسلام سبعة من العشرة المبشرين بالجنة، كلما سمع أن أحداً من المسلمين يعذب اشتراه، وأعتقه لوجه الله. ولما رآه أبوه وهو أبو قحافة يشتري هذه الرقاب العظيمة، وهذه الأنفس الأبية التي تعذب في الله، ويعتقها، قال: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعيفة، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً يمنعونك ويقومون دونك، فقال له أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد بذلك وجه الله عز وجل، فأنزل الله فيه قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] إلى أن قال عز وجل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] هذه نزلت في أبي بكر وعده الله أنه سوف يرضى يوم القيامة. ولما أسلمت زنيرة وأعتقها أبو بكر، أصيبت بمرض في عينها فعميت، فقال كفار قريش: والله ما أعماها إلا اللات والعزى، فبلغ الخبر أبا بكر الذي أعتقها، فقال: كذبوا والله، والله لا تضرها اللات والعزى ولا تنفعها، اللهم رد بصرها فرد الله بصرها وأخزى هؤلاء الكفرة، قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74] فكانوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ لأن من مقتضيات الإله الذي يعبد أنه قادر على الضر والنفع، أما إله لا يضرك ولا ينفعك، بل بعضهم يبول عليه، وبعضهم يأكله، فكيف تعبده؟! كذلك بقية الموالي مثل حمامة والدة بلال وعامر بن فهيرة، وأم عبيس ، وامرأة اسمها زنيرة، وأخرى اسمها النهدية ، وجارية بني عدي، التي كان يعذبها عمر قبل أن يسلم، وقد أعتق هؤلاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر بالأمة كلها، إلى يوم القيامة، وما طلعت الشمس على أفضل بعد النبيين من أبي بكر) وانظروا إلى أعماله، فمن ضمن من دخل على يديه في الإسلام سبعة من العشرة المبشرين بالجنة، كلما سمع أن أحداً من المسلمين يعذب اشتراه، وأعتقه لوجه الله. ولما رآه أبوه وهو أبو قحافة يشتري هذه الرقاب العظيمة، وهذه الأنفس الأبية التي تعذب في الله، ويعتقها، قال: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعيفة، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً يمنعونك ويقومون دونك، فقال له أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد بذلك وجه الله عز وجل، فأنزل الله فيه قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] إلى أن قال عز وجل: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] هذه نزلت في أبي بكر وعده الله أنه سوف يرضى يوم القيامة. ولما أسلمت زنيرة وأعتقها أبو بكر، أصيبت بمرض في عينها فعميت، فقال كفار قريش: والله ما أعماها إلا اللات والعزى، فبلغ الخبر أبا بكر الذي أعتقها، فقال: كذبوا والله، والله لا تضرها اللات والعزى ولا تنفعها، اللهم رد بصرها فرد الله بصرها وأخزى هؤلاء الكفرة، قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74] فكانوا يعبدون الأصنام التي لا تضر ولا تنفع؛ لأن من مقتضيات الإله الذي يعبد أنه قادر على الضر والنفع، أما إله لا يضرك ولا ينفعك، بل بعضهم يبول عليه، وبعضهم يأكله، فكيف تعبده؟!
تأخر النصر يبين الصدق والنفاق ...(/10)
ربما يتساءل بعض الناس ويقول: لماذا هذا العذاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة أليسوا على الحق؟ لماذا لم ينصرهم الله ابتداء؟ ولماذا لم يعصمهم الله من إيذاء الكفار والمشركين؟ والجواب على هذا التساؤل هو: أن للإنسان في الدنيا أول صفة أنه مبتلى، وأنه مكلف بإعلاء الدين وإظهار كلمة الإسلام، العبودية لله سبحانه وتعالى، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2] أي: يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]. فمستلزمات العبودية والابتلاء والتكليف تحمل المشاق، ومجاهدة النفس والأهواء، والصمود في وجه الابتلاءات والفتن، والفتنة والابتلاء هي المحك وهي الميزان الذي يميز به بين الصادق والكاذب، قال الله تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]. وجد أناس قالوا: آمنا؛ لكن لما جاء المحك، لما جاء الابتلاء لم يثبتوا تأتي صلاة الفجر فلا يصلون، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، جاء الجهاد فتخلفوا، جاء الإنفاق فكانوا يلمزون في الصدقات، لما طلبوا للجهاد قال أحدهم: لا تفتني أنا إذا جئت ورأيت النساء لا أستطيع أن أقاتل، قال الله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] طلب منهم الإنفاق قالوا: هذه أخت الجزية. أيها الإخوة: البلاء سنة إلهية، وسنة كونية ربانية، فإنه لا بد من البلاء للإنسان، حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، لكن كما ذكرت لكم -أيها الإخوة- وهو أن المسلم عليه أن يسأل الله العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس حين سأله وقال: (أدع الله لي يا رسول الله، قال: سل الله العافية، قال: زدني، قال: سل الله العافية، ثم قال: يا عباس ! يا عم رسول الله ما أوتي عبد في الدنيا ولا في الآخرة أحسن من العافية) فنحن نسأل الله السلامة والعافية، ولكن إذا نزل البلاء فلنصبر ولنحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى. وفيما نحن فيه من الابتلاء ما يكفينا ويغنينا عن ابتلاء آخر في جسدك أو في مالك أو في نفسك، عليك أن تثبت وأن تستعين بالله سبحانه وتعالى وأن تقوم بالتكاليف فإن فيها غنية. فالتكليف بالصلوات الخمس نوع من الابتلاء فإن أوقات الصلوات تتعارض مع راحة البال، فالموظف يجئ من الدوام الساعة الثانية والنصف ويتغدى وبعد قليل يؤذن العصر، فإما أن يذهب يصلي، وإما أن ينام، إن كان عنده إيمان ذهب وصلى، وإن كان إيمانه ضعيفاً أو عنده نفاق فإنه ينام عن صلاة العصر، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) وحبط أي: فسد، والحبط هو داء يصيب المواشي إذا أكلت شيئاً من أنواع النبات، فتنتفخ بطونها حتى تحبط وتموت، كذلك العمل يحبط، أي: يفسد إذا ضيعت صلاة العصر. وفي مسلم : (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) أي: كأنه خسر ماله كله وأهله كلهم، والله يقول: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] والصلاة الوسطى قال بعض العلماء: إنها صلاة العصر، الله أفردها بالذكر لأهميتها، نضرب مثالاً على ذلك لو أنك موظف، ويأتيك المدير بمجموعة من المعاملات، ويقول لك: اعمل الإجراءات على المعاملات هذه وخصوصاً هذه، ويخرج لك إحدى المعاملات ويقول أكمل الإجراءات على كل المعاملات، وبالذات هذه فانتبه، فماذا تعمل؟ وبأي معاملة سوف تبدأ؟ تبدأ بهذه التي نبهك عليها، لكن لو أتممت كل المعاملات إلا التي نبهك عليها، وأتيت اليوم التالي وأعطيته المعاملات فقال: أين التي قلت لك عليها؟ فتقول: والله ما عملتها، يغضب أم يرضى عليك؟ يغضب، يقول: على شأن يأكد لك من أجل أن تسويها تقوم تضيعها، ولله المثل الأعلى، الله يقول: حافظوا على الصلوات كلها، لكن قال: والصلاة الوسطى، فضيعنا الصلاة الوسطى -يا إخواني- الآن أقل معدل في الصلوات صلاة الفجر والعصر، العصر دائماً الناس يأتون من الدوام وحين يتغدى ينام، ويسمع الأذان فيقول: أتسطح، فيتسطح ثم يتبطح ثم يركبه الشيطان والعياذ بالله، ولا يقوم إلا الساعة الرابعة أو الخامسة. من حين تسمع الأذان مباشرة قم إلى المسجد، واحذر من هذه النومة التي قبل صلاة العصر، ما في إمكانية، خصوصاً هذه الأيام أيام الشتاء؛ لأن الليل طويل والنهار قصير، فما تنام إلا إذا كان لا بد من النوم فلا مانع بعد العصر، أما أن تنام قبل العصر، فلا. حتى لا تضيع وقت(/11)
صلاة العصر، هذه فيها بلاء، ود الناس لو أن المسألة بالمزاج، كأن صلاة العصر الساعة الثانية والربع، حدد الدوام؛ لأنه قد صلى الظهر في الساعة الثانية عشرة ومن الساعة اثنتين وربع يصلي إلى اثنتين ونصف ويتغدى وينام إلى المغرب، لكن الله هو الذي يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] أي: مفروضاً معلوماً في جميع الأوقات، فالذي حددها هو الله، يقول الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: الظهر والعصر: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] أي: المغرب والعشاء ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] أي صلاة الفجر. فالصلاة فيها تكليف، والزكاة فيها تكليف؛ لأن المال محبوب إلى النفس، وإذا جئت لتخرج الزكاة فأنت تبرهن في إخراجك على أن حبك لله أكثر من حبك لهذا المال، والصيام فيه تكليف، تدع شهوتك وطعامك وشرابك وزوجتك من أجل الله، فهذا نوع من التكليف، والحج تكليف، كل التكاليف الشرعية فيها مشقة، وهي نوع من الابتلاء، وكذلك الشهوات المحرمة، فميل النفس إلى الزنا، وميلها إلى لخمور، وميلها إلى ممارسة الربا، وميلها إلى شرب المحرمات، وكل هذا في النفس البشرية، وهو ابتلاء، ولكن المؤمن عنده إيمان قوي يحجزه ولو قطعوه قطعة قطعة؛ لأنه يخاف الله، بل لو دعي إلى الجريمة يقول: إني أخاف الله رب العالمين. هذه أيها الإخوة: إشارة إلى الابتلاء وهذا في حياة المؤمنين، ونترك ما بقي من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة التي وردت منكم؛ لأني كنت قد وعدتكم في تخصيص بعض الحلقات للأسئلة لكن من الصعب أن نخصص حلقة كاملة، وسوف نختصر الدرس ونعطيكم وقتاً كافياً للأسئلة. ربما يتساءل بعض الناس ويقول: لماذا هذا العذاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللصحابة أليسوا على الحق؟ لماذا لم ينصرهم الله ابتداء؟ ولماذا لم يعصمهم الله من إيذاء الكفار والمشركين؟ والجواب على هذا التساؤل هو: أن للإنسان في الدنيا أول صفة أنه مبتلى، وأنه مكلف بإعلاء الدين وإظهار كلمة الإسلام، العبودية لله سبحانه وتعالى، فالله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الملك:2] أي: يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]. فمستلزمات العبودية والابتلاء والتكليف تحمل المشاق، ومجاهدة النفس والأهواء، والصمود في وجه الابتلاءات والفتن، والفتنة والابتلاء هي المحك وهي الميزان الذي يميز به بين الصادق والكاذب، قال الله تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]. وجد أناس قالوا: آمنا؛ لكن لما جاء المحك، لما جاء الابتلاء لم يثبتوا تأتي صلاة الفجر فلا يصلون، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، جاء الجهاد فتخلفوا، جاء الإنفاق فكانوا يلمزون في الصدقات، لما طلبوا للجهاد قال أحدهم: لا تفتني أنا إذا جئت ورأيت النساء لا أستطيع أن أقاتل، قال الله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] طلب منهم الإنفاق قالوا: هذه أخت الجزية. أيها الإخوة: البلاء سنة إلهية، وسنة كونية ربانية، فإنه لا بد من البلاء للإنسان، حتى يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، لكن كما ذكرت لكم -أيها الإخوة- وهو أن المسلم عليه أن يسأل الله العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس حين سأله وقال: (أدع الله لي يا رسول الله، قال: سل الله العافية، قال: زدني، قال: سل الله العافية، ثم قال: يا عباس ! يا عم رسول الله ما أوتي عبد في الدنيا ولا في الآخرة أحسن من العافية) فنحن نسأل الله السلامة والعافية، ولكن إذا نزل البلاء فلنصبر ولنحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى. وفيما نحن فيه من الابتلاء ما يكفينا ويغنينا عن ابتلاء آخر في جسدك أو في مالك أو في نفسك، عليك أن تثبت وأن تستعين بالله سبحانه وتعالى وأن تقوم بالتكاليف فإن فيها غنية. فالتكليف بالصلوات الخمس نوع من الابتلاء فإن أوقات الصلوات تتعارض مع راحة البال، فالموظف يجئ من الدوام الساعة الثانية والنصف ويتغدى وبعد قليل يؤذن العصر، فإما أن يذهب يصلي، وإما أن ينام، إن كان عنده إيمان ذهب وصلى، وإن كان إيمانه ضعيفاً أو عنده نفاق فإنه ينام عن صلاة العصر، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) وحبط أي: فسد، والحبط هو(/12)
داء يصيب المواشي إذا أكلت شيئاً من أنواع النبات، فتنتفخ بطونها حتى تحبط وتموت، كذلك العمل يحبط، أي: يفسد إذا ضيعت صلاة العصر. وفي مسلم : (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) أي: كأنه خسر ماله كله وأهله كلهم، والله يقول: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] والصلاة الوسطى قال بعض العلماء: إنها صلاة العصر، الله أفردها بالذكر لأهميتها، نضرب مثالاً على ذلك لو أنك موظف، ويأتيك المدير بمجموعة من المعاملات، ويقول لك: اعمل الإجراءات على المعاملات هذه وخصوصاً هذه، ويخرج لك إحدى المعاملات ويقول أكمل الإجراءات على كل المعاملات، وبالذات هذه فانتبه، فماذا تعمل؟ وبأي معاملة سوف تبدأ؟ تبدأ بهذه التي نبهك عليها، لكن لو أتممت كل المعاملات إلا التي نبهك عليها، وأتيت اليوم التالي وأعطيته المعاملات فقال: أين التي قلت لك عليها؟ فتقول: والله ما عملتها، يغضب أم يرضى عليك؟ يغضب، يقول: على شأن يأكد لك من أجل أن تسويها تقوم تضيعها، ولله المثل الأعلى، الله يقول: حافظوا على الصلوات كلها، لكن قال: والصلاة الوسطى، فضيعنا الصلاة الوسطى -يا إخواني- الآن أقل معدل في الصلوات صلاة الفجر والعصر، العصر دائماً الناس يأتون من الدوام وحين يتغدى ينام، ويسمع الأذان فيقول: أتسطح، فيتسطح ثم يتبطح ثم يركبه الشيطان والعياذ بالله، ولا يقوم إلا الساعة الرابعة أو الخامسة. من حين تسمع الأذان مباشرة قم إلى المسجد، واحذر من هذه النومة التي قبل صلاة العصر، ما في إمكانية، خصوصاً هذه الأيام أيام الشتاء؛ لأن الليل طويل والنهار قصير، فما تنام إلا إذا كان لا بد من النوم فلا مانع بعد العصر، أما أن تنام قبل العصر، فلا. حتى لا تضيع وقت صلاة العصر، هذه فيها بلاء، ود الناس لو أن المسألة بالمزاج، كأن صلاة العصر الساعة الثانية والربع، حدد الدوام؛ لأنه قد صلى الظهر في الساعة الثانية عشرة ومن الساعة اثنتين وربع يصلي إلى اثنتين ونصف ويتغدى وينام إلى المغرب، لكن الله هو الذي يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] أي: مفروضاً معلوماً في جميع الأوقات، فالذي حددها هو الله، يقول الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: الظهر والعصر: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] أي: المغرب والعشاء ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] أي صلاة الفجر. فالصلاة فيها تكليف، والزكاة فيها تكليف؛ لأن المال محبوب إلى النفس، وإذا جئت لتخرج الزكاة فأنت تبرهن في إخراجك على أن حبك لله أكثر من حبك لهذا المال، والصيام فيه تكليف، تدع شهوتك وطعامك وشرابك وزوجتك من أجل الله، فهذا نوع من التكليف، والحج تكليف، كل التكاليف الشرعية فيها مشقة، وهي نوع من الابتلاء، وكذلك الشهوات المحرمة، فميل النفس إلى الزنا، وميلها إلى لخمور، وميلها إلى ممارسة الربا، وميلها إلى شرب المحرمات، وكل هذا في النفس البشرية، وهو ابتلاء، ولكن المؤمن عنده إيمان قوي يحجزه ولو قطعوه قطعة قطعة؛ لأنه يخاف الله، بل لو دعي إلى الجريمة يقول: إني أخاف الله رب العالمين. هذه أيها الإخوة: إشارة إلى الابتلاء وهذا في حياة المؤمنين، ونترك ما بقي من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة التي وردت منكم؛ لأني كنت قد وعدتكم في تخصيص بعض الحلقات للأسئلة لكن من الصعب أن نخصص حلقة كاملة، وسوف نختصر الدرس ونعطيكم وقتاً كافياً للأسئلة.
الأسئلة
قراءة القرآن أفضل من سماعه ...(/13)
السؤال: امرأة لا تجيد قراءة القرآن، فهل يجزئ سماعها للقرآن عن القراءة؟ الجواب: الله تعبدنا بقراءة القرآن، وأمرنا بالتلاوة، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قرأ حرفاً من القرآن كان له بكل حرف حسنة والحسنة بعشرة أمثالها، فهذه المرأة التي لا تجيد القراءة عليها أن تتعلم، ووسائل التعليم متوفرة، وحلقات العلم الآن موجودة، فبإمكانها أن تذهب إلى حلقات العلم، وتبدأ تتعلم حتى يكون لها أجر في التلاوة إلى جانب تعلمها وتلاوتها بلسانها، ولا بأس أن تستمع القرآن بأذنها، فإن سماع القرآن -أيضاً- فيه دواء، فقد ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليَّ يا بن مسعود ! قال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري) فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن من غيره دليل على أنه في ذلك فضيلة، وأن ذلك مشروع، ولكن لا يكفي أن تسمع للقراءة فقط، لا بد أن تتعلم؛ لأن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو يتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران، أجر التلاوة وأجر المشقة، ففي ذلك فضل كبير إن شاء الله. السؤال: امرأة لا تجيد قراءة القرآن، فهل يجزئ سماعها للقرآن عن القراءة؟ الجواب: الله تعبدنا بقراءة القرآن، وأمرنا بالتلاوة، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قرأ حرفاً من القرآن كان له بكل حرف حسنة والحسنة بعشرة أمثالها، فهذه المرأة التي لا تجيد القراءة عليها أن تتعلم، ووسائل التعليم متوفرة، وحلقات العلم الآن موجودة، فبإمكانها أن تذهب إلى حلقات العلم، وتبدأ تتعلم حتى يكون لها أجر في التلاوة إلى جانب تعلمها وتلاوتها بلسانها، ولا بأس أن تستمع القرآن بأذنها، فإن سماع القرآن -أيضاً- فيه دواء، فقد ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليَّ يا بن مسعود ! قال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري) فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن من غيره دليل على أنه في ذلك فضيلة، وأن ذلك مشروع، ولكن لا يكفي أن تسمع للقراءة فقط، لا بد أن تتعلم؛ لأن الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو يتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران، أجر التلاوة وأجر المشقة، ففي ذلك فضل كبير إن شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه) ...(/14)
السؤال: ما معنى قول الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]؟ الجواب: الشح أقصى درجة من درجات البخل، والعياذ بالله، والبخل من أسوء الصفات التي يتصف بها الرجل، والسخاء يغطي كل عيب في الرجل، والبخل يفضح كل مكرمة في الرجل، ولهذا من صفات الله أنه كريم، ولما خلق الجنة قال: (تكلمي قالت: قد أفلح المؤمنون، قال: بعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) فلا تكن شحيحاً ولا تكن بخيلاً، ولا تكن مقتراً؛ لأن درجات البخل ثلاث، بخيل ومقتر وشحيح، فالبخيل هو الذي إذا عزم رجلاً قدم له من الطعام ما يكفي نصف واحد، يعطيه نصف قرص وما يكفي إلا قرص، أعطاه نصف قرص، هذا بخيل والذي أخس منه المقتر الذي يصنع له ربع قرص، والشحيح من يعزم الآخرين، ويقول: ما عندنا شيء، والبيت مليء، أصعب شيء عليه أن أحداً يأكل في بيته، ولهذا سئل شخص شحيح، قالوا: من الشجاع في نظرك؟ قال: من سمع وقع أضراس القوم على رغيفه ثم لم يتفطر قلبه، يقول: هذا أشد الأبطال، الذي ما ينقطع قلبه حين يسمع الناس يهرسون في قرصه، فهذا بطل، والعياذ بالله، فالله سبحانه وتعالى ذم هذه الصفة، وبين أن الذي يوقى ذلك فقد أفلح، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [التغابن:16]أي من يكفيه هذه الصفة ولا يكون عنده شح فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16] لأن الفلاح يأتي نتيجة الكرم. أيضاً الكرم فيه شيء ممنوع؛ لأن الكرم ثلاث درجات، كرم وهو ممدوح، وتبذير وهو ممقوت، وإسراف، فالمبذرين إخوان الشياطين، والمسرف: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] هؤلاء من هم، وكيف تفصيلهم؟ فالكريم هو الذي يعزم الرجل ويقدم له طعام رجل فقط. والمبذر: هو الذي يعزم رجلاً ويقدم له طعام رجلين، والمسرف: -وكلنا في هذه الدرجة- من يعزم رجلاً ويقدم له طعام ثلاثة. الآن يعزم الواحد ويقدم له طعام مائة، أي نعم، إذا قيل له: قال: الزاد للعيون ما هو للبطون، وهذا كذب وهو رياء ونفاق، لا والله العيون لا تأكل الذي يأكل البطن، وكان من طعام النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقدم لضيفه ما يكفيه، حتى ثبت أنه كان يلعق الإناء، أي: يلحسه بإصبعه أي أنه أكمل الزاد، وهذا ليس فيه شيء، من منا الآن يطبق هذه السنة في زماننا هذا، لو أردنا أن نلعق الآنية لتفقعت بطوننا، ليس على مجال العزائم فإن العزائم فيها إسراف لا يعلمه إلا الله، ولا يرضي الله، ودليل عدم رضى الله أن الناس كلهم لا يفكرون أن هذا إسراف، يعني ينفقون بسخاء، ولو طلب من أحد منهم ريالاً، أي: لو يخرج هذا الذي ذبح لك خروفاً أو خروفين، ويرى شخصاً عند الباب يريد ريالاً لطرده، لكن في سبيل الشيطان، الألف عنده أهون من ريال. لكن على مجال البيت العادي، تجد البيت يقدم الطعام في السفرة، ويكفي للأسرة التي تأكل ويمكن معها أسرتين، ما تكفي المرأة أن تأتي بقدر أو بصحن من الإدام، تضع أربعة أو خمسة صحون، وتضع صحن الرز مملوءاً، وتضع اللحم من فوق، ثم بدل أن تأتي بقرص تقسمه على الأسرة، تأتي بخمسة أقراص، وكل واحد يكسر له من القرص كسرة، ويرمون الباقي، التفاحة يفتحونها ويأخذون قطعة صغيرة ثم يرمون الباقي، الإدام يأخذ من طرف الصحن ويترك الباقي، الرز يأخذ من طرف الرز ويترك الباقي، اللحم يأكل ويترك الباقي، هذا الباقي أين يذهب؟ يوضع كله في البلاستك، ويحمل ويوضع في الزبالة، نِعم عظيمة، قدرات.. إمكانات.. ثروات! والله تكفي لإغاثة المسلمين في جميع بلاد الأرض، كلها في الزبالة، ولذلك ترون كل يوم من الأيام عند كل بيت وعند كل شقة زبالة، لو فتحتها لوجدتها كلها عيش ولحم ورز وإدام وفواكه، وفي اليوم الثاني تجد الرجل يصعد بزنبيل مليء بالمقاضي، وفي الصباح ينزل زبالة، وضاعت حياة المسلمين بين الزنبيل والزبالة، كان هناك رجل دائماً كلما خرج من بيته قالت له زوجته: هاتٍ هات! تطلب طلبات، بل ما ينزل الآن إلا بكشف، يذهب إلى السوق ومعه بيان؛ لأنه يا ويله إذا رجع ونسي شيئاً يرجع يأتي به غصباً عنه، فقال: لها يوماً من الأيام أنت كل يوم تقولين: جيب معك، جيب معك، ما في يوم قلت لي خذ ولو شيئاً، قالت: خذ الزبالة نزلها معك، فقط هذا عمل الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بد -أيها الإخوة- أن يكون للرجال مواقف جادة مع النساء؛ لأن هناك فلسفة شيطانية، وفكراً منحرفاً عند كثير من النساء، وهو عملية نتف ريش الزوج بالمصاريف الزائدة، وتأتي هذه الفلسفة من عقول بعض النساء الجاهلات تقول لابنتها أو لجارتها: انظري لا تتركي له ريشاً؛ لأنه إذا وفر المال سوف يتزوج ويتركك، فأنت انتفي ريشه أولاً بأول، لا يأتي آخر الشهر وباقي عنده ولا ريال، وهذا النظر غلط، هذا النظر حقيقة هو الذي يحمل الرجل على أن يتزوج، إذا وجد أن زوجته -والعياذ بالله- مسرفة وغير مُدبِّرة، وأنها تحاول أن تستهلكه وتستنفذ طاقته وإمكانياته وتتركه فقيراً على الحديدة(/15)
باستمرار، يقول: بنت ندم ما هي زوجة، هذه نار، ويذهب يشتري سيارة ويستلف ولا ينتظر توفري له أنتِ، ويأتي بزوجة، أقول: إن من أعظم ما يجعل الزوج يحتفظ بزوجته، ويعيش معها عِشرة جميلة، ولا يفكر في غيرها، إذا رآها امرأة مؤمنة تخاف الله، تدبر الطعام، إذا طبخت أرزاً تضع فنجاناً فقط، ولا تضع ملء القدر، وتضع من الإدام ملء الإناء، لكن تقدم في السفرة صحناً واحداً، لها وله، وفاكهة تأتي بحبة أو حبتين، وإذا بقي شيء، أي شيء تأخذه وتضعه في الثلاجة، وتقدمه في العشاء في اليوم الثاني، يأتي آخر الشهر يجد الزوج وإذا معه مبلغ من المال، يقول: ما هذا؟ تقول: وفرنا الحمد لله، ما رأيك عندك مشروع تريد تتصدق في سبيل الله، ما رأيكم يذهب يتزوج على هذه؟! يذهب يدق عينها وهي التي تعيش معه همومه ومشاكله، وتحاول أن توفر عليه؟ أبداً ما يفعلها، أي رجل في الدنيا لماذا؟ لأن النفوس هكذا، النفوس تحب من أحسن إليها، فإذا المرأة أحسنت إليك، فتعاملها بالإحسان، لكن هذا الفكر المقلوب عند كثير من الجاهلات من النساء، يحملهن على أن تستهلك الزوج، فيذهب يبحث له عن امرأة أحسن منها، فيداويها بما كانت هي الداء لها.السؤال: ما معنى قول الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]؟ الجواب: الشح أقصى درجة من درجات البخل، والعياذ بالله، والبخل من أسوء الصفات التي يتصف بها الرجل، والسخاء يغطي كل عيب في الرجل، والبخل يفضح كل مكرمة في الرجل، ولهذا من صفات الله أنه كريم، ولما خلق الجنة قال: (تكلمي قالت: قد أفلح المؤمنون، قال: بعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) فلا تكن شحيحاً ولا تكن بخيلاً، ولا تكن مقتراً؛ لأن درجات البخل ثلاث، بخيل ومقتر وشحيح، فالبخيل هو الذي إذا عزم رجلاً قدم له من الطعام ما يكفي نصف واحد، يعطيه نصف قرص وما يكفي إلا قرص، أعطاه نصف قرص، هذا بخيل والذي أخس منه المقتر الذي يصنع له ربع قرص، والشحيح من يعزم الآخرين، ويقول: ما عندنا شيء، والبيت مليء، أصعب شيء عليه أن أحداً يأكل في بيته، ولهذا سئل شخص شحيح، قالوا: من الشجاع في نظرك؟ قال: من سمع وقع أضراس القوم على رغيفه ثم لم يتفطر قلبه، يقول: هذا أشد الأبطال، الذي ما ينقطع قلبه حين يسمع الناس يهرسون في قرصه، فهذا بطل، والعياذ بالله، فالله سبحانه وتعالى ذم هذه الصفة، وبين أن الذي يوقى ذلك فقد أفلح، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [التغابن:16]أي من يكفيه هذه الصفة ولا يكون عنده شح فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16] لأن الفلاح يأتي نتيجة الكرم. أيضاً الكرم فيه شيء ممنوع؛ لأن الكرم ثلاث درجات، كرم وهو ممدوح، وتبذير وهو ممقوت، وإسراف، فالمبذرين إخوان الشياطين، والمسرف: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] هؤلاء من هم، وكيف تفصيلهم؟ فالكريم هو الذي يعزم الرجل ويقدم له طعام رجل فقط. والمبذر: هو الذي يعزم رجلاً ويقدم له طعام رجلين، والمسرف: -وكلنا في هذه الدرجة- من يعزم رجلاً ويقدم له طعام ثلاثة. الآن يعزم الواحد ويقدم له طعام مائة، أي نعم، إذا قيل له: قال: الزاد للعيون ما هو للبطون، وهذا كذب وهو رياء ونفاق، لا والله العيون لا تأكل الذي يأكل البطن، وكان من طعام النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقدم لضيفه ما يكفيه، حتى ثبت أنه كان يلعق الإناء، أي: يلحسه بإصبعه أي أنه أكمل الزاد، وهذا ليس فيه شيء، من منا الآن يطبق هذه السنة في زماننا هذا، لو أردنا أن نلعق الآنية لتفقعت بطوننا، ليس على مجال العزائم فإن العزائم فيها إسراف لا يعلمه إلا الله، ولا يرضي الله، ودليل عدم رضى الله أن الناس كلهم لا يفكرون أن هذا إسراف، يعني ينفقون بسخاء، ولو طلب من أحد منهم ريالاً، أي: لو يخرج هذا الذي ذبح لك خروفاً أو خروفين، ويرى شخصاً عند الباب يريد ريالاً لطرده، لكن في سبيل الشيطان، الألف عنده أهون من ريال. لكن على مجال البيت العادي، تجد البيت يقدم الطعام في السفرة، ويكفي للأسرة التي تأكل ويمكن معها أسرتين، ما تكفي المرأة أن تأتي بقدر أو بصحن من الإدام، تضع أربعة أو خمسة صحون، وتضع صحن الرز مملوءاً، وتضع اللحم من فوق، ثم بدل أن تأتي بقرص تقسمه على الأسرة، تأتي بخمسة أقراص، وكل واحد يكسر له من القرص كسرة، ويرمون الباقي، التفاحة يفتحونها ويأخذون قطعة صغيرة ثم يرمون الباقي، الإدام يأخذ من طرف الصحن ويترك الباقي، الرز يأخذ من طرف الرز ويترك الباقي، اللحم يأكل ويترك الباقي، هذا الباقي أين يذهب؟ يوضع كله في البلاستك، ويحمل ويوضع في الزبالة، نِعم عظيمة، قدرات.. إمكانات.. ثروات! والله تكفي لإغاثة المسلمين في جميع بلاد الأرض، كلها في الزبالة، ولذلك ترون كل يوم من الأيام عند كل بيت وعند كل شقة زبالة، لو فتحتها لوجدتها كلها عيش ولحم ورز وإدام وفواكه، وفي اليوم الثاني تجد الرجل يصعد بزنبيل مليء بالمقاضي، وفي(/16)
الصباح ينزل زبالة، وضاعت حياة المسلمين بين الزنبيل والزبالة، كان هناك رجل دائماً كلما خرج من بيته قالت له زوجته: هاتٍ هات! تطلب طلبات، بل ما ينزل الآن إلا بكشف، يذهب إلى السوق ومعه بيان؛ لأنه يا ويله إذا رجع ونسي شيئاً يرجع يأتي به غصباً عنه، فقال: لها يوماً من الأيام أنت كل يوم تقولين: جيب معك، جيب معك، ما في يوم قلت لي خذ ولو شيئاً، قالت: خذ الزبالة نزلها معك، فقط هذا عمل الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بد -أيها الإخوة- أن يكون للرجال مواقف جادة مع النساء؛ لأن هناك فلسفة شيطانية، وفكراً منحرفاً عند كثير من النساء، وهو عملية نتف ريش الزوج بالمصاريف الزائدة، وتأتي هذه الفلسفة من عقول بعض النساء الجاهلات تقول لابنتها أو لجارتها: انظري لا تتركي له ريشاً؛ لأنه إذا وفر المال سوف يتزوج ويتركك، فأنت انتفي ريشه أولاً بأول، لا يأتي آخر الشهر وباقي عنده ولا ريال، وهذا النظر غلط، هذا النظر حقيقة هو الذي يحمل الرجل على أن يتزوج، إذا وجد أن زوجته -والعياذ بالله- مسرفة وغير مُدبِّرة، وأنها تحاول أن تستهلكه وتستنفذ طاقته وإمكانياته وتتركه فقيراً على الحديدة باستمرار، يقول: بنت ندم ما هي زوجة، هذه نار، ويذهب يشتري سيارة ويستلف ولا ينتظر توفري له أنتِ، ويأتي بزوجة، أقول: إن من أعظم ما يجعل الزوج يحتفظ بزوجته، ويعيش معها عِشرة جميلة، ولا يفكر في غيرها، إذا رآها امرأة مؤمنة تخاف الله، تدبر الطعام، إذا طبخت أرزاً تضع فنجاناً فقط، ولا تضع ملء القدر، وتضع من الإدام ملء الإناء، لكن تقدم في السفرة صحناً واحداً، لها وله، وفاكهة تأتي بحبة أو حبتين، وإذا بقي شيء، أي شيء تأخذه وتضعه في الثلاجة، وتقدمه في العشاء في اليوم الثاني، يأتي آخر الشهر يجد الزوج وإذا معه مبلغ من المال، يقول: ما هذا؟ تقول: وفرنا الحمد لله، ما رأيك عندك مشروع تريد تتصدق في سبيل الله، ما رأيكم يذهب يتزوج على هذه؟! يذهب يدق عينها وهي التي تعيش معه همومه ومشاكله، وتحاول أن توفر عليه؟ أبداً ما يفعلها، أي رجل في الدنيا لماذا؟ لأن النفوس هكذا، النفوس تحب من أحسن إليها، فإذا المرأة أحسنت إليك، فتعاملها بالإحسان، لكن هذا الفكر المقلوب عند كثير من الجاهلات من النساء، يحملهن على أن تستهلك الزوج، فيذهب يبحث له عن امرأة أحسن منها، فيداويها بما كانت هي الداء لها.
تائب يخاف من عدم قبول التوبة ومن شماتة الناس به ...(/17)
السؤال: قصرت كثيراً في جنب الله، بالوقوع في كثير من الذنوب والمعاصي ولكنني والحمد لله تبت إلى الله، وهناك أمر يلاحقني وهو أنني أشعر بأنه ليس لي توبة، وكذلك يعيرني أصحابي بما كنت عليه قبل أن أتوب فهل من توجيه؟ الجواب: الحمد لله الذي هداك وتاب عليك، وأسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين، وأما شعورك الذي يلاحقك بأنه ليس لك توبة، فهذا هو مصداقية توبتك؛ لأن من شروط التوبة: الندم، وهذا الندم هو الذي تشعر به الآن، إن قلبك يتقطع أسفاً وحزناً وندماً على ما فات منك في المعصية، وخوفك هذا وشعورك هو دليل صدق توبتك، وعليك أن تحسن الظن بربك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، يقول الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ [طه:82] وكلمة غفار هنا صيغة من صيغ المبالغة وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ويقول سبحانه وتعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ويقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] وقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً [آل عمران:133-135] مثلما فعلت أنت! أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] هذه الآيات كلها تبين لك وتفتح لك باب التوبة، وتعلمك أن ذنبك مغفور مائة بالمائة، وليس عندنا شك في هذا، فالله لا يخلف الميعاد، إنما الذي عليك أن تستمر في هدايتك ولا ترجع إلى ما كنت عليه، وثق بأن الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتك.السؤال: قصرت كثيراً في جنب الله، بالوقوع في كثير من الذنوب والمعاصي ولكنني والحمد لله تبت إلى الله، وهناك أمر يلاحقني وهو أنني أشعر بأنه ليس لي توبة، وكذلك يعيرني أصحابي بما كنت عليه قبل أن أتوب فهل من توجيه؟ الجواب: الحمد لله الذي هداك وتاب عليك، وأسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين، وأما شعورك الذي يلاحقك بأنه ليس لك توبة، فهذا هو مصداقية توبتك؛ لأن من شروط التوبة: الندم، وهذا الندم هو الذي تشعر به الآن، إن قلبك يتقطع أسفاً وحزناً وندماً على ما فات منك في المعصية، وخوفك هذا وشعورك هو دليل صدق توبتك، وعليك أن تحسن الظن بربك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، يقول الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ [طه:82] وكلمة غفار هنا صيغة من صيغ المبالغة وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ويقول سبحانه وتعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ويقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] وقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً [آل عمران:133-135] مثلما فعلت أنت! أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] هذه الآيات كلها تبين لك وتفتح لك باب التوبة، وتعلمك أن ذنبك مغفور مائة بالمائة، وليس عندنا شك في هذا، فالله لا يخلف الميعاد، إنما الذي عليك أن تستمر في هدايتك ولا ترجع إلى ما كنت عليه، وثق بأن الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتك.
نصيحة على أبواب الاختبارات ...(/18)
السؤال: ما نصيحتكم والاختبارات على الأبواب، هل من توجيه؟ الجواب: أولاً: أنصح الشباب بتقوى الله سبحانه وتعالى؛ فإن التقوى سبب من أسباب فتح المغاليق للعلوم: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] .. إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29] فإذا تبت إلى الله من الذنوب وكان بينك وبين الله علاقة قوية بالإيمان والتقوى منحك الله فكراً، ومنحك الله ذكاء وقدرة على إدراك العلوم والمعارف، سواء علوم دينية أو علوم دنيوية. ثانياً: ننصح إخواننا بعدم الغش في الامتحانات، فإن الغش محرم ومن غشنا فليس منا. ثالثاً: نطلب من إخواننا تنظيم الأوقات بالنسبة للمذاكرة، فيجعل الإنسان له برنامجاً بحيث يذاكر المواد بشكل منظم، وإذا أعطي جدولاً فليبدأ في مذاكرة المادة التي تقدم له في أول يوم، ثم في اليوم الثاني المادة الثانية، هذا في الأسبوع الأول، وفي الأسبوع الثاني يرجع عليها بنفس الترتيب في المذاكرة الثانية، في أول يوم من الامتحان يذاكر المادة الأولى وتكون المراجعة هذه للمرة الثالثة، ويأتي الامتحان فيستطيع أن يجيب؛ لأنه قد مر على هذه المسألة ثلاث مرات، ولكن بعض الشباب لا ينظم وقته، ولا يعرف يرتب أوقات المذاكرة، فيترك مادة من المواد إلى آخر يوم فيأتي يذاكرها ولا يزال ذهنه بعيداً عنها فلا يجيب في الامتحان لكن إذا كررتها مرة ومرتين وثلاثاً سهلت عليك الإجابة بإذن الله، وننصح إخواننا بعدم السهر، فإن التجربة والواقع أثبتت أن السهر الطويل في المذاكرة يؤدي إلى عدم القدرة على الإجابة على الأسئلة في يوم الامتحان، فإن للإنسان طاقة، ولعقل الإنسان قدرة محدودة فإذا أجهده في الليل، ثم نام قليلاً، وقام إلى الصالة ودخل فإنه لا يستطيع العقل استذكار تلك المعاني التي حفظها؛ لأنه في غاية من الإجهاد، وقد جرب أن أفضل الأشياء هو النوم المبكر، والمذاكرة المبكرة، أي ليلة الامتحان، فمن الأفضل أنك تنام مبكراً في الساعة التاسعة أو العاشرة، ولا مانع من أن تستيقظ آخر الليل، ثم بعد ذلك تقوم بالمذاكرة من بعد صلاة الفجر إلى وقت الامتحان. السؤال: ما نصيحتكم والاختبارات على الأبواب، هل من توجيه؟ الجواب: أولاً: أنصح الشباب بتقوى الله سبحانه وتعالى؛ فإن التقوى سبب من أسباب فتح المغاليق للعلوم: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] .. إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29] فإذا تبت إلى الله من الذنوب وكان بينك وبين الله علاقة قوية بالإيمان والتقوى منحك الله فكراً، ومنحك الله ذكاء وقدرة على إدراك العلوم والمعارف، سواء علوم دينية أو علوم دنيوية. ثانياً: ننصح إخواننا بعدم الغش في الامتحانات، فإن الغش محرم ومن غشنا فليس منا. ثالثاً: نطلب من إخواننا تنظيم الأوقات بالنسبة للمذاكرة، فيجعل الإنسان له برنامجاً بحيث يذاكر المواد بشكل منظم، وإذا أعطي جدولاً فليبدأ في مذاكرة المادة التي تقدم له في أول يوم، ثم في اليوم الثاني المادة الثانية، هذا في الأسبوع الأول، وفي الأسبوع الثاني يرجع عليها بنفس الترتيب في المذاكرة الثانية، في أول يوم من الامتحان يذاكر المادة الأولى وتكون المراجعة هذه للمرة الثالثة، ويأتي الامتحان فيستطيع أن يجيب؛ لأنه قد مر على هذه المسألة ثلاث مرات، ولكن بعض الشباب لا ينظم وقته، ولا يعرف يرتب أوقات المذاكرة، فيترك مادة من المواد إلى آخر يوم فيأتي يذاكرها ولا يزال ذهنه بعيداً عنها فلا يجيب في الامتحان لكن إذا كررتها مرة ومرتين وثلاثاً سهلت عليك الإجابة بإذن الله، وننصح إخواننا بعدم السهر، فإن التجربة والواقع أثبتت أن السهر الطويل في المذاكرة يؤدي إلى عدم القدرة على الإجابة على الأسئلة في يوم الامتحان، فإن للإنسان طاقة، ولعقل الإنسان قدرة محدودة فإذا أجهده في الليل، ثم نام قليلاً، وقام إلى الصالة ودخل فإنه لا يستطيع العقل استذكار تلك المعاني التي حفظها؛ لأنه في غاية من الإجهاد، وقد جرب أن أفضل الأشياء هو النوم المبكر، والمذاكرة المبكرة، أي ليلة الامتحان، فمن الأفضل أنك تنام مبكراً في الساعة التاسعة أو العاشرة، ولا مانع من أن تستيقظ آخر الليل، ثم بعد ذلك تقوم بالمذاكرة من بعد صلاة الفجر إلى وقت الامتحان.
عقد القران يصير المرأة زوجة حقيقية ...(/19)
السؤال: أنا شاب منّ الله عليَّ بعقد القران على إحدى البنات الصالحات، وإلى الآن لم أدخل بها، فهل تعتبر زوجتي وهل يحل لي منها ما يحل للرجل من زوجته؟ الجواب: بعقد القران أصبحت زوجتك، ويحل لك أن تتصل بها وتحادثها وأن تزورها في بيت أهلها وأن تجلس معها، ولكن قضية الدخول والخلوة هذه لا بد من إذن أهلها، لا بد أن تستأذن أهلها ويأذنوا لك، ولا مانع أن تدخل بها في بيتها بعد معرفة أهلها، لماذا؟ لتحديد المسئولية؛ لأن بعض الناس يقول: زوجتي ثم يذهب بها ويخلو بها، ولا يدري أهلها، ولا يدري أهله، ولا يدري المجتمع، ثم يحصل شيء من القدر ويتخلى، ثم يتركها أو يطلقها، والناس ما عرفوا أنه قد دخل بها، فيحصل لها مشكلة في حياتها، فيشترط العلماء بخلوة الرجل بزوجته بعد أن يعقد عليها أن يكون ذلك بعلم أهلها وأهله، أو بعلم المجتمع عن طريق وليمة متواضعة، يعرفون أنه دخل بزوجته، من أجل أن هذه الآثار المترتبة على خلوته بها يتحملها هو، فإذا تخلى عنها في يوم من الأيام عرف أنه قد خلى بها، وهذا أفضل شيء. أنا لا أرى داعياً لقضية تأجيل الزواج بعد العقد، لماذا؟! ما دامت زوجته فليأخذها من نفس اليوم ويمشي ولا داعي لقصور أفراح هذه كلها أشياء عفا عليها الزمن، وتحررت منها عقول البشر، وأصبحت مظاهر كلها كذابة، ويترتب عليها آثار سيئة على الزوج وعلى الزوجة، إن أبرك الزواج هو أيسره، إذا كان سعيد بن المسيب : يقول لأبي وداعة لما عقد له في المسجد بعد صلاة العصر وذهب؛ لأنه سأله: قال له: ما بك تأخرت؟ قال: ماتت زوجتي، قال: أزوجك ابنتي قال: ما عندي شيئاً، قال: ما أريد منك شيئاً، وزوجه بما عنده من القرآن، وبعد ذلك لما جاء بعد المغرب، وراح أبو وداعة في البيت، لم يتصور أنه يأتي بالبنت الآن، يريدها بعد زواج ووليمة، أذن للعشاء وإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد ، يقول: فقمت، كل سعيد أحتمله في الدنيا إلا سعيد بن المسيب؛ أربعون سنة ما سمع الأذان خارج المسجد قط، أربعون سنة وهو في المسجد، لكن أدركه الأذان في ذلك اليوم وهو خارج، قال: سعيد بن المسيب ، قال: ففتحت الباب، خاف أبو وداعة : ماذا حدث؟ يكون تأسف ويريد أن يلغي الزواج أو أن هناك شيئاً، يعني: وقت حرج، لماذا تأتي في هذه اللحظة يا سعيد؟ ولما فتح الباب وإذا بزوجته (البنت) وراءه، أخذها بيدها ودفعها من ظهرها وقال: إن هذه زوجتك، وإني ذكرت أنك هذه الليلة ستبيت عزباً فكرهت ذلك، خذها بارك الله لك. يقول: كيف ترقد الليلة عزوبياً وامرأتك عندنا، أين الآباء من هذا يا إخوان؟ لا إله إلا الله، زوجته لماذا تمسكها؟ مادام أنت أملكته وزوجته، لماذا تحجزها عنه وتحجزه عنها؟ من أقل أن تذبحوا وتذهبوا قصر الأفراح، وتخسروا، لا، من نفس عقد الزواج، امرأتك على كيفك إذا أردت تأخذ لك شقة في عمارة أو تستأجر لك غرفة في فندق فخذها، وإذا تريد تردها عندنا اتركها ترتاح ابنتك، بعض الناس يقول: لماذا؟ أتركها ينبسط على ابنتي ويتمتع بها، لا. أبداً، أصلاً هي التي تنبسط ليس هو الذي ينبسط، أي نعم، وهي التي تتمتع ما هو الذي يتمتع، فأنت تمتع ابنتك لكن بعض الناس عقولهم والعياذ بالله ناقصة. السؤال: أنا شاب منّ الله عليَّ بعقد القران على إحدى البنات الصالحات، وإلى الآن لم أدخل بها، فهل تعتبر زوجتي وهل يحل لي منها ما يحل للرجل من زوجته؟ الجواب: بعقد القران أصبحت زوجتك، ويحل لك أن تتصل بها وتحادثها وأن تزورها في بيت أهلها وأن تجلس معها، ولكن قضية الدخول والخلوة هذه لا بد من إذن أهلها، لا بد أن تستأذن أهلها ويأذنوا لك، ولا مانع أن تدخل بها في بيتها بعد معرفة أهلها، لماذا؟ لتحديد المسئولية؛ لأن بعض الناس يقول: زوجتي ثم يذهب بها ويخلو بها، ولا يدري أهلها، ولا يدري أهله، ولا يدري المجتمع، ثم يحصل شيء من القدر ويتخلى، ثم يتركها أو يطلقها، والناس ما عرفوا أنه قد دخل بها، فيحصل لها مشكلة في حياتها، فيشترط العلماء بخلوة الرجل بزوجته بعد أن يعقد عليها أن يكون ذلك بعلم أهلها وأهله، أو بعلم المجتمع عن طريق وليمة متواضعة، يعرفون أنه دخل بزوجته، من أجل أن هذه الآثار المترتبة على خلوته بها يتحملها هو، فإذا تخلى عنها في يوم من الأيام عرف أنه قد خلى بها، وهذا أفضل شيء. أنا لا أرى داعياً لقضية تأجيل الزواج بعد العقد، لماذا؟! ما دامت زوجته فليأخذها من نفس اليوم ويمشي ولا داعي لقصور أفراح هذه كلها أشياء عفا عليها الزمن، وتحررت منها عقول البشر، وأصبحت مظاهر كلها كذابة، ويترتب عليها آثار سيئة على الزوج وعلى الزوجة، إن أبرك الزواج هو أيسره، إذا كان سعيد بن المسيب : يقول لأبي وداعة لما عقد له في المسجد بعد صلاة العصر وذهب؛ لأنه سأله: قال له: ما بك تأخرت؟ قال: ماتت زوجتي، قال: أزوجك ابنتي قال: ما عندي شيئاً، قال: ما أريد منك شيئاً، وزوجه بما عنده من القرآن، وبعد ذلك لما جاء بعد المغرب، وراح أبو وداعة في البيت، لم(/20)
يتصور أنه يأتي بالبنت الآن، يريدها بعد زواج ووليمة، أذن للعشاء وإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد ، يقول: فقمت، كل سعيد أحتمله في الدنيا إلا سعيد بن المسيب؛ أربعون سنة ما سمع الأذان خارج المسجد قط، أربعون سنة وهو في المسجد، لكن أدركه الأذان في ذلك اليوم وهو خارج، قال: سعيد بن المسيب ، قال: ففتحت الباب، خاف أبو وداعة : ماذا حدث؟ يكون تأسف ويريد أن يلغي الزواج أو أن هناك شيئاً، يعني: وقت حرج، لماذا تأتي في هذه اللحظة يا سعيد؟ ولما فتح الباب وإذا بزوجته (البنت) وراءه، أخذها بيدها ودفعها من ظهرها وقال: إن هذه زوجتك، وإني ذكرت أنك هذه الليلة ستبيت عزباً فكرهت ذلك، خذها بارك الله لك. يقول: كيف ترقد الليلة عزوبياً وامرأتك عندنا، أين الآباء من هذا يا إخوان؟ لا إله إلا الله، زوجته لماذا تمسكها؟ مادام أنت أملكته وزوجته، لماذا تحجزها عنه وتحجزه عنها؟ من أقل أن تذبحوا وتذهبوا قصر الأفراح، وتخسروا، لا، من نفس عقد الزواج، امرأتك على كيفك إذا أردت تأخذ لك شقة في عمارة أو تستأجر لك غرفة في فندق فخذها، وإذا تريد تردها عندنا اتركها ترتاح ابنتك، بعض الناس يقول: لماذا؟ أتركها ينبسط على ابنتي ويتمتع بها، لا. أبداً، أصلاً هي التي تنبسط ليس هو الذي ينبسط، أي نعم، وهي التي تتمتع ما هو الذي يتمتع، فأنت تمتع ابنتك لكن بعض الناس عقولهم والعياذ بالله ناقصة.
من نسي فصلى بغير وضوء فعليه إعادة الصلاة ...
السؤال: صليت صلاة الفجر بدون وضوء نسياناً، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما العمل؟ الجواب: عليك أن تستغفر الله، وأن تتوضأ من جديد، وأن تقضي صلاة الفجر، أما صلاة الظهر والعصر، فإن كنت صليت على نسيانك وما توضأت، فأعد الصلوات كلها، وإن كان توضأت للظهر وللعصر فأعد فقط صلاة الفجر؟السؤال: صليت صلاة الفجر بدون وضوء نسياناً، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما العمل؟ الجواب: عليك أن تستغفر الله، وأن تتوضأ من جديد، وأن تقضي صلاة الفجر، أما صلاة الظهر والعصر، فإن كنت صليت على نسيانك وما توضأت، فأعد الصلوات كلها، وإن كان توضأت للظهر وللعصر فأعد فقط صلاة الفجر؟
تبرك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ...
السؤال: هل الصحابة كانوا يأخذون البصاق والنخام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبركون به، وهل شرب عبد الله بن الزبير دم الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: نعم ثبت ذلك، ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتبركون بفضل طهوره صلى الله عليه وسلم وبصاقه صلى الله عليه وسلم، وبكل شيء من آثاره، لأنه بركة على أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه البركة محصورة فيما دل عليه الدليل، فلا نتجاوز حدودها، لأن بعض الناس يأتي إلى الشيخ ويتمسح به تبركاً وهذا خطأ؛ لأنه ليس كرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الصحابة ما كانوا يتبركون بعضهم ببعض، ولم يثبت أنهم بعد أن مات صلى الله عليه وسلم كانوا يتبركون بأبي بكر ، أو يتبركون بعمر ، أو يتمسحون بعلي أو بعثمان، فالرسول فقط يتبرك به، لأن الرسول شخص مميز -صلى الله عليه وسلم- وهو خير خلق الله، وأقرهم على هذا. أما التبرك بالصالحين، أو بالأولياء، أو بالطيبين والتمسح بهم، أو بجلسة معهم، هذا كله، قد يؤدي إلى الشرك وهو بدع وليس عليا دليل من كتاب ولا سنة. السؤال: هل الصحابة كانوا يأخذون البصاق والنخام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبركون به، وهل شرب عبد الله بن الزبير دم الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: نعم ثبت ذلك، ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتبركون بفضل طهوره صلى الله عليه وسلم وبصاقه صلى الله عليه وسلم، وبكل شيء من آثاره، لأنه بركة على أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه البركة محصورة فيما دل عليه الدليل، فلا نتجاوز حدودها، لأن بعض الناس يأتي إلى الشيخ ويتمسح به تبركاً وهذا خطأ؛ لأنه ليس كرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الصحابة ما كانوا يتبركون بعضهم ببعض، ولم يثبت أنهم بعد أن مات صلى الله عليه وسلم كانوا يتبركون بأبي بكر ، أو يتبركون بعمر ، أو يتمسحون بعلي أو بعثمان، فالرسول فقط يتبرك به، لأن الرسول شخص مميز -صلى الله عليه وسلم- وهو خير خلق الله، وأقرهم على هذا. أما التبرك بالصالحين، أو بالأولياء، أو بالطيبين والتمسح بهم، أو بجلسة معهم، هذا كله، قد يؤدي إلى الشرك وهو بدع وليس عليا دليل من كتاب ولا سنة.
حكم تأخير الصلاة عن وقتها ...(/21)
السؤال: أنا امرأة ملتزمة والحمد لله، ولكني ضعيفة في العبادة، حيث يمر الوقت ولا أصلي إلا بعد مرور الوقت بأكثر من ساعة؟ الجواب: أجل ملتزمة بماذا؟ مادام أنها ضيعت الصلاة، وتقول أنها ملتزمة والحمد لله! ملتزمة بضياع الصلاة! بقية السؤال: وذلك لأنني مشغولة في المنزل والأولاد ولا أجد همة تجعلني أصلي في وقت الصلاة؟ فكيف الحل الذي يجعلني ألتزم بالصلاة؟ الجواب: الالتزام -أيها الإخوة- ليس ادعاء، الالتزام يكون حقيقة ومضموناً، ومن أعظم علامات الالتزام الالتزام بالصلاة في وقتها، ومع جماعة المسلمين بالنسبة للرجال، وأما بالنسبة للمرأة فإنها مع أول الوقت، فحين تسمع الأذان المرأة أو الرجل يقوم الرجل يصلي في المسجد، وهي تدخل في غرفتها تصلي، وتقطع كل شغل، أي عمل في الدنيا عندها تتركه خلفها، لماذا؟ لأنها جاءت فريضة الله، تقول: أولادي فهل الأولاد أهم عندك من الله؟ ! الطبيخ أهم عندك من الله؟! الغسيل؟! سبحان الله!! إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]. فلا ينبغي أن تنشغل المرأة بأي عمل غير الصلاة بل إذا سمعت الأذان. ومن يوم تسمع الأذان كأنه لسعها حنش، تترك كل شيء وتدخل الحمام وتتوضأ، ثم تخرج وتلبس ملابس الصلاة، وتستتر ستراً كاملاً لا يبدو منها شعرة واحدة، ولا ظفر، ولا إصبع ولا بطن كف ولا ظهر كف، ولا ظهر قدم، حتى ظهر القدم ما يمكن أن يظهر في الصلاة، تأخذ شرشفاً كبيراً، وسيعاًُ طويلاً عريضاً يسترها حتى ما يبقى إلا وجهها ثم تستقبل القبلة، وتذهب إلى غرفتها لا تصلي في أي مكان، في الغرفة.. في مخدعها.. في مكان نومها، تفرش لها شيئاً طاهراً تصلي عليه، ثم تصلي السنن القبلية، إن كانت الظهر تصلي قبلها أربعاً وبعد ذلك تصلي الفريضة، ثم تأتي بالسنن البعدية، بهدوء وخشوع وخضوع وحضور قلب، ثم تقوم لتكمل شغلها، هذه الملتزمة الحقيقة، أما تلك التي تشتغل مثل المكينة في البيت، والصلاة تتركها حتى تتعب فإذا فنيت أتت تصليها قاعدة، لماذا؟ قالت: تعبانة تعبانة من صلاة، وأما على المطبخ وعلى المكنسة وعلى الشغل مثل الجنية والعياذ بالله، وإذا أتت الصلاة قالت: تعبانة، وملتزمة كذلك! السؤال: أنا امرأة ملتزمة والحمد لله، ولكني ضعيفة في العبادة، حيث يمر الوقت ولا أصلي إلا بعد مرور الوقت بأكثر من ساعة؟ الجواب: أجل ملتزمة بماذا؟ مادام أنها ضيعت الصلاة، وتقول أنها ملتزمة والحمد لله! ملتزمة بضياع الصلاة! بقية السؤال: وذلك لأنني مشغولة في المنزل والأولاد ولا أجد همة تجعلني أصلي في وقت الصلاة؟ فكيف الحل الذي يجعلني ألتزم بالصلاة؟ الجواب: الالتزام -أيها الإخوة- ليس ادعاء، الالتزام يكون حقيقة ومضموناً، ومن أعظم علامات الالتزام الالتزام بالصلاة في وقتها، ومع جماعة المسلمين بالنسبة للرجال، وأما بالنسبة للمرأة فإنها مع أول الوقت، فحين تسمع الأذان المرأة أو الرجل يقوم الرجل يصلي في المسجد، وهي تدخل في غرفتها تصلي، وتقطع كل شغل، أي عمل في الدنيا عندها تتركه خلفها، لماذا؟ لأنها جاءت فريضة الله، تقول: أولادي فهل الأولاد أهم عندك من الله؟ ! الطبيخ أهم عندك من الله؟! الغسيل؟! سبحان الله!! إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]. فلا ينبغي أن تنشغل المرأة بأي عمل غير الصلاة بل إذا سمعت الأذان. ومن يوم تسمع الأذان كأنه لسعها حنش، تترك كل شيء وتدخل الحمام وتتوضأ، ثم تخرج وتلبس ملابس الصلاة، وتستتر ستراً كاملاً لا يبدو منها شعرة واحدة، ولا ظفر، ولا إصبع ولا بطن كف ولا ظهر كف، ولا ظهر قدم، حتى ظهر القدم ما يمكن أن يظهر في الصلاة، تأخذ شرشفاً كبيراً، وسيعاًُ طويلاً عريضاً يسترها حتى ما يبقى إلا وجهها ثم تستقبل القبلة، وتذهب إلى غرفتها لا تصلي في أي مكان، في الغرفة.. في مخدعها.. في مكان نومها، تفرش لها شيئاً طاهراً تصلي عليه، ثم تصلي السنن القبلية، إن كانت الظهر تصلي قبلها أربعاً وبعد ذلك تصلي الفريضة، ثم تأتي بالسنن البعدية، بهدوء وخشوع وخضوع وحضور قلب، ثم تقوم لتكمل شغلها، هذه الملتزمة الحقيقة، أما تلك التي تشتغل مثل المكينة في البيت، والصلاة تتركها حتى تتعب فإذا فنيت أتت تصليها قاعدة، لماذا؟ قالت: تعبانة تعبانة من صلاة، وأما على المطبخ وعلى المكنسة وعلى الشغل مثل الجنية والعياذ بالله، وإذا أتت الصلاة قالت: تعبانة، وملتزمة كذلك!
مقالة: الله ما رأيناه لكن بالعقل عرفناه(/22)
السؤال: بعض العوام يقولون: الله ما رأيناه لكن بالعقل عرفناه؟ هل عندكم توضيح لهذه العبارة وهل فيها خطأ؟ الجواب: لا. ليس فيها خطأ، فالله ما رأيناه بأبصارنا، لكن آمنا به بقلوبنا ورأينا علامات قدرته وآثار وجوده بعقولنا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] أي: العقول، من هم؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران:191] يتفكرن بماذا؟ بعقولهم، فالعقل جارحة خلقه الله للتفكر والاعتبار، من أجل النظر والاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، فالعبارة ليس فيها خطأ لكنها عامية، أي ليست سلفية حتى نقول: إنها صحيحة مائة في المائة، فهي كلمة عامية، لكن معناها صحيح. السؤال: بعض العوام يقولون: الله ما رأيناه لكن بالعقل عرفناه؟ هل عندكم توضيح لهذه العبارة وهل فيها خطأ؟ الجواب: لا. ليس فيها خطأ، فالله ما رأيناه بأبصارنا، لكن آمنا به بقلوبنا ورأينا علامات قدرته وآثار وجوده بعقولنا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] أي: العقول، من هم؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران:191] يتفكرن بماذا؟ بعقولهم، فالعقل جارحة خلقه الله للتفكر والاعتبار، من أجل النظر والاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، فالعبارة ليس فيها خطأ لكنها عامية، أي ليست سلفية حتى نقول: إنها صحيحة مائة في المائة، فهي كلمة عامية، لكن معناها صحيح.
رجل يصلي في الصف الأول وأولاده لا يصلون ...(/23)
السؤال: ألاحظ إهمال كثير من الآباء لأولادهم في أمرهم بالصلاة فتجد أن أحدهم في الصف الأول، ولكن أبناءه في البيت، لا يحضرون الصلاة ولا يوقظ منهم أحداً، فهل من توجيه؟ الجواب: لا شك أيها الإخوة أن أول مسئوليات المسلم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأمر أهله بالصلاة؛ لأن الله قد ضمن له الرزق، وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] سبحان الله! يا أخواني فكروا معي في هذه الآية، لو أن مسئولاً كبيراً، جاء بك وكلفك بمهمة، وقال لك: عليك بهذه المهمة، ولا تلتفت للرزق فرزقك علينا، ما رأيك؟ هل سيحمل هماً؟ يذهب يشتغل بتلك المهمة وخلاص مكفول على المسئول، الله سبحانه وتعالى الرزاق الذي يرزق كل ما في الأرض وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وظيفتك أنك توجه أهلك وزوجتك للصلاة، وبعد ذلك قال: لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] فماذا حصل؟ اشتغل الناس بالرزق وضيعوا الصلاة، تجده من الصباح إلى الساعة العاشرة وهو في الدكان، وإذا جاء الرزق، طيب وأولادك صلوا؟ قال: ما أدري عنهم، اهتم بالمكفول ضيع والواجب، وبعض الآباء ليس عنده شغل حتى بالرزق وإنما إهمال، يقول: يصلي ويخلي أولاده، لا يا أخي الكريم، لا تبرأ ذمتك إلا برعايتك لأولادك، وستجد صعوبة طبعاً، لكن اصبر وبعد أعظم وسيلة خذوها مني وهي نتيجة تجربة، هذه التجربة مارستها في تربيتي لأولادي والحمد لله، ونجحت فيها لحد بعيد، قضية الأمر بالصلاة، يقول لي أحد أولادي وربما تسمعون به وهو الشيخ أنس ، داعية والحمد لله الآن يدرس الماجستير، يقول لي: كذا بالنص، يقول: يا أبتي كنت إذا أنت تدخلنا المسجد تأمرنا بالقوة، يقول: أشعر بضيق وتعب وأنا صغير، يقول: وأحس وأنا أرى الأولاد يلعبون في الشارع، أقول: الله يهنيهم، أبوهم لا يقول لهم: صلوا، ويقول: أشعر بأنك تعقدنا وأنك تزعجنا، كل ساعة صلاة صلاة، يقول: وبعدين مع الزمن أحببنا الصلاة، يقول: حتى لما كبرنا ما رأينا صعوبة ونحن نصلي؛ لأننا مدربون عليها من حين خلقنا، وكذلك يا أخي أولادك، هذه أعظم وسيلة، فتجد صعوبة، الولد ما يحفظ عن الصلاة أنها عمل عبادة، والولد لا يدرك العبادة، ولا يدرك لها لذة، ولذا هي جهد ضايع عنده، قد يصلي بغير وضوء، وقد يصلي بغير خشوع، لكن اجعله يصلي، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) رغم أنهم ليسوا مكلفين، لماذا؟ لكي يعتادوها فتسهل عليهم إذا كبروا لكن حين تتركه وهو ابن سبع، وتتركه وهو ابن عشر، ويصلي ابن خمس عشرة وهو مكلف إذا لم يصل صار كافراً، تقول له: صل، ما تدرب صلاة، ماذا يصلي؟ يراها أكبر من الجبال، ولا يصلي ولا يطيع لو تضربه وتحط ظهره على الحديد، ما يصلي، لماذا؟ وكما يقال:
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب(/24)
الغصن الأخضر قد تميله على كيفك، لكن إذا صار خشبة يابسة، تعال اعوجها أو صلحها ! فلا يا أخواني الله الله في قضية أولادكم في الصلاة، وبعد ذلك القضية والأمر يحتاج إلى صبر؛ لأن الله يقول: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] والاصطبار هنا فعل أمر من الخماسي، ما قال واصبر بل قال اصطبر وهو فعل خماسي، ويقول علماء اللغة: إن الزيادة في المبنى -أي مبنى الكلمة- من الرباعي أو الخماسي أو السداسي يدل على الزيادة في المعنى، فالله ما قال: اصبر بل قال: وَاصْطَبِرْ [طه:132] والاصطبار هو أقصى درجات الصبر. السؤال: ألاحظ إهمال كثير من الآباء لأولادهم في أمرهم بالصلاة فتجد أن أحدهم في الصف الأول، ولكن أبناءه في البيت، لا يحضرون الصلاة ولا يوقظ منهم أحداً، فهل من توجيه؟ الجواب: لا شك أيها الإخوة أن أول مسئوليات المسلم أمام الله سبحانه وتعالى أن يأمر أهله بالصلاة؛ لأن الله قد ضمن له الرزق، وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] سبحان الله! يا أخواني فكروا معي في هذه الآية، لو أن مسئولاً كبيراً، جاء بك وكلفك بمهمة، وقال لك: عليك بهذه المهمة، ولا تلتفت للرزق فرزقك علينا، ما رأيك؟ هل سيحمل هماً؟ يذهب يشتغل بتلك المهمة وخلاص مكفول على المسئول، الله سبحانه وتعالى الرزاق الذي يرزق كل ما في الأرض وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وظيفتك أنك توجه أهلك وزوجتك للصلاة، وبعد ذلك قال: لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132] فماذا حصل؟ اشتغل الناس بالرزق وضيعوا الصلاة، تجده من الصباح إلى الساعة العاشرة وهو في الدكان، وإذا جاء الرزق، طيب وأولادك صلوا؟ قال: ما أدري عنهم، اهتم بالمكفول ضيع والواجب، وبعض الآباء ليس عنده شغل حتى بالرزق وإنما إهمال، يقول: يصلي ويخلي أولاده، لا يا أخي الكريم، لا تبرأ ذمتك إلا برعايتك لأولادك، وستجد صعوبة طبعاً، لكن اصبر وبعد أعظم وسيلة خذوها مني وهي نتيجة تجربة، هذه التجربة مارستها في تربيتي لأولادي والحمد لله، ونجحت فيها لحد بعيد، قضية الأمر بالصلاة، يقول لي أحد أولادي وربما تسمعون به وهو الشيخ أنس ، داعية والحمد لله الآن يدرس الماجستير، يقول لي: كذا بالنص، يقول: يا أبتي كنت إذا أنت تدخلنا المسجد تأمرنا بالقوة، يقول: أشعر بضيق وتعب وأنا صغير، يقول: وأحس وأنا أرى الأولاد يلعبون في الشارع، أقول: الله يهنيهم، أبوهم لا يقول لهم: صلوا، ويقول: أشعر بأنك تعقدنا وأنك تزعجنا، كل ساعة صلاة صلاة، يقول: وبعدين مع الزمن أحببنا الصلاة، يقول: حتى لما كبرنا ما رأينا صعوبة ونحن نصلي؛ لأننا مدربون عليها من حين خلقنا، وكذلك يا أخي أولادك، هذه أعظم وسيلة، فتجد صعوبة، الولد ما يحفظ عن الصلاة أنها عمل عبادة، والولد لا يدرك العبادة، ولا يدرك لها لذة، ولذا هي جهد ضايع عنده، قد يصلي بغير وضوء، وقد يصلي بغير خشوع، لكن اجعله يصلي، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) رغم أنهم ليسوا مكلفين، لماذا؟ لكي يعتادوها فتسهل عليهم إذا كبروا لكن حين تتركه وهو ابن سبع، وتتركه وهو ابن عشر، ويصلي ابن خمس عشرة وهو مكلف إذا لم يصل صار كافراً، تقول له: صل، ما تدرب صلاة، ماذا يصلي؟ يراها أكبر من الجبال، ولا يصلي ولا يطيع لو تضربه وتحط ظهره على الحديد، ما يصلي، لماذا؟ وكما يقال:
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب
الغصن الأخضر قد تميله على كيفك، لكن إذا صار خشبة يابسة، تعال اعوجها أو صلحها ! فلا يا أخواني الله الله في قضية أولادكم في الصلاة، وبعد ذلك القضية والأمر يحتاج إلى صبر؛ لأن الله يقول: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] والاصطبار هنا فعل أمر من الخماسي، ما قال واصبر بل قال اصطبر وهو فعل خماسي، ويقول علماء اللغة: إن الزيادة في المبنى -أي مبنى الكلمة- من الرباعي أو الخماسي أو السداسي يدل على الزيادة في المعنى، فالله ما قال: اصبر بل قال: وَاصْطَبِرْ [طه:132] والاصطبار هو أقصى درجات الصبر.
الطلاق لا يقع بحديث النفس ...(/25)
السؤال: هل يقع الطلاق من حديث النفس؟ الجواب: حديث النفس وسواس، والوسواس من الشيطان، والشيطان لا يجوز له أن يطلق امرأتك فلا يقع بحديث النفس، هي امرأتك أم امرأة الشيطان، حتى يطلقها بالوسواس، لا. الذي يأتي في النفس أي شيء في النفس، ما يخرج ويترجم إلى كلام وإلى كتابة وإلى فعل، هذا ليس شغلك، أي شيء، بعض الناس يشتكي، يقول: يا شيخ والله أنا أوسوس، أفكر في الله، أفكر في الجنة، ويأتيني خوف، نقول له: الوسواس هذا ممن يقول: للشيطان ثم أترك الشيطان يوسوس حتى يذوب مادام أن أصله وسواس هذا عمله، أنت تريد الشيطان ما يوسوس هو يوسوس غصباً عنك؛ لأنه هذه وظيفته، أتركه يوسوس ولا عليك أي مسئولية من وسواسه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام واشتكى الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة) فإذا جاءك وسواس في أي شيء لا تلتفت إليه، فإنك غير مسئول عنه ولا مؤاخذ عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) إذا عملت أو تكلمت، إذا أنت وسوست في طلاق امرأتك، لا يؤثر، لكن إذا أخذت القلم وكتبت الورقة، خلاص طلقتها، أو دعيتها وتكلمت معها، وطلقتها، لكن مادام وسواساً، فهو للشيطان وبالتالي لا يمكن أن نحملك فعل غيرك، فعل الشيطان يتحمله الشيطان، والشيطان اتركه يطلق امرأته، أما امرأتك فليس له علاقة بها، ما يطلق هو.السؤال: هل يقع الطلاق من حديث النفس؟ الجواب: حديث النفس وسواس، والوسواس من الشيطان، والشيطان لا يجوز له أن يطلق امرأتك فلا يقع بحديث النفس، هي امرأتك أم امرأة الشيطان، حتى يطلقها بالوسواس، لا. الذي يأتي في النفس أي شيء في النفس، ما يخرج ويترجم إلى كلام وإلى كتابة وإلى فعل، هذا ليس شغلك، أي شيء، بعض الناس يشتكي، يقول: يا شيخ والله أنا أوسوس، أفكر في الله، أفكر في الجنة، ويأتيني خوف، نقول له: الوسواس هذا ممن يقول: للشيطان ثم أترك الشيطان يوسوس حتى يذوب مادام أن أصله وسواس هذا عمله، أنت تريد الشيطان ما يوسوس هو يوسوس غصباً عنك؛ لأنه هذه وظيفته، أتركه يوسوس ولا عليك أي مسئولية من وسواسه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام واشتكى الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة) فإذا جاءك وسواس في أي شيء لا تلتفت إليه، فإنك غير مسئول عنه ولا مؤاخذ عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) إذا عملت أو تكلمت، إذا أنت وسوست في طلاق امرأتك، لا يؤثر، لكن إذا أخذت القلم وكتبت الورقة، خلاص طلقتها، أو دعيتها وتكلمت معها، وطلقتها، لكن مادام وسواساً، فهو للشيطان وبالتالي لا يمكن أن نحملك فعل غيرك، فعل الشيطان يتحمله الشيطان، والشيطان اتركه يطلق امرأته، أما امرأتك فليس له علاقة بها، ما يطلق هو.
الابتلاء بزوجة لا تطيع زوجها ...(/26)
السؤال: ما رأيك فيمن ابتلي بزوجة لا تطيعه ولا تحترمه ولا تطيع له أمراً وهو يتأذى من ذلك فهل يطلقها أم يصبر عليها؟ الجواب: نعوذ بالله وإياكم من مثل هذه المرأة، وهذه مصيبة المصائب، وعقدة العقد و مشكلة المشاكل، أن يبتلى الرجل بامرأة من هذا النوع، لا تطيع ولا تحترم ولا تنفذ أمره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وهي التي إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها وفي مالها، والمرأة التي لا تطيع الزوج لا شك أنها آثمة، وهذه معصية لله سبحانه وتعالى، والملائكة تلعنها إلى أن يرضى عنها زوجها، والتي لا تحترم زوجها أيضاً آثمة، والملائكة تغضب عليها، والله يغضب عليها من فوق سبع سماوات، إن الزوجية رق، المرأة كأنها عند زوجها رقيقة، بل حق الزوج مقدم على حق الأم والأب، الرجل حق الأم أهم شيء، ثم الأب ثم أدناك أدناك، أما المرأة فأولى الناس بالحق عليها زوجها قبل أمها وقبل أبيها، ولما جاءت عمة عمران بن حصين أخت حصين بن معبد ، قال لها الرسول: (أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: كيف أنت معه؟ قالت: لا آلوه جهداً -أي في الطاعة- ما حقه؟ قال: لو أن به قرحة، -أي قرحة يسيل الدم والقيح منها، من رأسه إلى قدمه- ثم لم تجدي أن تمسحيه إلا بلسانك ما قمت بحقه) وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فنقول لهذه المرأة إن كانت تسمع الكلام: اتقي الله، واعلمي أن طاعتك لزوجك أعظم من أي عمل تعملينه بعد فرائض الله سبحانه وتعالى. أما قضية الطلاق أو الصبر عليها فهذا شيء يرجع تقديره إليك، نحن لا نعرف ظروفك كاملة حتى نقول لك: أمسكها أو طلقها، أنت الذي تقدر، فإن رأيت أن من مصلحتك أن تبقى معك هذه الزوجة وكانت تصلي وحافظة لما بينها وبين الله عز وجل، فيجب أن تنظر إليها نظرة كاملة؛ لأن بعض الناس ينظر إلى السلبيات من زوجته ويترك الحسنات، لا، الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري : (لا يفرك مؤمن مؤمنة) أي: لا يبغضها (إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) النساء ما فيهن كاملات، ما في امرأة إلا وفيها وفيها، فيها حسنات طيبة وفيها سيئات، فأنت انظر إلى المرأة بمنظار كامل، ثم وازن بين سلبياتها وإيجابياتها، فإذا رأيت جانب الإيجابيات غالباً فاصبر، ولو فيها نقص، لأن المرأة خلقت من ضلع أعوج، هل رأيتم في الدنيا ضلعاً مستقيماً مثل المسطرة؟ (وإن أعوج ما في الضلع أعلاه) فأعوج ما في المرأة لسانها (فاستمتعوا بهن على عوجهن) فالذي يريد امرأة مثل المسطرة ما فيها ولا عوجة، هذه في الجنة، أما في الدنيا ما في واحدة، فأنتم مشوها نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصالحات.السؤال: ما رأيك فيمن ابتلي بزوجة لا تطيعه ولا تحترمه ولا تطيع له أمراً وهو يتأذى من ذلك فهل يطلقها أم يصبر عليها؟ الجواب: نعوذ بالله وإياكم من مثل هذه المرأة، وهذه مصيبة المصائب، وعقدة العقد و مشكلة المشاكل، أن يبتلى الرجل بامرأة من هذا النوع، لا تطيع ولا تحترم ولا تنفذ أمره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وهي التي إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها وفي مالها، والمرأة التي لا تطيع الزوج لا شك أنها آثمة، وهذه معصية لله سبحانه وتعالى، والملائكة تلعنها إلى أن يرضى عنها زوجها، والتي لا تحترم زوجها أيضاً آثمة، والملائكة تغضب عليها، والله يغضب عليها من فوق سبع سماوات، إن الزوجية رق، المرأة كأنها عند زوجها رقيقة، بل حق الزوج مقدم على حق الأم والأب، الرجل حق الأم أهم شيء، ثم الأب ثم أدناك أدناك، أما المرأة فأولى الناس بالحق عليها زوجها قبل أمها وقبل أبيها، ولما جاءت عمة عمران بن حصين أخت حصين بن معبد ، قال لها الرسول: (أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: كيف أنت معه؟ قالت: لا آلوه جهداً -أي في الطاعة- ما حقه؟ قال: لو أن به قرحة، -أي قرحة يسيل الدم والقيح منها، من رأسه إلى قدمه- ثم لم تجدي أن تمسحيه إلا بلسانك ما قمت بحقه) وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فنقول لهذه المرأة إن كانت تسمع الكلام: اتقي الله، واعلمي أن طاعتك لزوجك أعظم من أي عمل تعملينه بعد فرائض الله سبحانه وتعالى. أما قضية الطلاق أو الصبر عليها فهذا شيء يرجع تقديره إليك، نحن لا نعرف ظروفك كاملة حتى نقول لك: أمسكها أو طلقها، أنت الذي تقدر، فإن رأيت أن من مصلحتك أن تبقى معك هذه الزوجة وكانت تصلي وحافظة لما بينها وبين الله عز وجل، فيجب أن تنظر إليها نظرة كاملة؛ لأن بعض الناس ينظر إلى السلبيات من زوجته ويترك الحسنات، لا، الرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري : (لا يفرك مؤمن مؤمنة) أي: لا يبغضها (إن كره منها خلقاً(/27)
رضي منها آخر) النساء ما فيهن كاملات، ما في امرأة إلا وفيها وفيها، فيها حسنات طيبة وفيها سيئات، فأنت انظر إلى المرأة بمنظار كامل، ثم وازن بين سلبياتها وإيجابياتها، فإذا رأيت جانب الإيجابيات غالباً فاصبر، ولو فيها نقص، لأن المرأة خلقت من ضلع أعوج، هل رأيتم في الدنيا ضلعاً مستقيماً مثل المسطرة؟ (وإن أعوج ما في الضلع أعلاه) فأعوج ما في المرأة لسانها (فاستمتعوا بهن على عوجهن) فالذي يريد امرأة مثل المسطرة ما فيها ولا عوجة، هذه في الجنة، أما في الدنيا ما في واحدة، فأنتم مشوها نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصالحات.
درس تربوي عملي في عدم الحلف بالله ...(/28)
نكتفي بهذا -أيها الإخوة- وحقيقة والله لا أريد أن أترك هذه الأسئلة؛ لأن أشعر بالإثم أن أسأل ولا أجيب، لا بد من الإجابة على سؤال الناس، ولكن يعلم الله أن ليس بالإمكان هذا، أي شيء فوق طاقة البشر، أن يجيب على كل الأسئلة، فأنا أقول للإخوة الذين ما أجيب على أسئلتهم لا يهملون الأسئلة، يكررونها مرة ثانية أو يتصلون تلفونياً بالمشايخ، وبالدعاة، وبالإمكان الاتصال بي، وتلفوني موجود في الدليل دليل الهاتف، يمكن السؤال (905) يعطوك التلفون وتتصل في أي وقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه، وإلى اللقاء إن شاء الله في الحلقة القادمة وفي الجلسة بالشهر بالماضي ودرس التربوي لهذا الشهر تعودنا في كل شهر أن نأخذ درساً تربوياً حتى تتحول مجالسنا من مجالس سماع إلى مجالس عمل وتربية، وقد اخترت لكم في هذا الدرس أو في هذه الليلة، درساً تربوياً أطلب منكم الالتزام به، على مدار الشهر هذا، إلى السبت الأخير من شهر شعبان أن شاء الله ، ثم بعد ذلك الاستمرار عليه، طبعاً نحن نعطي هذه الفترة تدريبية، لكن بعده ما تترك؛ لأن الله يقول واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فقط هذا فترة تدريب، هذا الدرس التربوي هو ألا تحلف بالله مطلقاً لا بار ولا فاجر، لماذا؟ لأن هذا يدل على تعظيم الله، يقول تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] فلا ينبغي لك أن تحلف لا باراً ولا فاجراً، إذا طلب منك يمين فتعود على ألا تحلف، لماذا؟ لأنك إذا حلفت بالله باراً قادك هذا إلى أن تحلف بالله فاجراً، أما -إذاً- تحرجت من الحلف بالله وأنت بار، فهل يمكن أن تحلف بالله فاجراً، ما رأيكم؟ ما أقدر أحلف بالله، خذها بدون يمين، أنا ما أحلف، أنا أعظم ربي، هل يحلف بالله هذا فاجراً؟ لكن إذا حلف بالله والله والله، والله، وهو صادق، وبعد أيام يحلف وهو كاذب؛ لأنه استهان بالله، يقول العلماء: إلا إذا طلب منك عند قاضٍ في دعوى، تقتضي منك إظهار حق بإنكار، بيمين طلبها القاضي وأنت صادق، فلا بأس، إنما تجعل لسانك على كتفك، والله، والله، والله، والله، طوال اليوم فهذا استخفاف بالله، فنريد -أيها الإخوة- من الآن، أن نلزم أنفسنا، قلت: أترك اليمين غداً فضع ورقة في جيبك وكلما حلفت سجل مرة، آخر الشهر ترى كم حلفت، إن كان جاء آخر الشهر وأنت ما حلفت ولا يمين لا باراً ولا فاجراً، فأنت ناجح مائة في المائة، وإذا كان قد كان في واحد.. اثنتين.. ثلاث إلى عشر أنت ناجح تسعين في المائة، وهكذا، وأنت الذي تقيم نفسك حتى تعود نفسك على ألا تحلف بالله لا باراً ولا فاجراً والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.نكتفي بهذا -أيها الإخوة- وحقيقة والله لا أريد أن أترك هذه الأسئلة؛ لأن أشعر بالإثم أن أسأل ولا أجيب، لا بد من الإجابة على سؤال الناس، ولكن يعلم الله أن ليس بالإمكان هذا، أي شيء فوق طاقة البشر، أن يجيب على كل الأسئلة، فأنا أقول للإخوة الذين ما أجيب على أسئلتهم لا يهملون الأسئلة، يكررونها مرة ثانية أو يتصلون تلفونياً بالمشايخ، وبالدعاة، وبالإمكان الاتصال بي، وتلفوني موجود في الدليل دليل الهاتف، يمكن السؤال (905) يعطوك التلفون وتتصل في أي وقت، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبه ويرضاه، وإلى اللقاء إن شاء الله في الحلقة القادمة وفي الجلسة بالشهر بالماضي ودرس التربوي لهذا الشهر تعودنا في كل شهر أن نأخذ درساً تربوياً حتى تتحول مجالسنا من مجالس سماع إلى مجالس عمل وتربية، وقد اخترت لكم في هذا الدرس أو في هذه الليلة، درساً تربوياً أطلب منكم الالتزام به، على مدار الشهر هذا، إلى السبت الأخير من شهر شعبان أن شاء الله ، ثم بعد ذلك الاستمرار عليه، طبعاً نحن نعطي هذه الفترة تدريبية، لكن بعده ما تترك؛ لأن الله يقول واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فقط هذا فترة تدريب، هذا الدرس التربوي هو ألا تحلف بالله مطلقاً لا بار ولا فاجر، لماذا؟ لأن هذا يدل على تعظيم الله، يقول تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] فلا ينبغي لك أن تحلف لا باراً ولا فاجراً، إذا طلب منك يمين فتعود على ألا تحلف، لماذا؟ لأنك إذا حلفت بالله باراً قادك هذا إلى أن تحلف بالله فاجراً، أما -إذاً- تحرجت من الحلف بالله وأنت بار، فهل يمكن أن تحلف بالله فاجراً، ما رأيكم؟ ما أقدر أحلف بالله، خذها بدون يمين، أنا ما أحلف، أنا أعظم ربي، هل يحلف بالله هذا فاجراً؟ لكن إذا حلف بالله والله والله، والله، وهو صادق، وبعد أيام يحلف وهو كاذب؛ لأنه استهان بالله، يقول العلماء: إلا إذا طلب منك عند قاضٍ في دعوى، تقتضي منك إظهار حق بإنكار، بيمين طلبها القاضي وأنت صادق، فلا بأس، إنما تجعل لسانك على كتفك، والله، والله، والله، والله، طوال اليوم فهذا استخفاف بالله، فنريد -أيها الإخوة- من الآن، أن نلزم أنفسنا، قلت: أترك اليمين غداً فضع ورقة(/29)
في جيبك وكلما حلفت سجل مرة، آخر الشهر ترى كم حلفت، إن كان جاء آخر الشهر وأنت ما حلفت ولا يمين لا باراً ولا فاجراً، فأنت ناجح مائة في المائة، وإذا كان قد كان في واحد.. اثنتين.. ثلاث إلى عشر أنت ناجح تسعين في المائة، وهكذا، وأنت الذي تقيم نفسك حتى تعود نفسك على ألا تحلف بالله لا باراً ولا فاجراً والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.(/30)
الأربعون الجهادية
حسين بن محمود
لا يشك مسلم بأن الجهاد في زماننا هذا فرض عين على كثير من المسلمين ، ولما كان فتح الحدود والسماح للناس بالجهاد ضد الأعداء في الثغور من رابع المستحيلات (كما يقال) في ظل معطياتنا السياسة ، كان لزاماً علينا أن لا نقف مكتوفي الأيدي قابعين في بيوتنا وإخواننا في الثغور يجودون بأنفسهم في سبيل الله .. لهذا جمعت بعض الخطوات العملية "الجهادية" (جمعاً ، لا حصراً) حتى لا يُحرم من ليس في جبهات القتال من الأجر ، ولعله يكون في هذه الأعمال (بعض) إعذاراً للنفس عند السؤال:
الجهاد العقدي:
إن أعداء الأمة ينفذون خطة مدروسة ومفصلة لسلب هذه الأمة هويتها الإسلامية ، ولتشويه كثير من العقائد والثوابت في عقول المسلمين والتي هي قوة المسلمين الضاربة في وجه الأعداء ، فعليك بإفشال هذا المخطط الرهيب الذي يحارب كيان أمتك وسر وجودها:
1- عليك بتعلُّم عقيدة الولاء والبراء ، والحب في الله والبغض في الله. تعلم كيف تفرق بين معاملة الكافر بالبر والقسط ، وبين مقاتلته إن هو قاتل المسلمين ، أو ظاهر على قتالهم أو وقف في وجه دعوتهم. مع بغض الكافر في جميع الأحوال (لكفره).
2- تعلم معنى التوحيد الذي يشمل "توحيد الألوهية" الذي عليه مدار دعوة الأنبياء ، فالله وحده يُعبد ، وهو وحده من تخاف وتخشى ، وهو وحده من يجلب النفع والضر ، وهذا من شأنه أن يزيل عن قلبك الخوف من البشر ، ويزودك بسلاح التوكل على الله.
3- تعلم معنى الإيمان: "إقرار بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح والأركان ، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي" . وهذا من شأنه أن يجنبك السلبية في العمل من أجل هذا الدين.
4- تعلم نواقض الإيمان حتى لا تقع فيها فتطلب العون من الله ولا تعطاه لكونك خرجت من دائرة الإسلام ، وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يدركه.
5- تعلم أركان الإسلام الستة: "الإيمان بالله ، وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره" ففي هذا من الخير ما لا يحصى. فالإيمان بالله يصرفك إليه دون سواه ، والإيمان بالملائكة يقوي يقينك بالتسليم بالغيبيات التي ذكرها الله ، والإيمان بالكتب يجعل حياتك منظماً وفق دستور إلهي ، والإيمان بالأنبياء يجعل لك قدوة تقتدي بهم ، والإيمان باليوم الآخر يجعل لك هدفاً في هذه الدنيا ويُزهّدك فيها ، والإيمان بالقدر يزرع في قلبك الرضى والصبر .. وهكذا ..
6- تعلم أسماء الله وصفاته ففيها من العلم ما يثبتك على الحق ، ويجردك للعمل الخالص ، ويقوي في نفسك مراقبة الله ، وعبادته رغبة ورهبة.
الجهاد الدعوي:
لا يستقيم الدين ولا تثبت العقائد إلا بنشر العلم والدعوة إلى الله. لقد جيشت دول الكفر أساطيلها تحارب دعاة الإسلام في كل مكان وهذا من شأنه أن يضعف جانب الأمة الروحي الذي هو سلاحنا الأقوى في مواجهة أعدائنا ، فعليك أخي بالتصدي لهذه الغزوة بتكريس جزء كبير من حياتك للدعوة إلى الله "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي .." (يوسف : 108):
7- إن كنت ذو علم فعليك واجب البيان للناس: بالكتابة ، أو بالقول ، أو بالفعل ، أو بهم أجمع ، ولا يجوز لك التقاعس أو التقوقع في مثل هذه الظروف.
8- إن كنت جاهلاً فعليك التعلم من الآن بالجلوس في حلق العلم وسؤال أهل الاختصاص من العلماء الثقات.
9- إن كنت من أصحاب الأموال فاكفل الدعاة وانشر الأشرطة والكتب الإسلامية الدعوية، وإن لم تكن لديك خبرة في هذا المجال فلن تعدم طالب علم عامل تسأله ، فوالله لا ينقص كثير من هؤلاء الشباب المخلص إلا المال لنشر هذا الدين في أرجاء الأرض.
10- عليك بالمشاركة في الصحف والمجلات والقنوات التلفازية بالكتابة والقول ، فإن فَعل أكثر الناس ذلك تولّد ضغط جماهيري يوجه هذه القنوات إلى ما فيه مصلحة الأمة (وقد لمسنا هذا في بعض القنوات من المنافسة في زيادة البرامج الدينية "إرضاءاً للجماهير").
11- آزِر العلماء الثقات ، واشدد على أيديهم ، وأكثر سواد مؤيديهم ليكون لهم ثقل ووزن في الساحة السياسية وصناعة القرار.
12- ليس للداعية حدود تحده في الدعوة: فأنت في البيت داعية ، وفي عملك داعية ، وفي مدرستك داعية ، وفي الشارع داعية ، وبين أصحابك داعية ، فأينما حللت أو نزلت فأنت تدعو إلى الله بالابتسامة ، بالكلمة ، بالهدية ، بمساعدة الآخرين ، بزيارة المريض ، بالسلام ، بكل جوارحك وعواطفك "لا تحقرن من المعروف شيئاً".
الجهاد العسكري:
لا يشك عاقل بأن الجهاد في سبيل الله بالنفس هو الخيار (الفرض) الإستراتيجي للخروج من هذه العاصفة التي حلت بالأمة ، وهو أعلى مراتب الإسلام "وذروة سنامه" ، ولكن كيف نجاهد بالنفس في ظل واقعنا اليوم:(/1)
13- على من يحسن القتال على الطريقة الحديثة (استخدام الأسلحة الحديثة) أن يحاول الوصول إلى داخل الجبهات وذلك بالتنسيق مع إخواننا المجاهدين هناك ، ولا ينفرد بهذه الخطوة الحساسة إلا بالتنسيق معهم ، لأنه قد يفسد عليهم أكثر مما يصلح.
14- من يحسن القتال ولا يستطيع الوصول إلى الداخل فعليه بذل النصيحة واستخدام خبرته العسكرية لتوجيه المجاهدين في الداخل ، وتدريب إخوانه المسلمين من الشباب في الخارج.
15- من لا يحسن القتال فليشغل نفسه بالاستعداد البدني والعسكري والتدرب على ما يستطيع من الأسلحة والتكتيكات العسكرية. "وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً" (التوبة : 46).
16- على الإخوة في الجيوش الإسلامية تثقيف أفراد الجيش تثقيفاً شرعياً وزرع حب الجهاد والشهادة في سبيل الله بين أفراد هذه الجيوش (كلٌّ حسب قدرته).
17- من لم يستطع الجهاد بالبدن لعذر شرعي فعليه الجهاد بالمال: إما بماله إن كان ذا مال ، أو بتحريض المسلمين على البذل في سبيل الله وبيان ما في ذلك من الأجر والثواب ، فكثير من الجبهات لا ينقص المجاهدين فيها (بعد عون الله) إلا المال ، وما جِنين عنا ببعيد.
18- من لا يستطيع التدرب على السلاح في بلاده فليسافر إلى بلاد أخرى (وإن كان في الإجازة الصيفية) تتوفر فيها الأسلحة فيتدرب فيها على ما يستطيع من الأسلحة الحديثة.
19- من لا يستطيع مغادرة بلاده لسبب أو لآخر فليلتحق بالجيش فيها بنيّة الإعداد للجهاد ، وليتدرب على ما يستطيع من الأسلحة الخفيفة والثقيلة وعلى فنون القتال الحديثة.
20- من كان كبيراً في السن أو غير لائق بدنياً فليحرض غيره من أبنائه أو إخوانه على الإعداد للجهاد بالمال والبدن كما هو مبين أعلاه " .. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ .." (النساء : 84) ، والتحريض يقوم به القادر أيظا ،وتقوم به النساء .
الجهاد الاقتصادي:
لقد تغلب علينا أعدائنا اقتصاديا لدرجة يصعب علينا اللحاق بهم في المستقبل القريب ، ولكن جزء كبير من اقتصادهم يعتمد على معاملتهم معنا ، فعليك بهذا الجانب الحيوي ولا تغلبنك شهوتك:
21- لا تشتري بضائع اليهود والنصارى المحاربين ، وعليك ببضائع المسلمين ، ففي هذا تشجيع للصناعة الإسلامية (وهناك دول إسلامية تصنع ما يغنيك عن الكفار كإندونيسيا وماليزيا وغيرها) ، وتذكر أن كل درهم تعطيه الأعداء يتحول إلى رصاصة في قلب طفل مسلم "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
22- إن كنت تاجراً فلا تستورد بضائع من يكيد للإسلام والمسلمين حتى يعلموا أن في ذلك زوال أو نقصان لتجارتهم ، وعليك بالتعامل مع الدول الإسلامية (إلا في ما يحتاجه الناس - وليس عند الدول الإسلامية - فهذا قد يكون لك فيه عذر ، ولكن عليك مع هذا تشجيع صناعة مثل هذه السلع في الدول الإسلامية المتطورة).
23- أعلِم من حولك من أصحاب المحلات بأنك لن تشتري البضائع الأمريكية أو التي يحارب أصحابها المسلمين ، ولقد لاحظنا نتيجة هذه المقاطعة في تصرفات كثير من التجار والمحلات التجارية ، والحمد لله.
24- لا تسافر إلى الدول التي تحارب الإسلام والمسلمين ، وعليك بالسياحة في بلاد الإسلام فهي أجمل ، وأنظف ، وائمن ، وأرخص من بلاد الكفار. وللسياحة مدخول اقتصادي هائل على الدول الكافرة ، والمسلمون أولى بأموالك من الكفار.
25- إياك وجلب الأيدي العاملة الغير مسلمة إلى البلاد الإسلامية (وخاصة جزيرة العرب) ، وعليك باستخدام الخبراء المسلمين فهم كُثر ، وأقل كلفة ، وائمن على المال والعمل.
26- إن كانت لديك استثمارات في بلاد الكفار فحولها إلى البلاد المسلمة يستفيد منها المسلمون ، وتساعدهم على إنعاش اقتصادهم وتطوير صناعاتهم.
27- إن كنت من أهل الخبرة والعلم التقني فلا تجلس في بلاد الكفر تقويهم على المسلمين ، ولكن ارجع إلى بلاد الإسلام (ولو لم تتوفر نفس الفرصة الوظيفية والراتب) تنفع المسلمين ، واحتسب ذلك عند الله.
الجهاد الفكري:
هناك كثير من المفاهيم الخاطئة التي أصبحت مسلمات عند كثير من المسلمين ينبغي أن تصحح وتزال من أذهاننا حتى تستقيم الأمور ويجاهد الناسُ على بينة ، منها:
28- البلاد الإسلامية بلاد واحدة ، وهذه الحدود المرسومة هي حدود مصطنعة يجب أن تزال من العقول المسلمة (وإن بقيت عمليا) .. فالمسلم الياباني والأمريكي والأوروبي والهندي مواطن في مكة والمدينة كغيره ممن ولد في تلك البلاد لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليهم من الواجبات ، لا فرق بين هذا وذاك "لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى".(/2)
29- كثير من الأمم القوية والعظيمة ذهبت بعد عز وقوة ، فدوام الحال من المحال (والله الأول والآخر) ، وكان حقاً على الله إذا رفع شيئاً أن يضعه. إذا كانت الدولة اليوم للغرب فلن تبقى لهم ، واعلم بأن هذا من العرض الزائل ، وأن العاقبة للمتقين. والله سبحانه وتعالى أخبرنا بأننا إذا امتثلنا أمره، لم نزل منصورين على عدونا ، وأنه إن سلَّط أعدائنا علينا فلتركنا بعضَ ما أُمرنا به، ولمعصيتنا له ، ولكنه لم يُؤُيسنا، ولم يُقنِّطْنا، بل أمرنا أن نسْتَقْبل أمرنا ، ونداوي جِرَاحَنا ، ونَعُود إلى مُناهضةِ عدونا فينصرنا عليهم، ويُظفرنا بهم، فقد أخبرنا بأنه معَ المتقين ، ومعَ المحسنينَ، ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين.
30- كما أن فلسطين أرض إسلامية ومقام اليهود فيها استثنائي غير دائم ، كذلك الحكم بغير ما أنزل الله في البلاد المسلمة ، وغيرها من الأمور المخالفة للشريعة والتي أصبحت من عرف الناس ، فلا يجب التعامل معها إلا من هذا المنظور .. ولا عبرة بمن يقول إن هذا واقع يجب التعايش معه ، بل نقول هذا خلل يجب أن يصحح ، وعارض لا بد من العمل على إزالته.
31- لا يجوز لمسلم أن يكون مع كافرٍ ضد مسلم ، ولا يجوز لمسلمٍ أن يُعين كافراً على مسلم فهذا من نواقض الإسلام ، وإن أخطأ مسلماً في حق كافر فإنه لا يسلَّم للكافر أبداً ، بل يحاكم وفق الشريعة الإسلامية.
32- المعاصي والمنكرات المنتشرة في بلاد الإسلام ليست أصلية فيها ، وليست واقعاً لا يمكن إزالته ، أو أمراً ينبغي التأقلم معه ، بل هي شواذ تزول بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وبالحكمة) ، ولا ينبغي للمسلم أن يُقر بالخطأ ولو فعله من في الأرض جميعاً ، ويجب على المسلم أن يتعلم مراتب الإنكار وكيفية تفعيلها في مجتمعه.
جهاد التربية:
لا شك أن الأعداء يريدون اقتلاع الحس الجهادي وجانب القوة العقدي المتمثل في التربية الإيمانية للناشئة ، ولذلك ركز الأعداء على التعليم الابتدائي لأبنائنا ووصموا كل ما يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة بالتعليم "المتطرف" ، فتجاوبت معهم كثير من الحكومات التي غيرت ما بقي من مناهجنا الإسلامية لتتوافق ومخططات الأعداء .. ومن هنا يأتي أهمية جهاد التربية:
33- عليك أخي بتربية أبنائك تربية إيمانية بعيدة عن المؤثرات المخالفة لمنهج القرآن والسنة ، وإن كنت لا تستطيع ذلك ، فسلمهم إلى بعض طلبة العلم أو العلماء العاملين يؤدبونهم كما كان يفعل خلفاء المسلمين وأمرائهم. (وقد عمد بعض الناس في أحد الأحياء إلى الاتفاق مع طالب علم لتأديب أبنائهم في مسجد الحي مقابل سعر رمزي يدفعه الآباء ، فكان في ذلك الخير الكثير ، ولله الحمد).
34- شجع أبنائك على البذل للجهاد والمجاهدين ، وحبذا لو تجعل لهم أهدافاً يجمعوا لها ، كأن تقول لهم: ثمن طلقة الكلشنكوف 3 دولارت ، وثمن الكلشنكوف 2000 دولاراً وثمن قاذف (R-B-G) يبلغ 12000دولاراً ، وثمن الكيلو الواحد الخام من مادة (T-N-T) المتفجرة التي يستخدمها الاستشهاديون في فلسطين هو 100دولاراً (هذه الأرقام نشرتها كتائب القسام في موقعها) ، وعليك بمتابعة هذا الأمر معهم فيشبوا على حب البذل والجهاد والمشاركة الإيجابية الفعالة في قضايا أمتهم.
35- علّم أبنائك الفرق بين المسلم وغير المسلم ، وأن من لم يكن مسلماً فإنه كافر يخلّد في النار أبداً ، وأن الله لا يقبل غير الإسلام ديناً ، فينشأ ابنك وله شخصيته الإسلامية المستقلة البعيدة عن الانهزامية النفسية.
36- إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تسلم ابنك للتلفاز يربيه اليهود والنصارى والمنافقون ، فيشب: شبه رجل ، ونصف مسلمٍ. أنت مسئول أمام الله عن تربية ابنك (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). إن جهاد التربية من أعظم أنواع الجهاد في عصرنا فإياك أن يؤتى الإسلام من قِبَلك.
37- علّم ابنك أنه ليس كغيره من البشر ، وأنه صاحب رسالة في هذه الدنيا ، وأنه يجب عليه إبلاغ دين ربه للعالم ، وأن عليه ِحمل تغيير واقع هذه الأمة ، فيشب ابنك عالي الهمة ، جاد مجتهد ، ولا تقل: وما عسى أن يفعل ابني الصغير ، فكل الرجال العظام كانوا أطفالاً صغاراً ، وكثير منهم لم يكن آبائهم أصحاب نفوذ أو سلطان ، ومع ذلك غيروا وجه التاريخ.
38- لا يعني كونك تعلم أبنائك العلم الشرعي أن تنسى العلم الدنيوي ، فالعلم الدنيوي تبع للشرعي وقد يكون تعلمه واجباً على أفراد الأمة . نريد المهندس المبتكر ، والطبيب الحاذق ، والتاجر الناجح. وليكن الأصل في التعليم هو الشرعي فيكون كالقاعدة يُبنى عليه التعليم الفني وليس العكس ، لأنه إذا تعلم الدنيوي أولاً أصبح هذا أساساً يقيس عليه الشرعي وهذا لا يستقيم.(/3)
39- دع عنك "ليلى والذئب" و "الأميرة والثعبان" ، وجنب ابنك مشاهير الرياضة والفن (العفن) الهابط السخيف ، وعليك بقصص الأنبياء والصحابة ، أشغل بها أبنائك فيشبوا على بطولات سيف الله خالد بن الوليد ، وعلى إقدام الزبير بن العوام ، وعلى رقة أبي بكر وشدة عمر ، وعلى قوة علي وحياء عثمان ، وعلى فقه ابن مسعود وأمانة حذيفة بن اليمان.
40- لا تجعل من ابنك نعجة تملأ جوفها طعاماً فيسمن ويترهل ، ويخمل ويكسل ، ولكن علّمه الشدة والقسوة وشغف العيش. امنعه من الطعام في بعض الأوقات ، خذه إلى الصحراء تلفعه الشمس ، واجعله يصعد الجبال ليتقوى ويخشوشن ، ألقِ به في البحار والأنهار ليقارع الأمواج. لا نريد ذكوراً يخافون ظلَّهم ، بل نريد رجالاً يخاف الأعداء من ظلّهِم.
وبعد: فعليك بجهاد نفسك أولاً قبل جهاد عدوك ، واعلم أن مراتب جهاد الإنسان لنفسه أربعة:
إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين.
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.
الرابعة: أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله.
فيا أخي: تعلم ما قرأت ، واعمل به ، وعلمه غيرك ، واصبر على العمل والتعليم تبلغ مراتب أهل الجهاد بعد صفاء نية وحسن متابعة.
إن ما نحن فيه ابتلاء وامتحان من الله ، وقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يمتحن النفوسَ ويبتَليها، فُيظْهِرَ بالامتحان طِّيبَها مِن خبيثها، ومَنْ يصلُح لموالاته وكراماته، ومَنْ لا يصلُح، وليُمحِّص النفوسَ التي تصلُح له ويُخلِّصها بِكِير الامتحان، كالذَّهب الذي لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشه، إلا بالامتحان ..
هذه الخطوات ما هي إلا اختبار للنفس على تحمل العمل والجهاد والبذل في سبيل الله ، فمن كان جاداً في نصرة هذا الدين فعليه بالعمل الجاد الدؤوب ، فالوقت وقت عمل ، والخطب جلل ، ولا مجال للكسل .. ولتكن هذه الخطوات سجية لا عرضاً يزول بزوال الحماس ..
والله اعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
****************************(/4)
الأزمة .. في خبر غير عاجل!
كُنْتُ قد كتبتُ مقالاً قبل أكثر من عامين حول موقفنا في الأزمات نشرته في (الإسلام اليوم), ولما عدْتُ لقراءته وربطْتُه مع أزمتنا الحالية في لبنان وفلسطين وجدت أننا لا نحسن فهم أزماتنا، ولا نعتبر بتكرارها علينا، ولا نفقه سنن الله في أحوالها.. المواقف الجماهيرية نفسها والتصريحات الخطابية تُعاد صياغتها, والإعلام العربي يسيّر الناس وفق أهدافه وثاراته, ولا يأبه بتسفيه العقول وجرح القلوب المكلومة من وقع الأحداث عليها.. كم من الأزمات التي مرت بنا، وانقضت بأحمالها كأزمة الجهاد الأفغاني وأزمة الكويت وأحداث الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق وغيرها؟ لماذا لا نقف معها، ونتدارس عبرها ونستلهم فوائدها؟ لقد أخذَت منا تلك الأزمات السالفة جهداً ووقتاً وعناء، فهل نبخل بوقت يسير لنقف مع دروسها وعبرها احتياطاً من الوقوع في الأخطاء نفسها أو تكرارها في المستقبل ؟!..كلها –للأسف- تذهب وتلقي بها الريح في مكان سحيق!!.. لذا أحببت في هذا المقال الإشارة لهذه الغاية وتفعيل الاهتمام بها من قِبل النخب والمثقفين والمهتمين. ولعلي أفتتح الفكرة ببعض السوانح والتأملات :
1- إن الحديث عن الأزمة بمعناها السياسي أو العسكري هو في العادة حديث الإفاقة بعد صدمة الأزمة.. مع أن الغالب في الأزمات أنها لا تقع فجأة أو تأتي بغتة، بل جرت أحوال العالم كله وسنن التغيير وأحوال الرخاء والشدة والتقدم والتخلف والسلم والحرب أنها تتكون أو تزول من خلال إرهاصات قد يمر بعضها ببطء يشاهده الإنسان ويلحظه.. وقد يأتي بعضها فجأة -كما يُظن - لكنها نتيجة تراكمات من الأسباب الخفية والظاهرة .. فلا تأتي أزمة من هذا القبيل إلا وهناك ما يدل على قرب حدوثها من مقدمات وعلامات، وعلى قدر قوة الاستشعار تأتي قوة الاستعداد .. والواقع يشهد أن كثيراً من المسلمين لا يحُسون بالأزمة أو يتخيلون تداعياتها حتى تصبح كابوساً يجثم على صدورهم، ولا ينفع حينها التفكير أو التخطيط.. وهنا تبرز أهمية المراكز العلمية والبحثية التي تستشرف المستقبل، وتنظر إلى الغد القادم عن طريق جمع المعلومات، وإعداد البحوث والدراسات، فيُأخذ برؤيتها ويُنظر بمسبارها إلى واقعنا المتوقع .. ونسأل أنفسنا بصراحة؛ إلى أين نسير؟ وأي طريق نختار؟ وأي عدّة نحمل؟ ومن يقودنا في المرحلة القادمة؟.. إلى غيرها من الأسئلة المحيرة .. والتي تحمل معها إجابات محرجة، لكنها تنقذنا من خيارين قد يكون أحلاهما مرّ: فإما أن نُفجع بسبب الاستسلام للأزمة، وإما أن نفجع في محاولات الخلاص منها.. ولو تأملنا في واقع الدول العربية بحكوماتها ومؤسساتها ومدى اهتمامها بالمستقبل واستشرافه لوجدنا أن المراكز العلمية التي تهتم بمثل هذه الدراسات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة, بينما نجد هناك دولاً كأمريكا مثلاً فيها أكثر من ستمائة مركز لدراسة واستشراف المستقبل, بل إن السويد منذ عام 1973م لديها وزارة للاهتمام بشؤون المستقبل..!
2- عندما تحصل الأزمة تكون هناك ردود أفعال غير عادية بل عادة تكون الرؤى والأقوال والأفعال التي تأتي مع الأزمات متوترة وغير متزنة, لذلك يسعى الإنسان، ويتحفز لسماع أي شيء حول الأزمة، ويزداد نهم الناس للبحث عن الأخبار والمعلومات من أجل صياغة رؤى أو حلول خلاصية.. فيكون المناخ العام للأزمات قابلاً للنمو الفيروسي للإشاعات والأكاذيب أو التوقعات المغرضة، كما يُلحظ اتجاه الناس بقوة نحو القنوات الإعلامية، خصوصاً القنوات الفضائية لجمع الأخبار وروايتها على الأقل في المجالس والمنتديات ..
والناس ينساقون في فلك من يشدّهم من زعامات وقيادات كي تمضي بهم إلى بر الأمان، وتكشف لهم ضبابية الموقف المناسب لظرفهم العصيب, وكل من تصدّر في الأزمة -في العادة- يجد له شرائح واسعة من المؤيدين والمستمعين. وهذا القبول -وإن كان مؤقتاً- إلاّ أن الطبيعة الإنسانية تجعل الفرد يُقبل على من يناديه، و يهفو إلى صوته بغض النظر عن شخصه وخطابه.
وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود قوله:"شر الناس في الفتنة كل راكب موضع، وكل خطيب مصقع"!(/1)